كلمة في الرواية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الفصل السادس والثلاثون
الفصل السابع والثلاثون
الفصل الثامن والثلاثون
الفصل التاسع والثلاثون
الفصل الأربعون
الفصل الحادي والأربعون
الفصل الثاني والأربعون
الفصل الثالث والأربعون
الفصل الرابع والأربعون
الفصل الخامس والأربعون
الفصل السادس والأربعون
كلمة في الرواية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الفصل السادس والثلاثون
الفصل السابع والثلاثون
الفصل الثامن والثلاثون
الفصل التاسع والثلاثون
الفصل الأربعون
الفصل الحادي والأربعون
الفصل الثاني والأربعون
الفصل الثالث والأربعون
الفصل الرابع والأربعون
الفصل الخامس والأربعون
الفصل السادس والأربعون
بديعة وفؤاد
بديعة وفؤاد
تأليف
عفيفة كرم
كلمة في الرواية
بعد حمد الله تعالى الذي هو في بدء ومنتهى كل عمل، أقول: إن انقطاعي عن الكتابة ومناجاة إخواني السوريين وأخواتي السوريات - ولا سيما المهاجرات منهن - على صفحات «الهدى»، كان مني تفرغا لتأليف رواية نسائية أدبية غرامية، سبكت فيها بعض أفكاري لسببين؛ الأول: لأن للسيدات ولعا شديدا بقراءة الروايات، فهن يطالعنها بصبر وجلادة لا يكونان منهن في مطالعة سائر الكتب، وذلك ما يساعد مبادئ الرواية والأفكار المبثوثة فيها على دخول عقولهن وقلوبهن مصحوبة بالتفكهة والفائدة. فالكتابات - وأخصها الروايات - «نار ونور» كما يقولون، وتكون بحسب مبادئها إما محرقة وإما مضيئة. والثاني: لأن الأفكار متى جمعت ونسقت بقالب رواية تصبح كالسلسلة المتصلة الحلقات، فتفيد القارئ وتكون أشد تأثيرا وأحسن وقعا عليه من سواها، فضلا عن أنها تحفظ في البيت كما تحفظ في الذاكرة زمانا طويلا، وتقرأ بلذة ورغبة، بخلاف المقالات والفصول المتقطعة.
ومعلوم أن الروايات إنما هي المرايا تنعكس عليها صور أعمال وحوادث كل إنسان تقريبا، فيقرأ من بين تضاعيف سطورها وخلال حوادثها ما يمثل له نفسه في بعض الأحيان، فيتأثر مما هو مؤثر أو يبكي ويفرح لما يكون مبكيا ومفرحا، ويطلب فوق ذلك لنفسه الدواء الناجع الذي يصفه المؤلف لغيره، وتلك هي أجل منافع الروايات المفيدة التي لا تستفاد إلا منها ومن أمثالها من الكتب.
إني في هذه الرواية أخالف عادة بعض الكتاب في ثلاثة أمور، وهي أولا: أنني لا أقدمها لشخص وفرت أمواله، فرجي نواله وخيف انتقامه فأجل مقامه. والرواية عمومية لا نصيب لأحد دون محبي العموم والإنسانية فيها، فهي تهدى ولكن إلى المفضلين أدبيا علي، وأخص منهم بالذكر صاحب جريدة «الهدى» اليومية الذي نشطني وساعدني على بث آرائي وإبداء أفكاري، كما ساعد الكثيرين والكثيرات غيري مساعدته لي، حتى عرفت جريدته بالمنشطة للآداب والتهذيب والنافخة لروحهما بين جاليتنا السورية الأمريكية. وأقدمها ثانيا للأديبات والأدباء من قراء جريدة «الهدى» الكرام، الذين كان اعتبارهم الماضي لمقالاتي ورضاهم عنها من أكبر المساعدات لي على استطراد السير في طريق الإصلاح الوعرة، بالرغم عما اعترضني فيها من المصاعب التي عوضا عن أن تثبط عزيمتي كانت منشطة لي، فوجب علي أن أذكر هذه الفئة الكريمة بالشكر والثناء، وأجعل لها من اعتباري بإشراكها في تقديم الرواية لها نصيبا وافرا. وأضم إلى ما مر آنفا كلاما قاله أحد المؤلفين الأمريكيين في صدر كتابه، أقتبسه عنه وأراجعه بلسان الوطنية قائلة: إنني أشرك في تقديم هذه الرواية الذين عملوا لأجلنا كثيرا، والذين نرجو أن نعمل لأجلهم شيئا في المستقبل، وهم:
أولا:
أمهاتنا اللواتي «بنين» البيوت التي استقبلتنا أول دخولنا هذا العالم.
ثانيا:
زوجاتنا اللواتي «يبنين» لنا البيوت التي نسكنها الآن.
ثالثا:
بناتنا المزمعات أن «يبنين» البيوت للذين يأتون بعدنا.
رابعا:
القراء الذين تلطفوا باعتبار كتاباتنا الماضية، وهم غير متحولين عما تفضلوا علينا به من قبل إن شاء الله.
خامسا:
الذين لهم بيوت سعيدة والذين يحتاجون إليها.
ولا أحب الاعتذار الكثير عن الخلل ولا الترجي بالتجاوز عنه، بل أقول بكل بساطة وحرية: إنني علقت في هذه الرواية كل ما حضرني وخطر لي من الخواطر في بضعة الشهور التي انقطعت فيها عن متابعة الكتابة في «الهدى» وهي ستة، وكان قصدي المساعدة على الخدمة والإصلاح بما في الوسع وليس دون ذلك أم فوقه، ولم أكتب كلمة إلا رجوت من ورائها النفع العام لأبناء وبنات جنسي، فإن كان الأمر ما حسبته فمكافأتي الوحيدة المبتغاة منهم هي تدبر كلامي والعمل بما يرونه حسنا منه، أو انتقاده الذي هو عندي من خير المكافأة على أتعابي أيضا.
وأخالف عادة البعض ثالثا بأنني أشترط على القراء شروطا، منها: أن يتأكدوا بأنني لم أهتم كثيرا في روايتي هذه بتنسيق الحوادث وسردها؛ إذ لكل قارئة وقارئ روايات مما يمر عليهما ومعهما وأمامهما كل يوم، بل كانت غايتي التي أعتبرها أسمى من كل تنسيق وتنميق والتي وجهت إليها أكثر عنايتي: «بث الأفكار الإصلاحية التهذيبية الانتقادية»، ومنها التوسل إلى أبناء وطني أن يتناسوا بعض العوائد السورية، وألا يذكروا بأن المؤلفة امرأة سورية ولو عند قراءة الرواية فقط؛ ذلك لأنني وأنا أكتب هذه السطور بأذن ضميري انتقادهم على المؤلفة لأنها كتبت عن «الحب والزواج»، وأنظر بعين فكري «ازورار الأعين» وعض الشفاه، وأنا لا أبالي بكل هذه العادات المذمومة التي هي من الحوائل في سبيل تقدم النساء وحرمان هذا الجنس من نصائح بناته، بل إنني أخشى على ذهاب الفائدة مع القراء الذين يعتقدون بهذه الحشمة المضرة التي توقف المرأة عن تقديم المفيد لبنات جنسها، ومعلوم أن الذي لا يعتقد بوجوب الشيء لا يستفيد منه.
وأكرر توسلاتي القلبية إلى البعض من القراء، ولا سيما إلى النساء أن يترووا في قراءة هذه الرواية الصغيرة، وألا يدنوا من الحقيقة حتى إذا كادت تصافحهم نفروا منها سراعا إلى الوهم، أي أن يقرءوا بتمعن ويطرقوا بصبر الطريق الموصلة إلى الحوادث المبثوثة بين الأفكار، بأن يعتبروا ما حل بفؤاد وما عملت بديعة وما لقيته لوسيا بعد معيشتها المتطرفة. كل هذه أمور مشوقة، ولكن الأفكار التي قد يحسبونها «مملة» هي مفيدة، والفرق بين الفائدة واللذة عظيم.
وفي الختام، أنبه القراء الكرام إلى أن روايتي هذه هي باكورة مؤلفاتي وأنها لامرأة سورية، فانتقادها يأتي بالفائدة المطلوبة، وتقريظها قائم في «الرضى عنها». وهنا يجب أن أصرح بأمر على غاية من الأهمية، هو أن الرواية كتبت بقصد الخدمة المجردة لا بقصد الأرباح المادية. وأن ما يباع منها بعد أداء أجرة طبعها يكون للإحسان، وأن كل سيدة مشتركة في «الهدى» لها حق بنسخة منها ترسل إليها مجانا، فإذا لم تصلها يجب أن تطلبها مني أو من إدارة «الهدى». وما هذا إلا بعض الواجب علي من الخدمة العامة، وبعض الدليل على حسن القصد. وأنا لكم سيداتي وسادتي القراء المخلصة في خدمة الوطنية والآداب.
