إهداء
الدمعة الأولى: دموع على حائط مبكاي
الدمعة الثانية: لمن أتحدث يا نفسي اليوم؟
الدمعة الثالثة: الكابوس
الدمعة الرابعة: نم بسلام
الدمعة الخامسة: أوفيليا: ماذا فعلوا بك؟
الدمعة السادسة: دموع أوديب
هذه البكائيات
ملاحظات
إهداء
الدمعة الأولى: دموع على حائط مبكاي
الدمعة الثانية: لمن أتحدث يا نفسي اليوم؟
الدمعة الثالثة: الكابوس
الدمعة الرابعة: نم بسلام
الدمعة الخامسة: أوفيليا: ماذا فعلوا بك؟
الدمعة السادسة: دموع أوديب
هذه البكائيات
ملاحظات
بكائيات
بكائيات
ست دمعات على نفس عربية
تأليف
عبد الغفار مكاوي
إهداء
إلى ابنتي نوران:
ثبت الشمس بقلب الظلمات
وبدلت دموعي ضحكات.
عبد الغفار مكاوي
شاعر الفلسفة
بقلم حسن طلب
في الرابع والعشرين من ديسمبر، ودعت الحياة الثقافية علما من أعلامها الكبار، هو الدكتور عبد الغفار مكاوي (1930-2012م)، الذي أثرى بإبداعاته ومؤلفاته وترجماته الساحة الأدبية والفلسفية، منذ النصف الثاني من القرن الماضي، وحتى قبيل رحيله؛ حيث صدرت آخر أعماله وأحدثها «مصر وكلمات أخرى»، ضمن سلسلة كتاب «إبداع»، العدد 21، شتاء 2012م.
نذر عبد الغفار مكاوي حياته للأدب والفلسفة، فعاش راهبا يؤمن بأن رسالته الخالدة هي أن يبحث عن الحقيقة بين ما جادت به تأملات الفلاسفة والحكماء في كل العصور، وبين ما أوحت به أخيلة الأدباء بكل اللغات. غير أن رحلة البحث عن الحقيقة عند من خبروها من أمثال الدكتور عبد الغفار مكاوي، لم تكن مجرد نزهة عابرة في طريق مأمونة واضحة المعالم، بل هي لون من المجاهدة الصوفية التي تتقلب بصاحبها بين شتى المقامات والأحوال، وقد تستغرق تلك الرحلة العمر كله، دون أن يظفر طالب الحقيقة بشيء، اللهم إلا عذوبة الرحلة وعذابها. وهذا هو ما يقوله «مكاوي» عن الحقيقة التي أرقته، في مفتتح دراسته الطويلة التي قدم بها لترجمته لنصوص «مارتن هيدجر
M. Heidegger » (1889-1976م)، بعنوان «نداء الحقيقة»: «ما الحقيقة؟ أين نجدها؟ وكيف نعرفها؟ بأي سهم نريش طائرها الأبيض المستحيل؟ أي قفص يتسع لآفاقها البعيدة، وأسفارها العديدة في البلاد والأجيال؟ ما هي معانيها المختلفة باختلاف المذاهب والمدارس ...»
هي أسئلة لا يملك عشاق الحقيقة سوى أن يطرحوها على أنفسهم وعلى القراء، ليست لديهم إجابات جاهزة يقدمونها، لا لأنهم عاجزون، بل لأن الحقيقة أشمل من أن يستوعبها جواب واحد، وأقدس من أن يحصرها مذهب، وأوسع من أن تتسع لها رحلة العمر المحدودة، إنها النور الذي يند دائما عن مدى البصر وعمق البصيرة، فليس لعقول الفلاسفة أن تحيط به تماما، هيهات!
لهذا السبب كان الأدب عامة، والشعر بالذات، ظهيرا للفلسفة ونصيرا، فكثيرا ما لجأ الفلاسفة إلى الشعراء يستلهمون حدوسهم ويلتمسون العون، أو كما يقول «مكاوي» في المقدمة المشار إليها أعلاه: «إننا جميعا نفزع إلى بيت أو قصيدة من الشعر، نستشهد بها حين تتأزم مواقفنا في الحياة، أو نعجز عن التعبير عن مكنون مشاعرنا، فالشعراء أصحاب رؤية، وكلماتهم لآلئ بحر التجربة البشرية، وكم أبيات قليلة كشفت - كالبرق الخاطف - عن خبرة أجيال طويلة، وكم لخصت، في حكم قليلة، ما عجز الفيلسوف عن قوله في مجلدات ضخمة. ولقد طالما لجأ الفلاسفة أنفسهم إلى صور الشعر ورموزه وتشبيهاته واستعاراته، حين انطلقوا إلى مجال الفكر الخالص، وعجزت أجنحة الرؤية والعيان عن التحليق إليه.»
هكذا انفرد عبد الغفار مكاوي بين أساتذة الفلسفة الكبار، بقدرته على تحقيق المصاهرة بين الشعر والفلسفة، دون افتعال، أو انحياز يجور على أحد طرفي المعادلة. لنستمع إليه وهو يحاول النفاذ إلى قلب «أفلاطون» في كتابه البديع: «المنقذ» فيقول نظما في أول سطور المقدمة:
أجمع أمره.
صمم أن يتحدى قدره،
أن يأخذ معه سره.
الرحلة كانت خطرة،
والمحنة مرة.
ما ضر إذا أخفق مرة!
فليعد الكرة،
وليحمل للعالم فكرة
فالفكرة إن كانت حرة؛
فستصبح فعلا أو ثورة.
أما آخر كلمات تلك المقدمة الفلسفية/الشعرية، العقلانية/الوجدانية المبتكرة، أو بالأحرى خاتمة تلك الرحلة الصعبة في الإبحار بين ضفتي الشعر والفلسفة، فتجيء منظومة هكذا:
لا عاصم بعد اليوم من الطوفان،
يا بلدي.
يا حظي العاثر،
أنت الخاسر؛
إن لم تلجأ لسفينة نوح،
يسلمها الموج الهادر
والملاحون الفقراء
إلى الشطآن.
والربان
أطهر من أطهر إنسان؛
عين ترعى النجم الساهر
في أفق العدل يلوح،
يا بلدي،
ويرد إليك الروح.
وحياة الروح حوار.
نعم، حياة الروح كما عاشها «مكاوي» حوار طويل ممتع، حوار لا ينتهي إلا ليبدأ، فهو حوار بين الشعر والفلسفة، بين الوجدان والعقل، بين الخيال والواقع، بين المستحيل والممكن. إنه حوار لا يتسع له عصر معين أو زمن محدود، ولهذا سافر «مكاوي» في مغامرته الروحية الكبرى عبر العصور، وتقلب بين الأزمنة والأمكنة ينشد ضالته أو معشوقته الأثيرة: الحقيقة، فمن حكمة الرافدين حيث بحث عن «جلجامش» وجذور الطغيان، إلى حكماء الصين القديمة، حيث توقف عند «لاو تزو» ونقل إلى العربية كتابه «الطريق والفضيلة»، الذي يعده أحب الكتب إلى قلبه، ثم إلى الحكماء اليونانيين السبعة وفلاسفة ما قبل سقراط، ومن بعدهم أفلاطون وأرسطو، لينزل في سلم الزمن إلى العصور الوسطى، ويقف عند «بوئيثيوس
A. M. S. Boethius » (480-524م) في عزائه للفلسفة، ثم إلى العصور الحديثة ليتأمل أهم نصوص «ليبنتز
G. W. Leibnitz » (1646-1716م)، وينقل إلى العربية كتابه الأهم «المونادولوجيا»، ثم ينتقل إلى «كانط
I. Kant » (1724-1804م) فينقل كتابه «تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق»، الذي ألفه الفيلسوف الكبير عام 1785م ليكون تمهيدا لكتابه الأساسي: «نقد العقل العملي» الذي صدر بعد ثلاث سنوات. وتستمر الرحلة لتتشعب بها الدروب في متاهات الفلسفة المعاصرة، فمن الوجودية وأعلامها: «هيدجر» و«كامي
A. Camus » (1913-1960م) و«ياسبرز
K. Jaspers » (1883-1969م)، إلى رواد فلسفة الحياة من أمثال «ماكس شيلر
M. Sheler » (1874-1928م) و«دلتي
W. Delthey » (1833-1911م) و«برجسون
H. Bergson » (1859-1941م)، ثم إلى أقطاب «مدرسة فرانكفورت» في ألمانيا، مع غيرهم من أصحاب النزعة المثالية والميول الصوفية، مثل «شتروفه»، الذي تتلمذ عليه «مكاوي» في ألمانيا، ونقل إلى العربية في سبعينيات القرن الماضي كتابه الشيق العميق: «فلسفة العلو-الترانسندنس»، وهو الكتاب الذي أعادت طبعه الهيئة العامة للكتاب العام الماضي.
أما لو وقفنا عند ما قدمه «مكاوي» من دراسات وترجمات شعرية وأدبية، فلن نجده أقل أهمية، فهو يضارع كما وكيفا ما قدمه في مجال الفلسفة الخالصة، بل ويتسع أيضا زمانيا ومكانيا، كما كان الحال في النتاج الفلسفي، فمن الشاعرة اليونانية «سافو»، إلى «جوته» و«بوشنر» و«بريخت» والرمزيين من أعلام «ثورة الشعر الحديث».
رحم الله عبد الغفار مكاوي؛ لقد كان نسيج وحده في حياتنا الثقافية، لا بنتاجه الفلسفي والأدبي الغزير والأصيل فحسب، وإنما أيضا بإبداعاته القصصية والمسرحية، وبروحه السمحة وتواضعه الجم، وما أحرانا - نحن تلامذته ومحبيه - أن نعي الدرس الذي لقننا إياه بجده وصبره، وصمته وبعده عن الأضواء، وأن نعيد تقديم تراثه للأجيال الجديدة؛ لتجد فيه المثال الحي على الدقة والعمق والصدق، في زمن عزت فيه هذه القيم.
الدمعة الأولى: دموع على حائط مبكاي
قلت للصوت الصديق الذي دعاني للمشاركة في العيد الفضي ل «الآداب»: أنت توقظني من نومة أهل الكهف، منذ سنين وأنا غارق في بحر السواد والاكتئاب، منذ سنين وأنا جثة تأكل وتمشي وتنام وتضحك أحيانا، وتثرثر بالحكمة، تنكر الصوت الخارج منها، وتضيع في المتاهات بحثا عن هويتها. طمأنني وألح علي. قلت سأكتب بكائية، وسأرثي نفسي وشبابي! سأفعل ما فعل الشاعر العربي الذي نعى نفسه (ذكرت اسمه ونسيته الآن) قال: افعل. قلت: أليست قلة ذوق أن أنصب مأتما وسط أفراح العرش؟ هل كتب علينا أن نبكي طوال العمر؟ ثم فكرت أن أقيم حائط مبكى عربيا أدعو إليه الأحباب. فكرت أن أهتف بالقراء: دعونا نبكي، فنحن أولى من أعدائنا بالبكاء، فدموعنا على الأقل ليست دموع التماسيح، وذنوبنا في حق أنفسنا أثقل من ذنوبهم عبر التاريخ، لكنني وجدت من الغرور أن أدعو غيري للبكاء، ولن يغفر لي أحد أن أسقط ذنوبي عليه، أو أعمم اتهام الذات - وهو في حد نفسه لا يخلو من الزهو والتبرير - على عشرات من جيلي أنا أول من يحبهم ويقدرهم، ولا يقارن نفسه حتى بالتراب الذي تدوسه أقدامهم. فلأذرف وحدي دمع العين على حائط مبكاي. وليغفر ثرثرتي القراء، وليتسع الصدر لاعتراف جاء بعد خمسة وعشرين عاما، هي في النهاية عمري المسفوح في دم القلم. وهل كانت «الآداب» طوال هذه السنين إلا حائط مبكانا الذي تلقى بالحنان دموعنا، وفتح صدره لصراخنا واحتجاجنا وتجاربنا الساذجة، التي ضاقت بها بلادنا؟ هل كانت إلا المهجر والملجأ للثائر والمتعب والباكي؟
في دمك «صوات» الندابة القديمة، شجن المغني الأعمى على القيثار، أحزان إيزيس الثكلى وأحفادها الذين تترنم بهم الرباب والمواويل ، أهو القبر والتابوت الفرعوني الذي لم تستطع الفكاك منه (من عجب أنه يتسع للنكات والضحكات، إن السياح يقصدون طيبة، وقاعة المومياآت في المتحف المصري، ويغفلون عن القبور والتوابيت والمومياءات الحية!) أهو سجن العمر الموروث؟ وهل كانت كل كتاباتك لطما في مأتمك الأزلي نصبته «دمعات» الربة، لكن نسيته؟ ها أنت ذا بعد آلاف الصفحات وآلاف الليالي الوحيدة، تدرك فجأة أنك لم تخرج من التابوت، ولم تستطع أن تزحزحه؛ لأن الأجداد صنعوه من ضلوعك.
تفتح عينيك فجأة - بعد فوات العمر - فترى الكتب تحيط بك، سورا شائكا غرسته بنفسك، فحرم عليك بستان الحياة. صور لك الوهم أن الحياة كتاب، وأن الكتاب حياة، لم تدر إلا وقد أصبحت مجلدا يمشي على قدمين، ينطح صخر الواقع بأحلام ليست هي أحلامه، عند أول ريح تطايرت الأوراق. عند أول صدمة غرقت كما غرق تراث أجدادك في مياه دجلة والبحر الأبيض. فتشت عن طوق النجاة. آه لو كنت كتبته! كتابك أنت لا ما نقلته عن الآخرين. لربما كان أغاثك، أو خف إليك كقارب نجدة.
يا نوح العجوز! لا عاصم اليوم من الطوفان. يا نوح، لم لم تصنع سفينتك؟ دموعك الآن هي الطوفان. فالجأ قبل فوات الوقت إلى حائط مبكاك، لكن حاول أن تبكي بدموعك أنت، أن تتعرى في الريح أمام المكتبة المحترقة، أقم الحائط وابك عليه، فلعلك يوما تتطهر. ••• «الناس جميعا فرحون، كأنهم يشاركون في وليمة، كأنهم ذاهبون إلى مهرجان الربيع. أنا وحدي أرقد في سكون، أشبه بطفل صغير، لم يبتسم مرة في حياته. أنا وحدي متعب، حزين القلب، مضيع كأني بلا هدف، أنا وحدي غير الآخرين.» سطور من كتاب ترجمته منذ سنين.
1
أهناك شيء يصدق عليك مثلها؟ الاكتئاب كان قدرك. أمك المسكينة كانت تسميك مالك الحزين، كنت لا تبكي وتنشج إلا في الأفراح. أيها السم الأسود، من الذي خلطك بدمي؟ أهذا هو الذي قربك من الشعر؟ عرفت مبكرا أنك أفلست فيه. أهذا هو الذي جعله يلازمك كظلك فأخذت تنقله إلى لغتك؟ سودت عنه مئات الصفحات. تجولت في جزره البعيدة والقريبة (في العام الماضي منحوك الجائزة - فضلا منهم وكرما - فأغرقتك في مزيد من الاكتئاب). يا أوديسيوس الخائب، سدى كانت مغامراتك، الحوريات كذبت عليك. الرحلة كانت مضيعة للعمر. وعزفت على قيثار لم تصنع أوتاره، لا لم يصنع لك، هل تعجب بعد وصولك إيتاكا أن تتنكر «بنيلوبة» لك؟ أن تهتف بك: «لا لست الزوج! والثوب الواعد لم يغزل لك. لم أنفق فيه العمر لكي أنتظرك.»
ها هي ذي تطردك الآن، وعلى مرأى من كل الخطاب الجشعين وأهلك ومربيتك. هل كان الأولى بك أن تبقى في زي الشحاذ؟ طهر نفسك، واغسل كفيك. هل يتسع العمر لرحلتك الأخرى، رحلتك الحقة؟! (موضوع مسرحية بدأتها ولم تتمها) ما أكثر ما بدأت! ترى لماذا لم تستمع لصديق عمرك
2
الذي وجهك لسيف وأبي زيد وعنترة؟
لم غربت وما شرقت؟ لم تبعد دوما عن نفسك وعلى من تلقي الذنب؟ الطفولة كانت قاسية. الزمن اشتد عليك. طوفت بكل الآفاق وها أنت تعود، الابن الضال يهرع نحو أبيه؛ ليغرق كفيه بدمع التوبة، لكن الأب مشلول، فقد الذاكرة، ونسي الابن. وهو الآن تراب يرقد في حضن تراب، والابن التائب يصرخ: لم تتركني؟ (عنوان رواية تدور في عقلك منذ سنين. لم لم تبدأها بعد؟) أما كان الأولى من رحلة الشعر (ضيعت في كتاب واحد عنه ست سنين)، حبست شبابك في سجن لا تدخله إلا أوزان الشعر وكلماته، هل كان الأمر يساوي هذا الجهد؟ أم أنك تهوى دوما أن تلعب دور ضحية، حتى لو كان الجلادون هم الشعراء؟! هل هي مأساتك وحدك؟ أم كان الأولى من هذه الرحلات أن تعلم أميا واحدا؟ وهل تنسى أن أمك ماتت وهي أمية، تذكر تعبك أياما وأسابيع لتحفظها
إنا أعطيناك الكوثر .
وأين تهرب من كلمة ذلك الذي زار بلادك؟
3
سارع إليه كهنة الثقافة - وكم انبهرت مثلهم بكل جديد - فقال ما معناه: لو كنت مكان المثقف عندكم لأخذت طباشيرا ولوحا أسود، وهرعت إلى الريف لتعليم الأميين. وها هي ذي الهاوية تتسع بين الكاتب والقارئ لا تضيق. ونحن نواصل كتابة الرسائل المفتوحة إلى بعضنا. لا نكف عن الصراخ من ذنبنا وخجلنا من عار الأمية. مع ذلك لا نفعل شيئا. (أين اتحادات الأدباء لتوجه قوافلنا نحو الريف؟) هل نعزي أنفسنا بأجيال أخرى - قد تأتي أو لا تأتي - تذوق عندئذ أشعارنا المترفة وعباراتنا الرنانة ونظرياتنا المتعالية وقصصنا ومسرحياتنا التي نفرغ فيها مشاعرنا المذنبة؟ عزاء يستحق البكاء! فابك إذن على حائط مبكاك. •••
وهبطت إلى المتاهة كما هبط ثيسيوس (يا للأسماء الصعبة، لو كنت أدرى بتراثك لوجدت أسماء أرحم!) متاهة الحكمة التي ضاعفت حماقتك. في كل ركن عجوز أشيب ثرثار، وخيوط المذاهب كثيرة ومعقدة، تخرج من نسيج عنكبوت لتقع في نسيج عنكبوت، من طاليس إلى هيدجر وأنت تقرأ وتتابع، تجعد الجبين واكفهرت الملامح، والشعر شاب فرق السالفين، وأنت تتحمس لكل رأي وتتأثر بكل صوت، تفرق نفسك على خبزهم الجاف لكي يبلعه الناس. يقولون لك: أنت تكتب الفلسفة بقلب شاعر. هل يعزونك أم يجرونك من أنفك كما جر فاوست تلاميذه عشر سنين؟ سموه الأستاذ، وسموه الدكتور، فاكتشف أنه ما يزال هو الأحمق المسكين، وأننا عن معرفة أي شيء عاجزون! وها هم يسمونك الأستاذ، ينادونك حضرتك وسيادتك (لكن من يقف بجوارك؟ من يشعر بك؟) هناك تجلس كصنم بوذا المسكين بين جدرانك الأربعة أبكم أخرس كالبوم. ويرونك - حين تناقش أطروحة - في مسوح الحكماء المملين. ويثرثر صوت يخرج منك فتنكره حين تفاجأ به. وتود لو أنك تخرج من جلدك، تدخل جسدا آخر - أبهى وأصح - أو أن تجري عريانا كالمذعور، لكن الدور يمثل فوق المسرح. سيظل يمثل، حتى تنفجر وتخرج منه إلى قبرك أو للنور. (أيتها العين الواسعة السوداء. تابعت صعودي نحو الواحد وأنا أقرأ أفلوطين. هل أحسست بأني أتمنى أن ألقى السلم كي أصل إليك؟) وتكتشف أنك تورطت، أنت ونحن وهم متورطون، تورطت في جسد فرض عليك، في عصر وبيئة لم تخترهما. يقولون وتصدقهم أحيانا: مصيرك بيديك، فاقبض عليه! قارب حياتك من صنعك، فوجه دفته بنفسك، في هذا الزمن وجدت وهذا الركن من العالم؛ فواجه الموقف وتحد المشكلة! وتدق كلمات التحدي والكفاح وسائر الطبول الضخمة. وحين يجن الليل تقول: أنا مع ذلك في ورطة! وتناجي نفسك: لو خيرت لكنت اخترت، أن أصبح شجرة، أو أتقمص قطة! (فالشجرة تلقي ظلا، للتائه والحيران، تعطي خشبا للبردان، فاكهة أو خبزا أخضر للجوعان، والقطة متوحدة، متكبرة تعشق سر الأنجم والكتمان) وتكتشف أنك ضيعت الخيط. و«أريادنة» لم تمسك بطرفه ولم تنتظرك يوما على باب المتاهة. (أصبحت الآن أما لثلاثة أطفال. هل تتذكر جوع القلب وذل العين؟)
وتواصل ثرثرتك ودموعك تجري في صمت. والسنة الدراسية على الأبواب، وعينك داخل المتاهة تبحث عن حائط مبكاك. •••
وحيدا تذهب. وحيدا تجيء (في الليل، على فراشي، طلبت من تحبه نفسي. طلبته فما وجدته).
4
آلاف الليالي، مكورا كالجنين في بطن أمك، تمد أكف الجوع إليه. تتعرى، من يغطيك؟ يسعل صدرك يتفجر بالربو، تتشنج معدتك وأمعاؤك بالمرض القومي الأزلي، من ينعطف عليك؟ من يطعمك ويسقيك؟ يا جوعا أبديا للأنثى والأم! ومنذ تخطيت الأربعين وأنت تخاف، في الظلام تتربص عين اللص وعين الغيب، والسماء تمطر الكوارث كل يوم، وصفحة الحوادث قضاء ينزل على الرأس مع كل إفطار. ضيعت الحبيبة، فضاعت الزوجة والأبناء والأحفاد، ضاع الآباء وضاع الأجداد، ضاع الماضي والحاضر والمستقبل. صرت ترابا، عدما، هاوية معتمة في لحظة. لحظة رحت لبيتها فانعقد لسانك، شل القلب وأطبق فوق الشفتين الموت. كل سنة أو سنتين تراها صدفة، في منعطف طريق أو عند عبور شارع - إن ساء حظك لم تر إلا ظهرها، فأتتك عيناها السوداوان النافذتان كحد السيف، اللامعتان كسحر الموت - في يدها طفلاها. كان من الممكن أن يكونا منك، وحين اكتست السواد تحركت، لكن النجم المنحوس هناك. تتحسر: آه لو كانت، لو كنت وكنت وكنت ... وتمضي مسرعا إلى مسكنك، تضع المفتاح في الباب، تتحاشى عيون المتطفلين، تطالعك سدود الكتب كحيوانات منقرضة، تتفرس فيك عيون الأموات-الأحياء، طالت رقدتهم في كهف الورق المصفر! تدفن رأسك بين يديك. في بحر الحزن الأسود تغرق سفن العمر، يوم سلمت عليها - للمرة الأولى أيها الريفي - صرعت شعاعا، عصفورا وفراشة. وحفرت التاريخ على الحائط، ومعه كلمة نيتشه: حب القدر، ما زال الحفر هناك، يشبه شاهد قبر الغرباء، في أرض الغربة: «أيها العابر، قل لمواطنينا في إسبرطة: هنا نرقد مقتولين، وما زلنا في الموتى لوصاياها أوفياء.»
5
ما أشبهك بنيتشه. كم أحببته: ثورته، وجنونه، خيبته والتسليم بقدر محبوب ملعون، هل نملك إلا التسليم؟ (في أواخر حياته، بعد أن أطبق عليه ليل الجنون، لم يعد يعرف أنه نيتشه. تنظر أخته إليه فلا تملك أن تحبس دموعها. ينظر إليها ويقول: لم تبكين؟ ألسنا في النهاية سعداء؟!) واللحظة كانت مسئولة. لم تتركها تمضي وتفر؟ لحظة عجز عن تصميم في وجه الحب-الموت. عبرت لن ترجع أبدا. لم تمسكها من خصلات الشعر الذهبي. كانت تدعوك وتبتسم لك: لم أحجمت؟
وتجيء الموجة في طوفان الجري وراء الخبر المر مغموسا في أوعية الملل، اليأس، القبح، الذل. واللحظة لا ترجع أبدا. أهي فكرة ثابتة تنام على فراشها المريح؟ عزاء وتبرير؟ هل تخدع نفسك؟ تضع الدرع البراق على جثة فارس؟ كي تستمتع بالحرية خلف السور الشائك؟ تتلذذ ببكائك في كهفك؟ يا للأوهام السهلة! سهل أن تتهم النفس، تعذبها، فالتعذيب شريعة هذا العصر، لكن الفاجعة أمر، والمحنة أكبر من مشكلة الحب، فلكم أحببت وجربت. حاولت أن تكون البرجوازي الصغير - من يملك أن يخرج من جلده أو يتخلص من ظله؟ - تقرأ الجريدة، وتتابع أخبار النجوم والأغاني الجديدة، تحرص على مسلسل الإذاعة والتلفزيون، تتحسر على أيام الخير، وتقول مع ذلك: غدا يتحسن كل شيء - لكنك لا تدري كيف؟ - ومثله وضعت الخاتم في يدها (وضعته مرتين في يدين، أبرأت ذمتك ككل مواطن صالح يؤمن بالله والوطن)، وعندما أردت أن تضع يدها خلصتها منك. كانت مع الآخر ترقص وتأكل من الشجرة المحرمة - على آدم المسكين وحده - كنت مملا والكتب مملة. وجه الحكمة لا يلمع مثل وجوه العملات الصعبة، والأخرى كانت أذكى وأمر. داعبت الطفل الراقد فيك وسرت منه. أخذت منه الذهب المشرى بعرق العمر. يا من تتلوى في محراب الفكر، أحرق كتبك قبل فوات العمر. اربط ربطة عنقك، واسمع آخر أغنية فيما يطلبه المستمعون، واذكر حين يجن الليل، أنك وحدك، وحدك كإله الصمت كوحش مجروح. وحدك تتألم وتموت، حتى لو كانت في أحضانك ملكة تدمر.
واحمل حائط مبكاك إلى القبر. •••
اللحظة ضاعت. (هل يتسع العمر لعودتها؟ هل يرجع دولاب الزمن الدوار فتظهر لك، تبتسم كنجم صاف خلف سحاب الدمع؟) عبثا تجمع عنها أكوام المعلومات، تشغل نفسك بالزمن القاسي. ها أنت تحاضر عنها منذ سنين. تهتف أحيانا: ما دام القلب يدق فلا يأس؛ فاللحظة فاكهة تنضج في موسمها، حين يحين أوان النضج. اللحظة - سر الوهج الخالد تحت تراب الفنانين - تحتاج لمروحة الشمس وأجنحة الريح وأنفاس المطر، سنين بعد سنين. لا تيأس أبدا، حين تزيد المحنة يأتي المنقذ. (عنوان كتاب عن أفلاطون! هذا المنقذ سيغادر كهفه، يترك كهف الأشباح، ويصعد للنور الحق. فمتى يخرج منه؟ أم خرج ولم يرجع بعد؟) تهتف بقلوب بكر: عيشوا اللحظة! لحظة الحسم والقرار والاختيار. لحظة التحدي والفعل الحر، بها يواجه الفرد نصيبه، والشعب قدره. من يخذلها، يهرب منها، من يحجم عنها يبقى مدحورا أبد الدهر. هذا قانون الزمن وسر التاريخ. من يتحد الموت يعش! من يحي الموت يكن! كلمات ضخمة.
أحيانا تتجسد، تتحقق، تنقذ فردا أو شعبا يغرق. احمد ربك أنك عشت اللحظة. لحظة عبر أخوك الجندي إلى سيناء. ما أعظمه وهو «يكرر» صيحة «بدر»! ما أكرمه وهو يلف حزام البارود على جسد أضناه الفقر؛ كي ينسف - باللحم الدافئ - درع حديد متكبر. هل تتكرر هذه اللحظة في سيناء وغزة والجولان؟ هل تنقذنا إلا لحظات الحسم الحر؟ أم نشغل عنها، نهرب منها، نستثمرها في شيكات وشعارات، في المستورد والبوتيكات، في أفلام أو حلقات، في الجشع الذاهل عن لحم الجندي المسكين؟
أخشى ما أخشاه الآن: أن تأتي اللحظة، وأنا أحتضر وألفظ آخر أنفاسي. أن تتقدم مني كالعذراء وتهمس: هل تذكرني؟ وأذكر عندئذ أنني نسيت. إني لم أكن أنا نفسي. يقول قائل يعزيك: ومن الذي حقق نفسه؟ أين الذي رضي عنها ؟ حتى الذي أنجز الأعمال الكبرى، في الفن أو الحياة، هل رضي عن نفسه؟ وربما قلت لنفسك: حقا لم تتم عملا كبيرا، ولكن آلاف الصفحات التي كتبتها - يا للذنوب الثقيلة! - لا تخلو من أنفاسك، ترجمت كثيرا، وأنكرت نفسك. أليس هذا عطاء؟ ألم تعش وتجرب كل كلمة وسطر؟ وا أسفاه!
الطيبة جنت عليك. (في أيامنا يسميها الكذابون ضعفا، كما يعدون الرقة عجزا والوداعة والأدب جبنا) البراءة والنقاء ظلماك (وكل ما فعلت أن حاولت البقاء نقيا أبيض مهما خضت المستنقعات). فنيت فيما كتبت ونقلت (صادقا تقول: ما أقله وأهون شأنه! كم كانت هناك أعمال أخرى أجدر وأهم!) حتى أوشكت أن تتقمص أرواح الذين شغلت بهم. أسروك حتى كدت تصبح صدى لا صوتا، نسخة لا أصلا. أكانت «شهامة» وأداء واجب، فريضة لغة بادرة شاءت المصادفة أن تطرق باب حضارتها وأدبها. ولم لم تستطع الجمع بين هذا «الواجب» وواجب آخر أكبر منه؟ أهو ضعف الحيلة، قلة الهمة، غباء الطبع، ذل الخبز اليومي، لذة الانبهار بالآخر والغير، غرور التلويح به في وجوه الآخرين؟ ربي، ماذا كان الأمر؟
المسألة - كما قيل بحق - نسبية، والغرور لم يبلغ بك أن تصدق الثناء. (في النهاية: ماذا تقوى الكلمة أن تفعل في مجتمع متخلف؟)
والشركة ما زالت تدميك: لم لم تحقق نفسك أو بعض نفسك؟ لم لم تستجب للحظة الخلق؟ لم لم تصبر وتثابر، وفي أجيال الرواد وأجيال معاصريك وجوه مضيئة تحبها وتتعلم منها؟ بالأمس فتحت كراساتك القديمة - كدت تنساها في غبار الأدراج! - طالعت خواطرك وقلبت المشروعات (عشرات القصص بدأتها ولم تتمها، مسرحيات وروايات طويلة وقصيرة) أين كنت؟ لم جرفك التيار؟ كم نحن أغنياء بالأفكار فقراء في الأعمال!
6
يهزون رءوسهم ويقولون: مترجم حساس، وباحث جاد. وتطعن في القلب، وتدور دوامة التدريس، تطحنك الطاحونة (ترى كيف يواجه المحنة من هم أعظم منك وأعلم؟ أم أنك تهول كعادتك وتصارع شبحا لا وجود له إلا في رأسك؟!) وفي النهاية لم تقول هذا الكلام؟ لمن؟ ألم يكن الأولى أن تصوره في مشاهد ومواقف وشخصيات؟ أهو العشق الموروث، تعذيب الذات؟ ألا يجدر بك أن تبدأ السير عن طريق الثقة والاطمئنان؟ أتبذل وعدا؟ أتحاول أن تنزع خيطا من عقدة صمتك؟ من يكترث بدمعك؟ من يهتم بحائط مبكاك؟
قاس عليك الزمن، كان الزمن قاسيا، عشت الزمن الأسود، الضوضاء حاصرتك، والإزعاج طوقك وأطبق عليك. (ألهذا آويت لكهفك، وجعلت تراث الإنسانية منفاك؟) الجهد كان قليلا والحيلة ضعيفة، الشعارات تنطلق وتدوي، رياح الجديد والغريب تعصف، الانبهار بالموضات والعجائب يذهل النفس عن ذاتها (أنت أيضا شاركت فيه، هل تقبل توبتك الآن؟) البطولات الزائفة والصيحات الكاذبة وتعليمات كهنة الأيديولوجيات «ينبني ويجب ولا بد» سحقت براعم المواهب المتفتحة، وشتتت أوراقها، وأرعبت عصارتها الحية، وسلطت عليها سموم الإدانة (بعضها سكن، بعضها اتجه للمسلسل والتلذذ بطعم الدولار، بعضها لاذ من جحيم الضوضاء إلى قاعات الدرس، أقلها نجح وصمد وأبدع أعمالا لا يبدعها إلا الصبر).
عشت الزمن الأسود (عندما يظهر الطاغية الكبير يصبح الجميع طغاة صغارا، من الحاكم إلى الكناس وجندي الشرطة)،
7
لم تعذب ولم تعلق من قدميك، ولم تركل ولم تلطم على وجهك، ولكن بعض الذين ذاقوا العذاب والتعذيب والركل واللطم كانوا أقرب الناس إليك. وكتبت عن الطغيان (حتى أوشك أن يكون هو اللحن الأساسي في كل كتاباتك القليلة الشأن)، حتى الدراسات لم تخل منه - مع الحذر الواجب.
حاولت - على طريقتك الهامسة الحيية - أن تواجه الإزعاج والضوضاء، كتبت عن «صمت جوته»، وعن السكينة التي قتلناها، فقتلنا معها روح العلم والهدوء والنظر المتزن. كانت الحناجر أقوى من العقول (هناك الآن بصيص أمل في أن كفة العقل والعلم بدأت ترجح)، لكن هل اختفت من حياتنا الأصوات العالية والادعاءات المدوية والعنتريات الزائفة؟ أليس من واجبنا نحن الكتاب أن نقاومها ونخمد أنفاسها؟ يتردد في سمعي الآن صوت بح من الدعوة للعلم، للفكر المنتج عملا، للنظر الخالص من اضطراب العواطف وزعيق الشعارات وبريق المطلقات والتعميمات، وبالجملة من الكذب والضوضاء التي كادت تصبح علامة عربية
8
مسجلة. والنتيجة ملايين اللاجئين والمشردين ، والأدعياء والمتبجحين، العاطلين والمتسولين، والخطر المحدق بملايين أخرى.
والخطر المحدق أن نصبح «كغثاء السيل» أن تنقرض حضارتنا، ونصبح تاريخا فات، حقل تجارب للأمم الأقوى، مثل خيام وعقالات وعيون جائعة وبقايا آبار النفط، هل عرب أنتم؟ هل عرب أنتم؟ هل عرب ...؟
9
أعرف أنني أبالغ وأسرف في المبالغة. إن شبح الانقراض - الذي خيم علي سنين طويلة، وجسمته أمامي قراءات طويلة في فلسفة التاريخ - ربما يكون قد بدأ يتهكم علي. ولقد عشت - بحمد الله - حتى رأيت مواجهة الصمود في أكتوبر/رمضان، ولمست أبواب الحرية وهي توارب، والأصوات تردد شعار العلم والإيمان (ولا بد من الصبر والعمل المشترك، حتى يصبح سلوكا حيا لا مجرد شعار). لماذا أستطرد؟ ألأجد تبريرا؟ ألأفضح ضعفي وعجزي أنا وجيلي؟ ألأقول للمواهب الشابة: ثابروا على الأعمال الكبيرة، اصمدوا لمعرفة الذات، فمعرفتها والصبر على اكتشافها والدفاع عنها في وجه كل ما يشتتها هو العبقرية نفسها، ومن أنا حتى أقول هذا أو أدعو إليه؟ كيف يعطي الشيء فاقده؟ هل يشاركني أحد في ألمي؟ هل يحس به؟ أهو اعتراف؟ ولمن؟ ولماذا أعلنه في هذا المكان؟ ألم يكن من الممكن أن أستغل كرم هذه المجلة في شيء أنفع، وقد سبق لها أن أكرمتني ورعت بعض بذوري الفقيرة التي أقلب الآن حصادها الفقير؟ هل أعدتني البطولة «التي يدعيها الكاتب حين يرتدي مسوح النبي والكاهن والمعلم والرائد»؟ أم أصابني - دون أن أدري - المرض الذي حذرت منه كثيرا، حين تكلمت عن التواضع والاعتدال، حين جعلت مثلي الأعلى ذلك «البطل» الصيني المسكين، ذلك الحكيم الطاوي الذي حارب معركته، وحقق انتصاره، ثم استقل مركبا خفيا وتوارى عن الأنظار، أنظار الذين وعدوه بنصف المملكة هدية وانتظروا للاحتفال به؟ رب لم هذا التناقض كله؟ هل آن أن أخلص نفسي من هذه المناجاة وأعبر بالصورة لغة الفن؟ أم يمنعني أكل العيش وضعف الحيلة؟ أنتم يا من ستظهرون بعد الطوفان الذي غرقنا فيه، فكروا عندما تتحدثون عن ضعفنا، في الزمن الأسود الذي نجوتم منه، وإذا رأيتمونا نبكي، فاذكرونا، وسامحونا.
10 «الضعيف هو الغبي الذي لا يعرف سر قوته، وأنا لا أحب الأغبياء.»
11
هنا أجد نفسي أمام عمل يكشف لي اليوم - وبعد كتابته بحوالي عشرين سنة - عن معان وإيحاءات جديدة. شأنه شأن كل فن عظيم، أجد نفسي أمام فنان لم يكف عن التجربة والريادة والمغامرة، هو بالنسبة لي (وربما لكثير من جيلي، وإن كنت لا أحب التعميم ولا التورط في الكلام نيابة عن أحد) منارة شامخة ترسل ضوءها الهادئ لسفينة المصير العربية، ولقوارب المواهب الصغيرة التي تتلمس طريقها في الظلمات. هذا رجل عرف نفسه، سر قوته. كجبل المقطم بقي صامدا يطل - بحبه وحزنه الجليل - على المدينة العتيقة المضطربة بالفقراء والمقهورين والمتسولين والفتوات. كتب ما كتب ليمحق الفقر والقذارة والتسول والطغيان؛ لتختفي الحشرات والذباب والنبابيت. وبشرنا بالسحر، العلم ليخلصنا من قهر الفتوات وكذبهم. الفتوات في كل مكان، فهل آن أن يختفوا؟ ومن الزيف والبطش والدجل، وهو في حكايات الرباب كما هو في دعاوى المتبجحين وبلاغيات الهتافين، حتى كدنا نحن العرب أن نصبح ألفاظا تمشي وتأكل وتنام. هل نقرأ هذا العمل من جديد؟ وهل نأمل أن نحاول قراءته بعيدا عن التشنج والخوف؟ هل ندرك الآن أنه كان رؤية بصيرة لتصحيح الثورة، ومحاولة للمزج بين العقل والوجدان أو بين العلم والإيمان، الذي أصبح الآن كلمة على كل لسان؟ هل نطمع في قدر كاف من الحرية الظاهرة والباطلة التي تسمح للأديب بتناول مادته من التاريخ الديني أو الأسطوري، فيتصرف فيها كما يشاء له فنه وضميره (والفنان الحق ضمير العالم، ميزان التاريخ)، مثلما يحدث في كل بلاد الله، فلا يرفع أصبع اتهام، ولا يجمح قلم، ولا يتطاول لسان ثرثار؟
1977م، العيد الفضي لمجلة الآداب البيروتية
الدمعة الثانية: لمن أتحدث يا نفسي اليوم؟
- آه! - ما بك؟ - ضاقت نفسي سئمت نفسي من نفسي. - نفسك تسمعك، تكلم! - ماذا يجدي أن أتكلم؟
ماذا يبقى غير الصمت وماذا يبقى؟
غرقت سفن الغرقى قبل الغرق،
والطفل تمنى لو لم يولد أبدا،
والموت تسكع في الطرق.
ينتظر البائس صوت البوق ويرنو للأفق،
والطير الواجم شلته نذر الشفق .
نعق البوم، وفي عينيه ارتسمت أطلال الكون وفي الحدق.
وتنهد من لا زالت فيه القدرة أن يتنهد،
والكل شقي. - ألهذا جئت؟ ألا تندم؟ - جئت أبثك أحزاني،
وأريك عيون الجرح وألتمس البلسم،
أتلقف منك الحكمة. - القردة منك ومني أحكم.
فأنا لا أنظر، لا أسمع، لا أتكلم. - سيعز علي سكوتك عني،
من يسمعني إن صدت نفسي،
وتخلت عني في بؤسي؟
هلا حببت إلي الغرب وأوصيت بمركب شمس؟
رب الأرباب سيسمع شكواي هناك، و«آمون» لن يخزل همسي،
و«جحوتي» يقضي في أمري،
ويدون مظلمتي «خنسي». - لكأني أسمع صوت المتعب يلين عيشه،
من مملكة الغرب يجيء ويحمل نقشه،
يسترحم نفسه؛
أن تمضي معه في مركبه، فتقاوم طيشه،
وتعاتبه وتهدئه وترمم عشه. - هل جئت لأشكو من يأسي؟ - أحياتك تقبل في النعمى، في الشدة ترفض والبأس؟ - يا أختي مهلا لا تأسي،
سأسوي مثواك بنفسي،
وأقيم الظلة تحميك من البرد ومن قيظ الشمس. - عش يومك، لا تقس علي - إن أقس فإنك لن تقسي،
ولمن أتكلم أو أشكو،
إن صدت وابتعدت نفسي؟
ولمن أتكلم؟ واليوم يعاف اسمي
أكثر من رائحة الرخم بيوم القيظ المحموم،
ولمن أتكلم؟ والجار يدبر همي
وصديق الأمس نعاه البوم؟
ولمن أتكلم؟ قر الناس على السوء،
وجحدوا الحسنى والإحسان.
ولمن أتكلم؟ والماضي ينسى من ذاكرة الناس،
ولا هون من إنسان.
ولمن أتكلم؟ فقد القلب رضاه،
وظل الصاحب مفقود. - ما بالك تتمنى الموت؟
هل يبدو اليوم أمامك،
فتخاطبه، أم طيف زارك في النوم؟ - يبدو الموت أمامي اليوم،
كشفاء من مرض طال وعتق من ذل الأسر.
يبدو الموت أمامي اليوم.
1
كشوق سجين للبيت الآمن بعد سنين قضاها في القهر. - دع شكواك، وألق بخورك فوق الجمر،
واهنأ في يومك. - اهنأ؟ هل تخفى عنك هموم القلب؟ - افتح قلبك، هات السر! - يا نفسي، لست بأول من يرثي نفسه.
ينعى غده، حاضره، أمسه.
أرثيها مثل الشاعر «عبد يغوث»،
2
أو «مالك»،
3
أو «فيون».
4
عل دموعي تسقط في حقل فؤاد محزون،
فتنبه بذرة أمل أو شوكة غضب مدفون.
أحمل مصباح «ديوجين»
5
المسكين
أهتف في وجه الناس لتسمع أذن من طين:
أنتم في جنح الليل، متى تصحون؟
دولاب الزمن يدور وأنتم تنقرضون وتندثرون.
أشعلتم حرب بسوس أخرى،
وهزمتم بعضكم البعض، وأنتم مهزومون،
واستسلمتم لطغاة الدنيا والدين. - تسقط قطرات الدمع على قلبك،
كالمطر على أرض مدينة،
هجر الناس مساكنها.
تروي زهرة أمل،
أم شوكة ألم بعيوني؟ - يروي دمعك شجرة أمل في غابات شجونك وشجوني.
وغدا ستمر خطى الخطاب، ويقطف من ثمرات عيونك وعيوني.
يوما ينجز وعد سنين؛
فالرجل أمين! - أتظنين؟ - كفكف دمعك يا عبد يغوث!
يا مالك،
6
ممن ترجو الغوث، وليس هناك مغيث؟
الدمع على خد البطل مهان.
ذابت أعمدة الملح، وثار الموتى في الأكفان.
وقريبا تلد الأرحام الفرسان،
والفارس لا يذرف إلا دمع الفرح
على صدر الشجعان. - أقدام الخيل قد انكسرت،
ساحت في رمل الأحزان.
والفارس مقهور يبكي
في ظل جدار الكتمان.
لا الشعر يفيد ولا الدرع المكسور يذود الأشجان. - لا الشاعر أنت، ولا الفارس، قل لي من أنت؟ - سؤال يحتاج الرد عليه لألف سؤال!
لغز يفترس العمر الضائع بين القدرة والآمال. - أرني وجهك، مرآتك. - مرآتي؟ لا تبصر مثلي.
هل تكشف ما لم تكشف لي؟ - في كل صباح تنظر وجهك في المرآة،
تكرهه، تلعن صحبته، تهرب من رؤياه.
تسمع شخصا آخر وتراه،
تتجول في طرقات النفس وتعجب مما تلقاه:
أعراس جذلى ومآتم، موكب غابات وبساتين،
جنات نعيم وجحيم، رقص ملائكة وشياطين.
تدخل من أبواب الرؤيا، وتعانق
محبوبا هجرك منذ سنين.
لكن، آه من وحدتك الأزلية وسط الموكب، يا مسكين! - وحدتي الأزلية، جرحي.
ألديك دواء يا نفسي؟
قولي وأشيري بالنصح. - ما جدوى الصمت أو البوح؟
فدواؤك داؤك لو تدري،
والبلسم يكمن في الجرح.
تمشي وحدك،
تبكي وحدك،
وحدتك تنادمها وحدك،
حين يجيء الموت ويلجم خيلك،
من منهم يسبل عينيك ومن يستر عريك؟
من يلقي حفنة رمل وتراب فوقك؟
تتسلق جبل الوحدة وحدك.
آه، كم في الدنيا من أشياء عجيبة!
لكن أعجبها الإنسان.
7
والأعجب أن يتخلى الإنسان عن الإنسان. - أنا لا أتخلى، بل أستغني كالأشجار
تحيا في الغابة، لم تسأل عن رغبتها،
لم يطلب منها أحد أن تختار ،
تنمو، تزدهر، تشيخ وتذبل أو تنهار.
لكن تحمي وحدتها باستمرار،
وتصر عليها كالنساك بلا إصرار.
ماذا تحتاج الشجرة؟
تتنفس من أنفاس الريح تقبلها الأمطار،
تطعمها الأرض وزاد الأرض غني بالأسرار،
لكن الشجر ضنين بالأسرار
لا يفشيها إلا الخطاب أو النار!
ماذا أحتاج إليه؟ ماذا يحتاج الإنسان؟
الجرع تروي عطشه،
واللقمة تستر عيشه،
وامرأة تدفئ فرشه،
والنور ليطرد عنه الوحشة،
والكلمة تحرس من ريح الصدفة عشه،
حين يغيب ونطفئ الرعشة،
ويشيع ملك الأحزان المرة نعشه،
يحنو فوق القبر ليحفر نقشه: «منكسرا عاش، منكسرا مات،
في الظل اليائس شيد عرشه،
سار من الوحشة للوحشة.»
ألمح في عينيك الضحكة. - ما زالت صبيا بين ذراعي أمك،
لم تكبر أبدا.
فمتى تعرف موضع قدميك،
وتطرح عكازا تستند عليه أو يستند عليك؟
ومتى تقنع أو تغتبط بشيء؟
تكره نفسك،
فتفوح روائح منك،
كالماء الآسن في مستنقع.
تتناثر فقاعات الملل السأم الضيق الأبدي المفزع. - يا نفسي، لا تشتطي في اللوم المقذع.
إن كان الذنب شنيعا، ذنب العالم في حقي أشنع،
والحمل ثقيل مفجع. - ماذا لو جربت:
أن ترسل طائر عينك في أغوار النفس،
وفوق صدور الموجودات؛
ليرفرف بالحب عليها، يغرق في النبع المترع
بالحكمة والمعرفة ويرجع؛
ليشيد العش الدافئ بالحب ويهجع؟ - يفزعني الصمت الخالد في أرجاء الكون المفزع.
8
وجه الموت شنيع، وجه القتلة أشنع،
والظلم الراكض في الطرقات
يدوس الناس ويضمر ظلما أفظع.
وأنا أتعثر في عجزي،
وطريقي تذهب، لا ترجع. - هاجر، واهجر تلك الطرق الملتوية طرا،
حاول أن تصبح سيد أقطار أخرى.
سيد نفسك،
وادفن جسد عبوديتك الماضية،
وواجه موتك،
وتحد الخطر لتولد أو تهلك.
لا تسرف في خيبة أملك. - ماذا أفعل، ماذا أملك؟ - قبل ألمك، غيره بمطرقة الخلق،
واجبل من طينة ذاتك روحا ينطلق.
وإذا فاض بنفسك نهر العشق،
فارو الأرض العطشى،
وانفخ فيها أنفاس الصدق.
ماذا تبغي؟ - تدرين بما أبغيه فكم كابدت الشوق؟
لمسة صدق. - في الفن؟ - وفي العيش، وفي الشعر الحق. - الشعر زهور، ذات جذور،
تنمو وسط الدود وفي أعماق الطين،
لا في الجنة أو بين الحور العين!
طوبى لرجال عرفوا كيف يعيشون،
وكيف يموتون،
كما عرفوا كيف يغنون! - لست بشاعر.
إني أحيا الشعر ولا أكتب شعرا،
تفتنني كل الأشياء وتملؤني ذعرا.
في قلبي طفل مذبوح،
في عقلي شيخ مجروح،
تصدح عيني كالعصفور على شجر الليل وفي غابات المر تنوح.
تطفر بالدهشة والألم وأحزان الموتى والأحياء،
أحزان لا تدركها الأبصار ولا الأسماء. - من يدريك لعل العصفور يحلق في الأجواء،
كسفينة أمل، زورق سعد يحمل فوق جناحيه السعداء؟
من يدريك بأن العصفور
هو كرة الكون المسحور،
تجري في فلك الغبطة وتدور؟
عشت طويلا في قبضة شبح حالم،
مرآة في غابات العالم،
ينعكس عليها غضب الريح وهمس الطير،
قوقعة في قاع البحر الساكن،
تجتر عذاب الموج وأشواق السمك الهائم
في أحشاء العقل الباطن.
هل حانت ساعة صحوك من هذا الكابوس القاتم؟
هل يستيقظ فيك الإنسان،
ويثأر من «كاليبان»؟
9
هل يلقي حمل الشبح الجاثم
في آبار النسيان،
ليهب النور من الأكفان
وتنبت فيه القوة والعينان؟ - ها أنت سرحت مع الأحلام. - بل أنقذك من الأوهام. - ووهمك أنت؟ - هات البرهان! - هل يخرج فوق الإنسان
من شبح، صورة إنسان؟
هل تخرج صورة إنسان من صلب قرود،
أو عملاق أشقر من نسل الأقزام السود؟ - ويلك، هل تكفر بالإنسان؟ - بل أحترم الإنسان، عبدا أو حرا كان،
أحيا وأموت لأجله،
آكل من ثمرة عمله،
روحي تكتئب وتكدح؛
كي تروي شجرة أمله.
أوليس شريكي في الوحدة والصمت،
أخي في المولد والموت؟
أولا يجمعنا سقف واحد
في بيت الرعب القاتم؟
أولا نجلس في ظل واحد،
تلقيه شجرة هذا العالم؟ - لو تتشبث بحبال الرؤيا في أعماقك!
لو تصعد فوق الجبل الرائع مع كل رفاقك؛
لعرفت بأن الإنسان
أكثر من إنسان.
أنصت للصوت الهاتف في صحرائك،
يهدر بالكلمة والحرف وبالمعنى الشائك.
أصغ لصوت إله واحد
يطبق بيديه على أعضائك.
من يسمعك إذا صحت من الألم سواه؟
من يتحمل رعبك إلاه؟
أنصت للصوت الممطر ،
تثمر أشجار بكائك!
تشرق شمس يقين في كبد سمائك،
تتفتح زهرة قلبك في عتمة صبحك ومسائك،
يتفجر نبع الخضر ببحر ظلامك،
تثب الأفكار على صوت ندائك،
ينشر عقلك ... - عقلي كنسيج هاو تلطمه الريح،
مصيدة ذباب العالم،
مسكن كل جريح،
مأوى كل كسيح،
ينفره مع الأحزان المرة والأفكار المرة،
في سجن الحرف،
إخوته الضمة والكسرة وحروف العطف.
ما يشفيني أن الكلمات بلا سيف.
ماذا أفعل بنسيج هاو في وجه الغلظة والعنف؟
هل يبقى إلا الصمت العاجز، إلا العزلة والخوف؟
عشب أحارب في معركة خاسرة بسلاح الوهم.
آه لو كنت سمعت نداء الحب فلبيت،
وبسطت يدي العاريتين لوجه الشمس أو الموت؛
لحملت حطامي فوق حطام سفين يعبر بي هاوية اليم،
أو يسعفني في ليل الصمت.
وعرفت حقيقة حالي قبل فوات الوقت.
ما عشت حياتي، مت وراء قناع جهم،
بل سبعة أقنعة نسجتها كف الوهم:
الحكمة، والصبر، وقار العالم والسمت! - لا يكره قلب الحكمة أن ينفذ فيه الحب! - قالوا: الرأس حكيم غطاه الشيب،
والقلب كبير، أكبر من أن يكره ويحب.
ومضوا بضمير مرتاح لم يثقله الذنب،
لم يلتفتوا كي يجدوا العابد،
يحترق كما احترق البوذي الزاهد
10
ليصير ترابا يطفئ نار الحرب،
ويخلص لحم الشعب البائس من ناب الذئب.
ها هو عار مجروح كيسوع بعد الصلب،
ضنت حتى الريح بأن تحمل شكواه إلى الرب،
بعد فوات العمر وتعب القلب،
ما خلص حتى شعره كلب! - وعرفت الهوة بين القول وبين الفعل
بين الحرف وبين السيف،
بين النطق وبين الخلق؟ - لم أعرفها، غصت بلجتها حتى العمق.
أشهق، أختنق، وأحترق وأحرق.
تفجعني الهوة بين القدرة والآمال،
بين الكلمات وبين الأفعال.
كم أحببت الكلمات!
كم صليت لها وركعت!
أمسح بالدمع الأقدام،
أضفر رأسي بالأوهام،
جعت، ظمئت،
من زاد الكلمات طعمت سقيت.
وعلى صدر الكلمات غفوت.
أطرق أطرق كي ينفتح الباب،
أجمع خشبي والأحطاب؛
لأمد الجسر إلى الأحباب
سدت في وجهي الأبواب،
تداعى الجسر وشاخ الحاطب والحطاب،
وافترس الكلمات كلاب،
دربهم كذاب الزفة والنصاب.
ظل الحلم يداعبني أنا وصحابي
أن نعدل قامة هذا الكون المقلوب بقلم وكتاب.
خرج العالم عن محوره،
11
هل تصلحه كلمة صدق من قلب شاب،
ما دام الحب غريبا يستجدي بالأبواب،
والعدل كسيرا ينتظر الإذن من الحجاب؟
مرت أيام العمر، تساقط يوم موءود
في يوم آخر مولود كابي.
وانغرس السهم بقلب الوردة،
جفت أوراق شبابي.
كنا نقف على الأقدام ونقف الآن
على رأس يشتعل الشيب بمفرقه الخابي.
ويدب القلب،
ويعرج من صحراء لسراب.
تسألني ما بك؟ أصمت.
أسأل نفسي: حقا ما بي؟
أصرخ من هاوية الخمسين فيختنق سؤالي وجوابي.
ها أنا أهبط تل العمر،
تمضي الأيام سراعا نحو القبر.
تتلفت عيني: أمسي صخر،
وغدي قفر،
وعلى طول طريقي شجر مر.
ويوسوس شيطان غر:
لذ بالظل قليلا من وهج الحر.
كيف أذود الطير
عن ثمر لا أبلو منه إلا القهر؟
يا شجر العمر!
يا شجر العمر!
أغصانك هذي، أم تتدلى منك مشانق خضر؟
مشنقة للسر النائم في تابوت الصدر،
ولأطفال الحب الموءودة قبل طلوع الفجر،
للقبلات الحلوة لم أطبعها فوق شفاه حمر.
للرغبات المجنونة،
والشهوات المسجونة،
والآمال المدفونة،
في كفن الحكمة والفكر
تمضي الأيام سراعا والأيام شجون،
وتعلل نفسك: سوف تكون.
وتمر اللحظة بعد اللحظة من الفرس المحموم
ينظر في عينيك لتقبض خصلات الحظ المقسوم،
فتشيح بوجهك، تهمس: انتظر الفرس المأمون!
سقطت خيل الزمن المطعون.
وتعثر يوم محزون في يوم آخر محزون،
وتنكرت لنفسك حين أضعت وصية مت لتكون.
لا استدفأت بنور «أبوللو» المفتون،
ولا شب بدمك حريق من كأس «ديونيز» المجنون.
12 - لو شب بدمك حريق من كأس «ديونيز» الملعون،
لو كنت رقصت كرقص «الباخيات» المجنون؛
لغدوت ظريفا كالجدي المأفون،
وسعيدا وسط السعداء. - بل قولي وسط التعساء.
كيف أكون سعيدا وسط التعساء؟
أو أفرح برنين الكأس أو الذهب اللامع بين الجوعى والفقراء؟
من يمكنه أن يبقى حيا وسط الأشلاء؟
أحيانا أضحك من شدة نزقي أو خطلي،
أسرع أضع الكف على شفتي من الخجل؛
فالضحكة تصبح إثما أفدح من إثم القتل،
حين يسيل الدمع من المقل.
والكلمة تصبح ... - دع شأن الكلمة فهي رنين وطنين،
إن لم تسرج مصباحا يهدي ليقين،
إن لم تحمل بالعمل كما تحمل أم بجنين؛
فالكلمة ... - ما جدوى الكلمة؟
صمت الشعب كصمت الطين،
وحواة السيرك الخالد يجتهدون
أن ترقص رقص القردة، تلعب بالبيضة والحجر،
تغني تضحك تبكي للجمهور المسكين.
أين الحق من الباطل؟ كدت أسلم بجنوني! - لو كنت تغوص ببطن الأرض مع الفلاحين؛
لعرفت الحق.
لو كنت تعلم أميا كيف يميز بين الميم وبين النون؛
لعرفت الحق.
لو كنت تجاهد في ساحات فلسطين؛
لعرفت الحق. - معك الحق، معك الحق.
يا ريح الصدق!
هبي واقتلعيني من أوحال الرق.
يا وجهي الباكي، مزق أقنعة الموت بلا رفق.
اخرج من جسد الليل، ادخل في جسد الريح.
وتأهب للمطر القادم والبرق. - كلمات، في كلمات، في كلمات
كالشحاذ المتسول من شحاذ تمشي في الطرقات.
ومتى يحدث هذا؟ - حين تتم المعجزة وينفجر البركان العاتي،
يطمر آثار القهر ويبعث كل الطاقات،
كل ينابيع الخلق لدى الأحياء-الأموات.
حين تتم المعجزة. - فات زمان المعجزة؛
فواجه سيف اللحظة واليوم الآتي.
هذا الزمن الحاضر. - إنا لم نختر هذا الزمن المجنون؛
لم يسألنا أحد أن نولد في هذا البلد المحزون،
لم يسألنا أحد أن نرحل فوق سفين
يغرق في جوف التنين.
قولي: ماذا نفعل؟
ماذا نفعل؟ قولي. - ما يفعله البحارة فوق السفن الغرقى،
والربان العابس في وجه العاصفة الكبرى. - هل يملك إلا أن يغرق،
ويظل يحدق ويحدق
في فك الطوفان المطبق؟ - بل يقف شجاعا،
ويحب مصيره،
وينازل محنته وحده.
مد يديك إلى أيدي الغرقى،
وابن سفينة نوح أخرى. - أتقولين سفينة نوح؟
آه من نوح وسلالة نوح!
يا نوح الصامت كالأوثان،
يا نوح الغارق في النسيان،
يا نوح الذاهل عنا،
هذا زمن الطوفان.
زمن وسام العار على صدر الطغيان،
كيف سقطنا تحت سنابك خيل العصر؟
وكيف اختل بيدنا الميزان؟
كنا السادة. في طيبة، مأرب،
في القدس وفي الأندلس وكان وكان.
لا تسأل أرواح الموتى واسأل عنا الآن،
حيث ينام المسجون مع السجان،
واللاجئ في خيمته المشتعلة بالنيران ،
يحلم بجناح براق وعد به الرحمن؛
ليقبل خد الصخرة ويطوف بالأركان،
في زمن الجوع الكافر، وثب القرد على عرش السلطان.
واليوم تهاجر أسراب النمل الخائف
من زلزال أو بركان.
يا نوح الغائب، هذا زمنك،
زمن الطوفان. - كفكف دمعك! - إني أغرق، - بل تغرقني في الطوفان. - إني أنهار،
وينهار على رأسي سقف الدار،
أنجرف مع التيار
نحو الهاوية بغير قرار.
تلطمني كف القيصر والشرطي الجبار.
هل توقف زحف السيل الأسود
كلمات أو أشعار؟
ماذا أملك إلا الدمع،
أسكبه في عينيك لتنسى طعم العار.
ثم ألوذ ككلب يحتضر بجنب جدار،
وأحدق في سحب الغيب.
وأسأل: من يحميك من الإعصار؟ - ومن يحميني منك؟ - مني؟! - تتحسر، تبكي، تحتضر بجنب جدار.
هل يبدو الموت اليوم أمامك،
فتحن إليه حنين العائد للدار؟
تتمنى لو ذبت به ذوبان الموجة في أمواج البحر الهدار.
أوحقا تتمنى الموت؟ - أتمنى الموت الحق.
أنظر في عينيه، أحدق
وأعانق وجه الخطر المحدق
ويعانقني فأكون بحق
أولد، أبعث، أحيا في صدق.
الموت جليل وجميل،
كجمال المجد أو الشعر.
والموت يعمق ويصدق،
هو ثمرة عمري أو عرقي.
هبني يا ربي أن ألقى
معشوقي في ليلة عشقي،
وعزائي عن رحلة سفري
وذد الأطيار إذا جاءت؛
كي تأكل من ثمري المر.
قد عشت بقبري ما عشت؛
فما ضر يغيبني قبري؟
ما ضر أموت لكي أحيا،
كي يشرق من ليلي فجري؟ - فجرك؟ - أسمعت؟ - ألا تدري؟
وفهمت، فسرك من سري - قد كنت أثرثر، معذرة!
من غيرك يقبل بالعذر؟
ولمن أتكلم يا نفسي،
وأبوح بسري أو جهري؟ - يكفي ما قلت، ألا تسأم؟ - ولمن يا نفسي أتكلم؟
وأبشر بالفجر وأحلم. - الطير المتعب نام فنم، - أأنام؟
ونحن نيام منذ دهور.
عمى، فمتى تنفتح العين،
وتنفتح الأيدي الكادحة وينغلق الفم؟ - حين يؤذن ديك الفجر. - إني أنتظر أذانه. - لا يكفي أن تنتظره،
اعمل له!
الفجر قريب لو تعلم؛
فتأهب، واعمل، وتعلم؛
حتى لا تشكو أو تندم،
وتلوذ بحكمتك وتحلم،
كالقرد الأعمى والأبكم. - الفجر؟! - الفجر
هو الأحكم!
1979م •••
هذه سطور قليلة من أنشودة، أو قصيدة طويلة تعد هذه البكائية تنويعات عليها. ولعل هذه الأنشودة أو الحوارية أن تكون أقدم مرثية عرفها العالم. إنها مناجاة رجل تعب من الحياة، فراح يحاور نفسه التي تقنعه بالتمسك بدنياه - دنياه التي يئس منها، بعد أن اختلت فيها كل الموازين وانقلبت كل القيم - بينما أخذ يحن إلى العدالة والحقيقة والسلام في أخراه. وهي نص مصري قديم حققه وترجمه أكثر من عالم من علماء التاريخ والأدب القديم (مثل أرمان وزيته وفولكنر وسليم حسن)، وأعطوه هذا العنوان: «حوار متعب من الحياة مع نفسه»، وحددوا عصره بفترة الثورات والاضطرابات التي جاءت بعد الدولة القديمة. ومع أننا لا نستطيع أن نصف هذا الحوار الشعري بأنه مرثية أو بكائية بالمعنى الذي عرف فيما بعد، فإنه يعد قطعة من أصدق الشعر وأنبله، وأشده تأثيرا على القلب.
غير أن المرثية أو البكائية قد عرفت في الشعر اليوناني والروماني القديم؛ لتدل على شكل شعري يتألف من بيتين (كوبليه)، يجري أولهما على الوزن السداسي، وثانيهما على الوزن الخماسي، ويعبر منذ القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد عن أغراض متنوعة، كالحرب والحب والبطولة والسخرية السياسية، قبل أن يطلق الاسم المحدد «اليجوس أو اليجابا» على الحداد على ميت، أو الشكوى من فواجع الحياة والتأمل في مآسيها، وقد يتسع فيشمل قصائد الحب كما حدث في العصر السكندري والروماني والبيزنطي، ويظل الحب والشكوى طابعه في الشعر اللاتيني - خصوصا في عصر أغسطس - عند تيبولوس وبروبريتوس وأوفيد.
ولم تقتصر محاكاة الغربيين المحدثين منذ عصر النهضة لأنواع الشعر القديم وأوزانه على هذا الشكل الثنائي للمرثية، وإنما امتدت إلى مضمونها الذي يعبر عن الأسى والحسرة والاكتئاب. ففي إيطاليا نجد المرثية منذ القرن السادس عشر عند «تاسو» و«أريوستو»، حتى القرن التاسع عشر والعشرين عند ليوباردي وكاردوتشي وداتزيو، وفي إسبانيا التي قلد شعراؤها النماذج الإيطالية يتصل هذا الشعر من جارثيلا زودي لافيجا ولوب دي فيجا، حتى خيمنيث وجارثيا لوركا، وفي فرنسا يتصرف بعض الشعراء في الشكل الأصلي، وإن ظلوا محافظين على المحتوى والنغم الأسيان، بدءا من جان دوبليه ورونسار ، حتى لامارتين في تأملاته وأندريه شنييية
13
في أغنياته الرقيقة الحزينة قبل أن تختلط المرثية في الأدب الفرنسي بأنواع وموضوعات أخرى، وفي ألمانيا بدأت مع بداية القرن السابع عشر عند أوبيتز، ثم كلوبشتوك، وتأثرت بمدرسة القبور في الشعر الإنجليزي وبشعراء آخرين، مثل يونج وأوسيان وجراي - صاحب المرثية المشهورة في مقبرة ريفية - وظهر هذا التأثير على «جوته» في روايته «آلام فيرتر» التي تعد مرثية طويلة، ثم على قصائده الكبيرة «مرثيات روما ومارينباد وتحولات النبات»، كما ظهر على شيلر في قصائده آلهة اليونان، والحنين، والحاج، بجانب رسالته عن الشعر الساذج أو المطبوع، والشعر العاطفي أو المصنوع، وهي الرسالة التي ميز فيها الرثاء عن غيره من ألوان الشعر الأخرى بأنه تشوق إلى المثل الأعلى، أما الشاعر «هلدرلين» فيمكن أن نصف شعره كله بأنه مرثية متعددة الألحان والأشكال، يبكي فيها نفسه وعصره، ويردد حنينه إلى مثل مستحيلة وأيام ذهبية عاشها البشر المباركون في ظل الآلهة المباركة التي تخلت عنهم، ولم تعد تكترث بهم، حتى جدد «رلكه» المرثية، ونفث فيها أنفاسا وجودية، بعثت فيها الحياة والقوة في القرن العشرين، وذلك في قصائده العشر المعروفة بمرثيات دوينو. وفي الأدب الإنجليزي تحددت المرثية كنوع مستقل تقترن فيه الشكوى والحب والموت من أوائل القرن السابع عشر، عندما أطلق جون دون هذه التسمية «مرثية جنائزية» على قسم من أقسام قصيدته «تشريح العالم»، ووضع ملتون مرثيته الرعوية «ليسيداس» التي ساعدت على جعل المرثية نوعا مستقلا في الأدب الإنجليزي، وإن اختلطت حدوده مع كل شعر تأملي اكتسى بطابع الرثاء، وأوضح مثل على ذلك وأشهره هو قصيدة توماس جراي السابقة الذكر «مرثية في مقبرة ريفية»، و«خواطر الليل» ليونج، و«عبث الرغبات البشرية» لصمويل جونسون، ومرثية «موت سيدة تعسة» لألكسندر بوب، و«في ذكراه» لتنيسون، و«عندما تزدهر الزنابق في فناء الدار» لويتمان، وأخيرا مرثية «أودن» التي كتبها في ذكرى الشاعر الإيرلندي الكبير «ييتس»، ناهيك عن مرثية شيللي الشهيرة «أدونيس» لصديقه كيتس، وقصيدته «ثريزيس»، ولعلها جميعا كانت محاولات لمحاكاة رعويات كلاسيكية، مزجت بين الحب والموت عند فيرجيل وثيوكريتس.
الدمعة الثالثة: الكابوس
ليست حياة الروح أن تشيح بوجهك عن الفساد والموت، بل أن تحدق فيهما ...
هيجل فوق العرش
1
قصر مهجور، يبدو كالنسر الهرم الجاثم فوق السفح، يحتضر وحيدا من ألم الجرح. تحملني قدماي إليه عبر صحار جرداء، تحت سماء دهمتها السحب السوداء. جحافل قطعان وجيوش ذئاب، سفن غرقى يهرب منها البحارة والفئران، ويبكي الربان، خيل جامحة تسقط في الميدان، أقنعة الأبطال المهزومين، دروع تسقط في الطين، وملائكة تنفخ في الأبواق، كلاب تنبح في الآفاق، ومواكب إنس وشياطين، ترقص تركع تسجد للتنين. أدخل من باب القصر كأني أدخل في قبر، يهتف صوت يأتي من فوقي، من تحتي أو ينبعث من المصدر: هذا قصر العقل المطلق. حدق في عين الموت وحدق؛ فحياتك أن تلقى الخطر المحدق، تتحداه فتنجو من قبضته أو تغرق. أدلف من البوابة الحديدية الصدئة، يختلط وقع قدمي الثقيل بأنات العظام التي أدوس عليها، بالرطوبة وطعم الملح ورائحة العفن، وسواد الظلال المعلقة كالمعاطف السوداء في الأركان. لا أكاد أدنو من العتبة، حتى تنفتح أمامي القاعة الرهيبة في آخرها، فوق الدرجات الخشبية الداكنة، تتحجر عيناي على المشهد: عرش ضخم، يجلس عليه شيخ عجوز، يخطف بصري بريق يسطع في العينين، ويخترق السواد والظلال والأطياف المتراصة على جانبي القاعة كشواظ الجمر المتأجج وسط دخان وتراب. تشدني القوة المجهولة للاقتراب منه، يجذبني توقد العينين وبياض الوجه الذي يلمع كالعاج الناصع كلما اقتربت منه، تصرفني العينان ويشغلني الوجه عن الالتفات ورائي أو حولي، ويفاجئني الصوت الخارج من قلب العرش، صوت في لمعان العينين الواسعتين الباردتين: صل وصب اللعنة! قدم كشف حسابك!
ربي! أعرف هذا الوجه. لم أره رأي العين، لكن أذكر أني شاهدته، أغرقت عيوني في عينيه، خفت بريقهما وبرودهما الثلجي، وذهلت من الوجه الواثق من نفسه، الرائع مثل وجوه الأرباب على قمم الأوليمب. رن الصوت الخارج منه كالقدر الساحق، يهبط من برج شاهق، من أدخلني هذا القصر؟ من كان رفيقي ودليلي؟ من هذا الملاك الجالس فوق العرش؟ هو شيطان أم القيصر؟ والأشباح الواقفة على الصفين. كالحة عابسة الأوجه، تهمس، تطرق بالرأس، تكاد تشير إلي، أتمعن فيها عن قرب: حراس أم زوار؟ أصحاب مظالم أم حجاب؟ والشجرة، هذا الجذع الراسخ والأغصان الخضراء. أتظلل هذا العرش؟ من أين تجيء الخضرة في هذا القفر؟ ومشاعل في كل مكان. توشك أن تطفئها أنفاس الليل الجاثم مثل جبال الأحزان. هل أصرخ؟ أسقط فوق الأرض، أنادي الملك الجالس فوق العرش، وأسأل: ما هو دوري في هذا الحفل أو القداس الملعون؟ أجري وأثور وأضرب رأسي في الجدران، وأبكي كالمجنون. يأتي الصوت المخنوق الشامخ كنفير القدر الصارخ، يجرف روحي كالقشة في التيار الجارف: فتش عن جمجمتك بين الأشلاء! فهناك مكانك بين الموتى الأحياء!
