حقا هي خيل الليل، تعدو وتسابق خيل الليل. - «والبوق ينسل في انبهار.»
تنبهر الأنفاس ولا أسمع إلا صوت الليل وصوت الليل عميق، اكشف عن وجهك يا ملك ملوك الصبح وأذن في البوق. - «والعين تدمع في انكسار.»
يتراجع عن النافذة، ويختلس الخطى إلى فراشك. تضطرب أنفاسه وهو يرى اضطراب أنفاسك. تلمح عيناه الدمعة تترقرق فوق الجفن، وتنحدر إلى الخدين. يمد الكف المرتعشة كي يمسحها ويحس بأخرى تلمس شفتيه. يقرب أذنا من فمك، ويسمعك تسر إليه: «زحف الدمار والانكسار. زحف التتار.»
يقف مسافر ليل كالصنم الأبكم، الوجه يطل عليك كوجه غراب أسحم، وتحول عينيك عنه لتنظر وجه القدر المعتم، يخفق كالطير الأسود في داخلك ويؤلم، في مطلع النهار خيمت سحائب التتار، والتهم الجراد خضرة الشباب، غالها بالخوف والاصفرار. هتفت يا أماه لن نبيد، يا أماه جففي الدموع قولي للصغار، غدا نشيد ما قد هدم التتار. ومرت الأيام. مرت الأيام واستقروا في الديار، وداست الأقدام في فؤاد الفارس الهمام، في فؤاد الفارس المغوار، وساخت الأحلام في قرار هوة بلا قرار، وضلت الخطى طريقها للدمعة البريئة، وأخطأت طريقها للضحكة البريئة، وانكفأ النهار في ضحاه كالعجوز ينكفئ في ساعة احتضار. سمعت من يقول هم هدية السماء للفانين من أمثالنا، لحفنة الأموات، حفنة التراب الآدمي والغبار، وكنت في زماني القديم أحضر الأسمار، أنشد الأشعار، «وعندما أمرت أن أثير زهوهم وأذكر انتصارهم، غنيت، كان في قرار اللحن، ما لم أجد كتمانه من وحشة وحزن.» وعندما بكيت ملء العين: «جوهرة سقطت في الزمن الوغد، تحت حذاء الجندي الأبيض والجندي الأسود، برجا سقط جريحا في زمن التبريح، قصرا أسطوريا سقط عليه الأجلاف ففرت منه الأسطورة، مهرا وثابا في درب المعراج إلى الله، جاء الدجالون فنزعوا منه الريش الفضي، واقتلعوا جوهر عينيه اللؤلؤتين.» وانهمرت أسئلة الموتى والأحياء علي؛ سألوا عن معنى الحرية والحق، عن معنى العزة والصدق. نادى الجرح على السكين، فصحت: آه يا وطني! ولزمت الصمت. هل تفهم عني يا من تسافر في جنح الليل وما زلت، يا من من أجلك جعت ظمئت حييت ومت، بكيت وانتظرت أن تزول محنة التتار، أن يرفع الغبار والأسى والاصفرار، أن يعود الاخضرار، لأعين الصغار، للدماء في العروق، للربيع والدموع، للكلام والسلام، للأيام والأحلام والسنابل التي تموت في الهجر للصحاري والقفار، وعشت في انتظار سيد يجيء بعد طول الانتظار، يحمل قلب الأم في يمناه، في يسراه سيفه البصير كالنهار، وطال الانتظار. ثم طال الانتظار.
تنظر عيناك المتعبتان الدامعتان إلى وجه أخرس أبكم، يعلو جسدا كالطين المعتم أخرس أبكم. تتحشرج لجة أنفاسك، يرتعد الطير الأسود ينقر صدرك، يشرح منقار الشؤم ويتوعد، ترفع عينيك ووجهك نحو الأفق المربد: الريح تدمدم، والليل يهمهم، والسحب على صدر الأفق تغيم وتظلم. ينتفض الجسد على صوت يخطب كالبرق المرعد: الليل تمدد، والصبر تبدد. يا أهل مدينتنا! انفجروا أو موتوا! انفجروا أو موتوا! تشرق بسمة طفل في شفتيك وفوق جبينك تتمدد. تسأل نفسك: أهو السيد؟! •••
يا أهل مدينتنا. يا أهل مدينتنا.
ينقشع الغبار وتنجلي العاصفة. تطفو فوق الموج وتشرب أنفاسك وتسترد شعاع الوعي. تنسحب ذيول الضجيج، وقعقعة العربات، ودقات الطبل، وأطراف الرايات السود. وتمد العينين والأذنين في السكون الرحب فتسمع صيحة ديك مشروخة، وتفتش عن نور الفجر الذي لمسته كجمر في عيني شيطان، تنشر سحب ضباب مغبر، تلتف عن ظهور الطبيبين والممرضة الصغيرة المشغولة أبدا كالنحلة، وعلى جسد المسافر المكوم بجوار السرير كصنم يحلم أن يتحرك يوما أو يتكلم. نورا يفرش دربي، وليصبح طير الموت الأسود ديكا يعلن مطلع فجر في قلبي. يتردد الصوت النافذ كالسهم، ويصطدم بجدار الغرفة ، ويشع رنينا ينداح كدوامة: يا أهل مدينتنا. يا أهل مدينتنا. تنظر، تتذكر، تهمس: هل يأتي السيد؟
تتطلع للنافذة فترى وجهه النجمي يزيح ستار الظلمة ويقترب منك، وجه يسبقه بريق عينين ملتهبتين بالغضب والتحدي، ويد ترتفع وتنخفض تفتش فيها عن سيف مبصر. أين هو السيف المبصر كي يذبح طير الموت الأسود؟ ما زال يرفرف في صدري، يغرز منقار الشؤم بقلبي. أقبل يا سيد أقبل، لكن لا تنس السيف المبصر. ما زال بعيدا عنك. تستعطفه عيناك، ولكن لا يتحرك. تغلبه الكلمات، تشل يديه وقدميه عن العمل. طالت غيبتك، تقدم. ساعدني أرجوك.
يفتح فمه فتتفجر الكلمات الغاضبة: يا أهل مدينتنا.
ترتسم ظلال ابتسامة على فمك ووجهك: أنا وحدي يا سيد ملقى ومحطم.
صفحة غير معروفة