عفيفة كرم
الفصل الأول
الصيف
في إحدى ليالي الصيف المقمرة خرج سرب من فتيات إحدى قرى لبنان للاستملاء من عين القرية الواقعة على نحو مسافة ميل من البيوت في قرار واد عميق، وكان بين هؤلاء الفتيات اثنتان تفوقان أترابهما جمالا وتفضلانهن حسنا واكتمالا كما يفضل القمر والشمس الكواكب. وكانت إحداهن في السابعة عشرة من عمرها، بيضاء اللون سوداء العينين والشعر والحاجبين، ذات لون يكاد يبهر الناظر بنقائه وجماله تحت ذلك الليل الدامس من الشعر الطويل، وفوق ذلك الوجه الناصع البياض والممتلئ رواء مما يندر وجوده في امرأة؛ لأن الشعر الفاحم والعينين السوداوين من لوازم اللون الأسمر، كما أن العينين الزرقاوين والشعر الذهبي أو الأشقر من خصائص اللون الأبيض. وكانت معتدلة القوام نحيلة الخصر صغيرة الثغر منتسقة الأسنان، وكانت الأخرى في العشرين من عمرها تمثل نوع الجمال الحنطي ومكملاته من العينين الكستناويتين والشعر المماثل لهما بلونه.
وكانت هؤلاء الفتيات ماشيات وجرارهن على أكتافهن فارغات لا يعيقهن شيء عن التقدم بخفة ورشاقة في ذلك السهل الواسع قبل مشارفة الوادي، وكانت الواحدة منهن تثب ضاحكة فتتبعها الأخرى هائلة مازحة اندفاعا بقوة الشباب وثمولا من خمرة الصبا، وما ترى كان ليزعجهن في تلك الساعة وفي ذلك المكان والعمر! أما إن أيام الصبا تساعد على السعادة الحقيقية؛ إذ تفتح العين على هناء الحياة وتغمضها عن شقائها، إلى أن يمر طور «البساطة الطبيعية» وتنقضي ليالي الأحلام الذهبية ويأتي زمان الاختبار والجد، فيتنبه الإنسان لما خسره في ذلك الشطر من العمر؛ إذ يرى غيره يسرح ويمرح تحت ظل سماء السعادة التي كانت في تلك الليلة ضاحكة لهؤلاء الفتيات بوجه القمر المنير على ذلك السهل الواسع، وهن يركضن بدون أن يشعرن بتعب من المشي أو يكترثن للأحمال الثقيلة التي كانت من نصيب أكتافهن عند الرجوع. ولم يكن ينقص تلك الليلة القمراء وذلك المنظر الطبيعي الجميل اللذين يشابهان بياض وجمال قلوبهن الطاهر، وذلك النسيم العليل البليل الذي كان يزيد وجوههن بهاء ورواء، وأنفاسهن طيبا وحلاوة، وأصواتهن نعومة ورخامة، غير مصور يشعر بجمال ذلك المنظر وقوته، فيرسم الطبيعة وبناتها الطبيعيات الطاهرات بشكل بقعة جميلة من الأرض مصونة بحائط نبت فيها الكثير من الزنابق النضرة الجميلة المنظر الزكية الرائحة والمحتاجة إلى الري مع تدفق المياه العذبة من حولها. بقعة جميلة هي لبنان العزيز وزنابق نضرة هي نساؤه الجميلات الطاهرات. ولكن وا أسفاه، انظروا إليها كيف هي ذليلة لانحباس قطر التهذيب عنها، فليس لها الرائحة التي كان يجب أن ترافقها، ولماذا؟ ذلك لأن الطبيعة مهما ساعدت على إيجاد المادة فلا بد ليد الصقال من المرور عليها للتحسين ولا سيما في هذه الأيام. نساؤنا جميلات؟ نعم. طاهرات؟ نعم. فاضلات وذكيات؟ نعم، وكأمهن الطبيعة. ولكن ما هو النفع من الآلة إذا كانت بدون يد تديرها وتزيل صدأها؟ وهل تكفي المادة وحدها بدون صقل؟ كلا! لأن الفائدة لا تأتي من صلابة فولاذ تلك الآلة ولا من جمال منظرها أو إتقان صنعتها، بل من العمل الذي تقوم به متى أدبرت. وأما إذا تعطلت فكل جمال فيها لا يفيد شيئا إلا التحسر، على أن لا تكون في حالتها اللائقة بها لتفيد. فجمال الوجه ونضارته وصحة الجسم وغضارته، أمور حسنة للمرأة، ولكنها لا تبني البيت؛ لأن من وراء الوجه الجميل والجسم الحسن التركيب معملا للفضيلة والفائدة البيتية والاجتماعية، وما دواليب ذلك المعمل وآلاته غير التهذيب والعلوم التي مع ظهور نفعها ومع محبة اللبنانيين لها والشعور بوجوبها للصبي، ينكرونها على البنت ويساعدون بذلك على قتل نصف المنفعة المتأتية للهيئة الاجتماعية من النساء لو كن متعلمات ومتهذبات حقيقة؛ فالزنابق لا تعيش بدون ماء، وقليلا ما يوجد الماء لزنابق لبنان الجميلة، وإذا وجد فهو غير كاف، فكيف تدعي إذن بأن زنابق الغرب أزكى رائحة وأجمل منظرا من زنابقنا التي كان يجب أن تكون أبهى وأبهج؟ لأنها تنبت في أرض طيبة تساعدها على ذلك، ونحن نمنع الماء عن تلك الزنابق فتجف وتذوي ثم تيبس من التهامل.
فتيات جميلات الوجوه، ولكن ينقصهن ما يجعل لذلك الحال رونقا ليضيء من وراء تلك الوجوه الوسيمة، ويظهر واضحا كأحرف مكتوبة على زجاجة حمراء في ليل أليل، لا تقرأ ما لم يوضع وراءها ضوء فتظهر بأجمل مظاهرها. صحيحات الأجسام، ولكن ينقصهن معرفة كيف تظهر هذه الصحة وكيف تكسى تلك الأجسام الجميلة بملابس مرتبة جميلة مثلها. رشيقات القدود، ولكن تلك القدود ينقصها هندام وعياقة. وكأن وجود «بديعة ولوسيا» تينك الفتاتين المهذبتين بين رفيقاتهما مما يصح به قول القائل: «والضد يظهر حسنه الضد.» وكأنهما كانتا كقطعتي قماش أخذتا من شقة واحدة فخيطتا وخرجتا وزخرفتا، وبإضافة صنعة يد الإنسان إلى يد الله فيهما صار الناظر إليهما يظنهما من غير ذلك القماش وهما منه. هكذا كانت «بديعة ولوسيا» اللتان أظهرتا للناظر جمالا مزدوجا أو جمالا تاما، وهو جمال النفس والجسد. ذلك لأنهما كانتا متهذبتين ومتعلمتين، وهذا ما جعلهن كغادتين باريسيتين قد اختلطتا بأولئك الفتيات الباقيات، ولو مر بهما رجل متهذب في ذلك الوقت لسأل نفسه متعجبا: هل هاتان الفتاتان لا تزالان عزبتين بهذا العمر وهذا الجمال والتهذيب؟! فيجيبه صوت من وراء هاتين النفسين الشريفتين متنهدا: «نعم.» نعم لا تزالان عزبتين؛ لأنه ما ترى يكون نصيب فقيرتين يتيمتين في العالم قد تربتا بالعازارية، وهذه الأيام أيام «دوطة» ووجاهة ومال، لا أيام تهذيب وأهلية.
ولما انتهت الفتيات من الوثوب والركض في ذلك السهل وأقبلن على شفا الوادي، انحدرن إلى العين أو بالحري هبطن هبوط الملائكة وأجنحتهن السعادة الحقيقية والقلوب الطاهرة النقية، فملأن جرارهن وجلسن للاستراحة قليلا يتجاذبن أطراف الأحاديث تحت سماء الله الصافية كقلوبهن، حيث الطبيعة جميلة ورءوفة ولا رقيب أو عذول، وما عسى أن تكون تلك الأحاديث سوى نتائج أفكارهن وقلوبهن الطاهرة؟ وكانت أول متكلمة منهن لوسيا، فقالت: ما أجمل هذه الليلة التي ستكون آخر ليلة نقضيها في الوطن يا بديعة!
فلم تجبها بديعة بل أجابت فتاة أخرى قائلة: أفلا تذكريننا وتذكرينها يا لوسيا متى وصلت إلى العشق، وهي آخر ليلة قضيناها سوية على هذه العين؟
فصعدت إذ ذاك زفرة من صدر لوسيا وقالت: كيف لا وأنا مع سروري بالسفر أشعر بأسف على فراقكن وفراق هذه العين المحبوبة؟ فجاوبها باقي الفتيات بزفرات حرى أيضا، وقالت واحدة منهن: هل أنت سعيدة بالسفر يا ابنة عمتي؟ أجابت لوسيا: سعادتي لا مزيد عليها.
وكانت الفتاة الثانية رفيقة لوسيا متكئة على حجر بعيدة عن سائر الفتيات مقدار خمس أقدام، وهي مصغية إلى نقيق الضفادع وناظرة إلى الوادي أمامها، وكأنها غير موجودة إلا بالجسد بينهن؛ لأن فكرها كان بعيدا ولم تفهم من كلامهن كلمة حتى، ولم تشعر أنهن بجانبها ولم تنتبه إلا ليد ألقيت على كتفها بلطف وصوت رقيق يكلمها قائلا: وهل أنت مسرورة أيضا يا بديعة؟
فبغتت الفتاة من هذا الصوت ونظرت إلى صاحبته بلهفة قائلة: «مسرورة من ماذا؟!»
فقالت الفتاة ولم تلحظ تشتت أفكارها، إما لأنها لم تكن دخلت بعد هذا الطور، وإما لأنها غير ذات ذوق لطيف وذكاء غريب تقدر على قراءة أفكار الإنسان من منظره: مسرورة من سفرك إلى أمريكا؟
فتنهدت إذ ذاك بديعة وقالت: إن السرور يتأتى من الشيء الذي يفعله الإنسان برغبة وحب وليس باضطرار وضغط ...
