تتزاحم السحب عليك، فترفع يدك محاولا أن تبعدها. تتصور أنك راع يحمي بعصاه القطعان الطيبة من الذئاب. ينتهي إليك صوت الطبيب محذرا كأنه ينفذ من أستار الضباب: أرجوك. أرجوك. تنظر من خلال الغيم المتناثر حولك كالقطن، تندهش وتعجب مما حولك: أجهزة تلمع في أيديهم، وعقارب تجري وتدور، أكواب وأنابيب وخراطيم يستقر أحدها في فمك، يخرج منها ليدخل في فتحة أنفك. تتنفس عطرا أزرق، وتحوم فراشات حول الأنوار، ربي ما هذا النور!
يعملون. يعملون صامتين. أيديهم تغزل ثوبي المسحور. أفواههم نادرة الكلام. كذا يكون الناس في مدينتي المنيرة، كذا يكون الناس في بلادي جارحين كالصقور. لا. لا. كم جرحوني في زمان غابر قديم! كم غرزوا السكين في فؤادي الكليم في فؤادي اليتيم! لكنني أسامح. أغفر زلة اللسان والعيون والجوارح. ورحلة العذاب علمتني الصمت. أهل بلادي طيبون. قد يجرحون كالصقور، يقتلون، يسرقون، يشربون، يجشئون. «لكنهم بشر، ومؤمنون بالقدر. وحين يسغبون يطعمون من صفاء القلب. وحين يظمئون يشربون نهلة من حب. ويلغطون حين يلتقون بالسلام. عليكم السلام. عليكم السلام. ففي ذرى بلادنا يرفرف السلام.» ومن ذرى بلادنا يرفرف السلام. أهل بلادي طيبون يعملون صامتين. وفي مدينة الأنوار يعشقون يعرقون يزرعون، وحين يملكون. إرادة الإنسان أن يكون. لن يشغلوا أنفسهم بالموت والقضاء والقدر، ولن يحدقوا ك «عم مصطفى» في لجة الفراغ والسكون، سيفرحون يضحكون يرقصون في مواسم الزواج والحصاد والمطر، وعندما يجيء الموت لن يخافوا طلعته، فالحب - يا حبيب - قد أزال شوكته، ومرت الحرية الخضراء فوق جرح العدم المهين، وها هو الجرح القديم يتحدى طعنة السكين.
تتحرك شوكة ألم في صدري. تطفو الموجة بعد الموجة توشك أن تغرقني. يبغي الطير الأسود أن يخرج من حلقي. يبغي أن يخنقني. ها هو ذا ينهض ويرفرف. ها هو فوق الجرح يحط ويسقط. اهدأ يا طيري الأسود، أبعد منقارك عن كبدي، واختر غصنا آخر من شجرة جسدي. اهدأ أرجوك ولا تنقر في حبة قلبي. دعني أجمع ما يتناثر من خطبي. وأجدل من شعري عشا ترقد فيه بجنبي. وتعال لنصنع نغما يشجي قلب طبيب يأسو قلبك ويداوي قلبي. اسمع يا طيري غنوة حبي: «والعالم الذي أريد. أريد للرجال أن يعانقوا الرجال دون حقد. العالم الذي أريد. أريد للنساء أن يغفين وادعات، في أذرع الأزواج والأحباب والأبناء، العالم الذي يصبح الأطفال، نورة الأمل، بنغية الحنان والدمى وبالقبل. العالم السعيد، راحة الأجيال، في سعيها قوافل الأجيال نحو عالم سعيد.»
