هو الأحكم!
1979م •••
هذه سطور قليلة من أنشودة، أو قصيدة طويلة تعد هذه البكائية تنويعات عليها. ولعل هذه الأنشودة أو الحوارية أن تكون أقدم مرثية عرفها العالم. إنها مناجاة رجل تعب من الحياة، فراح يحاور نفسه التي تقنعه بالتمسك بدنياه - دنياه التي يئس منها، بعد أن اختلت فيها كل الموازين وانقلبت كل القيم - بينما أخذ يحن إلى العدالة والحقيقة والسلام في أخراه. وهي نص مصري قديم حققه وترجمه أكثر من عالم من علماء التاريخ والأدب القديم (مثل أرمان وزيته وفولكنر وسليم حسن)، وأعطوه هذا العنوان: «حوار متعب من الحياة مع نفسه»، وحددوا عصره بفترة الثورات والاضطرابات التي جاءت بعد الدولة القديمة. ومع أننا لا نستطيع أن نصف هذا الحوار الشعري بأنه مرثية أو بكائية بالمعنى الذي عرف فيما بعد، فإنه يعد قطعة من أصدق الشعر وأنبله، وأشده تأثيرا على القلب.
غير أن المرثية أو البكائية قد عرفت في الشعر اليوناني والروماني القديم؛ لتدل على شكل شعري يتألف من بيتين (كوبليه)، يجري أولهما على الوزن السداسي، وثانيهما على الوزن الخماسي، ويعبر منذ القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد عن أغراض متنوعة، كالحرب والحب والبطولة والسخرية السياسية، قبل أن يطلق الاسم المحدد «اليجوس أو اليجابا» على الحداد على ميت، أو الشكوى من فواجع الحياة والتأمل في مآسيها، وقد يتسع فيشمل قصائد الحب كما حدث في العصر السكندري والروماني والبيزنطي، ويظل الحب والشكوى طابعه في الشعر اللاتيني - خصوصا في عصر أغسطس - عند تيبولوس وبروبريتوس وأوفيد.
ولم تقتصر محاكاة الغربيين المحدثين منذ عصر النهضة لأنواع الشعر القديم وأوزانه على هذا الشكل الثنائي للمرثية، وإنما امتدت إلى مضمونها الذي يعبر عن الأسى والحسرة والاكتئاب. ففي إيطاليا نجد المرثية منذ القرن السادس عشر عند «تاسو» و«أريوستو»، حتى القرن التاسع عشر والعشرين عند ليوباردي وكاردوتشي وداتزيو، وفي إسبانيا التي قلد شعراؤها النماذج الإيطالية يتصل هذا الشعر من جارثيلا زودي لافيجا ولوب دي فيجا، حتى خيمنيث وجارثيا لوركا، وفي فرنسا يتصرف بعض الشعراء في الشكل الأصلي، وإن ظلوا محافظين على المحتوى والنغم الأسيان، بدءا من جان دوبليه ورونسار ، حتى لامارتين في تأملاته وأندريه شنييية
13
في أغنياته الرقيقة الحزينة قبل أن تختلط المرثية في الأدب الفرنسي بأنواع وموضوعات أخرى، وفي ألمانيا بدأت مع بداية القرن السابع عشر عند أوبيتز، ثم كلوبشتوك، وتأثرت بمدرسة القبور في الشعر الإنجليزي وبشعراء آخرين، مثل يونج وأوسيان وجراي - صاحب المرثية المشهورة في مقبرة ريفية - وظهر هذا التأثير على «جوته» في روايته «آلام فيرتر» التي تعد مرثية طويلة، ثم على قصائده الكبيرة «مرثيات روما ومارينباد وتحولات النبات»، كما ظهر على شيلر في قصائده آلهة اليونان، والحنين، والحاج، بجانب رسالته عن الشعر الساذج أو المطبوع، والشعر العاطفي أو المصنوع، وهي الرسالة التي ميز فيها الرثاء عن غيره من ألوان الشعر الأخرى بأنه تشوق إلى المثل الأعلى، أما الشاعر «هلدرلين» فيمكن أن نصف شعره كله بأنه مرثية متعددة الألحان والأشكال، يبكي فيها نفسه وعصره، ويردد حنينه إلى مثل مستحيلة وأيام ذهبية عاشها البشر المباركون في ظل الآلهة المباركة التي تخلت عنهم، ولم تعد تكترث بهم، حتى جدد «رلكه» المرثية، ونفث فيها أنفاسا وجودية، بعثت فيها الحياة والقوة في القرن العشرين، وذلك في قصائده العشر المعروفة بمرثيات دوينو. وفي الأدب الإنجليزي تحددت المرثية كنوع مستقل تقترن فيه الشكوى والحب والموت من أوائل القرن السابع عشر، عندما أطلق جون دون هذه التسمية «مرثية جنائزية» على قسم من أقسام قصيدته «تشريح العالم»، ووضع ملتون مرثيته الرعوية «ليسيداس» التي ساعدت على جعل المرثية نوعا مستقلا في الأدب الإنجليزي، وإن اختلطت حدوده مع كل شعر تأملي اكتسى بطابع الرثاء، وأوضح مثل على ذلك وأشهره هو قصيدة توماس جراي السابقة الذكر «مرثية في مقبرة ريفية»، و«خواطر الليل» ليونج، و«عبث الرغبات البشرية» لصمويل جونسون، ومرثية «موت سيدة تعسة» لألكسندر بوب، و«في ذكراه» لتنيسون، و«عندما تزدهر الزنابق في فناء الدار» لويتمان، وأخيرا مرثية «أودن» التي كتبها في ذكرى الشاعر الإيرلندي الكبير «ييتس»، ناهيك عن مرثية شيللي الشهيرة «أدونيس» لصديقه كيتس، وقصيدته «ثريزيس»، ولعلها جميعا كانت محاولات لمحاكاة رعويات كلاسيكية، مزجت بين الحب والموت عند فيرجيل وثيوكريتس.
الدمعة الثالثة: الكابوس
ليست حياة الروح أن تشيح بوجهك عن الفساد والموت، بل أن تحدق فيهما ...
هيجل فوق العرش
صفحة غير معروفة