فأصاب سهم كلامها هذا كبد لوسيا وقالت بنزق: ومن ذا الذي اضطرك إلى السفر ضد إرادتك يا بديعة؟!
فأجابت بديعة بصوتها الرزين مبتسمة: قولي «ما الذي» وليس «من الذي» يا عزيزتي؛ لأن اضطراري إلى السفر هو من الظروف الحاكمة. - ليس للظروف شأن بسفرنا ولا لحكمها يد به؛ لأن ذهابنا بملء إرادتنا وهو لأجل التقدم والربح والرجوع بغنائم الكسب كما رجع غيرنا. - إذن إن الظروف هي التي تحملنا على تحمل مشاق السفر والابتعاد عن أوطاننا وما فيها من الأحباء، فلو كانت والدتك ووالدتي في قيد الحياة، أو لو كانت ظروفنا تساعدنا على المعيشة براحة وعزة نفس؛ لما كنا نفضل التغرب على البقاء في الوطن الذي نحبه ونحب من فيه يا لوسيا. - هذا ما أسلم معك به، ولكن هل أنت تعيسة لسفرك وهو السعادة بعينها؟ - ومن أين عرفت هذا؟ - إن هذا معروف من الدلائل الظاهرة؛ فإن إبدال شيء قبيح بآخر حسن مما يسر لا يحزن. - وهل إبدال أمريكا بوطننا المحبوب من هذا القبيل؟ - من وجه ما نعم؛ لأن الناس يقولون بأن أمريكا هي أم الحرية والإخاء والمساواة، وأيامنا هذه أيام «مال»، فهو الكل في الكل، ومتى توفر للإنسان لا يعود يسأل عن الأصل أو الأدب أو الشرف؛ لأنه هو ينوب عن كل هذه الأشياء. - ما أوسع جنانك يا لوسيا وما أطلق لسانك! فإنك بالحقيقة خطيبة شهيرة، ولكن ليس هذا مقامك بين الجرار، فدعينا من هذا كله، وقولي من أين عرفت كل هذا عن أمريكا وأنت بعيدة عنها ألوف الأميال؟
فتحمست لوسيا وقالت بشيء من الغيط والتشبث في الرأي: هلمي بنا نرجع الآن، ومتى أقبلنا على القرية أريك بأن تهكمك خطأ يا بديعة؛ إذ تقرئين فضل أمريكا على وطننا مكتوبا بأحرف من نور على جدران كل منزل من منازلها.
فقامت البنات - إذ سمعن كلام لوسيا - إلى جرارهن وحملنها وصعدن هذه المرة، وقد نابت أفكارهن عن ألسنتهن فلم يثبن ولم يتكلمن كما في المرة الأولى؛ لأن مناكبهن كانت مؤلمة تحت ثقل أحمالهن، وهل يقدر الإنسان أن يجود بغير ماله؟! وكانت الفتيات بين معجبة بكلام لوسيا، ومشتاقة إلى مرأى أمريكا، وهازئة بهذه «الفلسفة»، ومفضلة الاستملاء من العين في كل ليلة على ألف أمريكا. ومع أنهن اختلفن رأيا وفكرا، فقد تساوين بخلو الفكر والقلب مما يزعجهما، ولم يكن منهن من تفتكر في أمر ذي بال غير لوسيا بسرورها بالسفر إلى أمريكا وبديعة بما هو أعظم من هذا بكثير.
ولم تنس بديعة قول لوسيا الأخير لها، فلما أطلت على القرية وظهرت منها الأنوار قالت للوسيا: يجب أن تقيمي بوعدك. فقالت لوسيا: هذا ما أفعله بسرور، فهل ترين تلك الأنوار المضاءة بهذه الدور الثلاث أكثر من الجميع؟ أجابت بديعة: نعم. قالت: إنك تعرفين هذه الدور لمن؟ - إنها لثلاثة إخوة، بنوها من سنوات، هذا كل ما أعرفه عنها. - وأنا أتمم لك ما بقي من تاريخها؛ فإن أبا هؤلاء الإخوة كان شريكا عند أحد الأغنياء فتوفي مخلفا ثلاثة صبيان وبنتا وأرملة تعيسة، طردت بعد موته بأيام بدعوى أن أولادها صغار ولا تقدر على العناية «بالرزق» والقيام به، فلم يكن من ملجأ لها غير الخدمة ولا لأولادها غير التكفف، فاقتصدت من خدمتها وتكفف أولادها قيمة جواز السفر، فسافرت إلى أمريكا تاركة أولادها على أبواب الناس. ولم تمض عليها سنة حتى أرسلت ستين ليرة «لمعلمها» أو الرجل الذي كانت تشتغل في أرضه لكي يرسل إليها أولادها. فأرسلهم ومكثوا جميعا عشر سنوات في أمريكا، ثم رجعوا وهم غير أولئك «الشحاذين»؛ لأنهم أتوا بمال كثير لم يعرف مبلغه، فتزوجوا بأحسن بنات البلدة، وأحدهم اقترن بابنة معلم وصار الناس ينادونهم «خواجات» بعدما كانوا أولئك «الشحاذين». وبنوا هذه الدور الثلاث التي هي أجمل دور البلدة. فهل يا ترى كانت موجودة لولا أمريكا؟ وهل كان يتخطر أهلها بالملابس الفاخرة، ويجارون أعاظم الناس بالتمدن والتفرنج وكل شيء لولا أمريكا؟ أو هل كان أضيف إلى الطبقة العالية في هذه القرية ثلاث دور وثلاثة «وجهاء» لولا أمريكا؟ فهذه أمريكا «تعمل» الناس بمعمل المال والتمدن، فيصبحون شيئا مذكورا بعد أن يكونوا نسيا منسيا.
ولما أنهت لوسيا كلامها الذي لفظته بحماسة زائدة صادق البنات كلهن عليه، إلا واحدة منهن قالت: تحيرنا من سرور لوسيا وسعادتها بالسفر، فهي تؤمل أن تذهب إلى أمريكا لترجع ظافرة بالمال الكثير وتتزوج أحسن عريس في البلد.
فأجابت لوسيا بقلة اكتراث: لا يا أختي، إن هذا ليس قصدي، بل إنني فتاة أحب التقدم المادي والأدبي، ولا أرى شيئا صعبا على الوصول إلى غايتي ومطلبي. إذ ذاك تكلمت بديعة فقالت: «ما أسهل القول قبل الفعل والعمل» يا لوسيا! فإن المستقبل لله، وما أدراك فلربما نلقى التعاسة عوضا عن السعادة بسفرتنا هذه؛ لأنه قد قيل:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن - إن كلامك غير مقبول عندي يا بديعة؛ لأن السعادة بأمريكا أمر مقرر لوجود المال بكثرة، وأما بيت المتنبي فلا أعتبره كثيرا؛ لأنه على رأي أحدهم قد نظمه في أيام كانت الريح تقدم وتؤخر؛ إذ كانت المراكب شراعية، وأما في أيامنا هذه فهي بخارية. - إذا كنت تحسبين يا أختي أن السعادة بالمال وحده، فأملي وطيد بأنك إن اجتهدت تكونين سعيدة. وأما أنا فإني أعتقد بصوابية بيت المتنبي لا فض فوه؛ إذ إنني لا أحسب السعادة بالمال حتى ولا هي بشيء آخر معلوم، بل هي بما يسر الإنسان. وقد تكون السعادة في الفقر أحيانا. ثم تنهدت وهي تعرف ما تجهله لوسيا عن السعادة. ثم نظرت إلى لوسيا ضاحكة وقالت: أظن أن رفيقاتنا ضجرن من حديثنا حتى ابتعدن عنا.
وهكذا كان لأن الفتيات ابتعدن عنهن وأخذن يغنين بأصوات رخيمة يحملها نسيم تلك الليلة إلى حيث يشاركهن فيها الملائكة، ولما وصلن إلى «باب القرية» ذهبت كل واحدة منهن إلى بيتها. وفي ثاني يوم اجتمعن ثانية في بيت لوسيا يودعنها ويودعن بديعة بعيون دامعات تقابلها عيون الفتاتين المحمرة من البكاء أيضا، وكانت لوسيا تطمئن قلوب البنات قائلة: لا تبكين يا عزيزاتي؛ فإننا نجتمع بعد سنتين إذا أراد الله. وهذه أفكار كل مهاجر يترك وطنه، ولكن هيهات أن تتم!
الفصل الثاني
من هما الفتاتان؟
لندع الفتاتين الآن تجري بهما العربة إلى بيروت، يرافقهما والد لوسيا وأخوها من أبيها، ومنها إلى ظهر الباخرة مساجري ماريتيم، ولنعرف القارئ بهما.
لم تكن تعرف بديعة عن تاريخ حياتها شيئا سوى أنها أفاقت لحالها فوجدت نفسها في العازارية، وكانت لوسيا من أعز البنات إليها؛ لأنها كانت رفيقتها الخاصة، ومن مدة شهور قليلة ذهب والد لوسيا إلى المدرسة وأخرج الفتاتين وأتى بهما إلى بيته. وقال لبديعة وهي في الطريق معه بأنها بنت أخته وأن أبويها توفيا بالجدري حينما كانت بنت شهر فقط. أما أم لوسيا فقد توفيت إذ كانت هذه بنت سنة، فوضعهما في العازارية حيث تربتا. فاقتنعت الفتاتان بهذا القول ولم تستزيداه سؤالا.