جماجم وأشلاء، حقا، حقا، أفتح عيني، أنظر كالممسوس، كومة أشلاء تحت العرش، وجماجم ثقبت أعينها تتأملني بعيون الصمت. تدعوني وتعاتبني بلسان الموت، أصرخ في غضب يشعله المقت: ما هذا؟ عرش فوق الأشلاء؟ مأدبة وحوش وبرابرة تلتهم لحوم الغرباء؟ - بل رب إغريقي بلع الأبناء، غضب الرب الحي الفرد على نفسه، فالتهم الفرد ليصبح ذاته، وتجلى في ثوب الروح المطلق. - صور سوداء مخيفة لإله يأكل نفسه، كالميت نفض الأكفان، وغادر رمسه. - كي يخرج في ثوب أنقى، يتألق بالنور الأعلى. - لا أفهم، يا مولاي. - عجبا! مع أنك عشت طويلا مع أفكاري، وسهرت ليالي تبحث عن أسراري. أسريعا ينسى الزائر داري؟ خذ يا ولدي مفتاح السر. حتم وقضاء أن تكتمل الدورة؛ كي تسمو فوق الأطلال الخربة، مملكة الله الحرة، يا ولد تلك هي الرؤيا، رحت أسجلها في نوبة غضب أسطوري، ليلة كنت وحيدا في «يينا». ثم عكفت عليها وصببت رؤاها المرة في أطر التجربة.
أطرقت حزينا، كشفت عن حيرة نفسي، حيرة وجهي ويدي الساهمتين كعصفورين وحيدين أضاعا العش. قال الملك الجالس فوق العرش: هل تذكر يا ولدي العملاق «خرونوس»؟ لما ابتلع بنيه، فلم يفلت منه غير «زيوس»؟ - ويعود زيوس فيثأر منه، ويجبره أن يتقيأ أولاده؟ - لكن الرب الذي أعنيه لا يثور على أولاده، مثلما يثور على نفسه ، على خروجه الشقي عن ذاته، على الطبيعة التي خلقها، فازدهرت بألوانها وأشكالها. لقد انتشر وتبدد في هذا «الآخر»، ابتعد عن نقطة المركز، أحس أنه أراق جوهره الخالص في اللانهائية التي لا تعرف راحة ولا استقرارا. عندئذ يتولاه الغضب الجبار، ويملكه السخط، فيدمر ما شادته يداه، يبتلع الصور والألوان والأشكال، ويمزق أعضاءه بيديه، ويسحق العظم ويهرس اللحم حتى يسيل، وفي السعير الذي يغلي ويفور تتطهر نفسه، تترك وراءها كل الشوائب، ترتفع نقية متلألئة في النور الباهر، فلقد عاد الرب لذاته. عاد الرب لذاته. - صورة رب جبار مظلم. العدم يمزق نفسه، أيكون الهدم بناء، ويصير الموت هو البعث؟ أشار بيده أن اسكت. كف بيضاء كقطعة ثلج، تلقي طيفا أسود، أشبه بالمروحة السوداء: هذا شيء لا مندوحة عنه، نهر الجدل الجبار، صراع الذات مع الآخر. اغتر الشيطان الساقط بجماله، فتحدى الله، فثارت ثورته وابتلعه! لكن الطبيعة المبتلعة ترتفع في ثوب مثالي، فقد ماتت حياتها لتبعث روحها، وهي في ثوبها النقي الجديد قد انتصرت على الشر، وصمدت لوهج الألم وحريقه المشتعل في أعماقها. أهمس في خوف، كلماتي تسقط فوق الأرض وترجف، قطرات دماء تجري من جرح ينزف. وتشير الكف البيضاء الخافقة كمروحة سوداء: أحسبك تقول كما قال الناس: الجورب حين يرقع خير منه حين يمزق! أما الوعي فليس كذلك، ما من وعي حق إلا وهو ممزق، بين الأضداد يعيش ويحترق ويومض كوميض البرق. تلك حياة المطلق، نهر صراع أبدي، جدل التاريخ المثقل بالمأساة، معركة الظلمة والنور، الموت مع الميلاد، حياة وموت، فعل ورد فعل، جذب ودفع، تحليل وتأليف، ملاك وفلاحون، مستعمرون ومستعمرون، نواة موجبة وكهارب سالبة، ركود «الين» ودفع «اليانج»، تطور الروح التي تبعث الحياة في الطبيعة والإنسان. تلك هي التجربة الأولى، نبعث من نهر الجدل الجارف كالجيش الزاحف. على ضفافه نبتت كل التصورات والمفاهيم، اتسعت صورها، وامتدت غصونها في الظاهريات والتاريخ والدولة والدين والفن. - في المنطق أيضا. كم عذبني المنطق! - ألم أقل في مقدمته: يمكن القول بأن مضمون الكتاب تصوير لله في جوهره الأبدي، قبل خلق الطبيعة أو أي روح متناه؟ - هذا هو ما قلت: في البدء كان الرب المطلق المباشر، ثم غضب على ذاته التي ضاعت في الآخر، فسحقت قوة السلب الرهيبة وجوده المباشر أو عدمه الخالص، فعاد إلى ذاته في وحدة أرقى وأغنى. وحدة تتمزق فوحدة جديدة! - الآن فهمت. البذرة تتبعها النبتة فالثمرة. الطفل بريء وسعيد، والشاب يتابع خطواته، وأخيرا يأتي الشيخ على عكاز يتأوه. طاحونة هذا العالم لا تتوقف أو تنكص، والخطوات ثلاث لا تختل ولا تنقص، أنصت يا ولدي لرنين الخطورة فوق السطح، وفي عمق القاع، غابات العالم ترقص، أو تحتضر على الإيقاع، تضربه كف الجدل فينفذ في الأسماع، هذا يا ولدي هو سر العالم، سر حياتك، موتك، كل الأوجاع!
يسكت صوت العرش، يدير صاحبه رأسه الضخم، ويريحه على يده، تتوه العينان الزرقاوان في الفراغ، القوة والجبروت تشع عليه وريح اليأس البارد تعصف منه. تنفذ في ثقوب الجماجم فتئن وتشكو كأنين الناي، أتلفت حولي، ترتعش الشجرة، توشك أن تدنو مني، ترتعش النار من المشاعل وتتساقط ومضاتها كحبات الندى الملتهبة فوق الوجوه على الصفين، هذي أقنعة أم أوجه أبطال منسيين؟ أتقدم منهم، تتأمل عيني قسمات الوجه وتجعيدات الجبهة وأخاديد الزمن ونقش القدر المسطور، أعرف بعض ملامحها، أتذكر أني عشت ليالي أتأملها، ألعنها، أستوحيها، أندب حظي معها، أسترحمها أن تغفر عجزي وقصوري، أعرف وجه أرسطو، أفلاطون وهيراقليط، وجه الكندي والفارابي والحلاج، وتفاجئني عينا ديكارت الواسعتان السوداوان، والوجه الضامر، وجه الفأر المذعور، تلمع فيه العينان الزرقاوان، عينا كانط الطيبتان الثاقبتان. أذكر زينون وأسأله أين سلحفاتك والسهم، أين أخيل ليشهد بعد زوال الحلم، إن المجد خداع والشهرة وهم. هل يبقى غير الصمت الخالد يا أرباب الحكمة والفهم؟ ها أنا أتأملكم، أمثل بين يديكم مدحورا أبكم وأصم، هل أذنبتم أنتم أم أذنبت وضيعني الوهم، ولمن ندع الحكم؟ ترتعش الشجرة، توشك أن تمسح رأسي بأناملها الخضراء، أتأملها، تنحسر الخضرة، تتدلى منها الأغصان الصفراء، أبدأ في عد الأوراق، فألمح وجها وضاء، تتألق فيه الطيبة أنجذب إليه ، تنفرج الشفتان وينسكب الصوت شعاع ضياء: دع يا ولدي الأوراق، بعد قليل تنظر فيها وتقلبها بالكفين وبالأحداق، كم أشفقت عليك وأنت صغير عاق، والآن تحركني نفس اللهفة والإشفاق، تمتد يداي إليها، أدنو منها، ينتفض بقفص الصدر ذبيح وجل خفاق، أهتف: أنت؟ أية ريح طيبة جاءت بك؟ من أرشدك لهذا القصر المهجور؟! ينسكب الصوت بسمعي: من أرشدني؟ من يجعل طيف الأم يزور، طفلا شابت منه الرأس وما زال يدور، في بحر الكون الواسع بشراع الحلم المكسور، يتصارع مع موج البحر فيزيد ويغور، ثم يثوب لحضن الشط الدافئ كالعصفور المقرور. من أرشدني للقصر المهجور؟ من يجعل طيف الأم يزورك كالمصباح المسحور؟ يتبع خطوك في جوف المد المسحور، جوف التنور، يرعى سهرك بين الكتب الموحشة كأفواه قبور، سر يا ولدي واترك هذي الأوراق الآن، يحزنني أن تغلبك الأحزان، بعد قليل سأراك فسر بأمان، وستأخذ زادك مني، وهو كما عودت كثير، نور من عيني ومن حبة قلبي نور.
توارى الوجه كما تتوارى الموجة. لمست كتفي يد رعناء، التفت لأرى رجلا يقف بجانبي، إلى الوراء قليلا، يجذبني من ذراعي ويشير بعينيه ويديه إلى باب في وسط القاعة في الناحية اليسرى، لم يجذبني الأيسر صينية فضية موشاة بالذهب والفضة والطيور وأوراق النبات. هبت منها الرائحة العطرة فأفاقت كل خلاياي، انفتحت كالأفواه الجائعة بلا استئذان. صحت بأعلى صوتي: ما أطيبك وما أذكاك! كيف عرفت بأني جائع؟ وضع السبابة فوق الشفتين، وقال: حذار! صاحب هذا العرش وسدنته غرقى في الأفكار، فاطرد هذا الخاطر كي لا تنزعج الروح وهيا اتبعني للدار، فالخطر قريب منك. صحت بغضب: ماذا تعني؟ أي خطر أو أخطار؟ جذب ذراعي، همس بأذني: انظر! قلت: لا شيء هنالك، أنت تخرف. عاد إلى الهمس: هناك! انظر عينيه الحارقتين كجمر النار، يزحف نحوك أنت، حذار! صحت به: من هذا؟ لا، لا شيء. لست ألاحظ غير ظلال أو أرواح، نسمات تعبث بالأوراق ولا ترتاح، ومشاعل ساكنة الضوء كأعماق جراح. ماذا تقصد؟ ألجمه الصمت أو الذعر. تراجع خطوتين للوراء، بعد قليل رأيته يزحف نحوي في بطء، تسبقه جمرتان محمرتان. أمسكت بسترة النادل السوداء، لا بد أنني أفسدت أناقته التي لا تناسب رهبة المكان، تشبثت بطرفها وصحت: عقرب! عقرب يتقدم نحوي. وعلي يسلط عينيه، ويشرع طرف السن المسموم. هيا نمضي! فالروح المطلق لن ينقذك، ولم ينقذني منه. لن يحميني من لدغته كل الحكماء.
قال النادل، وهو يصحبني إلى الباب: لكنك ستعود إليه، بعد تمام الدورة ستعود إليه. سألت: أعود إليه؟ من أين؟ أين أنا الآن؟ قال في غموض: حتم أن تكتمل الدورة. أولم تسمع كلمات الجالس فوق العرش؟ قلت وأنا أحث خطواتي، وأتلفت مذعورا نحو العقرب الذي تسلل شبحه الأجرد بين الجماجم وغاب بينها: حقا هذا هو ما قال. حتم أن تكتمل الدورة، لكن بعد الشبع من المأدبة الكبرى. وأشرت إلى الحمامة أو اليمامة المحمرة التي يلمع عليها الدهن، ابتسم النادل في لطف، لم يخرج من شفتيه حرف.
صبي في يده ناي
وجدت نفسي في ردهة كبيرة غارقة في ضوء النجف البللوري، مثل الردهات الناصعة في فنادق المدن الكبرى. على اليسار صندوق خشبي عال، ومن وراء الزجاج يقف في الاستقبال عاملات جميلات وموظفون في حلل سوداء، ينحنون لا أدري إن كانوا يرحبون بي أم يرثون لي. فالبسمات أحاجي لن تفهم أبدا، وذئاب الغابة فيما يروى تبتسم قليلا لضحاياها. أبتسم للنادل، وأسأل عن دورة المياه. يرد هو أيضا بالابتسام، فأعتذر بابتسامة أكبر. أقول لنفسي: لعن الله الرعب! تتسع البسمة في شفتيه عن المألوف: أما أنا فستجدني عندما تحتاج إلي، ستجدني دون انتظام. أشم الرائحة بعمق، تصبح بسمته ضحكة، يجري كالطائر تترنح فوق يديه حمامة جوعى. يختفي عن عيني اختفاء السراب عن عين الظمآن، تخترق السكين مثانتي، فأزم شفتي. يشير عامل مهذب بابتسامته أكثر من يده إلى مكان الحمام. أهبط درجات، أصعد درجات أخرى، تخطف بصري الجدران الناعمة بلون الفيروز. تستقبلني حسناء بيضاء سمينة، في خديها غمازة. هي أيضا تبتسم وتضحك، تعطيني الفوطة والمنديل وتلمس يدها، خطأ، موضع عضو حساس. ترمقني لحظات تزفر في وجهي عطر النار من الأنفاس. أبتسم بدوري وأقول بحب: هذا من فضل العقرب ! تضحك، تخبطني أسفل ظهري وتموء: ما خابت نظراتي أبدا، والعقرب في داخله عقرب! ألمس يدها البضة: معذرة يا حسناء. أتمنى أن أشبعك وأروي ظمأك، لكن أخشى يفلت مني النادل، ويطير حمامي الزاجل. قد أبقى في فندقكم أياما أخرى. فانتظري يوم لقاء عاجل. تتأوه، تنظر في مرآة: فندقنا؟ يوم لقاء؟ ليتك تعرف نفسك، تعرف من نحن، وماذا نقصد. لكنك تجهل كل الأشياء، تجهل من أيامك أو أعمالك، حتى الأسماء، قحة وغرور من شفتين وأسنان كالبللور. أغلق خلفي الباب. أفتحه بعد قليل. ما زال الصوت يرن بأذني والأصداء: ليتك تعرف نفسك، تعرف من نحن. أين الحسناء؟ حتى أنت تمصين دمائي؟ أصعد الدرجات منتعشا، ما أجمل صنع الماء! يلقاني رجل فخم ضخم كالكابوس يغلق عينيه وسترته، ويقول بأدب جم: يا سيد، أين بطاقتك الصفراء؟ أتحسس جيبي، أعجب لعبوس الوجه، أحاول أن أبتسم قليلا، ألمح عينا ترمقني، عينا أخرى، كل الأعين سوداء وكل الأوجه غبراء. أصرخ كالمجنون: ضاعت مني حافظة نقودي، سرقت، نشلتها الحسناء! - حسناء! أية حسناء؟ - أغرتني، سخرت مني حين رفضت الإغراء. - أية حسناء؟ نحن نراجع كل الأسماء. أين هويتك؟ تكلم. لم أتكلم. رشقتني الأعين كأفواه البنادق. التصقت بصدري كذباب الموت الأسود. تحسست جيبي، ثم هتفت: من فضلك لا ضوضاء. فندقنا لا يدخله إلا السادة والأمراء. أين هويتك؟
تزدحم وجوه حولي، ضاعت منها البسمات. يلتف رجال ونساء. يخترق الصف صبي في يده ناي، ينفخ فيه فينبعث الصوت الساحر. أين رأيت الوجه الضامر؟ يتقدم نحو الرجل الضخم، يمد إليه الحافظة وتعزف يده الأخرى فوق الناي. أهتف: أرأيتم؟ حافظة نقودي. خذها، افحصها أنت بنفسك. يتناولها الرجل، يتمتم معتذرا، يخرج منها الأوراق. أنظر في وجه العازف، يطفو الجزع عليه والإشفاق. يفتح الرجل البطاقة، ينظر فيها، ثم يصيح: هل صدقتم؟ تتزاحم حولي الأوجه، تمتد العين وتمتد الأنف، تهتف أصوات: أعجب موقف. لا اسم ولا عنوان، لا صورة، لا توقيع ولا أختام. أحتج وأبكي ، وأدق بقدمي الأرض: هذا سخف سخف! إني ... يتدخل الصبي الساحر، يسحب البطاقة بلطف: أنا أعرفه، قد كلفني به. ويميل على رأس الرجل ويهمس، يتراجع للخلف وينصرف الناس. يتقدم مني الرجل، ويحني قامته ويهتف: لم لم تذكر هذا من قبل؟ هذا الفندق تحت الأمر، ماذا تطلب؟ ماذا يرضيك؟ تفضل!
يسحبني الصبي من ذراعي بعد أن ينفخ في الناي نغمة بارعة، ويضع يده تحت إبطي، ويقول: سامحهم، من لا يعرف يجهل. أنا منذ الآن رفيقك، ودليلك، خادمك وأكثر، ويخلص ذراعه ويمد كفيه. ترتعش أصابعه على الناي. أسأله ما هذا اللحن؟ يبتسم ببراءة ويقول: الصعود إلى الهاوية!
نتجول من رواق إلى رواق، نصعد درجات ونهبط درجات، نترك ردهة لامعة لندخل ردهة ناصعة. الجدران يفيض منها الضوء كسطوح زجاج شفاف، ووجوه الخدم تبتسم وتطرق إلى الأرض، كأنها تعتذر أو تخفي سرا. ندلف إلى قاعة كبيرة تذكرني رائحتها الحادة بعنابر المستشفيات: نظيفة، بيضاء، ناعمة الأسرة والجدران، ولكنها مخدرة كجسد أبيض ممدود على مائدة الجراح. أنظر فأرى سريرين في القاعة، أسدلت بينهما ستارة سوداء، يعزف الصبي لحنا عابثا كصفير عصفور نزق ويشير إلى السرير الأول ويقول: هذه أول سلمة، اذهب إلى هناك، إنها تنتظرك. اهبط بعدها سلمة أخرى، وستجد الأخرى تنتظرك. أسأله: من تعني؟ يرمقني بطرف عينه: أنت الأدرى، راجع صفحات كتابك. يرن بأذني صوت نبهني في قاعة العرش: قدم كشف حسابك! أطرق في صمت، أسأله: ماذا تفعل أنت؟ يبتسم ويعبث بالناي: ما أفعله دوما، أسمعك اللحن؟ أكرر السؤال، وأنا أضع ذراعي على كتفه: أي لحن؟ يرفع حاجبه ويقول: كيف نسيت؟ لحن سقوطك في الآبار! يشير إلي فأتقدم. يرتفع العزف ورائي، يرتفع أمامي يشبه خطوة طفل عاري القدمين، يتحول أثناء النوم ويبحث عن أبويه.
ممدودة على الفراش كحورية خرجت من الماء، الشعر الكستنائي منسدل حول رأسها بغير نظام. والوجه الناصع البياض، المشوب ببقع حمراء خفيفة، يشبه وجه ملاك. وجه صغير شاحب كالهلال النائم فوق السحاب، تشع منه براءة طفل عليل مسحوب إلى أسفل شبه مثلث حاد ، تشعر من نظرتك الأولى إليه أنك مدعو لحماية يتيم. والعينان ضيقتان، خاليتان من التعبير ، والجفنان بلا رموش، تنظران في بلاهة لا تعرف إن كانت مكرا أو سذاجة أو غباء. توشك أن تهتف حين تنظر في بحيرتها الآسنة: هل خلق الله ملائكة عميان؟ ما ضر لو اتسعت هاتان العينان، لو ينعكس بمرآتهما ظل خيال أو وجدان؟ لكنك تغفر وتسامح، فالفم مفتوح ذابل، والفجر يطل من الأسنان، فيغسل كل سؤال.
ممددة على السرير اللامع، تجري يدها الباردة على أزرار الفستان. لاحظت تبلدها وبرود أناملها وشحوب الكف. قلت لنفسك: إن اليد والعين مرايا النفس. والنفس المتبلدة تناسبها عين باردة أو كف متجمدة الحس (كل الأرواح تنال الأجسام التي تستحقها، درس من علم الفراشة). لكنك كفنت الخاطر في أكفان النسيان، فاليتم الآسر فجر فيك ينابيع حنان. - أنت؟ (قالتها وأشاحت بوجهها الذابل المستطيل.) - أتذكرين؟ (وقفت بعيدا أنظر في استحياء، نفس الخجل ونفس الطيبة والتسليم.) - أنا الآن أم أولاد، لم جئت؟ - جئتك من صومعة الزاهد المنحوس، جئت كما يأتي الطيف أو الكابوس. جئت، كما قلت، بوجه السكير وقلب الصوفي الشاعر، ويقول العابر في عرض الشارع ضعة وخنوعا، يذهب في بيت الصمت فيهتف من هب ودب: «فصام.» يكتب عن قدر العالم والإنسان، فيسرع أرباب الحكمة: مجنون خائب. يبني سجنا هو فيه سجين، والسجان يحنو كالأم، فلا يقبل منه حنان، ذلك أليق بالزهاد أو الكهان. لا تك قديسا وسط كلاب وذئاب. من لا يأكل يؤكل، والسمك الصالح تبلعه الحيتان. - أف! عدت لنفس الموال، أأنت كتاب مفتوح؟ - عفوا. كم حدثتك عن كتبي، عن أحلام الغد، كم قلت وكررت عليك: هي عندي لقمة عيش أو صنعة، وهي كذلك متعة، أما الحب ... - الحب؟ شبت في الجسد البارد شعلة نار، عض الشفتين سعار، هب الإعصار على النهدين وثار، أصاب العينين دوار. - أجل ... الحب. - لم تعرف أبدا. - تذكرين يوم سألتك عنه؟ - أذكر. ذنبي أني أكتم سري، أسرف في الكتمان. كان الشفق الشاحب يكسو الأشجار، أدركت أنك أسدلت على المأساة ستارا بعد ستار. - حدقت بوجهك، بالشعر الأبيض في الرأس، أطرقت وخاطبت النفس. أنا بنت اليوم وأنت الذاهل وابن الأمس. يطفر من عينيك الحزن، ويكسو وجهك لون اليأس، أي دواء يشفي داء الميت في الرمس؟ - قلت الحق، لكنك ما قلت الصدق. أحببت سواي، وما كذب علي القلب. حدق في عينيك، فشاهد غيري يسخر من بلوري، مرت تلك الأيام، تداعى برج الأحلام. - حقا أحببت سواك. - ولماذا مثلت الدور؟ - كان عنيدا مغرورا، فأخذت بثأري منه. - أغرقتك بحنان الأب؛ فلماذا أنكرت الحب؟ - حقا كنت كأب. هل تذكر ما أفضيت إليك، عند لقائي الأول بك. - أذكر، أذكر. لا أنسى، لكن أغفر. - كنت كأب، وبهذا حدثني القلب، لكني أفتقد بجانبك الحب. أفتقد شباب القلب، حزنك قد سد علي الدرب. - حزني؟! ما أنا حجر أو صخر، حزني قدر العمر، وهو الميراث المر. في بلدي يولد كل الأطفال شيوخا، يقتل حتى الزهر. حزني؟ من مسئول عنه؟ وطني، أرضي، بذرة أبوي وأجدادي، أم هذا العصر؟ سأم الأيام المرة والشرطي الحارس ولي الأمر؟ الشاعر يا ... يحمل ميزان العالم بين يديه، إن ثقلت كفته بالأحزان، فما ذنب الشعر؟ أسرع وأطمئنك فلست بشاعر، لكني أحيا الشعر، أتحسس جرح العالم، وأفتش عن وجه الفجر، وأعود كأني الحصاد العائد بحصاد مر؛ ولهذا أصمت كالقبر، أكتم سري، يوم أموت سيدفن معي السر.
أذكر يوم ذهبنا للبستان، نأكل ونثرثر، نستعرض أشكال الحيوان. كنت سعيدا كالطفل الأرعن، كالفنان. مشينا على الممشى، تفرح عيني بالخضرة، وتمرح في عرس الورد وأفراح الطير. أكلمك عن أمنا الأرض، عن ثوب الطبيعة الحي، عن الأبدي الفعال الذي ينسج النول الأزلي، نحن أيضا طبيعة، نولد ونأكل ونتناسل ونشيخ ونموت كما تموت الأفراد. لكن يبدو أن الفرد يموت ليحيا النوع. ماذا يمنعنا أن نصبح طبيعية خالصة؟ هل فكرت في هذه المسألة؟ إنه العقل، الفكر. نحن حيوانات، ولكنا حيوانات بائسة مفكرة. نصفنا طين ونصفنا سماء، نصنع أنفسنا بإرادتنا، بإرادتنا نبني التاريخ، كل الموجودات بلا تاريخ، إلا الإنسان. لا يذكر أحد أن النملة والقرد أو الخنزير يسجل تاريخ النملة والقرد أو الخنزير. نعبر بالعقل حدود الكون، نحاول أن ننفذ خلف السطح، ونكشف لب الأشياء ، بل نقفز خلف مجرتنا، نكتشف عوالم أخرى. لا تنس اللغة كذلك؛ عند الحيوانات إشارات وعلامات، والبعض تطور بإشاراته، لكن الرمز الحافل بالمعنى لم يعرفه سوى الإنسان، واللغة أيضا. لكن لماذا لا تتكلمين؟ هل أكلم نفسي؟ أمد يدي لأمسك يدك. هل خطر ببالك معنى أن تنزع كف من كف؟ أكتم، أعتذر، وأغفر، وأبرز، وأنبهك لألوان الورد وأشكال الشجر، وصور العرس الرباني. أتكون الجنة أجمل من هذا؟ لم لا ندخلها، نسبح في النهر ونغرق فيه القلب؟ يمكننا أن نفعل هذا، أقسم لك؛ فالخلد قريب منا، والأبدية تدعونا بلسان جميع الأشياء: «ذوقوا طعم الجنة قبل الموت!» كذب القائل إن العالم حلم زائل، أو إن الدنيا جسر عبور. خالدة كل الأشياء تشع خلودا، حتى النبتة في الحقل، حتى الشوكة في الصحراء، حتى النظرة في العين، لكنا ضيعنا الدهشة، وغرقنا في العادات الهشة، تجرفنا فوق بحار العالم كالقشة، وتقاتلنا وتخاصمنا وخلقنا في الأرض جحيما، أتكون جهنم أسوأ من هذا العالم، أتكلم وأثرثر، وجبال الصمت عليك ترين؟ ماذا في صدرك تخفين؟ ندخل مطعم الجزيرة، نأكل ونتطلع للبط الوديع، أعود أحدثك عن سلام الروح، ترمقنا الأعين، وتباركنا عين عجوز طيب، جرب ما جربه حتى تعب القلب. ويشير إلينا طفل يتأملنا عن بعد. هل يرقب منذ اللحظة سر تفتح قلب الورد؟ تسألينني هل أنت متصوف؟ أضحك، وأقول: لم أبلغ هذا الشرف العالي بعد. تنقصني الخبرة والفن. - لكن لا ينقصك الحزن؟ - وجد الصوفية جهد، رؤيا يكسبها الله لقلب العبد، فتطيب النفس، وتسكر من خمر الوعد، ويفيض عليها النور، وتترك سجن الجسد الصلد، هذا شيء لم أعرفه بعد. - ماذا يمنع من بذل الجهد؟ - يمنعني حبي ذلك.
أضحك وأحاول أن ألمس يدك وخديك، فتبتعدين، وتعودين إلى الصمت. أشعر لحظتها أن كيانك يتلفت ناحية أخرى. - تسألين لمجرد السؤال: ومن هو المتصوف؟
أربت ظهرك بيدي وأهتف: أنسيت دروس الأمس؟ وتجيبين بسخط: هل أذكر شيئا دخل الأذن، وما دخل القلب ولا الرأس؟ - معك الحق. من علمك الفلسفة بعيد عنها بعد الأرض عن الشمس. لن يدخل من باب الحكمة من لا يحمل معه الدهشة والشوق.
تغرقين في سكوتك من جديد. أتذكر أنني لم أجب على سؤالك، أغالط إحساسي، أضحك وأقول: المتصوف من لا يملك شيئا، أو بالأحرى من لا يملكه شيء. تهللين كطفل نزق مكار، وتصيحين بملء الصوت: هذا أنت! يغرقني الصمت، يدثر رأسي ليل الحزن. ما أغرب هذا؟ هل يمكن أن ينسدل الليل نهارا في عز الشمس؟ أدرك أنك أبعد مما فكرت. يقطع صمتي رجل عال كالنخلة. فوق الرأس عمامة كبيرة، تعلوها ريشة طاووس أو ديك. أضحك في نفسي: ديك الجن؟ ما أغرب حال العشاق، يكتب بالإبر على الآفاق. أرد عليه سلامه، يجلس دون استئذان. - هل أنت هندي؟ - أكل عيش يا بيه. - أنا لست بيه من فضلك. أنا مثلك آكل عيش. - تحت الأمر، أكشف طالعك وطالع هذا القمر. - أسأل: كم من فضلك؟ - العين بصيرة، واليد قصيرة. ما تدفعه يا بيه. - أصيح بغضب: قلت لك لست بيه ولا باشا. أنا مثلك إنسان وفقير مثلك، والشرط على رأيك نور. - نور والله ونور.
ويمد يديه، فيأخذ كفك. يبتسم ويشرق وجهه. وينظر نحوي يصطنع الخبث. يهتف باستغراب مغشوش: بنتان وولد. أيام هناء والاسم سيبدأ بالهاء. أموال، سفريات أعمال تسند لك؛ فحياتك عمل لا يهدأ. والغد طالعه سعد.
تطرق رأسي تبتل العين، يبتسم الشك على شفتي: والغد رائع. أبحث عن عينيك الخاويتين؛ لأقرأ وجه الأمل الضائع، يمضي الرجل يقول: أسمع عجلات قطار. صوت شهيق وزفير يمتد. يطول، أنظر في عينيك وفي عينيك ذبول، غيم وسحاب وأفول. ينصرف الرجل ونمضي بعد قليل. وأحاول أن ألمس يدك فتفلت مني كالعصفور، قطع الشك يقين. أتساءل: أنا سجان أم مسجون؟ وأحاول أن أضحك. أسكب شلال الكلمات، نعبر بالحيوانات. أضحك وأشير لقرد: لست بخير منك؛ فأنا أحيا في قفص مثلك. وأشير إليك، أقرأ آيات الكره على خدك وجبينك ويديك، أتكلم عن نظرية داروين. هذا القرد الأعلى، أترين؟ انظري لوجهه وعينيه وتشريح جسده. هو أيضا يلعب ويضحك ويبدو أحيانا بذكاء الطفل. انظري إليه وإلي، ثم انظري في مرآتك، الفرق بسيط، بضع ملايين سنين. والمخ صغير الحجم، لكن من يدري؟ قد يرقى هذا القرد، ويصبح إنسانا أعلى. أسمعت عن الإنسان الأعلى؟
نصل إلى محطة السيارات، جسدك بجواري، ويدي يمكن أن تصل يديك، لكن البحور تفصلني عنك. أتأمل وجهك، خدك، عينيك. ما يتمنى الإنسان محال. والقبلة حلم أو قمة جبل عال. يأتي الرقم المطلوب، نتفق على وعد لقاء.
يوم وقفت لأنتظرك في «التحرير»، يمضي الناس حوالي وتفحص وجهي عين غني وفقير، وتمر اللحظات مرور الخيل فتصهل وتثور، لم خنت الوعد وكذبت؟ الحب غريب في بلد يخنقه حراس الموت، سقطت كل الأقنعة، ولم يبق سوى الصمت، الباقي صمت، الباقي صمت. - الباقي صمت، هذا أصدق ما قلت.
يفاجئني الصوت. حلوا رقيقا كالحلم. أهتف كلقيط وجد أباه: هذا أنت؟
يبتسم الصبي، ويرفع نايه السحري إلى فمه. ينفخ صفارة عصفور عاشق، وجد العش الدافئ والماء الرائق، تلمع أزرار السترة كالذهب النادر، يبتسم الوجه الفنان الضامر، ويشير بيده، في كل بنان ناي ساحر: هل تدري من تنتظر هناك؟ - من؟ - انظر خلفك من غير غضب!
الطرق على باب جهنم
يا لك حقا من ساحر. تسحر تذكاراتي كالبوذي الناسك يسحر حياته. ألمح شبحا يتقدم نحونا. قصيرة، رقيقة الوجه، على عينيها نظارة سميكة، تسبقها ابتسامة تبرز أسنان الفك الأعلى الناتئة إلى الأمام، جسمها الضئيل كجسم صبي لم ينم، لا يتميز فيه صدر ولا خصر ولا ردف، والقدمان قصيرتان، أقصر مما يسمح به جسم قصير. في قدميها جورب أبيض كجورب التلاميذ، ويداها الدقيقتان المتدليتان من ذراعين نحيلتين كأيدي عرائس الأطفال، لا تتحركان إلا عندما يصدر لهما الأمر من الدماغ، الدماغ الضخم الذي يكسوه شعر أشقر قصير هو كل شيء في هذا الشبح الأشقر. فيمن تراه مقبلا تحس أنه السيد الوحيد، الفارس الذي يركب مهرا ضئيلا لم يجد سواه. يأمر السيد بحكمه في كل شيء. ما من عضو إلا رهن مشيئته، يتحرك بحساب ، يضحك بحساب، يبكي يصرخ بحساب. سأل بكل الأعضاء، تسلل لخلايا الدم أحال الجسم المحسوس إلى فكر. والطهر يشع عليها منها حول الوجه، كالهالة حول وجوه الشهداء أو القديسين. والطيبة تتجسد فيها، وحنان الأم. لكن هل يسمو الطين العاجز لمقام القديسين؟
أهمس للصبي الساحر: المومياء. انظر وراءك في غضب! - يزيح الناي عن فمه. يتشبث بذراعي كي يخفي دمعة. يفتح فمه فيغلبه الدمع. يوشك أن يهتف: ما أبأس حظ القديسين، أنتم يا أبناء الفانين! تربت كفي خده. أطبع فوق الجبهة قبلة. أهمس: هي أمي الصغرى، يستنكر هذا بتعجب، كأمير هبط من الكوكب: عجبا! هل لك أمان؟ - كم ترعاني وتعوضني عن فقد الأم.
يتوارى الصبي وهو يصفر لحنا لا أعرف معناه. هل يمكن أن يعزف لحن الفرح المحزن، أو لحن الحزن المفرح؟
تتقدم يدها خطوتها المسرع وتطفر كالعصفور. تنطق اسمي محذوفا منه حرف العين. - لم تكن تنتظرني. اعترف! - أعتذر، أتمتم لا أدري كيف أجيب. لو قلت الصدق أجبت بأني لا أنتظرك. وأنا لا أكذب.
تميل علي بعطف لم أعهده ولا أستحقه. تطبع قبلة على خدي: تعلم أني معك وإن غبت. أبدا لا أنساك.
أضحك وأقول: طبعا. أنت الأم الصغرى.
فتجلجل ضحكتها الصافية كما لو كانت تنشج باكية: لكني لم أحبل بك. هذا شيء كنت سأندم طول العمر عليه!
أطرق، أغمض عيني: ذنب لا حيلة لي فيه. لكن ما العمل الآن؟ تمد ذراعيها وتكاد تحضنني. أتحفظ كالعادة، يغمرني إحساس الذنب مع العرفان. تهتف وهي تشد ذراعي: يسأل مثلك من لا عمل لديه. نعمل ما كنا نعمل، حتى تترك حزنك. هل يتركك؟ أليس هناك دواء؟
أسأل نفس سؤالك: لكن ماذا نفعل؟! - نذهب للغابة. للجبل الأخضر. للزحلقة على الثلج الأبيض. نجلس في الكوخ قليلا نحسو القهوة والشاي. تغسل ثوب همومك بالأمطار. تفتح للنور ذراعيك وصدرك على إله النور يضمد جرحك. تقرأ فاوست، أو تسمعني شعرك أو قصصك. لن أفهم شيئا، لكني أتذوق لغتك. تعطيني درسا فيها؟
في ليلة سفري جاءت تزورني. يدها كالعادة محملة بالهدايا. شيء ضخم، بل أشياء. ملفوفة بالورق الملون البهيج والشريط الذهبي. ما أبدع ما تختار! حتى أمي لا تصنع هذا، مختارات من شاعرها الأكبر. موسيقى للمتمرد الأصم الذي تعلم ضعفي نحوه، أغاني الحب الفرنسية التي تؤكد رومانسية لا شفاء منها. مجموعات الحكمة الشرقية والصينية: من طائفة الزن وتشوانج تسو. شطائر محشوة بالجبن الذي أحبه. وفطائر تفاح تعرف حبي له. ربطة عنق وقميص، أزرار للأكمام، دهان لحذاء المهمل، صور محفورة على الخشب للمدن التي زرناها معا، والمدينة التي عشنا فيها، للسوق وبوابة مارتن، للنافورة في الميدان، للجامعة وتمالي هوميروس وأرسطو فوق السلم، للكاتدرائية والبرج العالي والديك الذهبي عليه. - كل ما يبتدئ ينتهي.
أنشغل بحزم الحقائق وترتيب الكتب. الحجرة مهملة على غير العادة. كم رتبتها بنفسها ونظفت الدولاب والمرآة ووضعت الفوطة في مكانها.
لكن لكل نهاية بداية جديدة.
تغضب وتشيح بيدها: بالله سألتك لا تتفلسف.
أصحح خطئي: ولكني لا أتفلسف. على الأقل الآن. أرجو أن نتلاقى.
تضع يدها على خدها. تتفحص عيناها عيني. هل يصدق مرة؟ أؤكد أملي في المستقبل: ستزورينني حتما.
يتهلل وجهها وجبينها الذي بدأت تغزوه التجاعيد: حقا! وأرى الأهرام وأبا الهول؟
أغتصب الضحكة: وأبا الهول الحي!
تعيد يدها إلى خدها. أتحاشى نظرة عينيها. - ليتك تعرف معنى ما قلته.
تسكت. تنفرج شفتاها ثم تنغلقان. أقرأ اليأس على وجهها أحاول أن أفلت من الدائرة. أقدم لها صندوق السجائر فترفض. وصندوق الحلوى فترده شاكرة. ترى ارتباكي فتنهض وتقلب الكتب، تخرج يدها الصغيرة كتابا صغيرا تبحث في صفحاته، ثم تقرأ:
ساكن لا عمق له، واحد لا يتغير، نافذ في كل شيء، وهو لا يتعب أبدا، ربما يوصف «أم الكون» أو جذر الوجود. بيد أني صرت لا أعرف اسمه. خفي، لكن في كل مكان، فعال، لكن لا يعمل شيئا، طيب القلب أنا مع كل طيب، وأنا أيضا مع الأشرار طيب. موجود، لكن لا يعرف في أي مكان. يفعل، لكن لا يعلن عن فعله. ينتصر، ولكن لا يحتفل بنصره. لين، لكنه قوي، ووديع ومسالم. هو كالماء بسيط ونقي. قديس من غير قداسة، وقوس من غير سلاح، يملك لكن لا يتملك، يتمنى ألا يتمنى. ليتني أعرف اسمه.
طوت الكتاب ووضعته على حجرها. راحت تتفرس في وجهي.
قلت: إنه «الطاو».
قالت ضاحكة: ما أغباك! بل هو أنت!
حاولت أن أعتذر: شرف لا أصل إليه. أتمنى لو أعرف نفسي.
قالت مؤكدة: حقا. ليتك تعرف نفسك.
تشاغلت مرة أخرى بترتيب أشيائي وكتبي وأسطواناتي، رحت أردد كلاما لا معنى له وأتمتم بأغنية لا داع لها: هل تسنى لأحد أن يعرف نفسه؟ حتى سقراط يشككنا في هذا. ما أكثر هداياك! إنني لا أجد لها مكانا. لو لم تهدني هذه الكتب والأسطوانات و... و... و... لما وجدت مشكلة في حزم الحقائب. كانت تكفيني حقيبة واحدة. أثرثر وأحاول أن أضحك وأتغابى وأتخبط كطاحونة. كنت قد سرقت نظرة إلى عينيها. غارقة في الدموع. أرجع للثرثرة التي تبحث كل لحظة عن وقود جديد. لكني أتبين عجزي. أكتشف براعتي المفضوحة في الهرب منه. ألمحها تجفف عينيها وتنهض على قدميها وتقول بعدم اكتراث أحمى من السكين: يا ... يا ... هل نتمشى قليلا؟
أجيب كمن خرج من ورطة: نعم. في الحال.
نغادر الحجرة إلى فناء البيت، تتوقف عيناي على كل شيء: المدخل الداكن النظيف، الدرجات اللامعة باستمرار، صندوق البريد الذي جرب لهفة الانتظار لخطاب لا يأتي أبدا. أنظر في الفناء الصغير، شجرة لا أعرف فصيلتها تظلل مرتفعين صغيرين عليها نقش أسود جميل الكتابة المطرزة على نسيج، تحته يرقد «تاسو» كلب العجوز التي أسكن عندها، لم سمته باسم الشاعر الإيطالي البائس؟ أنظر لواجهة البيت، نعبر الممشى الظليل إلى باب السور المنخفض الذي يؤدي للشارع. أتوقف أمام نافذة حجرتي. هل يمكن أن أرجع مرة أخرى؟ الأيام التي عشتها، والليالي التي سهرتها، والكلمات والضحكات والأحلام والهموم ولحظات اللقاء المختلس واللذات البائسة والقراءات والأفكار. لماذا يموت شيء فينا كل لحظة؟
لم يفتح الماضي فمه العجوز ويبتلع كل شيء؟ كيف نوقف نهر الموت البطيء لحظة واحدة؟ النهر يجرفنا، قاربنا ينحرف معه، والهاوية مستعدة على الدوام. كم مرة عبرت هذا الشارع الصغير، كم مرة فوجئت بالقمر يطالعني خلف الأشجار والبيوت المنحدرة السقوف وأبراج الكنائس كأنه وجه طفل كبير يغرق في بحيرة ذهبية! كم أيقظني من أحلامي وأنا متأبط حقيبة كتبي مهموم بالأفكار التي أصارعها وتصارعني، ذاهل عن نفسي والأرض التي أسير عليها، كأن الطفل السماوي يتربص في كل مرة، وعينه الواسعة الملتهبة، تنسل إلى قلبي فجأة لتسألني: من أنت؟ وكم هربت من السؤال، كومت الكتب والأفكار على رأسي، استندت لعكازة أمل واه، خلقت المبررات والمبررات.
أيقظني صوتها: لحظات الوداع كالثمار الناضجة المتساقطة من الشجر. من يدري متى ترجع لهذه المدينة، لهذا الشارع، للقنوات الرقيقة الجارية على جانبيه، أشجار السيدر والزيزفون التي عبرت بها كثيرا. - عبرت بها وبكل شيء. أليس الإنسان عابرا على الدوام؟
وضعت يدها في يدي، وقالت: هذا ما تقوله. ولكني أشك فيه.
سألت: كيف؟ ألا ترين كل شيء يصبح ماضيا؟
ضحكت وصنعت بيدها قوسا دار حول الأفق والبيوت والأشجار: المهم أن يحيي الإنسان كل ما حوله، عندئذ يحضر في كل خلاياه ويملكه للأبد. - الأبد؟ أليست كلمة طويلة جدا؟! - أنت؟ ماذا تقصدين؟ - هل أصبح تاريخا عندك؟ - تاريخا لا ينسى أبدا. - أبدا؟ أرأيت؟ كلامه في كلام في كلام. - إنني أعني ما أقوله. لا يمكن أن أنسى وجودك بجانبي، هداياك قراءاتي معك، عذابك في إصلاح كتاباتي، رحلاتنا مع الأصدقاء في الجبل والغابة، دعوات الشاي مع الأغراب في حجرتك، ألم أقل لك؟! - ماذا؟ - إنك أمي الصغرى.
سكتت. قلبت طرفها في السماء المكفهرة بالسحب الثقيلة. مدت يدها إلى شعرها وشدته. تحسست صدرها الضيق ورقبتها النحيلة: ألا تكف عن كلماتك الغبية؟
ربت على ظهرها. أحسست بعظامه الصلبة الناتئة. - معذرة. كنت أعني ما أقول. لم يحبني أحد مثلك. - وتقولها الآن، في ليلة سفرك؟ يا صاحبي، نحن نأتي دائما متأخرين. هل تذكر قائل هذا؟ - ولكنني أحببتك حقا، كنت الأم والأخت والممرضة والقديسة.
قالت في سخرية أهون منها اليأس: قديسة؟
قلت بحماس: هذا ما أومن به. لست من هذا العالم. أتعرفين ماذا يخطر لي كلما رأيتك؟ ماذا أتمناه!
قالت: ماذا؟
قلت: أقبل طرف ردائك كالمؤمن يلثم طرف رداء ولي أو قديس.
صاحت في غضب: قديس! قديسة! متى تفتح عينيك؟ ليس بأوروبا قديسات - إلا في الصوامع أو الأديرة. العذرية التي تهتمون بها تلاشت من الوجود. أنا أيضا لي أخطائي وخطاياي.
قلت في هدوء كأنني أعتذر: لا أصدق. ولو رأيتك مع عشرين رجلا.
ردت في تسامح: الخطأ بشري. أليس كذلك؟ كل هذا من فكرتكم عن المرأة. ألم تقل لي هذا من قبل؟ - معك الحق؛ فكرتنا الموروثة من روح البدو تحلم دائما بالمرأة، لا بإنسانة واحدة محددة، شخصية لا تتكرر في عمر البشرية.
ضحكت وقالت: ويستحسن أن ينقلها البدو الملثم الراقد فينا، ويضعها في الحريم. خصلات شعرها الأسود منسدلة على كتفيها. لحمها أبيض كالعاج. أردافها ضخمة كالناقة. ضعيفة وشاحبة ومستسلمة. وحين ينام معها يحقق نصره المفقود مع العدو. فالعدو يرقد أمامه في خضوع وذل، مهزوما حتى كل خلية فيه. التفتت بحب استطلاع حاولت أن تخفيه: ولهذا تركتها؟ - تقصدين ...؟
قالت بأسى: عندما عرفتك بها تمنيت أن تجد فيها ما تبحث عنه؛ شعرها الطويل، عينيها الخضراوين، حيويتها ونضارتها ويتمها أيضا، ألم تكن مجنونا بها؟
قلت وأنا أشيح بيدي: وإهانتها لي؟!
استنكرت: لا يمكن أن تتفعل هذا. ... طيبة وتحبك.
أردت أن أغلق بابا تأتي منه الريح: لا داعي. انتهى كل شيء لقد أهانت بلدي.
حاولت أن تعتذر عنها: ربما كانت فلتة لسان. لا يمكن أن تقصد هذا. أنت دائما حساس أكثر مما يجب. تخلق أوهاما وتصدقها.
أشرت بيدي لأسدل ستار الختام: لم تكن تكف عن الاتهام: أنتم ... أنتم ... أنتم ... كأننا من طينة الأقزام وهي من طينة العمالقة. إني أشكو بلدي حقا. أحزن لتخلفه البشع، أحاول أن أقرع أجراس الخطر ليصحو، أجلده بسياط النقد، لكني أعبده، أدفع عنه الحقد. إنها لم تحبني أبدا. - كنت أشعر أنها سعيدة بجوارك. - سعادة السيد الذي يسحب كلبا من نوع نادر. - أف من لسانك القاسي! أتظل مازوخيا للأبد؟ طالما أكدت لي أنها تحبك. - لنترك هذا. قلت لك: «إيروس» يكرهني. استخسر سهامه في. هل نجلس في مكان قريب؟ - أتحب أن نتعشى ؟ مطعمك المفضل قريب. - لا، لا. لقد تأخرت. لا نفس لي.
هتفت كأنها رأت معجزة: أتعرف إلى أين؟ إلى حبيبتك القديمة.
صحت ضاحكا: لا مخلص إلا الموت! فلنذهب إليها.
عروس ماتت في حضن كتاب
لم تكن أول مرة نزورها. إنها ترقد هناك، آمنة وادعة في سلام المقبرة القديمة. أعرف الطريق إليها. أوشك أن أعرف عدد الخطوات إلى قبرها، على اليمين بعد البوابة العتيقة المجللة بالورود والتيجان، في الممشى الضيق المخضل بالعشب، خامس شاهد على اليمين. كم صحبوني إليها، كم حدثوني عنها. أستاذ اللغات السامية الطيب، ذو الحاجبين المرتفعين كمنقار النسر، صاحبتي الأولى التي جرتني إليها، وصممت أن تكون أول قبلة تسمح بها إلى جوارها، وبالقرب منها، الدليل السياحي الذي أرشدنا لآثار المدينة وأنهال من فمه شلال الذكريات والمعلومات الموثقة عنها. وهي دائما هناك. ممددة على القبر بردائها الشفاف الذي لبسته لآخر مرة. وثنيات الرداء منسكبة في منحنيات رقيقة مع جسدها النحيل كجسد ملاك. ذراعاها متدليتان على صدرها في استسلام القديسات، ويداها تمسكان بكتاب مفتوح سألت عنه، فقالوا هو الكتاب المقدس، تشع من وجهها وعينيها الطيبتين الحالمتين هالة الورع والجمال والرضا، كأنها «أوفيليا» الطافية على صفحة غدير صاف. يخيل للعين في كل لحظة أنها تخلص نفسها من الرخام الرمادي الداكن، وتطير فوقه. كيف استطاع الفنان الذي نحت تمثالها أن يقهر الحجر، أن يحوله إلى نهر حزين شفاف. أن يثبت الحلم في طينته ويطلقها في نفس الوقت من قبضته؟
كنت أستعيد الذكريات، ونحن في الطريق إليها. ظلت عيني ترصد كل ما تراه الشجرة التي رأيت السنجاب يتسلقها في خفة وجنون، ويتلفت نحوي مذعورا، البيت الملون الواجهة بالأخضر والأبيض الذي دخلته مرة بدعوة من فلكي ومنجم أراد أن أترجم له لوحة كبيرة بأبراج السعد التي تنتظر الملك السنوسي، وينوي إهداءها إليه في عيد ميلاده، مكتب الصحة الصاعد نحو الغابة الذي سرت فيه لأول مرة مع زميلة ذاهلة العينين طيبة الوجه ، ظلت طول الوقت تبدي إعجابها بلوكريثيوس وطبيعة الأشياء.
يقطع ذكرياتي صوت ينبهني إلى بداية المقبرة: هاه! هل امتلأت الكأس؟
أقول ضاحكا وأنا أنفض رأسي: ودائما تفرغ!
تسبقني للدخول وتقول وهي تضحك: غدا تمتلئ بخمر جديدة. من يدري ماذا ينتظرك هناك؟
نمشي على الدرب المؤدي إلى الكنيسة الأثرية الصغيرة. تبين لي أسماء الأشجار التي نمر عليها كأنها زرعتها بنفسها. باقات الورد على القبور ندية لا تزال. تحس دهشتي وتقول: كان أمس هو الأحد.
أسألها: هل هناك من لا يزال يذكرهم؟ ألهم أبناء هنا في المدينة؟ تقول: إنها مغلقة منذ ثمانين سنة. ولكنها أصبحت متحفا. هذا هو طبع الناس هنا. شيء مهين ومزعج كما ترى. معظم الأسر انقرضت، بعضها ما يزال له أحفاد. ولكن أهل المدينة يعتبرونهم كأهلهم، يزورونهم كل أحد ويضعون هذه الزهور. - والعشاق أيضا.
ضحكت في خجل: ولا يطيب لهم العناق إلا هنا. خصوصا قرب حبيبتك!
أضحك أنا أيضا: إذا تعالي نجرب حظنا!
نحن يا صاحبي أتينا متأخرين. دائما متأخرين.
نزور الكنيسة التي زرتها أكثر من مرة نقف عند رسوم الحائط وتشرح ما سبق أن شرحته بالتفصيل. تحيط عيناها بالنقوش وشموع المذبح والجدران النشعة بالرطوبة والسقف المزين بصور الملائكة والقديسين كأنها تعانق أشياء في مسكنها الخاص. تتمتم شفتاها بالأدعية وتصنع علامة الصليب ونخرج. نمضي إلى العذراء صاحبة الكتاب. تقف أمامها خاشعة كأنها تراها لأول مرة. أتلمس معها الشاهد والنقش وأمر بأصابعي على حنيات الرداء والوجه المستطيل الحزين والعينين المغمضتين في الحلم الطويل. تتراجع للوراء، وتجلس على مقعد تمسح التراب بمنديلها عنه. تتأمل وجهي وأنا أتجه نحوها وأجلس بجانبها. تعرف أنني سأغرق في السؤال عن حقائق التاريخ أو سأتمادى في التفلسف عن الحياة والموت والاستشهاد بالعبارات المحفوظة. تتأمل النائمة قليلا، ثم تقول: ما رأيك أن تتزوجها؟
أضحك وأقول: هو الحل الوحيد!
تستطرد: لا تسخر. إني جادة.
أهتف: والقرن الذي بيني وبينها؟ - لا يهم. مثلك لا تصلح له غيرها، ألا تبحث دائما عن المحال؟ - وأعيش فيه أيضا. ولكن ماذا يقول أهلها؟ - اطمئن . كلهم ماتوا. نعقد الزواج الآن؟ - والشهود؟ ملائكة وشهداء وقديسون ويسوع نفسه؟! - لا تكن سخيفا يكفيك شاهد واحد. - تقصدين شاهدة؟! - نعم نعم. وسأتكفل بمصاريف العرس. - المهم أن ترضى الجميلة. ألا ترفضني هي أيضا؟ - لا تهرب. دائما تنهزم قبل بداية المعركة. سترضى حتما. - ثقتك في محلها، ما دامت لا تسمع ولا تنطق! هيا نسألها. - لن نسألها. سنعقد فورا.
أقف وأشدها من يدها. نلقي النظرات الأخيرة على العروس الصامتة. تتطفل يدي على وجهها الحالم الحزين وذقنها المدببة الحادة، وكتابها المفتوح على صدرها، وقاعدة الشاهد الجرانيتي. تأتي وتمسك يدي. تمد إحداهما إلى اليد التي تلمس الكتاب. تتمتم شفتاها وتخرج منها مقاطع لاتينية أحاول أن أتابع معناها وتغمض عينيها وتستغرق في الصلاة. أتعجلها بعد أن لاحظت الشمس قد غربت منذ وقت طويل. - أخشى أن يقفلوا البوابة! - في ليلة عرسك وتخاف؟ يا للغباء الأزلي!
أضحك. يمنعها الخشوع من الضحك. بعد قليل تسير بجانبي صامتة. نخرج من البوابة، ونسير في الطريق إلى مسكني. القمر هلال متعب نحيل يطلع على استحياء. السكون يغمر المدينة، وأوراق الشجر الصفراء تخشخش تحت أقدامنا. نفترش الظلال الشاحبة. جدران البيوت وأعمدة المصابيح وقوائم الإعلانات. أفكر في بلدي، في بلدي، في مدينة الضوضاء التي سأعيش فيها، في القرية البائسة التي تنتظرني، في الهاوية التي تفتح فمها وتهدد بابتلاعي، في دوامة التخلف التي ستجرفني كحبة الرمل إلى هاوية الانقراض المحتوم. وتغرق في الصمت. فيم تفكر هي أيضا؟ أسترجع الذكريات، كلها أصبحت ذكريات، تتدخل الأماكن والأزمنة والأحداث والأشخاص، وتتصادم كقطيع هارب أمام العاصفة، نصل إلى مدخل البيت الذي أسكنه. تقف وتمسك بيدي: تأخرت. لا بد أن أعود. - لا أدري كيف أشكرك. السكون يغطي كل ما حولنا. عيون المصابيح تسدل علينا رموشها الفضية. لا نأمة ولا حركة في الشارع الهادئ. أفاجأ بصدرها على صدري. تضم ذراعيها حولي، وتشدني إلى وجهها. فمها على فمي. لأول مرة يتدفق الدفء وحرارة اللحم في دمي. ترتجف شفتاها المبللتان بالدموع. يرتجف الصدر والظهر. أتحصن في قوقعتي الحجرية. - آه يا ... لو تدري كم أحبك.
في المدينة الكبيرة كنت أمر عليهم كل يوم. أخرج من محطة القطار الأرضي (المترو)، وأطلق عليهن من برج عيني حمامات التعجب والرغبة والشهوة. كن يقفن دائما هناك، يسندن ظهورهن إلى بيت عادي لا يلفت النظر، على الرصيف المواجه لبستان عادي أيضا، في الناحية الأخرى من الميدان مقهى صغير يجلس الناس على طواره في الصيف، حسبتهن في البداية لاعبات سيرك، فسراويلهن قصيرة تكشف عن معظم الساق، في أقدامهن أحذية عالية الكعب، على وجوههن أحدث ما ابتدع. صناع أقنعة الإغراء. لكني لم أكن أرى خيمة، ولا أسمع طبلا، ولا بوقا، لا صيحة قرد، ولا زئير أسد، ولا صراخ سباع البحر. وأعبر الميدان إلى اليمين لأمشي على الطوار (المؤدي إلى مكتبة كنت أتزود منها بزاد العين والقلب، بالكتب الجديدة والوجه الحي الباسم أبدا فيها)، وكنت أخطف البصر إليهن لأسرع بالوقوع في شبكة خجلي وارتباكي ودقات صدري المتلاحقة. ذات مساء أمر بالميدان في طريقي إلى مسكني البعيد، ويفاجئني الصوت الناعم كسطح الوردة والوجه الأبيض كوجه طفلة صبغوا شفتيها وخديها بالأحمر: ألا تحب أن نبقى معا بعض الوقت؟ (أتطلع في وجهها، أتخيل وجهي يصفر، ويعكس ألوان الطيف) لندع أجسادنا تتحدث لبعضها. هذه هي اللغة الوحيدة الصادقة. - نعم. ولكني ... والوقت متأخر. - يبدو أنك مثقف، عيبكم أنكم تقرءون كثيرا. تعال لنقرأ أسرار الجسد. أنا لا أحسن الكلام. أنت غريب فيما يظهر. - نعم. أخشى. - إلى متى تخشى؟ شعرك أبيض. الحب دواء الخوف، هيا بضع سلالم. - لكن ... لكن ... لكن ... لكن ... أعني الشرطة، والجيران، و... كم ... - لا تحمل هما. شرقي أنت؟ لن نمكث طول الليل. لن نخطفك لدينا. الشرطة تحرسنا وتؤمننا.
مشيت بجانبها صامتا. عند المدخل رمقتني حبشية فارعة القامة منقوشة الشعر كالمروحة المجدولة من حبات سوداء، ضحكت أخرى بيضاء سمينة، فخذاها المتورمتان يثوران على السروال الضيق المخطط. تفتح لنا امرأة لطيفة الوجه مدورة العينين السوداوين، قصيرة الشعر، في أدب مسرف تدعونا للدخول. أنظر في الردهة اللامعة والأبواب المغلقة. وأتشمم روح السكون والترف في هذا الشرك المهلك! تمد الفتاة يدها فتمسك يدي. هيا! هل تستكثر لحظة حب؟ تبتسم السيدة التي فتحت لنا الباب ، وتودعنا في صمت، أحس يدها الناعمة، أخجل من نفسي. جف عصير الشجرة، لم تبق سوى الأوراق الصفراء. يا زهر ربيع العمر ألا يصدمك شتائي؟ ندخل حجرة ساطعة الضوء، جدرانها الخضراء تورق في النفس الراحة والأمن. الفراش مرتب، والسرير عريض، وإلى اليسار دولاب بمرآة. تسبقني إلى الفراش، وتسحب على نفسها الغطاء، لحيرتي وخوفي من النظر في المرآة لم ألحظ أنها كانت قد تعرت تماما. «تخجل مني؟ الحمام أمام الباب. هيا فاتت خمس دقائق. والباقي عشرون.» أذهب للحمام وأخلع ملابسي. هناك أيضا مرآة. لو تكسر كل مرايا العالم! أرجع في «روب» فضفاض. أغلق خلفي الباب. «منظرك بديع.» «أأثير الضحك إلى هذا الحد؟ معذرة، هذا البطن آثار السن.» «بل أنت عجوز طفل. أول مرة؟» أدخل تحت الغطاء. أضع الرأس على الكف. «ما لك؟ تتفكر في مشكلة الكون؟» «أتأمل وجهك. أقرأ قصتك وطبعك.» «ليس لدينا وقت. ليس لدينا وقت.» «أدفع ما يرضيك، عندي وقت، فلنتكلم.» تغضب وتضرب الفراش. «عندي عمل آخر. أي زبون أنت؟ انهض.» أخرج من محفظتي أوراقا أعطيها إياها، أهمس: «فليعرف كل منا الآخر.» «لكن عندي موعد.» تنظر في ساعتها. «فاتت عشر دقائق. عندي موعد.» أنسل إلى جانبها، أتحسس كفيها. وأميل على الصدر. أمسح خديها. «هيا، هيا.» تتفتح كالوردة للشمس، أتملى في عينيها وأمد الشفتين. تضحك ساخرة: «يا لك من رومانسي! أعرف هذا النوع. لكن ليس لدي الوقت، عندي موعد.» تنظر في ساعتها.«أغبي أنت؟ احترق الوعد!» أتحسس يدها، خديها، ألثم جبهتها والشعر. «هيا هيا.» «لا أبدأ حتى تعطيني قبلة.» تدير خدها ناحيتي: «خذ! لا لا.» وأمد الفم. يتأهب صدري للقاء الصدر، ويداي لتطويق الجبهة والشعر. تقترب الشفتان من الشفتين، تصرخ كالمجنونة: «لا، لا. ما هذا؟!» «هل أخطأت؟» «حتى لو تدفع لي مليون.» «هل يصلح هذا من غير القبلة؟» تتنمر تتفرسني عين التاجر يطرد شحاذا من بابه: «القبلة لحبيبي وحده، لا يأخذها مخلوق غيره، حتى لو كنت أمير الهند وملك الصين!» «افترضي أني محبوبك؟» «يكفي ثرثرة، ضيعت الوقت.» تنظر في ساعتها، تنفخ تتأفف تلوي شفتيها باشمئزاز. انطفأ الجمر. العطر تبخر. سكن القارب والمجداف انكسر على الصخر. «معذرة، لكني لا أستغني عن قبلة، في بلدي.» «في بلدك!» قامت غاضبة، بدأت تلبس سترتها والسراويل. وأنا أرمقها بعيون الطفل المذنب. «عد لبلادك إن شئت.» ألقت في وجهي الأوراق. «هذا عمل لا عش للعشاق.» «أرجوك احتفظي بهدوئك، وكذلك بالماركات، يمكنني أن أعطيك سواها.» تطوي ذراعيها على صدرها، تطيل النظر إلي: «هذا كرم منك. لم تبق سوى خمس دقائق. ذنبك أنت.» أدخل في سراويلي وقميصي. «أعرف يا سيدة البيت طريقي. عندك موعد. تفضلي أنت.» يا رب السهم النافذ والقوس، هبني أن أجد القبلة: كأسا تفرغ في كأس، عين تغرق في عين، قلب يدق في قلب. نهر يجري مع نهر ليصبا في البحر. ابن تاب عن الذنب، وعاد إلى الأب، وشعاع بعد الغربة يرجع للشمس.
البحر البحر البحر - من؟ أنت؟ - أنسيت؟ - حسبتك خنت، وظننت بأنك مثل الناس تخليت. - أنا مسئول عنك؟ تركتك للأحلام. - اسكت. أسمعني عزفك فوق الناي؛ فلعل اللحن يريح البال. هذا أفضل، ليست كل الأشياء تباع وتشرى بالمال. أو إن شئت فلذ بالصمت. - معك الحق، لكن ليس لدينا وقت، حتى للصمت. - وقت للغد والأمس ولا وقت لدينا لليوم. هيا، هيا. - أمروني أن أصحبك. - ولماذا الأمر؟ تسعدني الصحبة. - هيا، هيا؛ أزف الوقت. - الوقت، الوقت! والأبدية ضيعناها خوف ضياع الوقت، وإلى أين؟ - البحر! البحر! البحر!
هتفت كما هتف جنود الإغريق القدماء: البحر! البحر! بعد الظمأ القاتل في الصحراء، يتعرى الظامئ ويذوق الماء. - ليس الأمر كما نتصور، أخشى الندم عليك وخيبة أملك. - تخيب أملي، تخرجني من هذا الكهف المظلم، من ليل أتخبط فيه إلى ليل معتم، وتقول بأنك ستخيب أملي؟ هيا للبحر.
يطرق رأسه، يغمض عينيه، يتدلى الناي على صدره، كيتيم حاروا في أمره، نترك ممشى، ندخل ردهة، وتمر علينا الخدم، الزوار، يا صاحب هذا الفندق، أين النادل وحمايته الموعودة؟ أيجوع الضيف لديكم ومآدبكم ممدودة ؟ تلفح وجهي الريح، وملح البحر يرطب جلدي.
بعد قليل يبدو الشاطئ، تسطع حبات الزبد على البعد، والموج الهادر يصخب في أذني ويحتد، لا تبخل يا موج البحر، ولا تنس الوعد، أحرقني الظمأ الكافر في صحراء المجد، فاغسل بالدمع الصافي من عينيك ذنوب الأمس وهم الغد، وأعد اللحد أو المهند. تلمس قدماي الشاطئ. أنظر فوقي: قمر هادئ، بدر كالزورق تلمع فيه لآلئ. - لم لا تتكلم؟ نايك لا يترنم! - إني مرغم. أمروا بالصمت، وكتمان السر المبهم. - البحر أمامك والجنة بين يديك. ماذا تكتم؟ - انظر حولك، لن أتكلم.
أتلفت حولي، أنشق أنفاس البحر كسمكة يعيدها الصيادون للماء، بعد أن جفت على اليابسة. إلى اليمين صخرة سوداء، داكنة الحجر، ناتئة التجاعيد. أمعن النظر فأرى نسرا يعلوها، كتلة عابسة لا تتميز عنها. بين الحين والحين يرف جناحاه ويهبطان. عيناه جمرتان، أيسلطهما علي؟ إلى اليسار، بعيدا عنا بقليل، أراها ترقد ساكنة، آمنة في ضوء القمر، تحرك شدقيها وتمضغ بسلام. أشد رفيقي من كمه. أهمس له: بقرة؟ ماذا جاء بها؟ لا عشب على الشط ولا مرعى. ماذا تجتر؟ يغرق الصبي في صمته، تخرج الضحكة كالغصة: تجتر الذكرى! - هيا نتجه إليها. هذا ما قالوه. أعطوني أيضا مرآة. - مرآة؟ لا تنس الباروكة أيضا. - لا تهزل. لسنا في عرس. - هل نحن بمأتم؟
يعود لصمته، يتقدم نحو البقرة بهدوء، ما زالت تحرك فكيها وتجتر في سلام. لا يبدو عليها أنها تنتبه لوجودها أو للبحر الممتد وراء ظهورها. لن يخطر ببالها أن ترفع رأسها لترى القمر الحالم فوقها. غارقة في نفسها، غائبة عن العالم كله. عن الأرض التي ترقد عليها، عن الواقفين أمامها. ربما كانت غائبة، حتى عن لذة العشب الذي تجتره. في عينيها السوداوين الواسعتين بحيرة رضا واستسلام. أهتف في غضب: هل جئنا البحر لنشهد بقرة! البحر يحب العري، ألا نتعرى؟ - اسكت. حذرتك ألا تهزل، ها هم يأتون. - لا أدري أين أطلوا، كيف تلاقوا، هل ينشق البحر أم الأرض، ويخرج منها المردة، عملاق أسود، ثلاثة، خمسة، غربان سود في هيئة بشر يتقدمون نحونا. كلما ظهرت ملامح وجوههم ذعر القلب كفأر يرتجف أمام القط. نسخ واحدة من صنم واحد، يتحرك في بطء، شعر أسود، جلد أسود، سترة صدر سوداء، وسروال أسود، ربطة عنق سوداء ثبت فيها تكشيرة وجه قاس أسود. أرتعد وأبحث فيهم عن أجنحة سوداء، ذيول سود، قرون أو منقار أسود. يتحرك جبل الليل الأسود، يفتح فمه، يخرج منه الرعد الأسود. - المرآة.
ترتعش يد الصبي، وهو يمدها إليهم بالمرآة. مرآة صغيرة، منقوشة الأطراف بزخارف خشبية عليها ورد وأوراق شجرة مذهبة، تنطلق الغضبة منهم كزئير الأسد الجائع. - أحمق، وحرام فيك المأكل والمشرب.
يتلوى الصبي، ويحني رأسه: مولاي، سادة قدري، أخطأت، فماذا أفعل؟
يتلفتون لبعضهم ويضحكون. رعد وصواعق وممنون: ماذا يفعل؟ ماذا يفعل؟
ويصرخون بفم واحدة: يا حشرة. اسحبه من أذنيه وقرب وجهه من وجه البقرة.
يتقدم مني، ينظر في عيني، لم يجبره شيء أن يسحبني من أذني؛ فأنا أخطو نحو البقرة، وأقرب منها عيني ووجهي. يضع المرآة أمام البقرة، لا يطرف في عينيها رمش. تمضغ بسلام. - انظر وجهك!
لا أتكلم. أردت أن أقول الأمر مطاع يا سادة، أرتجع ولا أعرف ذنبي. - منذ سنين ولم تر وجهك، تنظر في المرآة، وتحلق ذقنك، وتسوي شعرك، لكن لا تبصر وجهك. حان الوقت فهيا، ثبت قلبك.
أغمض عيني وأفتحهما. الصبي بجانبي يسلط المرآة على وجه البقرة، ثم يسلطها على وجهي، أتطلع فيها، كيف أصدق؟ هل هذا وجهي؟ أتلفت نحو البقرة، نفس السحنة، نفس الجبهة والشفتين، نفس العينين الصافيتين. أتحسس فكي. يتحرك، يمضغ يرتفع ويهبط، تتأملني عينا البقرة، أتأمل عيني في المرآة، نفس النظرة، نفس الحسرة، نفس الحيرة في قاع بحيرة. أفيق على صوت الرعد: أعرفت الآن؟
يشيرون للصبي فيميل جانبا، يمدون إليه يدا واحدة، فيستجيب بحركة سريعة. يخرج من صدره سكينا لامعة. يحس وحشتي والكلمات التي لم أقلها: الناي مع السكين؟ يأخذونها ويختلس نظرة إلي ويهمس: إني معك فلا تحزن. هي للبقرة.
تميل أجسامهم الضخمة كجذوع الأشجار العتيقة، وينحون سدا واحدا، أما البقرة؛ بضربة واحدة تفتح البطن. عجبا لم لم تنزل قطرة دم؟! والبقرة تجتر وتحلم. وكأن السود صغار منها ترضع، أو راعية تحلب لبن الضرع. يرفعون رءوسهم، وكأنهم رأس واحدة مخيفة تتفرس في. ماذا أبصر؟ أوراق تخرج من بطن البقرة، أقلام أقلام أقلام، كتب كتب كتب، لا يظهر فيها رسم غلاف أو عنوان. - أرأيت؟ - أنحني وأفحص بعضها، إنها كتبي، هي نفسها التي فرحت بها ذات يوم. ألمح فيها أوجه ثوار، زهاد، حكماء ومجانين، شاعرة تبكي ابنتها، أبطال مآس مهزومين وشهداء مكسورين. والبقرة تجتر وتجتر، من عينيها يسقط دمع مر. ينهضون على أقدامهم، يردون السكين للصبي يزأر صوت واحد: بطن الشاعر، أو بطن البقرة.
أرفع وجهي للقمر الساكن في وهج بحيرة، أنظر للموج الهادر يبدأ ويعيد الكرة. تلمس كف كتفي بحنان. تسحبني في رفق. يبرز منديل أبيض. آخذه وأجفف دمعي. أسمع صوتا يأمر: هيا للصخرة والنسر.
جروني إلى الصخرة. النسر هناك، يشتعل الجمر بعينيه، يرفرف بجناحيه، أتردد، تدفعني الأيدي، هيا، لا تتلكأ. أنظر للعازف فوق الناي، يشد القدمين حزينا مثلي، أبدا لا يرفع عينا عن ظلي: أنقذني. أنشد لحنك غني، كن في المحنة عوني. يضحك العمالقة الخمسة، ينشدون في صوت واحد: لن ينقذك اليوم سواك. والمنقذ من ينقذ نفسه. أهتف: كيف وأنتم تجتمعون علي؟ كيف سأفلت من قبضتكم؟ ويغنون غناء الجوقة: نحن نعرفك بنفسك، نحن نعرفك بنفسك!
نقترب من الصخرة، يتهلل وجه النسر، تسري الرعدة في أعضائي وأناديه: يا سيد هذا الصخر. إن كنت ملاكا أو شيطانا خلص روحي من هذا القهر. يتبادلون النظرات، يرفعون رءوسهم للنسر، ثم يحنونها خشوعا، يزداد خفق الجناحين وتوقد العينين. أوشك أن أهتف به: جوعان في مأدبة النسر الجائع، ظمآن يقيد بالحجر الظامئ. أين الخير وأين الشر؟ ينادي أحدهم: الصبر! الصبر! وسيأتي دورك قبل الفجر.
