زعق الكبير عندما رآني جامدا كتمثال بلله المطر، أتلفت يمينا ويسارا، أعتذر عن الذنب، أعجب من ضحكاتهم وأمد بصري للبحر أسترحمه، وللبقرة التي كانت لا تزال ممددة على الشط تمضغ وتجتر في سلام، وكأني أدعوها أن تقف في صفي. صرخ الكبير: لا تتلفت للبقرة. تمتمت معتذرا: أنا أفعل ما تأمر به. صرخ من جديد: هل عدنا للأيام العكرة؟ ثبت عيني رغما عني على البقرة، وسط الصخب والضجيج، بل وسط اهتزاز الزلزال نفسه يمكن أن يفزع الإنسان لحظة إلى واحة أمن خاطفة كسراب. قلت: أنا لا أهمل عملي، أفعل ما في وسعي. علت صرخته، حتى صمت أذني: أتسمي هذا عملا؟ علينا أن نكمل شق القناة. هل نسيت الجنة التي سنزرعها هنا؟
قلت: لا لم أنس، فأنا أعيش لها.
صاح: إذا فاعمل، اعمل. تردد صوت الناي، متأرجحا يهتز على إيقاع الأذرع الصاعدة الهابطة، وضربات الفئوس في بطن الأرض، وسقوط التراب على حافة الحفرة كسقوط الحجارة في ماء آسن، كنت أعمل جهدي؛ لكي أستحق صفة العامل. أحاول أن أبعد عني الأفكار المتزاحمة علي كلسع البعوض أو همس السحرة. وتجنبت النظر إلى الكبير، الذي كان لا يزال يحدق في وجهي. أيقظني صوته: مجتهد، لكنه لا يستطيع، لا يستطيع. ألقيت الفأس لحظة لأستريح، وشددت قامتي قليلا. استمر يقول: خطر الذاتية! ميئوس منه. لم أدر كيف أدفع التهمة عني، لم أدر كذلك كيف أدفع الوجوه التي بدأت تتزاحم حولي، والطيور التي ترفرف على وجهي. سحقا لي لو عرفوا هذا! هي نفس الطيور التي خرجت من كبدي، نفس الأوجه: إيزيس وأوديب وأوفيليا، سرب الحكماء السبعة والملك سليمان، وعيسى بن هشام، أطفال وعجائز، فلاحون وشحاذون وأبطال مآس، حمقى ومجانين، خدم وأرامل وبغايا وملوك، فنانون وصحفيون وثرثارون ودجالون ومنسيون ومحتضرون ... صرخ الكبير صرخة خفت معها أن يرجع النسر على دويها، وقف الصبي مذعورا لا يدري ماذا يفعل بيديه وذراعيه، ولا بالناي المتدلي من رقبته تصفر فيه الريح، دوت كصاعقة اخترقت السماء في طريقها إلى قلبي. يبدو أن الجرح انفتح فقد سقطت قطرات منه على جانب الحفر: ميئوس منه، ميئوس منه. ألقى الرجال فئوسهم على الحافة، نفضوا التراب عن جنوبهم ورءوسهم وتثاءبوا، بدءوا يخرجون من الحفرة واحدا بعد الآخر، وعندما تلمس أقدامهم الكثبان الصغيرة المكومة على طول الحافة يلوون رءوسهم نحوي ويهزوننا. هممت أن ألحق بهم وأغادر الحفرة، صاح الكبير: ميئوس منك، ميئوس منك. حاولت أن أتكلم، تحركت شفتاي، ولم يخرج صوت، نفضت التراب عن جسدي العاري المحترق بنار الشمس، ووضعت يدي على الحافة كي أقفز. انهالت ضربة فأس طاحنة فوق يدي. سحبتها والألم الخانق يلطمني، ويطلق من صدري حشرجة كلب مطعون أو مدهوس. شل السمع وغام البصر، وجثم الجبل علي، نفذت صيحته بعد قليل في أذني: الحفرة لك! ردد الخمسة وراءه: الحفرة لك، الحفرة لك. وعاد يطلق زئيره المسعور:
يشقى ليشق قناة،
يجتهد ليحفر حفرة،
والحفرة تصبح قبره.
ويهلل الرجال الخمسة، ويتمايلون طربا، ويرددون على وقع التصفيق:
يشقى ليشق قناة،
يجتهد ليحفر حفرة،
والحفرة تصبح قبره.
صفحة غير معروفة