ولما وصلتا إلى البيت كاد يغمى عليهما من مرآه واستنشاق الروائح الكريهة منه؛ لأنه كان كالمأوى للإنسان والحيوان معا، فيه البقر وغيرها من الدواب من الجهة الواحدة، والناس من الجهة الأخرى ينامون ويأكلون معا. فبكت الفتاتان وتذكرتا ذلك الدير الرحب النظيف الذي ربيتا وخدمتا وعاشتا داخل جدرانه محبوبتين من كل من فيه. وزاد في تألم الفتاتين أن والد لوسيا كان متزوجا بامرأة جاهلة ظالمة لا حنو ولا شفقة في قلبها عليهما؛ لظنها أنهما جاءتا لتسابقا أولادها وتسلباهم طعامهم ولباسهم.
وكانت تحسدهما بجمالهما وتهذيبهما وتغار منهما، وهذا شأن كل خالة مع أولاد زوجها، إلا إذا كانت عادلة فاضلة عاقلة.
فلم تطق بديعة هذا الضغط ولا هذه المعيشة، وفضلت أن تخدم عند أناس يفهمونها وتفهمهم، حتى تزيل أتعابها القلبية والجسدية بما تراه من نظافة وترتيب بيوتهم ، وما تسمعه من أفواههم من الكلام اللطيف، فرجعت بعد أسبوع إلى بيروت حيث توفقت لخدمة عائلة من أشهر عائلات تلك المدينة الزاهرة. وأما لوسيا فإنها تحملت كل هذا؛ لأن والدها لم يسمح لها بترك البيت ووعدها بإحسان معاملتها في المستقبل. وبالحقيقة إن معيشتها مع امرأة أبيها كانت خلاصة الحنظل؛ لأنها كانت ذات كبرياء زائدة، فرأت برعاية «البقر» والاستملاء وتربية دود الحرير مذلة وعارا. وكانت دائما تقول لأبيها: إننا يا أبي لا نفرق شيئا عن البهائم. نحن نكد ونتعب، ونفلح ونزرع، ونحمل على ظهورنا الأحمال الثقيلة، وكل ما نكسبه من ثمرة أتعابنا هذه هو «قوت يومنا»، كهذه الدواب التي تحمل الأحمال الثقيلة التي من ورائها غنى وسعادة أصحابها، وهي لا تستفيد منها إلا مقدارا من العليق والعلف، فكأن الحياة كلها كناية عن أكل ثلاث وجبات في النهار ونوم عشر ساعات في الليل. وكأننا قد خلقنا لنكون آلات يستعملنا الأغنياء لبناء بيت مستقبلهم وقلعة سعادتهم.
أما بديعة فقد وجدت بعد ذهابها راحتها عند أسيادها؛ لأن سيدتها وسيدها كانا مسرورين منها جدا؛ إذ إنها كانت تعلو منزلة وتسمو قدرا عن سائر الخدام والخادمات، وكأنها بأعمالها وآدابها وأخلاقها خلقت لتكون «سيدة لا خادمة»، كما قالت سيدتها مرة. وكان في بيت سيدها خدام كثيرون، أما هي فكانت أحسنهم. ولم تكن تعاشرهم ولا تخالطهم مطلقا؛ لما رأته من انحطاط آدابهم وميلهم إلى اللهو والقصف، وعدم أمانتهم على البيت الذي يعيشون فيه أو على من فيه.
ولكم من مرة مرت بديعة على غرفة الخدم، فوجدتهم بعد الانتهاء من أشغالهم جالسين يدخنون ويسكرون ويهزءون بأسيادهم وبمن دخل ذلك البيت في ذلك النهار، كأنهم الجواسيس على البيت وأصحابه وضيوفه. وفي ذات يوم سمعت بديعة صوت خادمة غريبة تنم بسيدتها لخادمة من خادمات بيت الخواجة منصور، فأجابت تلك الخادمة: «كلنا بهذه المصيبة» لأن سيدتنا كسيدتك وأمرها كيت وكيت. فزجرتها بديعة على عدم أمانتها وجحودها للجميل، وبطريق الصدفة كان كلامها على مسمع من سيدتها. فطردت تلك الخادمة من دارها وأعلت قدر ومنزلة بديعة، حتى أصبحت نديمتها وشريكتها وصديقتها في البيت أكثر مما هي خادمتها.
ولم يكن لبيت الخواجة منصور سوى ولد وحيد في الحادية والعشرين من عمره لم يزل في المدرسة، مع شاب آخر هو ابن خالته التي ماتت هي وأبوه بشهر واحد، فأتت السيدة مريم بابن أختها وربته، وإذ كان زوجها يحبها ويحترمها كثيرا أحب الغلام ورباه وعلمه العلوم التي علمها لابنه.
ولم يمض وقت طويل على خدمة بديعة لذلك البيت حتى كان الخامس عشر من شهر تموز، وهو يوم رجوع التلامذة من المدرسة لقضاء أيام العطلة في بيوتهم، وحسب العادة ذهبت والدة فؤاد السيدة مريم ووالده الخواجة منصور لملاقاته ومرافقته للبيت مع ابن خالته نسيب؛ ذلك بعد أن أكملت استعدادها لحفلة شائقة تقيمها في ذلك المساء إكراما لمجيء ولدها العزيز. وتركت بديعة في البيت الذي أوكلت إليها أمره.
واستوحشت بديعة لغيابهما، فنزلت إلى الحديقة تتمشى، وفيما هي هناك سمعت ضجة الخدم يتكلمون وواحدة منهم تقول: أنا أعلم حق العلم بأن سيدتي ستندم على إكرام هذه الفتاة المتكبرة؛ لأنها قد أصبحت هي ربة البيت وسيدتنا الخادمة، وإذا تركتها على هذا الحال فإن وجهها هذا الجميل الذي تحبها لأجله وتفضله علينا كلنا سيكون سبب تعاستها؛ إذ يأتي سيدنا فؤاد ويقع في شراك هواها فتعرف إذ ذاك والدته الخطر من الوجوه الجميلة ... فأجابه صوت آخر وقال: اصبري قليلا فتسمعي سيدتك تقول هذه الجملة: «ركبتها ورائي فمدت يدها إلى الخرج.» ومن يعش ير.
عند ذلك انقطع الصوت، فمشت بديعة تهز برأسها وجملة المرأة الأخيرة ترن بأذنيها، ولما وصلت إلى ردهة الاستقبال جلست على مقعد من القطيفة الحمراء، وقالت: لا غرو إذا أبغضني الخدم، فأنا أبغض أعمالهم ولا أجاريهم فيها، ولكن كلام تينك الخادمتين كلام حكمة بالرغم عن صدوره منهما؛ فإن «الوجه الجميل خطر كبير» هذا حقيق، ولكن ليس مع من يكون عقلها أعظم من جمالها وشرفها أعظم من الاثنين. فما أقل عقول أولئك الخدام الذين يظنونني أتاجر بجمالي وأرمي شباك حسني إلى الشبان لأصطادهم بها. فأنا أعرف مقامي. وكفى بهذا لي رادعا عن كل عمل لا يكون لي ولا للغير منه سعادة بل شقاء. فطمئنوا نفوسكم يا رفاقي الخدم، واعلموا بأنني فتاة سوف لا أجعل سيدتكم تندم على استخدامي لثلاثة أمور؛ الأول: لأن التفاوت بيني وبين سيدكم عظيم. والثاني: لأنني سوف أتسلط على إرادتي كما فعلت وأفعل بكل وقت. والثالث: لأن لسيدتكم جميلا عظيما علي لا يكافأ بجرح قلبها هذا الجرح من اقتراني بولدها. وبينما هي بهذه الأفكار سمعت خرير دواليب العربة، فأسرعت للباب لملاقاة القادمين الذين نزلوا وذهبوا توا إلى ردهة الاستقبال، وذهبت هي إلى المطبخ لتعد لهم المرطبات.
لم تدر بديعة أن تلك النظرة بفؤاد قد غرست بقلبه شجرة سيكون ثمرها التعاسة والشقاء؛ إذ لو درت هذا لاقتلعتها حالا. ولكن هيهات أن تعود تقدر على ذلك؛ لأن غدف شجرة الحب تمتد في أرض القلوب بسرعة عجيبة، وأول ما شعرت به بديعة من أمر الحب هو لما قالت لها سيدتها في عصاري ذلك النهار بأنها تريد أن تعرفها بفؤاد ونسيب وتقدمها إليهما، وبدافع خفي لم تعرفه رفضت هذا الأمر معتذرة، واضطرب قلبها عند ذكر هذين الاسمين. فذهبت السيدة مريم من عندها وهي تقول: إذن لاحظي على الخدم في هذه الليلة يا عزيزتي، واستعدي للتعرف بهما غدا صباحا، إذا كنت لا تريدين هذا الأمر الليلة.
الفصل الثالث
الوليمة
عند الساعة السابعة إفرنجية - وكل شيء إفرنجي - ابتدأ توارد العربات البيتية الجميلة، تجرها جياد الخيول العربية إلى دار الخواجة منصور، فمنها ما كان ينتظر في فسحة الدار الخارجية، ومنها ما يتراجع بعد إيصال أصحابها. وكانت تلك الدار الرحيبة مضاءة بأجمل الأنوار الملونة، تضحك وتبش في وجوه الزائرين نائبة عن أصحابها بمقابلة الضيوف.