في لحظة يلتفون حولي. يصرخ أحدهم في الصبي، فيفيق ويمد إليهم يده بالحبال. ينهمكون في ربط يدي وساقي على الصخرة، أنظر وجه القمر وأضرع للبحر.
ها أنا مربوط للصخرة. أنتظر عذابي من أيدي السحرة. أتوقع أن أجلد أو تبقر بطني كالبقرة. الشر الكامن في أعينهم يطلق شرره، بعد قليل سيغادر وكره.
لكنهم لا يتحركون، جلسوا أمامي في صف واحد، كأنهم يتفرجون على قرد مغلول. يتغامزون أحيانا، يخرج أحدهم من جيبه جريدة مصورة ويتسلى بقراءتها، يستغرق الثاني في تأمل القمر والبحر والشاطئ، يخرج ورقة من جيبه يسندها على حقيبته، كأنه يتأهب لكتابة قصيدة، يدفن الثالث رأسه بين يديه، ويستسلم للنوم وأسمع شخيره، يتطلع الرابع إلى ساعته وينظر للنسر. أما الخامس فيراقبني ويرصد حركاتي، وكأنه سيقدم تقريرا علميا عني. بعد قليل ينهشني النسر. أعرف ألا أمل ولا فائدة من الصبر. أصرخ فيهم: سفاحون وجلادون، أسنان جراد معلون، هل غفلت عنكم عين القانون؟ أظننتم أن الأرض خراب والناس نيام لا يصحون؟ من أين خرجتم! من علمكم حمل السوط مع السكين؟ مرغتم وطني في الطين، يا أكلة لحم البشر النهمين، صرتم أمراء وسلاطين، وبنيتم عرشا فوق قبور المهزومين، إنكم الجلادون المجلودون. إن الواحد منكم تدرون، أم أنتم لا تدرون؟ إنكم الجلادون المجلودون. إن الواحد منكم سجان وسجين، جزار مطعون من نفس السكين؟ قارئ الجريدة تائه في صفحاتها. والمتململ لا يكف عن النظر لساعته. والنائم لا يصحو، بل يرتفع شخيره. أما الجالس فليكن جاره، ويقول بصوت عال: النغمة القديمة، مسكين لا يعرف شيئا. يزداد يأسي، فأعاود صراخي: أنا من جيل مهزوم، حاولنا نصلح وضع الكون المشئوم، خرج العالم من محوره، زاد الظلم على المظلوم. يا كم قلنا وكتبنا والجرح قديم، حتى صرنا كالبوم. الحرية تذبح والعدل يتيم.
ضحك كأني ألقيت دعابة. أغرق في الضحك، وقال: قلنا وكتبنا! جبل الأقوال وثرثرة الكاذب والدجال. أين الأفعال؟ أين الأفعال؟
ينتبه النائم، يلقي القارئ جريدته من يده، ينظر بقلق إلى ساعته ويعتدل، يشير المترقب للنسر فيتحفز ويرتفع جناحاه، ويندفع كالسهم نحوي. في لحظة يصل إلى هدفه، تؤلمني الطعنة، ينفتح الجرح، يرجع إلى الصخرة، يتحفز، ويرفرف بجناحيه، ينطلق الظل الأسود، تزداد الطعنة ألما، يتدفق دم، تسقط قطرات من منقاره، تنفذ عيناه بلحمي كوميض البرق، أصرخ من ألمي: النسر يفتت كبدي. ينهش لحمي، ويمزق جلدي.
يردون بصوت واحد: ذنبك أنت. - لا المعجزة صنعت، ولا الكون المقلوب عدلت. - لكنك قد فكرت، والنار سرقت. - والسارق أصبح مسروقا، والفكر تدلى مشنوقا، ما عدت جديرا باللعنة. - فلماذا تخنق مخنوقا؟ - اسأل نفسك، اسأل هذا النسر!
لم يحتج إلى سؤال، فسرعان ما انقض كالصاعقة الكاسرة على كبدي. لم أستطع أن أتحسس الجرح، إذ كانت يداي مربوطتين إلى ظهري. لكنني بصعوبة نظرت إليه. هالني أنه لم يعد يؤلمني؛ إذ بلغ الحد الذي يتخطى الإيلام، ويصل إلى الغيبوبة. أردت أن أفتح فمي وأصيح: أين رسول الآلهة من الأوليمب؟ أين عطارد أو «مركور»؟ لكني يئست من العثور عليه. فربما كان الخمسة الموكلون بعقابي هم: عطارد، مركور. وربما يكون هو نفسه قد نسي دوره، واختفى أثره. وعم أتراجع أو أتنازل؟ جسدي عروه وفتحوا بطني، لم يبق هناك سر، حتى حافظتي يمكنهم أن يفتحوها، ولا بد أنهم سألوا مدير الفندق عني، أو سألوا العازف الصغير، من يدري إن كان مدير الفندق نفسه هو الذي أرسلهم إلي؟ أخذت أنفاسي تتلاحق، غام الأفق بعيني، غطتني سحب الغيبوبة، وأقفت على عزف الناي وريش يتناثر في الجو. هل تذرو الريح جناح النسر؟ ونظرت إليه، كان كجنح الليل، تكوم كالحجر الصلد، وانطفأ بريق المجد، والريش يخلق في الجو، ويصبح أجنحة، تنبت فيه القدم، الرأس، المنقار، العين، وينادي أحد الجلادين علي: انظر ما أخفيت، العش امتلأ ففر الطير.
لم أعرف ماذا يقصد. كان الريش لا يزال يتطاير. وأنا أتابعه شغوفا به، وأراه يتخلق أمامي طيورا مختلفة الأشكال والألوان. رفع جلاد آخر صوته، وأخذ يقول: لأنك أخفيت النار، كتمت السر، لا استدفأت ولا أدفأت الغير، ولهذا ضاق القفص وفر الطير.
أخذوا يرددون وراءه: فر الطير، فر الطير.
عيناي مشغولتان بمتابعة الريش والطيور، والحياة التي تتخلق كالسحر تمنعني أن أكترث بصياحهم. وهم كذلك لا يكترثون بي، ويواصلون غناءهم الرتيب: كتبت وقلت: لكن لم تك أنت، لم تك أنت.
أغاظني كلامهم، فصحت بهم: لم أكتف بالقول، فعلت ، ما كان بوسعي قدمت، ضحكوا واستمروا في الغناء: لكنك خلف قناع عشت.
قلت وأنا أشيح بوجهي: يكفي أني ما قصرت. لم أقس على أحد وقسا الزمن علي.
ضحكوا وأخذوا يصفقون: وعلى نفسك أنت قسوت. انظر هذا الطير الغاضب يخرج من كبدك، يخرج في صمت. نحن فتحنا القفص فرفرف في الجو، وراح يغني عذب الصوت. أما أنت فقد أهملت وترددت. - يخرج من كبدي؟
تؤلمني رقبني وأنا ألويها لأنظر في كبدي. حقا كان الريش يخرج منها. ينتشر في الفضاء كقطع متناثرة من قوس قزح. أسمعهم يضحكون ويقولون: تأمل هذا الطير، وانظر للوجه. وستنكره أو ستعرفه على الفور. تدوي الطيور حول رأسي، تتمهل قليلا أمامي لأتفحصها. أحقا أعرفها؟ أنكر بعض الأوجه، لا أذكرها، أعرف بعض ملامحها: سلطان يعشق جاريته، والجارية تحب العبد. وهذا الطير: إيزيس الملكة تهوى الفلاح المنحوس، وتعلمه، تبعث فيه الروح كما فعلت بأوزيريس. ما هذا أيضا؟ قارون تتبعه سبعة طيور. يا للذاكرة المثقوبة كالغربال! والحكماء السبعة! ومن هذا؟ هو أوديب، أوديب يدافع عن نفسه، إن أجرم في حق الشعب، فإن الشعب كذلك شارك في جرمه. وأب يحتضر ويلقي الأبناء عليه التهمة، تنتظر الزوج، وتغزل ثوبه، حين يعود ويغرق في الدم كفيه تصده، تنكر وجه القاتل، ترجع للمغزل، تنسج ثوب الزوج الحق وتنتظره، أطفال تبحث عن آباء، آباء تبحث عن أبناء، ووجوه أناس أعرفهم، فلاحون وخدم وقضاة، رسامون وشعراء ولصوص مهرة، دجالون وجلادون ونهازو فرص فجرة، أبطال أساطير ومساكين وثوار وضحايا الثورة ... إلخ. كانت الطيور تحلق في الجو، وتقترب مني، وتدوي في أذني، ثم تبتعد وتختفي. لم يمض وقت طويل، حتى كانت كلها قد ذابت كقطع السحاب التي تسوقها الرياح أمامها، وتحرقها أشعة الشمس، فتشف قليلا قليلا، حتى تتلاشى. صفت السماء وهدأ الدوي والطنين. وانكفأ النسر على نفسه، وأخفى رأسه بين جناحيه، واستسلم للنوم، وسكن الألم، فلم أعد أشعر بوخزه واحتراقه. وتطلعت أمامي، فإذا الجلادون الستة واجمون كتماثيل قرود متراصة في مدخل معبد. وانطلق صوت الناي، حنونا، منسابا في شفافية شعاع القمر الذي ازداد توهجا في السماء كتفاحة ذهبية. كانت هي الساعة التي تسبق طلوع الفجر. غلالة تغطي وجه الأرض، رمادية داكنة، تشبه سحابة غبار فوق أرض معركة لم تتضح. كنت قد تعبت وثقلت جفوني، فتراخى جسدي وتمدد، وسرى في كل شيء كما سرى فيه كل شيء. وإذا بالناي يفتح عيني، والصبي الساحر يبتسم عن فم عذب نضيد الأسنان. لولا القيد في ذراعي وساقي، لولا الخدر الباهت الذي يلفني كالضباب، ولولا أن النسر ما يزال في مكانه، والتماثيل الستة صامتة كالأصنام أمامي، لولاها لقلت لنفسي: كابوس زال. ولكن ها هو الصبي يعزف، كأن لم يكن شيء. واللحن يشبه أن يكون تحية ترحيب واستقبال لموكب قادم. ويبعد الصبي الناي عن فمه ويناديني باطمئنان: ها هو قادم! أهمس من مكاني: من؟ يدير الصبي ظهره إلي. يفتح ذراعيه كمن يستقبل ضوء الفجر الطالع بعد هزيم الرعد، وقصف الريح بليل عاصف: بشر لا كالبشر! إله أو شمس!
البطل الشمس
كان يتمشى على الشاطئ في جلال أبوللو وجماله. كيان أسطوري عالي الجبهة، شامخ الأنف كبطل روماني، منسدل الشعر على الكتفين، لا هو بالطويل النحيل الذي يشرئب عبثا للسماء، ولا بالقصير السمين الذي تجذبه العناصر للأرض. يقترب قليلا في مشيته الرائعة كجيش زاحف، تبدو عيناه الواسعتان السوداوان كعيني نسر هبط من الأوليمب لتوه، حلق فوق البشر، وعبر حدود الحياة والموت. وقف الصبي مفتوح الفم يتأمل عينيه، وفمه الدقيق، وذقنه الحاد المدبب، ولا بد أن العينين الواثقتين اللامعتين استغرقتاه، فظل يحدق فيهما ونسي الناي على فمه. كان ينحني على الرمال أحيانا؛ ليلتقط قوقعة أو يفحص حيوانا بحريا، أو يتأمل قطعة حجر. ثم يفتح ذراعيه وصدره القوي العريض للشمس ويهتف: لو لم تكن العين شعاعا من نور الشمس، ما أمكنها أن تبصر ضوء الشمس. أيها الصبي الوديع الجميل، أنت محظوظ إذ تعيش في بلاد الشمس. كانت روحي تتضور جوعا للدفء، فذهبت لروما وصقلية وألقيت العبء، عبء ضباب بلاد تخنق أنفاس المرء. أنت محظوظ، يا ولدي. لم لا تتكلم؟ ألا تحسن غير الغناء؟ وهذا الناي الذي أراه، أتكون صبيا لساحر؟ أغراني هذا الولد الماكر ، واشتهرت أغنيتي عنه. جرب مثله معلمه أن يقرأ بضع تعاويذ تسخر روح الأشياء، نسي حروف السر، ففاض الماء، وأغرق جدران المنزل والأبهاء، يا ولدي، لا تتعجل سير الزمن، ونضج الأشياء، كسلحفاة «زينون» أرادت تسبق خطو أخيل العداء، خذ نايك، واعزف أغنيتك للبحر وللأفق الوضاء: هل تذكرها؟
رد الصبي بصوت واهن ران عليه الخجل: لست صبي الساحر يا مولاي، أنا الصبي الآخر، ذلك الذي روض الأسد الشرس بغنائه وعزفه على الناي.
يتعجب السيد، ويرفع حاجبيه الثقيلين: حقا؟ إنه كذلك صبي ساحر. استطاع بقوة اللحن والإيمان أن يسيطر على فوضى العناصر والغرائز، ويخلص العجوز والأم وطفلها من خطر الوحش، ويؤمنهم من أخطار الطبيعة عندما تثور البراكين، وتغضب الزلازل والأعاصير. ذلك هو سر الفن يا ولدي، لغز المبدع الذي ينتصر على طبيعته الحية بالفن والدين والأخلاق. كانت أقصوصة صغيرة، لكنها من النوع الذي يحار الإنسان كيف وفق لكتابتها؟ هل تذكر أغنيتك فيها:
الخالد يحكم في الأرض،
نظرته سادت في الأفق.
الأسد انقلبت حملانا،
والموج تراجع للخلف.
والسيف اللامع قد أمسى
يتجمد كمدا في الغمد.
الأمل تحقق والفن،
وتجلت معجزة الحب.
ليس عجيبا أن أجد صبيا مثلك يسحره نور الشمس الطالع، ويواجه قوة هذا العنصر السيال بالعزف والغناء. شيقة وممتعة هذه الأرض، يبدو أن عقلي الباحث عن كل جديد لن يشبع من أرضها، وسمائها، ونباتها، وأحجارها. الأبدي فعال في كل مكان، خصوصا في هذا الجزء من العالم. لكن بالله عليك: أين أنا الآن؟
هتف الصبي فرحا: في الشرق، الشرق الطهور.
وضع السيد يده على ذقنه، وقال: نعم، نعم. لا بد أن تكون هذه قطعة من الشرق، ثم مضى يردد بصوت هادئ يخرج من صدره ليعود إليه وينفذ فيه: لله المشرق، لله المغرب، الأرض شمالا، والأرض جنوبا، ترقد آمنة، ما بين يديه، أهي بلاد شقيقي، توءم روحي في المشرق؟
صاح الصبي: حافظ؟ لا، بل أرض المتنبي، وجميل بثنية، وكثير عزة.
تعجب السيد، وأخذ يتلفت حوله، ويتطلع إلى الشمس البازغة في الأفق كأنه يريد أن يشدها إلى صدره: حقا، ليتني عرفت عنهم أكثر مما عرفت، لكني هاجرت بروحي الشرق، جددت شيخوختي وشعري بالحب والغناء، وتطهرت من نبع الحضر، وحومت قصائدي حول أبواب الفردوس، هذا الدفء، هذه الشمس، لنبتهج يا ولدي بيومنا العابر الجميل.
كان الحديث ودفء الشمس قد ساقهما إلى التجول على الشاطئ. وكانا قد وقفا تحت الصخرة يتطلعان للأفق، ويجوسان على الرمل والحصى. ويملآن صدرهما بنسيم الفجر النقي. لم يرفع السيد رأسه إلى الصخرة إلا عندما غلبني الألم على بهجة الاستماع إليه، فخرجت منه الآه. حانت منه التفاتة إلى الصبي، ونظر إلى أعلى وصاح: ويلك! من هذا المسكين على الصخرة؟ هل تتكرر في هذا الجزء من العالم مأساة اللص الأعظم؟ شاركه الصبي في التطلع نحوي، غام الأسى في عينيه وعلى خديه وأطرق برأسه. صاح السيد غاضبا: هل يصنعون هذا بكل الثائرين؟ أيبعثون المأساة القديمة في كل مكان؟ هذه الصورة القديمة من أيام شبابي. لقد نسيتها، وانتصرت عليها. ألا أستريح حيا ولا ميتا؟
رفع ذراعه وأشار إلي: أنت! من قيدك إلى الصخرة؟ أنت؟
صحت من الألم: مشنوق تتدلى رأسي في بستان المشنوقين. ربطوا ساقي في الصخرة. - من؟ - ستة جلادين، والنسر الأسود فتت كبدي، مزق لحمي كالمجنون. - ومركور؟ هل بعثوه إليك لتخضع للطين؟ وترد النار إلى الآلهة الموتورين، لا تفعل أبدا. - ماذا تقصد يا مولاي؟ - إن البشر ضعاف يحتاجون لمن يخلقهم ويسويهم، ينفخ فيهم سر الكلمة، سر النار ويهتف فيهم: كن فيكون. من يفعل هذا غير الشاعر، من يبعثهم، يهدي الخلد إلى الفانين؟ لست وحيدا فوق الصخرة، فعلوا هذا بألوف قبلي، وألوف بعدي، أنا من نسل بروميثيوس المسكين. لما كنت شبابا مثلك. - قد جاوزت الخمسين. - لا تيأس، فاليأس مهين، والروح المبدع يهزم سيف الزمن المسنون. في ريعان شبابي كنت رسول النار إلى الطين، عشت وغنيت وصغت بمطرقتي: ثوارا، أبطالا، فنانين، ورجالا لا ينهزمون ولا يقعون على أقدام الجلادين، يثقفون بأنفسهم، يتحدون، يحبون؛ فالقلم الخالق يكتب ويعبر عن خلاق في الصدر دفين، فاخلق يا ولدي. - جف معين الخلق ، ويئست نفسي. - غامر واستغن بيومك عن أمس. - تعبت، تعبت. وعشت وحيدا أحمل بؤسي. - أنا أيضا جربت الوحدة والصمت، لكني عشت وأحببت وأبدعت، فقهرت الموت. - كيف؟ أجبني. - مت لتكون! بذلك تقهر موتك. ضح بنفسك كي ينشأ كل أرقى منك. فالقطرة تجد نفسها عندما تنعدم وتصبح لؤلؤة، والفراشة تجد نفسها عندما تحترق في لهب الشمعة، غن معي يا ولدي:
وإذا لم تصغ للصوت القديم،
داعيا إياك مت كيما تكون؛
فستبقى دائما ضيفا يهيم
في ظلام الأرض كالطيف الحزين. - أأموت لأحيا؟ أولم يشبعني زمني موتا؟ - كل ما يهوى الوجود، سوف يهوي في العدم. عش يا ولدي. - كيف أعيش؟ - في اللحظة. في أيام شبابي جربت اليأس. أوشك أن يوردني حتف النفس، لم أتردد، أمسكت القلم لأخلص من قبضته. - ما أكثر ما سود قلمي! بحر مدادي لم يغسل ألمي، ما قربني شبرا من نفسي. - اكتب ما يمليه عليك الحس، وكن نفسك يا ولدي. - أفعل هذا جهدي. - الفعل، الفعل. ها أنت نطقت بنفسك. في البدء الأول كان الفعل. هذا ما كنت أقول وأعمل. والخالد يعمل في كل مكان، ينشط في كل زمان، لا يتخلى عن مغزله أبدا. فلماذا لا تفعل مثله؟ الخالق فعال، كن مثله، والخالق يبدع، فلماذا لا تبدع مثله؟ خلق الإنسان ليخلق، ولهذا استخلفه الله على الأرض؛ لينطق يبدع يخلق. - سأحاول، لكن ... - لا تترك لحظة! عش في اللحظة، فالإنسان فقير لا يملك إلا اللحظة، فليحرث هذا الحقل بنفسه، وليزرعه ويجرب حظه، هذا ما يفرضه الوعي، وتفرضه اليقظة. - لكن اللحظة تعبر، تفنى كالقطرة في بحر الزمن وتهدر. - املأها بالعمل المثمر تغدو القطرة لؤلؤة، والحبة جوهرة، والأبد سيطبع خاتمه فوق الزمن المدبر. أتقول بأن اللحظة تهرب منك، سوف تعود شقيقتها تتوسل لك: املأ كأسي، لا تتردد، جدد خمري تتجدد، فالنشوة منك إليك. - النشوة، والخمرة والكأس. - بهذا تعرف سر النفس! - ما أطيبك وأحكمك! فهات الكأس.
أقبل السيد الكبير علي، وأخذ يفك الحبال المربوطة حول القدمين والساقين. أحسست أنفاسه الدافئة ترف على وجهي كأجنحة النسيم.
ثبت بصري في عينيه السوداوين، شمسان هما أم أفق يسع الكون؟ وأنا أشعر بين يديه شعور الابن حيال الأب، يختلج الإعجاب بصدري والرهبة والحب.
تحمس الصبي، فأخذ يساعده في فك قيودي، ولمست يده جرحي فنادى: انظر يا سيد، جرح وبقايا دم. مال السيد علي ومد يده القصيرة المكتنزة، فلمس الجرح. ابتسم، وقال: لا بأس عليك ولا ضير، أنا أيضا عشت وفي جنبي جرح مر، جرح الشعراء قديم لا يندمل مع العمر، ينفتح إذا كتب القلم ويبتسم كثغر نضر، فاغمس قلمك في هذا الحبر، كي يحيا الشعر، كي يحيا الشعر.
هل تحتمل النملة أن يمدحها الأسد أو النمر؟ قلت وفي عيني الحسرة وخدودي تحمر: يا مولاي لقد هرب الشعر، وانحسر الموج عن الصخر، صار عجوزا أعمى في زمن الغدر، يجلد بسياط الذل وأكل العيش وطلب الستر، داس على جثته أقزام العصر. انظر يا مولاي لهذا النسر.
أدار وجهه ناحية الصخرة المقابلة. كان النسر لا يزال منكفئا على نفسه ورأسه مدفون بين جناحيه، أحس بعيني النسر البشري، فارتجفت عيناه قليلا، واضطرب جسمه الجاثم كالليل أو الهم. ابتسم السيد، وقال: أعرف هذا النسر. يعرفه المبدع أنى كان على اليابسة أو البحر، فتت كبد بروميثيوس، ولن ينجو منه إنسان حر، ينتشل اليأس من هاوية اليأس، فيصبح كالريح العاصف، كالموج الهادر في البحر، من صدرك يخرج هذا النسر، القلق الجامح والألم الجارح، والفرح الطافح والبشر، لا تخش النسر، لا تخش النسر.
قلت: وهؤلاء.
سأل في رفق: من؟
أشرت إليهم، كانوا ما يزالون في مكانهم، قابعين أمام الصخرة كأطلال جدار عتيق ينظرون إلينا صامتين.
قال السيد: أشباح هؤلاء أم آدميون؟ - بل جلادون.
صاح السيد: من أنتم؟ من أرسلكم، من كلفكم بالأمر الملعون. أقضاة أنتم أم متهمون؟
وقف أحدهم وهو يتلفت إلى رفاقه. مد ذراعيه للأمام، ثم رفعهما لوجهه وتنحنح قليلا، ثم قال: معذرة يا سيد، نحن ...
صاح بغضب لا يصدر عمن كان رزينا متئدا مثله : أعرفكم. أتذكر سحنتكم؛ هل أنتم في كل زمان ومكان؟ باسم الفن، وباسم الشعل لسعتم جسدي كالحشرات، سممتم بئر حياتي كالحيات، لا تتوهج نار تطفئوها، لا يزهر شجر حتى تجتثوه، لا يرتفع بناء حتى تلقوه بالأحجار، بشر أنتم أم دود، ووجوها أنظر أم أقنعة كلاب وقرود؟
قلت: جلادون ودجالون. غرزوا الناب بلحمي طول العمر، حتى ضاق الصدر، اختنق الصدر.
زعق الواقف وردوا عليه في صوت واحد، بل نحن خرجنا من هذا الصدر كما خرج النسر، نحن رؤاه، هواجسه، أحلام صباه ظنون الفكر، يأمرنا نصدع للأمر. عشنا معه في السراء وفي الضراء، وفي الخير وفي الشر، رجعنا وظمئنا معه، ذقنا الحلو وذقنا المر، ليلا ونهارا ناديناه ودعوناه في الجهر وفي السر: انهض وتحد القهر، وافتح عينيك وقلبك للشمس، وألق بجسدك في البحر، حتى غضب علينا، نسي ملامحنا، ألقانا في قاع البئر. ضقنا يا مولاي بصمت القبر، فحملناه اليوم - كما تشهد - في الفجر، كي يتطهر بالنور ويخرج من منجمه الدر، لم نأسره، حاشا لله، ولكن أنقذناه من الأسر، كي يبصر، يعرف، يعمل ...
قاطعه السيد: يعمل؟ ماذا يعمل؟ لا ينقذكم إلا العمل الحر. يا أولادي، تلك وصية عمري.
قلت ساخطا: أولادك، كشفوا عريي، نهشوا لحمي.
احتج الأسود الذي يتحدث بلسانهم، وقال: من يأكل من لحم مر؟
نحن تركناه لهذا النسر، ينهش كبد النائم في كهف الغيب أو السر.
ضحك السيد فجأة. لم تأت الضحكة من فمه، بل راحت تنتشر في كل أعضائه، فتهتز وتتمايل وتعلو وتهبط كالقارب الذي تجرجره موجة هادرة. نظر إلي وفي عينيه وميض الشفقة والحب، والتفت إليهم كأنه يستأنف كلامه: لا تنسوا، وهو رسول العمل الحر.
وقفوا خاشعين، خفضوا رءوسهم، وأخذوا يهزونها في خضوع كالرهبان الصغار أمام الكاهن الأكبر. قال كبيرهم: نصدع للأمر، نصدع للأمر.
وقف السيد على الصخرة كالقائد الذي يصدر أوامره بالزحف، سطعت جبهته الشامخة في ضوء الشمس، واحمر وجهه كالشارب النشوان، وأخذ يشير بذراعه الممدودة إلى الأمام والخلف: هيا للعمل الحر، وأقيموا الأرض الحرة كي يحيا فيها شعب حر. هيا الآن وقبل فوات العمر، فالحرية يغزوها إنسان حر، يعمل ويغني في كل مكان يزرع شجر الخير. شقوا الأرض هناك، اسقوها حتى تخضر، والأكواخ البائسة أمام البحر، يسكنها نمل أغبر وجراد مصفر، ابنوا في موضعها المعمل والساحة والقصر.
قال كبيرهم مستفسرا: هل تبني الكلمة وتعمر؟ ماذا تقصد؟
قال في حماس: لتكن الكلمة عونا للعمل الحر. هيا انتزعوا من قبضة هذا البحر أرضا ينمو فيها الزرع، ويعبق فيها الزهر. شق قناة يجري فيها ماء النهر، كي يسقي الأرض الظامئة، فتلهج بالشكر، أو يطعم شعب محروما عذبه الفقر. شق قناة في هذا القفر، ليس كثيرا من رجل الفكر. هيا هيا، شقوا الأرض، أزيحوا الصخر، حان الوقت لأمضي.
قلت: ألا تبقى معنا؟
التفت إلي في حنان ووضع يده على كتفي: أما أنت فغير نفسك، واحمل قلمك في الحال، كما تحمل فأسك. بدأ طريقك فأتم الرحلة، وتحدد قدرك فاسلك سبله.
أمسك بالقلم وأمسك بالكأس
ذهب السيد كما جاء، لم نعرف إلى أين، كما لم نعرف من أين أخذنا نتطلع إليه، وهو يخطو فوق الصخور كفارس غريب امتطى صهوة الريح والجبال والسحاب. أخذ السود الستة يتابعونه بأبصارهم، كرجال الفلك الذين يرصدون كوكبا سطع في السماء، ثم اختفى. رحت أنظر إليه كأني أنظر في نفسي. لا بد أن أجيال البشر قد عاشت وتناسلت وبنت وخربت وتحملت؛ كي تغذي جنينا في أحشائها، وتنميه وتربيه، وتصبر على المخاض مئات السنين لكي يهبط أرضنا الكئيبة، ويسطع في سمائنا مثل كوكب رحيم يعرف كل شيء، ويغفر كل شيء، ويعطي المثل الأصغر للأبدي الحي الفعال على نول الزمن الأزلي. ظهرت كواكب عديدة مثله في سمائي وسماء الناس. أحببت كثيرا منهم، وتعلمت على أيديهم، منهم أعمى مجدور الوجه، شعت منه ألسنة اللهب الحارق بالثورة والصدق، منهم من يسبح في الآخرة، ومنهم من غاص بأعماق الطين، من ثار وفار وحطم عصره، من عكف على هندسة الكون وترتيبه، من غنى وحده، أو عزف على قيثارة الحلم ومدن الغد، من أضحكني في ليل الصمت ، من أبكاني، زرع بنفسي شجر الموت، من أحياني في صحبته فسئمت صحابي، أهلي، جيراني ، لكن هذا النور المنسجم الهادئ ...
انتبهت لصوت الناي في يترقرق حنان لم أعهده، لا بد أنني جبت متاهتي على رنينه الشجي. كان الصبي يعزف تلك الأغنية التي أنشدها للسيد، وصاحبت وقع حركاته وسكناته، حتى خلت أنه يتبع الشبح المتلاشي بروحه، أو يحاول أن يسترجعه بحنين شكواه. ولا بد أنه لم ينس وجود الستة بعيونهم السود وستراتهم السوداء وحقائبهم السود، يقفون هناك يشيعون صورته الغائبة، كما يشيع اللحادون جثة كبير سمعوا عنه، وأدوا نحوه مراسيم الواجب، واستراحوا منه. - هيا للعمل.
دوى صوت كبير الجوقة الكالحة كصوت بوق أو نذير. كان معنى الإشارة الآمرة أن يكف الصبي عن عزفه، أن أهبط من مكاني على الصخرة، أن أقبل على فصل العذاب الجديد. وقبل أن أستجمع بقية قوتي لأنحدر على الطريق الوعر المليء بالحصى والحجارة المدببة كالسكاكين التفت لأنظر للنسر. كان قد غادر موضعه، هل طار ليلحق بالسيد؟
سبقتني الجوقة إلى مكان العمل، وسبقني الصبي إلى المثول بين أيديهم. في لحظات فتحوا حقائبهم، أخرجوا منها ملابس العمل الزرقاء، وسرعان ما ارتدوها، أخرجوا منها - لشدة عجبي - فئوسا وجرافات صغيرة بأيد طويلة، وأكياسا وجرادل وعصيا كالملاعق الكبيرة، تنتهي بعضها بأطراف مسنونة كالأشواك. - هيا للعمل.
هتف كبيرهم فانطلقوا بأدواتهم أسرع من خفقة جفن. هم أنفسهم الذين بدوا منذ قليل كأفراد الجوقة في قداس أو مأساة، أصبحوا الآن يجرون ويذهبون ويجيئون بفئوسهم، وحفاراتهم الصغيرة، وعصيهم وأكياسهم راحوا يشقون الأرض، ويخرجون التراب في أكوام لا تلبث أن تتراكم كالكثبان الصغيرة. - هيا.
كنت قد وقفت أراقبهم، لا أدري ماذا أفعل. سرحت بي الأفكار على الرغم مني، كأنني أشاهد شريطا يدور في الخيال، حتى نبهني الصوت من جديد: للعمل. أتظل حياتك تحلم وتفكر؟
تحركت، ولكن في غير اتجاه.
خذ فأسا واحفر، أولم تسمع ما قال السيد؟
قلت معتذرا: نتعلم مسك الفأس، كما نتعلم مسك القلم. - ماذا تنتظر إذا؟ أتكون يداك أحن على الأرض البائسة من العامل والفلاح ؟ هل تخشى أن تجرحها؟ إن الأرض ترحب بجراح فوق جراح. - لا أخاف يا سيدي ، ولكن لا أدري. - هيا، هيا. يكفينا ثرثرة وهراء، تعال وجرب أن تفتح صفحة هذا العالم، أن تقرأ فيه بالآلة والعتلة والفأس. - الفأس؟ - نعم. ألم يسبق لك أن لمست فأسا؟ تنوحون على الفلاحين دون أن تجربوا الفأس. تمجدون الأرض وتنزهون أيديكم وستراتكم اللامعة من الطين. هيا، هيا.
تذكرت المرة الوحيدة التي لمست فيها فأسا. كنت في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة من عمري عندما زرت الحقل، في يدي كالعادة كتاب، وفي قلبي عرائس الأحلام، وآمال المستقبل، وحسرات الحاضر، ورياح السخط، وأشواق البعد تصطخب في الضباب. كان الكتاب قد استهواني على الرغم من صعوبته، فقد كان بالفرنسية التي لم أحسنها، ورحت بعنادي أستشير القاموس الصغير بحجم الكف، الذي لم يكن يترك «سيالة جلبابي» الأبيض. قصة حب كانت، والبطل اليائس كانت محبوبته تخلص للزوج المنتظر المخلص، زوج يعرف واجبه ويؤدي عمل الدولة كالساعة أو دورات الأفلاك، البطل اليائس عقد العزم على الانتحار، يجلس إلى مكتبه؛ ليكتب رسالة يطلب فيها خدمة من صديق، والخدمة أن يرسل إليه غدارة. وثعبان النيل الصغير يتمدد ويسحب جسمه المتلوي اللامع ويقترب مني. التفاتة سريعة إلى شاطئ الترعة، سرحة قصيرة مع دموع البطل المنتحر، وانتفاضة مذعورة يغيب فيها العقل، ويتحول الجسد إلى عصفور مخبول أو حجر مندفع بقوة لا يعلمها. جريت من الجرن المكوم بالقش إلى حظيرة البهائم. أخذت ألتقط أنفاسي المبهورة أمام الأبقار والحمير التي رفعت رءوسها عن العلف، وراحت تنظر إلي متعجبة، لم يكن الفلاح العجوز الضئيل الوجه هناك، جريت إلى حجرته، وأنا أهتف: ثعبان! ثعبان! خرج الرجل من الحجرة في هدوء كعادته، بين يديه إبرتان كبيرتان، وخيوط من الصوف الأحمر، قال في هدوء: هل أمسكته؟ - أمسكته؟ لقد جريت منه. - شاطر، أين رأيته؟
قلت وأنا أتخفى في ظله: عند الجرن، لا بد أنه تسلل في القش. - في هذا الحر. كان يزحف (نعم يزحف، في حياتي ما كرهت مثل الزواحف، الدودة ترعبني، البرص يشيب شعري، يكتم نفسي أكثر من تمساح، عين الثعبان تلسعني في النوم وفي اليقظة، ترهبني أكثر مما ترهب حمامة مسكينة يهم بابتلاعها، لن أنسى المنظر في حوض الزجاج!) قال العجوز: سنجده إن شاء الله، اتجه ناحية الترعة. مشيت وراءه، قال لي: استرح أنت، وسأحضر وأعمل الشاي، مرت لحظات قصيرة، عاد بعدها رافعا الفأس في يده، يتدلى من حده ثعبان صغير ينزف دما. ها هو يا عم - لعنها الله - ننفضها عن رءوسنا وأرجلنا كالبراغيث. صحت به: ارمه في الترعة، أدفنه في التراب! ادفنه؟ أنت طيب القلب. ها هو راح! وذهب إلى الباب وطوحه بذراعه السمراء البارزة العروق. اقتربت منه وأنا أنتفض، أمسكت الفأس لأول وآخر مرة!
كانت عينا الكبير تحدجني بنظرات كلدغة الثعبان. تقدمت أتناول فأسا مدها إلى أحد الرجال الباقين في صبر يحسد عليه. همس الصبي: تقدم، تقدم، افعل ما يقولون. طمأنته: لا تخش علي. وأخذت أرفعها وأنزلها في الحفرة التي بدأت تتسع. أخرجني الصوت الغاضب من صمتي: احفر جيدا، ما هكذا الحفر، انظر لرفاقك، علموه كيف يمسك الفأس ويصوبها. أقبل أحدهم علي، أمسك ذراعي وشدد قبضة يدي على طرف الفأس، رفعها بقوة وهوى بها إلى القاع. أنت الأرض بحشرجة المحتضر. ظهر التراب تحتها بنيا غامق اللون كجلد حيوان مسلوخ. تناثرت حبات التراب في عيني، فاحمرت وسحت منها دمعتان تقطران على خدي. قهقه الكبير، وأخذ يلكز رفاقه في جنوبهم، فيجاوبونه بالضحك. مال أحدهم على جنبه في عمق الحفرة، ومسح العرق عن جبهته، وأخذ يضرب كفيه: مثقفون، مثقفون.
زعق الكبير عندما رآني جامدا كتمثال بلله المطر، أتلفت يمينا ويسارا، أعتذر عن الذنب، أعجب من ضحكاتهم وأمد بصري للبحر أسترحمه، وللبقرة التي كانت لا تزال ممددة على الشط تمضغ وتجتر في سلام، وكأني أدعوها أن تقف في صفي. صرخ الكبير: لا تتلفت للبقرة. تمتمت معتذرا: أنا أفعل ما تأمر به. صرخ من جديد: هل عدنا للأيام العكرة؟ ثبت عيني رغما عني على البقرة، وسط الصخب والضجيج، بل وسط اهتزاز الزلزال نفسه يمكن أن يفزع الإنسان لحظة إلى واحة أمن خاطفة كسراب. قلت: أنا لا أهمل عملي، أفعل ما في وسعي. علت صرخته، حتى صمت أذني: أتسمي هذا عملا؟ علينا أن نكمل شق القناة. هل نسيت الجنة التي سنزرعها هنا؟
قلت: لا لم أنس، فأنا أعيش لها.
صاح: إذا فاعمل، اعمل. تردد صوت الناي، متأرجحا يهتز على إيقاع الأذرع الصاعدة الهابطة، وضربات الفئوس في بطن الأرض، وسقوط التراب على حافة الحفرة كسقوط الحجارة في ماء آسن، كنت أعمل جهدي؛ لكي أستحق صفة العامل. أحاول أن أبعد عني الأفكار المتزاحمة علي كلسع البعوض أو همس السحرة. وتجنبت النظر إلى الكبير، الذي كان لا يزال يحدق في وجهي. أيقظني صوته: مجتهد، لكنه لا يستطيع، لا يستطيع. ألقيت الفأس لحظة لأستريح، وشددت قامتي قليلا. استمر يقول: خطر الذاتية! ميئوس منه. لم أدر كيف أدفع التهمة عني، لم أدر كذلك كيف أدفع الوجوه التي بدأت تتزاحم حولي، والطيور التي ترفرف على وجهي. سحقا لي لو عرفوا هذا! هي نفس الطيور التي خرجت من كبدي، نفس الأوجه: إيزيس وأوديب وأوفيليا، سرب الحكماء السبعة والملك سليمان، وعيسى بن هشام، أطفال وعجائز، فلاحون وشحاذون وأبطال مآس، حمقى ومجانين، خدم وأرامل وبغايا وملوك، فنانون وصحفيون وثرثارون ودجالون ومنسيون ومحتضرون ... صرخ الكبير صرخة خفت معها أن يرجع النسر على دويها، وقف الصبي مذعورا لا يدري ماذا يفعل بيديه وذراعيه، ولا بالناي المتدلي من رقبته تصفر فيه الريح، دوت كصاعقة اخترقت السماء في طريقها إلى قلبي. يبدو أن الجرح انفتح فقد سقطت قطرات منه على جانب الحفر: ميئوس منه، ميئوس منه. ألقى الرجال فئوسهم على الحافة، نفضوا التراب عن جنوبهم ورءوسهم وتثاءبوا، بدءوا يخرجون من الحفرة واحدا بعد الآخر، وعندما تلمس أقدامهم الكثبان الصغيرة المكومة على طول الحافة يلوون رءوسهم نحوي ويهزوننا. هممت أن ألحق بهم وأغادر الحفرة، صاح الكبير: ميئوس منك، ميئوس منك. حاولت أن أتكلم، تحركت شفتاي، ولم يخرج صوت، نفضت التراب عن جسدي العاري المحترق بنار الشمس، ووضعت يدي على الحافة كي أقفز. انهالت ضربة فأس طاحنة فوق يدي. سحبتها والألم الخانق يلطمني، ويطلق من صدري حشرجة كلب مطعون أو مدهوس. شل السمع وغام البصر، وجثم الجبل علي، نفذت صيحته بعد قليل في أذني: الحفرة لك! ردد الخمسة وراءه: الحفرة لك، الحفرة لك. وعاد يطلق زئيره المسعور:
يشقى ليشق قناة،
يجتهد ليحفر حفرة،
والحفرة تصبح قبره.
ويهلل الرجال الخمسة، ويتمايلون طربا، ويرددون على وقع التصفيق:
يشقى ليشق قناة،
يجتهد ليحفر حفرة،
والحفرة تصبح قبره.
رأس هش، رأس هش
يشير أحدهم إلى الصبي الواقف تجاههم على الجانب الآخر من الحفرة كشجرة صفصاف صغيرة، تتدلى خصلات شعرها المنفوش في الماء. يحول بصره عنه، ويغيب في صمته، يهتف به الكبير أن يعزف شيئا على نايه، يجمد ويلتم على نفسه كالحجر. يصرخ فيه: يا أحمق، الحفلة تحتاج الناي! يجلس على الأرض، ويدفن رأسه بين كفيه. تقذفه يد بحصاة، ينتبه قليلا، ثم يغرق في غيبوبته. أتابع كل شيء كالمتفرج، أهم لأقفز من الحفرة، فتهوي القبضات كالمطارق على يدي.
يعلو صوت الجوقة:
تتمنى الموت، ولكن لا ترضاه.
تشكو عبء وجودك، لكن تحياه.
خفاش الحزن يعشعش بين ضلوعك.
لا الشعر يعزي القلب، ولا العلم يجفف نهر دموعك.
العالم يرقص حولك، والدنيا تضحك لك.
فلماذا تقبع في الظلمة يضنيك الضنك،
تأكل خبز الأوهام ويأكلك الشك؟
نحن ضحاياك وجلادوك، ونحن الآسر والمأسور.
عشنا في كهفك مغلوبين، وخاصم أعيننا النور.
ماذا يضنيك؟ تكلم! أفض بما يشقيك.
الحب؟ تسرب منك. الأمل؟ تعثر فيك.
لماذا ضيعت الحب؟ أضعت الأب والأم، وضاع بنوك.
ميئوس منك،
ميئوس منك.
داؤك ميئوس منه، جرحك لا حيلة فيه.
نجمك - لو تعلم - نحس، دربك - لو تدري - تيه.
أخذوا يرفعون أصواتهم ويصفقون، يتمايلون ويهللون. بدوا كالجياع على مأدبة القيصر اللئيم، يمدون أيديهم، ويملئون أفواههم، ويتلمظون، ويتجشئون، ويمصون الأصابع والأظافر المسنونة كالأنياب. بعد الضجة والضحك الصاخب تعبوا. كاد أحدهم أن يغرق في النوم. تثاءب، أعدتهم الثؤباء، فركوا الأعين، مسحوا دمع الفرح من الجفنين. هب الكبير واقفا، أدار ظهره إلي وصاح: ماذا نفعل به؟ ردوا في صوت واحد: نهيل التراب عليه. أعجبهم القول، فأخذوا يرددون كأنهم يشتركون في مظاهرة: نهيل التراب عليه، نهيل التراب عليه.
استدار الكبير نحوي. مد يده فقبض على رأسي. كان دافئا من وهج الشمس، نقشت فيه الريح جحورا وأخاديد، شدد قبضته الحديدية عليه، حتى تأوهت: هذا الرأس؟ قالوا في صوت واحد: رأس هش، رأس هش! جذب الشعر الهائش نحوه، وتخلله بأصابعه وعاد يصيح: هذا الرأس! ردوا في نفس واحد:
رأس هش، رأس هش.
عش لغراب البين ومخزن قش.
قلب عينيه فيهم بإعجاب. عاد يسأل: حيرنا، ماذا نفعل فيه؟ صاحوا بحناجرهم كالثيران تردد كلمات نشيد محفوظ: لن يبرأ صاحبه، أو يهنأ بالعيش، حتى يقطع هذا الرأس ويذبح كالكبش. تهلل وجهه كمن جاءه الجواب المنتظر بعد صبر طويل: ماذا أيضا؟ شق حناجرهم سيف صياح المستغيثين لإطفاء حريق: ألقوة لكلاب الحي، ارموه لسباع الوحش.
أسكتهم بإشارة من يده، التفت إلى الصبي كما لو كان يعاتبه؛ لأنه لم يرافق المنشدين باللحن المناسب. لزم الصبي صمته ومد يده محاولا أن يلمس رأسي، ثم سحبها كمن لسعته الجمر. وقف الكبير ومد ذراعيه نحو السماء والأرض، ثم خفضهما ووضع يده اليمنى على رأسي، بينما كانت يده اليسرى تتحرك كالعصا التي تقود فريق العازفين في وقار، وتتثنى كظل راقصة في معبد:
صدت عنه بلقيس، وطردته من بهو العرش.
لو يلقى في ظهر طريق، ما اكترث بجثته نعش!
كأنه نثر أمامهم كنزا. مدوا أفواههم المكتنزة باللحم الأحمر، فتحوها، برزت منها الأسنان، اهتزت أيديهم مع أرجلهم طربا، صاحوا:
جزوه ليخرج منه الطيش،
يذبح كالكبش،
يذبح كالكبش!
مد الكبير ذراعه، دون أن يلتفت نحوي. قبض على شعري فصرخت، ضحك ورنت ضحكته عالية الصوت، صاح كذئب يصرع شاة، يغرز فيها الناب، ويلقمها حجر الموت:
رأس هش! رأس هش!
الموت على بابا اليمن وكسر المرآة
أبدا لن أنظر ليلا في مرآة.
فقد وجدتني واقفا على باب اليمن، شغلتني طلعته المجيدة الراسخة عما حولي. رحت أتأمل الأثر البديع الذي أطفأ الزمن أنواره : عمودان ضخمان يقفان على الجانبين كشجرتين عظيمتين غرستهما يد الماضي، ضيقتين في أعلاهما، منحدرتين بميل لطيف إلى أسفل، كتمثال ملكة بضة بلا رأس ولا أذرع. تفتح ساقيها الممتلئتين بذكريات التاريخ، فتمر منها مواكب غزاة، وطغاة، وأمواج حفاة وعراة، نبهني صوت يهتف: سيمر الموكب بعد قليل. ولكزني صاحب الصوت في صدري ومد لي حزمة ورق أخضر يقطف منه ويمضغ. التفت إليه، هل هذا وجه بشري أم وجه جرادة ملتحية؟ وعبرته العين إلى وجوه أخرى متحلقة في دائرة متسعة، نفس الوجوه الذابلة الصفراء، نفس العيون الجاحظة المتعبة، والأرجل الناحلة الحافية السمراء. وازدادت الحركة في الميدان الصغير، بشر وحمر وجمال ترتع حرة، كأنها في مهرجان يمتطي صهواتها شيوخ وقضاة وحراس. وطبول تدوي من بعيد وأصداء أبواق. قلت لجاري: اليوم يتم الإعدام؟ انفتح فمه الساخر عن أسنان صفراء: وهل اليوم هو الجمعة؟ أسرعت أقول: غدا الجمعة. فلماذا هذا الجمع الحاشد؟ افتر فمه ووجهه الضامر عن بسمة ماكرة: غريب أنت؟ قلت: إنسان مثلك، وأوحد بالله. قال: لكنك من بلد آخر؟ قلت: من دار الإسلام المصحف واحد، والهم كذلك واحد. بالله عليك، ماذا يجري اليوم؟ قال بعد أن اطمأن قليلا: غدا بعد صلاة الجمعة يقطع سيف الجبار رقاب الكفرة. أما اليوم فيلقى الجبار رعاياه. سألت: مجلس القضاء الأسبوعي؟ تدخل جار: بل يعرض معجزة وكرامة. لم يترك لي وقتا للتعبير عن الدهشة؛ فقد لسعته ولسعتني في وقت واحد لطمة سوط مفاجئة من «عكفة» الإمام. لقد أخذوا يقطعون الساحة الصغيرة وأيديهم تلوح بالسياط، وتضرب بها الوجوه، فتستقيم الصفوف، وتشهق الصدور، وتتعلق العيون بالموكب المنتظر.
أخيرا ظهرت طلائعه، وأخذت تقترب، يتقدمها فرسان الإمام وحراسه، جراد آخر بلحى سوداء، يزحف على أقدام حافية، تبرق في وجه الظهيرة عيونهم المحمرة، وحناجرهم الحادة، وسيوفهم الطويلة المدلاة من خصورهم، وبنادقهم العتيقة المصوبة إلى الصدور. كانوا يسيرون على أقدامهم، أو من فوق بغالهم وجمالهم فيهشون الحشود ويصيحون: الإمام! الإمام! ثم يتراجعون ويتحلقون حول محفة كبيرة محمولة فوق أعناق عبيد سود، تتدلى ضفائر شعرهم الأجعد من جانبي رءوسهم الصغيرة. وأخذت المحفة تتمايل، حتى توسطت الدائرة المرصوصة كالسور الطيني. أرسلت عيني إلى وجه الإمام، مستدير أبيض تحوطه لحية اختلط فيها الشعر الأسود بالأبيض والعينان متسعتان ينفذ منها بريق كحد السيف. أزرار بيض بأزرار سوداء، حوله حزام عريض أخضر يلمع فيه الزمرد والياقوت، ويرقد في جرابه خنجر ظهر مقبضه الفضي الموشى بالذهب.
تفرست العينان السوداوان الواسعتان في الجموع، دوت الطبول والأبواق وصرخ العكفة: مولانا آمين، مولانا آمين. وطلع خلفه شيخ قصير في ثياب فقيه أو قاضي الشرع: اليوم ترون كرامة الإمام. هل توضأتم أيها الناس؟ تردد صوت واحد: نعم آمين! رن صوت الفقيه: ستصلون وراء الإمام، وتصلي معكم القطط والكلاب. خيم الصمت على الجموع، نظروا إلى الفقيه، وهو ينحني أمام الإمام، كأنه عابد يقدم البخور للصنم المعبود. مد ذراعيه إلى أحد الحراس الذي ناوله كلبا كبيرا كان يحمله على كتفيه. وضع الكلب خلف الإمام الذي وقف وقفة الصلاة، ورفع ذراعيه بالشهادة. صاح الفقيه: انظروا! حتى الكلاب تأتم بسيدنا الإمام، حتى الحيوان الأعجم يركع ويسجد وراءه فحذار حذار!
سرت همهمة بين الناس، لكنهم كتموها وهم يبصرون الكلب يرفع ساقيه الأماميتين، ويحاكي فعل الإمام، رفع الجميع أذرعهم. دوت الشهادة كموج البحر، وانحنى الإمام راكعا، فركع الكلب وراءه، وخفضت العيون المتعجبة أبصارها، ومالت جذوعها راكعة، وسجد الإمام فسجد الكلب، وخرت الجباه على الأرض، كما خر رأس الإمام وكلبه الضخم، ونفذت صيحة الفقيه: كرامة الإمام! معجزة الإمام!
اندفعت أشق الزحام، حتى توسطت الساحة، وقفت تحت المحفة العالية التي تتم عليها المهزلة. ارتعشت عيون العبيد، واهتزت ضفائر شعرهم، وأنا أهتف: دجال! دجال! دجال!
ذعر الحرس ودبت فيهم الحركة، صلصلت السيوف ودوت السياط. لكن الذهول سمر أقدامهم في الأرض، راح الصراخ يشق صدري وحنجرتي: هذا صنم كافر، طاغوت شيطان فاجر، هل نعبد صنما أو نعبد رب الأكوان؟ أولم نتحرر بالإسلام؟
قال الإمام في هدوء: وأنا سيف الإسلام.
التف الحراس حولي، رفعوا البنادق العتيقة والسيوف الطويلة اللامعة، وصوبوها إلى صدري ووجهي. أشار لهم الإمام ، فتحولوا إلى أصنام، ثم أشار إلي لأقترب منه: شيطان كافر؟ خرج الصوت اللاهث: بل مثلك إنس، لكني أحيا في ضوء الشمس. نفذ صوته الحاد في أذني: ونحن؟ أموات نحن؟ انطلق الصوت الهادر المشروخ: أنت وهم؟ تحيون، ولكن في الأكفان، في كهف الماضي العفن المظلم كالديدان، بل أنتم لا شيء لا في الحاضر أو في الماضي، بل خارج كل زمان.
قال الإمام، وهو يمد نحوي فم أفعى سام: وأنا؟ أين أكون؟ صمت: أنت الصنم الطاغوت أدخلت اليمن بكهف الصمت الملعون، وأقمت السور الطين. وغدا ينهدم السور، ويندق النور، وتنهار سجون وسجون.
ضحك الإمام، وقال في ثقة العارف: غريب أنت؟ من أتباع الكافر ماركس والفاسق لينين؟ أنا أعرفك وأعرفهم. طاشت ثورتكم يا مسكين. قلت في هدوء: الثورة آتية، والفجر قريب.
ضحك وقال: من أين ستأتي يا مجنون؟ نحن هنا في ظل المصحف يحكمنا الشرع.
صحت في الجموع: بل تحكم بالسيف، وتقتل بالسيف.
قال وهو يشير إلى حراسه: أنت حكمت على نفسك. هيا يا حراس، لا لا! انتظروا، وسيحكم فيه هذا الكلب!
بإشارة من يده قفز الكلب من فوق المحفة على صدري. جثم علي ولفحتني أنفاسه الحارة. انغرزت أسنانه في لحمي، وسال الدم من وجهي وذراعي وساقي. صارعته وصارعني، لو كان كلبا واحدا لقاومته وطرحته أرضا، وجثمت عليه، وغرزت فيه أسناني، لكن كلابا أخرى هجمت علي، وأخذت تنهش لحمي، وتلعق دمي. كلاب مسعورة من كل لون وجنس وشكل. من أين جاءت؟ هل أطلقها «العكفة» بعد أن دربوها؟ هل كانت هي الأخرى تصلي وراء الإمام؟ وانهالت علي اللكمات والصفعات من كل جانب، وانضمت الكلاب البشرية والجراد الملتحي إلى المعركة. والجميع يهتفون ويزغردون ويرقصون على جثماني: غريب كافر، كلب ثائر، نحن ننفذ حكم الشرع، نحن ننفذ حكم الشرع.
لا أدري كيف خرج الصوت من جثتي الغارقة في الدم والطين والعذاب: حكم الشرع هو العدل، عودوا للرب الحق، للرب الحاكم بالمصحف لا بالسيف. نحوا الطاغوت الحاكم بالسيف، يقطر منه الدم أنهارا منذ معاوية ويزيد والحجاج على الأعناق يرف، نحوا السياف، ونحوا السيف.
وأشار الإمام، فتنحت البنادق والسيوف والسياط، والتأم البنيان المرصوص من الجراد الملتحي في دائرة كثيفة، التفت حولي كأنها سور صنعاء الطيني. ووجدتني وسط الدائرة لا بشر حولي ولا كلاب، جثة وحيدة ما زالت تتردد فيها الأنفاس، وعندما فتحت عيني لم أجد أحدا حولي أين ذهب الجميع؟ بماذا حكم الجبار؟ من سينفذ حكمه؟ ومتى يعمل في السيف؟ تحسست رقبتي وقلت لنفسي: انتظرني الجبار إلى الغد. بعد صلاة الجمعة يقطعك السيف، وأفقت على دقات رهيبة على الباب. قمت متثاقلا وفتحت الباب. جرادة ملتحية تقف أمامي، بين يديها سلاسل وأغلال تصلصل بالموت القادم في الليل. نحن الحراس! أرسلنا الجبار إليك، أمر وأمر الجبار مطاع، أن نضع الأغلال بساقيك وكفيك، هيا هيا، كف غريب كافر، هيا هيا، ساق الكلب الثائر، وغدا نقطع رقبة زنديق فاجر.
قبضت يد على يدي، حاولت يد أخرى أن تضع الغل في ساقي، انتفضت صارخا: انتظروا أن أصلح شأني، وأردت أن أتجه نحو المرآة المثبتة أمام فراشي المضطرب الدافئ. أمسكني الحارسان، ولفا ذراعيهما حولي كأنهما شبكة حديدية تلتف حول سمكة هاربة. صاح أحدهما: ويلك! لا تنظر ليلا في المرآة! ورفع الآخر الأغلال الثقيلة، وأطلقها على المرآة، فتحطمت وتناثرت شظايا.
ثم صاح وهو يقبض على يدي، ويحكم السلاسل حولهما: أولم ننهك عن هذا؟ لا تنظر أبدا في مرآة! لا تنظر أبدا في مرآة.
وجه المحبوبة والسياف وتنفيذ الإعدام
في ساحة الإعدام، الشمس في الأفق قرص ذابل الاحمرار، تنور تخبو فيه النار، أوراق الشجرة تكاد تلامس رأسي، جذعها الخشن الناتئ يحك ظهري، يوجعه، يوشك أن يدميه، أفتح عيني المحترقة بلهب السهد، أنظر حولي وأمامي، أتلفت للخلف، وجوه وجوه، أقنعة سوداء وشيلان بيضاء، وعباءات وعمامات، أصوات تختلط على سمعي، همس وصياح، دمدمة وأنين، تفتح عيناي، تفتح أذناي كأبواق، تنفض عنها الكف تراب سنين، من يتزاحم حولي؟ لم يتجمع هذا الحشد وينظر في؟ الشمس تميل إلى الغرب، عربتها المحمرة تتوارى خلف الجدران، مكتب البريد أمامي، أمامه السور الحديدي المنخفض، وبابه الصغير الذي طالما دفعته بيدي، خلفي ثلاث قباب بيضاء مدورة كبطون الحمام ، وعلى خطوات مني حجر صلد، يرتفع على كتف منصة، كالمذبح في قلب المعبد، الحجر نظيف لامع، والمنصة تنحدر بانفراج نحو الأرض، والعشب الطري يبزغ من الأرض، وتلون أطرافه أشعة صفراء ذابلة، تتناثر فيه نقر الماء وآثار الأقدام على الطين، تلسعني ذبابة، أريد أن أرفع يدي، فأكتشف القيد فيهما، سلسلة حديد صدئ تربطها باليد الأخرى، تؤلمني قدمي، تحز الجلد والعظم سلسلة أخرى أكبر منها: لو حاولت القفز فسأبدو كغراب يحجل، لن أجني إلا سخرية الطير المتربص بي.
لكزتني في جنبي أصابع خشنة كالحوافر: تبتسم وتضحك وتكلم نفسك؟ أولا تشعر بالهيبة؟!
أرفع وجهي؛ كي أعرف مصدر هذا الصوت. يختلط علي الأمر، ست وجوه تحدق بي، ستة أجسام كجذوع النخل، أتفرس فيها، أنكرها، أتعرف فيها الأعين والجبهة والحاجب والأنف، نسخ واحدة من صنم واحد. رأيتهم من قبل، لكن الملبس يتغير، سترات بيضاء، حزام بني حول الخصر، يبرز منه مقبض خنجر. المقبض من عاج، يتوسطه فص أحمر ذهبي، السروال ملون، تجري فيه خطوط حمراء وبيضاء وزرقاء، في القدمين صنادل من جلد أو مطاط، تبدو منها الأصابع والأظافر المغبرة، ستة وجوه، ست لحى سوداء، ست عيون غائرة تذكرني بعيون الأسرى من بابل نقشت فوق جدار الكرنك، تلمس كف شعري وتشده، يتردد صوت واحد: رأس هش! رأس هش!
الآن تذكرت. - هل أنت على استعداد؟
يجيب صوت من خلفي: طبعا يا سادة. ألتفت إليه، يجلس متربعا على العشب، يمضغ ورقا أخضر، وجنته اليسرى منتفخة. - فات أوان التنفيذ. - ننتظر القاضي ورسولا من عند الجبار.
تلمع عيناه بذكاء فطري، فك مفتر عن بسمة طفل أو عذراء، شعر اللحية يبرز في غير نظام، الأنف قوي حاد، والوجه كحجر أثري ناتئ ينظر في خجل للأرض، كل عيون الناس تحدق فيه وتنتظره، يتدلى من الحزام الملتف حول وسطه سيف طويل في جراب، أراحه على الأرض وراح يمضغ بغير اكتراث.
طيبون هؤلاء الناس، طيبون وأصلاء صامتون أيضا، يتركون لك حرية البكاء، أيديهم الخشنة السمراء تشغلهم عن سقطات اللسان. الأنامل النحيلة كأسراب النمل، تتحرك ، تمتد وتقبض، تخزن وتفكر، تتكلم من غير كلام، طيبة هذي البلدة، والرب غفور، يتجول فيها شبح الزمن الميت، يتثاءب يتنفس يزفر أبخرة من مسك وعطور، في كل مساء يلمع فوق مآذنها سيف يحمله سيف، يهتف يتأوه ويرف، ويهب حريق فوق مآذنها في منتصف الليل وعند الفجر، تعلو ألسنة اللهب تسبح، تدعو بالخير وتنذر بالويل، تطوقها جبال سوداء كظهور مردة شامخين، أخذوا يهدهدونها على بحور الذاكرة والليل والشعر مجهولا ينظر فيه مجهولون (آه يا مدن الضجة والأحزان! حاصرني قيظ جحيمك، زحف على الطوفان، تختال القردة فيك، وتزهو بفحولتها الخصيان، أهرب منك إليك، وعن ظلي التائه أبحث بين النيران).
أسمع هرجا وسط الجمهور، يبكي طفل حط على عينيه جيش ذباب، وتنوح عجوز طيبة الوجه انكسرت في جبهتها سفن الأيام، ووقف الموت على الباب. يهتف شاب: عاش العدل! نصر الله الإسلام! تضطرب الأيدي الخشنة والأذرع والأجسام، تقترب من السور الشائك، تسري الهمهمة كشبح يجري في الليل الحالك. يقف حمار كان يتجول وحيدا، يمد الرأس والأنف، يحك رأسه بالسور وينهق، تتسلل عنزة خلال الصفوف ويتفرس في وجهها السامي المستطيل، باستغراب وصل القاضي ورسول الجبار، ترك السياف القات، ووقف على قدميه، ابتسم وخبط على صدره العاري، وتحسس مقبض سيفه، انحنت جذوع الشجر السوداء، وقدموا أنفسهم: نحن تتبعنا أثره، مجهول حاول أن يزرع في الأرض الطيبة بذور الفتنة، راقبناه وعرفنا سره، وذهبنا للجبار وأبلغناه أمره، ها هو مربوط في جذع الشجرة.
اقترب القاضي مني، ووقف رسول الجبار بجانبه يحمل أوراقا ملفوفة، نظر القاضي في وجهي، لمست كفاه كتفي، تمتم وتنحنح، حمد الله وسبح باسمه، كانت شفتاه تتحركان ولا يخرج منها غير حروف مقطوعة الرءوس، لم أفهم شيئا مما قال؛ سقطت في أذني بعض الكلمات: تلك حدود الله، فاحكم بالعدل، تقطع أيديهم، أرجلهم. كان وجهه كوجه فأر، على عينيه نظارة بنية سميكة تستند على أرنبة أنفه، فوق رأسه عمامة بيضاء ملفوفة بعناية، على كتفه شال حريري مذهب الأطراف، في عينيه أصرار تكسر حدته الرحمة والعطف. أما الرسول فكان يقف وراءه ويده على خنجره اللامع، بينما تدير اليد الأخرى اللفافة الصفراء المربوطة بشريط حريري أحمر. وجهه عريض بارز الوجنات، مكتنز من أثر النعمة، وعيناه واسعتان تلمع فيهما حدقتان شديدتا السواد يحيط بهما البياض. ما أشبههما بعيني الجبار! لم أرهما إلا في الصور والكتب القديمة، لكنهما أرقا ليالي ونفذا كالجمر بلحمي، عينان كعيني ثور هائج، واسعتان مخيفتان كبئر مسموم، معلقتان كدوائر النار في السحب، في الهواء، في أوراق الأشجار، شررهما المتقد يضيء فوق قمم الجبال، يلتصق بأحجار الشارع، يتوهج في البيوت وعلى الجدران، تتسلط على القرية في كل وقت وكل مكان، عينا نسر شرس منهوم، رفرف فوق سطوح المدن، تدلى منه سيف يقطر بالدم، يرعب حتى النمل الراقد في الشقوق والجحور، كم تلمع هاتان العينان فيسيل منهما طوفان الليل والخوف الأصم. ارتعدت، جرفتني قشعريرة الحمى، ربتت كتفي كف القاضي الحانية: هدئ روعك يا ولدي؛ فالعدل سيأخذ مجراه.
التفت إلى الحراس الستة، اهتز الصنم الأكبر وتكلم: مجهول دلف إلى الفندق في وقت مجهول.
سأل القاضي، لمعت عينا السياف: ماذا يفعل؟ - لا نعلم. يهذي، يهمس، يحلم.
صحت غاضبا: هل حرمت الأحلام؟!
هز الصنم رأسه، وانفرجت شفتاه: بالطبع. الأحلام الفاسدة بذور الفتنة.
استعاذ القاضي بالله: المؤمن لا يحلم. والعاقل لا يفشي أبدا سر الحلم.
تقدم رسول الجبار، وقال: عين الجبار على الكفرة، لا تخطئ منهم شعرة.
بدأ كبير الأصنام يشرح القضية، ويلقي التهمة: راقبناه مع الأيام، وصبرنا حتى جاوز سن الخمسين، وفحصنا الأحلام، ودققنا في الأوهام، ليتكلم كنتم معنا حين دخلنا في رأس القاتل، ورأينا الخنجر، ورأينا بركان الثورة يتفجر، طوفان الغضب يدمر، ورأينا مدن الأحلام يمشي فيها ناس من نوع آخر، قيم وشرائع أخرى، أفكار وعلوم تشعل نارا كبرى.
استعاذت الأصنام الخمسة من النار، تمتم القاضي وهو يقترب مني: ماذا تفعل يا ولدي؟ أتعلم؟ - بل أتعلم لا أزعم أني أعلم، حظي من زاد العلم قليل، وحصاد العمر ضئيل. - حياك الله! تكلم، ماذا كنت تعلم؟ - إن الإنسان كريم حر، الله استخلفه فوق الأرض؛ لينظر، يسأل، يعمل، يحتج ويرفض ويفكر. - نعم بالله. وتفكروا، وانظروا، وفي أنفسكم ...
اعترض أحد الأصنام قائلا: يا مولانا لا تغتر بقوله.
أسكته القاضي بإشارة من يده: هذا ما حث عليه الشرع.
تدخل صنم آخر: اسألنا نحن به أدرى، طفنا معه في أبهاء الحلم، وسمعنا همس الشفتين خلال النوم، ورأينا أسراب الطير الغاضب تخرج من كبده.
صحت: من كبدي، هل أنتم؟
قالوا بصوت الجوقة: نحن، تذكرت؟ أولم تسمع يا مولانا ما قال الآن؟
سأل القاضي: ماذا قال؟
قال أحدهم: يرفض.
قال الآخر: يندهش، ويحتج ويرفض.
قلت: شيء لا أخجل منه، ليس بإنسان من لا يحتج ويصرخ لا.
قال الصنم مؤكدا: هذا ثابت في الأحلام.
صحت بصوت مخنوق: أحلام لا تؤذي نملة.
هتف الصنم الأكبر الذي لم يستطع أن يخفي فرحه: والأحلام تفجر ثورة، وتحرك سيف الكفر بأيدي الكفرة.
استعاذ القاضي من الفتنة والكفر، تحسس السياف جراب سيفه، وعبثت يد الرسول بمقبض خنجره اللامع، تحفزت العيون، وساد السكون.
قال القاضي: أين هويتك يا ولدي؟
تقدم منه الرسول، وأحنى رأسه، مد يده في صدره، وأخرج حافظة بنية داكنة أخرج منها بعض الأوراق وقدمها له، تفحصها القاضي، ثم هز رأسه وقال: بيضاء. - لا اسم ولا عنوان، لا أتبين إلا كلمات: كن إياك.
أكد الصنم الأكبر، وهو يهز ذراعه في الهواء: ألم نقل لكم؟ مجهول يحمل رأسا مجهولا. يمضغ خبز الأحلام المجهولة، تخرج منه طيور الأحلام المجهولة. هذا خطر الأخطار، حمدا لله فلم تغمض عين الجبار، عن هذا الرأس الهش الثرثار.
وضع يده على رأسي، وشد الشعر، حتى صرخت. لمعت عين السياف، وطافت الرأس والرقبة، ضغطت وجوه الحشد على السلك الشائك، وعلت الهمهمة، خفض القاضي رأسه، وارتعشت جفونه، وجرت أصابعه قليلا على المسبحة قبل أن يقول: مجهول لا تعرف عنه هوية. اقرأ يا ولدي نص التهمة؛ تلك حدود الله، وهذا أمر الجبار.
انطلت صيحة من صفوف الحشد الواقف عند السور تماوج الزحام، وانشق عن امرأة تصرخ وتشير: انتظروا. انتظروا (لوح القاضي بذراعه)، ففتح الحراس سياج السور الصغير، اندفعت في ثيابها السوداء، وموجة شعر أسود ترف حول وجهها، تسلقت درجات المنصة الحجرية، تقدمت من الشجرة التي ربطوني بها، وتبينت الوجه، نفس بريق العينين، والوجه الشاحب كالقرص مدور، آه يا قمري الأوحد في ليل العمر.
سأل القاضي: هل تعرف صاحبة الوجه؟
قلت، وأنا أثبت عيني عليه: حلمي الأكبر، يسعى الإنسان وينسى، وينام ويحلم، لكن لا ينسى الحلم الأول.
غضب القاضي، دمدمت الجذوع الستة، اهتزت أغصان الأذرع، واضطربت أوراق الأيدي. هتفت صائحة: يا قاضي العدل، أنا أعرفه، أستحلفكم بالله دعوه.
ندت عن الجذوع السوداء ضحكة خشنة. ابتسم القاضي: ندعه؟ قد صدر الحكم أمر الجبار، وإن الأمر أهم. اقرأ يا ولدي التهمة.
بدأ الصوت يرتل البنود المدونة على اللفافة الصفراء. ثبت كياني عليها، فلم أصغ لما يقول. صدمت أذني كلمات المجهول، الأحلام، الثورة، أشواك الفتنة. نادتها روحي: أنت؟ تأتين إلي؟ وأرى وجهك وأكلمك وأسمع منك؟ الآن أموت قرير العين، حلمي الأوحد يتحقق فتذهب كل الأحلام، إني الآن أكفر عنه أمامك، هل تكفيك الآلام؟ ما زلت بآخر أنفاسي أذكر تلك الأيام. - وأنا أذكرها، كنا جيرانا. - كنت أعيش، أفكر، أتنفس لك كالصوفي الزاهد لا أقصد إلا وجهك، أقرأ ما أقرأ، أكتب كتبا عنك ولك. حين تمرين وألمح وجهك بالصدفة، ينفذ كالقمر الناصع من نافذة الشرفة، وتهلل سفني الغارقة على صخر الوحشة، أفرح كالطير المقرور، وتعروني الرعشة، وجد الطائر عشه أبدا لم تكترثي بي، ما صعدت النظر إلي، ما أحسست بيتم القلب، حين أتيت وزرت الأهل، سلمت عليهم ما سلمت، قالوا، قلت، وأنت لزمت الصمت، كنت أحبك أنت وغيرك ما أحببت، غيرك ما أحببت، غابت عيني وتحيرت، مر جواد اللحظة وترددت، لم يرجع أبدا، فات الوقت، فات الوقت، ركضت سنوات العمر وشرقت وغربت، طوفت بمدن البشر، عرفت، جهلت، نسيت، وغرقت ببحر الإثم طفوت، وتطهرت وعشت ومت. غيرك ما أحببت، تعبر أيامي المقتولة، أصحو، أعمل، أضحك، أحزن، وأنام ، لا أبصر إلا وجهك، إلا عينيك، ويقتل يوم يتبعه يوم، تقتل أعوام وجواد اللحظة مر، ولن ترجعه الأحلام، لكن أحيانا أحلم أنك جنبي، فأكلمك وأضحك معك، وأضحك من أوهامي، وأمد يدي باللقمة نحوك، أغلق شباكي حتى لا تؤذيك الريح، أشكو الأيام إليك، وسخرة أكل العيش، وأشد غطاء الفرش عليك، أقبل وجهك قبل النوم، أمر بيدك على أوجاع القلب، وأسحبها فوق الصدر، وأقبلها، وأوسدها رأسي لتنام. أنتبه لنفسي، أعرف أني كجنين في بطن الأم، يسألني عقلي: لم تتناول هذا السم؟ لم تستسلم للأفكار الثابتة وعقدة أوديب وسائر أمراض الوهم؟ ما أغبى العقل المغرور، وما أغبى الطب! يتوقف عند الظاهر، لا يسبر غور القلب، أحيا كالناس، وتحيين ككل الناس، وندور ونأكل، نسخط نرضى، نلقي الأولاد إلى العالم، نشكو ظلم الزوج، جحود الأبناء، الأهل، الأصحاب. ونسعى في أسواق الرزق، ولكن هل ينطفئ الحلم؟ الحلم الأول محفور في الجلد، اللحم، العظم. - هل تحلم أبدا؟ السياف أمامك، والسيف يهدد بالقتل. - هل ينجو الإنسان من الظل؟ - قرءوا التهمة، والتفوا حولك ليفكوا القيد. - يكفيني أنظر في عينيك. - لم جئت؟ ومن جعلك تدخل من هذا الباب؟ - لما أغلقت بوجهي الباب، سدت في وجهي الأبواب، ووقفت على باب العالم، أطرق، أطرق، لا يفتح لي، تنكرني السدة والأعتاب، ويطردني الحجاب. - العين بعين، والأذن بأذن، هذا هو نص الحد. - لا، لا داعي للأعين والآذان.