انظر يا طيري الأسود! هل تلمح نور مدينتنا، نور المستقبل؟
الزمن الآتي بالنجمين الوضائين على كفيه: الحرية والعدل. الزمن الكاسر للذلة والظلم كما تنكسر زجاجة السم، تتفرق شظيات لا يلتم لها شمل، الزمن المطلق للأنسام لتحمل حبات الخصب السحرية، وتفرقها في أرحام حدائقنا الجرداء المختومة بالعقم. هل تشهد هذا الحلم، أتلحظه لحظ العين؟ أم تحسبه رؤيا الغارق في قاع النوم؟ يا طيري الأسود قم. هل تلمح مدن الأمل وراء الغيم؟ أم هي وهم؟ أم هي وهم؟
تتكاثف سحب عاتية تصدم رأسك. يتخللها برق لا يلبث أن ينطفئ ويطفئ حسك. تتجمع سربا من قطعان بيضاء وسوداء، سفنا ترتطم على الشطآن وتتفتت في الخلجان، وتصارع جبل المردة والحيتان، تهرب منها الفئران ويبكي البحارة، لكن يبقى الربان، يبقى الربان، وحيدا يكشف للريح الغاضب ستر الصدر العريان، يحمل بين يديه المصباح الواهن فوق الطوفان. يا هذا الربان! يا هذا الربان! غرق الغرقى قبل الغرق، وسقطوا في القيعان، هرب البحارة والفيران، والجرس المعول من ناقوسك لن تسمعه الآذان، أنقذ نفسك يا ربان، أتمثل دور الفرسان المحزونين الشجعان ، ذهب الفارس والفرس وغطاه رماد الأزمان، يا ربان! يا ربان! ماذا تصنع يا ربان؟! - أنتظر الزمن الآتي بالسيف المبصر والميزان، لأزف النور لركب الشجعان، وأضع التاج على رأس الإنسان، الإنسان.
تطفو فوق الموجة، تتشبث بالسرج المزبد والموجة فرس رهان، تنزلق على ظهر العالم، تهوي تهوي في كهف لم تسكنه الجان، كهف سكنته القصة والأحزان يتصاعد منه دخان، يتصاعد منه دخان. ترتفع على ظهر الموجة، تتنفس فوق الماء كأنك سمكة صيد فرت من وجه الحيتان، هربت من شبكة صياد كي تقع بشبكة صياد ثان، تختنق وتسقط في القيعان، تتأمل جسدك يهوي في بئر أحمر قان، ينتفض، يحاول أن يهرب منك، فتتماسك نلقف حبلا يمتد إليك كثعبان، تخرج من قاع البئر، وتتجول وسط حقول ومغان، تلمح شبحا، أشباحا تدنو منك فتهتف يا أصحابي، يا أحبابي، أتراكم غبتم عني، وتخليتم يا خلاني (تهتف لن يسمعك الجيران، لن ينتبه لصوتك قاص منهم أو دان).
الطبيب يتمتم: ربي! رب الميلاد ورب الموت. ويراقب أنفاسك ويعاين نبض القلب الطبيب الآخر يتأمل وجهك ويهمس: يا رب. الممرضة تذهب وتجيء، تحرك أنابيب وتحضر أنابيب وتنشج: يا رب. وأنت تطفو على الموجة وتنزلق، تمتطي ظهرها وتسقط، تمسك بلجامها الفضي ويفلت منك. تتزاحم الأشباح حولك. تقرب وجوهها من وجهك. تعرفها، تتفرس فيها، وتناديها بالصوت المفعم بالكتمان: إلي إلي. يا حلاج. ثبت قلبي يا محبوبي. يا سيدنا القادم من بعدي. أدركني أو لن تدركني يا ليلكة الظل، أميرة روحي وجروحي، تنتظرين؟ ماذا تنتظرين؟ يا عشري السترة! مد يديك وأظهر لون القدرة، اصبر يا طير الموت الأسود. نقر في صدري، لكن أبعد منقارك عن حبة قلبي. أمي يا أمي. أين تراك وأين أبي؟ نادي يا أم عليها لتكون بجنبي. يا شجرة عمري نور العين رفيقة دربي، غطيني ضميني مدي كفك، داوي قلبي. تهوي في لجج الإغماء، يشح الضوء، وتبتلع الملح، تعض على لحم السر الهارب كالسمكة في الماء، تدخل في حال الصحو إلى حال المحو، وتلمس قلب الأشياء، تصبح خمرا، خبزا أسمر ، نورا، خصلة شعر ذهبي، أرضا وسماء. تختنق بسرك وتعض عليه، تصرخ - من يسمعك؟ - إلي إلي ! تعالوا يا أحبابي يا أصحاب الدرب، رفاق الجرح، إلي إلي.
يا أحباب. يا أحباب.
9
صفحة غير معروفة