وعند مدخلها كان يرى شاب واقفا يلاحظ بطرف عينه الداخلين كأنه يدرس أخلاقهم بوجوههم، ولكن قل من اكترث له؛ لأن هؤلاء كانوا يدخلون وهم معرضون عن كل شيء حولهم، ومتشاغلون إما بالكلام مع رفقائهم وإما بالإسراع إلى داخل الدار. وكأن ذلك الشاب ضجر وتعب من الوقوف فجلس على مقعد قريب؛ لأنه عرف بأن مهمته لا تقضى بالقليل من الوقت.
وإذ ذاك تفرغ لمراقبة الناس المتقاطرة، فرأى ما كاد يضعضع فكره من اختلاف الأشياء، رأى السيدات الشابات بأثوابهن الفاخرة وأزيائهن العجيبة، يجررن وراءهن الأذيال الطويلة ليطابق قول القائل بأن المرأة كالطاوس، وعليهن الحلي النفيسة الموضوعة فوق صدور وأذرع مكشوفة كالبلور، لا يعرف الناظر أكان منها أم من الجواهر انبعاث ذلك النور الباهر. وإلى جوانبهن الشبان بملابسهم الإفرنجية على آخر زي، وقد بدا للكهولة والشيخوخة أثر ضعيف من النساء والرجال الذين كانوا يقبلون بالملابس العربية الفاخرة، حتى يخيل للناظر أن الأولين إفرنج والآخرين سوريون، ولا عجب إذا حكم الإنسان عليهم باختلاف الجنس، وكل فريق منهم يختلف عن الثاني زيا ولغة، فبينما الأولون يتكلمون اللغات الفرنساوية والإنكليزية والتركية، كان الآخرون يتكلمون لغتهم العربية فقط. ومن الغرابة أن بعض الشبان والشابات كانوا يشمئزون من الشيوخ والكهول لمحافظتهم على لغتهم وزيهم العربيين، في حين أن هؤلاء ينظرون إليهم بعيون ملؤها الرضى والسرور برؤية أولادهم وحفدتهم قادرين على تقليد الإفرنج، بينما هم مقصرون عن ذلك لكبر سنهم.
وبقي ذلك الشاب منتظرا خارجا حتى دخل جميع المدعوين تقريبا، فقام من مكانه وهم بالدخول أيضا؛ لأنه كان من جملة المدعوين. وكان يقول في نفسه: بعد مضي عشر سنين من الآن نسبق الإفرنج. ولربما صرنا في ذلك الوقت ننظر إليهم كما كانوا ينظرون إلينا قبل عشرين سنة. ولكن أهذا ما ندعوه تمدنا مفيدا أم مضرا؟ هذا هو السؤال السهل، ولكن الصعوبة في الجواب. إن التمدن والترتيب مفيدان جدا ولا شيء مثلهما، ولكن بشرط أن يكونا في كل شيء. والذي يستدعي الأسف أننا كدنا نسبق الإفرنج بتقليد العوائد المضرة فقط كعادة «الموضة» بكل شيء حتى «بلعب القمار»؛ فإن الإفرنج قوم درسوا قواعد تمدنهم أجيالا، أما نحن فلم نعرفه إلا من سنين. وقد كدنا نسبقهم بالتقليد. وهذه السرعة الغريبة تجعل الإنسان في ريب من الأصالة، وتحمله على المناداة مع العقلاء القائلين: «إذا أردتم الفضل الحقيقي فجدوا في طلبه من بيوت الفلاحين ومن الأكواخ المنفردة؛ لأنه هناك أبقى وأنظف مما هو في شوارع المدن الكبرى وساحاتها العمومية.» فلو نظرنا في أمر واحد، وهو أن نبقي على الجيد الحسن من عوائدنا، ونضيف إليه الجيد الحسن من عوائد الإفرنج عوضا عن الاندفاع التام وراء العوائد الإفرنجية، مع غض النظر عن المضر والمفيد منها، وترك عوائدنا كلها وإن كان فيها ما هو أفضل من عوائدهم بدعوى أن الأولى «موضة جديدة» وأن الثانية موضة قديمة، كأن الآداب ثوب يطويه البلى؛ لما كنا على ما نحن عليه من سوء الحال والحاجة إلى الإصلاح.
ولما دخل ردهة الاستقبال رآها مضاءة من وجوه الحسان بأبهى ما هي مضاءة من الأنوار، ورأى صاحبة المنزل قد جلست بقرب الباب لتكون منظورة من جميع ضيوفها عند وصولهم، فتوفر عليهم مشقة التفتيش عليها. وقد لبست ثوبا أسود نفيس القماش بسيط التخريج لا زخرفة فيه، ظهر به قدها الأهيف بأجمل مظهر، وتجلى فوقه وجهها الناصع البياض تحت شعر بلون ذلك الثوب كالقمر المنير في الليلة الحالكة الظلام. فقال في نفسه: يظهر بأن لي من وجه هذه السيدة مجلدات للدرس؛ لأن هيئتها تدل على أنها عارفة واجباتها، وستحسن تمثيل دور ربة بيت فاضلة. فلننظر لنرى إذا كان الظن لا يخيب، وإذا كانت هذه المرأة كما يقولون: «ملكة عارفة بواجبات مملكتها الصغيرة التي هي عائلتها.» وتقدر على القيام بمهام هذه المملكة الداخلية والخارجية خير قيام.
وبالحقيقة أن السيدة مريم هي كما ظنها ذلك الشاب؛ لأنها مع كثرة انشغالها وضيوفها في تلك الليلة الحافلة، ومع سرورها بمجيء ولدها الذكي النجيب من المدرسة، وعلى رأسه أكاليل الفخر والفوز، ومع أنها كانت تتبعه بنظرها كيفما ذهب وانتقل؛ كانت تظهر رزينة هادئة لا تضحك ولا تتكلم بصوت عال ولا تضج ولا تركض، حتى إنها لم تظهر سرورا زائدا لئلا يقال عنها بأنها خفيفة. ولم تظهر عدم اكتراث أو تهامل بالقيام بواجب إرضاء ومسرة ضيوفها، بل إن البساطة الطبيعية كانت على وجهها والحرارة الودادية الإخلاصية كانت تطيب حديثها، وبالإجمال كانت تظهر العظمة الزائدة والهدوء التام؛ مما يجعل الإنسان يظن أنها متكبرة، وهذه هي الحالة الوحيدة التي تعاب عليها.
وكأن عيني ذلك الشاب أقسمتا أن لا تفارقا حركاتها فأحدقتا بها طول تلك السهرة، وأول شيء قدر على استنتاجه - مما دل على معرفة تلك السيدة بأصول آداب السلوك - هو أنها نسيت نفسها بالكلية، ولم تفتكر في غير مسرة ضيوفها الذين ضحت بسعادتها لأجل سعادتهم شأن المرأة الفاضلة. ومما كان يزيد وجهها الوسيم جمالا هو استقبالها وبشاشتها للضيوف، ومخاطبتها كلا منهم بالحديث الذي يناسب ذوقه وسنه ليكون مسرورا. ولم تظهر على وجهها لوائح الانشغال أو القلق على الإطلاق، فكأن كل أفكارها كانت حائمة حول مسرة ضيوفها، ولا فكر يقلقها خارج قاعة الاستقبال، مع أن واجباتها كانت كثيرة، ولكنها بتعقل ودراية رتبت كل الأمور على ما يرام حتى تتفرغ للقيام بواجبات الضيوف.
وكانت تلاقي الداخلين إلى الباب إن كن نساء، وتنهض لهم فقط إن كانوا رجالا. ومما أعجب الشاب المنتقد حذرها الزائد وملاحظتها الغريبة عند الكلام حتى لا يفرط منها ما تؤاخذ عليه، ثم صبرها وجلادتها على تقديم وتعريف ضيوفها بعضهم ببعض، إن كان منهم من يجهل الآخر. وكانت تلفظ اسم الشخص بهدوء وضبط وبصوت مسموع حتى لا يصير التباس بفهم الاسم، والذي جعله أن يهز برأسه إعجابا هو استعدادها التام، حتى إنها لم تغفل عن وضع طاولة عليها كتب وجرائد ومجلات وكتب وصور، حتى إذا ضجر الضيوف من الحديث يتسلون بسواه مما هو جائز في الاجتماعات.
ولما اكتمل اجتماع المدعوين كانت مع زوجها الخواجة منصور يحدثانهم بأحاديث عمومية حتى يكون التفاتهما شاملا الجميع على السواء، وحذرا من قصور يبدو من جانبهما أو عتب من جانب المدعوين مما يجب منعه في الحفلات الكبيرة والصغيرة.
وسمع الشاب صوت السيدة مريم قد ارتفع نوعا وترحيبها قد زاد عما قبل، فنظر ليرى السبب وإذا بعائلة متأخرة قد دخلت بعد الجميع، فلاقتها تلك السيدة بترحيب زائد أزال خجلها من التأخير عن الحضور ، فهز رأسه وقال: لو كان كل رجل وامرأة من بني وطننا يحسنان تقليد الإفرنج والمحافظة على عوائدنا الحميدة كهذه السيدة، والجمع بين الحسنين ودرس فروعهما درسا مدققا؛ لكان كل كاتب يستبدل لهجته الانتقادية على تمدننا وتقدمنا الأدبي بالاستحسان لهما.