دوى الصوت في أذني، استطرد بعد قليل: نحن ننفذ نص الحكم، هيا يا سياف، وضع ذراعيه حولي، لفحتني أنفاسه الثقيلة، فك القيد عن اليدين، وانحنى ليفك الأغلال عن القدمين، هتفت حبيبتي: افتح عينيك!
همست: يكفيني أنظر في عينيك.
قال الجذع الأكبر الذي أمسك يدي اليمنى: نريحه من هذه اليد، تكفيه الأخرى. أمسكها السياف، هزها قليلا، لمس الرسغ، طلاه بدهان أسود، لمع حد السيف، ثم هوى. صرخت من الألم، ربت على كتفي: عندي لك زيت مغلي من أفضل نوع.
انحدر لأذني صوت: وماذا يعمل بهذه؟ يمكنه أيضا أن يستغني عنها، هوى الحد على رسغ اليد اليسرى. طش الزيت المغلي، اختلط صياح بنشيج بكاء، ضحكات تعلو، لا زلت أميز منها: يمكنه أن يكتب أو يرسم بالفم، هذا أيضا فن. تحسست يد خشنة ساقي اليمنى، أزاحت الشعر عند التقاء الساق بالفخذين، دهنتها بعلامة سوداء، وهوى حد السيف. لم أقو على الصراخ، حتى الكلاب تكف عن العواء عندما يذبحها الألم. في ضباب الغيبوبة تحدرت همسات وهمسات كقطرات المطر. تسقط الآن على رأسي، يتردد صوت: رأس هش! رأس هش! شدوني إلى المنصة، كفان ثقيلتان تقبضان على شعري، وتضعان جبهتي على حجر أملس ناعم، انداحت قطرات رطبة، الكف الثقيلة تدعك الرقبة، تزيح الشعر عنها، تدلكها بدهان لزج تغمض الأعين، تنكتم الأنفاس، تهرول أقدام الذعر بلا صوت، رأس هش! رأس هش! أبكي، أفتح عيني، وأتحسس رأسي.
العودة إلى بهو العرش
الدموع لا تزال في عيني، صدري يرتجف، وينشق كأرض روعها الزلزال، تلمس كتفي يد خفيفة، أفتح عيني فأراني أستند على جدار وأراه: أنت؟ - تحلم كالعادة بالناسوت والناموس؟ - أحلم؟ بل فزعني الكابوس. أتحسس ذراعي ويدي، أمد الساقين، أتذكر وأمر على رقبتي وأضغط على عروقها ولحمها بشدة. - حاذر! تخنق نفسك.
أضحك وأقول: كالعادة! يقترب مني وينحني علي، يتفحص وجهي، ويثبت عينيه في عيني، يسألني برفق: كيف وصلت إلى القصر؟
قلت: القصر؟ هل هذا ...
ضحك وضرب الكتف، وقال: سرت بنومك، حتى جئت إليه، سافرت وعدت من الأسفار؛ لتبكي جنب جدار.
جففت دمعة جرت على خدي، ونفذت في شفتي: كلب مكتئب يحتضر وحيدا بجوار جدار. مد يديه، فأخذني من يدي: تحلم أبدا، لا تعرف حق الجار على الجار. ينتظرونك.
سألت وأنا أنهض على ساقي، وأنفض الغبار عن رأسي وصدري وسترتي المبللة بحبات الندى: ينتظرون؟ من؟
ضحك وقال: جيرانك، في بهو العرش هناك. - جيراني؟ بهو العرش؟
ضحك، ومد ذراعه فتأبطني من ذراعي: هل ينسى الجار الجار؟ وأنا أيضا ...
قلت وأنا أضغط على يده: لا لا، لكني اشتقت لنايك، رحت أفتش عن ظلك في الساحة، قرب الشجرة.
سأل: ما هذا؟ عدت لأحلامك؟ إني أنتظرك منذ الفجر. زعموا أنك أفسدت حياتي ، قلت غريب مجهول، غضب مدير الفندق، هدد وتوعد: كيف تسرب؟ ليس لديه هوية، أين ذهب؟ - طفت بمدن الناس، وجبت متاهات القلب، وأشار العقل فسرت على الدرب، ها أنت تراني ألفظ أنفاسي بجوار جدار وكأني ...
غضب وصاح: لا تلفظها. يكفي تعذيبه لنفسه!
ضغطت على يده: معك الحق. أقسى من عذب نفسي هو نفسي.
أقبل على البوابة يفتحها، صرت ضلوعها الحديدية الصدئة، وتساقط عنها التراب، نظر إلي بخبث: مفتاح السحر معي، انظر! وضع الناي في ثقب القفل الضخم، قفل صلب مغبر، أهمله الزمن الأعمى، فتراكم عليه نسج العناكب، هتفت: تفتحه بالناي؟
ابتسمت عيناه، وقال وهو يعالج القفل العجوز: سحر، سحر. أنسيت كلام السيد؟
قلت: الناي يروض حتى الوحش.
ضحك، وقال وهو يخرج القفل من المزلاج ويدفع الباب: والغابة في الداخل، يسطع في ظلمتها العرش، ادخل؛ فوحوش أخرى تنتظر هناك.
خطوات إلى الداخل، ووضعت قدمي على العتبة. قلت قبل أن أنزل من على الدرج: كما تنتظر النار القش!
نفس القاعة والبهو، العرش يشع في آخرها كهودج ذهبي وسط السحاب الأسود، أشباح تتجول وظلال تتحرك في صمت، أتقدم في اتجاه العرش، كأني أتزاحم في موكب أرواح معتمة تنتظر القارب والملاح الشيخ، الجماجم كما هي تحت قدمي الكرسي، كبقايا حيوانات راكعة في ذل، والجالس فوق العرش استسلم للنوم، افتقد بريق عينيه الواسعتين الباردتين، أنظر في شعره الأشقر الجميل المنسدل على أذنيه، أتطلع للجبهة العريضة كلوح مصقول من الرخام، وهي مائلة على مسند الكرسي، تعب الرأس وغربت فيه الشمس! جاءت أجيال أخرى ورءوس أخرى، وانحدر القرص المتوهج في أحضان الظل، لا يبقى ملك فوق العرش، ولا يسلم نجم من زحف الليل. أتلفت حولي، أين الكهنة والسدنة في هذا المعبد؟ كانوا يقفون حواليه، ينتظرون الأمر من الرب الذي ابتلع نفسه وابتلعهم. ها هم يجلسون في صمت، لولا بصيص شعاع ينفذ من السقف، والنوافذ التي أسدلت عليها ستائر القطيفة الداكنة؛ لتعثرت فيهم، أغمضوا عيونهم وناموا مفتوحي الفم. هل ينتظرون من ينفخ نسمة ريح أو بركان، أو عاصمة تحييهم ، تنفض عنهم كفن النسيان؟ وما زالت الشجرة كما هي، ممتدة الغصون، جذعها المليء بالأورام والنتوء كجسد مجدور تمد جذعها في الأرض، وتتشبث بالطين. على الرغم من كل شيء؛ تملكني الخوف أخشى أن أرى العقرب يظهر فجأة، وينبش أصابع قدمي. كان قد تسلل أمام عيني إلى أقدام العرش وغاب بين الجماجم، من يدري إن كانت هناك عقارب أخرى في انتظاري؟ أصيح من الذعر: أنت! لم لا أسمع صوتك؟ ينساب الصوت بلطف: أنا لا أتخلى عنك. أسأل في ذعر: إني أتعثر في هذا الليل. لم لا تشعل شمعة لحنك؟ يتسلل صوت ينفذ في الجدران: لا يظهر نجمي الآن، دوري لم يقبل بعد.
أصرخ في أحجار الحكماء على الصفين: يا حكماء!
لا يتحرك حجر، لا يخفق صوت. أعود فأصرخ على أشرخ جدران الصمت! يا حكماء الزمن الغابر، عذرا، يا أنجم هذا الزمن الحاضر، يا حكاما في مملكة الأوهام، أصغوا لنداء رعيتكم.
يتثاءب أحد الأحجار، يفرك عينيه وينفخ في وجهي كالإعصار: من؟
أصيح: شبح يستنجد بالأشباح!
يدمدم غاضبا: هل تجلد حتى الأرواح؟
هتفت محاولا أن أهدئه: إني منكم، أهرب منكم وإليكم.
سأل في ضيق: ماذا تطلب؟ لم تنشلنا من بحر النوم؟ تصرخ وتثرثر وتهيل علينا اللوم؟ لا تزعجنا، أرجوك ولا تتبختر بين عمالقة العالم كالقزم!
قلت أكثر عن ذنوبي: لفظتني الأبواب، فجئت إليكم أتمسح بالأعتاب، نبذتني المدن الحجرية لا جيران ولا أحباب. قالوا ليس لديه هوية، لا اسم ولا عنوان ولا ألقاب.
قال: ومتى تعلم أن الفكر غريب يخطو بين الأغراب؟ يحيا في زمن لا يتقيد بزمان، يسكن بين الناس، ولكن لا يتقيد بمكان، يرسم وجه زمان لم يولد بعد، يهدي ويحرر من أسر المهد وسجن اللحد، يتلمس خلف رداء الحاضر نبض الأبد الممتد.
قلت فرحا: أرأيت؟ أنا أيضا أسمع هذا النبض، وأنظر في هذا البعد، ونهاية كل الأشياء أراها خلف بدايتها، فأرى العظم وراء اللحم، والكفن الأبيض في ثوب العرس. أنا أيضا رحت أحدق في عين الموت وأتحداه، يأتي أو لا يأتي لم أخشاه. حاولت ...
قال متذمرا وهو يتثاءب: ماذا حاولت؟
قلت مندفعا لأسرق انتباهه: حاولت على قدر الجهد، أن أبعثكم أحياء، وأذوب نفسي فيكم، أعجنكم بدماء القلب.
تحرك حجر آخر. مد ذراعيه إلى الأمام والوراء، ووضع يده على فمه؛ ليمنع تثاؤبه أو ضحكته العالية. قال بسخرية مرة: حاولت، وحاولت. لم تحيا أبدا في الوهم؟ لم تقفز من قمة حلم لتغوص بهوة حلم؟ عش يومك يا ولدي.
قلت محتدا: من قال بأني لا أحياه؟ إني أنظر.
قال بصوت ممدود يتحشرج من أثر النوم: خلف ردا الظاهر والحاضر؟! وهم، وهم. من بؤرة هذا الحاضر تبصر ماضي الأزمان، وبعين الظاهر تجد اللب الكامن في الأشياء وفي الأبدان، وعلى مصباح الحاضر تهدي للدرب الصاعد في أحشاء الأيام. أوهام، أوهام. عض بأسنانك فاكهة الحاضر!
قلت كأني أعاتبه: من لا يحمل تجربة الزمن الغابر، فلن يدرك معنى الحاضر. ها أنا أحمل فوق الكتفين جبال الأجيال، وأوجه وجهي للخلف وأستقبل غرر الآمال. من لا يشرب خمر الآباء فلن تسكره كأس الأبناء، من لا يأكل زاد الآلاف من الأعوام، فلن يتذوق خبز اليوم الراهن أو ما يأتي من أيام.
تلوى صوته وتمطى كسلحفاة هرمة: حفنة كلمات من مقبرة الأموات، أد الواجب نحو اللحظة، وتعلم مما فات. لم تجزع من شبح الآتي؟ ما هو آت آت.
قلت منتصرا: ها أنت تردد كلماتي! في القطرة سر البحر، في اللحظة سر الأبد الهادر كالنهر، فيها الجنة إن شئت وفيها النار.
تثاءب بصوت مرتفع انبعث منه أنين كمواء قط عجوز يبعد اليد التي تعبث بشاربه ولحيته، وتطرد عنه النوم: اذهب يا ولدي، عد من حيث أتيت، وترفق بظلال عبرت وعظام. اذهب، اذهب، أكمل سمرك في مأدبة الأبد، ونادم كأس الأحلام.
قلت أناشده كلمة، كالشحاذ يريق الدمع، وماء الوجه ليأخذ من كف بخيل لقمة: يا أرباب الحكمة، قولوا كلمة، مصباح الحكمة صار يشع الظلمة، حاولت أن أكلمكم، أنتشل قواربكم، أنشر أشرعة خواطركم في وجه الريح العاصف بالنقمة، أخلع عنكم كفن النسيان، وأستحلفكم بالإنسان، أجعل منكم شاهد صدق فوق الزمن الطافح بالبهتان. معذرة، فاض القلب بما يحمل فانطلق لساني.
جاءني صوته المتثائب، الذي يقول آخر ما عنده ليمنع كل كلام: نحن جسور يا ولدي.
أسرعت بالرد، قبل أن يسقط في حفرة نومه: أنا أيضا جسر تعبره الأقدام، بعد قليل ينسى أو تطويه الأحزان.
قال في حسم كبريق السيف: فابن الجسر بنفسك، ولكل زمان جسر ثان. وانس المطلق، لا تبحث عنه وسط زحام الفانين، الفاني.
سألت في حسرة: أولا يبقى شيء؟ هل الإنسان مجرد إنسان؟
قال في حدة ممثل ينهي آخر فصل في المأساة: لن يبقى إلا من حول نهر حياة الإنسان، ووقف بوجه الظلم الزاحف كالطوفان، أما التجريد ...
سألت: التجريد؟
قال: حاذر سم العقرب.
سألت بلهفة، وأنا أحرك قدمي في كل اتجاه خشية أن يكون العقرب قريبا مني. لم يتركني في ارتباكي، فقال: يلدغ صاحبه، فيعيش ويمشي بين الناس كميت في الأكفان، لدغ العقرب لا يشفي منه إلا سم العقرب.
ابتهلت إليه أن يفسر كلامه: ماذا تعني يا مولاي؟
قال وهو يسدل الستار ويسحب الغطاء: أعني ما قلت، عانق جسد الواقع، عض الحاضر بالأسنان!
سكت الصوت. على الشعاع الذابل في المساء، المتسلل في حياء من السقف والنوافذ مع آخر أنفاس الشفق الوردية رأيتهم هناك، متراصين كالتماثيل التي تحركت ثم سكنت، ملتحمين كأنهم جدار قلعة عتيقة في وجه الحصار. حياة متعبة، حفر عليها الزمن أخاديده، شعور مسدلة، ووجوه كالأقنعة الراقدة في انتظار المهرجان، يشع الجمال الحزين من بعضها كأنوار فنار وسط أمواج الليل والبحر، وتطل القتامة من بعضها الآخر كلعنات الشيخوخة، بعضها مستسلم راض، وبعضها ساخط مزموم الشفتين، حرص قبيل الموت على أن ينقش آخر حرف في لغة السخط على هذا العالم. رحت أملأ عيني منهم سنين أضعتها مع هذا، وشهورا في صحبة ذاك. أما الجالس غير بعيد منه، فما زلت أمني النفس لعلي أعرفه، وأحاوره وأزور الدار، والآخر في الصف الثاني، والثالث والرابع والخامس. لكن هل يتسع الصدر؟ أتمد عذارى القدر الساخر في خيط العمر؟!
صوت الأم ووجه الأم
هبت عاصفة، لا أدري من أين ارتجت النوافذ والستائر، وخشخشت الجماجم تحت العرش، سقطت أوراق فوق الأرض وارتجف القلب، كانت الشجرة العجوز قد اهتزت وترنحت، واستسلمت الأغصان المتدلية كأذرع الخاشعين في الصلاة لهبات الريح، ترنحت رءوسها بعنف، أخذت تقاوم في إصرار المهزوم، وتناثرت الأوراق على جانبي العرش فوق رءوس الحكماء أوراق خريف صفراء. تقدمت وخطوت بضع خطوات نحوها. انحنيت وأخذت أجمعها في بقعة واحدة. ربي! لم ترتجف يداي، كأني ألمس أشلاء متمزقة من جثمان؟ لم تسري الرعدة من كفي لذراعي للصدر، وتنفذ في القلب، فيخفق كالمجنون؟ تذكرت الحشرات التي تبتر أعضاء من جسمها، فتتركها وتمضي. هل تتلفت وراءها لتتحسسها وتدفق فيها، هل تحاول أن تعيدها لمكانها أم تشمها وتلعب بها؟ وبماذا تشعر أم تنظر في وجوه أولادها الذين يموتون أمام عينيها؟ هل خلقت لغة تستوعب هذا الموقف، وتعبر عن هذا الإحساس؟ أخذ الصدر يرتج كباب يطرقه الزوار الملثمون في الليل، مرت أصابعي على الأوراق تتحسس ملمسها، تتذوقها وتشمها، وتضعها على الأذن، كأنها قواقع تفشي سر البحر، وتهمس بنجوى الأمواج، وصل الشلال إلى حنجرتي، تسلق أحبال الرقبة، ثم تفجر وتناثر من عيني، بللت الدمعات خدود الأوراق، انساب بكاء الناي من الجدران، هذا تعب العمر ورق مصفر، ورق مصفر، ثمر مر، ثمر مر. كنت كأني المحكوم عليه بأن ينضح ماء من بئر ليصب ببئر، لا البئر امتلأ، ولا انطفأ الظمأ الحارق كالجمر، تعب العمر، تعب العمر. تبدو الأوراق، الكلمات، كأسراب النمل الخارج من جحر. تشعر بالزلزلة القادمة على نور الفجر، فتعاف جحور الكلمة، وكهوف الشعر، وتزور كهوف الفقراء، وتلسعهم بالسر، وتفتش عن مأواها في بيت العمل الحر! تعب العمر. - تتعب وحدك، تبكي وحدك، وتنام كما ودعتك وحدك، كجنين في جوف الرحم فلا تتحرك.
رسول الصوت يبارك سمعي كحنان الناي، أتوقف، أنشغل بتقليب الأوراق، أتذكر وأفكر. - يا ولدي، تعب العمر حصاد. - أرفع وجهي نحو الوجه الناصع عند الباب. يتألق خلف الشجرة كالبدر وراء سحاب. - أمي، ها أنت ترين حصاد العمر ؛ كم هو مر. - في عينيك فحسب، ارفع وجهك، كلمني.
جمعت الأوراق، أخذت أحصيها، أردت أن أرفعها إليها، هتفت بها. - هل ألقي الذنب عليك، أم ألقيه على نفسي، بلدي، زمني؟ - ومتى تتحرر من أسر الذنب؟ - لن أنسى يوم وداعك آخر مرة. يا للعصفور الطائش في قفص القلب!
أجري كي ألحق بالعربة، أجمع كتبي، مسوداتي، كومة أحذية وجوارب وملابس رتقت ثقوبا فيها بيديك، ولقيمات من بعض الزاد الكلمات المنثورة والمنظومة في مسبحة الرغبة والفكرة، أو في عقد الثرثرة عن المستقبل والثورة، أزمات الفن وأوجاع الشعب، في منتديات السمر الموصول مع الصحب، أهرب من ناموس القرية، من سأم الزمن الميت، من رعب الأب، تضعين القبلة فوق جبيني، فوق الخدين، أسرع لا ألتفت لقلق العينين، ولا أشعر بالمرض الزاحف نحو القلب، تقفين على الباب وداعا للطير النازح للغرب، سافر في طلب الحكمة، ها هو يرجع بحصاد الرحلة، أوراق لا تشبع نملة. - أذكر، لم نتلاق وأودت بي العلة. سافرت وجئت، زرت القبر، قرأت القرآن، ذهبت بعين مبتلة، أقسمت تصون العهد وترعى، يوم وداعك، حق القبلة. ظلت روحي معك تراقب نومك، سهرك، خيبة أملك في نفسك، بلدك، فيمن حولك، تكتب تكتب ما يمليه عليك القلب. - أكتب، أقرأ، يشقيني صمت الشعب، وضياع الكلمة في قاع الجب. - ما ضاعت كلمة حق أو كلمة صدق. لم لا تخرج من هذا القبو؟ - فشلي، خيبة أملي في الخلق. - لم تظلم نفسك؟ إني أشعر نحوك بالزهو. - فشلي كالجبل على صدري ووجودي هم، أبكي ضيعة عمري، ضيعة جيلي في سوق الوهم، بين الحاكم والحارس والشرطي العابس ضاع الحلم ضيعة. - قم وارو الأرض بعرقك وارو بذورك بالدم. اطرح أشواك العقم. ماذا تنتظر؟ - لقد شاب الشعر، جفت أغصان العمر، وشاخ الورق الذابل واصفر. فإلى أين أفر؟ - يا ولدي الصبر، ستدور الدورة يا ولدي، ويطل ربيع مفتر الثغر، وتمر يداه على شجرتك، فتخضر. - تخضر؟ - ويجيء الفجر، ربي. - أمي، ما زال الوقت. - قد قضي الأمر. أوشك ديك الفجر يؤذن فتفيق الطير. - انتظري، مدي يدك. - سيجيء الفجر، الفجر .
يتوارى الوجه، وينسحب النور، ووراء الشجرة يبقى صمت الجدران تختلج ستار. ينقر عصفور لوح زجاج النافذة، يطل قليلا، ثم يطير تتكاثف الظلال، وترقص في غيبة الشعاع، يفتح باب خلفي يرعد صوت غاضب: ليمض المجهول إلى المجهول ليس لديه هوية، لا اسم ولا عنوان، أفسد عقل صبي ساذج، أغوى المشرفة على الحمام، وأساء لسمعتها ولسمعة هذا الفندق، فليطرد من حرم المطلق. فليطرد من حرم المطلق لن نقبله، حتى يصبح نفسه. حتى يتحقق بالسر الأكبر: كن إياك ومت لتكون.
لمست يد كتفي، هتفت: أنت؟ همس: أنا أعرفك، تعال.
أخذني من يدي، دل خطاي في الظلام نحو الباب، سرنا نتعثر بين ظلال ورسوم، وتخرفش تحت أقدامنا الأوراق الصفراء، صرخ فجأة: حاذر! العقرب خلفك! ألمح عينيه تلمع كالجمر، وتتربص بك، أجر، أجر. فتح الباب بسرعة، خرجت إلى الشارع، الليل بدأ يزحف، ونسيم رطب يستقبل وجهي ويبلل شعري، يقف على الباب لا ينسى عزف اللحن الساحر. يسألني في لطف: إلى أين؟ أضع يده بين يدي، وأضغط عليها: هل أعرف من أين أتيت لأخبرك إلى أين؟ يربت كتفي وينظر في عيني: سأكون في انتظارك، وأعزف لك عندما تولد مرة أخرى! أغتصب ضحكة: تكفيني مرة! أرى النادل مقبلا يلوح بصينية تقفز منها يمامة تقف على كتفي. يشتد الجوع ببطني والظمأ في فمي، وفجأة تلدغني العقرب، تلدغني العقرب.
صنعاء، يوليو 1979م
الدمعة الرابعة: نم بسلام
بكائية إلى صلاح عبد الصبور
نم بسلام. يا شاهد عصري وضحيته، يا جرح العمر وأمل العمر، نم بسلام حتى نلقاك، نم بسلام.
الإنسان الإنسان عبر. لم يمض وحيدا. فسفينتنا عبرت معه للشط الآخر. حملت زاد الأحلام. وبقية نار تخبو تحت رماد الأيام، ماذا نملك بعدك إلا أن نتغطى بالآلام، أن نسأل روحك. يا روح الشعر! زوري أحبابك في ليل القهر، جودي بالمعنى والإلهام، مطرا يروي هذا الفقر، عودي. لا تنسينا، لا تتخلي، ففراقك مر، والوحدة بعدك في هذا القبر المأهول أمر، الإنسان الإنسان عبر، افترش الحصباء ونام، وتغطى بالآلام، فعليك سلام، وعليك سلام . •••
كيف رحلت يا أعز الراحلين، عن مجلس الرفاق والحديث ذو شجون، قد كنت أرجو أن أكون أول الذين يذهبون، كالظلل كالسحاب في سكون. فكيف أبكيك وليس لي بيانك المبين، والعمر قد تدلى من مشنقة الضياع والحنين، فارسنا الحزين، يا صوت جيلنا الممزق الطعين، يا أنضج الثمار في بستاننا الضنين، ودفئنا وشمعنا في عتمة السنين، ألن نراك بعد اليوم لن نعاين الجبين؟ والضحكة التي يضج فيها ألف فارس حزين، تمدنا بآية اليقين، ألن ترن بعد اليوم لن تطل من حدائق العيون؟ يا فرحنا وجرحنا الدفين، أي جنون غالنا أي جنون؟! •••
أرفض موتك يا من أحببت، كيف تغيب وأنت الحاضر ما فارقت؟ نبرة صوتك، ضحكاتك، لوعة نظرات من عينيك الواسعتين، شلال الحكمة يتدفق من قلبك فوق الشفتين، ومرارة سخرية تتحدى الموت. كيف يجوز عليك الموت؟ كيف أهادن كابوس الغدر الجاثم في «كنت»؟ كذب القائل ذات مساء أو ذات صباح: الموت غياب مطلق، وسن ممتد مطبق. أبدا لن تصبح لا شيء، فحضورك حي. دفء بين ضلوعي، جرح في قلبي، نور في عيني. لن تنقطع رسائلك إلي، وبأسرارك وإشاراتك ستظل تجود علي. رسمك معقود في عيني، صوتك مسموع في أذني. شخصك موجود وحواري ممدود معك إلى آخر نفس في. يا كأس لحظة بخمرة الخلود امتلأت، ووردة من شجر الليل نمت، ومن دموع الزمن الجريح أسقيت حتى ارتوت، يا زهرة من طينة السواد والأسى تفتحت، وبالندى تلألأت، لما تعرت للرياح والظلام والأشواك أدميت، مهما ابتعدت، فالبعاد لن يضيع نفحتك. «قد كنت عطرا نائما في وردتك، لم انسكبت؟»
انتظار
1
ها هو البيت وراءك. ما زالت رائحة الدخان والطعام وثرثرة النساء والرجال والضحكة الصافية من فم الطفلة البريئة تطاردك وتتشبث بثيابك. ما زالت الكتب فوق الرفوف، حجارة الألفاظ التي رجمك بها. وبقع الدماء التي تقطرت على الأرض دون أن يراها أحد، ما زالت كلها راقدة هناك كحيوانات متعبة تلوذ بالجدار، تستقبل نسمات الليل الباردة، فتخبو نار في داخلك وتتوهج. تشعر بنداها يتساقط على رأسك كما يتساقط على شمعة في آخر أنفاسها. تقول لنفسك: ها أنا ذا «أتحد بجسمي المتفتت في أجزاء اليوم المتفتت، أرقب جسمي يتحول دخانا ونداوة»،
1
يتدلى، مجروحا من سقف الليل الأزرق. ترفع رأسك وتتأمل النجوم المتراصة من سقف السجن الكوني. تهمس بسؤال الأعمى المكسور الخاطر: وهل يأبق الإنسان من ملك ربه،
2
وتتابع خلوات عذابك في اليوم الميت، تتداخل في جلدك كي تتجول في تاريخه، تسمعها تهوي في أطرافك ثقلا، ترجع مقهورا لتلم الأشلاء. وتلم أطراف القميص الأبيض، وياقته حول الصدر وحول الرقبة. - الدنيا برد. كان الأفضل أن تبقى هناك.
تحس بصوت الشاعر، وهو يحاول أن يمتد إليك كما يمتد الحبل لإنقاذ غريق. تنتبه للثلاثة
3
الذين يسيرون بجانبك مطرقين صامتين: الشاعر الكبير الأصلع الرأس، والشاعر المجدد الذي يشبه إخناتون، الناقد الممتلئ الطموح. تشعر أنك تهوي في جب معتم. يسرع الناقد بإدلاء حبل آخر: بالعكس. الهواء النقي هو ما يحتاجه الآن.
ترفع يدك لتتحسس موضع قلبك. تتأمل جسمك يتدلى من سقف الليل الأزرق.
يتلوى في جوف الجب الأسود. يسقط تحت سنابك خيل وحشية. يتفتت فوق الأسفلت. تتنفس بعمق وتتقلب السكين في صدرك. تنظر للصديق مبتسما: الهواء النقي هو ما نحتاجه جميعا. يخرج الشاعر الكبير عن صمته: خصوصا بعد يوم مرهق. تقول بعد فترة صمت: بالفعل. وتضيف لنفسك: بل يوم ميت. يسقط في أيام ميتة من أيام العالم مكرورة. يوم كذاب خوان، بعناه بثمن بخس، قايضناه وساومناه، ودفعناه للنخاس الأبدي، ثمن فطانتنا الصفراء. في الصباح والضحى تجمع في مكتبي أكثر من ثلاثين أو أربعين. ضاقت الغرفة على اتساعها بالثرثرة والدخان والضحكات وصليل أكواب القهوة والشاي، وطنين أجنحة الأشعار الزاحفة من الدواوين. بح صوتي من الكلام، كلت يدي من التأشيرات والتوقيعات، ضحكت كثيرا حتى أصبحت الضحكة غصة، نهرت حزني القديم أن يطل من ستائر الجفون، أمطرت الجميع بحكمتي ودعاباتي المرة، حلقت فوق سفوح الصغائر والأكاذيب، وتوقفت وحيدا عند القمة كالنسر الجارح والمجروح، تسللت كفي آلاف المرات لتمسح عش النسر الأبيض كالثلج، يتهدل فوق السالفتين كشلال فضي، لكل واحد كتاب أو ديوان أو مجموعة قصص يستعجل ظهورها لتغير وجه العالم، وكل واحد يتسمع طرقات أكف الملايين على بابي. وبقيت وحيدا كالأبطال القدماء، كالفرسان الحكماء المحزونين، كمغن سئم الجمهور ولزم الصمت.
تتتابع الخطوات، وتتهشم أصداء كعوب الأحذية على الأسفلت. تخوض الأقدام في ظلام الليل كأنها تخوض في نهر جف ماؤه. يعبر بعض المارة وتنداح أصواتهم في السواد والصمت. تتكسر مقاطع حروفهم على الرصيف كقطع الفخار. يا ليل يا ليل يا ليل.
تنعكس أضواء السيارات العابرة على عينيك فتهز رأسك: «أبعد رماح النور عني.» وتتثاقل أطرافك، تعلو الموجة، تطفر من عينيك، تصغر كالإعصار بأنفاسك. ترتجف الشفتان: «حزني ثقيل فادح هذا المساء.» يسارع الشاعر الكبير يقترب منك ويمسك يدك: لم يكن يقصد ما قاله. ترفع يدك في غضب مفاجئ: أرجوك. يشاركه الشاعر المجدد رأيه، ويغتصب ضحكة: قلبك كبير أكبر من كل ما قال. تمر بيدك على موضع القلب، كأنك تخرج الشوكة من موضعها. تحس الوخز، وتملك نفسك من أن تلفظ آه. يشارك الناقد صاحبيه في محاولة يائسة لانتزاع ضحكة منك: كم عذبناك بكلامنا. كم ناجيناك بألفاظ، كم آلمناك. لكن قلبك الكبير ... تتحسس موضع الصدر، وتلتفت إليه بعينين تقطران لوعة وموتا، تعاسة وصمتا. تحاول أن تنزع الشوكة، وتزم الشفتين من الألم، تهم أن تقول: حصل خير. تغالب الضحكة فيغلبها الحزن كوحش يجثم فوق غزال. تصعد بصرك إلى السماء التي تتواثب فيها السحب السوداء، وتخنف أنفاس النجوم الفضية، تطوف بعينيك كتل الليل الساكنة كقطط سوداء، تسمع صوتا في داخلك ينوح: «حزني ثقيل فادح هذا المساء. حزني غريب الأبوين. ويلتوي كالأفعوان يعصر الفؤاد، ثم يخنقه. وبعد لحظة من الإسار» يا ترى هل يعتقه؟ تبتسم للصحاب، وتحاول أن تضحك وأنت تتحسس صدرك: «معذرة يا صحبتي قلبي حزين.» يسارع الشاعر المجدد والناقد في صوت واحد: «من أين آتي بالكلام الفرح؟» يؤمن الشاعر الكبير على قولهما ويهتف وهو يربت على ظهر الشاعر، الذي يمشي بجانبه: راوية وشاعر. عندما نرجع لن أتركك، حتى تروي عني أيضا. وعندما تموت سنبني لك قبرين وشاهدين.
يضحكان وتتردد أصداء الضحكة على الفم، وتجاعيد الوجه، وأطراف الثياب، وتتناثر مع حبات الهواء البارد. يختلس الناقد نظرة حانية إلى وجهك. يلمح انقباضه بالألم. يرفع صوته ليداري غصة انزلقت في حلقه: «حزن تمدد في المدينة. كاللص في جوف المدينة.» يقاطعه الشاعر المجدد محاولا أن يستدرجك للكلام: «حزن ضرير، حزن طويل كالطريق من الجحيم إلى الجحيم. حزن صموت.» ثم تستغرقه موجة من الغناء فيمد صوته: «والصمت لا يعني الرضاء بأن أمنية تموت وبأن أياما تفوت، وبأن مرفقنا وهن، وبأن ريحا من عفن، مس الحياة، فأصبحت وجميع ما فيها مقيت.» ويضحك وحده فتتفتت ضحكته وتتهاوى على رصيف الشارع كالزجاج المكسور. وتنعقد سحابة الحزن على وجه الصحاب، فيسدد سهمه الضاحك مرة أخرى، ويهتف: «سنعيش رغم الحزن نقهره، ونصنع في الصباح، أفراحنا البيضاء أفراح الذين لهم صباح.» يحس أن السهم خاب. أوشك أن يرتد إلى صدره، يختلس النظر إلى وجهك يتحسس قشرة الأحزان الصلبة التي التفت حوله، تتلوى الكلمات في حلقه، وتتبعثر على شفتيه. تتطلع إليه بعين غاب عنها بريق الدعابة، تسحب نظرتك من وجهه إلى أعماق بئرك الدفين، توشك أن ترد على سؤاله الذي يخاطبك بلا صوت: «لا تسأل الشيء الحزين أن يبين؛ لأنه مكنون. شيء غريب غامض حنون. لعله التذكار. لعله الندم. لعله الأسى. لا تسأل الشيء الحزين أن يقر؛ لأنه كطائر البحار لا مقر. وقل له لقد ملكتني. فتحت لك. صندوق قلبي الكليم. فلتقطر الدموع كالنغم.»
تعاودك شكة الألم. وخزها أقسى ما كان. تنعقد خطوط جبينك، وتفتح فمك لتقول لنفسك: «لا شيء يوقف المأساة لا أحد.» يصعد من أعماق البئر الأسود صوت يناجيك: «من لي بمن يجس ذلك الشيء الحزين جستين؛ لكي يرى فجاءته، ويستبين وجهه ومشيته؟!» تمد ذراعك وتستند إلى الجدار الأبيض المرتفع على حافة الرصيف. تتحامل على نفسك وتسأل: أليس هذا هو المستشفى؟ يلتفون حولك منزعجين، يسرع الشاعر الكبير ليقترب منك ويمسك يدك: لم المستشفى؟ أنت بخير. تقول مداعبا بينما تفاجأ بيدك اليمنى وهي تستقر على صدرك: زيادة الخير خير. ألم بسيط. للاطمئنان. يصدق الناقد على كلامك. نعم لن نخسر شيئا . ما دام المستشفى قريبا. ينبهه الشاعر الكبير: قريب؟ إنك تلمس جداره. يقول الناقد وهو يتأبط ذراعك: على بركة الله. هيا بنا. تحاول أن تمد الخطى، أن تبدو في مظهر من لا يحتاج لكتف يستند عليها، أو لذراع تمسكه حتى لا يسقط. تتأوه في صوت مسموع: آه ما أثقل جسمي الليلة! تقتربون من البوابة الحديدية. تتلفت وراءك، وتمسح نظراتك صدر الليل وخصلات الشعر المنسدل على كتفيه: يا ليل. يا ليل. يا ليل. «عبرت بي آلاف الأقدام الهمجية. أقدام الأفكار الهمجية والنيات الهمجية، فتآكلت وشهوت. يا ليل. يا ليل. يا عين. داويني أيتها الغيمات الفضية. برحيق الأنداء الفجرية.»
يسبقك اثنان من الصحاب إلى الممشى المفضي إلى باب المستشفى. يتوقفان عند حجرة الحارس الليلي ويسألان عن الطبيب المناوب. تلمح رأس عجوز أشيب وعينيه الضامرتين تطلان من كوة زجاجية. تتجه مع الشاعر إلى سلالم الدرج الرخامي اللامع ببقع الضوء والظلال الرمادية الساكنة على صفحته. تحاول أن تبدو خفيفا، وأنت تحرك الأطراف الثقيلة كالأصفاد. تضع على فمك قناع ابتسامة تكشف عن المرارة ولا تخفيه، وتقول لنفسك: «حزني ثقيل فادح هذا المساء.» يقهقه الملثم الشرير ولا يسمعه أحد. يتسلل الطارق المجهول وراء الخطوات الصاعدة على الدرج ولا يراه أحد.
2 «رباه! ما سر هذه التعاسة العظيمة؟ ما سر هذا الفزع العظيم؟» ينفلت الناقد والشاعر المجدد، ويجريان بحثا عن الطبيب - يبقى الشاعر الكبير بجانبك - يمد ذراعه بين الحين والحين ليتأبط ذراعك، أو ليمر بيده على يدك فلا تطاوعه. يهم أن يفتح فمه؛ ليستأنف الحديث الذي بدأه في أول الليل عن مشروعات فيحتبس اللسان. يوشك أن يكرر السؤال عن الندوة التي اشتركت فيها قبل حضورك، فيواجه بابك الموصد. تتراءى أمامه مسوخ الكلمات التي ألقيت في وجهك، فيخفض رأسه إلى الأرض. الهواء في المدخل لافح، وأنفاسك المتهدجة تتوالى متقطعة كأزيز النار في الحطب تزيده لفحا. تطوف عيناك بالعجائز والأطفال والرجال المنتظرين على الأرائك، بالممرضات اللائي يسحبن المحفات وتشم رائحة الدواء والمرض والانتظار الممض، والموت المتربص خلف الأبواب والجدران الناصعة البيض . يشتد الوخز عليك، ويرفرف شيء في صدرك فتقول لنفسك: الطير الأسود. يكون الشاعر قد عثر على كرسي، فيجره نحوك، ويدعوك للجلوس. تشكره وتغالب ضحكة لا تريد أن تخرج: «شكرا يا صاحب هذا البيت.» يمد يده إلى جيبه ويخرج علبة سجائره، ويقدم لك منها وهو يضحك: «نورا يا صاحب هذا البيت.» تحس أصابعك ترتعش، وهي تبحث في جيب السراويل عن القداحة، تخرجها وتلتقط سيجارة، ثم تعيدها إلى مكانها، وتشعل له سيجارته. يؤيد الكلام مخاوفه: الأفضل أن تؤجلها لما بعد الكشف. يكفي ما أحرقت الليلة. تبتسم بمرارة: وما احترقت. تغمض عينيك قليلا وتفتحهما. تتطلع من نافذة المدخل، وتنظر في ساعة يدك. يسارع الشاعر قائلا: لا تقلق، لحظات ونعود إليهم. تتردد في ذاكرتك أبيات قرأتها قديما: انتصف الليل. وزمن الانتظار فات. وأنا أنا وحدي،
4
تغمض عينيك وتدير وجهك للحائط، وتتابع صدى أبياتك القديمة التي اندفعت إليك بغير ترتيب: «هذا المساء. أدرت وجهي للحياة، واغتمضت كي أموت. في هدأة السكوت، قد آن للشعاع أن يغيب. قد آن للغريب أن يئوب.» تندفع أصداء بيت قديم كنت تحب ترديده: وكل ذي غيبة يئوب. وغائب الموت لا يئوب
5
تتوالى الأصداء الأولى: «للمركب الجانح أن يرسو على شط قريب. للجدول الناضب أن يفضي إلى نهر رحيب.» يقطع الشاعر حبل النغم مؤكدا: بعد الكشف سنرجع حالا. ما هي إلا دقائق ونعود. لا تنظر في الساعة. أرجوك. تنظر في الساعة، وتندهش لقفزات عقاربها تتمنى لو كانت مي ومعتزة
6
في الفراش، أو لو كانتا بجوارك، لو وضعت يدك على رأسيهما وكتفيهما وتخللت بأصابعك شعرهما وقبلتهما كعادتك قبل الذهاب للنوم. تتمنى لو كانت هي أيضا بجوارك. تسألك عما تريد، فتقول لها: «أن تكوني لي إلى الأبد، وأن تكون مقلتاك آخر الذي أرى من الحياة.» تلسعك الوخزة في الصدر، ويشتد لغيب القلب، فتمد يدك كأنك تبعد هواجسها: «كل شيء يا حبيبتي يهون، ما دمت لي إلى الأبد.» تتخيلها تضع يدها على قلبك فتقول: «حينما يكون قلبك الكبير جنب قلبي، فالبحر لا يفصلنا، والنار لا تخيفنا، والموت ...» وتتوقف لتسحب نفسا عمقا يتدحرج في لهاتك كجدول يشق طريقه بصعوبة في الأحراش. وعندما تقع عيناك على الصديقين القادمين عن يمين الطبيب ويساره تتحشرج في أنفاسك المناجاة التي لا تستطيع أن تتمها: ينبئني تهز رأسك، وتنفي أنك في شتاء هذا العام. وقدة الحر المتلظي في ليل الصيف تعطيك الأمل، تعود للمناجاة التي ستقطع بعد لحظات، والتي بدأت فتتخللها ملامح الناقد الجادة، وابتسامة الطمأنينة على وجه الشاعر المجدد: «ينبئني هذا المساء أنني أموت وحدي، ينبئني هذا المساء أن هيكلي مريض، وأن أنفاسي شوك، وأن كل خطوة في وسطها مغامرة، وقد أموت قبل أن تلحق رجل رجلا، في زحمة المدينة المنهمرة.» تقول لنفسك وأنت تنهض بصعوبة وتمد يدك للطبيب: «أموت لا يعرفني أحد. أموت لا يبكي أحد.» •••
طويل ونحيل أسمر، حاجباه الكثيفان يقفان كحارسين في ملابس السود أسفل جبهته الضيقة المربدة، ملامحه صارمة، وعليها آثار الإرهاق والحس المفرط بالمسئولية، يقدمه إليك الناقد، بل يذكر اسمه: الدكتور ... ويقدمك إليه وهو يضحك باطمئنان الواثق، ويربت بيده على ذراعك: شاعرنا الكبير ... تسلم عليه بيد لا تستطيع أن تمنعها من الارتعاش. يوسع الأصحاب مكانا إلى الوراء، يرجوك الطبيب أن تصحبه إلى غرفة الاستقبال، يلتفت خلفه ويطمئن رجلا مرتبك الأعصاب في أواسط العمر: لن أتأخر. ثم يلامس ذراعك، ويقول وهو يبتسم: «خير إن شاء الله.»
يستأذن الصحاب في الدخول معك، فيشير إشارة مهذبة: لن نتأخر تعب بسيط. ثم ضاحكا وهو يتفرس الوجوه القلقة والعيون الشاخصة: أمراض العصر. من أدرى بها من المثقفين؟ تلتفت إليهم وتجاهد لسحب قناع الثقة المطمئن على وجه انسحب عنه الدم واللون: طيب دقيقتين. تنظر في ساعتك بسرعة. يقترب منك الناقد والشاعر الكبير ملهوفين. تحب أن تذهب لهم وتطمئنهم؟ تمط شفتيك مرجحا الفكرة، ثم تقول بسرعة: البركة في الدكتور. لن نتأخر بإذن الله. يؤكد الناقد: أنت بخير، لا داعي لإزعاجهم الآن. يضيف الشاعر المجدد: كلها ثوان وتكونون في البيت، تغيم سحابات عابرة على جبهتك وخديك، ترتد النظرة للباطن تجس الشيء الحزين ، وتمر على جناحي الطير الأسود الراقد مفتوح العينين. تشير إليهم إشارة ترج الجسد الثقيل: شدوا حيلكم. يضحكون ويرتفع صوت هاتف: دائما أنت أنت نفسك. دائما مرح اتكلوا على الله. تقول لنفسك وأنت تتجه مع الطبيب إلى الغرفة المواربة الباب في الركن القصي وتفحص بعينيك وجوه المرضى على الأرائك، والأيدي المسندة إلى الصدور والخدود، والمحفات العابرة في المداخل والطرقات أمام أبواب المصاعد، والعيون الجاحظة المستسلمة للمددين عليها: إلى المصير. ينفذ بصرك في الجلد والثياب وتضيف: «الطارق المجهول ملثم شرير. عيناه مسقيان بالسموم. والوجه من تحت اللثام وجه بوم.» يبتسم الطبيب في وجهك وهو يفتح الباب، ويدعوك للدخول فيدوي صوت في سمعك: «إلى المصير، والمصير هوة تروع الظنون.»
3
يشير الطبيب إلى السرير الأبيض الصغير في جانب الغرفة، يصفق بيديه، فتمرق من باب داخلي ممرضة صغيرة الوجه، ضيقة العينين، سريعة الخطى، تتقدم نحوك وترجوك أن تخلع القميص. عندما تلاحظ ارتعاش ذراعيك تمد يدها وتساعدك. تنظر إلى وجهها الصغير، وتطيل النظر، تتمدد على الفراش، وتتدلى قدماك من الطرف الآخر، وتحدق في السقف. تقرأ في طبقات الطلاء المتآكل صورا وتهاويل ونقوشا: وجوه مغمضة الأعين، جدران بيوت تتصدع، بوق ينفخ فيه طفل على هيئة ملاك مكسور الجناحين، سفن تذهب ولا تعود، شطوط لن ترسو فيها أبدا. يقترب الطبيب ويمد يده ليرفع القميص الداخلي إلى أعلى. يدق بأصابعه على الصدر والرئتين. يسرق النظر إلى عينيك وملامحك ويحاول أن يوقف المرارة التي تسيل منهما. يضع السماعة على أذنه، ويدق من جديد على الرئة اليسرى. ينفتح فمه ويغمض عينيه لحظة. يعاود تحريك السماعة من أعلى إلى أسفل، ومن أسفل إلى أعلى. تنغرز السكين عميقا في الجرح، وتنفلت الآهة التي حبستها طويلا. ويرف جناح الطير، وتتسع عيونه. نظرتك لا تخطئ الخطوط والتعاريج المنعقدة على جبهة الطبيب، لا تخطئ سيهزم بصره، وتربد ملامحه الدقيقة السمراء. تهم بسؤال ثم تسكت. تزم شفتيك كما زم شفتيه. يسألك بعد تردد، والسماعة لا زالت تفحص وتهمس له بالنبأ المكتوم: هل شكوت قبل هذا من القلب ؟ يتحرك الوخز في الموضع القريب من السماعة، تثبت عليه نظرتك الحادة المستسلمة: أبدا. أبدا لم أشك منه. يأتيك صوته الممدود في حنان مبالغ فيه: وما الذي كنت تشكو منه. تمط شفتيك وتقول وأنت تبحث في تاريخ جسدك: المتاعب العادية. يحاول الطبيب أن يغتصب ضحكة لا تلبث أن تتهاوى ثقيلة على فمه: متاعب المثقفين؟ تفكرون أكثر من اللازم. تحاول أيضا أن تجاريه، فتقع الضحكة مكسورة النفس والجناح على الملاءة البيضاء الناصعة: كما تعرف؛ القولون العصبي. آلام الأسنان ... يقاطعك الطبيب وهو يرفع سماعته ويتركها تتدلى على صدره: والتدخين. تسرع وتقول: طبعا طبعا. يسألك بأدب جم: تكثر منه؟ ترد باقتضاب، وتتمنى لو تشعل واحدة: للأسف.
يتجه إلى مكتبه، ويضع السماعة في حقيبته، تطلب منك الممرضة أن تنهض وتساعدك على ارتداء القميص الصيفي الأبيض. يتناهى إليك صوته من بعيد، بعيد، خير إن شاء الله. استرح قليلا. يأمر الممرضة بصوت أقرب إلى الصراخ: لماذا تتعبينه بالوقوف؟ استرح يا أستاذ، ولا تنهض من مكانك. سأعود حالا. يتوالى الوخز وتؤلمك الشوكة. تتابع نظرتك الممرضة التي انشغلت عنك بأدوات وعلب وزجاجات على المكتب، وظهرها النحيل يتدحرج مع كل كلمة: كورامين. ثم وهي تستدير نحوك باسمة: لن تشعر بأي ألم؟ تسحب عينيك إلى داخلك. تتصاعد خطى اليوم المرهق وتذكاراته إلى أطرافك كالرصاص الصدئ الثقيل. يتصاعد معها الندم على الساعات الضائعة واللحظات المقتولة. تتجول في مبنى التليفزيون، والذي قضيت فيه ساعات. دائما وأبدا نفس المصيدة. تستدرج إليها، وتشارك في مأدبة الثرثرة وتأكل لحما عافته نفسك منذ زمان. هناك تحدثت عن الغربة «إننا الأغراب في الفقر الكبير». غربة المثقف في أوروبا. زهرة العمر وقنديل أم هاشم. وأديب الخارج من جوف الهرم وأنفاس الموت الأبدي ليصدم بهواء الحرية، ويحترق بشمس الجنس المسعورة. «القطيع غاب راعيه، وطالت رحلته. وهو في بيداء لا ظل بها.» وحوار ممطوط يتهدج فيه صوتك، تتحشرج أنفاسك وهي تحاول أن تنفذ في غابات الشوك المغروزة في صدرك، وضحكات لم تستمتع بها، وثناء تتأفف منه، وبطولات حققها أبطال موهوبون، وما أغناك عنها. وتنادم غربتك وتسقيها وتنادمك. وتقول لنفسك وسط الأضواء على مرأى من فرسان العصر: «أسعى وراء الشمس، والشمس في ظهري.» ويختلس الحلم نظراته إلى شمس أخرى ومدن أخرى، إلى حياة التفرغ تحت شمس كمبريدج الشتوية،
7
إلى العودة لمشاهد عنترة
8
الذي لم يتم ويحتاج لجو آخر وهواء آخر وفرسان غير الفرسان، إلى مشارف الخمسين،
9
التي تنتظر أن تكملها بذكريات وذكريات من زمن الجراد والاكتئاب والضحكات المغتصبة، وجيل الموتى قبل الموت، إلى وجوه تتذوق طعم البسمة، وعيون تحلم، وتعمل لمدن المستقبل، إلى أجساد خلقت للحب، وعرفت سر المعجزة، لكن جاء الغيلان. تنتبه إلى ظل الممرضة التي تقف أمام سريرك والحقنة في يدها. تبتسم وتقول: أقل من ألم الشعراء. لن تحس بشيء. تمد ذراعك الأيسر، فتقول: أقل من ألم الأيمن. تمر بقطعة قطن في يدها اليمنى على العرق المنتفض: عرق لا يتعب. يدعو للشك. تضحك الممرضة، وهي تغرز الإبرة بتؤدة وبراءة: سمعت عن رجل يقول: أنا أشك، فأنا إذن موجود. ومنذ ذلك اليوم، وأنا أشك كل من يرقد على هذا السرير. توشك أن تنفجر الضحكة، فيتهدج صوتك ويشتد سعالك. تنزعج الممرضة. تطمئنها بعد أن تلتقط أنفاسك، وتقول بعد قليل: لو شككت ديكارت لأصبح رجلا عاقلا. تسأل الممرضة: من تدرك غلطتك؟ وتعتذر: حكيم الله يرحمه! تتجه الممرضة إلى المكتب، وتضع الحقنة في طبق كبير من الصاج لا زال البخار يتصاعد منه. تستأذن وتنصرف من الباب الداخلي. تتذكر أنك كتمت سؤالا كان يلح عليك. تسري غيمة التسليم في عينيك، وتثني ذراعيك على صدرك، وتشبك كفيك على موضع القلب. تغمض عينيك وتترك الذكريات والمرئيات وأبيات الشعر تتزاحم عليك كالفراشات السوداء، تحاول أن تطردها عبثا، فيجذبها الحريق المتوهج في صدرك «وضع النطع على السكة والغيلان جاءوا». تزاحم حولك «كهان الأروقة الكذبة، اصطفوا حولك كالدببة. تلاغوا بالكلمات الرواغة كذباب الحانات. لما سكروا سكر الضفدع بالطين. انطلقوا في نبرات مكتظة». وتسلوا بترامي الفقاعات القذرة والألفاظ الفظة، لاكوا لحم الكلمات المطعون، ونهشوا لحمي، باعوا أنفسهم للأصنام الكذبة، واتهموني أني بعت لهم نفسي. آه ماذا أجدت كلماتي حتى تقتلني الكلمات؟ ماذا أجدت رحلة عمري في أعماق البحر؟ أخرجت لآلئ أهديها للفقراء البسطاء، طيبة بيضاء ولامعة وبلون القلب، جاء الغيلان العشرة والغيلان الألف، غاصوا في مستنقع ألفاظ وشعارات عفنة، رجموني بالألفاظ، وطعنوا قلبي بسيوف الكلمات النتنة - «عجزت عن عوني معرفتي، لم تنفعني فلسفتي» كسرت راياتي، وتهاويت إلى القاع أمام الزوجة والأطفال وحيدا عريانا. ماذا أفعل؟ ماذا يبقى لي من تعبي الخاسر؟ هل يسلم حتى الشعر؟ ينتفض الطير الأسود، وينادي الجرح على السكين. تتسلل الممرضة على أطراف قدميها وتقترب من السرير وتنظر إليك. تسأل هامسة: هل نمت؟ تفتح عينيك وتهم بالنهوض، فتشير إليك ألا تتحرك. تعقد وتزم شفتيك وتهز رأسك، وأنت تقول: «تصارعت والهول وجها لوجه، ولكنني ما عرفت الفرار.»
4
لا بد أنك نمت قليلا بعد خروج الممرضة. فها أنت ذا تفتح عينيك، تفركهما، تحس أنهما محمرتان كعادتهما عندما تؤلمانك. ولا بد أنك حلمت بأنك سفينة يهدهدها الموج، وتشتد عليها الريح، فتغرق ويغطيها الماء، هل رأيت أيضا الفئران تهرب منها؟ وهل شعرت بمحنة الربان الذي يكون - هو والفنان - آخر من يغادر السفينة الغارقة؟ لا بد أنك كنت تنتفض غضبا، وتدق أجراس الخطر، وتتحدى الموج الذي يرتطم على جسدك، وينثر رذاذه الملحي البارد على ملابسك، ويزمجر سخطا؛ لأنك لا تخضع لمشيئته. فها هو صدرك يرتجف، والموجة إثر الموجة تتصاعد في داخلك، وتضغط على رقبتك، وتريد لو تظفر من عينيك وأذنيك، وجسدك كله يستحم في مائها وملحها. تفتح عينيك على الجدران البيضاء الخرساء، تتحسس حديد السرير البارد، تطل من النافذة على كتل الليل المتراصة كجبال سوداء، تهمس في سرك: «الله لا يحرمني الليل ولا مرارته.» تتمنى لو يسعف مولاك الشعر، فتمسك باللحظة، وتكبلها في قيد الوقت، كي تتأملها في خلوة، أو تسمعها في صمت. لكن الشعر يفر ويوغل في الوحشة، فتلجأ إلى خزانة ذاكرتك التي لا تحفظ منه كثيرا . وتحاول أن تسند ظهرك على الأعمدة الخلفية، أو تعدل من وضع المخدات تحت رأسك، فيقعدك العجز، ويشتد لهاثك، وتضطرب الموجة في صدرك، وتفور وتحرك شفتيك التي لم يبلغها القيد، ولم تثقلها الأصفاد، وتوشك أن تبكي على الجسد المهزوم، لولا أنك تنكر هذا الضعف على نفسك: «لكنني مجرب قعيد، على رصيف عالم يموج بالتخليط والقمامة، أكسبني التعتيم والجهامة، حين سقطت فوقه في مطلع الصبا.» تحاول أن تتقلب على جنبك؛ لتضغط الشوكة التي عادت تؤلمك، وتحاول أن تثني الذراع، وتجس بيدك سطح الموجة التي ترتفع، وتلطم حاجز الضلوع، لكنك تفاجأ بأن الذراع لا تستجيب لإرادتك، وأن العزم لا يصل إلى الأطراف. رباه! أهو الشلل؟ هل تتحقق نبوءة شعري أم نبوءة قدري؟ هل أقضي ما بقي من العمر قعيدا يجتر تجاربه المرة؟ تلقي بصرك للسقف والحائط وزجاجات الدواء والحقن المرصوصة على المكتب، تصدم أنفك رائحة آسنة صماء لا تعرف كيف تسميها. هل شل الخاطر أيضا؟ تتطلع من جديد عبر النافذة التي لا ترى منها نجما ولا سماء ولا قمرا. ماذا كنت أريد من الدنيا؟ كنت أريد أن ألبس هذا الكون الأعمى ثوب المعنى، وأنغم هذا الزمن الموحش موسيقى. كنت أريد أن أجعل من نثر الأيام المتشابه شعرا يبقى، أن يحلو الإنسان بعين الله ويكبر حرا، يزهو بالتاج على رأسه، بالصدق النابع من نفسه. أردت أن أرى النظام في الفوضى، وأن أرى الجمال في النظام. وكنت نادر الكلام، وتطيل النظر وراء النافذة لعلك تبصر خيطا مختبئا خلف حجاب الغيم، لكنك تحمد نعمة ربك إذ أعطاك الليل، الليل الغارق في بحر حداد في بحر سواد في بحر الصمت الموت، ينتفض صدرك عندما تتردد الكلمة الأخيرة بصوت يفاجئك. يفتح الباب وأنت تردد بينك وبين نفسك بينما تسحب نظراتك من الليل والنافذة والنجوم التي لم ترها والخيط الذي لم تهتد إليه «تعالى الله، هذا الكون موبوء ولا برء. تعالى الله، هذا الكون لا يصلحه شيء، فأين الموت؟ أين الموت؟ أين الموت؟»
5
يدخل الطبيب الذي كان عندك منذ قليل على عجل. تتابعه بعينيك كأنك تتحقق منه: أسمر طويل ونحيل، على وجهه وجبهته صرامة وجدية لم تلحظهما من قبل. يهتف وهو يستدير: تفضل يا دكتور. من فضلكم انتظروا بالخارج. تطل رءوس تعرفها وإن لم تظهر من الباب إلا لحظات خاطفة. تلمح القلق على وجه الناقد والشاعرين. تتمنى لو تنادي عليهم أو تطمئنهم فلا تقوى على إخراج كلمة واحدة. يدخل رجل ناصع الوجه مستديره، تسبقه نظارات تلمع كالبرق بين إطارين من السحب السوداء. تظهر أسنانه البيضاء التي تنفرج عن صوت جهوري ضاحك: الشاعر الكبير؟ لا بأس عليك. ترفع حاجبيك دهشة، فيرتفع الصوت وتعلو الضحكة: طبعا لا تتصور أن الأطباء يعرفونك. ها أنت جئت يا سيدي لأسمع نبضات قلبك بعد أن قرأتها. يقف الطبيب الأول بعيدا، ويقدمه إليك: الأستاذ الدكتور ... أخصائي القلب المعروف. ينهره الثاني بإشارة من يده، ويقترب منك، ويسبقه نور أسنانه وابتسامته العريضة الصافية. تحاول أن تبدد الدهشة التي عقدت حاجبيك وتهمهم: أهلا و... لكن الصوت يتهدج ويخونك. ينطلق الطبيب قائلا: أرجوك لا تجهد نفسك، حتى الكلام ممنوع الآن. أليس غريبا أن أطلب هذا من شاعر؟ يفتح حقيبته بسرعة مذهلة وفي لحظة تتدلى السماعة على صدره. يقول وهو يمسح على يديك، ويمر بهما على رأسك المشتعل بتاج الثلج: أرجوك؟ لا تتكلم أبدا. هذا أغرب أمر يوجه إلى شاعر. أليس كذلك؟ قل لربة الإلهام أن تدير وجهها قليلا، أو فلأقل أنا ذلك. سأعمل كل شيء، والرب يدبر ما فيه الخير. فرصة سعيدة إن شاء الله. هل تعلم أنني كنت أتمنى أن أراك من وقت طويل. إي والله. قرأت كثيرا من شعرك وأنا طالب، وما زلت رغم مشاغلي أقرأ فيه. هل أفضي لك بسر؟
تبتسم وأنت تحس أصابعه تدق على صدرك ببراعة، وتلمس برودة السماعة وهي تلهث صاعدة نازلة على جلدك. يأمرك بصوت رقيق أن تسعل، أن تزفر، أن تشهق بقوة، أن تأخذ نفسا آخر، فتمتثل برغم الإعياء المسترخي في أطرافك وعروقك. لا تفارق الابتسامة الشاكرة فمك، وأنت تتابع ثرثرته الحبيبة ، وتنظر بحب إلى قسماته الوديعة الطيبة. يستطرد حديثه كأنه يتلو تعويذة ساحر يحاول أن يخرج جنيا عنيدا من جسد مريضه: هل تعلم أنني. أقصد أنني ... لم أكتف بقراءته والحياة معه، لقد ساعدني أيضا على الحب. طبعا تتعجب. أقول لك السر وأمري إلى الله، باختصار: أحببت بشعرك.
تسرح عيناك وتبتعدان عن وجهه قليلا. تغيم سحابة عليهما وتقول لنفسك: «الشعر زلتي التي من أجلها هدمت ما بنيت. من أجلها خرجت. من أجلها في أول المسا طعنت، وها أنا أعرض قلبي الذي أوجعني حتى بكيت، قلبي الذي ...»
تلاحظ أن الطبيب يترك السماعة على صدرك، ويتجه إلى زميله مقطب الوجه. يتبادل معه الكلام المتدافع كقطرات المطر المفاجئة بالإنجليزية، وتلتقط أذناك كلمة القلب التي تتقطر فيهما كالحديد المصهور. يخرج الطبيب الأسمر النحيل مسرعا ويغلق الباب وراءه. يرجع إليك الطبيب وهو يرسم نفس الابتسامة على شفتيه وملامح وجهه الذي لا يخفي الانزعاج. يستأنف كلامه وهو يواصل كشفه الدقيق، ويسرع فيه إسراع النبضات التي بدأت ترتجف، وترج صدرك: باختصار يا سيدي. أحببت بشعرك وتزوجت أيضا. «وجه حبيبي خيمة من نور. شعر حبيبي حقل حنطة.» نسيت بقية الأبيات. أرجوك لا تجهد نفسك. والآن انقلب على وجهك، حتى لا تتذكر فتثير في نفسي حسرات الحب. نعم هكذا. لم تصدق أول الأمر. أحضرت لها الكتاب المقدس، وقرأت معها في نشيد الأنشاد. بالطبع لم أنسب الشعر لنفسي. معاذ الله من الكذب. إما أثبت لها أن الحب نبع خالد، يلهمك ويلهم صاحب النشيد، ويلهمني أيضا. ساعدني شعرك أيضا حين أردت أن أعزز حبي، وقلت لها عن ظهر قلب: آنستي - لم تكن قد أصبحت سيدة بعد - «إليك قلبي واغفري لي، أبيض كاللؤلؤة، وطيب كاللؤلؤة، ولامع كاللؤلؤة، هدية الفقير للفقير.» ولا تسل عن تأثير صوتي، وأنا أقول أبيض وطيب ولامع وأقدم لها قلبي في ليلة لا أنساها، واتفقنا فيها على كل شيء. أليس غريبا أن أصبح طبيبا للقلب، وأن أستدعى الليلة من نومي لأعالج قلبك كما عالجت قلبي؟ استدر الآن خير إن شاء الله . إن شاء الله خير. كم اليوم من أيام المسيح؟ أعني في أي يوم نحن؟ ينظر في ساعته بسرعة. يخطف الكلام ويقول: الخميس. نعم، ثم يفرد تقطيبة حاجبيه وجبهته ويسأل مبتسما: اليوم الثامن من أيام الأسبوع الخامس في الشهر الثالث عشر. الحق أنني لم أفهم ما قلت تماما، ننتزع ضحكة خافتة من أنياب الحزن وتقول رغم أوامره المشددة: وأنا لم أقل شيئا. إنه بشر الحافي لشيخه بسام الدين. يصفق بيديه. معذرة لا وقت لدينا. سنتفاهم في الغرفة الأخرى حول ... من قلت؟ آه! أرجوك الصمت، لا دعي للإجهاد أو الحركة. أنت تقدر بالطبع. وستبقى يومين عندنا. يبدو الذعر على وجهك ويثب من عينيك. تهم بأن تسأل أو تعترض، فيشير بيده إشارة حاسمة: اطمئن. اطمئن تماما. إجراءات عادية نعملها كل يوم. تهم أن تحرك شفتيك، وترفع يدك، فيؤكد إشارته: أعرف أعرف. سنبلغ الزوجة الكريمة والأولاد. لماذا لا تريد أن تشرفنا يومين؟ على الأقل نتكلم عن الشعر، ونتعرف على الشيخ ... الشيخ ... يسرع إلى الباب الداخلي ويفتحه، يغيب لحظات تنشغل فيها بنفسك وتناجي بشر وبسام الدين. ها أنا ذا مقتول يا شيخي. في اليوم الثامن من أيام الأسبوع الخامس للشهر الثالث عشر. مقتول ولا قطرة دم. والسكين الألفاظ تشق اللحم. أي زمان هذا؟ لا يعرف فيه مقتول من قاتله، ومتى قتله. وأقول لنفسي: يا ليتك كنت خرجت. من مدن الموتى يسكنها جيل مات قبيل الموت. يا ليتك كنت ببشر الحافي في الصحراء لحقت، يا ليتك كنت لزمت الصمت. فتحسس رأسك. فتتحسس رأسك.
6
تتحسس رأسك بكف مرتجفة. تتطلع للنافذة وتشعر أن الليل المتربص يحصي من مكمنه الأنفاس. الليل القبر يمد غطاء الكفن على الناس. تهتف: يا رب الكون المشئوم. أدركني فالليل طويل تنعق فيه البوم. ها هي تصرخ وهي تحوم: جروك لبئر الكلم المسموم. تركوك وحيدا تغرق وتئن أنين يتيم. رجموك بلفظ كالحجر رجيم. كلمات في كلمات تنهمر كشلال هادر، نسجوا منها حبلا يلتف على رقبة شاعر. ورأيت الدنيا مولودا بشعا، فتمنيت الموت. والآن تنام وحيدا وعلى عنقك تلتف حبال الصمت. يا ليتك كنت لزمت الصمت. يا ليتك كنت خرجت.
وتعود تتحسس رأسك عندما ينفتح الباب فجأة، ويدخل الطبيبان والممرضة التي تسحب وراءها محفة تدور على عجلات. ويلمحك الطبيب، فيهتف: ألم نتفق على عدم الحركة؟ ويقترب منك وهو يجاهد أن يفرش ابتسامة على فمه: ألا يستمع الشاعر مرة واحدة لربة الطب والشفاء؟ ترن الكلمة الأخيرة في أذنك رنين قيثارة مجروحة على جبل بعيد. تتطلع للوجه الطيب الضحوك بنظرتك المفعمة بالتعاسة والسخرية. يتقدمون نحوك وهو يحذرونك من أي حركة، ويلف الطبيب الشاب ذراعك حول عنقه، ويدخل طبيب القلب ذراعه تحت خصرك ويحملك إلى أعلى، بينما تحاول الممرضة أن ترفع ساقيك بحذر، وتنزلهما على المحفة الواطئة. تنغرز الشوكة عميقة في القلب. يهم الطير الأسود أن يرفرف بجناحيه، وتتسع عيناه دهشة ورعبا. تتردد كلمة القلب، فتتذكر بيتا قديما وثب إلى صندوق الذاكرة منذ قليل: «أشقى ما مر بقلبي أن الأيام الجهمة، جعلته قلبا جهما.»
تخرج المحفة إلى القاعة الواسعة، فتسرع الخطى نحوك. هادئ أنت والليل والطارق المجهول والأصدقاء مسرعون، يتسابقون بجانبك وعينك ترعاهم، وتطوف بوجوههم وتحاول في صمت أن تمسح عنها آثار الذعر. يهمس طبيب القلب للشاعر الذي اقترب منه هو والناقد: غرفة الإنعاش. يبتعد قليلا ويسر إليها: أزمة حادة في الشريان. سأعمل ما في طاقتي. يهز رأسه كثيرا وهو يلاحق المحفة، ويؤكد لهما: العمل عمل الله. لا بد من إجراء سريع. نعم لا بد من حضورهم. نعم إن شاء الله. تلمح القلق يطل من العيون، فتقول وأنت تحاول أن تمد يدك لتصافحهم فلا تستطيع: ما لكم. شدوا حيلكم. يحذرك الطبيب وهو يعدو خلفك. يخبط الناقد كفا بكف. تطفر الدمعة من عينه، ويسند وجهه على الحائط. تبتعد المحفة وما زالت نظراتك تلمسهم وتجفف دموعهم، وتزيل غبار الذهول عنهم. تكاد النظرات تقول: «وما الإنسان إن عاش وإن مات، وما الإنسان؟ وهل من مات لم يترك له رسما على الجدران، وخطا فوق ديباجة وذكرى في حنايا القلب؟ وما الإنسان إن عاش وإن مات، وما الإنسان؟»
7
أنذرني من قبل أن يجيء. رفقا يا قاضي الوقت. مهلا يا ملاح الموت. يا من تعبر نهر الغربة والنسيان، أنظرني حتى أعزف بعض الألحان، أو أشرب نخب العمر على مأدبة الخلان، وأودع من أحببت وأختم آخر فصل في مأساة الأحزان، وأقوم خطيبا فيهم: إخواني، يا من كنتم أغلى الإخوان، أسألكم، أسأل نفسي: من نحن؟ وماذا نبغي؟ ما الإنسان؟ وإذا كان الإنسان هو الموت فما معنى أن نولد ونشيب ونلقى في الأكفان؟ وإذا لم يكن الإنسان هو الموت، فمن كتب عليه القسوة والحرمان؟ من أوقفه كالمسجون أمام السجان؟ إن كان الإنسان. هو الموت.
تسرع المحفة على عجلاتها وبجانبها الطبيبان، وخلفها الممرضة الصغيرة لاهثة الخطى والأنفاس. أرقد في سكون وذراعي هامدة وأصابعي تتحرك شوقا للقلم وللأوراق. هل فات الوقت؟ هل أزف الموعد؟ أنصت يا طير الموت الأسود. أسمع دقات الطبل المرعد، تعلو تهبط تدنو تبعد. أنصت يا طيري الهاجع في عش القلب المجهد؛ فالنغم الهارب يتردد حينا، ثم يبدد، يتكسر فوق زجاج القلب ويخمد، يجمع أشلاء نشيد ضاع من المنشد: «أنذرني من قبل أن يجيء. تراب لونه الرديء.» أنذرني ولم أصدق نذره. أنبأني ولم أحقق نبأه. رأيته على الدوام يخفي عينه المختبئة، في طرقات المدن المهترئة، وفي حنايا الأعين التي تنم عن قلوب صدئة. أنذرني من قبل أن يجيء. لم أنتبه لوقعه البطيء. هل آن أن تدهمني خيوله المفاجئة؟ ترتفع دقات الطبل الخافت، حتى تصبح كدوي الرعد. تتلبد سحب الغبار أمام عيني وتبرق حوافر الخيل. دقات القدر الغامض أم دمع القمر على صدر الليل؟ تسرع المحفة، وتسلمني من درب مجهول إلى درب مجهول. تهبط من كون علوي في كون سفلي. يا ربات القدر الرابض فوق العرش، تغزلن خيوط العمر، وتصنعن نسيج النعش. مهلا يا ربات القدر ولا تقطعن الخيط الهش. لا تزعجن الطير الراقد في العش.
تشيعني النظرات الكابية والنظرات الحانية. يا أمي أين تراك الآن؟ ضميني واحميني من شر العين. وأنت يا حبيبتي الحنون. حبيبتي يا من دعوتها أغلى من العيون. هل يسعفك الوقت؟ أم يبلغك رسول الموت بأني مت؟
آه أزف الوقت، ضاع الوقت.
لا تعجل يا ملاح الموت بإغراق سفيني، الجرح ينادي السكين فلا تك أقصى من سكين. أتقول بأن الموت علينا مقدور، ذلك حق لكني أرفض هذا الموت الباهت حتف الأنف. كنت بسالف أيامي قد صادفني هذا البيت: الإنسان هو الموت. لكني لم أقبل أبدا أن يصدق هذا البيت. فتمردت عليه وثرت. ودعوت الله بأن يرفع عنا زمن الموت، أن يقسو، كي نزدجر، علينا، ويعلمنا أن نتمزق إربا أن نتفتت، حتى لا نمثل للموت، حتى يخرج من بئر الماضي الأسود طفل المستقبل ممتطيا مهر الوقت، ويجوز بقافلة الموتى أرض الموت، لأرض تبزغ فيها شمس الحرية في السمت.
