فقالت جميلة: إنني أفتكر بأمر يا بديعة.
قالت: ما هو يا عزيزتي.
فقالت: يقولون بأنه من المحال أن يخلص النساء المودة لبعضهن، أو أن تكون محبتهن حارة، وأن المرأة يمكنها مصادقة الرجل وحبه وتضحية كل شيء لأجله مما لا يكون منها لأختها في الجنس، وكثيرا ما سمعت بأن بعض الفتيات يكن عبوسات خشنات مع أترابهن وبالعكس مع الرجال الذين ينالون منهن كل لطف، فهن يهربن من محبة المرأة إذا لم أقل يبغضنها، ويفرغن جهدهن بالتقرب من الرجل، مع أن اعتقادي هو أن محبة المرأة للمرأة واجبة؛ لأنها من جنسها.
قالت بديعة بتفكر: إنك محقة يا جميلة؛ لأن الصداقة الحقيقية متى عرفت من الناس يجب أن تكون بين المرأة والمرأة على الأكثر؛ لأن الصلة الجنسية أكبر واسطة لذلك. خذي لك مثلا على هذا من أعظم شخصين على وجه الأرض وهما الوالدان؛ فإنك ترين البنت دائما منحازة إلى والدتها والصبي إلى أبيه؛ لأن الأولى تحب اكتساب معرفة واجبات الجنس من أمها فتصادقها إذ تكون مطاليبهما وأعمالهما متساوية، وكذلك يكون الصبي مع أبيه، وهكذا يجب أن يكون بين جميع طبقات البشر، أن تبذل المرأة لأختها الصداقة كما تبذلها للرجل، وفي ظروف مخصوصة يجب أن تخصها بها دون الرجل؛ لأن ما تقدر أن تساعد المرأة صديقتها به وفيه لا يقدر عليه الرجل، ورب صديقة غريبة تكون للمرأة أنفع من زوجها وابنها؛ لأنها من جنسها. ولكن صداقة الرجل التي أشرت عنها يا أختي هي التي تحول دون هذه الصداقة النفيسة، بل هي كثيرا ما تحولها إلى بغض وانتقام كما نرى غالبا؛ إذ كثيرا ما تبغض الأخت أختها والبنت أمها والأم ابنتها لأجل محبة رجل، وهذا أمر يظهر بأنه طبيعي يا أختي لا يزايله إلا «الواجب»، وهذا غير معروف من كثيرين لسوء الحظ؛ لأن كلمة هائلة قد طردته من قلوب أكثر الناس وتولت مكانه وهي «الأنانية».
وأما فيما خلا هذا الظرف فلا أرى من مانع يمنع المرأة عن مصادقة إخوتها في الجنس، ولكن هناك أيضا ثلاثة حوائل هي كالحائل الذي تقدم ذكره، بل هي مشتبكة ببعضها، وكل واحد سبب الآخر، وهي أولا حب الذات وثانيا الحسد وثالثا الضعف.
فحب الذات يا أختي يطرأ في النفس وفي سواها؛ فنحن النساء محبات لذواتنا كثيرا ولكن الغريب هو أننا مع هذا كثيرا ما نضحي ذواتنا لأجل الرجال، ومع تساهلنا الكثير لأجل من يحسبون الأمر منا «خفة» أحيانا. فنحن ضنينات وحريصات بالتنازل عن أتفه الحقوق لبنات جنسنا؛ مثلا لو أحبت المرأة رجلا تقدر أن تضحي حتى محبة أمها وأختها لأجله، وأن تتنازل عن رضى أمها النفيس لأجل رضاه، ومع هذا فهي لا تتنازل لتضحية ساعة بتعزية أو تسلية امرأة مثلها تكون محتاجة إلى التعزية أكثر مما هو محتاج إلى ابتسامتها الحلوة إذا كانت هذه الساعة من الوقت له فتأملي.
أما الحسد فحدثي عنه ولا حرج في جنسنا، المرأة يا جميلة تحسد أختها متى رأت لها شيئا أحسن منها، ولو كانت من أعز الناس إليها. والحسد والحب لا يتفقان يا عزيزتي؛ لأنه أسهل على الإنسان أن يذهب مفتشا بين الذئاب الضارية عن صديق من أن يطلب هذه الصداقة من قلب حاسد وإن تظاهر بها، فالحسد هو أساس الشرور؛ لأنه عاطفة وحشية لا يسأل الإنسان معها عن دين أو ذمة أو شرف ، وعمل الحاسد الوحيد متى تبع هواه هو إلحاق الضرر بالمحسود منه؛ لأن هذه مهنة الحاسد الوحيدة متى كان لئيما، وأنت تعرفين بأن أعظم الجرائم التي يمكن للإنسان اقترافها هي جريمة القتل أو الإضرار بالغير، سواء كان بمادياتهم أو أدبياتهم، وهذه رغبة الحاسد، وأما الضعيف فإنه سبب هذين الحائلين ولكنني ذكرته بعدهما فإن المرأة ضعيفة، ومع أنها تعرف ضعفها فهي لا تقدر على مداواته أحيانا وكثيرا ما يجرها هذا الضعف إلى إتيان أمور لا تريدها لنفسها وبعد فوات الوقت تندم، ولكن متى كان الضعف قابضا بيده الحديدية على قلبها تكون ندامتها أشبه بتوبة السكران لما يرى غيره سكرانا، أو لما يأتي أمرا قبيحا من السكر، ولكنه لا يلبث أن يتناسى كل ذلك ويطلب من هذه الخمرة الطيبة في يد غيره، فهل تحسبين ترك المرأة للبيت الذي ربيت وعاشت فيه كل أيامها الحلوة وذهابها مع رجل - ربما لا تعرف عنه شيئا - غير ضعف. وهل تحسبين بأن ميل الفتاة إلى شاب ما يكون مخطوبا لسواها وانتزاعه من غيرها لنفسها غير ضعف؟ هذا الضعف المشين الذي يتسلط على جنسنا في أكثر الأحيان، ولأجله يدعو الرجل «المرأة ناقصة العقل والدين»، الرجل الذي تضحي المرأة لأجله كل هذه الأمور وسواها من مثل سعادة وواجب وحب والدي يضحك منها ويحتقرها، فتأملي! تأملي!
الفصل الثلاثون
الشتاء والربيع وحوادثهما
انقضت الأيام والشهور على بديعة وهي تكلف نفسها التجلد والصبر والقوة تبعا لمثل الأمريكان القائل: «من لا يساعد نفسه لا يساعده الله.» حتى عادت إليها قوتها كما كانت قبل مجيء فؤاد وليس قبل تعرفها به، فقنعت بحالتها الحاضرة وارتاحت أفكارها نوعا؛ لأنها لم تسمع عن فؤاد شيئا كل تلك المدة.
صفحة غير معروفة