ولم يكن هذا الشاب المراقب محبا للانتقاد من طبعه لغير سبب، بل كان حاملا له عليه ما رآه من بعض الضيوف مما لو قابله بصنيع السيدة مريم لظهر الفرق بين الحسن والقبيح جليا، وهو أن بعض أولئك المدعوين من نساء ورجال كانوا يدخلون القاعة ويذهبون توا إلى المقاعد، فيجلسون بدون أن يصافحوا يد ربة البيت أو أن يتكلموا معها برهة قبل كل شيء؛ لأن هذا من أول الواجبات على الزائرين. وبعضهم كانوا يرجعون فيسلمون عليها بعد جلوسهم بدقائق وبعد أن يكونوا قد سلموا على أصدقاء لهم في المجلس، وكثار من الشابات والشبان الذين كانوا يتكلمون بلغات أجنبية عوضا عن لغتهم التي يجب أن تكون لغة المجلس؛ لأن الجميع يفهمها، ولأن التكلم بلغة لا يفهمها الجميع محظور إلا في ظروف مخصوصة إذا لم يكن مفر من التكلم بلغة أجنبية لا يفهم سواها.
وكانت السيدة مريم خبيرة بقواعد الحديث، وكأنها من حين قابلت أول ضيف في هذه الليلة وضعت أمام عينها قول أحد الحكماء: «إن الحديث لذة المحدث لا المحدث.» فكانت تنتقي أكثر الأحاديث ابتعادا عن الشخصيات أو ما يدنو منها، وتختار أقربها إلى الفائدة واللذة للجميع؛ حتى لا تجرح عواطف أحد وتجلب الضجر عليه بكلامها. وعلى ذلك انقضى جزء من السهرة بدون أن يشعر به الناس؛ لأن لطف وأدب أصحاب المنزل كانا قد أثملاهم فألهياهم عن معرفة الوقت الذي مر بسرعة غريبة.
وآثرت السيدة مريم الطريقة الإفرنجية عند الدخول إلى غرفة المائدة، فأخذت بذراع أحد ضيوفها الأفاضل ودخلت الغرفة التي كانت مرتبة أجمل ترتيب، وأنواع الزهور الجميلة في كل مكان فيها تنبعث منها الروائح الزكية فتنعش القلوب، ولا غرو فإن غرفة المائدة يجب أن يعتنى بها أكثر من كل غرفة في البيت ، حتى ومن ردهة الاستقبال في مثل هذه الحفلات.
جلست السيدة مريم على كرسي في رأس المائدة وجلس إلى يمينها الرجل الذي رافقها إلى المائدة، وكان الأكل عربيا وإفرنجيا أي «الجيد من النوعين». ولم تدل ضيوفها على كراسيهم، بل تركت لهم الحرية المطلقة في ذلك.
وبالحقيقة أن ذلك الشاب الذي شبع من السرور بلطف وأدب سيدة البيت لم يأكل كثيرا؛ لأنه عجز عن «حمل بطيختين بيد واحدة»، وكان يفضل الدرس على الأكل، فوجه كل اهتمامه إلى الأول ولم يبال كثيرا بالثاني.
واستأنف بتدقيق مراقباته التي كان أكثرها موجها إلى ربة البيت التي كانت على مائدة الطعام مثلها في ردهة الاستقبال، محافظة أتم المحافظة على آداب السلوك وواجبات التهذيب؛ فإنها لم تتكلم بشأن المائدة والطعام ولم تشبع ضيوفها «أعذارا» من الغباوة عن تقصيرها؛ إذ أي شيء يمنع المرأة عن القيام بواجباتها إذا كانت تعرف بأنه ينقصها شيء؟ أو أي عذر يقبل لها متى كانت قادرة على عمل الشيء ولم تعمله؟ أو أي ذوق في الاعتذار عن أشياء فوق المقدرة، وليس من الحكمة أن يعمل الإنسان ما هو ضد إرادته وفوق مقدرته؟ فالمرأة لا يجب أن تقصر إذا كانت قادرة، ولا أن تعتذر إذا لم تكن قادرة؛ لأن الأمرين ممقوتان. ولم تكن السيدة مريم تلتفت إلى الخدام ما بين الدقيقة والدقيقة، ولا تنظر إليهم بلهفة كأنها تخاف أن يأتوا عملا مضرا، ولم تتبعهم بعينها أو تظهر القلق من عملهم، وأنهم لا يحسنونه وأشياء كثيرة أخرى تدل على عدم وثوقها بهم؛ لأنها استدراكا لهذا كله كانت قد أعدت من تعتمد عليهم وباتت مرتاحة الفكر بدون أن تضطرب وتجلب على نفسها المؤاخذة وعلى الخدم الخجل. وما جعل الشاب مسرورا جدا هو تجنب تلك السيدة للعادة السورية المذمومة التي يأتيها الأغلب، وهي عادة إجبار الضيوف على الشره والأكل من كل نوع، وملاحظة صحون الضيوف، ومعاتبتهم لأنهم لم يأكلوا من لون الطعام هذا ولا من ذاك، وغير هذه أمور تزعج الضيوف لا تريحهم بل تجعلهم «غرباء»، وتجعل عين صاحبة المنزل محدقة بهم كل دقيقة. فإنها عرفت ما عليها، وأكثرت من ألوان الطعام الفاخرة والشهية المأكل ووضعتها أمام المدعوين، وما تبقى من الواجبات يكون على الضيوف الذين يجب أن يستعملوا الحرية التامة؛ لأنهم إنما للانبساط دعوا.
وتولت السيدة مريم زعامة الحديث، فكان حديثها المستظرف يزيد الناس شهوة إلى الأكل، وكان «حديث مائدة» أي عموميا ونقيا ومحدثا به بصوت مسموع حتى يحيط الجميع به فهما، وكان هذا الحديث سلسلة متصلة الحلقات بين الآكلين.
ولما انتهى دور ربة البيت حول ذلك الشاب وجهه ونصف فكره إلى الضيوف، فرأى من البعض ما يسره ومن البعض الآخر ما يسيئه. ومن أقبح ما رأى من بعض السيدات أنهن كن متكئات على مائدة الطعام قبل الابتداء بالأكل كأن المائدة وسادة أمامهن ... والبعض الآخر كن بعيدات عنها مسافة قدمين أو ثلاث، وغيرهن لم ينتبهن لوضع الفوط جيدا فسقطت على الأرض وسقط مكانها الطعام الذي لطخ أثوابهن الجميلة.
وفيما القوم على المائدة وقفت سيدة جميلة بكل استياء وعبوسة وتكلمت بغيظ كلاما عاليا، فانقطع الجميع عن أكلهم ونظروا إليها ومنهم من وقف لوقوفها. ولماذا كان كل هذا؟ لأن أحد الخدم - ومسكين هو - أراق بدون قصد ولا انتباه المرق على ثوبها الجميل. فهذه السيدة عوضا عن أن تبتسم في وجهه بلطف وتنظر إلى اضطرابه مزيلة بأدبها ورفقها بعض خجله؛ وقفت توبخه بعنف وغيظ وتعنفه بكلام قاس حتى أضحكت البعض منها وضاعفت خجل ذلك الخادم المسكين دون أن ينتفع ثوبها بشيء ...
ومما استلفت أنظار الشاب قهقهة إحدى النساء، وهمس امرأة أخرى مع جارها على المائدة، ونظرها إلى بعض الجلوس بطرف عينها مبتسمة، كأنها تتكلم عنهم أو تهزأ بهم. وكانت هذه السيدة كلما وضع أمامها لون من الطعام تجد فيه علة وتنظر إليه باحتقار. والغريب من هذه السيدة «المنتقدة» أنها لم تحسن انتقاد نفسها حينما قدمت الطعام لفمها بالسكين مع أن الشوكة وجدت لذلك، ووجدت السكين لتقطيع اللحم. وانتبه أيضا لثقالة سيدة كانت تزيد على رفيقتها «العزيمة» وتلح عليها بالأكل وتقدم لها الصحون، مع أن ذلك ليس من واجباتها بل من واجبات خادمي المائدة. وفيما هو ينظر ويفتكر وينتقد ألف أمر وأمر، كان يجب على كل سيدة استدراكه إن كان في ردهة الاستقبال أو في غرفة المائدة حيث تكون معرضة لانتقاد الجميع، طرق أذنيه صوت سيدة تقول لرجل كان جالسا بينه وبينها: إنه لم يزل ينظر إلى الباب نظرة من ينتظر أحدا وهو مشتت الأفكار.
فأجابها الرجل: ربما كان بانتظار أحد الضيوف أو بانتظار رفيق له لم يحضر.
فالتفت الشاب ليرى من هي تلك السيدة فتلاقى نظره بنظرها وهي تنظر إلى جارها نظرة معنوية، وسمعها تقول مازحة: إنك أصبت الغرض؛ لأن رفيقه ينشر على وجهه الاصفرار والكمد إذا لم يحضر ويمنعه عن الأكل إلا تظاهرا ... إنكم أيها الرجال تتظاهرون دائما بما ليس فيكم، وتتجاهلون الأمور وما أنتم بجاهلين.
فقال لها مبتسما: وما عسى أن يكون أمره يا ترى؟
وكانت لحظت بأن أحد الحضور ينظر إليهما، فأجابته أن ليس هذا مقام إيضاح.