عجل يا ملاح الموت ولا تخش القدر أو المقدور. إن تبد جبال الملح أمامك والقصدير، فسنحيا في أطراف الألم ونبلغ شط المحظور، ونجرب لحظة رعب قاس مر ومرير، حتى نرسو في جزر النور، نرسو في جزر النور.
تقف العجلات على باب الغرفة. تفتح عينيك على النور الباهر ينهمر من السقف على الأركان. تهتف من قلب خنقته أمواج الظلمة والصدفة: أواه يا مدينتي المنيرة.
8
مدينتي المنيرة. «مدينة الرؤى التي تشرب ضوءا، مدينة الرؤى التي تمج ضوءا.» تلوح بعد طول الانتظار. تكشف عن نجومها وراء الغيم والضباب بعد رحلة العذاب والدمار، يا كم خرجت بحثا عنك كاليتيم، مطرحا أثقال عيشي الأليم، وملقيا وراء ظهري بالأنا القديم. أقول كلما بدت أبراجك الحسان والمنار، ولوح الملاح سيد البحار، للمركب الذي أضنته طلعة الشموس والأقمار، ورحلة الضياع في عيون الليل والنهار: «حجارة أكون لو نظرت للوراء، حجارة أصبح أو رجوم.» هل آن أن أرسو على شطوط الحلم؟ أأنت يا مدينة الجمال والجلال وهم؟ أم أنت حق؟ أم أنت حق؟
أرقد في فراشي الكليم، عريان كاليتيم، مجردا من النقوش والألقاب والرسوم، تطوف في خيالي السقيم حلمي العقيم حلمي القديم، أن تفتح السما أبوابها عن نبأ عظيم. «وها أنا ذا أستدير بوجهي إليك، وأبكي لأن انتظاري طال؛ لأن انتظاري يطول» أيا أملا قادما من وراء الغيوم. أغيب في غياهب الضباب والدخان، أسأل عنك النسر مرة والأفعوان، وأسأل الشيوخ والكهان، عن شاهد يدل عن صداك في الزمان أو خطاك في المكان. وبعد رحلة العذاب في البحار والقفار، وبعد طول الانتظار، أراك يا مدينتي زاخرة الأنوار، أبعث من تابوتي القديم في مدافن التذكار أبعث فوق صدرك الطهور كالأبرار، أرضع من نهديك نور العدل والحرية، أطعم من كفيك خبز العدل والحرية. بعد طول الانتظار. بعد طول الانتظار.
تتزاحم السحب عليك، فترفع يدك محاولا أن تبعدها. تتصور أنك راع يحمي بعصاه القطعان الطيبة من الذئاب. ينتهي إليك صوت الطبيب محذرا كأنه ينفذ من أستار الضباب: أرجوك. أرجوك. تنظر من خلال الغيم المتناثر حولك كالقطن، تندهش وتعجب مما حولك: أجهزة تلمع في أيديهم، وعقارب تجري وتدور، أكواب وأنابيب وخراطيم يستقر أحدها في فمك، يخرج منها ليدخل في فتحة أنفك. تتنفس عطرا أزرق، وتحوم فراشات حول الأنوار، ربي ما هذا النور!
يعملون. يعملون صامتين. أيديهم تغزل ثوبي المسحور. أفواههم نادرة الكلام. كذا يكون الناس في مدينتي المنيرة، كذا يكون الناس في بلادي جارحين كالصقور. لا. لا. كم جرحوني في زمان غابر قديم! كم غرزوا السكين في فؤادي الكليم في فؤادي اليتيم! لكنني أسامح. أغفر زلة اللسان والعيون والجوارح. ورحلة العذاب علمتني الصمت. أهل بلادي طيبون. قد يجرحون كالصقور، يقتلون، يسرقون، يشربون، يجشئون. «لكنهم بشر، ومؤمنون بالقدر. وحين يسغبون يطعمون من صفاء القلب. وحين يظمئون يشربون نهلة من حب. ويلغطون حين يلتقون بالسلام. عليكم السلام. عليكم السلام. ففي ذرى بلادنا يرفرف السلام.» ومن ذرى بلادنا يرفرف السلام. أهل بلادي طيبون يعملون صامتين. وفي مدينة الأنوار يعشقون يعرقون يزرعون، وحين يملكون. إرادة الإنسان أن يكون. لن يشغلوا أنفسهم بالموت والقضاء والقدر، ولن يحدقوا ك «عم مصطفى» في لجة الفراغ والسكون، سيفرحون يضحكون يرقصون في مواسم الزواج والحصاد والمطر، وعندما يجيء الموت لن يخافوا طلعته، فالحب - يا حبيب - قد أزال شوكته، ومرت الحرية الخضراء فوق جرح العدم المهين، وها هو الجرح القديم يتحدى طعنة السكين.
تتحرك شوكة ألم في صدري. تطفو الموجة بعد الموجة توشك أن تغرقني. يبغي الطير الأسود أن يخرج من حلقي. يبغي أن يخنقني. ها هو ذا ينهض ويرفرف. ها هو فوق الجرح يحط ويسقط. اهدأ يا طيري الأسود، أبعد منقارك عن كبدي، واختر غصنا آخر من شجرة جسدي. اهدأ أرجوك ولا تنقر في حبة قلبي. دعني أجمع ما يتناثر من خطبي. وأجدل من شعري عشا ترقد فيه بجنبي. وتعال لنصنع نغما يشجي قلب طبيب يأسو قلبك ويداوي قلبي. اسمع يا طيري غنوة حبي: «والعالم الذي أريد. أريد للرجال أن يعانقوا الرجال دون حقد. العالم الذي أريد. أريد للنساء أن يغفين وادعات، في أذرع الأزواج والأحباب والأبناء، العالم الذي يصبح الأطفال، نورة الأمل، بنغية الحنان والدمى وبالقبل. العالم السعيد، راحة الأجيال، في سعيها قوافل الأجيال نحو عالم سعيد.»
انظر يا طيري الأسود! هل تلمح نور مدينتنا، نور المستقبل؟
الزمن الآتي بالنجمين الوضائين على كفيه: الحرية والعدل. الزمن الكاسر للذلة والظلم كما تنكسر زجاجة السم، تتفرق شظيات لا يلتم لها شمل، الزمن المطلق للأنسام لتحمل حبات الخصب السحرية، وتفرقها في أرحام حدائقنا الجرداء المختومة بالعقم. هل تشهد هذا الحلم، أتلحظه لحظ العين؟ أم تحسبه رؤيا الغارق في قاع النوم؟ يا طيري الأسود قم. هل تلمح مدن الأمل وراء الغيم؟ أم هي وهم؟ أم هي وهم؟
تتكاثف سحب عاتية تصدم رأسك. يتخللها برق لا يلبث أن ينطفئ ويطفئ حسك. تتجمع سربا من قطعان بيضاء وسوداء، سفنا ترتطم على الشطآن وتتفتت في الخلجان، وتصارع جبل المردة والحيتان، تهرب منها الفئران ويبكي البحارة، لكن يبقى الربان، يبقى الربان، وحيدا يكشف للريح الغاضب ستر الصدر العريان، يحمل بين يديه المصباح الواهن فوق الطوفان. يا هذا الربان! يا هذا الربان! غرق الغرقى قبل الغرق، وسقطوا في القيعان، هرب البحارة والفيران، والجرس المعول من ناقوسك لن تسمعه الآذان، أنقذ نفسك يا ربان، أتمثل دور الفرسان المحزونين الشجعان ، ذهب الفارس والفرس وغطاه رماد الأزمان، يا ربان! يا ربان! ماذا تصنع يا ربان؟! - أنتظر الزمن الآتي بالسيف المبصر والميزان، لأزف النور لركب الشجعان، وأضع التاج على رأس الإنسان، الإنسان.
تطفو فوق الموجة، تتشبث بالسرج المزبد والموجة فرس رهان، تنزلق على ظهر العالم، تهوي تهوي في كهف لم تسكنه الجان، كهف سكنته القصة والأحزان يتصاعد منه دخان، يتصاعد منه دخان. ترتفع على ظهر الموجة، تتنفس فوق الماء كأنك سمكة صيد فرت من وجه الحيتان، هربت من شبكة صياد كي تقع بشبكة صياد ثان، تختنق وتسقط في القيعان، تتأمل جسدك يهوي في بئر أحمر قان، ينتفض، يحاول أن يهرب منك، فتتماسك نلقف حبلا يمتد إليك كثعبان، تخرج من قاع البئر، وتتجول وسط حقول ومغان، تلمح شبحا، أشباحا تدنو منك فتهتف يا أصحابي، يا أحبابي، أتراكم غبتم عني، وتخليتم يا خلاني (تهتف لن يسمعك الجيران، لن ينتبه لصوتك قاص منهم أو دان).
الطبيب يتمتم: ربي! رب الميلاد ورب الموت. ويراقب أنفاسك ويعاين نبض القلب الطبيب الآخر يتأمل وجهك ويهمس: يا رب. الممرضة تذهب وتجيء، تحرك أنابيب وتحضر أنابيب وتنشج: يا رب. وأنت تطفو على الموجة وتنزلق، تمتطي ظهرها وتسقط، تمسك بلجامها الفضي ويفلت منك. تتزاحم الأشباح حولك. تقرب وجوهها من وجهك. تعرفها، تتفرس فيها، وتناديها بالصوت المفعم بالكتمان: إلي إلي. يا حلاج. ثبت قلبي يا محبوبي. يا سيدنا القادم من بعدي. أدركني أو لن تدركني يا ليلكة الظل، أميرة روحي وجروحي، تنتظرين؟ ماذا تنتظرين؟ يا عشري السترة! مد يديك وأظهر لون القدرة، اصبر يا طير الموت الأسود. نقر في صدري، لكن أبعد منقارك عن حبة قلبي. أمي يا أمي. أين تراك وأين أبي؟ نادي يا أم عليها لتكون بجنبي. يا شجرة عمري نور العين رفيقة دربي، غطيني ضميني مدي كفك، داوي قلبي. تهوي في لجج الإغماء، يشح الضوء، وتبتلع الملح، تعض على لحم السر الهارب كالسمكة في الماء، تدخل في حال الصحو إلى حال المحو، وتلمس قلب الأشياء، تصبح خمرا، خبزا أسمر ، نورا، خصلة شعر ذهبي، أرضا وسماء. تختنق بسرك وتعض عليه، تصرخ - من يسمعك؟ - إلي إلي ! تعالوا يا أحبابي يا أصحاب الدرب، رفاق الجرح، إلي إلي.
يا أحباب. يا أحباب.
9
تنفرج أسارير الطبيب قليلا. يأخذ نفسا عميقا يكشف الغمة التي أطبقت عليه، وكادت تنسيه أن يتنفس. يراقب جهاز القلب ويحصي الأرقام، ويبتلع الغصة، فتغيب كحجر في الدوامة. يلتفت لزميله الذي يقف عند طرف الفراش كحارس ليل صامت ويهز رأسه. يتطلعان لوجهك ويرقبان النفس الذي يصارع التيار ويطفو على السطح. تلوح بارقة أمل خفي.
تفتح عينيك وتنظر حولك، ثم تغمضهما. وتتمتم شفتاك بصوت لا يسمعه غيرك: إلي إلي. - ها أنا ذا بين يديك. - الأميرة؟
تدخل كالنور الساطع. يتهلل وجهك وتضيء بعينك ومضة أمل دامع. سيدتي! سيدة الجرح الباسم كالفجر الطالع. ترقص شفتك وهي تتابع خطوات الحلم الرائع: «شمس في السمت. فيض عبير يسري فتبل ندواته جدران الغرفة.» مولاتي.
تهمس شفتاها: مولاي الشاعر! - «يتضوأ نحرك. حقل ليالك مرشوش بالنور. ويزغرد شعرك. خمر تنسكب على صفحة بلور». - شكرا. هل تذكرني؟ - «إن أنس فلا أنسى ثوبك؛ صفحة فضة، تتمرغ فيها شمس الصيف. إن أنس فلا أنسى جيدك؛ كومة ماس يتكسر فيها النور ويلتم.» - «ليلكة الظل أنا. عابدة الظلام». تكمل نغما تترقرق منها: «الزهرة التي تخاصم السنا وتعشق القتام.» ما زلت كعهدك والوجه حزين. ما زلت كعهدك تنتظرين؟ - لا أنتظر سواك. هل ينسى العابد معبوده؟ - من أنا حتى تنتظريه؟ - من أبدعني وبراني. هل أنسى من سواني، من عدم نسج كياني؟ يا خالق سري وبياني، قم لتراني. - خالقك كسير عاني، ملقى كالعدم الفاني. - ترخي جفنيك كأنك مهموم. في وجهك تتمدد غيمة ضيق مكتوم. هل أبطأ وحيك؟ - بل أبطأ نبض القلب وضاع يقيني. أترين شحوبي وغضوني؟ أسمعت أنيني؟ - ولهذا أشفقت عليك. خفت خطاه تسبقني ويجيء إليك. - من تعنين؟ - من قتل الزهرة ورماها في الظل سنين، من ألفاها في جوف التنين، من خيب أملي، كذب علي ومرت كذبته فوق مدينتنا كالإعصار المجنون. أنسيت سمندل؟ - أنساه؟ عشت حياتي أمقته وأعري وجهه. - لن تنفعه أقنعته. سأعينك. - لا شيء يعين، لا أحد يعين، عاجزة أنت كشاعرك المسكين . لن يخدعني الليلة، سأواجه ظلمه. - سبقتك خطاه ومد على صدري ظله. عشت سنين العمر، وعيني تتحدى عينه. أتسمع وقع خطاه كعابر ليل يسمع خطوات القتلة، لا أتذوق كأسا حتى ألمح فيها نصله. وكما يتوقع عار في طرقات الليل الصدئة، أن يدهمه المطر الهاطل فجأة، أتوقع منه أن يأتي الليلة، كالدائن يطلب دينه. - لن تتركك وحيدا. وقرندل لن يتأخر. ها هو ذا.
تجري نحو رجل يخطو في ضوء الغرفة كخيال بطل مهزوم. رجل رث الهيئة ونحيل، عليه تراب الفقر والسفر، في فمه المتحدي أغنية لا زالت تتشكل. تسرع نحوه هاتفة: ها هو شاهد مأساتي.
تمسح نظراتك وجهه الذابل وعينيه الصامتتين، وتمر على القيثارة المتدلية من كتفه وتبتسم: وأنا من يشهد مأساتي؟ - سيخلصنا منه قرندل ثق من قولي. فالشاعر يخفي الخنجر في سترته، وسيغرزه في صدره. تتحسس صدرك وتقول: أم في صدري؟
يقترب قرندل منك يلمس سريرك كما تلمس أم مهد وليدها. في عينيه الصامتتين حنان نبي يعرف قدره. غضب المنتقم يصمم أن يأخذ ثأره. يمر بأصابعه على القيثارة فترن خفقات لحن شجي، وترفرف في جو الغرفة. رفع عينيه كأنه يتابع سرب طيور مفردة، ثم يخفضهما لتلتقيا بعينيك: الكلمة أيضا يمكن أن تقتل.
تدير عينيك الغاضبتين تجاه الحائط، وتعض على شفتيك. يأتيك صوته: أغنيتي أقوى منه، لحني من خنجره أرهف. تعرف خبرا مني، سر الكلمة أمضى من حد السيف. تتردد أصداء غضبك، وتصطدم بالجدران، ينتفض جسدك، وتهتز رأسك وتتمتم: كذبة! قتلتني كذبة!
تنفجر حمم الكلمات في صدره، وتسيل صارخة من فمه: لن نسمح أن تتجدد تلك الكذبة. لن نترك تلك الحية تسحر ألباب الناس وتصبح قبة. طعنت قلب مدينتنا ذات مساء كذبة. فاسترخت مثقلة بالجرح. والليلة ... - الليلة صرعتني الكذبة، هل أجدتني الكلمات؟! هل أنقذني اللحن؟! - الليلة قد تهوي أنهارا وتلالا ومنازل لو ولدت في مساحتها أخرى. - تهوي فوقي وأنا أهوي. لن يجديني يا شاعر لحنك فارجع. - دعني ألقي ظلي في عينيه. وأغني من أغنيتي آخر مقطع. - انغرز النصل بقلبي. لن تدفعه أغنيتك عني.
تتحسس صدرك وتئن. يضطرب الطبيب ويمد ذراعه إلى زميله.
يشير إلى احتقان وجهك وعينيك يسرع بتثبيت الخرطوم الجديد في فمك، وبتثبيت عينيه، على عقارب الجهاز، تبكي الأميرة، وتميل على صدرك، تتسمع نبض الجرح. ذبلت زهرتك الليلية. ماتت أغنية قرندل، تستجير بالوصيفات فلا يستجيب أحد. تجري نحو النافذة فتصدها أكوام الليل، تعود وتندفع نحوك وتندب حظها على صدرك: أولا يكفيني في اليوم الواحد جرح واحد؟
يشتاق الجرح إلى السكين. يفزع الطائر الأسود، ويفتح عينيه. تهمس وأنت تتملى صفحة وجهها المتألق كالبلور: جرحي أعمق مما قدرت، وأوجع مما ظنت قيثار قرندل. أترين اللص الجاثم خلف قناع الليل؟ لن يفزعه صوت الديك الذهبي، ولن يطرده الفجر لن يرديه اللحن ولا الخنجر. آه قد سلمت. عودي أنت عودي لحياتك في قصر الورد قبيل آذان الديك. يا سيدتي وأميرة أحلام العمر.
إن يقهرني الموت فكوني أقوى منه، ومن ذل القهر. عودي للقصر كي يستجلي أتباعك طلعتك النورانية، ويشم رعيتك نسيم الحرية. فلتسرج أم الخير جوادك والعربة لتكوني معهم قبل الفجر. عودي. عودي. وارعي عهدي، عهد الشعر شاعرك قتيل مطروح. دمه مسفوح. فوق رصيف المدن الكاذبة القلب ينوح. عودي يا زهرة دمعي وجروحي. وانضمي للورد النائم في روضة روحي. لا تنسي قبل ذهابك أن تهبي قبسا من نورك، أو ظل شعاع من وهج جبينك فالنور شحيح. تقف الأميرة كالطيف المشلول، ترفع يديها إلى وجهها وعينيها لتزيح الدمع، وتمسح ظل الكابوس. تنعطف عليك، تقبل وجهك وجبينك وغضون الألم على وجهك وجبينك. تستدير وتنسحب على أطراف قدميها. ينهض قرندل من الركن الذي تكوم فيه، ويجر ساقيه وقيثارته الصامتة مدلاة بجانبه كالبلبل الذبيح يقفز ديك الفجر على جسد الليل الأسود ويصيح. تنفذ سيدة الأحلام المرة في بلور النافذة الشاحب، وتعود كما جاءت باقة نور، وردة حلم نبتت في بستان القلب المهجور. تثبت نظرتك عليها وتودعها وتقول: سلمت خطواتك نحو القصر. ولتعي يا سيدتي عهد الشعر. موعدنا؟ لا لا أدري. فقد انحسر النهر: قد ألقاك مع الفجر، أو في القبر. من؟ ضيف آخر؟ لا لا. الوقت تأخر؟ أي سر؟ لا شيء يعين. لا أحد يعين. أيلح عليك؟ عودي. عودي. يبتهل إليك ويتشفع بك؟ فليدخل هذا الضيف الآخر. رجل مجهول مكسور الخاطر؟ ومسافر ليل جاء يقول: سلاما لمسافر؟ آه! قد سلمت. قد سلمت.
10
سلمت وما سلمت.
فلا تكاد تغمض عينيك وتناجي نفسك، لا تكاد تتذكر سر الأحرف التي جمعتها يوما وتصفها أمامك، لا يكاد الطائر يهجع في مرقده، ويهدأ في عشه، وتأخذ نفسا عميقا، وتفتح عينيك المحمرتين بجمر الألم والوخز والانتظار، حتى تراه أمامك بطل الملهاة السوداء، ومهرجها المسكين. لا لون له أو أبعاد، الرجل الورقة، سقطت من شجرة هذا العالم ذات شتاء أو ذات خريف، لا تتميز من آلاف ملايين الأوراق، تنمو في رحم الليل، تحدق في عين الشمس، تتلوى تحت سياط الريح، وترتعش من الحاجة والبرد، تسقط لا يشعر أحد، لا تدري الأرض ولا الرمس. رجل رث الهيئة مرتجف الساقين، أجوف كالقصبة حافي القدمين، منخوب تصفر فيه الأنوار، أغنية الموتى الأحياء، تتلوى شفتاك اشمئزازا، تنوي أن تبعد وجهك عنه، يستعطفك ويوشك أن يركع ويقبل قدمك. تهتف في غضب: انهض. انهض. - لا تصرف وجهك عني يا مولاي. لا تحرمني نظرة عطف. - ما تبغي الآن؟ ما هذا الخوف؟
أرجوك اسمعني. لا تكسر خاطر ظل مكسور. - أولا يكفي أني جسدتك في الأوراق، أطلقتك فوق الخشبة، وتركتك تعرض مأساتك. - حتى انغرز بصدري الخنجر، لكني الآن عرفت السر. - السر! أي سر؟! - هل تضمن ألا يسمعنا أحد، حتى الجدران. - قل. لا وقت لدي. - حتى الوقت. هل يأمن حذر جاسوس الوقت؟ - قلت تكلم.
يقترب منك على أطراف قدميه. يتلفت مذعورا حوله. يرى الطبيبين عاكفين على الأجهزة غارقين في كابوس العمل الذي لا يرحم. يطمئن أن أحدا لا يراه ينحني ويهمس في أذنك: بعد فوات العمر كشفت السر. التهمة كانت خطأ. سامحك الله. - أفهمت إذن؟ - بعد فوات العمر. أنا لم أقتله . - يا للسخف! ومن القاتل؟ - هل تضمن ألا يسمع أحد؟ - قلت تكلم! - عشري السترة. هو قاتله ، جلس على عرشه. حتى قاطع تذكرتي ... - ما شأنه؟ - مسكين مثلي. هو في الواقع جلاد وضحية. نفذ أمرا لم يفهمه في إنسان لم يعرفه. والأدهى من هذا ... - ماذا؟ - إني لم أقتل وحدي. أوحى الله أو الشيطان إلي. - ومتى هبط الوحي؟ - بعد تمام اللعبة. - اللعبة؟ أظننت بأني ألعب. إني ... - اصبر يا مولاي أعرني سمعك، بعد سقوطي فوق الخشبة، بعد التصفيق وثرثرة النقاد مع الجمهور وثرثرة الجمهور مع النقاد، خرجت إلى الشارع، شبحا يتسكع بين الأشباح، لا أحد يحس بجرحي، لا أحد يجفف سيل دموعي ودمائي، هل تدري من صادفت على طرق الوحشة والقبح؟ - عشري السترة؟ - يقينا لا. هذا لا يبصره مسكين مثلي. - ومن صادفت؟ - موتى مثلي. ولدوا أمواتا، قتلوا كل صباح ومساء، لم يلمح أحد منهم قطرة دم تنزف منه، أو تلمع فوق ثيابه، شغلتهم أحزان اليوم وأوجاع الأمس، جمع الزاد ليوم موعود يزحف فيه الدود. لم يعنوا أنفسهم، حتى بقراءة نص التهمة، لم يشكوا الأمر لقاض أو مسئول أو سجان، هل تعرف سر الأمر؟ - سر آخر؟ - السر بسيط. الكل قتيل لا يدري من قاتله ومتى قتله. خدم معصوبو الأعين تخدم الخدام، وعبيد تسجد لعبيد عبيد. قلت لنفسي: مقتول من آلاف القتلى، من مليون ملايين، منذ سنين، ملايين سنين، والسيد ... هل تدري من؟ - من؟ - عشري السترة. يتربع فوق العرش وبين يديه زمام القدرة. يتنزل منه الأمر، ولا يعرف أحد أمره. هل تعرف ماذا قلت لنفسي؟ - ماذا؟
قلت لنفسي: ماذا أفعل؟ هل تملك شيئا حبة رمل في وجه الجبل المظلم، أو قطرة ماء تائهة في اليم؟ أدركت حقيقة نفسي وحقيقة جنسي، وبكيت بملء العين، وقلت لنفسي: ماذا تفعل؟ - حقا ماذا أفعل؟ لم يبق أمامي إلا أن أقتل أو أقتل. - أعلنت الثورة؟! - هل يعلنها من طعن الخنجر صدره؟ كان الليل ثقيلا والمحنة أثقل، فتسكعت قليلا في طرقات الوحشة، ثم رجعت. - لنفسك. - بل للمسرح. كان الناس قد انصرفوا والقاعة صمت وخواء. وطلعت على الخشبة وحدي أعرض ملهاتي السوداء. أعرض نفسي في مرآتي، كالأخرس يخطب في سوق الخرس، ويروي قصته الخرساء. رحت أمثل كل الأدوار بلا ترتيب، فأنا الآن مسافر ليل، قاطرة، قاطع تذكرة ومفتش، وأنا في نفس الوقت الناظر والسائق والحارس والحمال وجمهور المنتظرين. جمهور البسطاء الفقراء، حتى نفذ إلي الصوت. - الصوت! - صوت يأمرني أن أخرج من ملهاتي وأعود إليك. - إلي أنا؟ - أنبأني الصوت بأنك تتألم فأتيت إليك. قل لي ماذا أفعل؟ - نفس سؤالك وسؤالي. هل ينفعني في حالي؟ - بم تأمر؟ بم يشملني عطفك؟ - هل عندك للجرح دواء؟ ها أنت تراني يعصرني الداء. - ما أنا إلا خادمك وظلك، وصدى صوتك. أأسوي فرشك وأرتب عشك؟ أم أعرض فصلا من ملهاتي كي أمسح دمعك وأخفف وجعك؟ - ما أبغيه لا تقدر أنت عليه. - هل أستدعي أبطال التاريخ؟ ها هي ذي الأسماء، نقشت بحروف بارزة سوداء. هل يرضيك الإسكندر، قيصر، هانيبال، تيمورلنك والحجاج وجنكيز خان؟ هل أدعوهم؟ - القتلة. دعهم يا أحمق، لا تزعجهم في مقبرة التاريخ، ما أنا إلا أحد الفقراء، داستني قدم العظماء وألقتني حبة رمل في صحراء الدهماء. - أرأيت بنفسك؟ - مرني يا مولاي بشيء. أرجوك. - لونك يبدو مصفرا. فاذهب عني مشكورا. - عشت كما عاش ملايين المجهولين سواي، كجرادة حقل يا مولاي. ألهث سعيا خلف الخضرة واللقمة والماء، تسقط أيامي الجرداء بجوف ليالي السوداء، أما وجهي ... - وجهك ذكرني باللون الأصفر، واللون الأصفر يغشى عيني الآن، وكأني ألمح لون الداء ولون الطغيان، كنت حمامة أيك تدخل في معركة مع ثعبان، كنت فقيرا لا أملك إلا كلماتي أنثرها في أوزان أو ألحان، راحت أجنحة الكلمات ترفرف فوق السور وحول الجدران، تصطدم بأسلاك الزيف وأشواك الخسة والبهتان، حتى ارتدت للقلب وغارت فيه الأحزان. اذهب عني أرجوك. - تصرفني؟ إني جئت أقدم قرباني، أنسيت بأنك من عدمي سويت كياني؟ - لونك أصفر. - أولا تكفي تهمتي الأولى؟ - تهمتك الكبرى أنك موجود. وعقابك ألا تحيا إلا كحياة الدود. - ما ذنبي وأنا لا أملك حتى الزاد؟ هل يرضيك عذابي تحت سياط الجلاد ؟
تذروني الريح على أرصفة الزمن الضائع حفنة عدم ورماد، كجراد أهلكه الجوع يجر صغار جراد . - دعني، حول وجهك عني، واسقط في مزبلة التاريخ لتنتظر قضاءه. أنقذ نفسك أو فتش عمن ينقذك بعيدا عني. أنا لا أقدر حتى أن أنقذ نفسي أو بدني.
يتلوى الجرح وتسقط فيه السكين. تحاول أن ترفع يدك إلى صدرك، فتثبتها كف دافئة ناعمة الجلد. يثور غبار حولك. تتلبد سحب صيفية، يعوي الإعصار، وتختنق الأنفاس، ويسقط في عينيك غبار. تسأل نفسك: يا داري، يا دار الشقوة يا دار، هل زحف السيل الجرار؟
يقعي الزائر في الركن الصامت مكسور الخاطر. وكما سافر في الليل مع الوحدة والأحزان يسافر. يهمس في محنته: ربي، خرج العالم عن محوره، واختل الميزان. هل يعدله إنسان مثلي وأنا أضعف إنسان؟ ماذا أفعل؟ ماذا أفعل؟
تنتبه إلى صداه الذي يغيب شيئا فشيئا وتسأل نفسك: ماذا أفعل؟ تلتفت إلى الأشباح التي تقف بجوارك، وتتحرك أيديها ورءوسها في كل اتجاه وتسأل: ماذا يفعلون؟ تشتد العاصفة، يثور غبار، تربد السحب وتتجهم نذر الإعصار. يتردد صوت المسافر الذي انزوى شبحه في ركن الجدار، وتكوم على نفسه كحيوان محتضر وهو يردد: ماذا أفعل؟ ماذا أفعل؟ ماذا أفعل؟ تشتد العاصفة وينفذ صوت كالرعد: هجم التتار، هجم التتار.
11
هجم التتار. هجم التتار.
يرتفع صدرك وينخفض، تتحشرج أنفاسك كالريح المختنقة في أسرار الغابات. يرفرف الطير الأسود، ويضطرب جناحاه ويقاوم العاصفة، يعلو ويهوي مذعور القلب والعينين. لو تنفذ كفاك إلى قفص ضلوعك فتهدهده وتحن عليه حنان الأم على صدر وحيد؟ لكن الإعصار شديد، والأفق الغائم غطته الرايات السود، ودوي الطبل الأجوف يقترب ويبتعد ويذهب ويعود. تفتح عينيك الدامعتين، تحاول عبثا أن تنهض، تصرخ، يضنيك الألم، تئن، تتردد أطراف الجسد المكدود: جحافل التتار، واقفة هناك كالجدار، تسد عين الشمس بالغبار، تجلل السماء بالسواد والحداد والدمار، تزحف كالجراد كالإعصار، تفتك باخضرار العين والضمير والأشجار، إلي يا أحباب. قد أهلكني الدوار، إلي يا أحباب، فالتتار عيونهم تئز كالشرار. يرتفع أنينك فيثبت الطبيبان نظراتهم عليك، ويثبتان فتحة الخرطوم في فمك، يرتفع أنينك فيصحو المسافر من غفوته في الركن الداكن ويقترب منك: مولاي .
تشير بسبابتك إلى النافذة وتلهث: الأفق مختنق الغبار.
يتجه إلى النافذة وينظر، لا شيء سوى جبل الليل الأسود كالويل. - «والأرض حارقة كأن النار في قرص تدار.»
ينظر وينظر. الأرض قطة سوداء ملتفة على نفسها في عباءة النوم. - «وكتائبي رجعت ممزقة وقد حمي النهار.»
النهار لا يزال بعيدا، والكون يحتمي من الظلام بالظلام. - «الخيل تنظر في انكسار.»
حقا هي خيل الليل، تعدو وتسابق خيل الليل. - «والبوق ينسل في انبهار.»
تنبهر الأنفاس ولا أسمع إلا صوت الليل وصوت الليل عميق، اكشف عن وجهك يا ملك ملوك الصبح وأذن في البوق. - «والعين تدمع في انكسار.»
يتراجع عن النافذة، ويختلس الخطى إلى فراشك. تضطرب أنفاسه وهو يرى اضطراب أنفاسك. تلمح عيناه الدمعة تترقرق فوق الجفن، وتنحدر إلى الخدين. يمد الكف المرتعشة كي يمسحها ويحس بأخرى تلمس شفتيه. يقرب أذنا من فمك، ويسمعك تسر إليه: «زحف الدمار والانكسار. زحف التتار.»
يقف مسافر ليل كالصنم الأبكم، الوجه يطل عليك كوجه غراب أسحم، وتحول عينيك عنه لتنظر وجه القدر المعتم، يخفق كالطير الأسود في داخلك ويؤلم، في مطلع النهار خيمت سحائب التتار، والتهم الجراد خضرة الشباب، غالها بالخوف والاصفرار. هتفت يا أماه لن نبيد، يا أماه جففي الدموع قولي للصغار، غدا نشيد ما قد هدم التتار. ومرت الأيام. مرت الأيام واستقروا في الديار، وداست الأقدام في فؤاد الفارس الهمام، في فؤاد الفارس المغوار، وساخت الأحلام في قرار هوة بلا قرار، وضلت الخطى طريقها للدمعة البريئة، وأخطأت طريقها للضحكة البريئة، وانكفأ النهار في ضحاه كالعجوز ينكفئ في ساعة احتضار. سمعت من يقول هم هدية السماء للفانين من أمثالنا، لحفنة الأموات، حفنة التراب الآدمي والغبار، وكنت في زماني القديم أحضر الأسمار، أنشد الأشعار، «وعندما أمرت أن أثير زهوهم وأذكر انتصارهم، غنيت، كان في قرار اللحن، ما لم أجد كتمانه من وحشة وحزن.» وعندما بكيت ملء العين: «جوهرة سقطت في الزمن الوغد، تحت حذاء الجندي الأبيض والجندي الأسود، برجا سقط جريحا في زمن التبريح، قصرا أسطوريا سقط عليه الأجلاف ففرت منه الأسطورة، مهرا وثابا في درب المعراج إلى الله، جاء الدجالون فنزعوا منه الريش الفضي، واقتلعوا جوهر عينيه اللؤلؤتين.» وانهمرت أسئلة الموتى والأحياء علي؛ سألوا عن معنى الحرية والحق، عن معنى العزة والصدق. نادى الجرح على السكين، فصحت: آه يا وطني! ولزمت الصمت. هل تفهم عني يا من تسافر في جنح الليل وما زلت، يا من من أجلك جعت ظمئت حييت ومت، بكيت وانتظرت أن تزول محنة التتار، أن يرفع الغبار والأسى والاصفرار، أن يعود الاخضرار، لأعين الصغار، للدماء في العروق، للربيع والدموع، للكلام والسلام، للأيام والأحلام والسنابل التي تموت في الهجر للصحاري والقفار، وعشت في انتظار سيد يجيء بعد طول الانتظار، يحمل قلب الأم في يمناه، في يسراه سيفه البصير كالنهار، وطال الانتظار. ثم طال الانتظار.
تنظر عيناك المتعبتان الدامعتان إلى وجه أخرس أبكم، يعلو جسدا كالطين المعتم أخرس أبكم. تتحشرج لجة أنفاسك، يرتعد الطير الأسود ينقر صدرك، يشرح منقار الشؤم ويتوعد، ترفع عينيك ووجهك نحو الأفق المربد: الريح تدمدم، والليل يهمهم، والسحب على صدر الأفق تغيم وتظلم. ينتفض الجسد على صوت يخطب كالبرق المرعد: الليل تمدد، والصبر تبدد. يا أهل مدينتنا! انفجروا أو موتوا! انفجروا أو موتوا! تشرق بسمة طفل في شفتيك وفوق جبينك تتمدد. تسأل نفسك: أهو السيد؟! •••
يا أهل مدينتنا. يا أهل مدينتنا.
ينقشع الغبار وتنجلي العاصفة. تطفو فوق الموج وتشرب أنفاسك وتسترد شعاع الوعي. تنسحب ذيول الضجيج، وقعقعة العربات، ودقات الطبل، وأطراف الرايات السود. وتمد العينين والأذنين في السكون الرحب فتسمع صيحة ديك مشروخة، وتفتش عن نور الفجر الذي لمسته كجمر في عيني شيطان، تنشر سحب ضباب مغبر، تلتف عن ظهور الطبيبين والممرضة الصغيرة المشغولة أبدا كالنحلة، وعلى جسد المسافر المكوم بجوار السرير كصنم يحلم أن يتحرك يوما أو يتكلم. نورا يفرش دربي، وليصبح طير الموت الأسود ديكا يعلن مطلع فجر في قلبي. يتردد الصوت النافذ كالسهم، ويصطدم بجدار الغرفة ، ويشع رنينا ينداح كدوامة: يا أهل مدينتنا. يا أهل مدينتنا. تنظر، تتذكر، تهمس: هل يأتي السيد؟
تتطلع للنافذة فترى وجهه النجمي يزيح ستار الظلمة ويقترب منك، وجه يسبقه بريق عينين ملتهبتين بالغضب والتحدي، ويد ترتفع وتنخفض تفتش فيها عن سيف مبصر. أين هو السيف المبصر كي يذبح طير الموت الأسود؟ ما زال يرفرف في صدري، يغرز منقار الشؤم بقلبي. أقبل يا سيد أقبل، لكن لا تنس السيف المبصر. ما زال بعيدا عنك. تستعطفه عيناك، ولكن لا يتحرك. تغلبه الكلمات، تشل يديه وقدميه عن العمل. طالت غيبتك، تقدم. ساعدني أرجوك.
يفتح فمه فتتفجر الكلمات الغاضبة: يا أهل مدينتنا.
ترتسم ظلال ابتسامة على فمك ووجهك: أنا وحدي يا سيد ملقى ومحطم.
ينهمر الصوت كشلال ينبثق من نبع قديم: رعب أكبر من هذا سوف يجيء.
تتكاثف المرارة على فمك: أكبر مما أنا فيه؟
ينطلق الشلال كما ينطلق المارد من جوف القمقم: «لن ينجيكم أن تعتصموا منه بأعالي جبل الصمت، أو ببطون الغابات. لن ينجيكم أن تختبئوا في حجراتكم أو تحت وسائدكم» لن ينجيكم. لن ينجيكم.
تحاول أن تقاطعه وكأنك تضع قشة أمام التيار: هل تنجيني كلماتك؟
تشير ذراعه التي ترتفع وتهوي بإشارة حاسمة: انفجروا أو موتوا. هذا قولي.
تحول عينيك وأنت تقول: قولك. قولك. كلمات في كلمات في كلمات.
يجيب بسرعة كأنه بدأ يلتفت إليك: لا أملك إلا أن أتكلم.
تردد وأنت تتطلع للنافذة بحثا عن شعاع واحد: «كلماتك لا تسقي عطشانا قطرة ماء، لا تطعم طفلا كسرة خبز، لا تكسو عرى عجوز تلتف على قامتها المكسورة ريح الليل»، لا تشفيني من جرحي القاتم كالويل، بل تنجيني كلمات غاضبة كالسيل؟
يقترب منك ويمد سبابته كأنه يشرع سيفا: لا أملك إلا كلماتي الغاضبة.
توشك أن تضحك فلا يسفعك الصوت: يا ليتك جئت لتضحكني أو تضحك.
يجهم وجهه ويتراجع قليلا كأنه يفسح مكانا للأحجار المنهمرة: أضحك؟ «إنا نحتاج إلى أن تغضب. ضحكت هذي المدن المتبلدة الحس، خمسة آلاف سنة، ضحكت حتى استلقت ميتة فاتحة فاها كالجرح الصديان، ظنت وخز الأيام النحس، دغدغة حنان.» تنسكب جداول الذكرى في وجدانك وتطفو على ملامح وجهك: أتذكرك الآن. أنت نبي مهزوم يحمل قلما.
يسرع قائلا: ينتظر نبيا يحمل سيفا.
تغالب الألم ينفض وخزه على صدرك: أنا أيضا أنتظره. يقترب بوجهه كأنه يمد إليك البشارة: يأتي بعدي. يأتي بعدي.
تحاول أن تنهض وتصرخ في فمه وأذنيه: يأتي بعدك. يأتي بعدك. فمتى يأتي؟
ينتفض جناح الطير الأسود. تضغط بأصابعك على الألم، تحس الجرح وتهمس بالصوت المجروح: لم نبطئ عنك يا سيد؟ الطير الأسود يخفق في جنبي، ينقر في حبة قلبي، أولا يبصره سيفك؟
يتردد صوت لا تدري هل يأتي منه أو منك: سيفي لم يبرح جفن الغمد.
تسأل وأنت تعض على سرك: ومتى تكشف عن وجهك؟ - أنا لا أكشف عن وجهي إلا في أوج المجد، أو في بطن اللحد. تعض تعض على السر المختنق بصدرك. - يا سيد، أبتهل إليك. اخرج من لحدك، اهبط من قمة مجدك. - أنا لا أهبط إلا في منتصف الليل. - ليلي انتصف وما دقت أجراس الفجر. - إلا في منتصف الوحشة. - الوحشة فاضت كالطوفان وأغرقت الصدر. - إلا في منتصف اليأس. - يأسي يقطعني نصفين ويقتلع النفس. - إلا في منتصف الموت. - انتصف الموت وعشش في الطير الأسود. أدركني أو لن تدركني بعد.
يزداد رفيف الطير الأسود في صدرك. يتخبط كالمذعور ويضرب بجناحيه. يدخل في أعضائك مختطف الخطوة مسروقا، تفتح صدرك وتناديه: «أدخل عذبا ورقيقا، فأنا أتأهب لك، نقر حتى نجد طريقا. آه ما أوجع خفق جناحيك، أبعد عني هذا المنقار الشائك» تتلفت حولك، تستنجد بالأشباح الواقفة حيالك: ما بالكم تقفون كأشباح؟ أنت بأشعارك. أنت بطبك ودوائك. أنت النائم في قاطرة الليل بصمتك وغبائك. فليفعل أحد منكم شيئا. يا سيدي القادم من بعدي. أدركني فلقد طال عذابي. إني أنتظرك. أنتظرك.
يقف أمامك مهزوما وبلا قلم أو صوت. تختلج الكلمات على شفتيه وتسقط في جوف الصمت.
يتحرك نحوك، يغمض جفنيه كالعراف الأعمى، يطلق بالنبوءة رغما عنه: لا تنتظر الآتي. هو ينتظرك. - ومتى ألقاه ؟ - حين تدق الساعة ويحين الوقت. - ناشدتك أن تدعوه. تعبت. تعبت. - وأنا أيضا أنتظره. - كلمه. ناد عليه. ها أنا ذا في منتصف الوحشة، في منتصف البأس، في منتصف ...
وا أسفاه. أحببت الموت. أحببت الموت. - لأني أحببت العيش وعشت. إنك لا تعرفني. - بل أعرفك وأعرف سر كلامك والصمت. كنت رفيقك في الليل الموحش، صاحبك وتابع ظلك، حامل قلمك، صندوق متاعبك وهمك، كم نادمتك، عاتبتك، سافرت على مركبك، سبحت على الأمواج، غرقت. أعرفك وأرسم صورتك كما أنت: «جبهتك المشرقة الصلبة، عيناك المتعبتان الطيبتان، كفاك المتكلمتان وعيناك الصامتتان تنيران وتنطفئان، مشيتك المرهقة المتماسكة كمشية جندي بين قتالين مريرين.» - ألقى الجندي المتعب أسلحته. علقه الزمن الوغد من الساقين وشيب جرحه. قطع أوصال الحاضر والماضي. - أولا تؤمن بالمستقبل؟ - «بل إني أخشاه؛ لأني أومن به، أوشك أحيانا أن ألحظه لحظ العين. ولهذا فأنا أبصره ملتفا في غيم أسود.» - والحرية؟ - هل عشت لشيء غير الحرية؟ هل جدت بدمعي إلا كي أسقي شجرتها الذهبية؟
هل فجر فيك الغضب فبحت بما أمليت عليك سوى إيماني بالمستقبل والحرية؟ لكن المستقبل حلم قد لا أشهده، والحرية شط قد لا أرسو فيه. - في منتصف الوحشة يولد طفل الحلم. في منتصف الظلم يضيء سراج العدل ويحكم. في منتصف اليأس يجيء القادم بعدي. - أم في منتصف الموت؟
تشعر أن الطير الأسود قد جن جنونه. اختنق وراح يشق طريقا يخرجه من قفص الصدر. فتح منقاره كالنورس المذعور، وتهيأ للاندفاع إلى البحر الواسع، والانطلاق على متن الريح. تحس أنه يتمدد كالكابوس ويفرش جناحيه عليك. ينفرد الجناحان ويغطي الظل القاتم على شرارة ضئيلة لا تزال تتقد في الداخل كأنها عين محمرة تومض وتنطفئ. يمتد الصوت كحبل يرفعك من الكابوس: القادم سوف يجيء، القادم سوف يجيء.
تفتح عينيك المجتهدتين، وتنظر للوجه المتلمع العينين: هل أصنع شيئا إلا أن أنتظر القادم؟
ينقر الطير الأسود، ويحفر ويحفر كي يقتلع الحبة، يرفرف بجناحيه لكي يطفئ الشرارة، ينفتح جرح في عمق الأرض المشقوقة، وتنز منه قطرات تلمع وتخبو كبريق مذنب في آخر الليل ، تتحرك شفتاك من الألم اللاسع: يا سيدنا القادم بعدي.
يقترب الوجه الصارم منك وينعطف عليك : اصبر، حتما سيجيء.
تريد أن تصرخ فلا تستطيع: الصبر تبدد. فمتى يأتي؟
يتصلب الوجه أمامك. تقرأ في صمت ملامحه: تعرف موعده!
تعض على سرك، وتحاول أن تعثر على اليد التي تبحث عنها: ناد عليه. أرجوك. أو فادع الموت.
يهبط صوت ينحدر من أعالي الجبل كرفيف النسر: لا يدعو الموت إليه سوى الموتى. أما أنت فحي.
ترفع إليه عينين شاهدا الجرح ولمساه وصبغهما بحريق الدم: أنا لا أدعوه جرحي يبتهل إليه يخفق الصوت ويمد جناحيه على صدرك ووجهك: جرحك مفتوح ككتاب قدسي، والسيف المبصر سيعود، وينطق كالوحي. أنا مثلك أنتظر القادم بالزاد وبالري.
تردد بصرك بين المسافر المكتوم في غيبوبته بجانب الفراش، وصاحب الوجه اللامع المتصلب كالكاهن الفرعوني على رأس مليكه المحتضر، والطبيبين العاكفين على الأجهزة والأنابيب والأدوات والدوارق، والممرضة الصغيرة التي تجري كالنحلة في مهب الريح. تضغط أجنحة الطير الأسود، ويتأهب للاندفاع، فتصرخ من تحت الجبل الجاثم عليك: يا حلاج. ثبت قلبي يا محبوبي.
ثبت قلبي يا محبوبي.
يدخل كالطفل الضاحك فرحا بهداياه ولعبه، طفل شيبت الأيام الجهمة شعره، ترك الحارس والسجان وقاضي الشرع على الجسد الناحل أثره، فوق الذقن المرسل يتناثر دم، فوق الصدغ وتحت العينين بقايا دم، وعلى السترة والشال الأبيض والسراويل المترب بقع الدم. يتهلل نور العينين الساجيتين، ويبرق بالبسمة والكلمة فم، لا تخفي الحفر عليه وعلى الوجه الضامر ألم السوط المؤلم. يقترب قليلا، تتذكر طلعته النورانية، تنضو عنه سحابته، ينضح الشبح المعتم ها هو ذا يقترب، يحاول أن يجري نحوك يتعثر في الأغلال الصدئة في رجليه ويديه، يقوم، يشد الخطو، تجلجل ضحكته الحلوة يوم تبدت للعين الشجرة، واندفع إلى عرس الصلب، وتمتم بالآيات وشكر الله وسلم. تتهلل طلعتك، وتخفق آخر أنفاس سراج العين، وتبتسم وتحتضن الحلم. توشك أن تطلق ضحكتك العذبة، وتمد إليه تفاحتها الناضجة بدفء العمر الغارب في ليل مبهم، لكن الشوكة تنغرز وينطبق الفم، يقفز كالعصفور الأحدب يتملى وجهك يتكلم: تبدو كالغارق في النوم. تنسكب العينان على صدرك، وكأنك تقلب دنياك على جفنيك، أو غلبتك الأيام على أمرك.
تفتح شفتيك المالحتين بطعم العلقم، وتخاطبه كخطاب النائم في حلم: يا شيخي أنا إنسان يضنيني الفكر، ويعروني الخوف. ثبت قلبي يا محبوبي، أنا إنسان يظمأ للعدل، ويقعدني ضيق الخطو، فأعرني خطوك يا محبوبي، وشفيعي قلبي المثقل ودموعي في الليل.
يثبت عينيه في عينيك المغمضتين على الحلم النائم في فرش اليتم: بلساني تنطق يا ولدي، وبشعري الباكي تتكلم. - إني أتعذب يا شيخي الطيب. - فليغفر لي الله عذابك يا ولدي. - أنا بين يديك صريع يا حلاج قتلتني كف العصر الدموية، داستني قدم العصر الهمجية، لدغتني بالسم أفاعي النيات المطوية، ألعاب الزامر والحاوي بالكلمات القدسية. - قدس ربي كلماتك ورعاها كالورد ندية. كنت بسالف أيامي قد قتلتني الكلمات، ورأيت الدنيا مخلوقا بشعا شوهه الظلم، وعذبه الفقر الهائم في الطرقات، وتخليت عن السر فبحت وصحت. - أنا أيضا قتلتني كلمات تنزف كجراح. عجز لساني عن إلجام السر الجامح فانطلق وباح. - قل يا ولدي، وانفض سرك وتكلم. ما أحلى أن نتكاشف بالأسرار ونحلم. - كنت أحدثهم بحديث القلب. لم يستطع الكتمان فباح. وسقطت بقاع الجب. - مثلك لا يسقط أبدا يا ولدي. قد تسقط شجرة جسدك أو يهوي غصنك. لكن تبقى ثمرة فكرك، يبقى لحنك. ألم تقل على لساني: «كان من يقتلني محقق مشيئتي، ومنفذ إرادة الرحمن؛ لأنه يصوغ من تراب رجل فان أسطورة وحكمة وفكرة.» - أوحتم كان علينا أن نقتل؟ أن ينهال الكذبة بفئوس الحقد على شجرتنا فتميل وتذبل؟ - يقتل كل الشعراء بكل بلاد الله، يقتلهم حقد الحطابين الفقراء المحرومين من الموهبة السفهاء. - خوضت طويلا في طرقات الله، والآن يعض الطير الأسود حبة قلبي، أولست تراه؟ ها هو ذا يضرب بجناحيه، ينشر ظل الموت، يسدد سيف الرعب فآه. - لا يخشى الموت سوى الموتى. قم فالناس «عطاش لترويهم من ماء الكلمات. جوعى لتطاعمهم من أثمار الحكمة، ظمأى لتنادمهم بكئوس الشوق إلى العرس الرباني»، قم واسكب كأس غناك يندي القلب بحلم نوراني، قم يا ولدي. - آه يا شيخي الطيب كيف أقوم وأمشي أو كيف أغني؟ أنا لا أملك حتى أن أفتح عيني. - حاول يا ولدي، حاول. - تتخلى عني القوة، يسري الشلل بأطرافي، يهوى شعري كالملح البارد في أعضائي، يخذلني نهر حياتي ودمائي، يجفو وقدة صحرائي. - هيا يا ولدي نسعى في طرقات الله، فالفقر يعربد في الطرقات، يذل رقابا وجباها، والمسجونون المصفدون يسوقهم شرطي مذهوب اللب، قد أشرع في يده سوطا لا يعرف من في يده قد وضعه، ورجال ونساء قد فقدوا الحرية، اتخذتهم أرباب من دون الله عبيدا سخريا. قم فالشر استولى في ملكوت الله. - الشر قديم في الكون. أولم تعرف هذا يا حلاج؟ أولم يشهد دمك الطاهر طغيان الشر على الخير، ألم تلحظه لحظ العين؟ الشر قديم متجدد. في كل زمان ومكان يكتسب جنودا ويعربد. لكن الشعر فراش محزون مجهد، يجذبه النور فيحرق بالنار ويجلد، يسقط كعجوز محتضر مقعد، يا كم حاول شعري أن يصنع من نار العالم نورا يأتلق ويسعد، حتى احترق وصار بلون الفحم الأسود، صارت كلماتي شوكا في الصدر، ودمعا في العين تجمد. - هل خبت وخابت كلماتي؟ - كلماتك ما خابت أبدا فتشجع، وستأتي آذان تتأمل إذا تسمع، تتحدر منها كلماتك في القلب، وقلوب تصنع من ألفاظك قدرة، وتشد بها عصب الأذرع، ومواكب تمشي نحو النور ولا ترجع، إلا أن تسقى بلعاب الشمس، روح الإنسان المقهور الموجع. كلماتك. - كلماتي. كلماتي. هل تقدر أن تنقذني من هذا المستنقع؟
هل تقوى أن تسحبني من شعري أو من شعري الغارق في الدمع؟ آه لو كانت كفا تحصد أو تزرع، تبني أو تهدم أو تردع؟ - كلماتك تنحدر إلى الناس، تحدثهم عن رغبة ربي: «الله قوي يا أبناء الله، كونوا مثله، الله فعول يا أبناء الله، كونوا مثله.» - يا شيخي الطيب. في عصر ملتاث، قاس وضنين، لن يصنع ربي خارقة أو معجزة، كي ينقذ جيلا من هلكى، قد ماتوا قبل الموت. - الموت علينا مقدور، لكن كلماتك يا ولدي حية. صنعت مني أسطورة رجل فان، رجل ظمآن يروى عطش الناس لنور العدل الباهر والإيمان، كم أحييت من الأرواح بسر الكلمات، وبعثت الحلم مسيحا يحيي الأموات، وغدا يتفتق منها فجر الحرية، أنظر فالنور ... - النور شحيح يا شيخي، والفجر على الأفق مقيد. - النور سيأتي يا ولدي، وغدا ... - كم عشت على أمل الغد. - الفجر قريب يا ولدي، لن تخطئ طلعته الموعد. - يا شيخي ميلا لا تسرف، فالليل على الكون تمدد. - الفجر سيولد في الغد، وسيزهو بمدائن ربي، ويتم الموعد والوعد.
بسمته تشرق كالرؤيا وتطوف على الوجه المتعب، كالبرق النافذ مجروحا، من ثوب الظلمة والسحب لا تخطئ عينك دمعته، تنحدر كالطفل الميت، تتلوى الألم وتسكت. ترمقه، تشرب دمعته، وتحول عيناك للسيد: هل يأتي حقا يا سيد؟
تتفرج أسارير الوجه الفرعوني المتصلب، ويطل الصوت المرهق كابتسامة أبي الهول: لا بد سيأتي، لا بد.
تطوف عيناك بين الوجهين، لا تدري أيهما تصدق. تسحب كلمتك كمجداف تاه على لجج الوحشة وتمزق: والطير الأسود؟ ها هو يتمدد في جنبي، والظل على قلبي يرقد. ساعدني يا شيخي الطيب، هات ذراعك مد يديك، وحاول أن تطرده يا سيد.
يأتي الصوت ولا تدري من أين يجيء: الطير الأسود سيحلق في الجو ويبعد، وقريبا يسبق نذر العاصفة ويرعد.
تعض على شفتيك، على طرف مخدتك، على السر الموجع كالسيف المسنون الحد. - يا طيري الأسود. يا طير الرعد. يا طير الغد. هل جاء الوعد؟ ما زلت ترفرف بجناحيك وتنقر حبة كبدي. أتعد الزاد لسفر يوغل في البعد؟ خذ ما شئت وغادر عشك في صدري، خلص نفسك من قيدك لتخلصني من قيدي. ماذا أفعل؟ قل لي يا شيخي الطيب، مرني يا سيد. ماذا أفعل؟ يزداد الحمل علي ولا أتحمل. يا شيخي قل.
يدنو منك. يتعثر في أغلال الساقين وقيد القلب المثقل. يحنو فوقك ويفيض على عينيك من النور الأكمل: تسألني ماذا نفعل؟ نلقي بذرتنا في أرض البشر ونرحل. هيا يا ولدي.
تعض، تعض وتفتح شفتيك فتخرج نسمة: أدركني يا مولاي، وخذ بيدي.
بريق النور بعينيك وتشرب إكسيره. تتكسر متعة الشفتين على شفتيك ويشع رنين البلور على البلورة.
ترقص آيات الله وتجري وتحوم حولك كفراشات مذعورة: هيا يا ولدي. هات يديك، اتبعني. يا أحباب الله الفقراء. ليسكب كل منكم دمعة حب ووفاء، ويرقرقها في كأس القلب المتعب إكسير حياة ودواء. هيا ثبت قلبك يا محبوبي واتبعني فوق الدرب تباركك دروبي. يا شهداء العالم هذا شاهد مأساتي وشهيدي. هل نحرم هذا العالم من روح شهيد؟ هيا. خذ بيدي وغن نشيدي. هيا. هيا.
12
تطفو فوق الموج. تحس برودة ماء البحر على جلدك في أطرافك. تتساقط قطرات من كهف الأبطين وغابات الصدر، تتذكر أنك كنت بقاع البحر تخوض في حقل المرجان، وتلعب مع أسماك الذاكرة، وتجري خلف عرائسها الذهبية. تذكر أبياتا من شعرك كعيون واسعة ظلت ترمقك وفي حدقتها الدمع وتنسدل عليها خصل الشعر الفضية وجدائله الشقراء العسلية. تمسك شبكتك بعين منها تتألق بالنور، فتهتف وتقول: ربي. ما هذا النور؟ تبدو كالطلسم المسحور، يلقيه الموج الليلي إلى الصياد المقهور، إن وافاه الرزق. تأخذ نفسا عميقا، وتشعر أنك تصعد، تصعد على سلم الضفائر الطوال إلى شرفة زرقاء في أفق أزرق، وتطل على الموج الأزرق، لكن الأسماك الماكرة تورات في بئر الليل، وعرائسه الذهبية لجأت للكهف السري، ودموع العين السحرية ذابت في ملح القاع. تأخذ نفسا آخر عميقا وتشرب الزرقة فينسكب الصفاء في صدرك وجوفك وترف فراشاته الزرقاء حول رأسك وشعرك، تنتفض فجأة وتهتز، تنتبه لألم الخرطوم المغروز في فمك، وتنظر حولك: ما زال الليل هو الليل، والعالم جهم لا زال. الطبيبان في مكانهما محنيان عليك، تتفرس في وجهيهما فلا ترى غير بياض، تنظر للسقف بياض، للجدران بياض، والأشباح العابرة بياض يسيح في بحر بياض. ربي ما هذا النور؟ هل أشرق وجه الغد؟ هل لاحت أبراج المدن النورانية؟ أين النجمان على كفهما ميزان العدل وطير الحرية؟ تفكر أن تدعو أصحاب السفر، وتسأل أين الحلاج؟ وأين السيد ومسافر ليل وأميرة أحلامي المرة أين؟ هل حملتها المركبة إلى قصر الورد؟ وهل تتطلع من شرفته للأتباع وللحاشية الملكية ؟
ربي ما هذا النور؟ تتعلق بجناح الزرقة، تسبح في بحر الصفو الأزرق، تسأل هل هذا طير الحرية؟ آه لو يحملني طير الحرية، لو يبعدني عن أرض البشر الطينية، أو يرميني في بحر الأبدية. روحي تطفو فوق البرزخ بين الأزل وبين الأبد أحزان القلب مصابيح تتألق فوق الدرب، وتأخذ بيدي. أخرج من شرنقة العمر المقهور، تطير فراشة روحي نحو النبع المستور؛ لتذوب بسر الأسرار ونور النور. وحدي الليلة وحدي أحتفل بليلة ميلادي، لا الحلاج يعين ولا السيد في الأفق ينادي: هل حان الآن أوان رقادي؟ كأسي ممتلئ، لا زال وفيه بقية أنشاد، وفمي صادي، لا زالت تشتعل النار، ولكن تحت رمادي،
10
أتمنى. ماذا أتمنى؟ قبل رجوعي للمهد وقبل سقوطي في اللحد؟ أتمنى. ماذا أتمنى؟ آه ضاعت أمنيتي وتبخر وعدي.
أبحر في ذاكرة الأشياء، وأتحد بقلب الأشياء. لكن ذاكرتي جرداء. وإنائي امتلأ وفاض وأفرغ مما فيه فصرت فراغا وفضاء. راهنت على الفرس الجامح شأني شأن صحاب العمر، وبكينا وتعذبنا من أجل عيونك يا مصر. من أجل الضحكة نرقبها فوق الوجه المغبر، ياما ذرفنا الدمع ونمنا فوق سرير السهد نعاين طلعة فجر حر. حتى هجم تتار العصر، ونزعوا عين الخضرة والبسمة والسر. آه يا فرسان العصر! أعترف بأني يا فرسان العصر، يا فرسان الموت المصفر، أكرهكم من قلب عشعش فيه غراب الحزن المر. كسرت أجنحتي، هل تقدر أجنحة فراش الشعر أن توقف زحف جراد القهر؟
ياما فكرت وكم سطرت هل تبقى الكلمة بعدي أم يبقى الصمت؟ يا للكابوس! خدر ملعون يهبط من رأسي حتى قدمي. إني أنهار، أتخلخل مقرورا كالجبل الثلجي، وأتفتت كالأحجار، عيني يجلدها النور، القدر المغلي برأسي يلتف يدور، ذاكرتي تتخلى عني، شعري يتخلى عني، ينحسر كظل عجوز هرم مقهور، خذ بيدي يا أنت. وأنت. وأنت. ما هذا الليل الأسود فوقي تحتي حولي، في الجو حريق مسود، والظلمة تغلي، أين صفاء الأفق، صفاء البحر، صفاء الموج، وكيف تحوم أجنحة سود حولي؟ أين سفيني، ساريتي، أين شراعي مجدافي هل تغرق مثلي؟ هل خرج الطير الأسود من جنبي، صعد في الجو، وهجم علي، أيبغي قتلي؟ أبعده يا حلاج ، اطرده يا سيدي القادم بعدي، واحم الشاعر من عضته يا شعري. آه يخذلني الكل وأرتعش وحيدا في ريح الصمت وبرد الليل. يخذلني الكل ولا يبقى إلا الصمت. الصمت. الصمت. أين رفيقة دربي؟ أين عيونك يا أمي؟ يا معتزة إن وحوش الليل تغير علي. إلى أين صحاب العمر الضائع كزجاج مكسور؟ أنا وقت مفقود بين الوقتين. عمر معقود بين الماضي والمستقبل، أنتظر القادم، أنتظر وأنتظر، فهل يأتي الآن ليأخذني أم يأتي بعدي؟ أنتظر وأنتظر ولا شيء يعين، ولا أحد يعين، ولا يجدي. افتح عين الشعر المحمرة في سردابي، تفتح وردته المحترقة عينا تنزف بعذابي، قد كنت عطرا نائما في وردتك - لم انسكبت؟ ودرة مكنونة في بحرها - لم انكشفت؟ تهوي الوردة في قاع البحر، يلتهم الدرة فك التنين. التنين التنين التنين. يا أصحاب العمر إلي إلي.
يا أحمد يا فاروق وعبد الواحد يا عبد الرحمن وعز الدين
11
أغرق في بحر الحكمة، أطفو أغرق أبلع أمواج الملح وملح الأمواج وأنكفئ وأتقيأ أرتعش وأختنق وأغرق أين الحكماء وأين حكيم؟
12
أبحث عنك في البحار، في القفار، في حدائق الأطفال، في المقابر. يا وردة الصقيع. أبحث عنك يا مدينة الرؤى المنيرة. مدينتي التي تمج ضوءا، مدينتي التي تشرب ضوءا، جنية المحال، يا جنية المحال والجدائل الطوال. جدائل الضفائر الطوال والخميلة التي ... وفي بلادي الناس في بلادي جارحون كالصقور، كالصقور جارحون طيبون، طيبون مؤمنون بالقدر. وحين يلتقون بالسلام يلغطون جارحون طيبون كالصقور، والطارق الملثم الشرير، والأجدل المنهوم طارق المجهول للمصير من تحت اللثام وجه بوم. أواه يا مدينتي، يا مي لا تخافي، والنجوم يا واحدتي النجوم يا حبيبتي، وألفة الحبيب حط فوقه الغيلان أعداء الحياة لا تخافي، وضع النطع على السكة والغيلان والسكة والرأس الوديع، قريتي يا قريتي و احسرتى لم تأتدم هجم التتار، و احسرتى إلا الدموع والخيل تصهل قريتي. أماه يا أماه يا أماه، قولي للصغار للصغار إلا الدموع والخيل تصهل قريتي. أماه يا أماه، قولي للصغار للصغار والتتار والدمار لن نبيد للصغار، حبيبتي زهران والحياة في مشارف الخمسين جارحون والصقور والسنور والحلاج. يا وردة الصقيع يا أميرتي، وسيدي يا سيدي قد انسكبت كنت عطرا درة، وهل يساوي ليتها يا ليتها أغلى من العيون، والعيون ليتها يا عنترة وفي انكسار والطبول والعيون والدمار يا أماه والصغار ليتها حبيبتي يا أمي يا حبيبتي في هدأة السكوت كي أموت، للغريب أن يئوب أن يغيب للشعاع واغتمضت إنني أسقيتني أعض بالأسرار يا أماه يا حبيبتي الصغار للصغار. نجمتي يا نجمتي الوحيدة أوجدى حبيبتي قولي لهم صغار والعيون يا صغار قد سلمت، ربما وربما فقيرة خزائني حقول حنطتي مقفرة. أسقيتني أسقيتني يا رب إنني أحببتها أعض أنني اختنقت بالأسرار إنني أحبتكم والعالم الذي أريده حبيبتي أغلى من العيون ليتها أحببتكم وطيبون كالصقور جارحون قبلهم كاللؤلؤة، وكاليتيم ليتها من العيون إنها ... أغلى من العيون، موحش يولد فيه الرعب والنجوم بالنجمين وضائين سيدي يا سيدي النور والحرية التي أقول ما الذي لكم أقول الملك لك الملك لك، أسقيتني والنور لك والحب والعيون، والناس جارحون أين الموت أين الموت في بلادي فادح هذا المساء مدلى، رباه حبل العدل داوني وفي المدائن التي والعدل إنها خلصتني، خلصتني بالعدل والحرية العيون في غد تولد نفسي من جديد، والغد الذي في الفجر يا حبيبتي بالعدل يا رفاقي طيبون، العدل عادل وعادل والعدل ليتها والعدل والحرية.
13
يهوي يرتطم بقاع الجب وتعلو الدوامة. تصدم المفاجأة وجه الطبيب فيرفع يده عن الجهاز، يحني رأسه ويرفع يده ويرسم علامة الصليب. يدلهم وجه الطبيب الآخر ويقبل نحوك، ينظر في وجهك، وتتمتم شفتاه، ويرفع كفيه أمام وجهه. تجري الممرضة وتصطدم بالأنابيب النحاسية وتجهش بالبكاء. لا يبقى إلا الصمت وقطرات دموع تسقط فيه. •••
تختلج فراشات الحزن الأبدي، تحوم في سقف الغرفة، ثم تحط على صدرك. ترف عين الطبيب ويرفع وجهه، ثم يخفضه ويصلب. ترف عين الطبيب النحيل وراء النظارة السميكة، وتتمتم شفتاه. ترف عين الممرضة الصغيرة التي جلست على الكرسي بجانب السرير، وتبحث عن منديلها الوردي. وتطل العذراء المكتئبة من خلف زجاج النافذة، وتنسكب أشعة وجه نوراني من أكفان سحابة. تدمع عيناها تدمع تدمع، وتقول:
الليل تولد في القبر كما ولد يسوع،
تبتسم كأنك يا شاعر في المهد رضيع،
وتقبل مريم عينيك وفي العين دموع.
تتقدم نحوك طيفا يتجول في بستان الموتى. تتعطف عليك تقبل نور جبينك. تسقط دمعتها فوق الخد الناصع كالورد.
ترف فراشة كل الأحزان. ينهض من سافر في الليل طويلا، ثم تكوم في ركن الغرفة، يخطو نحوك كالصنم الذاهل يتعثر في حفر الصمت. يقف أمامك ويتمتم كالأخرس فك القيد، وحل العقدة، وتحدى الموت. ما زال يتمتم ويقول:
أنطقت لساني يا مولاي الشاعر بعد دهور الصمت،
فتحت العين على عشري السترة وجموده،
الآن أعود إلى الأسواق وأسعى في رزق البيت،
وأمد يدي لمطر العدل القادم ووعوده.
يذرع أرض الغرفة محتقن الوجه سريع الخطو غضوبا كالأسد الثائر في الأقفاص. يتقدم منك كبطل مهزوم يسقط في الفخ، وينهض يضرب جدران السجن، العالم يصرخ يحلم بالنصر المحتوم. يتدلى الحزن القاتم من وجه فرعوني صارم. يرفع يده ويشير يحركها الغضب الأزلي المحبوس. يدمدم ويثور:
في وجهك الملح فجر اليوم المنتظر،
وأبارك وجه السيد يأتي كالقدر.
النجم يشير إليك: تعال، سأكشف سري.
والأمل يطل من الظلمة كالطفل الضاحك كالقمر.
من مثلك يفنى ويخلد في نفس الوقت،
قد ذهب الضيف وزال الخوف الآن عرفت:
ما بقي الشعر، ومن يشعر فستبقى أبدا من أنت.
وسيحيا سر الكلمات وتحيا أسرار الصمت.
يخفق جناحا الفراشة، وتهيم هنا وهناك باحثة عن منفذ. بدأ شعاع الفجر يطل، يفتح عينا والعين الأخرى مغمضة في حضن الليل. يصطدم جناحا الفراشة ورأسها الدقيق بالجدران والستائر ومقابض النافذة. تسقط، تتعثر، يجذبها النور المصنوع تحوم بعيدا عنه، تسقط في مستنقع أحزان العالم، من يشعر بعذاب فراشة؟ يشير الطبيب ذو الوجه الأبيض إلى الممرضة، فتجفف عينيها المحمرتين بمنديلها الوردي، وتسحب الملاءة البيضاء من تحت قدميك وتغطيك. يتجه الطبيبان إلى الباب، تتوقف الممرضة أمامك، وتمسح بيديها دمعة بللت طرف الملاءة. يخرجون ويغلقون الباب. تبقى في الصمت وحيدا، تبقى وحدك. يتقدم منك الشيخ صغيرا كخيال الظل البائس هرب من الجمهور الأرضي إليك. يتعثر في أغلال القدمين، وفي قيد الكفين. ما زالت بقع الدم على ذقنه، ما زالت تلمع كعيون الرعب المحمرة فوق الثوب، ما زالت كزهور الجرح النازف في شجرته الدموية. يخطو نحوك، يكشف بأنامله المرتعشة وجهك، ينظر في المرآة يسبح يدعو ويتمتم:
يا شاهد موتي وشهيدي
من في الدنيا سيعوضنا عن شاعر؟
قم يا ولدي لنسافر فالعالم كافر
يا صاحب دربي وحبيبي.
فلنصعد للنور الصافي
ولنرجع برقا وسحابا
أمطارا للقلب الجافي.
يسحب الملاءة على وجهك ويتمتم، يحاول أن يمسح وجهه فيصلصل القيد، يسطع نور في عينيه الشاحبتين ويهمس:
يا صاحبي وحبيبي، هل يساوي العالم الذي وهبته دمك، هذا الذي وهبت؟
تعود كي تنام في حضن التراب، تراب جدنا وأهلنا تنام، تنام في سلام. •••
وقالت لك الأرض: الملك لك.
تموت الظلال ويحيا الوهج،
الملك لك. الملك لك.
الإنسان الإنسان عبر،
ومات ذلك الوديع دونما احتفال، معلما ورائدا في سنة الكمال. •••
ومن موته انبثقت صحوتي،
وأدركت يا فتنتي أننا
كبار على الأرض لا تحتها. •••
إننا الأغراب في القفر الكبير.
إننا ضقنا وضاقت روحنا.
القطيع
غاب راعيه وطالت رحلته،
وهو في بيداء لا ظل بها. •••
أبكي سهما أخطأ هدفه
ليلا من غير صباح.
أبكي أول طير مات على الغصن.
آه أيتها القيثارة!
يا قلبا جرح عميقا بسيوف خمسة.
13 •••
في الخلاء المواجه للقبر،
تجلس سيدة هي مصر،
تداعب أطفالها الشعراء بغصن من الكلمات الندية.
تقرأ وجه حصان يسافر في الحلم،
وجه فتي شقه سفر الليل،
أيقظ في قاعه حفرتين مبللتين بنار من الدمع
محشوتين برعب البشر. •••
وا حر قلباه!
كل المصابيح ترحل نازفة.
ترحل الخيل، والليل يبقى.
يرحل السيف، والبيد تبقى.
يرحل الشاعر، الكلمات
ويبقى البكاء، الخديعة.