وعرف الشاب بأن كلامهما كان عن فؤاد صاحب الوليمة؛ لأنه كان قد قرأ على وجهه ما جعله أن يصدق قول تلك السيدة التي لما تكلمت أيقظت بكلامها أفكاره، فقال في نفسه: إنها صادقة بقولها، إنه لا ينتظر «رفيقا» بل «رفيقة»؛ لأن تشتت أفكاره في ردهة الاستقبال واضطرابه كلما دخل أحد وتغير لون وجهه من البشاشة للتعبس، دلائل ظاهرة على أن في الأمر ما هو أعظم من الصداقة البسيطة، لا سيما وهو لم يأكل ولا تكلم إلا قليلا على المائدة.
ولما انتهى الناس من الطعام وأخذوا بالخروج سمع ضجة من السيدات، ورأى الناس يتراجعون ليعرفوا ما صار، وإذا بسيدة مصفرة الوجه من الغيظ والاستياء؛ لأن جارتها وضعت كرسيها على طرف ثوبها، فلما أرادت القيام قد ذلك الثوب النفيس وذهب ضحية الإهمال وقلة التهذيب. فضحك الشاب من هذا الفصل الأخير ومضى إلى الردهة، ولما رجع المدعوون من غرفة المائدة ذهب الشبان والشابات منهم إلى قاعة الرقص، وبقي الشيوخ وبعض الكهول ممن لم يتعلموا الرقص الإفرنجي ولا أرادوا التفرج عليه، فقدمت لهم النراجيل وجلسوا يدخنون ويتحدثون. وكان الشاب لم يزل واقفا حتى رسم بمخيلته هذه الصورة العربية القبيحة، ثم ذهب إلى قاعة الرقص فرأى صورة العادة الأخرى القبيحة، فقال في نفسه: ماذا يضرنا يا ترى أن نعدل عن عوائدنا القبيحة دون أن نضيف إليها ما هو مثلها من عوائد الإفرنج؟ أو بالحري ما كان أعدلنا لو رضينا بواحدة فقط من الاثنتين؛ لأن الضرر المتأتي عنها كاف لإقناعنا!
الفصل الرابع
نتيجة أول نظرة
ولما مثل ذلك الشاب دور انتقاده وانتهى من ملاحظاته، ذهب وهو يقول: إنني رأيت كل أعضاء جسم العوائد المضرة بين الهيئة الاجتماعية في هذه الليلة، ولكن الحمد لله لم أر «رأسها» الذي هو «لعب القمار»؛ فالفضل بهذا راجع إلى أصحاب البيت الأفاضل الذين لا يحبون أن يكون بيتهم هيكلا يضحى على مذابحه شرف وعقل ومال الناس بسرور ورغبة.
حدثت كل هذه الأشياء وفؤاد لم يكترث لأكثرها؛ لأنه لم يكن موجودا بغير الجسد هناك. ومع أنه كان في الوليمة بنات يخجلن بجمالهن زنابق حزيران الجميلة في الصباح، ويمثلن ضروبا من الجمال والدلال؛ فإن الشاب لم يكترث لهن إلا من جهة الضيافة والقيام بواجب الملاطفة المعتدلة، وكان كل فكره عند تلك الفتاة التي رآها حين دخوله الباب، وعلى ذلك الثوب البسيط الذي ظهر جمال وجهها وقدها فيه بأبهى مظهريهما؛ إذ لا شيء يظهر الجمال الحقيقي كالبساطة الطبيعية بكل شيء. وكان يفتكر في من عسى أن تكون تلك الفتاة التي لم يقدر على التمتع بمرآها أكثر من دقائق معدودة والتي أوجدت في قلبه شوقا عظيما إلى نظرة ثانية منها لم يعرف سببه.
وهذا التأمل صيره مشتت الأفكار وجعل وجوه أكثر الفتيات كالحة في تلك الليلة التي كان هو فيها مطمح أبصارهن وأبصار أمهاتهن اللواتي كن يراقبنه ويطوقنه بأنظارهن كيفما دار، وكل واحدة منهن تتوهم «أنه في قبضة يدها»؛ لأن بنتها أحسن من بنت فلانة أو أن نحلتها «الدوطة» أكبر من نحلة فلانة. ولو كان لإصابة العين أثر من الصحة مع شدة اعتقاد بني وطننا بها، لكان وقع فؤاد صريعا من عيون بعض الأمهات اللواتي كن يترقبنه كما تترقب الهرة العصفور ... أما هو فقد كان - وا أسفاه - مشغولا عنهن بالنظر بلهفة إلى الباب كلما فتح أو دخل منه أحد؛ لأنه كان يعلل النفس باستعادة النظر إلى تلك الصورة التي تركت في قلبه أثرا لا يمحى، ولكنه كان يرجع نظره بالقنوط والخيبة إذ يرى بأن الداخل ليس من يريد، وانتبه لأمره كل من كان حاضرا من أصحاب الذوق في تلك الليلة؛ لأن أفكاره كانت مرسومة على جبينه.
وكان يسأل نفسه عن سبب حضور تلك الفتاة الحفلة ويود الاختلاء بوالدته ليسألها عنه، ولكنه تصبر احتشاما إلى ما بعد ذهاب المدعوين. وعند منتصف الليل كان قد ذهب أكثرهم وكانت السيدة مريم قد تعبت جدا من الجهد الذي قاسته بمقابلة الضيوف والقيام بواجباتهم بتدقيق، ومن الحر الشديد في تلك الليلة، فنزلت إلى الحديقة وجلست على مقعد هناك للاستراحة من عناء الأشغال، ولتنشق الهواء النقي الذي هو أحسن وسيلة للراحة وأعظم منعش للقلب في مثل هذه الظروف.
وكان فؤاد ينتظر هذه الفرصة أيضا، فلما خرجت والدته تبعها ماشيا وراءها إلى أن وصلت إلى ذلك المقعد وجلست، فأتى هو ووضع يده اللطيفة على كتفها فأحست بأن هذه اليد هي التي خففت عناءها وليس النسيم العليل، وللحال أخذتها عن كتفها وأدنتها من فمها فقبلتها بحرارة والدية، واجتذبت ولدها بلطف قائلة: اجلس بجانبي يا حبيبي لنريح نفسينا قليلا بالحديث.
وكانت السيدة مريم في الأربعين من عمرها، ولكن من ينظر إليها يظن أنها في الثلاثين فقط؛ لأنها كانت اكتسبت الظهور بأقل من سنها بعشر سنوات، واستبقت جمالها على حاله من اعتنائها بصحتها اعتناء زائدا، وهذا سر قد لا يفهمه جميع الناس ولكنه أصل سعادة العائلة؛ لأن المرأة متى كانت قادرة على الاعتناء بصحتها وجمالها تبقى إلى ما بعد الخمسين صبية، وتكون بذلك لم تزل «عروسا» محبوبة من زوجها ورفيقة عزيزة لبناتها وصبيانها؛ لأن الأم الصبية تكون رفيقة للبنت قادرة على مسرتها والسرور بها، فتفهم احتياجاتها أكثر مما لو كانت شيخة وبنتها صبية، ورب امرأة تلبس هي وابنتها فسطانا من قماش وتخريج واحد، فتعيش بنتها سعيدة معها أكثر مما لو كانت غضنتها الأيام فأصبحت لا تكترث لشيء، وقد قيل: «كل جيل مع جيله يلعب.» وأما منفعة الأم الشابة الجميلة للشاب فهي عظيمة جدا؛ إذ تكون له مدربة ومحبة ورفيقة يسر بمعاشرتها واستشارتها بوقت واحد.
وكان فؤاد يشبه أمه أكثر مما يشبه أباه، فكان وهو جالس معها على ذلك المقعد يظن أنها أخته لا والدته، ومن جهة أخرى يشعر بقوتها عليه وبوجوب طاعته لها لشعوره باللذة والسعادة بمحادثتها. وفي خلال الحديث سألها بلطف قائلا: هل حضر كل مدعويك الوليمة يا أمي؟ فارتابت والدته من سؤاله وقالت له: وما الذي حملك على هذا السؤال؟ أجاب: لا شيء سوى أنني أظن أن البعض منهم ذهبوا بعد حضورهم لأسباب لا أعلمها. فتعجبت والدته من هذا السؤال الغريب، وقالت: لم يذهب أحد من هنا على الإطلاق، ولكن عائلة واحدة لم تحضر؛ لأن أحد أعضائها مريض، فما الذي دعاك لأن تقول بأن البعض حضروا ورجعوا؟ أجاب: ومن هي إذن تلك الفتاة الجميلة التي نظرتها عند وصولي للبيت ولم أعد أنظرها فيما بعد البتة مع ضيوفك؟
وكان الولد مخاطبا الوالدة وهو كما يقولون «فلذة كبدها»، فكانت أفكاره بعض أفكارها! فلما سمعت كلامه اضطرب قلبها ولكنها ابتسمت وقالت في نفسها: إن التفات الشبان للفتيات الجميلات أمر طبيعي، فما بالي أخشى منه؟ وأجابت الولد قائلة: أنت غلطان يا عزيزي؛ لأن الفتاة التي رأيتها لم تكن من جملة الضيوف، بل هي خادمة عندنا.