14 •••
نهر أنت يسارع نحو مصبه، صوفي عجلان الخطو إلى ربه، صارعت الموج صراع البطل البائس، لم تظفر إلا بنصيب الملاح البائس، لكنك عشت وجربت النشوة في الإبداع، وكتبت شهادة ميلاد القادم من رحم الأيام الحبلى بالأوجاع، جاء وما كنا ننتظر بهذي السرعة، لم نتحسب وقع خطاه البشعة. عشت الفن، عرفت، رأيت وألقيت بنفسك في النار، لم تتركنا بعدك زادا لجراد العصر الجرار، ريشا في وجه السيل الزاحف بالمجد أو العار. يا ربان سفينتنا الغارقة تركت الدفة للتيار. هل يجرفنا الموج الجارف بعدك أم نصمد للإعصار؟ •••
ضاقت كأس القلب المثقل عن فيض البحر، فتحطم وتحطمنا معه، وانداحت في الرمل الغادر روح الخمر، والمصباح انطفأ وما طلع الفجر، وا حسرة ليل يجمعني ورفاق العمر! •••
حزنك! ماذا أكتب عن حزنك؟ أين الكلمات تعبر عما يجرحني في عينيك؟ خرس كل لغات الأرض، ولا تفصح عن سر عذابك أو شجتك. تبصر ما لا نبصر. تسمع ما لا نسمع، لو كنا نعلم ما تعلم، لأمتنا الضحك على الغم، وبكينا ما شاء الدمع على القدر المفجع. •••
الشعر ملاذك، بل منفاك الموعود، وطنك في غربتك على أرض الوطن المنكود، أمك وأبوك وصاحبك الأوحد، يتخلى أحيانا عنك، ولكن لا يجفوك يهرب أياما أو أعواما، ثم يعود لينظم عقد الحرف المنضود، تعصف حولك ريح الزيف، تنكسر على صخر الرغبة والخوف. يتغضن وجه الزمن السيء بالغلظة والإرهاب. تنطفئ قناديل البهجة، فالليل خواء وخراب، لكن الشعر يجيء إليك، فيمسح فوق الرأس المتعب، وترفرف أجنحة الطير الوافد من بار ناس والأوليمب ونجد ويثرب، فتردد قيثارتك أنين الجرح ونبض القلب.
بعد شهور الوحشة والبعد يعود إليك الصوت الشارد في الصحراء. بعد التيه اللاغب في نثر الأيام المتشابهة يزورك طيف ملاكك ذي المنقار الذهبي رفيقا كالعذراء، يكتب آخر بيت في شعر الزمن المقتول. يكفيك من عناء الرحلة الوصول، وأن نفسك التي تعذبت وجربت تغير الوجوه والفصول، قد أشرقت بنورها ونحن لا نزال في غياهب الغروب والأفول. •••
عشت حياتك تتأمل معنى الموت وتحياه كما فعل حبيبك أفلاطون، نلمس زحف الأفعى في جسد الكون المحبوب الملعون، زحف الدودة في أصل الشجرة، وأخذت تمد الكفين، وتقطف منها الثمرة . لا ليس الكل بباطل، ليس كقبض الريح. كذب سليمان ووقع «المازني» في هاوية اليأس يئن أنين جريح. أحببت حياتك وحياة الناس. كل حياتك لحظة صدق، لحظة إحساس، وقضيت سنيك الخمسين على مسرح هذا العالم تتعثر، تسقط، تنهض، تصرخ من أعماق الدهشة والألم القاسي: كوني يا نفسي من أنت، وطني هو هذا الوطن، وأرضي هي هذي الأرض، وهنا أقف وأتعذب، وأثور وأرفض، أبكي وأضحك، أهتف أحيانا قد سلمت وتعروني رعشة ألم عذب ومض جربت جحيم العالم، ذقت نعيمه، حتى امتلأت كأسي واستغنيت وأتممت، فإذا جاء الموت ووضع على رأسي التاج تبسمت، وهتفت تعال وخذ ثمرتك، فقد شيبها طول الحزن على شجرة الليل وشبت. وينادي: أنت الحي الأوحد بين الأموات، فما أبعدك عن الموت! •••
ما جدوى العيش؟ ما جدوى الحب؟ ما جدوى الفن؟ ماذا أفعل؟ ماذا أفعل؟ أنا لا أملك إلا الكلمة، والكلمة تسقط تحت حذاء الرخ المغرور، تسقط كالطير ذبيحا تحت عيون الشعب المقهور. ماذا أفعل والسيف الأعمى لا يبصر، والكلمة حقل مجهور مقفر، ومثقف هذا العصر يدنسها، يعبث بجناحيها، يكسوها أقنعة زاهية كحواة السيرك ويفقأ عينيها كالطفل المأفون، يحشدها بالفرقعة وبالجمجمة كالبالون، ويظل سؤالك عطشان، فهل يرويه الحلاج بدمه والمجنون؟ •••
نحن صحابك ورفاق طريقك: هل أخطأنا في حقك خطأ الصوفية والفقراء مع الحلاج؟ هل أحببنا كلماتك أكثر مما أحببناك. فتركناك تموت لتحيا كلماتك؟ لم نفهم أن اللفظة حجر واللفظ منية، أن الكلمات مسيح يحيي الموتى، أو مسخ وبغي تلد الموت. يا جرح العمر أجبني، قل بي أرجوك الصمت. ضقت بأحوالي ضقت، بليالي وأيامي المختنقة في سحب الكلمة ضقت. في كل مساء أنوي أن أهوي في قاع الصمت، أن أتوحد بالصوت الهاتف من أعماقي، من أعماق الأرض بلا صوت، أن أجمع أشلاء العمر المتفتت في لحظة صدق، أو حتى لحظة صمت، ثم تطل عيون تستدرجني للكلمة، والكلمة موت، آه ضقت بكلماتي وبصمتي ضقت.
عشنا في الألفاظ الجوفاء سنين، نأكل نشرب نتجشأ ألفاظا، حتى صرنا ألفاظا تقتات على جثث الباطل والبهتان. هل نتعلم من درس حياتك أن نقتصد قليلا في الألفاظ، أن الكلمة إن لم تهد إلى درب الفعل، تصبح طبلا في كف أصم ولعبة طفل؟ حقا كنا الأسياد وحقا كنا، ولما كان لما نلفظ معنى. لما كانت كلمات العرب تحرك جيشا وتسير سفنا، وتشيد علما أو تصنع فنا، حتى غصنا، ساخت أرجلنا في المستنقع وغرقنا. ربي! كيف ترعرع في وادينا الطيب، هذا القدر من السفلة والأوغاد؟
كي يعطي الكلمة معناه، اختار الحلاج الموت.
كي تعطي الكلمة معناها، يا شاهد هذا العصر استشهدت.
فمتى يتعلم صناع الكلمة منك؟
ومتى يصبح صنع الكلمة تضحية حتى الموت؟
كيف نحول كلماتك أفعالا تمطر بالخير؟ ماذا نفعل كي لا نترك شبح الفقر يعربد في الطرقات ويفجر؟ مد إلينا كفك، أدفئنا من أنفاسك، لا تحرمنا صوتك وإشاراتك. واسأل ربك أن يلهمنا قول الحق، ويؤيدنا - حبا فيك - بروح الصدق. ألهمنا أن نخلع ثوب الألفاظ، ونخرج للناس كما خرج الحلاج وسقراط، أن نصهرها في نار الغضب ونغمسها في خبز الفقراء، فلعل الرقبة تنجو من مشنقة الإحباط. ألهمنا، علمنا، لا تحرمنا صوتك، حتى نجلد ظهر الأحياء-الموتى بسياط وسياط، حتى نحلو في عينيك ونبصر أنفسنا في مرآتك، في مرآة الشعب ومرآة الله. •••
كيف رحلت يا أعز الراحلين؟
متى تعود للقاء والحديث ذو شجون؟ إن كان في الموت العزاء فلأكن إليك أول المسافرين. •••
يا كم دعوتني الحكيم، ودعوتني المسيح. كم مسحت كفاك جرح قلبي الجريح، وأدركت عيناك أنني مقيد كسيح. كأنني المشلول لا أعيش لا أموت لا ألوذ بالكتمان لا أبوح. غرقت في بحار علمي العقيم غطت جثتي المتون والشروح، وكم طرقت باب حبك الكبير، وكم طعمت يا أمير من مائدة السرور، وعدت في الجراب كسرة لقلبي الكسير، وقطرة تبل غلتي في وهج الهجير. وكنت ثم كنت يا صديق، ولم أزل كجثة الغريق، مطفأة العيون في كهوف حكمتي العقيمة الدروب والجحور والشقوق، أبحث عن حقيقة تلوح، ثم تنطفئ البروق، أبحث عن طريق، ومن فؤادك الذي رأيت فيه الله والإنسان يبدأ الطريق ، فهل تراني بعد ما رحلت أبصر الطريق؟ •••
بدموعي تمتلئ العين ولا أجد عزاء. يتسلل شيطان القلق لفرشي كل مساء، يحضنني، يغرز قرنيه بعنقي، يوحي ما يوحي من أسرار الحمقى والحكماء، فمتى أنجز وعدي لك يا خير أحبائي؟ أمسكت بحبل الصمت الممدود فلم يسقط ثمري الموعود، وتعثرت على درب الكلمة والدرب قيود وسدود. جفت سحبي وتسرب مائي في الأخدود، يا روح حبيب العمر المفقود، باركني وامسح بيديك على رأسي المكدود، فلعل المطر يعود، لعل المطر يعود. •••
كيف أصدق؟
الرفاق يتلقون العزاء. أحضنهم ويبتل وجهي بدموعهم. فاروق يعانقني وتنداح المرارة إلى فمي وقلب مشلول مغلول مذهول. عبد الرحمن ينشج في ركن وحيد، عيناه دموع تتحدر كالشلال.
النعش يقتحم الصفوف كالبطل المأسور، تسنده أكتاف الأحباب وأيديهم. الفجيعة على الوجوه التي ترفض التسليم. يا أيها الراكض إلى أين؟ أهي دعابة جديدة؟ أيمكن أن تكون جادا؟ أطل برأسي النسر الجميل الجليل، وأصرخ بملء صوتك المتهدج الجريح: ليس هذا عرسي ولا مأتمي. انصرفوا. انصرفوا. يا صوت ضميري وضمير بلادي، اخرج من هذا النعش وناد. اخرج لا تتماد، أريد أن أداعبك. أسمع منك عجائب العباد والبلاد والأحوال. والزمن عجيب يلد الخرافات العجيبة، أهي خرافة جديدة؟ هيا لا تسرف في سخريتك. نادني يا حكيم كما تفعل في كل لقاء. فالحكمة توجعك وتوجعني في زمن الحمق الأسود. أنثر ضحكاتك تمسح عني وحل الرحلة. أشعل مصباحك كي أجد طريقي في ليل المحنة. أدفئ قلبي الغارق في ثلج الحكمة. وحرك صنمه. أبعث فيه لعازر، مره أن ينفض نومه، ويواجه يومه. تعال نغادر هذا المسرح، هذا الوهم الأسود، تعال بنا بعيدا لنثبت أن اللعبة وهم. هذه الغربة وهؤلاء المشيعون وهم. فحضورك هو الحقيقة الوحيدة الباقية بعد أن يشيع الميت وينصرف الممثلون، تعال تعال فأنت حاضر لا تغيب.
عين الشمس لا تزال تسطع، الريح تتنفس، الطيور ترفرف في السماء، الأطفال تولد في كل لحظة، والأشجار تنمو، والعجائز يجرون أقدامهم ويسعلون، الكتاب يفكرون في عمود الصفحة الذي سيسودونه والشعراء يصطادون عصافير الكلمات السود، ويستعدون . لم أنت وحدك ساكن هنا؟ أأنت الذي يحملون؟ أم أنت الذي أحمله في دمي وألقاه مساء اليوم حسب الموعد القديم؟
لا لا لا. وهم. كذب. كابوس. أمشي في كابوس الخمسين، وأنت تطل علي من الشرفة - شرفة مسكننا في مقتبل العمر، تذكرني بالعهد القائم والعهد أمين،
15
سيذهب الجميع، ثم تسدل الستار.
وأنت أنت فوق الوهم والتمثيل. أنت حاضر ولن تغيب. كيف أقول كنت؟ كيف أستطيع؟ وأنت يا حبيب نبض القلب، ومضة العيون، وأنت - ما حييت - ساكن في القلب والعيون، وكائن ودائما تكون؟
يا صاحبي وحبيبي. «قد كنت عطرا نائما في وردتك، لم انسكبت؟
ودرة مكنونة في بحرها، لم انكشفت؟»
وهل يساوي العالم الذي وهبته دمك، هذا الذي وهبت؟
لا. لا أقول قد رحلت، بل أقول في غد سنلتقي كما وعدت.
1981م
خاتمة
لا أجد تعبيرا عن حياة صلاح وكفاحه لمعرفة نفسه ومجتمعه وعالمه خيرا من كلمات «روسو» في مقاله المشهور عن الفنون والعلوم: إنه لمنظر جميل وجليل أن نرى الإنسان يرفع نفسه من العدم بجهده الخاص، ويبدد بنور عقله تلك الظلمات التي لفته بها الطبيعة (لنقل: تلك الظلمات التي لفته بها الحياة العربية. في ليل الهزيمة والقهر والتخلف والثرثرة). أنه ليرفع نفسه فوق نفسه، وينفذ بروحه إلى أطباق السماء، وينطلق كالشمس بخطوات جبارة عبر الفضاء الشاسع للكون. أما الأمر الذي يبقى هو الأعظم والأصعب، فهو أن يعود إلى نفسه ليدرس الإنسان، ويعرف طبيعته وواجباته وغايته.
ومع أن هذه العبارات العاطفية المتحمسة لا تصور عذاب صلاح تصويرا دقيقا، إلا أنها تضع أيدينا على هذه الحقائق التي لا يدركها إلا أصحاب طريقه وجرحه، لقد استطاع أن يرفع نفسه بإرادته من العدم العربي المحيط به إلى الوجود الشعري الذي يبدد هذا العدم، ولو في لحظات الخلق المتاحة، هذا الارتفاع فوق العدم الذي يغرق هو وزملاؤه المبدعون في مستنقعه كل يوم - قبل الإبداع وبعده وفي أثنائه - قد مكنه في الوقت نفسه من العلو فوق نفسه المحدودة والمقيدة في أغلال المكان والزمان وفوق الموقف الأدبي والتاريخي والاجتماعي والسياسي الذي يحاصره. أما المناطق السماوية العلوية التي يذكرها النص، فهي قصائده ومسرحياته وإيقاعاته الشعرية وقراءاته ومشروعاته، أي البديل الفني عن ذلك العدم الذي تختنق فيه ليل ونهار. وفي النهاية يعود صلاح الإنسان إلى نفسه بعد أن ينطفئ وهج اللحظة وتهوي أجنحتها، يعود ليعطف إلى الداخل، ويشتبك في الصراع اليومي مع قبح الحياة اليومية لكي يفحص طبيعته وواجباته وغايته.
هذه الحياة اليومية التي اختفت منها قيم المحبة والتقدير والثقة والاحترام المتبادل، وأصبحت لا تسمح بنمو حياة إنسانية سوية، ناهيك عن حياة مبدعة، وأتى على خضرتها جراد الكراهية والحقد والادعاء والثرثرة وعدم الاكتراث؛ هذه الحياة اليومية التي غطت وجهها الحجب والأقنعة الشائهة، وظلت تمد حبال مشنقتها كل صباح؛ كيف لا يدينها ويسجل علامات التصدع والانهيار في بيتها الآيل للسقوط؟ كيف لا يفضح القردة والأفاعي والثعالب المتربصة وراء الأقنعة (بشر الحافي)؟ غير أن الشاعر الذي يحاول أن ينتزع نفسه من مستنقع الخراب والبلاء ليعتصم بلحظات البراءة والنقاء (يا من يدلني عن طريق الضحكة البريئة والدمعة البريئة)، هذا الشاعر الذي يجوس عاريا مكشوف القلب في أسواق المدن الجاحدة المتبلدة الحس، يشتاق على الدوام إلى مدينته المنيرة التي ينام فيها الأبناء في أحضان الأمهات، مدينة الرؤى التي تشرب ضوءا وتمج ضوءا، مدينة المستقبل التي كتب على المغتربين المحتجين منذ أفلاطون إلى اليوم أن يحلموا بها، وأن يتركوا العالم وهي جنين أسطوري في بطن الغيب، ويظل النقاد المتفائلون يدينونه بحزنه. ويطالبون بطرده من المدن السعيدة التي يقلق نومها دون أن يكلفوا أنفسهم بالسؤال: ومن المسئول عن هذا الحزن كله؟! هذه المدن المقنعة المغتربة عن نفسها، كيف لا يباح للفنان أن يغترب عنها؟ كيف لا يسمح له بأن يكون هو نفسه ويحقق هذا المثل القديم الذي تقوم عليه الحقيقة والأصالة؟ أليس هذا هو دأب المفكرين والمبدعين في كل زمان ومكان؟ ألا نتحمل الخسارة الفادحة في حاضرنا ومستقبلنا إذا حرمناهم من هذا الترف البائس الضئيل أن يقولوا لنا: «لا.» ولأنفسهم والقيم الباقية: «نعم.» ولكن مجتمعاتنا التي اختلطت فيها القيم وجثم عليها كابوس القهر وعبيده لا تطيق هذا. إنها تتربص بكل صوت صادق ، وتجدل مشنقة التعذيب لكل بادرة حياة. وهكذا يقع الإبداع العاري من كل سند يحميه فريسة الكلاب التي تنهشه من كل ناحية، عبيد السلطة وخدمها وحشمها، الثرثارين الكذبة من يمين ويسار. البيروقراطيين زبانية الموت وسدنة الجمود والركود والتحجر، أوباش العصر وجلاديه الجدد وطواويسه المزيفين الذين يجوسون بيننا كالكوارث، ويبرعون في رصف بيانات الإدانة والاتهام قبل أن يتعلموا ألف با الحب والعلم والفهم والاحترام (إذا فرغت جعبتهم الفارغة لم يعدموا حرية يسددونها شاعر مغترب عن مجتمعه، غير ملتزم تقدمي وميتافزيقي وصوفي ووجودي!) وبدلا من ضم صوتهم إلى الأصوات الصادقة لرفع ركام الظلم ورواسب التخلف وأقنعة البطولة الكاذبة تراهم ينادون، كما نادى أفلاطون قديما بحسن نية أخلاقية، بطرد الأصوات النقية التي تزعج أحلام المدن الغافية وفرسانها المهزومين! هذا هو الأمر المحير في حالتنا اليوم. كأننا قد التصقنا بأقنعتنا فلا نقوى على انتزاعها لنتحسس وجوهنا الحقيقة، كأننا نصنع أغلالنا بأيدينا، ونحب أدوار عبوديتنا التي نؤديها بلا وعي، ونكره أن نكون أنفسنا، ونواجه واقعنا، ونحيا في النور والحوار والنتيجة هي هذه اللعنة التي عبر عنها طه حسين عندما قال: إننا لا نعمل ولا نحب لغيرنا أن يعمل. فمتى نتعلم أن اليد التي تجرح هي اليد التي تشفي الجرح، وأن خلاصنا لن يتم إلا بأيدينا، ولن يتحقق إلا بالعمل؟ أقول العمل لا القول، العمل الذي نحقق به ذاتنا ومجتمعنا وننقذ أنفسنا وحاضرنا ومستقبلنا المهددين بالخراب والانقراض. •••
لم يكد يمر يوم واحد على رحيل شهيد الشعر والعصر، حتى اشتعل الجدل العقيم: من الذي قتله وكيف قتل؟ ما التهم التي سددت سهامها إلى قلبه، حتى اختنق وخذلته طاقته على تحمل الجراح؟ وأنا أنزه نفسي عن المشاركة في هذا الجدل، كما أنزه الأصدقاء الذين كانوا معه في ليلة الوداع. فالثلاثة الذين كانوا معه أصدقاء أحمل لهم الود والتقدير. وحتى الرسام المجهول الذي كان معهم، وسمعت أنه لم يتورع عن قذفه بأبشع التهم على مشهد من زوجته وابنتيه، أدعو الله أن يغفر له ويسامحه (يعلم رب الغيب حقيقة ما قالوه وما فعلوه. ولقد كنت على موعد اللقاء بالصديق المسافر في اليوم نفسه، الذي قدر على أن أشيعه فيه). لكل أجل كتاب، ولم يبق إلا التسليم. غير أن هناك حقيقة لا بد أن أشهد بها، وأشهد عليها كل المبدعين المخلصين في أمتنا العربية: لقد ظل صلاح يقتل طوال العشرين سنة الأخيرة، وظلت الفخاخ تنصب له من جهلة اليمين وأدعياء اليسار (في الجو الذي تعذب فيه جيلنا التعس فقدت هاتان الكلمتان معناهما كما فقدت كل القيم معانيها.) وتبقى قضايا وأسئلة أكبر منا جميعا: لماذا يقدر على أفضل أبنائنا وأخوتنا أن يسقطوا ضحية الضنى والقهر والتعذيب؟ إلى متى نضن عليهم بالكلمة الطيبة طوال وجودهم معنا، فلا نقولها - إن قيلت على الإطلاق - إلا بعد غيابهم عنا؟
16
كيف نسترد المقدرة على الحب والاحترام، على الأقل لمن هم أولى الناس أن نضعهم في حبات عيوننا وقلوبنا؟ إلى متى نظل أعدى أعداء أنفسنا؟ وإلى متى نختنق بالصغار والادعاء وتطاول بعضنا على بعض؟ هل كتب على الموهوبين أن يكونوا دائما ضحية الحطابين الفقراء من كل موهبة؟ وإذا صح ما يقوله الحلاج في هذه البكائية «يقتل كل الشعراء بكل بلاد الله» فهل كتب علينا أن نكون أبشع البلاد قتلا لأبنائنا المبدعين في كل مجال؟! ألا يكفي أننا مهزومون حتى نهزم أنفسنا بأنفسنا؟ أنحاول برفع أصواتنا القبيحة أن نتصامم عن أصوات أخرى أولى بأن ننتبه إليها: أصوات الآلات والحفارات التي تقيم المستعمرات والمستوطنات على أرضنا السلبية. وأقدام العدو التي تدوس جثثنا الممدودة بلا وعي ولا حياة؟ ألم تدق ساعة العمل التي توقف طاحونة القول التي سحقت كرامتنا، وتوشك أن تسحق وجودنا نفسه؟ وإذا كان قدر الأدباء والكتاب أن يتكلموا ويكتبوا، فمتى تصبح كلمتهم فعلا وكتابتهم عملا أو دليلا يهدي إلى عمل؟ متى نتعلم من عذاب صلاح ورحيله أن الجو الذي تعيش فيه هو أحسن الجو الذي لفظت فيه حضارات منقرضة آخر أنفاسنا وأننا محتاجون - هنا والآن - لجو جديد يقوم على الحرية والحوار واحترام الإنسان والعمل المبني على المنهج والعلم والحب ؟
أسئلة كثيرة لا أستطيع أنا ولا من هم أفضل مني من الواقفين في الصف نفسه الذي وقف فيه صلاح أن نكتمها عن أمتنا. فمتى تفتح عينيك وعقلك يا شعبي المسكين؟ ومتى تستيقظ للخطر الأكبر يا وطني الأكبر؟ •••
ومما قيل إن الراحل العزيز لم يلتزم بالتقدمية كما يفهمها أنصارها أو أدعياؤها. ولكن لا شك أنه بقي محاربا صلبا للإرهاب والاستبداد والتسلط بكل صوره، وأنه ربما تعاطف مع التقدمية لو أنها لم تأت على أيدي الجلادين بمختلف أشكالهم. لقد ظل عدوا لكل قهر أو إلزام. لا لأن الإلزام شر أخلاقي فحسب، بل لأنه - كشاعر - لا بد أن يرتاب في كل من يؤيده تحت أي شعار أو تبرير أو تعميم.
إن الشاعر لا يكون شاعرا جيدا أو رديئا؛ لأنه تقدمي أو أيديولوجي، بل لأنه قبل ذلك شاعر أو غير شاعر. والفن ليس دعاية، ولا يجب أن يكون. ولكن ببغاوات العصر والسلطة التي تحكم قبضتها على أجهزة الدعاية تريد من الشعراء أن يكونوا دعاة. فلا عجب أن يصطدم الشاعر والفنان صاحب الضمير الحر والرؤية المستقلة بمثل هذه السلطة (التي يضطر أن يكسب لقمته في ظلها)، ولا عجب أن ترتاب هي أيضا فيه وتسلط ببغاواتها لنهش لحمه والتربص به. ولكن القيم الفنية لا تخضع للقيم السياسية، والموهبة المبدعة لن تكون حرة إذا وضعت يدها في قيود الاعتقاد المذهبي. ربما تقول الأجيال الجديدة من النقاد أن صلاحا وجيله ظلوا ثوريين رومانتيكيين في شعرهم ونثرهم وفرديين في رؤيتهم للحياة، قد يكون هذا صحيحا، وله أسبابه التاريخية والاجتماعية. ولكن هذه الأجيال - التي نتمنى أن تكون أسعد حظا منا - لا تستطيع أن تجردهم من إخلاصهم ووطنيتهم وصدقهم مع أنفسهم ودفاعهم عن قضية الحرية والعدل بمعناها الفني والإنساني الشامل. لا شك أن للفن دوره في المجتمع، وهو في النهاية نتاج هذا المجتمع. ولكن اغتراب الفنان العربي عن مجتمعه في السنوات الثلاثين أو العشرين الأخيرة ظاهرة واقعة تستحق الدراسة لا الإدانة. ويجب ألا ننسى أن الفن المغترب فن سياسي أيضا، مهما ابتعد عن سياسة معينة، وهو في النهاية تعبير عن مختلف الضغوط التي جثمت على صدر الفنان وألجأته للاغتراب والاختناق بالعذاب والحزن والصمت، وبدلا من أن نقول ينبغي أن يكون شعرك أو فنك كذا وكذا، علينا أن نكافح لإزالة القيود عن طريق الشاعر والفنان، وخلق المناخ الذي يستطيع أن يبدع فيه، ويتحمل مسئوليته. إن الفنان إنسان قبل أن يكون صاحب مذهب. والوظيفة الأولى للشعر ولكل الفنون هي أن تجعلنا أعمق وعيا بإنسانيتنا وبالعالم المحيط بنا. لا أدري إن كان هذا الوعي سيجعلنا أكثر أخلاقية أو أكثر فعالية، ولكنه سيجعلنا بالتأكيد أكثر إنسانية. يكفينا من الشاعر أنه ينبهنا إلى الوحوش التي تسعى في زحام المدينة (بشر الحافي) أو الوحش الذي يحكم عليها بالموت، وهو نفسه جثة ميتة (بعد أن يموت الملك). أما خطة العمل التي تجعلنا نتخلص منهم فليست وظيفته. إن الشعراء بطبيعة اهتماماتهم وصنعتهم الفنية - كما يقول «أودن» في مقاله عن الشاعر والمدينة - غير مهيئين لفهم أمور السياسة أو الاقتصاد. إن اهتمامهم الطبيعي ينصب على الأفراد والعلاقات والتجارب الشخصية. بينما السياسة والاقتصاد يهتمان بأعداد كبيرة من الناس، أي بالمتوسط البشري (والشاعر يضيق إلى حد الموت بفكرة الإنسان العادي) والعلاقات غير الشخصية وغير الإرادية إلى حد كبير. إنه يحدثنا عن مدن المستقبل لا عن أزمات البطالة والتضخم والإسكان، عن معاناة الإنسان في مجتمعاتنا الحديثة التي يتضاءل فيها ويتشوه «ويتشيأ» ويغترب ويمتحن في كل لحظة في إنسانيته ووجوده الحقيقي الأصيل، لا عن العامل والفلاح والموظف ومشكلاتهم المحدودة. ورسالته هي تغيير ضمير الفرد وقلبه ووعيه، أما تغيير ظروفه الواقعية فأمر متروك للسياسة والعلماء والمصلحين. إنه يطرق أبواب الخلاص لا أبواب الإصلاح. ويأخذ بأيدينا على طريق الحقيقة لا طريق الواقع المحسوس. والمهم - وليس هذا دليلا - أن يكون أمينا وصادقا وقريبا من قلوبنا.
أليس أمام الشعر إذا فرصة للفعل والتغيير؟ أكان يمكن أن يظل العالم على ما هو عليه لو خلا من كل الشعراء؟ أوليست قضية العدل الاجتماعي أهم من كل قضايا الفن وأنصاف المظلومين والمضطهدين ؟ أليس أجدى من عشرات الملاحم والدواوين؟ ولكن المشكلة تكمن في فهمنا لمعنى الفعل والتأثير، لا شك أن العالم كان سيفتقر إلى الحرية والعدل والجمال - أكثر من فقره المزمن فيها - لو خلا من أمثال هوميروس ودانتي والمتنبي والمعري وشكسبير وجوته وموزار وبيتهوفن وشوقي وسيد درويش، ولا شك أن واقعنا كان سيبدو أكثر قتامة وبؤسا لو خلا من صلاح وزملائه المجددين والمتمردين، لقد قدموا لنا الشهادة الحقيقية على ظلم واقعنا وظلامه وتفاهته وتمزقه، أما الفعل المؤثر الذي يغير منه فقد يأتي أو لا يأتي على أيدي غيرهم. والمهم أن قصائدهم نفسها «أفعال» باقية في عالمنا، قيم مؤثرة على قلوبنا وعقولنا، تعطينا الحماية والأمان الخلقي والعقلي والوجداني، وتزيدنا وعيا بإنسانيتنا. إن المثل الأعلى للشاعر والإنسان هو الذي يقترب من وحدة الشعور والعقل، والفكر والفعل. فكيف نتهمه في ظل القهر والتمزق بأنه حزين وسلبي؟ أليس تجسيدا نقيا لحريتنا ووحدتنا المفقودة، لعذابنا وتعذيبنا لأنفسنا؟ والمجتمع الأمثل هو الذي يكفل الحرية الكاملة للاختيار الأخلاقي، فهل في بلادنا نظام واحد وحيد يسمح بهذا المجتمع اللائق بالإنسان؟ إن الدعائي الثرثار ورجل السلطة الحديدي يتهمان الشاعر بأنه يعزف ألحانه في الوقت الذي تحترق فيه روما (هذا إن كانا يشعران بأنها تحترق!) وهما يطالبانه بأن يستغل قدرته على صوغ الكلمات في إقناع الناس بما ينبغي أن يفعلوه. ولكن مهمة الشعر ليست هي إخبار الناس بما يفعلون، بل مهمته - كما قدمت - هي تعميق معرفتنا بأنفسنا وبالعالم الحقيقي: بالخير والشر، بالجمال والقبح، بالحرية والعبودية، ربما استطاع بذلك أن يجعل ضرورة الفعل أكثر إلحاحا، وأن يجعل طبيعته أكثر وضوحا، بحيث يقودنا إلى اتخاذ القرار العقلي والعملي والأخلاقي الحر، ومع ذلك فلا بد أن نقتصد في الكلام عن رسالة الشعر والتزام الشاعر ... إلخ، وغير ذلك مما ضيعنا فيه السنين الطويلة بلا ملل أو كلل. ولا بد أن نقول لأولئك الذين يتجهون للشعر طلبا لرسالة أو برنامج إصلاح: إنكم تطرقون الباب الخاطئ، ولا بد أن نقول لهم أيضا إن الشعر يضيء ويكشف، ولكنه لا يملى ولا يعلم. إن الفنان لا «يحدث» شيئا بمعنى الفعل المباشر، اللهم إلا أن يجعلنا نؤمن بالحياة، ونفرح بها، ونمجدها، ويزيدنا وعيا بالحرية الإنسانية؛ لأن مجاله كما قلت هو عالم القلب لا عالم السياسة والاقتصاد.
إن المعذبين في الأرض (بتشديد الذال المكسورة) قد أرهقوا صلاح عبد الصبور بالكلمات الضخمة والشعارات الغليظة شأن كهان الأروقة الكذبة والحطابين الفقراء مع كل فنان ناجح موهوب. طالبوه بأن يعبر عن أفكارهم هم، أن يضع آراءهم هم في شعره، فأي تعذيب للضمير الحر أقسى من هذا التعذيب؟ إن المجتمع الموحد في العاطفة والأهداف والكرامة والآمال هو الذي يمكن أن يتفجر بالأدب الناضج والشعر الصادق، هذا المجتمع الموحد الذي يكون فيه كل الأفراد كالبحارة المشاركين في شد حبال السفينة هو الذي يحلم به الشاعر. فلنوحد مجتمعنا العربي. ولننهض به من حضيض التخلف، ولندار جراح كرامته قبل أن نتهم الشاعر وندينه بسؤالنا: لماذا أنت حزين؟
إن الحياة كل واحد مؤلف من وحدات كلية، تتألف بدورها من وحدات كلية أصغر. هناك العضو المفرد، والفرد الإنساني، وهناك الفرد والأسرة، والأمة والعالم، وكلها بنيان أو منظومة، أو مجموعات على علاقة بمجموعات أكبر. وكل مجموعة على حدة مختلفة عن سواها. لكن ليس لها معنى إلا في علاقتها بالمجموعات الأخرى. ليس هناك كل بغير الجزء، ولا أي جزء بغير الكل. وكذلك ليس الكل مجرد محصلة للأجزاء. وإنما هو شيء جديد. هذه مسلمات استقرت اليوم في العقل الحديث، فلماذا نكررها هنا؟ لأنه يحدث في بعض الأحيان أن يعمل الجزء وكأنه ليس جزءا من كل أكبر منه (كما في النشاط السرطاني في الجسم الحي)، والنتيجة في هذه الحالة هي المرض المميت والتدهور والانهيار. هذا ما حدث للمجتمع البشري عبر التاريخ، وهو ما حدث لمجتمعنا العربي في السنوات الأخيرة. فقد الجزء صلته بالكل، فقد المجتمع صلته الحميمة بالمجتمع المجاور له، انفصل كل فرد واغترب عن كل فرد، تورمت الأجزاء وبعض «الكلات» أو الوحدات الصغرى تورما سرطانيا وغفلت عن علاقتها بالكل، وفقد الوطن الأكبر علاقته العضوية بالعالم الذي يعيش فيه. والنتيجة؟ هذا التمزق والضياع والانتحار المنذر بالانقراض، وسط هذا الخراب يقف الشاعر وحده. يواجه الزلزال والمباني المتصدعة، عاريا في مهب الرياح والأعاصير، يقف وحيدا عاريا ليقول لنا: أنتم محبوسون داخل أنفسكم، معزولون عن بعضكم. تائهون عن الحقيقة. تسعون وراء الشمس، والشمس في ظهوركم. لا كل في نظركم إلا الأنا الصغيرة الأنانية. إني أعيدكم للكل، أرجع العضو لجسده، والفرد لمجتمعه، والمجتمع لوطنه الأكبر، والوطن للعالم والإنسانية. أنا ضمير التاريخ المثقل بالذنب. هل يسمع صوتي؟ هل تتركني حشرات السلطات والشعارات لأتم أغنيتي؟ عودوا للكل، لإنسانيتكم، لوعيكم، لعالمكم، لحقيقتكم. أنا شاعر المحبة أقول لكم وأتنبأ بالموت وأبشر بالميلاد. قوموا. احتجوا، اختاروا وتحملوا مسئولية الاختيار. اهتزوا. اقشعروا من فرقتكم وهوانكم. افعلوا شيئا. انفجروا أو موتوا. أنا الشاعر. ضعيف ومعرض للخطر، أقول كلمتي وأتحطم. عشت أنادي بمجتمع الحرية والعدل، وأحارب الهوان والقهر، وأحذر من رعب أكبر من هذا سوف يجيء، تحركوا على صوتي كما يحرك البحارة أيديهم بالمجاديف على إيقاع الأغنية المنطلقة من واحد منهم، فيتحرك المركب الواحد، ويشق صدر الموج والريح. تذكروا انهيار الدولة العباسية، وتمزق دويلات المرابطين. إن الحرية والعدل والديمقراطية والعقل مهددة. بل هي في الواقع تخرب كل يوم. يجب علينا أن نختار، يجب على كل منا. قد تكون نظمنا سيئة ولا أمل فيها على الإطلاق، لكن لا يمكن أن يخرب الإنسان تماما. ولهذا أتجه إليه وأتعذب من أجله. لعلكم تحلمون معي وتعملون في سبيل مجتمع جديد، مجتمع يكون كل فرد فيه قادرا على الحب والفهم، حتى ولو لم يحبني أحد ولم يفهمني أحد. أنا لا أنصح ولا أصلح الكون، وإنما أقدم التجارب والحكايات والأمثلة، وعلى كل أن يستخلص منها نتائجه. أنا وقت مفقود بين الوقتين، جسر مشدود بين الماضي والمستقبل. تذكروا يا من تعبرون علينا، أننا تعذبنا هنا من أجلكم، لكيلا تنتهوا نهايتنا، وليكون حظكم أسعد من حظنا. أضنتني شهوة إصلاح العالم . تمنيت أن أترك هذا العالم خيرا مما كان عليه قبل مجيئي. لكن القدرة كانت محدودة، والأيام ضنينة فاذكرني يا من تأتي بعدي، واحفظ عهد الشعر، وعاهدني أن تتسامح وتكافح.
نوفمبر 1981م
الدمعة الخامسة: أوفيليا: ماذا فعلوا بك؟
على الموج الهادئ الأسود، حيث تنعس النجوم
تسبح أوفيليا الشاحبة كزهرة سوسن كبيرة،
تسبح في بطء شديد، ملتفة في وشاحها الطويل.
ومن الغابات البعيدة يسمع صوت الصيادين: «ها لا لا.»
ها هي أوفيليا الحزينة منذ أكثر من ألف عام؛
شبح أبيض يعبر فوق التيار الأسود الطويل.
منذ ألف عام يهمس جنونها الحنون
بأغنيتها الخيالية لنسمة المساء.
الريح تقبل نهديها وتنشر وشاحها الكبير
كأنه إكليل زهرة تهدهده المياه الناعمة،
الصفصاف المرتعش يبكي على كتفيها،
وعلى جبينها الكبير الحالم تهجع أعواد البوص.
ورود الماء اختلجت من لمستها تتنهد حولها،
أحيانا توقظ عشا في شجرة حور نائمة؛
فتفلت منه رعشة جناح صغيرة،
أغنية غامضة تهبط من النجوم الذهبية.
ها أنت يا أوفيليا الحزينة الشاحبة تسبحين فوق أمواج النهر الشاحب الحزين كزهرة سوسن كبيرة تهدهدها المياه الناعمة، الصفصاف المرتعش يبكي على كتفيك، وعلى جبينك الناصع الكبير ترقد زهرة الحب البريء. تسبحين من ألف عام، أغنية غامضة تهبط علينا من النجوم الذهبية. وشاعر حديث اسمه «رامبو» همس بأغنيتك التي تردد أصداء جنونك الحنون. كان تقيا وبريئا مثلك، طفلا قلقا رآك في ألق النجوم.
والشاعر يقول إنه رآك في ألق النجوم؛
باحثة بالليل عن الزهور التي قطفتها يداك، ويقول إنه أبصر أوفيليا الشاحبة طافية على الماء، مكفنة في وشاحها الطويل كالزنبقة البيضاء!
نعم! مت يا طفلتي عندما جرفك نهر أسود طويل. وقبلها غرق عقلك في لجة الظلام والجنون. ونحن نسأل اليوم، ولا ندري لمن نوجه السؤال: من المسئول عن جنونك وعن غرقك أيتها الزنبقة الطاهرة البيضاء؟ أهو الحب الذي خاب أملك فيه، حبك للفارس الحزين، لهاملت الشجاع النبيل المسكين؟ أم هو أبوك بولونيوس الذي جاءت عليك حكمته الحتماء حين حولك إلى فخ لئيم، ووضع على وجهك الجميل قناع التجسس على الحبيب المكتئب المذهول؟ أم تراه هو الملك كلوديوس الذي اغتصب العرش والملكة والمملكة، الثعبان المتوج الذي نفث السم في جسد الدولة، والدمل الكبير الذي نشر الصديد في عروق الحياة والمجتمع، ثم وجدت نفسك في بؤرة تطفح بالجشع والطمع، والفساد والعفن والتآمر والتلصص؟ من نسأل من هؤلاء ومن نتهم؟ هل جنى عليك أحدهم أم كلهم مشارك في الذنب والجناية؟ أتكون مأساة الحياة نفسها هي التي عجلت بمصيرك ومأساتك الحياة التي نخر الفساد جذورها، وحاصرتها الأبخرة الموبوءة فخنقت أنفاسها، وهبت عليها رياح الفجور فأطاحت بفضائلها؟ أم أنك قد كنت من البراءة بحيث لم تتحملي الحياة مع البشر، وكنت الوحيدة التي لم تسقط ولم تتلوث في عالم ساقط مسموم، ولهذا لم يبق أمامك إلا أن تلوذي بالجنون، وأن يسلمك الجنون إلى الموت؟ اعتل الزمن وتفشى المرض في كيان الطبيعة والدولة والمجتمع. فتعالي نحلم بالحب وبالحرية قبل أن تفيقي منه تحت سطح الماء. «تعالي نصحب خطواتك على طريق الحياة التي كنت شاهدة عليها قبل أن تصبحي شهيدتها. تعالي نبدأ من غرفة في منزل أبيك وأنت تودعين أخاك قبل سفره بقليل.» •••
تسلل الحب إلى قلبك كأنه طيف لطيف شريف. وتسللت معه الحيرة من هذا الضيف الرقيق المخيف. ويسارع أخوك «لايرتس» إلى تحذيرك مما يبديه لك الأمير هاملت من بوادر الحب، وينصحك أن تبقي وراء عواطفك، بعيدة عن مرمى الشهوة والخطر.
لايرتس :
أما عن هاملت وما يمنحك من تدليل، فلا تحسبيه إلا مجاملة ونزوة عابرة،
بنفسجة في ريعانها
قد تبدو في نضارتها، ولكنها لا تدوم،
وقد تزكو رائحتها، ولكنها سرعان ما تذبل.
إن شذاها وحسنها لا يعيشان
أكثر من لحظة واحدة.
إنه يخاطب فيك العذراء الغريزة التي مهما بالغت في الحذر، فهي تسرف في الإهمال إن كشفت القناع عن جمالها للقمر، ولهذا يطلب منك أن تخشي الأمير ولا تعرضي شرفك للضيم إن ضيعت قلبك من أجله، أو أصغت أذنك الساذجة لأغنيات حبه، وهذه نصائح لمن لا يحتاج إلى النصيحة، يقدمها من سيغرقه أبوك بعد قليل بسيل حكمته العميقة العقيمة التي لا يقدرها الشباب إلا بعد أن يقعوا في شراك التجربة. ولهذا تبتسمين وتقولين لأخيك.
أوفيليا :
سأجعل معنى هذا الدرس النافع
حارسا على قلبي، ولكن يا أخي الحبيب
لا تفعل ما يفعله الواعظ الأثيم؛
إذ يدل الناس على الطريق الوعرة الشائكة إلى السماء،
بينما يسير على طريق الشهوة المحفوف بالورود
كالفاجر الوقح الخليع،
ويهزأ بنفسه من النصيحة التي يقدمها لغيره،
ويأتي أبوك - وزير الملك الأول وكبير أمنائه - فيشتد عليك بالنصيحة والتحذير. سألك عما سمع عن لقائكما، فاقترفت بما قدمه لك الأمير من عروض تدل على ميله إليك. ويسخر منك الأب ويقول:
بولونيوس :
ميله؟ إنك لتتكلمين كفتاة غريرة خضراء، أتصدقين هذه العروض كما تسمينها؟ وتجيبين إجابة خضراء كما سماك أبوك. وزفرات الحرية تتردد مع كلماتك الحائرة.
أوفيليا :
لست أدري يا سيدي، ماذا أصدق؟
لقد محضني حبه الشريف،
ودعم قوله بأقدس الوعود.
بولونيوس :
شواك لصيد العصافير
هذا التوهج الذي يبعث من النار
أكثر مما يبعث من الدفء،
وينطفئ بنفسه قبل أن يشتعل
لا تحسبيه يا ابنتي نارا.
أما عن الأمير هاملت فلا تصدقي من أمره إلا أنه شاب.
وجملة القول يا أوفيليا
لا تصدقي وعوده
وخذي حذرك. هذا هو قولي لك.
والآن انصرفي لشئونك.
أوفيليا :
السمع والطاعة يا سيدي.
وازدادت عليك الحيرة يا أوفيليا. فأبوك وأخوك ينصحانك بتجنب الأمير، بل يزينان لك الحذر منه والتوجس فيه، ويأمرانك بالامتناع عن قبول رسائله ورسله وهداياه، لكن نبضات قلبك تحدثك بأن حبه شريف. وتجلسين في غرفتك أيتها العذراء، فتنسجين مع الثوب الذي بين يديك خيوط العش الدافئ في شجرة الملك والمستقبل الهنيء. ويفاجئك الأمير بزيارته، فترين سترته المفكوكة الأزرار، ورأسه الحاسر، ووجهه الشاحب في مثل شحوب مرضه ونظراته التي تقطع القلب من الألم كأنما أطلق سراحه على التو من الجحيم ليروي الأهوال. وتفزعين إلى أبيك.
بولونيوس :
أجن حبا بك؟
أوفيليا :
لست أدري يا سيدي، ولكني في الحقيقة أخشى أن يكون كذلك.
بولونيوس :
لا زلت لا تدرين، ولكنك تخشين عليه وتشفقين أكان الأمر في حاجة إلى معرفة أو دليل؟ ألم يكن الصمت والذهول لسان حاله الوحيد؟ يسألك أبوك عما قاله لك فتجيبين.
أوفيليا :
أخذني من معصمي، وضغطه ضغطا شديدا، ثم ارتد عني إلى الخلف طول ذراع، رافعا يده الأخرى مفتوحة فوق حاجبيه، وراح يحدق في وجهي بإمعان، حتى لكأنه يريد أن يصورني. ومكث طويلا على هذه الحال، ثم هز ذراعي برفق ورفع رأسه وخفضه ثلاث مرات، وأرسل زفرة عميقة خلتها قد هزت كيانه وذهبت بروحه، ثم خلى سبيلي، وصار عني ورأسه ملتفت إلي، واستمر في السير كأنه بغير حاجة إلى عينين تنيران له الطريق، وخرج من الباب دون عون منهما، وبصره معلق بي ضياؤه حتى اختفى.
بولونيوس :
تعالي معي. سأذهب إلى الملك.
هذا هو جنون الحب بعينه.
وتظنين به الجنون وتصدقين. بل تحاولين مساعدته بكل سبيل على الرغم مما أوصاك به أبوك، وما كان لك إلا أن تطيعيه. ويأخذك معه إلى الملك والملكة ليخبرهما بنبأ انطلاق الشرار خشية أن تسطع النار. صحيح أنه يتصور، بما طبع عليه من حنان الأب وبصيرته، أنه قد جن بسببك. فلما صددته عن نفسك أصابه الأسى، ثم حرم على نفسه الأكل والنوم، ثم أصيب بالهزال، ثم تردى في الجنون الذي يهذي فيه ويبكي عليه الجميع. ويعرض أبوك على الملك والملكة الدليل على جنونه، والدليل رسالة بعثها إليك وسلمتها طائعة لأبويك.
بولونيوس (يقرأ الرسالة) :
ارتابي ما شئت بأن الأنجم من نار،
وارتابي في دوران الشمس
في أن الحق كذوب، وأن الصدق يقول البهتان،
لكن لا ترتابي أبدا في حبي.
لكن أباك - بما اكتسبه على مر الزمن والتجربة من حنكة رجل البلاط الخبيثة - ينصح بتعقب مظاهر الاضطراب، واكتشاف مكمن الحقيقة، حتى وإن اختفت في باطن الأرض، ويدبر مع الملك تدبيره. آه من ظلم الأب لابنته! هل عرف هو نفسه مداه؟ هل أدرك أنه يسدد الطعنة إلى قلبك، ويئد فيه براعم الحب الوليد؟ لن يكتفي بأن يتجسس على هاملت. سيؤكد للملك خضوعه وحسن أدائه لوظيفته. وسيجرفك معه على المنحدر الخطير . سيقول وما أفظع ما يقول:
سأطلق عليك ابنتي.
ولنختبئ عندئذ وراء الستارة
ونرقب المقابلة.
دبر الشيخ فأساء التدبير. فرض عليك أن تمثلي دورا لم تخلقي له، ووضع على وجهك الجميل قناعا هو منه بريء. لم يكتف بإبعادك عن طريقه. بل جعل من براءتك وتقواك فخا يطبق عليك بمصيدة تكشف عن حقيقة جنونه.
بعد أن يلقى الحبيب المذهول المتشبث بثوب الحداد نجواه المشهورة، أنحيا أم نموت؟ ذلك هو السؤال، ينتبه فجأة إلى وجودك، فيهتف:
هاملت :
أوفيليا الجميلة! أيتها الحورية. فلتذكر صلواتك كل خطاياي. وتذكرين لقاءكما الأخير. وربما أحسست بالذنب لما بدا عليه من ذهول، وربما بلغك ما أشيع عنه في البلاط من جنون. لقد قالت عنك الملكة - وهي الأم الطيبة رغم كل شيء: إذا كان جمالها الطيب قد أذى الأمير، فربما تعيده فضائلها إلى طريقه المعتاد. لم تكوني هناك حين قالت ذلك، وحين أحكموا المؤامرة. ولكن لا بد أنك قد حاولت بنفسك أن تعيديه إلى الطريق. ويحرك الأمل خطاك فتسألينه كيف كانت أحواله في الأيام الأخيرة. وتحاولين - نزولا على أمر أبيك لا على صوت الطائر الملهوف في صدرك - تحاولين أن تردي له هداياه، فيفاجئك بقوله:
هاملت :
لا. لا. أنا لم أعطك شيئا قط.
وتحاولين أن تذكريه بأنه قدمها إليك، ومعها كلمات عطرة الأنفاس زادت من قدرها. ولكنه يصدمك بسؤاله:
هاملت :
هل أنت عفيفة؟
أوفيليا :
سيدي!
هاملت :
هل أنت جميلة؟
أوفيليا :
ماذا تقصد يا سيدي؟
هاملت :
أقصد إن كنت عفيفة وجميلة، فلا يصح أن يسمح عفافك بأي وسيلة بجمالك.
أوفيليا :
وهل يتصل الجمال بمن هو خير من العفاف؟
هاملت :
طبعا، فقدرة الجمال على تحويل العفاف إلى سبيل الخنا والفجور أكبر من قدرة عفاف على جعل الجمال على صورته. قديما كان في هذا القول ما فيه من تناقض، أما اليوم فإن الزمن يؤكد صدقه. لقد أحببت يوما ما.
أوفيليا :
يقينا يا سيدي. وقد حملتني على الاعتقاد بهذا.
هاملت :
كان عليك ألا تصدقيني. فمهما طعمت الفضيلة جذعنا القديم، فلن نتخلص تماما من طعم الخطيئة الأولى. أنا ما أحببتك أبدا.
أوفيليا :
إذا فقد خدعت.
هاملت :
اذهبي إلى الدير! فيم حرصك على أن تصيري أما لعصاة آثمين؟ ها أنا فيما أظن رجل شريف، ومع ذلك فباستطاعتي أن أتهم نفسي بآثام يخيل إلي معها أنه ربما كان من الخير أن لم تلدني أمي. إني لشديد الكبرياء، حريص على الأخذ بالثأر، عنيد الطموح، ورهن إشارتي من الآثام ما يعجز فكري عن حصره، وخيالي عن تحديد شكله، ووقتي عن تنفيذه، أي نفع يرتجى من زحف أمثالي بين السماء والأرض، نحن جميعا أوغاد أنذال، حذار أن تثقي بأحد منا. هلمي! حثي الخطا إلى الدير! أين أبوك؟ هل سألت نفسك عن السر في سؤاله المفاجئ عن أبيك؟ لقد لاحظ حفيف الستارة، فأدرك أن وراءها عينا أخرى من العيون التي صارت تتربص به. وكذبت كذبتك البيضاء الوحيدة، فقلت:
أوفيليا :
في البيت يا سيدي. (ويشتد هياجه فيصيح):
هاملت :
أوصدي الأبواب عليه، حتى لا يقوم بدور الأبله إلا في بيته الوادع!
وتهمسين في حيرتك:
أوفيليا :
أيتها السموات! أعينيه وأعيديه إلى رشده!
الدير :
لكن بركان ثورته لا يتوقف عن إرسال حممه على رأسك الجميل. إنه يشتد في حملته عليك وعلى جنسك كله، ليشفعها بنصيحته البشعة، اذهبي إلى الدير! (ولقد كانت كلمة الدير في لغة العصر تفيد كذلك معنى الماخور.)
هاملت :
إذا تزوجت أعطيتك مهرا هذه اللعنة: كوني عفيفة كالجليد، نقية كالثلج فلن تنجي من المذمة. اذهبي إلى دير. أما إذا اضطررت للزواج فتزوجي أحد البلهاء؛ لأن العقلاء يعلمون حق العلم أنكن تجعلن منهم وحوشا ذات قرون، هلمي إلى الدير وأسرعي!
أوفيليا :
ما السر وراء هذا الغضب الهائل؟ ولماذا يتدفق سيله على رءوس النساء أجمعين؟
هاملت :
لقد سمعت كذلك كيف تصبغن وجوهكن. أعطاكن الله وجها واحدا، ولكنكن تصنعن لكن وجها آخر. تتصنعن الرقص والمشي، وتتكلفن في الكلام، وتخلعن على مخلوقات الله أسماء من ابتكاركن، وتجعلن الجهل عذرا للخلاعة، إليكن عني وكفاني هذا، فقد أصابني الجنون. أتسمعين؟ هلمي إلى الدير! اذهبي!
ولا تملكين، وقد تركك وحدك، إلا أن تندبي العقل النبيل الذي هوى، وترثي لرجاء الدولة وزهرة أملها التي ذوت، وتبكي مرآة الذوق والرقة التي تحطمت، وقبل كل شيء حلم العش الدافئ الذي سقط على الأرض، وتناثر أمام عينيك.
أوفيليا :
وأنا أتعس النساء وأبأسهن،
أنا التي رشفت عسل وعوده،
أرى الآن هذا العقل النبيل الرفيع،
وقد اختل اختلال أجراس عذبة،
فراحت تتحشرج بالأصوات المنكرة.
وهذه الصورة الفريدة للشباب اليافع،
يعصف بها الجنون!
يا ويلتي لما رأيت!
ويلتي لما أراه!
أي عنف أشد من هذا العنف؟!
أي مرارة أقسى من هذه المرارة؟!
كيف أمكنه أن يخاطبك بكل هذه الغلظة، أنت يا من طالما سألك أن تدعي له في صلواتك بالغفران؟
كيف أمكنه أن يتنكر للحب الطاهر الذي اعترف بأنه ملك عليه قلبه فيما مضى؟ ومن أين واتته القوة الوحشية التي جعلته ينتزع جذوره من دمه، ويلقي بها في وجهك؟
أنت يا من سماك «ابنة السماء، معبودة روحي، أوفيليا الطاهرة»؟
وليت الأمر توقف عند الغلظة والقسوة ولم يترد في هاوية الجنون. هذا الذي كان رجاء الدولة وزهرة آمالها، ألم يكفه أن يحطم قلبي فحطم عقله أيضا؟ والذي أحببته وأحبه الشعب كله، هل فقد الثقة في كل شيء وكل إنسان؟ ألم يعد يرى من حوله غير ظلام فوق ظلام؟ كيف تخلت عنه بصيرته النافذة فلم يعد ينظر في أعماقي؟
وتقفين لحظات حائرة حتى يظهر أبوك والملك من خلف الستارة. انتبهت إلى ما يقولانه عن شكهما في الجنون المزعوم؟ هل آلمك أنه لم يجن سببك؟ وهل فهمت وهما يدبران لنفيه إلى بلد بعيد أنهم ورطوك في التدبير؟ وهل أدركت الآن سر ثورته عليك، وهو يرى القناع الذي وضعوه على وجهك، ويمد يديه لينتزعه، فيكاد يسلخ معه اللحم ويفجر الدم؟ أم تراك لم تكتشفي شوكة الحقيقة الرهيبة التي تدمي فؤاده؟ الجميع يمثلون، وأنا أيضا أمثل دورا وآتي بالممثلين الفقراء الجوالين لكي أعري وجوه الممثلين، لكن يا رحمة السماء! هل يمكن أن تشترك أوفيليا في التمثيل؟ هل يمكن أن تصبح «السماوية معبودة روحي » عينا تتجسس على نجوى القلب، وتتطفل كاللص على مكنون النفس؟ حقا حقا! فسدت الطبيعة وانهار الناموس، خرج الزمن عن محوره، فكيف أعيده إلى نصابه ومجراه؟ سقطت كل القيم وساد العدم وصار الظلام، لكني سأتحمل عبئي وأواجه المحنة وحدي. وينصرف الأمير اليائس في ثورته، الثائر من يأسه. وتقفين حائرة لا يدري أحد إن كنت قد فكرت في شيء، أو إن كنت لزمت الصمت عن القول وعن التفكير. العالم أيضا في عينيك ظلام، والعالم - بعد جنونك يا هاملت - محض جنون وحطام. وتنتبهين من الحلم المفزع على صوت أبيك.
بولونيس :
والآن يا أوفيليا.
لا حاجة لإعادة ما قاله الأمير هاملت، فقد سمعنا كل شيء.
وبدأ عقلك الجميل ينفصل عنك. هذا العقل الذي لسنا بغيره سوى صور ووحوش. هل التمست العذر لهاملت على سيل الحمم التي صبها على رأسك الصغير؟ إنك لم تستحقي كل هذا الغضب، وكل هذه القسوة، وما كان لك أن تعصي أباك الحبيب. لكن الحب قد ضاع إلى الأبد، وسيضيع كذلك الأب الحبيب. وأنت يا أوفيليا تهيمين في رياض جنتك العذرية، لا تدرين بالآلام التي عذبت نفس الأمير المسكين. لا تعرفين أنها غرقت بين الاكتئاب الذي سمم دمه وعقله، وبين الرغبة في الثأر لمقتل أبيه الذي لم ير شبحه الحزين. وبما أحسست بهواجسه وشكوكه. لكنك لم تتصوري أبدا أنها ستصل به إلى الشك في حبك. وخرجت من جنتك إلى الأبد عندما قتل أباك. لم تكوني معه عندما صب سيل غضبه على أمه. ولم تشعري بألمه عندما اكتشف أن القتيل الذي يتمخض وراء الستارة لم يكن هو رأس الأفعى، لم يكن هو الدمل الكبير الذي سمم صديده عروق المملكة، والذي عاش حياته وكرس جهوده لقتله بضربة سيفه القاضية، كان المقتول أباك. وحزن الأمير الحبيب، لا لأنه جدير بأي محبة أو تقدير فهو يد الدس التي أرسلها الملك في أعقابه، بل لأنه والدك أنت؛ والد أوفيليا الطاهرة التي أحبها كما أحبته، وإن عجز من فرط التأمل والتألم عن الإحساس بمدى حبه.
وخرجت من جنتك إلى الأبد.
واستدعاك الملك والملكة فرحت تهذين بغناء لا يفهمه أحد؛ لأن الجميع - بما فيهم محبوبك - مشغولون بالتآمر والتدبير، بالتمثيل وكشف التمثيل، بالمكر والتزييف والخداع الذي أفسد الحياة، وكان دائما - دون أن تدري - هو طابع الحياة.
وحدقت الوحوش الآدمية في وجهك البريء وخصلات شعرك المضطرب الجميل وأنت تغنين:
أوفيليا :
سافر الموت به يا طفلتي،
ونما العشب على أجفانه،
واستراحت في ثبات صخرة
عند رجليه وفي أحضانه.
الملكة :
ولكن يا أوفيليا.
أوفيليا :
أرجوك اسمعي.
كفنوه في رداء أبيض
فبدا كالثلج في أكفانه.
الملكة :
انظر إليها يا سيدي.
أوفيليا :
وتزيا النعش بالورد شذى،
وسوى الموكب في أحزانه،
وبدا القبر فمدت شوقها
أدمعا حرى إلى جثمانه.
الملك :
كيف حالك يا جميلة؟
أوفيليا :
بخير والحمد لله. يقولون إن البومة كانت ابنة خباز، إننا يا مولاي نعرف ما نحن، لكننا لا نعرف ما سيئول إليه. بارك الله مائدتك!
الملك :
إنها تقصد أباها. كم مضى عليها وهي على هذه الحال؟
أوفيليا :
أرجو أن يتم كل شيء على خير. علينا أن نتمسك بالصبر. لكنني لا أملك إلا البكاء كلما تصورت أنهم سيرقدونه في الأرض الباردة.
سيعرف أخي بالأمر. ولهذا أشكر لكم نصيحتكم الطيبة. تعالي يا عزيزتي! تصبحن على خير يا سيداتي. يا سيداتي اللطيفات تصبحن على خير (تنصرف) .
الملك (للملكة) :
هذا سم الحزن العميق، وهو ينبع كله من موت أبيها.
أصحيح أن السم كله ينبع - كما قال الملك - من موت أبيك؟ أم أن السم تفشى في المملكة بأسرها، وانتشر في شرايين الطبيعة البشرية نفسها؟ وتهيمين كالشبح الشاحب في أرجاء البلاط، كشعاع يتخبط وسط الظلمات، يتخبط حينا، ثم يذوب وينطفئ ببحر الظلمات.
وتعودين للظهور في المشهد الخامس من الفصل الرابع بعد رجوع شقيقك «لايرتس» من غربته. لقد رجع ليثأر من قاتل أبيه، وها هو ذا يصمم على الثأر ممن يتصور أنه تسبب في جنونك. إنك تترنمين بأغنيتك الغامضة أمام أخيك وتقولين:
أوفيليا :
فوق نعش حملوه،
وبقبر مددوه.
آه يا ويلي آه!
بدموع أمطروه،
بدموع أمطروه.
الوداع يا حمامتي،
حمامتي، الوداع.
لايرتس :
إن هذا الجنون أقوى من كل حس سليم. إنها تلمس الغم والأسى والعذاب والجحيم نفسه فتحيله إلى حسن ورواء.
أوفيليا :
ألن يعود من قضى؟
كيف يعود من مضى؟
هيا اذهبي؛
فلن يعود.
لن يعود أبدا
ونحن نبكيه سدى.
يا رحمة الله به،
ورحمة الله بنا! •••
على الموج الهادئ الأسود حيث تنعس النجوم
تسبح أوفيليا الشاحبة كزهرة سوسن كبيرة
تسبح في بطء شديد، ملتفة في وشاحها الطويل. •••
كأنه إكليل زهرة تهدهده المياه الناعمة
الصفصاف المرتعش يبكي على كتفيها
وعلى جبينها الكبير الحالم تهجع أعواد البوص. •••
ورود الماء التي اختلجت من لمسها تتنهد حولها،
أحيانا توقظ عشا في شجرة حور نائمة
فتفلت منه رعشة جناح صغيرة
أغنية غامضة تهبط من النجوم الذهبية. •••
البؤرة ما زالت تنضح بالعفن وتتصاعد منها الأبخرة الموبوءة. والملك يدبر مع أخيك المكيدة التي ستصرع هاملت. وتدخلت الملكة هالعة مفزوعة.
الملك :
ما وراءك يا مليكتي المحبوبة؟
الملكة :
مصيبة في أعقاب مصيبة. أختك غرقت يا لايرتس.
لايرتس :
غرقت آه! أين؟
الملكة :
هنالك صفصافة تميل على غدير
يعكس أوراقها الكئيبة في تياره الصافي،
هناك ذهبت أوفيليا بأكاليل غريبة
من زهور الغراب والأقحوان والزنبق في لون الأرجوان الذي يدعوه الرعاة بأسماء غليظة وتسميه صبايانا العفيفات «أنام الموتى».
وعندما تسلقت الشجرة،
لتعلق أكاليلها المضفورة من الأعشاب
على الأغصان المتأرجحة،
انكسر فرع حسود
وهوت مع أكاليلها في مياه الغدير الباكي،
انتشرت ثيابها وحملتها كحورية البحر برهة من الزمن،
راحت فيها تغني مقاطع من ألحان قديمة
كأنها لا تدرك محنتها،
أو كأنها مخلوق نشأ في الماء وتعود على عنصره،
لكن ذلك لم يستمر طويلا،
فلم تلبث ثيابها التي ثقلت بما شربته
أن انتزعت المسكينة التعسة من شكواها الحنون،
وهوت بها إلى حتفها في الطين.
لايرتس :
وا حسرتاه! أغرقت إذا؟
الملكة :
غرقت. غرقت.
لايرتس :
أوفيليا المسكينة. غزيرة هي المياه التي أنت فيها.
ولهذا سأمنع دموعي
وداعا يا مولاي عندي كلمات من نار
تود لو يضطرم لهيبها
لولا أن دموعي تطفئها.
ضاقت الأرض بما وسعت فلم تمددي عليها جسدك، ولهذا اخترت فراش زفافك للموت على سطح الماء. وابتعدت عن الأرض التي تنوء بحمل القتلة والفجرة والأوغاد الخداعين لكي تموتي طاهرة في الماء الطاهر.
ويأتي المشهد الأول من الفصل الخامس والأخير، فنرى مراسيم الدفن المبتورة، حتى رجال الدين أبوا عليك تراتيل القداس؛ لأن روحك فيما يقولون لم ترحل في سلام. ولولا أن تدخل الملك لدفنت كما أرادوا في أرض غير مقدسة، وبقيت فيها إلى أن ينفخ في الصور لولا أوامره لأهيل عليك الحصى والحجارة وشظايا الفخار. وأذن لك على مضض أن تشيعي إلى مثواك وعليك أكاليل العذارى، وأن تنثر عليك الزهور على رنين الأجراس.
وأنت في تابوتك - ينمو البنفسج من جسدك، ويتضوع منك الشذى - لا تدرين أن حبيبك المكتئب من طول ما تأمل حقيقة نفسه وحقيقة الحياة قد آب من غربته ليتمم انتقامه، ويسعى إلى مصرعه ومصيره. ولقد كان قبل وصول موكب جنازتك مشغولا كعادته بالتأمل والتألم إلى حد السخرية المرة من الحقيقة المرة للموت والحياة.
ضحك مع حفاري القبور إلى حد البكاء، ونثر نكاته اللاذعة فوق الجماجم الخرساء، لقد عرف وهو الآن مستعد لتقبل كل شيء والتسليم بكل شيء.
إن موتك ينتزع منه صرخة حادة. يحرك السكين في الجرح الساكن منذ سنين. لقد واجه منذ لحظات حقيقة الموت المجرد، موت المهرج «يورك» الذي طالما لعب معه وهو صغير، وموت السياسي الداهية، ورجل البلاط الأجوف، والمحامي الماكر، وموت الإسكندر العظيم الذي أصبح طينا قد يسد ثقبا ليصد الريح، أو يصير سداد لدن خمر أو برميل، ولكنه الآن يواجه موتك أنت ومن يدري؟ ربما يواجه لأول مرة في حياته حقيقة حبه لك، حبه الذي أنكره وتنكر له، ولو أحس به لخلصه من تردده، لو آمن به لما اكتسى لون العزم الأصيل بصفرة التوجس والقلق العليلة. إن موتك يا أوفيليا هو الذي يكشف له الآن عن سر الحياة والحقيقة الذي طالما حاول عبثا أن يرفع عنه الغطاء. أليس من أعجب أسرار هذا السر العجيب أن حفرة من الطين هي التي ستضم ضيفا عزيزا مثلك؟ ألم يكن الأولى أن تلتقي في غيمة أو وردة ؟! أنت يا من نجوت وحدك من السم الذي استشرى في دماء كل الذين عرفهم كما استشرى في دمه. يا من لم يزرع فيها، دون الجميع، ذلك الدمل الكريه مكان الوردة التي لا تزال تزين جبهتك الناصعة بالحب البريء. رباه! أكان ضروريا أن تجني وتموتي ليتم تطهير دولة وبعثها من جديد؟ أكان انهيارك رمزا لانهيار المجتمع وتصدع الروح وفساد الطبيعة والإنسان؟ أم كان كالنبوءة المقدسة التي تسبق المحنة وتنذر بالسقوط. لعله الآن قد أدرك أنك الضحية. لعله فهم أخيرا أنه مشترك في الوزر الذي ارتكبه الجميع لعله لا يسأل: ماذا فعلوا بك؟ بل يسأل: ماذا فعلنا بك؟ كيف عمينا عن رؤية نورك؟
وينزل لايرتس وهاملت إلى القبر. وينشب العراك، حتى يفرق الحاضرون بينهما. ويصرخ هاملت متوعدا:
هاملت :
والله لأحاربنه بهذا الشأن
حتى تتوقف رموش عيني عن الحركة.
الملكة :
أي شأن تعني يا ولدي؟
هاملت :
لقد أحببت أوفيليا،
وإن أربعين ألف أخ
لن يساوي حبهم
مقدار حبي لها.
أتريد أن تبكي؟ أن تقاتل؟ أن تصوم؟ أن تتجرع خلا وتأكل تمساحا؟ أم تريد أن تمزق نفسك وتدفن نفسك حيا معها؟ سأفعل ذلك أيضا.
لكن ماذا يجدي التحدي؟ ماذا تنفع الصرخات والزفرات؟ إن المأساة الحقيقية داخل المأساة قد وقعت، والستارة تهبط الآن على أفجع فصولها. طبع القدر خاتمه الثقيل على مصائر الجميع. ولم يبق إلا أن تدور عجلات عربته لتنحدر في الهاوية الأخيرة.
ويكمل الشاعر الذي ذكرت لك في البداية إنه يشبهك في روحه ومصيره، يكمل أغنيتك الغامضة التي تهبط من النجوم الذهبية:
أوفيليا الشاحبة! أنت أيتها الجميلة كالثلج!
نعم. مت يا طفلتي عندما جرفك نهر!
لأن الريح الهابطة من جبال النرويج الشامخة
كلمتك في همس عن الحرية القاسية،
لأن نسمة تخللت شعرك الغزير،
وحملت لروحك الحالمة أنباء غريبة،
لأن فؤادك سماء غناء الطبيعة.
في بكاء الأشجار وتنهدات الليالي،
لأن نداء البحار المجنونة، نشيجها الهائل المرير
كسر قلبك الطفل، قلبك الإنساني الرقيق،
لأنه في صباح يوم من أبريل جثا فارس شاحب جميل
فارس مسكين مجنون
عند ركبتيك في صمت وذهول!
السماء! والحب! والحرية!
أي حلم أيتها المجنونة المسكينة
ذبت فيه ذوبان الثلج في اللهيب؟!
رؤاك العميقة هي التي خنقت كلمتك
واللانهاية الرهيبة أقلقت عينك الزرقاء!
تصدعت أركان المجتمع المريض، وانهارت فوق رءوس المرضى الذين تسببوا في سقوطه. ومضيت أنت يا أوفيليا، شهيدة عصر مريض وشاهدة عليه، كما يمضي شعاع توهج لحظة في بحر ليل دامس. وانطفأت شعلتك الأخيرة في الماء بعد أن عصفت به ريح الجنون. لكن من الذي فطن إلى الحكمة من جنونك وموتك؟ حتى حبيبك الحزين من طول ما تأمل وجه الحقيقة المرة خلف الأقنعة لم يعرف سرك، ولم يستطع أن يحبك. كأن الزمن قد خرج عن مجراه وجذور الشر كانت ضاربة في جسدك الوجود الذي أراد أن يعيده إلى مجراه، كما كانت ضاربة في جسد المجتمع والوجود، وكان من المستحيل أن يداويه شعاع نجمة عبرت السماء الدنمرك، ثم احتواها الظلام أو زهرة بريئة تفتحت وسط غابة من الأعشاب العفنة والحشرات الفتاكة.
لكن شبحك الأبيض كالثلج، النقي كالزنبقة سيظل يهيم على الأرض،
والريح التي كلمتك في همس عن الحرية القاسية ستظل تتكلم،
ونداء البحار الذي كسر قلبك الطفل سيظل ينادي قلوب الأطفال،
والحلم الذي ذبت فيه ذوبان الثلج في اللهيب،
الحلم العميق الذي خنق كلمتك وأقلق عينيك،
الحلم بالحب والحرية سيظل يهمس للقلوب والعيون التي تشبه قلبك وعينيك.
وإذا ظل الزمن يخرج عن محوره ومجراه،
وظلت الأرض تطفح بالآثام واللعنات،
والمجتمع ينوء بثقل اللئام والأوغاد والكلاب والذئاب والقرود والحشرات،
فسيوجد دوما من يعيد الزمن لمجراه،
من يجعل الأرض مسكنا للبراءة والنقاء،
ولتنبح الكلاب القمر كما تشاء، فسيبقى القمر ساطعا في السماء،
وتبقين أيتها البريئة كشعاع النجم الوضاء،
كالزنبقة البيضاء طافية على وجه الأرض والماء.
1984م
الدمعة السادسة: دموع أوديب
بكائية في تسعة مشاهد
الشخصيات
أنتيجونا (ابنة أوديب).
أوديب.
جوكاستا.
تريزياس.
كريون.
بوليبوس (ملك كورنثة)، ميروب (ملكة كورنثة): والدا أوديب بالتبني.
رسول من كورنثة.
الراعي.
الجوقة.
الهولى. (تبدأ البكائية بعد انتحار جوكاستا وفقء أوديب لعينيه وقبل مغادرته طيبة.) (فاجأني وجهه الحزين الملطخ بالدم، وأنا أستقل الطائرة التي أقلتني من أرض وطني إلى مكان آخر. ثم ظل يلاحقني حتى كتبت هذه البكائية المسرحية، أعلم أن الإقدام على كتابة «أوديب» مغامرة لا تخلو من التهور، بعد عشرات المحاولات من سوفوكليس إلى اليوم. لكنها سطور من وصيتي للإخوة والأبناء إلى وطني، حتى لا يصبح الغدر هو قانون الحياة فيه، ويسقط القناع الأسود الذي وضعه الانتهازيون ولصوص الحرية والعلم والضمير على وجه مصر النبيل.) (تبدأ البكائية بعد انتحار جوكاستا وفقء أوديب لعينيه وقبل مغادرته طيبة.)
1 (المشهد ساحة جرداء أمام سور طيبة، ترتفع فيها درجات أشبه بدرجات مسرح قديم مهجور. على اليمين كتلة بشرية مظلمة من عجائز المدينة، ونسائها الثكالى، تظهر أو تتوارى كلما دعت الضرورة، تصدر عنها تهويمات تحلق في الفضاء كسحابة غائمة، ولا نتبين أطيافها إلا حين يدخل معها أوديب في حوار أو يشتبك معها في جدال يتردد صوتها المعتم العميق قبل دخول أوديب، تسبقه ابنته أنتيجونا التي جرت مذعورة، واستندت إلى حجر كبير.)
الجوقة :
أوديب. اخرج اخرج يا أوديب. غادر طيبة يا أوديب.
أوديب (يندفع داخلا يتحسس الطريق بعد أن سبقته أنتيجونا ولاذت بحجر كبير) :
ابنتي. ابنتي. أين أنت يا حبيبتي؟ لماذا تركت يدي؟ أمسكتها ونزلت بي الدرج، فلماذا تركتها؟ يدي التي فقأت عيني. أين أنت؟ هاتي يدك. تعالي يا صغيرتي. (أنتيجونا تبكي.)
أوديب (يقترب منها) :
لا تتخل عني يا حبيبتي. أنت عيني الثالثة لم يبق لي سواك. تعالى (يتخبط بين الأحجار) .
الجوقة :
اخرج اخرج يا أوديب.
غادر طيبة يا أوديب.
لم لا تسرع نحو المنفى؟
لم تتلكأ عند السور؟
أوديب :
ها هي المدينة تطاردنا. ترسلنا للمنفى بعد أن نبذتنا وتخلت عنا. تبكين يا حبيبتي؟ المدينة قاسية يا صغيرتي. عمياء لا تبصر مثل أبيك. أما زلت تحنين إليها يا ابنتي؟ أتنتظرين رفيقاتك في اللعب؟ ألم تتوقعين أن تظهر أختك «اسمينا» من وراء الشجر لتغمض عينيك بيديها، وترن ضحكتها وتجلجل كأجراس القطعان اللاهية فوق رأسك المتعب الصغير ؟ لا. لا تنتظري أحدا. لا تتوقعي أن يفاجئك أحد أو يشد ثوبك أحد، حتى كلبك الأبيض تخلى عنك. لم يبق لك سواد ولم يعد لي سواك.
الجوقة :
أواه إني إن أرثي لك أبكي من أجلك يا أوديب.
يا أتعس رجل نظرته عيني،
يا من تتخبط وحدك في ظلمات الليل،
وخطاك تقودك للظلمات الأبشع
في «هاديس» حيث تقيم مع الأشباح،
ومن ذهب إليه لا يرجع.
أنتيجونا (تبكي) :
أبي. أبي.
الجوقة :
وا حسرتاه! صوت من هذه التي تصرخ وتئن؟
أهذه ابنتك التي طالما شهدتها معك،
ورأيتك تداعبها وتحملها على صدرك،
عندما كنت تواجه سكان طيبة،
أو تقدم الأضاحي والبحور الطيبة الرائحة
على مذبح الآلهة المقدسين؟
وا حسرتاه عليك يا ابنتي.
كم يتقطع قلبي من أجلك.
ومن أجل أبيك الذي صار أخاك.
أوديب :
لا تصدقيهم يا حبيبتي. لا تصدقيهم. (أنتيجونا يزداد نشيجها.)
أوديب :
لقد أطلقوا الكذبة وصنعوها، ثم جاء هؤلاء العجائز فصدقوها وروجوها. ماذا أسمع! هل يبكون الآن علي؟
الجوقة :
آه إني أبكي من أجلك يا أوديب.
أبكي ابنتك المسكينة وبقية بناتك وأخواتك.
لكن أمطار دموعي على طيبة لن تجف.
طيبة التي أنقذتها ذات يوم،
وحكمتها بقوة الحقيقة القوية،
حتى ظننت أنك أسعد إنسان،
حين كنت أراك على العرش
وحولك أبناء طيبة وبناتها،
كالحملان عندما تلتف حول الراعي الطيب
الذي خلصها من الذئاب،
لكن أمطار دموعي على طيبة لن تتوقف،
وإن كنت أعلم أنها لن تروي شجرة عمري الذابلة،
ولن تعيد الخضرة إلى شجرة طيبة،
التي هوت بفروعها وأوراقها في الهوة الدامية. (أنتيجونا يرتفع نشيجها، يعثر أوديب أخيرا عليها.)
أوديب :
ها أنا أمسك يدك التي فرت من يدي (يقبلها ويغمرها بدموعه)
صدقي دموعي الدامية، ولا تصدقي دموعهم. صدقيني يا حبيبتي.
أنتيجونا :
أبي. أبي.
الجوقة :
بل قولي أخي أخي.
آه يا أنتيجونا!
أي مصير ينتظرك يا ابنتي!
أوديب :
ابنتي. حبيبتي. لا تصدقيهم. هؤلاء الذين يذرفون دموع الأفاعي والتماسيح عليك وعلي. هم الذين هللوا وصفقوا عندما رأوني على عرش طيبة. هم الذين لم يتحركوا عندما رأوا الكذبة تحاك حول رقبتي، واللعنة تدبر في الخفاء لتدمرني وتدمر أسرتي.
الجوقة :
واها لطيبة التي تندثر وتنهار في الهاوية.
البذور تخيب أمل الزراع وتموت في الأرض التي حرثها والقطعان تصم آذانها عن نداء الراعي، وتهلك في مراعيها، والعقم يقتل نساءها ويودي بالأحياء من أطفالها.
وإعصار الوباء الذي اجتاحها وعصف بأهلها قد صمم ألا يخرج منها حتى تغادر أسوارها.
أوديب :
ها أنا أغادرها يا أبناء كادموس المخدوعين،
تسحبني ابنتي من يدي إلى مصير مجهول.
ابنتي التي ترددون أنها أختي وابنتي،
وسيخرج معي الإعصار ليدخل إعصار آخر،
ليشيع أبناؤكم وأحفادكم طاغية آخر.
الجوقة :
اخرج اخرج يا أوديب.
احمل دنسك. لا تتلفت للأسوار.
ألق به في ماء البحر، وطهر نفسك أو في النار؛
عل إلها يرحم طيبة يرفع عنها هذا الرجس، ويمحو منها هذا العار.
أوديب :
سمعت يا حبيبتي؟ رجس هو أبوك وعار. والمدينة التي ولد فيها كما ولدت تتطهر منه، لم يكفها دم أمك ولا دم عيني. فأنا الرجس الذي قررت أن تنفيه حتى لا تتلقاه الأرض ولا المطر المقدس ولا الضوء الحبيب، لكني أسألهم فاسمعيني. كيف يكون رجسا من أنقذ المدينة من الوباء؟ كيف يدنسها من حل اللغز فصعق الهولى قبل أن تولدي أنت وأخواتك؟ لا تبكي يا حبيبتي. لا تبكي يا صغيرتي. جففي دموعك واسمعيني. قبل أن نغادر هذه الأرض عليك أن تسمعيني. اتركي أباك المسكين يفتح قلبه لك، قلبه الذي طالما ضمك إليه حين كنت تبكين ولا تسكتين حتى تعبثي بشعر لحيته. دعيه يدافع عن نفسه أمامك. دعيه يبرر تهمته التي ألصقها به الذئاب والكلاب والعناكب التي نسجت مؤامرتها في الظلام. لا تتلفتي لهؤلاء الشيوخ المخدوعين الخداعين. سيسمعونني إذا شاءوا، وإذا شاءوا ينصرفون. أنت وحدك التي أريد أن تسمعني وتفهمني. أنت وحدك يا حبيبتي الصغيرة. أتنظرين إلى المدينة الغافية من بعيد؟ لا تنتظري شيئا ولا أحدا. «اسمينا» تلعب هناك ولا تكترث بشيء. ربما تقطف الزهور من بستان القصر لتزين جيدها الناصع المغرور. ربما تعبث مع رفيقاتها وتتسلى بإلقاء كتبها في الجدول الصغير. ربما تغازل شابا من وراء سور البستان. أخويك تنتظرين؟ لن يجيبك أحد مهما ناديت. إنهما يجربان ألعاب الشباب، أو يتصارعان على عادتهما خارج المدينة. الرفاق يتفرجون عليهما ويصفقون. ورأساهما العنيدان تثقلهما أحلام المجد، وتعصف فيهما رياح الرعونة الهوجاء. اسمعيني يا حبيبتي. اسمعي آخر كلماتي، لا يهمني أن ينتهي العالم كله، لا يعنيني أن تشير إلى جميع المدن كأني ضبع ضار أو ذئب ملعون، لا يهمني أن أخرج من طيبة كغراب مشئوم، كل ما أريده أن تعرفي الحقيقة، والحقيقة أن أباك لم يدنس بإرادته ولن يدنس، لقد دفع الثمن قبل أن تسحقه الأسطورة وتسحق أسرته، هل تسمعونني أنتم أيضا أيها الشيوخ؟ أين أنتم؟ لماذا غاب صوتكم؟ أوديب المنقذ يتكلم. أوديب الطاهر يتطهر. يدفع التهم التي صدقتموها بعد أن صنعتموها، نعم أيها الشيوخ، اسألوا أنفسكم مرة واحدة: ألم تكن رغبته في المعرفة هي التي دنسته؟ ألم يصمم أن يعرف نفسه فأحرقها وجلب عليها الخراب! إنه لا ينتظر جوابكم إنه يقف أمامكم الآن، ويسأل نفسه. لا يبالي إن سمعتموه أو انصرفتم عنه. أنتيجونا وحدها.
أنتيجونا :
أبي. أبي.
أوديب :
أنت وحدك وحدك يا حبيبتي التي يريد بحديثه، وعلى صدرك وحدك تسقط دموع ذكرياته. فاسمعيني يا حبيبتي، كوني عيني الثالثة، وانظري معي في سطور الماضي، الماضي الذي أفتحه الآن أمامك. أمامك أنت وحدك.
أنتيجونا :
أبي. أبي (تبكي) .
الجوقة (في صوت رهيب) :
تكلم يا أوديب.
2
أوديب :
انظري يا ابنتي تري أباك يشتعل بنار الشباب، يحوم كالفراشة حول أنوار الحكمة، يسأل الكتب التي يلتهمها فتصمت أو تنطق كلمات لا تفهم. إنه يتنقل في قصر أبيه وأمه في كورنثة ولا يكف عن السؤال. يتجول في شعاب الجبل والوادي، ويتطلع للنجوم ولا يكف عن السؤال. يختلط بالناس في السوق والجبل والحقل والمعبد، فيشير إليه الجميع: هذا هو الحالم الذي سيعيش ويموت وعلى شفتيه سؤال، وذات يوم تحداني أحد الشبان هل تستطيع يا ابن الملوك أن تبارز بالحربة وبالسيف كما تبارز بالأسئلة والألغاز؟ ثبت عيني في عينيه وقلت: لو كانت كل الألغاز كهذا اللغز لهان الأمر. قال ساخرا وهو يمتشق سيفه: ولكنه يحتاج إلى الشجاعة. قلت وأنا أجرد سيفي وأفاجئه بطعنة في صدره: إن كان هذا هو الحل فخذ! ارتمى على الأرض وهو يصيح: قتلتني ولم تحل اللغز! أقبل الرفاق فمنعوني من الإجهاز عليه. قالوا: مخمور لا يفيق دائما يجرح غيره، فاتركنا الآن نداوي جرحه. قلت: لن أتركه حتى يكشف عما في صدره، حتى يتكلم عما يقصده باللغز. تأوه من الألم وصاح: تعرف كل الأشياء، ولا تعرف نفسك. تسأل عن كل الأشياء، ولا تسأل من أنت. اندفعت نحوه وأنا أهتف: هل تسأل من أنا، وهل تعرف أنت أن أنين المذبوح: آه! إني أتألم من جرحي، لكني أتألم لك. لست ابن أبيك. جريت إلى القصر كمن لدغته أفعى، واندفعت إلى حجرة أبي فوجدته راقدا على فراش المرض مفتوح العينين. صعد بصره، وقال: ولدي؟ أشفقت عليه فلم أنطق. أشار بيده النحيلة، فاقتربت منه وطالعت على وجهه الطيب المكدود آثار الصراع مع العلة القديمة. ابتسم وقال: ماذا يريد البريء الجريء؟ ماذا يريد حبيب الفقراء والحكماء؟ قلت: وأخشى أن أخرجه من شفتي اعتدل في فراشه وهو يتأوه من الألم: ماذا يضنيك يا ولدي؟ كتاب تبحث عنه ولا تجده في خزانتي التي أتيت عليها؟ قلت: بل سؤال أكتمه منذ سنين، حتى أثاره اليوم شاب مخمور تصارعت معه. ضحك وقال: مخمور؟ تتلقى منه سؤالا أو تنتظر جوابا؟ أنت يا أوديب؟ قلت: أبي. من أنا؟ رفع حاجبيه دهشة: من أنت؟ ألم أنطق باسمك؟ تلعثمت وأنا أشهد التجاعيد التي تتلوى على وجهه: لا. لا. أقصد ... ربت على كتفي وضمني إلى صدره: أنا أعرف قصدك أكثر منك. الحكيم الصغير مثلك لا يسأل عن شيء زائل. ها أنا ذا أموت يا ولدي، وعندما يقترب الموت لا يبقى غير سؤال واحد: ما الإنسان؟ هذا هو السؤال الأكبر يا ولدي . أما من أنت، فهذا أمر واضح. لم أملك عيني من الدمع. لم أستطع أن أتحكم في صدري الذي أخذ يعلو ويهبط. أردت أن أصرخ: أقصد من أمي؟ ومن أبي؟ هل أنا حقا ابنك وهل أنت حقا أبي؟ لكنني لم أقو على إخراج كلمة واحدة. ورفعت رأسي عن صدره جففت دموعي. قلت: ربما يستطيع العراف في دلفي أن يجيبني. قال متعجبا: العراف في دلفي؟ هل يعرف من أنت سواك؟ اذهب يا ولدي. اذهب إلى فراشك. لقد توغل الليل. والليل يفرخ مسوخ الأسئلة السوداء. اذهب يا ولدي، فالفجر ينتظرك. قلت وأنا أقبله: أذهب يا أبي حتى لا يطول انتظاره. ضحك وهو يتابعني بعينيه الكليلتين. لم يدر أنه يراني لآخر مرة، وأنني سأسمع بعد ذلك عن موته دون أن أراه. نزلت على سلم القصر مسرعا. كان تصميمي على الخروج هو الذي يحث خطاي. ولم أكد أهبط الدرجات، حتى أحسست بثقل يشل قدمي، ويقبض على صدري. رجعت مرة أخرى، فأسرعت إلى حجرة أمي، فتحت الباب عليها فوجدتها نائمة. تأملت الوجه الطيب الذي طالما ضمني إليه. هل يمكن أن أغضب الآلهة، فأفزعه من نومه، وأسأله: أأنت وجه أمي؟ أغلقت الباب برفق، ورجعت أهبط الدرجات بين دهشة الحراس وابتسامهم، وعندما وقفت على الباب الخارجي لم أستطع أن أتلفت ورائي. كان السؤال الكبير يجذبني إليه ويناديني. وكنت أحلم أن أسمع الجواب على لسان العراف، فاندفعت على الطريق الطويلة بلا تردد.
الجوقة :
الطريق إلى دلف طويل شاق،
لكن طريق الآلهة محفوفة بالضباب.
ها أنت تقف أمام المذبح وتلقي السؤال.
إني أتخيلك يا أوديب ولا أكتم الخوف والإعجاب.
تكلم. ماذا حدث هنالك مما أجهل؟
ماذا كان جواب العراف؟
أوديب :
أجل أيها الشيوخ. لم أجد الجواب. لم يأذن لي أحد بالدخول إلى المعبد. أوقفوني على الأبواب، وأنا الذي كانت الحراس تفتح لي الأبواب. قلت لهم: ابن ملك وملكة يمد يديه بالسؤال. وقالوا: بيد خالية حتى من الماء والزاد؟ قلت: تركت كل شيء، وجئت أقف على الأعتاب. قالوا: أين هداياك وأين عطاياك؟ أين الأضحية وأين القربان؟ قلت: إن وجدت الجواب فسوف تغمركم هداياي. قالوا: أي جواب وعلى أي سؤال ؟ قلت: سؤال الأسئلة أيها الكهان. من أنا؟ ما أصلي ومصيري؟ ومن الإنسان؟ فاجأني صوت يخرج من جوف المذبح: رجل لا يكف عن السؤال. تقدم يا أوديب! يا قاتل أبويك ويا من تنجب من الرحم الذي خرجت منه. ارتعش القلب، ورفرف مذعورا في صدري، صحت بمن ناداني:
سخف ما قلت وحق الأرباب! لن أرجع أبدا للقصر، ولن تبصر عيني الأم ولا الأب. تضاحك صوت النبوءة، حتى ارتجت جدران المعبد: قد قدر من قبل عليك. لن ينفعك رجوع، لن يجديك هروب. أذعن للقدر ومن نسج خيوطه! صحت: ومن نسج خيوطه؟ إله هذا أم نصف إله قاسي القلب؟ ملكا أصبح أم قاتلا؟ ردد الصوت: الملك القاتل يقتل بعد قليل أو ينفى.
ركبت موجات النبوءة المضطربة، واجهت البحر الثائر كالربان القادر، أرعدت وأبرقت وأرسلت صواعق غضبي: ومن قال إني أسعى للملك وقد تركته وراء ظهري؟ إنني عابر سبيل، إذا صح كلام المخمور فإني لقيط صار ابن ملك وعاد ابن الملك، فصار شحاذا، قلت لك لقد تخليت عن الملك. رد قائلا: تخليت عن ملك لا تستحقه، وستحصل على ملك لا تريده. صحت بأعلى صوتي: إنما أريد أن أحل اللغز. قال الصوت: ستحله يا أوديب ولن تحله. اشتد بي الغضب، فقلت: من حق الإنسان أن يكذب نبوءة ليصدقها العقل. رد الصوت: هذا من حق العقل، لكن القلب له شأن آخر. والنبوءة قد تصدق وتكذب. قلت: ولكن يجب أن تفهم ضحك الصوت: لا تتعجل ستفهم يا أوديب، لكن بعد فوات الوقت. ضربت جدار المذبح بيدي وصحت: بل أفهم وأحل اللغز.
تمدد الصوت في أذني كظل الوحش الرابض في الغابة: ألم أقل لك؟ ستحل اللغز ولا تحله. وستقضي على الوباء وتسبب الوباء. ستجلس على عرش المدينة وتدمر المدينة. وستقتل الوحش، وتصبح وحشا يقتله وحش. اذهب يا أوديب. اذهب يا أوديب قدرك لن تفلت منه. صحت: وسؤالي؟ هل أذهب قبل أن تجيب عليه؟ قال الصوت مودعا: وستذهب أنت وأذهب مثلك وعلى الشفتين سؤال. هذا قدرك يا أويب، هتفت يائسا لكني سأتحدى القدر. سأتحداه. جلجلت الضحكات: اذهب وتحداه. صحت: وإلى أين أذهب؟ إلى أين؟ دوت الضحكة كالزلزال: إلى طيبة. إلى طيبة. ضربت الأرض بقدمي وبكيت وضحكت: طيبة؟ ماذا أفعل في طيبة؟ إنك لم تجب على سؤالي. طاردتني الضحكة: اذهب لتجيب عليه بنفسك. اذهب. اذهب.
الجوقة :
خفية هي أسرار الآلهة،
كامنة كالشجرة داخل البذرة الصغيرة،
والويل لك إن حاولت أن تشد الشجرة قبل الأوان.
ضع البذرة في الوعاء المقدس،
تعهدها بالماء والضوء والهواء.
لا تخف إن تعرضت للأمطار والأخطار،
وعندما تغمرك الشمس فجأة وبلا انتظار،
ستجد المأوى في ظل الشجرة الكبيرة.
أوديب :
ليس صحيحا ما تقولون. فقد غمرتني الشمس ولم أجد الظل، ولا المطر، ولا المأوى. وعندما استبد بي الدوار ورحت أحترق ويتصاعد مني البخار كأنني فحمة ملتهبة، جلست تحت صخرة على جانب الطريق الضيق ذي الشعاب الثلاث. الجبل أمامي صخر والوادي حولي قفر. والجوع مع الغضب الحارق في جوفي جمر. وغفوت قليلا، ثم فتحت عيني على أصوات قريبة مني. كان في الأفق غبار، وموكب صغير يجرح الأقدام على الطريق المترب الخانق بالبخار لمحت نساء وأطفالا ورجالا يحملون متاعهم القليل على أكتافهم. فقراء هؤلاء الناس، مزارعون أو رعاة مما تنبت الأرض من أشواك. مروا علي وتوقفوا ليستريحوا في ظل الصخرة الكبيرة التي كنت أحتمي بها، سألني شيخ عجوز: إلى أين يا بني؟ قلت: مسافر يا عمي. قال شاب يبدو على وجهه الإعياء: الطريق طويل. حذار أيها الشاب. قلت: اطمئن إني أعرفه وأعرف هدفي. قال الشيخ: سافر كما تشاء، لكن لا تتهور. قلت: ماذا تقصد؟ قال: لا تقترب من طيبة. سألت: أهي قريبة من هنا؟ قال الشاب: أقرب مما تظن قدماك، وأبعد مما يتصور عقلك. رفعت عيني إلى الشيخ فنظر إلي وقال: نحن من أبناء طيبة. لم نخرج منها كما يخرج الناس من الأبواب. لقد تسللنا من ثغرة في السور. قاطعه الشاب: بل حفرناها بأظافرنا في الظلام! قلت: ولماذا لم تخرجوا من أبوابها؟ تعجب الشيخ وقال: وهل يخرج أحد من طيبة أو يدخلها؟ ألم تسمع يا ولدي بالهولى؟ ألم تسمع بالوباء؟ قلت: الهولى؟ والوباء؟ ماذا أسمع؟ قال الشاب: منذ أن ظهرت العذراء ذات المخالب، وهي تتربص بالداخل والخارج. تطرح عليه اللغز، ثم تقتله. قلت: اللغز؟ ما هو هذا؟ ماذا تقصد؟ قال الشيخ: لا أقصد شيئا يا ولدي. نحن فقراء لا نحل الألغاز، نجونا من الوباء بمعجزة. ونبحث عن أرض نتنفس فيها الهواء. أنا وهؤلاء الصغار. هيا يا أولادي. هيا يا أولادي. ناديت عليه قبل أن يغيبهم الجبل عن بصري: كلمني عن الهولى. صف لي الوباء. انصحني يا شيخ! تردد صوته قبل أن يختفي: حذار يا ولدي. حذار لا تذهب إلى طيبة! لا تذهب إلى طيبة! رحت أفكر فيما قال، فلم أهتد إلى شيء، هل غادرت مدينتي وملكي لأحل ألغاز الناس أم لأحل لغزي؟ وسقطت على صدر آلهة النوم وقتا لا أعرف مداه، ثم صحوت على قرقعة عجلات على الطريق الوعر. ناديت فلم يجبني أحد. وقفت وتعرضت للعربة فلم يكترث أحد. هتفت بأبناء الإنسان فلم يرد إنسان. ولسعني سوط ألهب رأسي وكتفي فصحت: أيها الفجرة! أما من لقمة أو جرعة ماء لعابر سبيل؟ صاح صوت المنادي: مل عن الطريق أيها الكلب! وقفز من العربة ثلاثة رجال سود الوجوه. لم أدر إلا وقد أنزلت بهم ذراعي صاعقة من نار، رفعت وجهي للشمس وهتفت: شكرا يا رب الأرباب زيوس! كدت أجدف باسمك، لكنك أطلقت صواعقك من يدي وذراعي. وتناهى إلي صوت وقور جذبني إليه احتواني: من أنت أيها الشب المتهور؟ نظرت في داخل العربة فرأيت شيخا جذبتني كذلك نظرة عينيه واحتوتني. تأملتها لحظة وارتعشت. آه يا ابنتي! ما الذي جعلني أرتعش في تلك اللحظة؟ ما الذي جعل تلك اللحظة تسطع كشرارة البرق في ليل العمر؟ قلت في غضب: ومن أنت أيها الشيخ؟ قال الرجل في هدوء: أنا الذي يسألك: من أنت يا ولدي؟ صحت دون أن أنتبه إلى الكلمة الأخيرة: وأنا ضيعت ملكي بحثا عن جواب هذا السؤال. قال العجوز: لكنك لم تنطق بسؤالك. صحت غاضبا: وهل سأجد الجواب لدى عجوز مثلك؟ إني أسأل ما الإنسان؟ تفكر العجوز قليلا وقال: وتريد أن تقابل الهولى؟ وتضيع ملكك لتفوز بملك آخر؟ وتحل اللغز لتقضي على الوباء؟ اذهب يا ولدي اذهب! هتفت: بل تذهب أنت أيها العجوز أعراف أنت تهرف بالنبوءات أم قائد عصبة من اللصوص الذين صعقتهم بعون رب الصواعق؟ قال الرجل وهو يشير بسوطه: لا تتهور يا ولدي لا تتكبر. اسمع قولي: عد من حيث أتيت. قلت وأنا أتحداه بعصاي: ليس قبل أن تقول لي من أنت؟ تضرع بصوت باك: أنا الهارب من نبوءة قديمة ليسأل إله هذه الأرض نبوءة جديدة، حاذر يا ولدي وارجع، حاذر يا ولدي. قلت: عراف كاذب. شأنك شأن العراف الآخر. لن أرجع لأبوي ولن أخشى النبوءة. قال العجوز: وتصمم على حل اللغز؟ قلت: حتى الموت. لوح بالسوط، وقال: هذا السوط سيمنعك رأفة بك. صعدت إلى العربة، ورأسي يحترق بنار الغضب ونار الشمس: وأنا أنزعه منك، وأنزع منك الروح إذا زدت. هجمت عليه وشددت السوط من يده، وفي لمح البصر وقع الشيخ على الأرض، فشجت رأسه على حجر كان قد أوقف العجلة عن السير. وحين انحنيت عليه لأساعده على النهوض التقيت بعينيه. آه يا حبيب! ليتني ما نظرت إلى هاتين العينين! هزتني الرعشة التي ظلت طول العمر تزلزلني، نفذت نظرته كالسكين بقلبي. لا لا. عانقت القلب كموجة ضوء أو ماء صاف. آه يا ابنتي! لن أنسى تلك النظرة أبدا. لن أتخلص من تلك الرعشة أبدا. وها هي ذي تعاودني الآن. تعاودني وترج أعضائي المتصلبة وشعراتي البيض. تجيش وترتفع وتدمدم وتتدفق من عيني. اعذريني إن بكيت الآن أمامك. اعذريني إن بكيت.
أنتيجونا :
أبي. أبي. أبي.
أوديب :
حبيبتي. أنت أيضا يا صغيرتي، أتبكين على أبي أم تبكين على أبيك؟!
3
الجوقة :
الهولى تقف على أسوار مدينتنا
تتربص بالداخل والخارج منها.
وحش يربض في مخبئه أم عذراء فاتنة الوجه؟
لا نعرف شيئا لم نرها أبدا.
لكن حدثنا عنها الآباء وحدثنا الأجداد.
قال الكاهن ما قال وحذرنا منها.
قالت رسل الملك ابتعدوا عنها
وتغنى الشعراء بأغنية
راحت كل الناس ترددها؛
أغنية غامضة لا أفهمها
ولهذا أعرض عن أسرار الغيب وأشغل نفسي
بأمور العيش وما ألمسه بيدي
وما تنظره عيناي.
أما أنت فأشفق منك عليك،
لو كنت رأيتك يا مسكين لناديت: لا تتهور!
ارجع يا أوديب! ارجع بالفرس الجامح من حيث أتيت
ارجع يا أوديب!
أوديب :
لا لن أرجع أبدا. ولو سمعتكم أيها الشيوخ ما ترددت عما صممت عليه. لقد خرجت ولن أعود. حيا أو ميتا لن أعوز، كم حللت الألغاز الصغيرة، وأجبت على الأسئلة البسيطة. كم قرأت في كتب الحكماء، وتحيرت مع أسرار الشعراء، لكني اليوم أواجه لغز الألغاز والأشرف لي أن أحله أو أموت على الأسوار.
تقدمت وتقدمت. بدت قمم الجبل من بعيد، وأشباح تماثيل الآلهة المقدسة. ثم برزت الأسوار وظهرت الأبواب الحديدية. سرت وسرت. وعاصفة تدوم في قلبي، ويضطرب لها جسدي كالطير التائه في الريح. هل أدق على الباب؟ هل أعلو السور وأنظر؟ أين أجد مخبأها وكيف أواجهها؟ هل أناديها: اخرجي أيتها الهولى التعسة! أم أترضاها بالكلمات الحلوة: ابرزي من خدرك أيتها العروس؟ هل أعثر على خيط يهديني إليها أم تلتف حولي خيوط العنكبوت؟ ليكن ما يكون. ولتلتف خيوط القدر كما شاءت حول رقبتي. فأنا أحمل قدري في صدري، ولن أتركها تخنقني. ولماذا سافرت وغامرت؟ ولمن خلقت الجرأة والجسارة؟ ألم تخلق للإنسان؟ ألم أخرج بحثا عنه؟ وإذا خذلته في قلبي فأين ألقاه؟ وفجأة وأنا أتجول أمام السور سمعت الصوت. لم يكن خشنا ولا عميقا مظلما كأصوات النبوءات. كان رقيقا يوشك أن يخرج من فم إناء: - تتقدم أو لا تتقدم؟ إني أراك حائرا. - بل أتقدم. لقد تركت ملكي وأرضي ولن أعود. - إلا بعد أن تحل اللغز؟ أليس كذلك؟ - نعم. هذا ما أنويه. - وهل تعرف الثمن أيها الشاب؟ - أعرفه وأريد الآن أن أعرفك. -تعرفني؟ يالك من جريء متهور! - هذا ما أطلقوه علي، وقد صممت أن أخترق السور أو أموت عليه. هيا أرني وجهك. - ولا تخاف؟! - لا أنكر خوفي. - ألم يحكوا لك عن الهولى؟ - وعن عذراء لها مخالب مقوسة. - ولا تخاف أن تنشب المخالب في رقبتك لتشرب دمك، لا تخاف أن تطأك بقدميها وتسحق جسمك الهش، لا تخاف. - أخاف. أخاف. قلت هاتي ما عندك. - إذا أدر وجهك نحوي أيها الشاب الجميل. - لن يصعقني جمال وجهك. - لا تجزم بشيء قبل أن تراه. - ولن تخنقني خيوطك. - حتى لو كان فيها خيطك؟ - لن أتركه يلتف علي. - إذا لم يلتف عليك الآن فسيخنقك غدا. - تعودت ألا أفكر في الغد. اللحظة هي ما يعنيني. هيا! - من سبقك كانوا مثلك. - وأعلم أين هم الآن. في جوفك. - جمال وجهك لا ينبئ عن قسوة قلبك.
وبرز الوجه من المخبأ الصخري. وجه أجمل من أفروديت، حزين كقمر شاحب أو شمس غاربة. تنبعث منه أشعة حسن طاغ. سألت نفسي: وجه هذا أم فخ؟ خاطبتها في همس: ما أجمل هذا الوجه! هل يمكن أن يكون لصاحبه قلب قاس ويد قاتلة؟ - تأمله، ثم احكم.
أوديب :
أوشكت أن أغرق في الجمال الذي نسجته ألحان جميع الشعراء، لكنني أفقت كالغريق وحولت وجهي سريعا، حتى لا يجذبني فتنهشني المخالب. ضحكت واستمرت في الضحك وقالت:
الهولى :
لا تنظر وجهي. انظر يدي.
أوديب :
لا وجهك ولا يديك. هاتي اللغز!
الهولى :
ألا تتطلع لمن حاصرت طيبة، وصنعت الوباء، وسفكت دماء الأبطال؟ ألا تحب أن ترى العنكبوت التي غزلت خيوط القدر الفظيع، وأوقعت فيها المدينة البائسة؟
أوديب :
لا أصدق. لا أصدق.
الهولى :
ألم تعرف من قبل أن وجه الغدر ساحر جميل، أن يد الخديعة ناعمة الجلد والأظافر، أن قلب الظلام ساكن عميق، أن خيوط الكذب رقيقة دقيقة؟
أوديب :
سأمزق هذه الخيوط.
الهولى (تقترب منه) :
وتمزق ضلوعي؟
أوديب (مبتعدا) :
ألم تنسجي بها القدر الفظيع؟ ألم تنثري بها بذور الموت والعقم والجدب والفناء؟ ألم تحولي طيبة ...
الهولى :
أنا؟ يد واحدة تصنع هذا؟! إنك تعطيني قوة لا أملكها، تنسب لي شرفا لا أستحقه. ما زلت غريرا أيها الشاب. آه! نسيت لم تقل لي اسمك.
أوديب :
وكيف غاب عن لوح قدرك ؟ ألم تنسجي خيوط قدري؟
الهولى :
كم تضحكني! كانوا مثلك مغرورين.
أوديب :
لكني لست مثلهم. هاتي لغزك.
الهولى :
قبل أن تريني وجهك؟ قبل أن تقبلني؟
أوديب :
أقبل الأفعى في نابها؟ أدخل قدمي في جحرها؟
الهولى :
سامحتك الآلهة! لست مخيفة إلى هذا الحد (تبكي) .
أوديب :
دموع الأفاعي. أعرفها جيدا فلا تخدعيني.
الهولى :
وهل تعرف أنني مخدوعة؟
أوديب :
والوباء؟ والجدب والموت والخراب؟ وطيبة التي تنكفئ على بؤسها كجثة عجوز؟
الهولى :
لو منحتني قبلة واحدة لعرفت أني لست مثلها جثة ولا عجوزا.
أوديب :
تعلمت من الأموات أكثر مما تريدين، لن تخدعيني أيتها ال...
الهولى :
الأفعى والعذراء والكلبة المغنية، ألا أستحق مع ذلك قبلة منك؟
أوديب :
بأي حق؟
الهولى :
لأنك لو حللت اللغز فسوف تقتلني.
أوديب :
أوتقتلينني، ليس في هذا جديد.
الهولى :
لا تفرح قبل الأوان.
أوديب :
لم آت لأفرح أو أحزن. أتيت لأحل اللغز.
الهولى :
تتعجل موتك أو موتي، لم أعرف أحدا قبلك فقد الصبر إلى هذا الحد.
أوديب :
وسترين أنني لم أفقد الشجاعة.
الهولى :
فلماذا تتردد؟
أوديب :
عن أي شيء؟
الهولى :
شجاع وغبي، دائما ما يجتمعان في واحد. ألا تساوي التضحية من جانبي؟
أوديب :
ما هي هذه التي تساوي تضحيتك؟
الهولى :
القبلة الصغيرة أيها الغبي.
أوديب :
وما الفائدة إذا كنت ستموتين؟
الهولى :
أموت على صدر المنقذ من الوباء، أهذا شيء قليل؟
أوديب :
خدعة جديدة؟ لقد تعلمت ممن سبقوني.
الهولى :
ستعرف أنك لم تتعلم ما يكفي.
أوديب :
لا يهم، سيعرفه شيخ شاب شعره، وانحنى ظهره.
الهولى :
وبكت عيناه بحور الدم. وارتكب أفظع ما يرتكب إنسان أو حيوان.
أوديب :
لن يكون أفظع مما ارتكبته أنت.
الهولى :
ما زلت تعطيني قوة لا أملكها. تنسب لي شرفا لا أستحقه. القبلة أولا.
أوديب :
اللغز أولا.
الهولى :
وإذا حللته وقتلتني.
أوديب :
ربما فكرت في تقبيلك.
الهولى :
إنني لا أتسول أيها المغرور، ولو قتلتني فلن أموت.
أوديب :
لغز آخر؟
الهولى :
لأنني أبعث دائما من جديد، كلما عصف الوباء بمدينة وجدتني أقف على سورها. أسأل نفس السؤال، وأنتظر نفس الجواب، فإذا حله البطل شب وباء آخر في أجساد البشر وأرواحهم، وظهرت مرة أخرى على السور، ستقتلني أيها الشاب، ولكنني لن أموت. ستقتلني ولن أموت.
أوديب :
أوتقتلينني وأحيا في بطل آخر.
الهولى :
وسنلتقي من جديد، ويومها لن أطالبك بشيء؛ لأنك ستكون عجوزا بلا أسنان.
أوديب :
إذا فأجلي طلبك إلى ذلك الحين.
الهولى :
لأقبل قبرا؟ لأعانق جثة؟ القبلة يا أوديب!
أوديب :
اللغز أولا.
الهولى :
عنيد كالصخر مثل كل الأبطال، شجعان وأغبياء.
أوديب :
أعدك ألا أحرمك منها.
الهولى :
تتعجل موتك أو موتي، لا بأس، يبدو أن القدر قد دبر كل شيء، أن تكون البطل أوديب، وأكون أنا الضحية، التفت إلي يا أوديب، لست كريهة إلى هذا الحد، لست قبيحة كما صوروا لك، وعندما تعرف ...
أوديب :
عرفت كل شيء.
الهولى :
مغرور وجميل، هل عرفت هذا أيضا من الكتب؟
أوديب :
ماذا تقصدين؟
الهولى :
إنني لست كما صوروني، إنني الضحية التي يقدمها كل الأبطال. إن الأبطال كذلك يصبحون ضحايا.
أوديب :
تنظرين للمستقبل.
الهولى :
بل للماضي.
أوديب :
وأنا لا أنظر إلا للحاضر، لا أشعر إلا بالواجب، لا أفكر إلا في الإنقاذ، طيبة تنتظر أيتها العذراء، طيبة تحتضر وستموت إن لم تقدمي اللغز.
الهولى :
وأنا سأموت إذا استطعت أن تحله (تبكي) .
أوديب :
لكنك ستعودين.
الهولى :
وسنلتقي كما قلت لك. ويومها لن أطالبك.
أوديب :
أعدك أن أعطيها لك، لكنك لن تخدعيني، هاتي لغزك أولا.
الهولى :
ألا تلتفت إلي على الأقل؟
أوديب (يلتفت ثم يدير وجهه بسرعة) :
الأفضل أن يصعقني لغزك، على أن يصعقني جمالك.
الهولى :
لن أتركك تلح علي، قل أيها الشاب العنيد المغرور، قل يا من عرفت وفكرت وصممت، يا من حللت كل الألغاز، ولم يبق سوى هذا اللغز (في صوت غامض)
ما هو ذلك الذي يحبو في الصباح على أربع، ويسير في الظهر على اثنتين، ويتوكأ في المساء على ثلاث؟ ما هو هذا أيها الجميل البريء؟ ما هو أيها الغبي العنيد؟
أوديب (ضاحكا بصوت عال) :
ها! ها! ها!
الهولى :
وتضحك أيضا؟ إنك أول من يضحك.
أوديب :
كانوا يرتعشون أمامك، كانوا ينتفضون من الرعب.
الهولى :
مني أيضا، ومن اللغز. (أوديب يضحك، يزداد ضحكه.)
الهولى :
وتصر على ضحكك؟ هل عرفته؟
أوديب :
أرأيت يا أوديب؟ هذا ما جئت تبحث عنه.
هذا ما تركت من أجله ملكك وأرضك وشعبك.
هذا من تبحث عنه، هذا من تبحث عنه.
الهولى :
من؟ من يا أوديب؟
أوديب :
أيتها الهولى، أيتها الهولى، هو من يقف أمامك.
الهولى :
يقف أمامي؟ ما أكثر من وقف أمامي!
أوديب :
هو من تنظرين ولا ترين، من تسمعين ولا تفهمين، من تخدعين ولا تعرفين.
الهولى :
وهو من يخدع نفسه، من لا يعرف نفسه.
أوديب :
وهو كذلك أحيانا.
الهولى :
بل في كل مكان وزمان. من؟ من؟
أوديب :
أما زلت تسألين؟ اسمعي إذا. هو الإنسان.
الهولى :
حقا يا أوديب، لم يعرفه أحد قبلك، آه! آه!
أوديب :
معذرة، لم أقصد أن أوذيك.
الهولى :
لن ينفعني اعتذارك، إنني أموت (تتهاوى مصعوقة) .
أوديب :
وأنا لا أنسى وعدي (يسرع إليها ويقبلها)
آه يا ابنتي! وكانت شفتاها باردتين، قبلتها وأنا أصرخ، حتى الجمال يموت أيضا، وارتفع صراخي وأنا أحمل جثتها بين يدي: أوديب، أوديب أحقا حللت اللغز؟ أحقا حللت اللغز؟!
4
أوديب : «هل أنا في هاديس؟ أتلفت؛ حولي أشباح وظلال، خلفي أشباح وظلال، أم أنا في طيبة؟ طيبة ذات البوابات السبع؟ لا لا إني أنكر عيني، عيني تنكر ما تبصره. هذا قبر. هذا قبر. قلبي يرتجف من الرعب» هذا يا ابنتي ما قلته لنفسي، وأنا أخطو أول خطوة على الطريق. لا بد أنني هبطت إلى العالم السفلي. لا بد أنني أخطأت الطريق. أتكون الهولى حلما أو وهما من أوهامي؟ هل أنا حقا من حل اللغز؟ من كشف قناع السر عن الإنسان، وها هو يسعى للإنسان؟ مر على ذلك اليوم الذي لا أنساه ... ساعديني يا ابنتي كي أتذكر. ساعدوني أيها الشيوخ يا من كنتم حينئذ صبية وشبابا، حاولوا أن تتذكروا.
الجوقة :
نحن نذكرك يا أوديب.
يا من أقبلت لتنقذنا من الوباء،
يا من مزقت خيوط اللغز فهوت العنكبوت.
سقطت في هاديس فابتلعتها كلبة الجحيم،
وتعالت صيحتها في آذان المنكوبين.
أوديب :
أجل أيها الشيوخ. لا بد أن صيحاتها أيقظت الأموات. والأموات بعثوا من القبور. ارتفع صوت بعد صوت، وانطلق رسول بعد رسول، وأقبلت الحشود من كل اتجاه. كالغربان الجائعة حطت من كل سماء. يتعثر جسمي في أشلاء تصدم عيني الأوراق الصفراء تجرحها الأشجار العجفاء، يمدون إلي الأيدي والأعين والأعناق. يتفحم نور في قلبي يشتعل سؤال: أنتم أبناء الإنسان؟ من يقف على قدميه ويرفع رأسه. يشمخ بجبين عال نحو الشمس. ويمد يديه إلى الأنجم، يسرج منها مصباح الأمل، يضيء ظلام الأرض. إخوتي أبنائي! ما الذي جعلكم تدبون على الأرض كالديدان والحشرات؟ أي لص خطف منكم النار التي أتاكم بها جدكم الشجاع؟ وتردون أيها الشيوخ وتقولون:
الجوقة :
ليس لصا واحدا، بل لصوص عديدون سرقوا منا النار، وسرقوا النور ربطونا إلى الصخور، وسلطوا علينا النسور، حتى صرنا صخرا وحجارة.
أوديب :
واكتفيتم بالبكاء والأنين؟
ووقعتم مشلولين عاجزين،
تفقأ الجوارح عيونكم ولا تتحركون،
تأكل النسور أكبادكم ولا تنطقون؟
الجوقة :
دعونا الآلهة وصلينا،
أرسلنا الرسل إلى المعبد وسألنا.
النبوءة قالت: لعنة
والكاهن فسر ما قالته النبوءة،
قلب عينيه المطفأتين وقال:
قدر حل بطيبة
لن يرفعه إلا قدر مثله.
دنس ملعون لوث طيبة،
ويطهره دنس مثله.
أوديب :
قدر، دنس، لعنة!
كلمات لا أفهمها.
الجوقة :
نحن كذلك لم نفهمها؛
فصبرنا وسكتنا.
أوديب :
وعجزتم عن حل اللغز فسلمتم،
واستسلمتم للذل فمتم.
الجوقة :
رحنا ننتظر المنقذ
حتى جئت.
أوديب :
ويلي منكم! ويلي منكم! هل ينقذكم إلا أنتم؟
الجوقة :
هل تصرح لغزا آخر يا أوديب؟
أنت المنقذ أنت،
أنت البطل وأنت الملك،
وأنت الراعي يا أوديب.
أوديب :
بل إنسان لا يتميز عنكم يقف على قدميه، ويطلب منكم أن تقفوا فوق الأرض تكونوا أنتم.
الجوقة :
بل أنت البطل المنقذ،
والملك القائد والراعي الملهم.
أوديب :
وتعالت الأصوات كهدير البحر وقصف الرعد: البطل المنقذ. الملك القائد. الراعي الملهم. يا أوديب تقدم! يا أوديب تقدم!
كان الموكب قد التأم، وانضمت إليه حشود وحشود. انتفض الموتى الذين أهلكهم الجدب والجوع، فأخذوا ينادون ويغنون: البطل المنقذ. الملك القائد والراعي الملهم. الجموع تشير إلي وتهتف: يا من حل اللغز تقدم. وأنا أسأل نفسي: هل حللت لغزا لأواجه ألغازا؟ أقتلت الهولى لأجد أمامي آلافا أخرى؟ وتنضم إلى الجموع أمواج من الحرس تزف الموكب، ووفود من النبلاء وأعيان المدينة. ويبدو القصر من بعيد، ترفرف فوقه الأعلام والزينات يسطع بأنوار المشاعل في وهج الشمس. ويشق الصفوف وجه مهيب تطل منه عينان صارمتان: مرحبا يا أوديب! أسأله: وتعرف اسمي؟ فيرتفع صوته: النبوءة صدقت يا ولدي. حتى اسمك لم يغب عنها. أتلفت للرجل المهيب، وأسأل: ومن أنت؟ فيضحك الشيوخ ويقولون:
الجوقة :
نعم ضحكنا. قلنا يا أوديب،
هل يجهل أحد سيد طيبة؟
من يرعى الأمن ويحكم فينا بالعدل؟
من تنام المدينة بإذنه وتصحو بإذنه؟
هل يجهل أحد كريون؟
أوديب :
هل أنت الملك؟
كريون :
بل جئت أسلمك مقاليد الملك.
أوديب :
وبيد من كانت قبلي؟
كريون :
بيد من ذهب ولم يرجع، ولهذا وضعني هؤلاء الشيوخ بدلا منه.
أوديب :
هل ذهب قبل ظهور الوباء؟ وانطلق صوت أجش عميق، ألتفت إلى مصدره فأرى شيخا أعمى يتقدم نحوي وصبيا يسحبه من يده.
الشيخ الأعمى :
النبوءة صدقت يا ولدي. فلماذا تسأل؟
أوديب :
يسأل من يريد أن يعرف؟
الشيخ :
ألم تشبع من السؤال؟ ألم تحل اللغز؟
أوديب :
والآن أسمع ألغازا أخرى.
الشيخ :
اتركها للقدر يجيب عليها، النبوءة ستجيبك عنها. الأسطورة مسطور فيها.
أوديب :
القدر؟ النبوءة؟ الأسطورة؟ هل أقتل هولى كي تبعث أخرى؟ الآن.
كريون :
الآن تؤجل أسئلتك، تجلس فوق العرش وتحكم.
الشيخ :
وأباركك وأضع التاج على رأسك.
أوديب :
أنا لم آت لأحكم.
الجوقة :
أنت الحاكم منذ اليوم.
أوديب :
وسكت وأخذت أنظر إليكم يا أهل طيبة. نظرت للرجل المهيب والشيخ الأعمى فعرفت. ثم أنشأت أقول بصوت عال: أنا لم آت لأحكم. جئت لأتعلم منكم، وأعلم أن الحاكم لا يتحكم. أن السلطة لا تتسلط لا تظلم. والحاكم إنسان منكم لا لغز مبهم. اسألوا أنفسكم يا أهل طيبة: من ذلك الذي يحبو في الصباح على أربع ويسير في الظهر على اثنتين ويتوكأ في المساء على ثلاث؟ لقد صعقت الهولى حين أجبتها: هو الإنسان. لم يتصور أن يعرف إنسان نفسه. لم يتصور أن يملك قدره. أن يحل اللغز، ويحطم الأسطورة. لقد حللت اللغز يا أهل طيبة، وجئت لكي تحلوا ألغازكم. مزقت نسيج الأسطورة التي التفت حول رقبتي، وجئت لتمزقوا أساطيركم. ليس الإنسان دودة، ولا إلها، انظروا إلى قلوبكم تجدوه. قفوا على أقدامكم تعرفوه. أطلقوه من أقفاص صدوركم. علموه كيف يغني ويحب ويعمل ويفرح. علموه ألا ينخدع بقفص ولا يأمن لصياد. عشتم أمواتا، فتعالوا نتحدى الموت. سقطتم في الهاوية، فهيا نبدأ من الصفر. أهلككم الوباء فلتكونوا وباء عليه. أنا لم آت لأحكم أو أتحكم، بل جئت لأبدأ معكم منذ اليوم. لم آت لأصبح هولى أخرى.
الجوقة :
أنت قتلت الهولى يا أوديب. أنت قضيت على الوباء يا أوديب.
أوديب :
يمكن أن تزحف هولى أخرى. مئة أو ألف. يمكن أن يذهب وباء ويأتي وباء أشد، فلنبدأ منذ اليوم، فلنبدأ منذ اليوم.
الجوقة :
فلنبدأ يا أوديب. فلنبدأ يا أوديب.
أوديب :
وأشار كريون بيده، فاحتبس الصوت الهادر، والتفت إلي وقال:
كريون :
بل تبدأ منذ الغد. المنقذ يحتاج إلى الراحة. اذهبوا الآن أيها الشيوخ والأبناء والزوجات والبنات. أم الملك فيدخل الآن إلى القصر، فالجائزة الكبرى تنتظره.
الجوقة :
بل جاءت بنفسها يا كريون ها هي ذي تتقدم منه، ما أسعده بالزوجة والملكة! ما أسعدها به! أما نحن فنذهب ونعود صباح الغد.
كريون :
أختي؟ ها هو ذا المنقذ والملك الزوج. أما نحن فنذهب أيضا. هيا يا تريزياس. هيا يا أبناء مدينتنا هيا. هيا.
أوديب :
آه يا ابنتي! كيف أنسى هذه اللحظة؟ نظرت فرأيت سيدة جليلة تقف أمامي وتبتسم. لماذا شعرت بالرهبة والحنان؟ لماذا أحسست أنني أريد أن أقبلها وأن ألقي رأسي على صدرها، وأغيب في أحضانها، لماذا اشتعل دمي، وارتجف قلبي في آن واحد؟ لا بد أن عيني قد زاغت فلم أر شيئا ولم أحس أحدا، حتى أفقت على قبلة تطبع على جبيني ويد تضغط على ذراعي، وصوت دافئ يمتد إلي ويقتادني: يا ملكي وولدي الحبيب، لقد غابت الشمس وذهب الجميع ألا ندخل إلى القصر؟
5
أوديب :
وازداد شعوري بالرهبة حين وقفت على باب المخدع. كانت أمك قد أخذتني من يدي ودارت بي في أبهاء القصر وحجراته وشرفاته وتجدد عندي الإحساس بأني في هاديس أخرى. إني والمرأة الجليلة الممتلئة التي تسير بجانبي شبحان تائهان. لن يلبث أن يهبط إلينا الملك الزوج الغائب، فيقبض على صدري ويسألني: ماذا تفعل في بيتي؟ كيف تفكر في الدخول إلى مخدعي وتدنيس فراشي؟ بل كدت أتخيل نفسي أمام محكمة الآلهة الذين يثبتون في عيونهم، ويهزون رءوسهم وخطوت إلى داخل المخدع، فارتفع وجيب القلب، وزاغ البصر وتاه. كنت أستند إلى الجدار حين أقبلت علي ومدت يدها، فأخذت يدي وهمست في حنان.
جوكاستا :
مضطرب أم خجلان؟
أوديب :
لا أدري. إحساس لا يمكنني وصفه.
جوكاستا :
هل كنت تتوقع جائزة أخرى؟
أوديب :
أنا لم أتوقع شيئا.
جوكاستا :
ويظل البطل بلا جائزة؟ ألم تعده النبوءة بزواج الملكة؟
هل يمكن أن تبخل طيبة على من قتل الهولى وخلصها من الوباء؟
أوديب :
طيبة لم تبخل علي إن كنت قد أعطيتها شيئا، فما زال علي أن أعطيها.
جوكاستا :
يبدو يا أهل كوزنثة إنكم مختلفون عنا. أم إنك زهدت في المكافأة بعد أن رأيتني؟
أوديب :
ماذا تقصدين؟
جوكاستا :
ربما كنت تنتظر شيئا آخر.
أوديب :
قلت لك لم أنتظر شيئا، قلت لك.
جوكاستا :
إنك أعطيت وتعطى، لكن عطايانا ...
أوديب :
تكلمي أفصحي عما تريدين.
جوكاستا :
لعلك توقعت امرأة أخرى. عذراء في مثل سنك وشبابك حلوة الوجه، لم تنبت في رأسها شعرة بيضاء (تبكي) .
أوديب :
تبكين يا ... (تضع رأسها على صدره فيضمها إليه.)
جوكاستا :
جوكاستا. حتى اسمي لم تسأل عنه. (تقبله)
أنا أيضا كنت شابة يا أوديب.
أوديب :
قبلتك تقول: وما زلت.
جوكاستا :
أعلم أني في عمر أمك.
أوديب (يقبلها) :
وزوجتي وحبيبتي.
جوكاستا :
وأين هو؟ لا بد أنه الآن شاب قوي. هل يتجول مثلي في أرجاء الكون؟ هل أمرته نفسه أن يحل لغزا آخر ويقتل وحشا آخر يتربص بمدينة أخرى؟ هل ...
جوكاستا :
هل ... هل ... الآن أصدق ما سمعته عنك.
أوديب :
وماذا سمعت؟
جوكاستا :
أنك لا تكف عن السؤال. هل تنسى أن السؤال يلد أسئلة أخرى، أن كل جواب يحمل بذرة سؤال جديد؟ هل تعلم يا صغيري المسكين؟
أوديب :
أعلمه؟ إني أحياه. وهل جاءني إلى هنا شيء سواه؟
جوكاستا (ضاحكة) :
لا شيء؟! حتى الجائزة التي بين يديك؟
أوديب (يقبلها) :
لم تتكلمي. أين ذهب صغيرك الآخر؟ مع أبيه؟
جوكاستا :
ليته ذهب معه في ذلك اليوم. لو فعل لتغير حالي، لكن النبوءة شاءت أمرا آخر.
أوديب :
دعينا الآن من النبوءة.
جوكاستا :
وكيف أنساها؟ كيف نسي ما حدث؟ (تبكي)
سأل الآلهة فقال الكاهن.
أوديب :
تريزياس!
جوكاستا :
وكيف عرفت؟
أوديب :
أكملي ماذا قال؟
جوكاستا :
أنذره أن الطفل سيقتله يوما، لم يكتف بهذا.
أوديب :
ماذا؟ ماذا قال؟
جوكاستا :
ولم اللهفة؟ آه يا أوديب. لا أدري إن كان علي أن أضحك أو أبكي.
أوديب :
عليك أن تكملي.
جوكاستا :
لكي تعرف، دائما تريد أن تعرف. قال ويتزوج أمه.
أوديب :
ولهذا أمرته النبوءة أن يتخلص منه.
جوكاستا :
ولم يكتف بهذا، ما أبغضه من زوج! ما أتعسه من أب!
أوديب :
وتلعنينه أيضا؟
جوكاستا :
بل أستمطر اللعنات عليه، لا أقوى حتى أن أذكر اسمه.
أوديب :
يستحق اللعنة من يتخلص من ابنه.
جوكاستا :
ويستحقها مرتين من يشيع بين الناس أن أمه هي التي تخلصت منه. إنها هي التي سلمته لمن يلقيه وحيدا في الجبل، وحيدا بين أنياب الوحوش وجوارح الطير (تبكي) .
أوديب (يربت على كتفيها ويضمها لصدره) :
معذرة يا جوكاستا انسي ما قلت.
جوكاستا :
وتساعدني على النسيان؟
أوديب (يقبلها) :
وتساعدك بنات وأبناء تعوضك عنه، وحنان أبيهم.
جوكاستا :
تحتاج إليه أم حرمت منه، عشرين سنة يا أوديب.
أوديب :
يا زوجتي وأختي وأمي وحبيبتي.
جوكاستا :
يا زوجي وأخي وولدي وأبا عيالي (يضحكان) .
أوديب :
وضحكنا في تلك الليلة وبكينا. وعرفنا معنى الحب، ومعنى الجسد، ومعنى الخوف، ومعنى الأمل، وداعبناهم حتى طلع الصبح. وظللنا نداعبهم كلما ولد لنا ولد أو بنت. جاء أخواك أولا يا ابنتي. كم فرحنا بهما وكم دللتهما ولعبت معهما لعبة الفارس والحصان. كم تابعناهما وهما يكبران ويتصارعان على ركوب الخيل ورمي الرمح. وكم حاولت أيضا حين كبرت أن تهدئي نزواتهما وتعقدي الصلح بينهما دون فائدة. آه يا صغيرتي! كنت دائما أما صغيرة. نموت أمام أعيننا، ونما معك ضميرك الذي عذبك كثيرا، وسوف يعذبك يا ابنتي. وشعرت بأنك مسئولة عن أخويك، وعن أختك التي لا تكترث بشيء، إلا أن تنظر في المرأة، وتتأمل حسن ملامحها في ماء النبع وتنسج قصص الحب مع الصبية والخلان. إلا أنت يا حبيبتي. إلا أنت.
أنتيجونا :
أحبك يا أبي. أحبك يا أبي.
أوديب :
وهل كنت أعيش بغير الحب؟ هل كنت بغيرك أنت سأدعى بين أهالي طيبة بالأب؟ هذا هو أوديب الزوج الصالح، هذا هو أوديب الأب. في كل مكان أظهر فيه تطرق سمعي نفس الكلمات: أوديب الراعي. أوديب الأب. أوديب المنقذ من فم الموت. وكما تعلمت مني الحب علمتنيه. رحت أنثر بذوره في كل أرض. أذهب للزراع وأغرس معهم بذر الحب وبذر الحب. ينمو الزرع ويورق، يزدهر ويثمر، يجري حبا في حب أذهب للصناع، فأسألهم وأحاورهم، أعمل معهم، أنسج، أطرق، أنجر، أبني الحب على الحب، يأتي الشعراء إلي فأستقبلهم، أسمع منهم، وأردد معهم حبا في حب. تزدهر قلوب الناس وتثمر. تزدهر عقول الحكماء وتثمر. يرتفع بناء بعد بناء، يعمر بالحب وينبض بالحب وتولد فيه أطفال الحب. رفعت الديون عن الزراع، أخرجت المساجين من السجون. علمت الحراس أن يحرسوا المدينة لا أن يفترسوها كالذئاب. حرستهم من أنفسهم ومن الأعداء داخل المدينة وخارجها. أما اللصوص والمذنبون فوضعتهم أمام ضمير الشعب. وجعلت القانون هو السيد. وجعلت الكل يشارك في أمر الكل. والبحارة تشترك مع الربان. وسفينتنا تبحر آمنة في البحر الآمن ترسو في شط الأمن. وتوافد علينا الرسل من المدن الأخرى وهتفوا هذه طيبة أخرى. وأقبل الغرباء من البر والبحر، وتعجبوا: طيبة تحيا المعجزة الكبرى. حتى الشتاء خجل أن يقيم بيننا وحل علينا ربيع دائم . وكلما مررت بإنسان في الشارع، أو في المصنع، أو في الحقل، أو المسرح هتف سعيدا: أوديب الراعي، أوديب الأب. بل كان البعض ينادي: يا قديس. بفضلك صارت طيبة بستان الحب وحصن الأمن. بستان الحب وحصن الأمن، حتى كان صباح غابت فيه الشمس وضاع النور. كان الهمس يدور وراء ظهري، لكنني كنت أستقبل الغد، ولا أتلفت للأمس، أواجه النور ولا أهتم بالظلال التي تمد الخناجر في ظهري. كنت قد لاحظت أن أمك تكثر من التطلع من الشرفة في قلق. تجمعكم يا ابنتي وتضمكم وتقبلكم وتمنعكم من اللعب خارج القصر. وحين كنت أعود مرهقا في المساء أو أداعبكم وأرفعكم إلى صدري تحذرني من تدليلكم وهي تهمس خائفة: ماذا يخفي لكم القدر؟ ماذا يخفي لنا؟ أضحك من خوفها وأهزأ بقدرها فتقول: نمت الشعرات البيض على مفرقك وما زلت كما أنت. أضحك بصوت عال، وأسأل: من؟! فتجيب وهي تقبلكم وتأخذكم إلى الفراش: نزق وجريء وبريء أهوج، لا تدري ماذا يجري حولك أو خلفك. يزداد ضحكي وأقبلكم قبل النوم: أنا لا أنظر حولي أو خلفي. ألم تعرفيني بعد يا أمي وأم عيالي؟ تتجهم. ترسل نظرات قاتمة، تنكفئ على أحزان القلب وتسكت.
لكن الهمس بدأ يشتد يوما بعد يوم. وأبشع من الهمس أن يشيح الناس بوجوههم عنك، بدلا من أن يحيوك ويفرحوا بك. وذات ليلة فاجأنا فيها برد وعواصف وظلام لم نألفه طوال السنوات العشرين. كنت راجعا إلى القصر بعد جولتي اليومية في شوارع المدينة وأسواقها. لم أكن قد انتبهت إلى الفتور الذي قابلني به الناس. عزوته إلى الصقيع الذي حاصر البشر والبيوت والقطعان في الحقول، وتوقفت قليلا عند بوابة القصر لأخلع سترتي الثقيلة، وأسلمها للحارس. أشاح بوجهه بعيدا، تمتم بأصوات مبهمة.
حسبته يرد تحية المساء، فسألته:
أوديب :
ما لك يا ولدي؟ (الحارس: صمت.)
أوديب :
لم لا تتكلم؟
الحارس :
الأفضل ألا أتكلم.
أوديب :
ولماذا يا حارس؟ اهمس إن شئت بأذني.
الحارس :
يكفي ما في طيبة من همس.
أوديب :
وبماذا تهمس طيبة؟
الحارس :
لا لا أقدر.
أوديب :
حذرني إن كنت أمينا. انصحني.
الحارس :
ما زلت أمينا يا أوديب. ادع كريون وتريزياس.
أوديب :
أدعوهما؟ لماذا؟
الحارس :
إن كنت تريد التحذير أو النصح.
تركته وأخذت أدور حول القصر. كريون وتريزياس؟ لم يتفوه باسمهما اليوم؟ أولم يلزم كريون داره؟ أو لم يتخل بنفسه عن الحكم ويسلمه إلي ليفرغ لتأملاته ورعاية ماشيته وقطعانه؟ والشيخ الأعمى؟ هل خرج من المعبد ليبث السم؟ ألم يعكف هناك على صلواته ولم يرني وجهه مرة واحدة؟ ماذا يحدث يا أوديب؟
ماذا يحدث حولك ووراء ظهرك يا أوديب؟
ورجعت بخطوات متثاقلة إلى القصر. كنت أقف على أول الدرج عندما لمحت صبية في مثل سنك، لم تكد تراني حتى ولت هاربة. جريت وراءها. أمسكتها من يدها وأخذت أطمئنها. تذكرت أنها رفيقة لعبك. أنك كثيرا ما دعوتها معك إلى حجرتك لتريها عرائسك. سألتها:
أوديب :
ماذا بك يا ابنتي؟ لماذا تقفين في البرد والظلام؟ لماذا خفت مني؟
الصبية :
دعني! دعني!
أوديب :
لن أدعك حتى تتكلمي.
الصبية :
اسأل غيري. طيبة كلها تهمس.
أوديب :
سمعت هذا من الحارس. وبماذا تهمس؟
الصبية :
أنك ... أنك ...
أوديب :
تشجعي. قولي.
الصبية :
أنك قاتل والدك الشيخ.
أوديب :
قاتل والدي الشيخ؟ وماذا أيضا؟
الصبية :
أنك دنست مدينتنا.
أوديب :
أنا يا حبيبتي؟ الأب والراعي والقديس؟
الصبية :
لما دنست فراش أبيك.
أوديب :
وماذا يا صبية؟ تكلمي.
الصبية :
لا لا أقدر.
أوديب :
بل تقدرين، قولي ما سمعت.
الصبية :
وتزوجت بأمك.
أوديب :
أمي؟
تركت يدي يدها، رأسي تسقط كالحجر على الأرض. هربت الصبية مذعورة، وما هي إلا لحظات، حتى رأيتك قادمة من حديقة القصر تتلفتين حولك. ناديتك: صاحبتك ذهبت يا أنتيجونا تعالي. تعالي يا حبيبتي. وقفت أمامي كتمثال صغير. فتحت عينيك دهشة، ثم أخفيت وجهك بين يديك وصحت هاربة: لا، لا، لا ترني وجهك! لا ترني وجهك!
عندها بكيت وأنا أسأل نفسي: هل رجع الوباء؟ هل رجع الوباء؟
6
أوديب :
آه يا ابنتي! لا تريدين أن تري وجهي. الحارس أيضا لا يريد. المدينة تتنكر لي. وسقف البيت وجدرانه تنهار على رأسي. ولبثت جالسا على الدرج طول الليل. الجميع نائمون في حضن الليل الهامس بالأخطار. أنا وحدي مؤرق الجفون. أأنا حقا دنس يا طيبة؟ هل يمكن أن يدنس نور الشمس الأشجار والأحياء؟ ألم تسموني الأب والراعي والقديس؟ أحقا قد خرجت عن طاعة الآلهة، وازدريت قوانينها المقدسة وسقطت في الكبر والغرور؟ ماذا ينتظرك يا أوديب؟ أي مصير يتربص ببناتك وأولادك؟ ماذا يحدث لمدينتك المسكينة؟ تردد في أذني نداء جوكاستا من الشرفة. لا بد أن القلق دفعها لأن تطل منها، وتهمس في سمع الليل المسود الوجه أوديب! أين أنت أوديب! ولكن ما أكثر الهمس في هذه الأيام والليالي! وحين أقبلتم أيها الشيوخ بنسائكم وأولادكم كنت ما أزال ممددا على الدرج. أتأمل مصيري على مرايا النجوم. لمحت الذبول على وجوهكم والضنى في أعينكم. ورأيت أغصان الزيتون في أيديكم. وعرفت أنكم جئتم تستجيرون بالآلهة المقدسين، وتقدمون القرابين والدموع والأنين. وتكلم رئيسكم فقال:
الجوقة :
ماذا يحدث يا أوديب!
أحقا رجع الوباء لوطننا الحبيب؟
أوديب :
وأنا أسألكم أيضا
يا رجال طيبة ونساءها:
ماذا يحدث لمدينتنا؟
الجوقة :
إن المصائب تتوالى علينا؛
فننظر حولنا حائرين.
ويختم إله مقدس على أفواهنا؛
فنصمت أمام أسراره المقدسة.
أوديب :
كنتم دائما حائرين،
كنتم دائما تنظرون وتتلفتون،
واليوم وقد رجع الوباء كما ترون
ألا تتحركون يا أهل طيبة؟ ألا تعلمون؟
الجوقة :
لهذا جئنا إليك يا أوديب،
يا من أنقذتنا من مخالب العذراء المجنحة،
يا من خلصتنا من الرجس الذي دنس أرضنا،
ها هو الرجس قد زحف علينا،
طرق أبوابنا وحاصر حقولنا ومراعينا.
أوديب :
وتريدون أن أنقذكم؟
ألم أعلمكم أن تنقذوا أنفسكم؟
ألم أضع الفأس بأيديكم لتحرثوا البستان؟
ألم تحملوا الرماح والدروع لتحموا الحصون؟
ألم تمسكوا المجاديف وتوجهوا السفينة؟
والمدن الأخرى شهدت أفراحكم،
وسمعت غناءكم وعزفكم على القيثار.
أولم تصبح طيبة بستان الحب وحصن الأمن!
الجوقة :
لكن سقطت الفأس من يد الزارع.
والمطرقة من يد الحداد.
والمنشار من يد النجار .
والقيثار خرست في كف الشاعر.
زحف السأم على الدار وأهل الدار.
ولهذا أرسلنا الرسل إلى سادتنا.
وسيأتون إليك الآن لتسألهم.
أوديب :
سادتكم؟ أسألكم عن رجس صنعوه؟
نفخوا فيه النار لتحرقكم؟
الجوقة :
صبرا يا أوديب، ولا تنفخ في نار أخرى
إني أمتدح الرجل إذا رضي بحكم إله
يحجب عنا السر المبهم.
لا يكشفه إلا الحكيم أو عراف ملهم
ها هو ذا يتقدم نحوك
يسحبه من يد طفل
وينوب عن العينين المطفأتين العكاز الأبكم
أقبل يا شيخ تقدم.
تريزياس :
ليتني بقيت أخرس أبكم.
ليتني لزمت معبدي وصمتي
فلم أخرج منه إلا إلى قبري.
أوديب :
ولكنك لم تلزمه يا شيخ.
تريزياس :
أنا لم أتكلم. لن أتكلم.
عبثا تطرح أسئلتك.
الجوقة :
أعرفك وأعرف أنك لن تتخلى عنا
لن تكتم هنا وحي أبوللو.
أو أسرارا نقلتها الطير المسرعة إليك.
يا من تكشف ما في الغيب.
وتبصر ما في الأفق وتحت الأرض.
إن مدينتنا ملقاة بين يديك
كالجثة يصرعها الوحش الفاتك.
وهي مدينتك ومن يسكنها أبناؤك.
تريزياس :
الأفضل أن تدعوني في صمتي.
الجوقة :
ولماذا الخوف؟
تريزياس :
اسألوا من صرع الوحش.
أوديب :
تعلم أنني صرعته، ولكنهم يسألونك أنت.
تريزياس :
يا من لا تخاف، إني أخاف عليك أنت.
أوديب :
صمتك هو الذي يخيفني ويخيف هؤلاء الشيوخ، تكلم إذا ولا تثر غضبي.
تريزياس :
لو فعلت فسأثير غضبا أشد.
أوديب :
الحقيقة لا تغضب العادلين.
تريزياس :
الحقيقة هي ما أقول دائما. والحقيقة تحميني من غضبك.
أوديب :
وماذا تقول؟
تريزياس :
أيها المتغطرس! يا من تتجرأ على حدود الآلهة! اسمع إذا ما يقوله إلهي وإلهك: اعلم أنك أنت الرجس الذي يدنس المدينة.
أوديب :
أنا الرجس الذي يدنسها؟ أنا من دعاني هؤلاء الشيوخ الطاهر القديس؟
تريزياس :
لكن الإله يدعوك باسم آخر. وهو الذي يرى حقيقتك.
أوديب :
سمعت هذا من قبل. استمر أيها الأعمى.
تريزياس :
سأتحمل سخريتك كما أتحمل عقابك.
أوديب :
قلت لك إني لا أخافك، ولا يليق بك أن تخاف عقابي.
إن نزل بك عقاب، فسوف ينزله هؤلاء.
الجوقة :
إنني خائف يا أوديب.
ولا أكتمك خوفي أيها الشيخ الملهم.
لست أدري ماذا أفعل؛
فأعنا أيها الإله ذو القوس الذهبي.
أرسل، بأمر رب الصواعق، برقك الخاطف ليضيء الطريق أمام سادتنا. ويذيب الثلوج السوداء التي تراكمت علينا.
تريزياس :
اعلموا أنتم أيضا أيها الشيوخ أن الإله يرسل برقه الخاطف، ولن يبدد الظلمات التي ترين عليكم، حتى تتخلصوا من الدنس الذي جلب اللعنة عليكم.
الجوقة :
وكيف نتخلص منه أيها الأعمى البصير؟
أين نجده وما هي العلامة التي تدل عليه؟
تريزياس :
لن تحتاجوا للعلامات والإشارات، إنه يقف أمامكم.
أوديب هذا هو قاتل أبيه وزوج أمه وشقيق أولاده.
الجوقة :
أواه يا قوانين الآلهة الخفية!
وأنت أيها القدر الذي دبره أبوللو.
أوديب :
لم يدبره سوى هذا الشيخ. هل لديك خيط آخر تضيفه إلى مؤامرتك؟
تريزياس :
ولماذا أتآمر عليك؟ ألست أنت الذي أخرجني عن صمتي؟
أوديب :
ليكتشف هؤلاء الشيوخ حقيقتك.
تريزياس :
فيسألوا أقرب الناس إليك.
أوديب :
من تقصد أيها الملعون؟ أهي أيضا تتآمر علي؟
تريزياس :
ليسألوا شقيقها الذي كان سيد هذه المدينة.
أوديب :
آه! أرأيتم يا أبناء طيبة؟ لم تكن وحدك إذا! لقد تآمرت علي مع كريون لتجلس بالقرب من عرشه، ليكن النفي أو الموت عقابكما.
تريزياس :
سمعت مني أنني لا أخشى عقابك.
أوديب :
وسمعت مني أن هؤلاء ...
الجوقة :
اهدأ يا أوديب. وأنت أيها الشيخ الحكيم.
لذ بحكمتك التي تبصر لنا ولك.
وأنت أيتها الآلهة التي تدبر كل شيء.
لا تتخلي عن سادتنا في وقت المحنة.
لا تتخلي عنا.
أوديب :
أما أنا فلن أتخلى عن نفسي. لن أتخلى عنكم. وسأكشف المؤامرة قبل أن يحكم هذا الأعمى خيوطها مع شركائه، أيا كانت درجة قرابتهم لي سأعرف كل شيء.
الجوقة :
افعل يا أوديب.
يا من خلصت مدينتنا من الوباء،
لا تجعلني أقول إنك تركتنا،
أو جحدت أفضال المدينة التي رفعتك إلى قمم الأبطال،
بينما تركتها تسقط في الهاوية
بين أنياب الوحوش ذات المخالب القوية
والأجنحة المرفوقة كالعواصف العاتية.
أوديب :
وعرفت أيها الشيوخ. عرفت يا ابنتي المسكينة. اندفعت إلى الهاوية كما يندفع النسر البائس. وأمك بجانبي تحاول أن تهدئ روعي، وتشد الريش من جناحي. كان رسول من كورنثة قد حضر إلى طيبة. أنبأني كما تعلمون بموت أبي بوليبوس الذي تركته على فراش المرض. مات بالشيخوخة لا بيد الطفل المثقوب القدمين الذي قال الأعمى الملعون إنه سيصرعه.
وتظل أمك يا ابنتي تحذرني وتتوسل إلي: اهدأ يا أوديب. النبوءات تكذب ولا يثق بها الرجل الحكيم. ألم أحك لك عن تلك النبوءة التي أعلنت لزوجي العجوز؟ ألم يأت رسول من كورنثة فيبدد وهمك؟ الطفل الذي تنبأت بأنه سيقتل أباك قد مات من زمن طويل. وأبوك كذلك مات على فراشه في كورنثة. أما أمك فهي هناك في القصر تنتظر عودتك. اهدأ يا أوديب وسوف نزورها سويا. وستفرح بك وتضم البطل العائد إلى صدرها. وستضحك من أوهامك وخرافاتك يا زوجي، يا صاحب الرأس الحجري العنيد. وتضمك يا أنتيجونا أنت وأسمينا إلى صدرها تضعكما على صدري وهي تتضرع باكية: من أجل ابنتيك يا أوديب! من أجل ولديك الغائبين! فكر في مستقبل ذريتك، في مستقبل بناتك. ادفع عني يدها المتضرعة فتكبو فوق الدرج، وتصرخين يا أنتيجونا وتصرخ أختك. ويأتي رسول يستدعيني من داخل القصر، فأخرج على عجل، ويهمس في أذني بأنه قادم لتوه من السفر، وأنه فضل أن يلقاني قبل أن يدخل بيته ويرى أطفاله وينفض عن جسده غبار الطريق. أسألك: «ماذا عندك يا ولدي؟» يتأوه ألما ويقول: «سمعتها يا أوديب، سمعت صوتها الساحر المخيف.» «من يا ولدي؟» «الهولى يا أوديب.» «الهولى؟! أين؟ أين سمعت الصوت؟» يلتقط النفس الهارب ويتمتم: «عند الأسوار. حول البوابات السبع.» أسأله: «سمعتها أو رأيتها؟» «لا لم أرها. سمعت. سمعت.» «ماذا قالت يا ولدي؟» «لا أعرف يا أوديب؟ لم أفهم شيئا مما قالت. لكني سمعت اسمك أو هذا ما يبدو لي.» «اسمي؟ هل نادتني؟» يشهق بالدمع ويهتف: «أخشى هذا يا أوديب. يخرج صوت من قلب الحجر، وتخرج أصوات من جوف الأرض، تدوي في كل مكان: أوديب. أوديب.» أسأله: «هل قتلت أحدا؟» «لا أعلم.» «هل طرحت لغزا؟» «لا أعلم . لكن هذا ما تذكره عيناي وأذناي ورجفة قلبي الخائف: أوديب! أوديب!» تتدخل جوكاستا في الحديث، تصيح من أعلى الدرج: «نبوءة أخرى يا أوديب! نبوءة أخرى كاذبة!» أرد عليها: «تعلمين أنني أحتقر النبوءات. ثم إن هذا الرجل الفقير ليس كاهنا أعمى!» تصرخ: «إنه يردد أسطورة، ينقل همس الأوغاد. يلف خيطا جديدا حول رقبتك. انتظر يا أوديب! لا تذهب يا أوديب!»
أهتف بها وأنا ألوح بذراعي: «تعرفينني يا حبيبتي، لا بد أن أعرف.» تبكي وتولول: «ليتك لا تعرف أبدا من أنت. ليتك لا تعرف أبدا من أنت.»
ويرن صوتي المبتعد مع خطواتي المسرعة إلى خارج القصر، إلى خارج المدينة: «لا بد أن أعرف! لا بد أن أراها!»
7
أوديب :
قادم إليك أيتها الهولى الملعونة! المدينة وراء ظهري تغط في نومها، أو في موتها. وأنا أسرع الخطى لأواجهك وأخنقك بيدي. انتظري أيتها الهولى الدموية ولا تشمتي. غني ما شئت من أغانيك الغامضة فلن تخدعيني. لا تغتري بالشعرات البيض على رأسي، فما زلت أسير على قدمي. لم أتوكأ بعد على عكاز، ولم أزحف على أربع. أنا الإنسان الذي حل اللغز وقتلك. أنا الذي وجد السر ولن يفقده أبدا. مزقت الأسطورة التي نسجتها حول رقبتي، وسحقت القدر الذي فرضته على مدينتي. كيف بعثت من الموت، وقد حملت جثتك بيدي؟ كيف يسمعون صوتك وقد أسكتك إلى الأبد؟ أتكونين الحرباء التي تلونت بلون الموتى لتخدع عابري السبيل؟ هل عدت لتنتقمي مني أم عاد أبناؤك وأحفادك؟ سأواجهكم أيها المسوخ كما واجهت أمكم العذراء، سأنقذ المدينة من وبائكم الجديد كما أنقذتها من وبائك القديم. لن أهرب أيتها العذراء ولن أتراجع. لن يخدعني حسنك أو سحر كلامك. وأنا أوديب القادم إليك. أوديب الذي يسير على اثنتين، ولا يزحف على أربع. أوديب ...
الصوت :
أوديب! أوديب!
أوديب :
أعرف صوتك، أعرف وجهك.
الصوت :
هذا وهم يا أوديب، لم تعرف شيئا. لم تعرف شيئا. لم تر شيئا أوديب، كنت تحلم.
أوديب :
أحلم مفتوح العينين؟ أولم أقتلك وأحمل جثتك على ذراعي؟
الصوت :
ونسيت ما قلته لك .
أوديب :
وماذا قلت؟
الصوت :
إنني أقتل ولا أموت.
أوديب :
سأقتلك اليوم كما قتلتك بالأمس.
الصوت :
وهم آخر، لقد قتلت جدتي الساذجة.
أوديب :
جدتك الهولى؟ كانت ساذجة؟
الصوت :
وحالمة غارقة في الأحلام. ألم تظهر لك يا أوديب؟
أوديب :
نعم، نعم، هناك على السور القديم. كانت على الأقل أشجع منك.
الصوت :
ألم أقل لك؟ كانت حالمة مثلك.
أوديب :
لأنها ظهرت لي وألقت سؤالها علي؟
الصوت :
ولأنها وقفت هناك عند السور.
أوديب :
وراحت تلقي سؤالها على كل من يريد أن يدخل المدينة أو يخرج منها. ومن لا يجيب على سؤالها تخنقه بيديها.
الصوت :
كما كانت تفعل جداتها الساذجات.
أوديب :
وهل كان لها جدود وجدات؟
الصوت :
وساذجات مثلها. وقفن على أبواب بابل وطيبة التي بناها الفراعنة، ورحن يلقين ألغازهن الساذجة، كل من عجز عن حلها أنشبن فيه مخالبهن أو غرسن فيه أنيابهن أو خنقنه بأيديهن.
أوديب :
ومن حلها؟ وماذا فعلن له؟
الصوت :
أصبح بطلا مثلك، هتف الناس وغنوا له، سموه المنقذ والراعي والقديس.
أوديب :
نال ما يستحق. أي سذاجة في هذا؟
الصوت :
أولا لأنه لم يحل اللغز.
أوديب :
كيف لم يحله؟ ألم يكن هو الإنسان؟ ذلك الذي يحبو في الصباح على أربع.
الصوت :
أف! ويسير في الظهر على اثنين. ألم يخطر ببالك أن الإنسان أعقد من هذا بكثير؟ ألم يقل لك عقلك أو قلبك.
أوديب :
قالا إنني قد حللت اللغز، وأن الهولى لم تكد تسمع حتى صرخت مصعوقة.
قالته المدينة كلها وتغنت به.
الصوت :
وهذا دليل آخر على سذاجتك وسذاجتها. لقد صارت ذريتهم أكثر مكرا ودهاء.
أوديب :
لأنها مثلك لا تقف عند الأسوار؟ ولا ترى وجهها لكل مغامر؟ ألا تقولين أنكن صرتن أكثر جبنا.
الصوت :
جبنا أو مكرا. الأمر واحد. لقد خلعنا أقنعتنا القديمة المضحكة، وصرنا بلا أقنعة ولا وجوه. وتركنا الأسوار العتيقة لكيلا يتعرض لنا المتهورون من أمثالك.
أوديب :
وأين تقفن الآن؟ أين تعشن؟
الصوت :
أهذا سؤال يطرحه من حل اللغز؟ من عاش ليسأل ويعرف؟
أوديب :
لأني لا أرى وجها أتحداه. لأني أسمع صوتك يأتي من كل مكان ولا أعرف له أي مكان.
الصوت :
ها أنت عرفته أخيرا. نحن الآن في كل مكان وفي غير مكان.
أوديب :
ماذا تعنين؟
الصوت :
ألم يقل لك الوباء الجديد؟
أوديب :
قال إن اللعنة قد حلت بالمدينة، إن رجسا أصابها ولا بد أن تتطهر منه.
الصوت :
وأنك أنت الرجس الذي دنسها.
أوديب :
كذب! ما زلت أحقق فيه لأكشف المؤامرة التي تختفي وراءه.
الصوت :
المؤامرة التي دبرها الكاهن وشريكه المتقاعد وشريك شريكه.
أوديب :
وتعرفين هذا أيضا؟ والأسطورة التي لفقوها وروجوها بين الناس، فانتشرت كالريح السامة.
الصوت :
إنك قتلت أباك العجوز، وتزوجت الأم التي أنجبت منها بعد أن أنجبتك.
أوديب :
كذب! حتى أنت.
الصوت :
وماذا في هذا؟ أسطورة جديدة مثل أسطورة الهولى القديمة. لغز جديد كاللغز القديم.
أوديب :
ولكني حللت اللغز القديم، ولن أتحرك حتى أحل لغزك الجديد.
الصوت :
ومن قال إنني سأطرح عليك لغزا جديدا؟ الأمر واضح، ولكنك لا تراه.
أوديب :
بل هو واضح وأراه، أنت التي أوحيت إليهم بكل هذا. أنت التي لفقت الأسطورة ولقنتها لهم.
الصوت :
وهذه أسطورة أخرى. لن تراها إلا عندما تتعلم كيف ترى بغير عينين.
أوديب :
لغز آخر؟
الصوت :
لكنه أبسط من اللغز الذي حللته ولم تحله. ستعرفه بعد فوات الأوان.
أوديب :
ولماذا لا أعرفه الآن؟ لماذا لا تظهرين لكي أثبت لك ...
الصوت :
أنك ما زلت ساذجا؟ ما زلت أعمى مثلهم؟
أوديب :
ومتى أبصر في رأيك؟ متى؟
الصوت :
عندما تغمض عينيك وترى أن الهولى فيك وفيهم. أنها تسللت إلى روحك ونفذت في دمك، كما تسللت إلى أرواحهم، ونفذت في دمائهم. أنها لم تعد في حاجة إلى الوقوف على السور، أو إلقاء أسئلتها الغامضة على كل عابر سبيل. إن الإنسان هو الهولى. والهولى هو الإنسان. هذا هو الوباء يا أوديب.
أوديب :
وما شأنه بالوباء الذي يجتاح مدينتنا؟
الصوت :
هو نفس الوباء الذي اجتاح كل المدن، صنع سكانها الأسطورة، وأسرع الكاهن الأعمى والحاكم العجوز ومعهما الجلاد والكذاب واللص والمرتشي والمزور والحاقد والوغد، فصنع الهولى التي تقف على أبواب المدينة، والبطل الأحمق الذي يجيب على أسئلتها ويفوز بالجائزة، تماما كما حدث لك يا أوديب.
أوديب :
كذب! غدر وجحود! الجميع يعلمون أنني لم أفز بالجائزة إلا بعد أن حللت اللغز.
الصوت :
والجميع لا يعلمون أنك حللته ولم تحله، حتى أنت لا تريد أن تعلم أنه أعقد مما تصورت.
أوديب :
ولكنني كشفت عنه، وفزت بالجائزة وجعلت طيبة ...
الصوت :
بستان الحب وحصن الأمن.
أوديب :
أليست هذه هي الحقيقة؟ اسألي الجميع.
الصوت :
أسألهم وأنا أحيا فيهم؟ إنها الأسطورة يا أوديب، الأسطورة التي نسجها الكاهن الأعمى والحاكم المتسلط والشاعر الكذاب واللص والجلاد، الأسطورة التي أوحت بالنبوءة، والنبوءة التي نسجت اللعنة عليك وعلى أسرتك.
أوديب :
أوأنت التي نسجتها؟ ألا تعيشين فيهم جميعا؟
الصوت :
نعم يا أوديب، لكنني من صنعهم. هم الذين نسجوا خيوطي وغذوني من دمهم كما يتغذى الجنين من دم الأم. هم الذين حقدوا وغدروا، وتآمروا وزوروا، وتسلطوا واستبدوا، هم الذين أرادوا أن يكونوا عقارب وأفاع تلدغ، وقرودا تقفز فوق الأكتاف، وكلابا تقعي عند الأقدام، وذئابا تنهش الحملان، وضباعا تنهش جثث الموتى الأحياء، وأنا أتغذى من سمهم، وأسمن على قيحهم، حتى صارت طيبة غابة يسكنها أكلة لحوم البشر، حتى صار الإنسان هو الهولى، والهولى هي الإنسان.
أوديب :
لا لا، ليس صحيحا ما قلت، ليس الآكل والمأكول سواء.
الصوت :
وهم آخر، حلم من أحلامك، لو قدر المأكول لأكل الآكل.
أوديب :
لقد قتلتك من أجل الضحايا، علمتهم أن يقفوا على أقدامهم، ويعرفوا أنفسهم.
الصوت (ضاحكا) :
هل عرفوها؟! لو ملكوا أنفسهم ما احتجت أن تقتلني وتقتل جدتي الساذجة، لو صاروا سادة أنفسهم ما احتاجوا بطلا مثلك يصبح أسطورة كي يأتي بطل آخر ينقذهم منك ويصبح أسطورة.
أوديب :
وما ذنبي أو ذنبهم في المؤامرة التي دبرت لنا؟ ما ذنبي أو ذنبهم إذا كان كلاهما ...
الصوت :
تريزياس وكريون؟ لم تخل المدن منهما أبدا. لن تخلو المدن منهما ومن أعوانهما. وتدور الدورة أبدا يا أوديب.
أوديب :
بل تتوقف لا بد أن تتوقف كما حطمت أسطورة جدتك سأحطم أسطورتك .
الصوت :
والأسطورة التي نسجت حولك وقبل مولدك؟
أوديب :
كذب. سأثبت أنها كذبة.
الصوت :
ليتها كانت كذلك يا أوديب .
أوديب :
الرسول الذي جاء من كورنثة قد وضع كل شيء تحت عين الشمس وأمام عين الشعب. إنني لم أقتل أبي؛ لأن بوليبوس العجوز مات على فراش المرض والشيخوخة. أما ميروب فسوف أزورها مع زوجتي بعد أن نبدد الأسطورة، ونرفع الوباء، ونتطهر من الرجس.
الصوت :
لن نتطهر منه إلا حين تطهر نفسك.
أوديب :
المهم أن أطهر شعبي.
الصوت :
ليلوثه رجس آخر، ويحل عليه وباء آخر. وأبعث حية من جديد.
أوديب :
كذب! كذب! ستموتين إلى الأبد.
الصوت :
أتظن هذا؟
أوديب :
عندما يصير كل واحد منهم «أوديب»، عندما يتحداك أيتها الماكرة كما تحدى جدتك الساذجة.
الصوت :
الذي تحداها صار ملكا، هل يصبح كل سكان طيبة أبطالا وملوكا؟
أوديب :
لم لا؟ يصير كل منهم سيد نفسه، عندما يعرف أن الآلهة المقدسة لم تتحدث بالنبوءة، ولم توح الأسطورة، عندما يتأكد أن خدامهم هم الذين تحدثوا باسمهم، ونطقوا الكذب على لسانهم.
الصوت :
وهل سيدفعون الثمن؟ هل هم مستعدون للتضحية؟
أوديب :
ولم لا؟ المهم أن يعرفوا. وسوف يدفعون أكثر مما دفعت، ويبذلون أكثر مما بذلت.
الصوت :
لا أقصد الثمن الذي دفعت ولا التضحية التي بذلت.
أوديب :
وماذا تقصدين؟
الصوت :
أقصد ما سوف تدفعه وتبذله.
أوديب :
لغز جديد؟ ألم تهزئي بالألغاز.
الصوت :
وبمن حل الألغاز.
أوديب :
كفى سخرية، لو كنت نفذت في باطن كل إنسان في طيبة، لعرفت أنني حللت اللغز.
الصوت :
أنا مدينة لأسطورتك بوجودي فيهم.
أوديب :
ولكنك ستغادرين مكانك، ستغادرينه مذعورة مصعوقة مثل جدتك.
الصوت :
ها! ها! يدهشني تهورك أكثر مما تدهشني سذاجتك.
أوديب :
ولماذا أيتها الهولى؟
الصوت :
لأنك تتصور أنهم سيدفعون نفس الثمن الذي لم تدفعه بعد. وأنهم سيبذلون نفس التضحية التي ...
أوديب :
بل أثق بأنهم سيفعلون.
الصوت :
التفاؤل شقيق التهور، وهل عرفت الثمن؟ هل تصورت التضحية؟
أوديب :
لن يبخل بهما أحد لكي يكون إنسانا. لن يتردد أحد عن بذلهما لكي يتخلص منك.
الصوت :
وتصبح طيبة بستان الحب وحصن الأمن؟ وتصبح كل المدن ...
أوديب :
بساتين ربيع دائم، وحصون الأمن الأبدي.
الصوت :
ويقتل كل إنسان أباه ؟ ويتزوج كل الأبناء أمهاتهم؟ وينتشر الوباء.
أوديب :
قلت لك كذب! أسطورة! نبوءة كاهن أعمى ومتآمر حقود، ستعرفين.
الصوت :
وستعرف يا أوديب.
أوديب :
وعندها تتحطم الأسطورة.
الصوت :
وتتحطم أنت أيضا.
أوديب :
وسأرى كل شيء.
الصوت :
بعد أن تفقد بصرك.
أوديب :
لغز مضحك.
الصوت :
ليته كان كذلك يا أوديب.
أوديب :
لا يستحق أن أضيع فيه وقتي.
الصوت :
ستضيع ما هو أثمن منه.
أوديب :
المهم ألا تضيع طيبة، المهم أن يطردك كل إنسان منها.
الصوت :
حاذر ألا يطردوك أنت.
أوديب :
لا يهم أيضا. سأكون قد خلصتهم منك.
الصوت :
وستكون قد دفعت الثمن.
أوديب :
وحللت اللغز.
الصوت :
كما فعلت من قبل؟!
أوديب :
اسخري كما تشائين، إنني ذاهب إلى طيبة، ذاهب لأطردك منها، لأطردك من كل المدن، لأطردك من كل القلوب.
الصوت :
وتتصور أن يصدقوا.
أوديب :
ماذا يصدقون؟
الصوت :
أنك حللت اللغز؟
أوديب :
سيصدقون.
الصوت :
ولكنك لم تحل اللغز يا أوديب، ولم تدفع الثمن.
أوديب :
حللت اللغز ودفعت الثمن.
الصوت :
لم تحل اللغز يا أوديب، لم تدفع الثمن.
أوديب :
سترين. سترين.
الصوت :
أوديب. أوديب. أوديب.
8
أوديب :
جئت إليكم يا أبناء طيبة ويا شيوخها، جئت لأحل اللغز الأكبر، اللغز الكامن فيكم. إن كنت أخطأت فها أنا أصلح خطئي. إن كنت قتلت الهولى الرابضة على سور مدينتكم فها أنا أدعوكم لقتل الهولى الرابضة في أعماق نفوسكم. تعالوا نطردها من مدينتنا، من بيوتنا، من أرواحنا ودمائنا، من نومنا وأحلامنا. الهولى يا أبناء مدينتنا. ونظرت في عيونهم يا ابنتي فوجدتها كالزجاج المعتم. وتطلعت إلى وجوههم فرأيت آلهة الصمت الساخرة تبتسم وتحدق في. قال رئيس الجوقة:
رئيس الجوقة :
أية هولى يا أوديب؟ أية أحلام؟
أوديب :
إنني قادم من عندها. لم تظهر عند السور كما فعلت من قبل. لقد أصبحت داخلكم. تسللت إلى ضمائركم.
رئيس الجوقة :
هل تحلم يا أوديب؟ أتكلم نفسك يا ربان سفينتنا؟ ريح الموت العاصفة ستغرقنا فاستيقظ يا أوديب.
أوديب :
لقد سمعتها وكلمتها، أنا لا أحلم.
رئيس الجوقة :
بل تحلم مفتوح العينين، لكنك لا تبصر هذا الراعي.
أوديب :
الراعي؟ أية راع؟
رئيس الجوقة :
ألم ترسل في طلبه؟
أوديب :
نعم. نعم. وكلفت اثنين من خدمي بالبحث عنه. لقد عاهدتكم يا أبناء طيبة.
رئيس الجوقة :
أن تبحث عن قاتل لايوس، وعن مصير الطفل الذي ألقي في الجبل. وها أنت تطرق كل الأبواب، وتسلك كل السبل حتى تعرفه.
أوديب :
حتى لو كان الموت جزائي. حتى لو كان الثمن حياتي.
رئيس الجوقة :
ها هو يقف أمامك فاسأله يا أوديب.
أوديب :
وصحت بالراعي العجوز أن يتقدم. وأشرت إلى الرسول القادم من كورنثة، وأمرته أن ينظر في وجهه. ويطالع سطور السنين المحفورة في جلده وهتفت بالجميع: إنني لا أخاف شيئا يا أبناء طيبة ليكن أصلي ما يكون فلن أخجل من وضاعة مولدي. لقد صممت أن أعرفه، وأن يعلنه هذا الشيخ أمامكم. وإذا ظهر أن هذا الرجل الواقف على حافة القبر هو أبي أو هو الذي رباني في الجبل الموحش أو في الغابة الكثيفة الشجر، فلن يخجلني هذا، وسيفتخر هذا الراعي العجوز بأن ابنه أو ربيبه هو الذي حل اللغز وقتل الهولى وقضى على الوباء، هيا أيها الشيخ. هيا أيها الرسول الغريب. تعرف الغريب على الراعي. وتردد الراعي فلم يشأ أن يتكلم. واحتمى بكهف نسيانه فانتزعته منه.
أوديب :
إن لم تتكلم فسوف أرغمك على الكلام، سآمر بأن توثق يداك خلف ظهرك.
الراعي :
لم هذا؟ ماذا تريد أن تعرف؟
أوديب :
الطفل الذي يتحدث عنه هذا الغريب هل أعطيته له؟
الراعي :
ليتني هلكت في ذلك اليوم.
أوديب :
هذا مصيرك إن لم تقل كل ما عرفت.
الراعي :
ولكني هالك إذا تكلمت أيضا.
أوديب :
لا بد أن تتكلم حتى لو هلكت أنت وأنا وكل هؤلاء الشيوخ، ابن من كان هذا الطفل؟ أكان ابنك؟ هل أعطاه لك شخص آخر؟
الراعي :
مولاي لا تسألني أكثر من هذا.
أوديب :
لا تحاول الهرب. كل هؤلاء يعلمون أنني أوديب الذي يسأل ولا بد أن يعرف.
الراعي :
أوديب ذو القدمين المثقوبتين، ما أبشع أن أقول ما أعرف!
أوديب :
وما أبشع أن أسمعه! ولكن لا بد من سماعه.
الراعي :
سلموه لي يا مولاي لكي ألقيه في الجبل.
أوديب :
من سلمه لك؟ تكلم أيها الرجل.
الراعي :
لا أدري يا مولاي كنا في الليل فلم أر اليد التي أعطته لي. لم أتبين في الظلام إن كانت يد أبيه أو أمه.
أوديب :
ومن أبوه وأمه؟
الراعي :
لا تسألني يا مولاي. لا أعرف، ارحم شيخوختي وضعفي.
أوديب :
وهل رحمت أنت ذلك الطفل المسكين؟
الراعي :
نعم يا مولاي. وليتني ما فعلت. كان موثوق القدمين ففككت قيده. كان علي أن أتركه للوحوش وجوارح الطير، فعهدت به إلى هذا الشيخ.
أوديب :
ولماذا تندم على إنقاذه؟ هل أمروك بقتله؟ ولماذا فعلوا هذا؟
الراعي :
سمعت أنهم فعلوه لكيلا يقتل أباه.
أوديب :
رضيع يقتل أباه؟ هل سمعتم بهذا يا شيوخ طيبة وأبناءها؟ ومن الذي قال هذا؟
الراعي :
قالته نبوءة مشئومة.
أوديب :
سمعتم؟ نبوءة أعلنها تريزياس؟
الراعي :
لا أعلم يا مولاي.
أوديب :
ورواها كريون وأعوانه.
الراعي :
لا أدري عمن تتحدث.
أوديب :
ولا هؤلاء الشيوخ يدرون، لكن النبوءة قيلت على لسان أبوللو. والأسطورة نسجتها اليد الخفية، ثم نسبتها للآلهة. أما أنت فأخذت الطفل إلى الجبل.
الراعي :
لم أتركه وحده كما أمروني. سلمته لهذا الشيخ رحمة به. ليتني ما فعلت. ليتني ما فعلت!
أوديب :
هل عدت إلى الندم؛ لأنك أشفقت على الطفل وسلمته له؟
الراعي :
اسأله يا مولاي.
أوديب :
لقد سألته وأجاب. قال إنه أنقذ الطفل الواقف أمامك، وسلمه لملك كورنثة.
الراعي :
ويلي، ليتني مت قبل أن يتحرك لساني!
أوديب :
ولماذا تتمنى الموت؟
الراعي :
إن كنت أنت الذي أنقذناه فاعلم أنك بائس مسكين.
أوديب :
لأن النبوءة صدقت؟
الراعي ورئيس الجوقة (معا) :
وقتلت أباك الذي أنجبك. وعشت مع من لم يكن ينبغي أن تعيش معهم، وألقيت بذورك في نفس الرحم الذي خرجت منه.
أوديب (ضاحكا) :
النبوءة. النبوءة، اسمعوا يا أبناء طيبة واحكموا. صرخت الجوقة وبكت وراحت تنعق كالبوم.
الجوقة :
ويلاه! ويلاه!
ماذا نسمع يا أوديب؟
هل صوت الرعد القاصف في الآذان
وصواعق زيوس الحارقة
تثير الضحك الرنان؟
اخجل من نفسك يا أوديب!
اخجل من نفسك يا أوديب!
أوديب (مستمرا في الضحك) :
أخجل من نبوءة أعمى؟
من أسطورة طاغية
أمعن في الطغيان؟
الجوقة :
ويلك أنت الطاغية
وأنت الطغيان.
أنت الرجس فغادر طيبة
منذ الآن.
غادر طيبة منذ الآن.
أوديب :
وضحكت يا ابنتي كما لم أضحك في حياتي. وتلفت إلى الشيوخ فلم أر الوجوه التي كانت تتطلع في وجهي. لقد التفت في عباءاتها السوداء، وراحت أجسادها تنتفض كأنما اهتز من تحتها الزلزال أو انفجر البركان. واندفعت إلى القصر، وأنا لا أدري إن كنت أضحك أم أبكي أم أصرخ. وصعدت الدرج لاهث الأنفاس. خيل إلي أنني سمعت صرخة رنت في أذني كعواء كلب مسعور. وعبرت البهو الكبير والصرخة ما تزال تدوي في سمعي. ودفعت باب الحجرة التي تنامين فيها مع إخوتك. هل شعرت ساعتها بأنني عملاق أوليمبي يتحدى آلهة القدر أم طفل مرتعش القدمين ينوح عند مهد أطفاله ويغسل أقدامهم الصغيرة بدموعه؟ كانت الحجرة مظلمة إلا من بصيص نور باهت يتسرب من الشموع الموقدة في البهو. وفتحت عينيك الواسعتين يا حبيبتي في الظلام، وجلست في سريرك وأنت تهمسين: أبي؟
تحسست رأسك الجميل وشعرك الناعم، وربت على صدر أختك النائمة، وقلت: النبوءة يا صغيرتي! النبوءة تريد أن تحرمني منك؟ قلت: النبوءة؟ ما معنى هذا يا أبي؟ صحت بأعلى صوتي: النبوءة التي روجوها في كل مكان. الأسطورة التي نسجوها قبل مولدي. منذ عشرين سنة وهم يسوونها على نار الغدر لتحرقني وتحرقكم. منذ عشرين سنة وهم يفترون على الآلهة، ويكذبون على لسانهم وطيبة تصدق ما يقولون، وشيوخها يتأوهون أمام القصر ويبكون. طيبة تلقي الفأس من يدها، وتخرس القلم والقيثارة وتترك الدفة للأعاصير. طيبة قررت أن تقتل أباك يا حبيبتي، أن تسحقه وتسحق أبناءه وملكه وبطولته. وفجأة سمعت صوتها، صوتها المهيب الحنون يتسلل إلى ظلام الحجرة، ويسحبني منها فأنقاد إليه كالحجر الأخرس.
جوكاستا :
أوديب! أوديب!
وأستسلم للأنفاس المتقطعة والعينين الدامعتين وأنا أقول:
أوديب :
جوكاستا؟!
جوكاستا :
دع الأطفال وحدهم يا ...
أوديب :
ماذا؟ أتبكين؟ ماذا جرى لك؟
جوكاستا :
لا أدري بم أدعوك!
أوديب :
أنت أيضا يا حبيبتي؟
جوكاستا :
حبيبتك؟ زوجتك أنا. أو ...؟
أوديب :
جوكاستا! هل سمعتهم؟ أيمكن أن تصديقهم؟ أيمكن أن تصدقي النبوءة التي حذرتني منها؟
جوكاستا :
إن كانت كاذبة فأين الحقيقة يا أوديب؟
أوديب :
الحقيقة أنني أحبك أنت وأولادنا وبناتنا.
جوكاستا :
وأنك زوجي وابني.
أوديب :
وتقولينها يا جوكاستا؟ أنت التي شجعتني على تحديها؟ أنت التي تعلمين أنها من صنعهم؟
جوكاستا :
من صنعهم أو من صنع الآلهة، هل يغير هذا من الحقيقة؟
أوديب :
الحقيقة. الحقيقة. لقد صنعوها يا حبيبتي ونسبوها للآلهة، اختلقوها ليلقوا شبكتها علينا وعلى أولادنا.
جوكاستا :
أولادنا؟ هل قلتها بنفسك؟
أوديب :
بالطبع يا حبيبتي.
جوكاستا :
حبيبتك، وزوجتك أم ...
أوديب :
لا تقوليها. لا تدعيها تخرج من شفتيك.
جوكاستا :
زوجتك أم أمك؟ وأنت؟ زوجي أم ابني؟ زوجي أم ابني؟
ويلاه! ويلاه! ويلاه!
وجرت مذعورة كشبح خائف في سراديب هاديس. وصراخها ينفذ كالسهام في سمعي ولحمي وعظمي: زوجتك أم أمك؟ زوجي أم ابني؟ ويلاه! ويلاه! ويلاه! وتسمرت في مكاني كأني شجرة أمرها رب الصواعق أن تبقى في مكانها، حتى يحرقها بشواظه. ثم أفقت على صوت هبط علي فأحسست بأني صرت فحمة سوداء. واندفعت الفحمة في طرقات القصر وأبهائه تصطدم بالأبواب والجدران. وتعالت صيحات الحراس وأنا أجري في كل اتجاه، وأصطدم بأجسادهم ودروعهم. وأخيرا وصلت إلى باب المخدع، فدفعته على مصراعيه ودخلت. واشتعلت الفحمة، وتوهجت بنيران الغضب والرعب. وجرت تصطدم بالأبواب والجدران والأجساد والدروع. سيفا أيها الحراس! سيفا أيها الكلاب! ألا ترون سيدتكم؟ ألا ترون الحبل الذي تتدلى منه؟ سيفا أيها الحراس! سيفا أيها الكلاب! ولمع حد السيف على ضوء المشاعل، فقبضت عليه واندفعت. وهجمت على الحبل وقطعته. وسقط الجسد الحبيب على فراشنا سقوط الصخرة من أعلى الجبل. وعلى صوت صراخك يا ابنتي أنت وأختك نزعت المشابك الذهبية من شعر أمك وملابسها، ورحت أدفعها في عيني لكيلا أراكم. وانطلقت صيحاتي المظلمة مع شلال الدم المظلم من عيني، فلم أعد أبصر شيئا. رن صوت مهيب وراء ظهري: فلتفتح الأبواب ليرى أهل طيبة قاتل أبيه وزوج أمه، فلتفتح الأبواب ليرى أبناء طيبة الرجس الذي دنس أرضها، وشعرت بكفك الصغيرة المرتعشة تمتد إلى يدي، وتشدد قبضتها عليها وأحسست بماء صاف ينساب فوق النار الحارقة فيطفئها، ويمر على فوهات البركان، فيخمد أنفاسه الملتهبة. وشددت علي افتحوا الأبواب ولينظر أهل طيبة ماذا فعلوا بالبطل المنقذ من هول الهولى، ماذا فعلوا بالأب الراعي والقديس. افتحوا الأبواب. افتحوا الأبواب.
9
وفتحت الأبواب يا ابنتي، وأخذتم يا أبناء طيبة تنظرون إلى من كان ملككم وراعيكم وقديسكم. مفقوء العينين، رأيتموني والدم المظلم يلطخ خدي ويدي وثيابي. والصرخات محتبسة في صدري كصخرة تسد فمي. ويدك الصغيرة تتشبث بيدي وترتعش من هول الموت الذي لا يفهمه عقلك الصغير. ويرن صوت مهيب من خلف ظهورنا:
كريون :
انظروا يا أبناء طيبة إلى قاتل أبيه وزوج أمه. (وتنزاح الصخرة قليلا، فخرج صوتي المحبوس):
أوديب :
لا يليق بالقاتل أن يشمت بقتيله.
كريون :
ما زلت متغطرسا كما كنت، أما أنا فلا أشمت فيك، بل أتركك لهؤلاء الشيوخ والأبناء ليقضوا في أمرك. إن منظرك يثير إشفاق العدو نفسه.
أوديب :
أولى بك أن تشفق على أختك التعسة، وتقوم بمراسم دفنها.
كريون :
وهذا ما كنت أنويه الآن. أما أنت ...
أوديب :
أما أنا فسوف أطلب منهم أن يقتلوني أو ينفوني أو يرموني في البحر.
كريون :
ليس لك أن تطلب منهم شيئا، فسوف ينفذون أمر الآلهة.
أوديب :
أمر الآلهة أمرك أيها السيد الجديد؟
كريون :
لن أرد عليك يا أوديب. سأترك أمرك لهؤلاء ولقوانين الآلهة. واعلموا يا أبناء طيبة أنه الرجس لا ينبغي أن تراه عين الشمس، ولا أن يلمسه المطر المقدس. أما أنتم أيها الحراس، فتعالوا معي لنؤدي واجب التقوى نحو الجسد الذي دنسه هذا الشقي.
أوديب :
هذا الابن الملعون والزوج المشئوم، أليس هذا ما تريد قوله؟ أليس هذا ما تفكرون فيه؟
وأخذت يدي يا حبيبتي، فنزلنا الدرج خطوة خطوة. واستقبلتمونا بأنين كبكاء الريح المحزونة في سمع الشجر المحزون:
الجوقة :
من هذا الذي أراه أمامي؟
إلى أي بحر خضم من البؤس تتجه قدماه ؟
أليس هو الذي حل اللغز المشهور!
أوديب الذي جلس على عرش طيبة
وصار أقوى وأسعد إنسان.
وتقدمت منكم وأنا أقول:
أوديب :
وصار أتعس إنسان؛
لأنه حاول أن يعرف،
ولم يدر أن المعرفة هي الموت والهوان.
الجوقة :
ويلاه! ويلاه!
إني أنتفض من الرعب لمنظرك المؤلم،
وأرتعش كالبحارة الذين تهزهم الرياح حين يرون ربان سفينتهم الغارقة يتخلى عنها للعاصفة العاتية، ويغادر كغراب مشئوم.
أوديب :
لم أتخل عن السفينة ولا عنكم،
أنتم تخليتم عن أنفسكم.
الجوقة :
نحن تخلينا عن أنفسنا؟
ماذا تقصد يا أوديب؟
أوديب :
مددت يدي لأنقذكم من الغرق.
الجوقة :
ودعوناك المنقذ والربان.
وهتفنا: أنت الأب والراعي والقديس.
أوديب :
ثم تركتم أيديكم
للذئب الغادر،
والكلب الحاقد،
والقرصان الفاجر.
أسألتم أنفسكم يوما
كيف يعيش القديس العابد
وسط كلاب وذئاب؟
صنعوا النبوءة، نسجوا الأسطورة، فسكتم. قالوا طاغية، فرضيتم.
الجوقة :
بل قالوا جاوزت الحد، ولم ترع قوانين العدل. صممت على معرفة القاتل، لا تعلم أن القاتل أنت.
أوديب :
صممت على معرفته من أجلكم.
الجوقة :
وتمردت على النبوءة والأسطورة.
أوديب :
لأخلص نفسي وأخلصكم.
الجوقة :
يا أشقى الناس جميعا. ليتك ما كنت عرفت ولا كنت تمردت.
أوديب :
ليظل الوباء يهلككم؟ لتبقى الهولى تحاصركم وتنفذ في دمائكم؟
الجوقة :
لكيلا تصبح طاغية، فتعاقبك الآلهة، وأي عقاب.
أوديب :
أسألتم أنفسكم: من صنع الطاغية أو الطغيان؟ أنتم. أنتم.
الجوقة :
نحن؟ هل تلقي التهمة، حتى لا نصرخ فيك: دافع عن نفسك؟
أوديب :
وما جدوى الدفاع والاتهام؟ إنكم ترون ملكا فقد ملكه، وأبا حطم أسرته، وشقيا يترك أرضه إلى أرض أخرى لا يدنسها ولا تدنسه، هل تذكرتم الطفل المثقوب القدمين؟ من قيده وأمر بأن يلقى في الجبل وحيدا؟
الجوقة :
الملكة والملك السابق؟
أوديب :
بل أنتم! سمعتم عن الجريمة وسكتم. لفقت وراء ظهوركم ورضيتم. قيل لكم: حتى لا تصدق النبوءة. أي إله قاس يحكم على طفل تعس؟ أي إله يقضي على رضيع في يومه الثالث؟ ألم يخطر ببالكم أن الآلهة لا ترضى بهذا الظلم؟ أن الكهنة تلعب بأقدار البشر؟
لماذا تركتم كريون يحكمكم بعد أن ارتكب هذه الجريمة؟ لماذا دعوتم الكاهن الأعمى ليقرأ لكم الغيب ويرى ما لا ترون؟ ومات لايوس فلم يسأل أحدكم: كيف مات؟ وتركتم كريون يدبر أموركم دون أن تسألوا أنفسكم: ألا يمكن أن يكون قد دبر الجريمة؟ وجاء الرواة يحكون لكم أن قطاع الطريق هاجموا الملك عند مفترق الطريق ذي الشعاب الثلاثة. ومرت الأعوام فلم يبحث عن القاتل ولا بحثتم عنه. ووقفت الهولى على أسوار مدينتكم، فانتظروا من يتصدى لها من خارجها، وانتظرتم معهم فلم يتحرك أحد للقائها، وعندما انتشر الوباء، وسقطت المدينة تذكروا المقتول ونادوا: لا بد من البحث عن القاتل، والقاتل الذي قتله دون علمه أصبح بطلا. وتحركت النبوءة فطالبت بأن يقتل البطل ليحل محله بطل جديد يصبح قاتلا بعد حين. وتدور الدورة وتنظرون. وينقل إليكم الكهنة وحيا لم تنطق به الآلهة فتصدقون. ويرى الأعمى ما لا ترون فتسكتون وتسلمون وتدور الدورة يا أبناء طيبة، فأصبح قاتلا، والقاتل يصبح بطلا، والبطل الجديد يصير رجسا تطاردونه وتنفونه، وتظهر هولى جديدة تتطلب بطلا جديدا.
الجوقة :
لن ننسى أنك حللت اللغز وصرعتها يا أوديب.
أوديب :
وحللت اللغز؟ لا تقولوا هذا يا أبنائي.
لقد حللت لغزا واحدا تمخضت عنه ألغاز. وقتلت هولى واحدة، فأفرخت الآلاف. لن تعود الهولى إلى السور، ولن تعترض الشجعان المغامرين. لن تطرح سؤالها على كل من يدخل طيبة أو يخرج منها. لقد صارت فيكم، نسجت عنكبوتها في ضمائركم. ولهذا كنت أحلم عندما تخيلت أن طيبة صارت بستان الحب وحصن الأمن. كنت أحلم عندما تصورت أنني قتلت الهولى. لا لا. الآن أعترف بعجزي، أعترف بفشلي، لم تمت الهولى بعد. ما زالت تغدر، تفجر، تكذب، وتزور، تتسلط تتآمر وتدير. وها أنا ذا أخرج من المدينة التي يفترسها الوباء، وأعلم أنني لن ألقاها على السور؛ لأنها ما زالت فيكم. ما زالت فيكم.
الجوقة :
ما زالت فينا؟
أوديب :
يوم تموت الهولى يحيا الإنسان.
الجوقة :
وننتظر أوديب آخر؟
أوديب :
بل يصبح كل منكم أوديب. يقتل «هولاه» فتبعث طيبة، يملك قدره. وأفقت على الصوت المهيب ينحدر كشلال هادر، وسمعت خطواته الثقيلة ورائي.
كريون :
والقدر يدمره مثلك؟ والأسطورة تحطمه وتحطم أسرته؟ والنبوءة تصدق فيدنس وطنه.
أوديب :
بل يحيا فيه الإنسان، ويسقط عرش الطغيان. هذا هو الثمن يا كريون. هذا هو الثمن الذي ستدفعه.
كريون :
لأصبح بطلا مثلك؟!
أوديب :
والبطل يصبح طاغية، والطاغية قاتلا، والقاتل مقتولا.
الجوقة :
وتدور الدورة يا أوديب.
أوديب :
بل تتوقف ليكون الإنسان. ترجع طيبة طيبة.
كريون :
بعد أن تغادرها يا أوديب.
أوديب :
سأغادرها يا كريون. سأغادرها يا أبناء طيبة. لقد دفعت الثمن وتحررت. فقأت عيني وأبصرت. حريتي لن يمسها أحد. عيني الثالثة لن تفقأها يد تمتد في الظلام. هيا يا ابنتي، تعالي يا حبيبتي.
أنتيجونا :
أبي. أبي.
كريون :
دعها يا أوديب، إنها في رعايتي.
أوديب :
لن تأخذها مني. لن أحرم منها أبدا. تعالي يا ابنتي نبتعد عن هذه المدينة التي يهلكها الوباء. تعالي إلى أرض أخرى لا ندنسها ولا تدنسنا. إني أراها تغرق في الدم والنار والظلام. وأراك يا حبيبتي في كهف يلطخه الدم والعار. فاتركيها الآن وتعالي لتدفني أباك في قبره الوحيد. فوق أرض وحيدة. وعندما تودعينه وتنثرين الماء على مثواه عودي يا ابنتي، عودي لتحرري طيبة من الوباء والظلام. لتعلمي أبناءها أن يقتلوا الهولى في داخلهم، حتى يحيا الإنسان.
الجوقة وكريون :
انتظري يا أنتيجون. عودي يا أنتيجون.
أوديب :
لا تصدقيهم يا ابنتي. لا تسمعيهم يا حبيبتي، آه يا صغيرتي المسكينة إني أراك تدفعين الثمن الذي دفعه أبوك. أراك تواجهين الطاغية وتتحدينه. تعلمين طيبة أن تكون طيبة، تذكرينها بأوديب وتحكين لها قصة أوديب. هل ستسمعك يا أنتيجون؟ هل ستتعلم من درس حياتك ومماتك؟ هل تتذكر مأساتك ومأساتي؟ أم ستدور الدورة أبدا؟ ومتى تتوقف يا أنتيجون؟ من يوقفها؟ أنت؟ أوديب آخر؟ هل يصبح كل الناس بها أوديب؟ أو يصبح كل الناس الهولى تقتل كل الناس؟ لا تبكي يا صغيرتي. هات يدك. هاتها في اليد التي فقأت عين أبيك. أبيك الذي حكموا عليه أن يكون أخاك وزوج أمك وابنها وقاتل أبيه. هاتها يا صغيرتي وقوديه على الطريق.
أنتيجونا (باكية) :
إلى أين يا أبي؟
أوديب :
تسألين إلى أين؟ ولماذا نسأل ونحن الآن أحرار؟ تخافين المجهول؟ ولماذا نخاف إذا كان علينا أن نواجهه؟ وحدنا؟ نعم وحدنا يا حبيبتي، حتى يدمروا الأسطورة أو تدمرهم فيتحرروا، حتى ينسجوا أسطورتهم ويغزلوا قدرهم بأنفسهم، حتى يهدموا طيبة الوباء والظلام والخراب، ويبنوا طيبة الأخرى، لا تتلفتي وراءك يا حبيبتي. لا أحد ينتظرك ولا أحد يودعك. طيبة نبذتنا وتخلت عنا، لكنا لن نتخلى عنها، سنحملها في قلوبنا، ثم نعود إليها. وأعود معك حرا بعد أن أترك عظامي في التراب. ذكرى حب لمدينتنا طيبة. ذكرى موت هذا ما لن يأخذونه مني. لن يأخذوه أبدا. تعالي يا حبيبتي. تعالي. تعالي.
ويرتفع صوت خشن وراء ظهرنا.
تريزياس :
خذ عصاي يا أوديب!
وأرد عليه وأنا أنفجر غضبا:
أوديب :
عصاك عمياء مثلك.
ويضحك الملعون ويقول:
تريزياس :
أتذكرت كلامي؟!
أوديب :
وأبصرت ما لا تبصره.
تريزياس :
خذها يا أوديب، قد تحتاج إليها.
أوديب :
عيني الثالثة ستبصر لي. يد أنتيجونا تبصر لي.
عصاك عمياء مثلك.
أنتيجونا :
خذها يا أبي.
الجوقة :
خذها يا أوديب.
تريزياس :
خذها يا أوديب لتذكرنا.
أوديب :
لا لن آخذها، هيا يا ابنتي، ضعي يدك في يدي لنخرج من هذه المدينة، لا يهم أن تذكرنا أو تنسانا، لقد أرادت أن أخرج منها، أرادت أن أتسول في المدن الأخرى، ولهذا تعطيني عصا أتوكأ عليها بعد أن أخذت عيني وحياتي وشبابي. لا يا أبناء طيبة، لم أتوكأ على عصا، وإذا كان خلاصك يا طيبة بخروجي وموتي، فها أنا أغادرك لأموت خارج أسوارك.
أنتيجونا :
وسنعود يا أبي؟
أوديب :
سنعود يا ابنتي، عندما يقضى على الوباء.
الجوقة :
نعم يا ابنتي، عندما نقضي على الوباء.
أنتيجونا (تسلمه يدها باكية) :
أبي. أبي.
أوديب :
حبيبتي، لا تتلفتي وراءك، لا تبكي. لا تبكي. لا تبكي. (ينصرفان. يسمع وقع أقدامهما وبكاء أنتيجونا، حتى بعد أن تسدل الستار.)
1985م
هذه البكائيات
في ليلة ممطرة باكية أكتب عن هذه البكائيات. أسأل نفسي أسئلة تحاول الإجابة عليها أن تكشف الدوافع التي دفعتني إلى تدوينها أو تلقي الضوء على الغموض الذي يكتنفها:
لم البكائيات في وقت يدعونا كل شيء فيه لإطلاق الصرخات؟
إن كل من يفكر اليوم أو يكتب لا بد أن يصيبه اليأس، وهو ينظر في الهاوية التي تفصل الكلمة عن الفعل، ولا بد أن يتحسر على ضياع عمره في تجميع حروف في كلمات، وكلمات في جمل، وجمل في صفحات وصفحات لم تطعم جائعا، ولم تحرك ساكنا، ولم تنبه وعيا، ولم تنقل حجرا من مكانه. وهو في النهاية لا يستطيع أن يكتفي بحكمة سقراط وحواره، ولا بمصباح «ديوجينيس» في قلب النهار، ولا بنبوءات زرقاء اليمامة ورؤاها ودموعها، فعليه أن يدق نواقيس الخطر وأجراسه، ويستخدم «ديناميت» نيتشه ومطرقته، عليه أن يقرع آذان أهله بكل الطبول والأبواق الممكنة، نحن متخلفون متخلفون. العدو أمامكم والانقراض فيكم. تعلموا أن تفكروا بعقولكم لا بألسنتكم. غيروا ما بأنفسكم وواقعكم، حتى يغير الله ما بكم. آمنوا بالعلم والمنهج والخبرة. أعطوا القوس لباريها والعيش لخبازه. اتحدوا، اتحدوا، اتحدوا. فالذئاب تتربص بكم في كل ركن وعند كل منعطف. وذئاب أشرس منها ترعى في داخلكم. أمراضكم الثلاثة: الاستبداد، والتسلط، والطغيان لم يشفيكم منها إلا أدوية ثلاثة: الحرية، والحرية، والحرية. وهو يستطيع أن يمضي في هذه الصرخات، حتى آخر أنفاسه، لكنه سيسأل نفسه في النهاية: ماذا يغني البكاء أو الصراخ؟ ماذا يجدي القول أو الكتابة؟ أليس في آخر المطاف كلاما في كلام في كلام؟ أوليس الأولى من ذلك أن يدعو للفعل ويحدد معالمه ويكون قدوة له؟ إن الكتابة - أدبا كانت أو فلسفة، دررا كانت أو خزعبلات، همسات كانت أو صرخات - قد أصبحت عاجزة عن مقاومة الموت المستشري فينا. وربما كان الطريق الباقي هو أن يعمل الإنسان لا أن يكتب أو يتكلم، فالفعل وحده هو الذي يمكن أن يبرر نفسه وسط الاختناق بالحسرة والندم والصمت.
لكن هذا الكلام كله عن عجز الكلام والإيمان بضرورة الفعل ما يزال يختنق بالبكاء. والذي يكتبه هو أبعد الناس عن الصراخ؛ لأنه لا يميل بطبعه لإزعاج أحد أو لفت أنظار أحد. ولو قلت إن العبارات هي في الحقيقة صور لعلاقات وعمليات وأفعال، ولا يكون لها معنى، حتى تشير إلى علاقات وتترجم إلى عمليات، وتهدي لأفعال لقال نعم، ولكن هذا لم يحدث في السنوات الأخيرة من تاريخنا إلا في أندر الأحوال. أليس هذا كله مبررا لأن يبكي في صمت، وأن يضع ما يكتبه تحت عنوان البكائيات؟
أتكون هذه البكائيات لونا جديدا من أدب الاعترافات وصورة مختلفة من صور السيرة الذاتية؟
أما أنها جديدة أو مختلفة، فهذا أمر أوثر أن أتركه للقراء والنقاد. كل ما أستطيع قوله هو أنها صور «مقنعة» في أشكال متعددة، شاعرية وروائية ودرامية غلب عليها طابع المناجاة وأسلوب الحوار، الذي تديره الذات مع ذاتها. وربما أمكن أن يقال إنها أشكال مفتوحة أو على طريق البحث عن شكل محدد، ولهذا تتخفى وراء أقنعة تتكتم أكثر مما تفصح عنه.
إن فكرة القناع أو صورته من أهم الأفكار والصور التي تشغل الأدب والنقد الحديث، وتستحق البحث عن الدور الذي تقوم به في أدبنا الجديد. ولقد كان من قدر الشاعر والكاتب العربي المعاصر أنه يقوم بدور العراف والمتنبي. والشاهد عن العصر والبومة الحكيمة المنذرة بالأخطار «وكنت أنت بينهم عراف. وكنت في مأدبة اللئام، شاهد عصر ساده الظلام» (البياتي في قصيدته محنة أبي العلاء)، وكان من قدره كذلك أن يحاول أن يكون «المنقذ» - كما عبرت في كتاب بهذا العنوان عن أفلاطون - والصوت الهاتف في البرية بحثا عن طريق النجاة الوحيد: أن ننقذ أنفسنا بأنفسنا، ونغير وجه أرضنا وواقعنا وتاريخنا بإراداتنا. وننسج الثوب الذي يمكن أن يسترنا بأيدينا، ونبعث مدن الغد من قبور الماضي والحاضر التي دفنا فيها بأمر الطغيان على اختلاف صوره وأقنعته التي كشف شعراؤنا المجددون عن زيفها. هل أقول إن أوديب وأوفيليا والمتعب من الحياة أقنعة تخفي وجها واحدا تغمره الدموع، ثم تكشف عنه؟ هل كانت بديلا عاجزا عن السيرة الذاتية التي لجأ إليها الأدباء والمفكرون في الشرق والغرب أم حيلة جديدة للإمعان في تعذيب الذات؟ وحتى لو سلمنا بأن أي تعبير أدبي جدير بهذا الوصف - من الأساطير القديمة حتى أدب العبث واللامعقول وما بعده - قد لجأ بصورة أو بأخرى إلى التحجب خلف القناع، فهل نجحت هذه الأقنعة في التعبير أم لم تنجح؟ وهل انطبقت عليها شروط القناع الأدبي أم كانت رموزا واستعارات؟
إن البكاء يكشف عن جوهر الإنسان ومعدنه أكثر مما يفعل الضحك، أو أي شيء آخر. والإنسان حين يبكي يغطي وجهه بيديه، حتى لا ترى العيون دموعه أو تنفذ إلى سره. والأقنعة التي استخدمتها - إن كانت ترقى إلى هذا الوصف - قد حاولت أن تستر الدموع التي ذرفتها في لحظات المحنة والضعف، وفي مواقف التحدي والمقاومة. لكن يبدو أنها عجزت عن ذلك فافتضح السر، وكشف المحجوب. أليس هذا وحده خليقا بالبكاء؟ ألا تستحق هذه المحاولات أن تكون بكائيات؟
أتكون هذه البكائيات تعبيرا عن اكتئاب مرض متأصل؟
عن نمط من الشخصية عصابي أو فصامي أو سوداوي متشائم؟ ألا تعد بذلك ذاتية غارقة في مستنقع الرومنطيقية الذي عفا عليه الزمن وحلقت فوقه نور الأدب والنقد والفن والفكر المعاصرة في احتقار وازدراء؟ أما أنها رومنطيقية فلا أظن أنني أو أي أحد من جيلي يمكنه أن ينكر التهمة، أو يزعم أن تكوينه النفسي قد تخلص تماما من لعنتها السحرية أو من سحرها الملعون (حتى العلميين والتقدميين في شرقنا العربي - صدقا أو ادعاء - لن يمكنهم هذا!) وكيف يستطيع كاتب من مصر انحدر من سلالة «المعددة» والندابة، وغار في أعماقه نواح العازف الأعمى على القيثار وأناشيد كتاب الموتى - كيف يستطيع أن ينكر أنه مكتئب من صلب مكتئبين وبطون مكتئبات؟ والجيل الذي أنتمي إليه وعاش على مدى ثلاثة عقود من حياته الواعية محروما من الحرية والأمل وتحقيق الذات الفردية والجماعية - هل كان جيلا من الآلهة حتى يحطم نير الحزن الذي عصب عينيه ويتخلص من طوق الاكتئاب الذي حاصر شبابه ورجولته وقدرا كبيرا من كهولته؟
أما عن نفسي فقد وضعت كتابا تقارب صفحاته الألف عن ثورة الشعر الحديث كله على الرومنطيقية، كما حاولت بجهودي المتواضعة في تعليم الفلسفة والكتابة عن الفلاسفة العقليين - مثل أرسطو وليبينتز وكانط الذين يستحيل أن تعلق بهم شبهة الرومنطيقية - حاولت أن أنتزع من نفسي شوكة الألم القديمة المتأصلة، ولكنني أعترف بأنني عجزت. والنتيجة التي لا أحسد عليها أنني أتهم بكتابة أدب تأملي أو فكري وفلسفة عاطفية أو شاعرية! ومع أن هذه ليست تهمة بالمعنى الدقيق؛ لأن تاريخ الأدب يزخر بالأدباء والحكماء، وتاريخ الفلسفة يمتلئ بالحكماء الشعراء، وأستغفر الله والحقيقة أن أتصور نفسي واحدا من هؤلاء أو أولئك! فإنني مع ذلك لا أتنصل منها، ولا أفكر في التبرؤ من وزرها. نعم إن هذه البكائيات رومنطيقية والنفس الرومنطيقي يتردد فيها، ويعزف على أوتار جريحة لا تخطئها أذن، لكنها ليست رومنطيقية الفردية المريضة المستغرقة في تعذيب الذات وأحلامها الكسيرة وآمالها الخائبة؛ لأنها تمد جسورا بين الفرد والجماعة، وتبكي. حين تبكي ذاتها. ثقافة وحضارة ووطنها تراه يتمزق وينهار. وتردد على أوتار أساها وحزنها لحنا بسيطا يؤكد مع ذلك أن الانهيار ليس قدرا غيبيا أعمى، ولا حتمية تاريخية أو غير تاريخية، وإنما هو محنة تتحدى الإرادة الفردية والجماعية وتحفزها إلى قهرها وتخطيها. بهذا يجتمع فيها الحزن والصلابة، ويتحد الأسى مع إرادة تجاوره. وعقيدتي التي اقتنعت بها ودعمتها التجربة والتأمل أن الإنسان هو الكائن الوحيد القادر على العلو على ذاته. وشد نفسه من المستنقع بنفسه. والتاريخ وفلسفته يعلماننا أن ما يصدق على الفرد يصدق على الجماعة، وما انهارت الحضارات البائدة بفعل قدر غامض أو لعنة مجهولة، وإنما انتحرت بيد أبنائها عندما أكلوا لحم بعضهم، واستسلموا للفراغ والدعة والترف ومهادنة الأعداء، وفشلوا في إيجاد الاستجابات الخلاقة الممكنة للتحديات التي واجهتهم. وخنقوا روح الإبداع والتحرر والتجدد بالتسلط والإرهاب والاضطهاد (ابن خلدون وفيكو وتوينبي)، وإذا وجدنا أحد أفراد الجماعة قد غرق في بحار الأسى، فإن غرقه يجب أن يكون آية ودرسا، وأن يجدد العزم على الصمود والمقاومة.
لكنني أعيش في حضارة تجمع كل الآراء الشعبية والموضوعية على أنها حضارة مأزومة. وإذا صورت لي الحساسية المتطرقة أنها تحتضر وتلفظ آخر أنفاسها ، ألا يحق لي عندئذ أن أسمعها لحنا جنائزيا يزعجها من رقدتها، ويثير فيها إرادة الميلاد والبدء من الصفر؟ ألا تستحق هذه اللحظة - على حدود تاريخ يغيب وتاريخ آخر لم تبزغ شمسه - أن يكون لها مغنيها الباكي أو شاهدها الحزين أو بومتها المكتئبة التي تحدق في ظلام الكارثة الزاحفة، فتنعق وتحذر؟ أليس هذا في النهاية مبررا كافيا لترديد هذه البكائيات؟
لم البكاء وما معنى رثاء الذات في زمن العلم الذي يهيب بنا أن نكون علميين، وأن نشارك في حضارة العلم والمنهج بكل ما نستطيع؟
إن إيماني بالعلم لم يفتر لحظة من حياتي المنتجة الفاعلة، وما زلت أشارك فيه على قدر جهدي، لكنني أجيب على السؤال فيما يخص الأدب، فأقول إنني شعرت منذ أن بدأت الكتابة بأن الأدب كله في النهاية مرثية طويلة يبكي فيها الإنسان نفسه، وسوء حظه، وإخفاق جهده، وتعبه على الأرض. ولا شك أن النظرة إلى الأدب الإنساني على أنه سجل للإخفاق المستمر الذي يلحقه الواقع بكل آمال البشر نظرة تنطوي على قدر كبير من التعميم الخاطئ والخطر، ناهيك عن تشاؤمها القاتم وحسها الفاجع، فلا شك أيضا أن من الممكن النظر إلى الأدب على أنه أنشودة تمجيد للحياة، وسعي إلى الخلود المتاح للبشر عن طريق الفن، ودفاع متجدد الصور والأساليب عن إنسانية الإنسان. وقد يمكن أن تنظر إليه نظرات أخرى لا حصر لها. حسب ما تفهمه من طبيعة الأدب وبنيته ووظيفته وأدواته وعلاقاته بمبدعيه ومتلقيه ومناهج بحثه ونقده وتذوقه، لكنني هنا أسجل تجربتي مع الأدب والكتابة وهي تجربة أملتها طبيعتي التي جعلت منها بكاء متصلا على النفس (الفردية والجماعية والكلية) أعلم أن هذا البكاء ينطوي على سخرية كامنة تقوم على تصور الأدب بوصفه حكاية ساخرة قوامها المفارقة. وكلما ارتفع نواحها رن في الأذن صوت سخريتها واستهزائها (ولهذا ليس عجيبا أن يكون أقدر الأدباء على استدرار دموعها هم أقدرهم على استثارة ضحكاتنا. وأن يشهد التاريخ بأن أعظم الضاحكين المضحكين، مثل أرسطوفان وموليير، كانوا من أعظم البشر حظا من الألم والتعاسة والشقاء!) ولقد عشت ما عشت بعيدا عن أضواء المسرح، زاهدا فيها بطبعي. على الرغم من جنوني بالمسرح نفسه، وحلمي بالتفرغ للكتابة له.
عشت - كما وصفتني دعابات الأصدقاء - حياة عنكبوت أو شرنقة تعمل في الظل والصمت والسكينة، وكنت - كما وصفت نفسي - أشبه بيونس في بطن الحوت. ولم يكن من قبيل المصادفة أن أكتب تحت هذا العنوان قصة قصيرة لا أعدها خير قصصي، فتترجم إلى عدة لغات، ويتكرم أحد المستشرقين بوضع بحث مطول عنها! نعم! عشت سنوات طويلة من عمري، وكل ما أعرفه أني أموت. مضغة تائهة في جوف حوت (خليل حاوي) في عيني حزن مزمن، على وجهي شيخوخة مبكرة. وفي عقلي وقلبي حكمة شرقية مميتة، سنوات طويلة أعاني الحرمان والفقر والوحدة، وأحاول أن أفلسفها، وأجرب مصرع الأمل والحب وشوق الأنا إلى الأنت أمام الأبواب والنوافذ الموصدة، وألوذ بجزيرة النقاء والصفاء وسط الضجيج والوحل والضوضاء، وأعانق الترفع والكبرياء، وأستنقذهما من مخالب الشراسة والنذالة والغدر والغلظة كمن يشد شعره لينتشل جسده ونفسه من المستنقع. وأعاين مصير الطيبة المطلقة، وهي تدان وتتهم بأنها ضعف وذل وغفلة وهوان، وأسهر آلاف الليالي كما سهر فاوست في حجرة دروسه لأحصد المرارة والتجاهل والجحود، وأدرك في النهاية صدق ما قاله له الشيطان: كئيبة مقفرة يا صديقي هي كل النظريات، أما شجرة الحياة الذهبية فتبقى خضراء (البيتان 2038-2039). وبينما المطلق يطبق قبضته على الرقاب، ويدق طبوله ويحشد جلاديه ودجاليه، فيتحول التدين إلى التعصب، والاشتراكية إلى الإرهاب، والحرية إلى الفهلوة واللصوصية، والثورة إلى الجريمة، والعلم إلى التجارة والارتزاق، والفن إلى الفجاجة والابتذال والنفاق - بينما المطلق - الطاغوت يجوس خلال الديار كتمثال مارد أجوف على قدمين من طين، يتبجح بدعاويه ويبرر هزائمه، ويفرخ مسوخ التسلط في كل مكان، أجدني أكتب وأعلم وأعمل في سبيل حياة بسيطة سوية، حياة حرة ومعقولة وممكنة، تصان فيها أوليات الإنسانية، فلا تقمع ولا تهدر ولا تهان في سبيل مطلق مستحيل. وتمر السنوات، وتسقط قيم تربى عليها جيلي، وتبتلى بالاستبداد - وهو شر ما يبتلى به الإنسان في كل مكان وزمان - فتنقلب إلى الضد والنقيض، ويتقمص الخضر ثوب الجلاد، وتنهش الكلاب لحم الشرفاء والطيبين، وتخلو الساحة «للاقيم» التي وضعت نفسها في موضع القيم المطلقة للانتهازية والشطارة والتضخم والنجومية والكذب والغدر والادعاء وسائر ما تفرخه حية الأنا المتسلطة التي أنكرت وجود الآخر، وألغت حريته وسعادته ووكرامته. «ربي كيف ترعرع في وادينا الطيب، هذا العدد من السفلة والأوغاد؟» (صلاح عبد الصبور في ليلى والمجنون) وأيا كان تصورك لهذا الآخر على أنه الوطن أو الجماعة أو المصير المشترك أو رفيق الحياة والموت، فقد التهمته الحية الطاغية المتسلطة، وراحت تصفر وتطير في كل الأجواء الخالية (لدغني زملاء كنت أدخرهم للأيام الباقية من العمر، وعضني تلاميذ وأبناء أعطيتهم تعب العمر. كلانا - لو علموا - زائل، وسيبقى وطن صيرناه بأيدينا غابة غدر وجهنم قهر). أمام هذا كله هل تملك الذات الوحيدة المدحورة إلا أن ترثي نفسها؟ وهل يكون رثاء النفس إلا رثاء لكل النفوس الطيبة المحيطة في مكاني وزماني وعلى مر الأجيال؟ وإذا سلمنا بأن أدبنا الحديث في أصدق أعماله لم يتقن سوى مرثية الوطن والبكاء عليه (محمود درويش)، فإن رثاء النفس ينطق أيضا بأن الوطن يتطلب شيئا آخر غير الرثاء والبكاء، شيئا يمكن أن نسميه الفعل الحر والعمل المبدع للمجموع. عندئذ تتحول دموع الشعراء والأدباء إلى نواقيس خطر، ويصبح البكاء ندا للإرادة الفاعلة. وعندئذ نغفر لواحد منا أن يصبح «بومة مينرفا» التي تطلق حكمتها الحزينة وسط الخرائب لعل نعيقها يحرك وعي العاملين فيبدءوا البناء الجديد فوق الأطلال.
لكن الوعي لم ينتبه، والبناء لم يبدأ، والصعود إلى الهاوية مستمر، والخلط والتخبط بلغا حد العماء والتصادم في الظلمات. والغربان المنذرة بالكوارث القادمة في الأفق، والكوارث نفسها تزحف وتزحف وتدق الأبواب. أليس هذا كله سببا كافيا للبكاء؟!
وأخيرا، هل تبلغ هذه البكائيات دعوة؟ هل ترسل رسالة؟ هل تنطوي على نبوءة؟ هل تقدم وعدا؟
لا أستطيع أن أدعي شيئا من هذا ؛ فهي محاولات وتجارب فنية قبل كل شيء، قد تجد في «الدموع على حائط مبكاي» خيبة أمل مرة في النفس ، حسرة على عمر ضاع أكثره في الترجمة عن الآخرين أو التعريف بهم. شهادة صراع أليم عانيته وتمزقت منه بين العلم والإبداع (لعلي أكون قد بالغت فيه، حيث لا ضرورة للتناقض بينهما)، وقد تلمس في سطور المناجاة الشاعرية لنفس تبحث عمن تتحدث إليه (ولا أقول المناجاة الشعرية؛ لأنني لا أدعي القدرة على قول الشعر، ولن أدعيها. ولأنها فاجأتني في ثلاث ليال «يمنية» عشتها في صنعاء، ولا أظن أنها ستتكرر أبدا)، أقول قد تلمس فيها نقدا للذات ومراجعة لحياتها وحصادها ومحاولة لإقناعها بالاستمرار في الوجود والإصرار على الخلق والأمل في الفجر المقبل. وربما تحس في متاهة الكابوس (الذي أشهد الله والحقيقة أنني رأيته بحذافيره في نومي، ثم دونته بعد ذلك في تسعة أيام وليال لاهثة محمومة) مدى العذاب الذي قاسيته طوال عشرين عاما من تحول عشقي للفلسفة إلى مهنة أوجر عليها، وآكل منها خبزي، كما تشعر بالأحلام المحيطة والمشروعات المختلفة والآمال المهزومة، «ولحظات المطر» التي مرت خيولها مسرعة، ولم أتمكن من الإمساك بخصلات شعرها. وربما تفزعك البكائية إلى صلاح عبد الصبور بجوها الأسود القاتم، وتملؤك سخطا على براعتنا في اغتيال المواهب، وقدرتنا التي لا تبارى على قتل بعضنا لبعضنا. ولعلها أيضا تخيفك من «رعب أكبر من هذا سوف يجيء» تنبأ به شاعر وإنسان عظيم أرهقناه وعذبناه حتى الموت، وملأنا أيامه كمدا وحزنا. وربما نستشف من البكاء بين يدي أوفيليا هول الظلم الواقع على البريء النقي عندما يسقط في المستنقع «العربي»، فيكون موته الإرادي البطيء هو وسيلته الوحيدة للاحتجاج عليه والخلاص منه. وأخيرا قد يراودك الإحساس وأنت تتابع دموع أوديب بأنك تراقب «طيبة» أخرى وهي تنهار وتسقط، وبيد أبنائها تتحول إلى غابة يحكمها قانون الغدر. وتظل تضيق الخناق على ابنها الذي أنقذها ذات يوم، حتى لا يبقى أمامه إلا أن يجتث شجرة عمره بيديه، ويأخذ طفلته معه ويرحل. ربما تحس هذا كله، وتشعر معه بموقف أساسي ثابت لا يتغير هو رفض الاستبداد والتسلط وتأكيد الحرية برغم كل شيء، والكفر بأي قول أو فعل لا يصب فيها ويدافع عنها ويدعمها. ولكن هذه كلها شروح عقيمة ودعاوى باطلة. فالبكائيات كما قلت تجارب فنية. والتجربة لا تدعي شيئا ولا تدعو إلى شيء. إنها تريد أن تكون وحسب، تتمنى أن توحي وتحرك وتثير، لا تقدم أفكارا أو معاني مجردة، بل تحمل إشارات وأمثلة وحكايات ومواقف وصورا وبناءات لغوية تكفل نفسها بنفسها، وتسمح لمن شاء أن يقرأها كما يشاء. لكنها في النهاية جزء من «وصية» إنسان خاب أمله وأمل جيله، يضعها بين يدي جيل يحبو الآن على الدرب، أو أجيال لم تولد بعد، يضعها بين يديها وهو يقول: هذا هو كل ما استطعت. ربما يكون شوكا ما حصدت، لكنني تعبت وأخلصت. وإذا استطعتم أن تكونوا أقوى منا، وأقدر على تغيير الواقع، فتذكروا أنه كان قاسيا علينا. وإن ذكرتمونا يوما فسامحونا.
1985م
ملاحظات
تفضلت هيئة الكتاب بالقاهرة بنشر البكائية إلى صلاح عبد الصبور في ذكراه الأولى (أغسطس 1982م)، ولكنها لم تنشر هذا التعقيب الطويل الذي ظهر مع البكائية في عدد مجلة البيروتية (ديسمبر-يناير 1982م)، ولهذا رأيت إعادة نشره في هذه الطبعة.
الدمعة الأولى: دموع على حائط مبكاي
الدمعة الثانية: لمن أتحدث يا نفسي اليوم؟
الدمعة الثالثة: الكابوس
الدمعة الرابعة: نم بسلام
صفحة غير معروفة