ظنت الوالدة أن ولدها يشعر بقلبها، وأن مجرد قولها له بأن الفتاة خادمة يحقرها في عينه ويوقفه عند حد السؤال عنها ثانية. أما هو فلم تؤثر به معرفة كونها خادمة شيئا، بل زادت رغبته بالنظر إليها ثانية ومخاطبتها منفردا، وعظم سروره أنها قريبة منه وفي بيته. ومن حظ تلك السيدة المتعظمة أنها لم تقدر على معرفة الدلائل التي ظهرت على وجه ولدها في ذلك الليل.
وبعد أن سمع فؤاد كلام والدته وعرف ما عرفه عن الفتاة، حمله الشوق على التفتيش عنها في تلك الساعة، ولم تدعه آدابه أن يترك والدته في ذلك المكان وحدها، فقال لها: إن الرطوبة تضر برأسك يا سيدتي لا سيما وأنت تعبانة، فالأوفق أن نرجع. فأذعنت والدته وأخذت ذراعه إلى قاعة الاستقبال حيث كان بعض المدعوين لا يزال باقيا.
أما هو فمضى يفتش عن بديعة، ولكنه رجع بالخيبة بعد أن ذهب إلى المطبخ وغرفة المائدة وكل مكان يدخله الخدم؛ إذ إن بديعة كانت قد ذهبت إلى غرفتها قبل نصف الليل بساعتين؛ لأن النوم قبل نصف الليل بساعتين أو ثلاث كان من القواعد الصحية التي لم تخالفها قط.
وفي غد اليوم الثاني رأت السيدة مريم أن تفي بوعدها لبديعة؛ لأنها كانت تعاملها معاملة رفيقة، لا خادمة في البيت، فذهبت إليها، وكانت في ذلك الصباح كوردة نيسان المفتحة في الليل والمستقبلة ندى الربيع صباحا. فأخذتها من يدها وهي تقول: إنني امرأة وأعشقها، فهل ألوم فؤادا لأنه سأل عنها؟! وكان في غرفة السيدة مريم الخاصة زوجها وولدها وابن أختها نسيب يدخنون ويشربون قهوة الصباح، فلما دخلت السيدتان انتصب الخواجة منصور واقفا لهما، فعجب فؤاد ونسيب اللذان وقفا أيضا. أكان هذا الاحترام لامرأته أم لبديعة الخادمة؟ وأشرق على وجه فؤاد نور غير عادي عند دخول بديعة لم تلحظه والدته لحسن حظها، ولا والده الذي كان ناظرا إلى بديعة، ولا بديعة التي كانت منخفضة الرأس وعيناها كزهرتي نرجس أطبقهما النسيم.
ولكن لم يشأ الله أن يبقى سر الشاب مكتوما عن الجميع؛ لأن ابن خالته كان ينظر إليه بتلك الساعة، وكأنه كان ينتظر أن يرى ما رأى من دلائل السرور على وجه فؤاد، فابتسم عن مكر. واستأنفت السيدة مريم خطوها إلى ابن أختها، وعرفته ببديعة أولا، ثم نادت فؤادا وعرفته بها ثانيا، وقالت له وهي تنظر ببديعة: إنها أتت إلينا بصفة خادمة، ولكنها قدرت بآدابها على إيجاد مقام أسمى لنفسها حتى أصبحت لي رفيقة وصديقة. ثم حولت نظرها إلى فؤاد ورمته بسهم آخر من الكلام؛ إذ قالت له بلطف: إن بديعة أديبة جدا يا فؤاد، وهي تستحق منك إكرام أخ لأخته وليس سيد لخادمته.
ولكن هذين السهمين من نظر أمه وكلامها لم يصيبا منه مقتلا؛ لأنهما خرجا من القلب وفتشا عن القلب فلم يجداه في صدر فؤاد؛ إذ إنه كان قد نزعه وسلمه لبديعة عند مصافحته لها، أما بديعة فلم يخف عليها المعنى من كلام سيدتها ولكنها قدرت على إخفاء عواطفها في هذه المرة، كما كانت قادرة كل وقت فلم يصبغ وجنتيها لون الورد.
جلست بديعة بين تلك العائلة المحبوبة منها وهي غاضة الطرف عن النظر إلى فؤاد ونسيب، اللذين كانا إلى جانبها يرشقانها بسهام العيون بنظرات أحد من السهام، كانت تشعر بأنها مصوبة إليها وهي لم تنظرها. وأما السيدة مريم فإنها بقيت واقفة وهي لا تدري؛ لأن عينيها الحادتين كانتا محدقتين إلى ولدها الذي كانت تقرأ على وجهه فصولا حسبتها من مقدمة الليلة البارحة.
ولم تصدق بديعة أن أتى وقت الانصراف حتى خرجت من ذلك السجن الذي لم تقدر فيه على تحريك يديها وعينيها ولسانها؛ إذ كان الاضطراب سائدا عليها فيه لأسباب لا تعلمها، وأسرعت إلى غرفتها حيث جلست على كرسي هزاز أمام النافذة وأطلقت لما سجنته في صدرها من الأنفاس العنان، وبعد أن تنفست طويلا وأدخلت لرئتيها الهواء النقي شعرت براحة في فكرها وقلبها وجسمها، وقالت: آه ... ما أجمل الحرية الحقيقية بكل شيء!
اشتغلت بديعة كل شغلها طول ذلك النهار، ولم تنظر أحدا من أصحاب البيت الذين كانوا مهتمين باستقبال المسلمين والزائرين، وكانت ترى في وسط أشغالها صورة مع أنها لم تعرف ما هي جليا، فهي حقيقية لا وهمية؛ لأنها كانت تشعر بها. وكانت تشعر من جهة بسرور زائد ومن أخرى بانقباض شديد، ولا تعرف لهما معنى. وكان في نفسها شوق إلى مرأى فؤاد بكل دقيقة، حتى إنها كانت تتصوره قادما إليها أو أنه يخاطبها. ومع أنها لم ترغب بهذا الشعور نحو ابن سيدها، فإنها لم تقدر على غلق أبواب قلبها دونه إلى أن غلبها على أمرها. وكان شوقها يزداد يوما عن يوم حتى رأته خطرا عليها، فاستعدت لمحاربته، وكانت مسرورة؛ لأنها لم تر فؤادا من أيام لاجتنابها الالتقاء به، وكان هو مشغولا برد الزيارات. وكما أن بديعة كانت تفتكر في فؤاد هكذا كان فؤاد يفتكر فيها، والفرق بينهما أنها هي كانت ترى الاسترسال بالافتكار خطرا عظيما يجب ملافاته، وما ذلك إلا للفاصل الذي يفصل بينهما لعدم المناسبة، أما هو فلم يكن هذا الفكر فكره؛ لأنه كان يسعى جهده لإنهاء أعماله والتفرغ لمحادثة بديعة وتعليمها حبه واستمالتها إليه، مع غض النظر عن مقامها الذي لم يقدم ولم يؤخر معه شيئا.
الفصل الخامس
صعود أول درجة من سلم الحب
وكانت بديعة تحب المطالعة كثيرا؛ لأنها تربت تربية حقيقة وكان لها من نفسها مساعد على طلب كل كمال بدون نظر إلى المقام والإمكان، وكانت تشتغل كل أشغالها الكثيرة، ومع ذلك تجد لنفسها فرصة من يومها تطالع بها كتبا أدبية وتاريخية وتهذيبية، وكان لها نصيب كبير من الاستعارة، فالكتاب الذي تعجز عن شرائه تستعيره من سيدتها وسيدها أو من الجيران الذين لا يضنون عليها به؛ نظرا لاعتنائها بالكتب، وإرجاعها إلى أصحابها نظيفة كما أخذتها منهم.
وكانت تحافظ على قول الحكيم العربي بأنها متى طالعت كتابا تطالعه بتدقيق، حتى إذا أرجعته تكون قد وعت معناه بفكرها، فيصبح وجوده وعدمه على حد سواء عندها، ولم تكن تطالع سوى الكتب التي تعرفها مفيدة مغذية للعقل والقلب بغذاء التهذيب والفضيلة لا تلك المزيلة لهما؛ لأنها كانت فتاة تعرف نصائح الأم وتجد في طلب تلك النصائح من كل سيدة فاضلة، ففي أحد أيام ذلك الأسبوع ذهبت إلى جارة فاضلة لها لتستعير كتابا، فقالت لها السيدة إنه أدبي؛ لأنها هي قرأته قبل أن تسمح لأولادها بقراءته كما تفعل بكل كتاب، حتى لا يعلق بقلوب الفتيات الطاهرات أثر لا تعود قادرة على إزالته من كتاب ضار يقرؤه أولادها بدون علمها.
وكانت تلك الرواية مؤثرة للغاية، فجلست بديعة في غرفتها تقرؤها بتمعن، ولم يكن عليها شغل في البيت في ذلك النهار؛ لأنها كانت قد قضت شغل الصباح، وكان سيداها ونسيب قد ذهبوا للنزهة وفؤاد ذهب لزيارة أحد أصدقائه خارج المدينة. وفيما هي مخصصة كل أفكارها لقراءة تلك الرواية سمعت وقع أقدام قرب الباب، ثم طرق باب غرفتها، وكان الطارق فؤاد؛ لأنه رجع في وقت لم يكن أحد يستنظره به، وسر برجوعه إذ رأى الجميع في الخارج وبديعة وحدها في البيت، وإذ رأى الفرصة مناسبة لبث أفكاره لها، وكان يقدم قدما ويؤخر أخرى بقصد الذهاب إلى غرفتها؛ لأنه لم يكن له معرفة كافية تكفل له هذه الدالة من قبل، ومن جهة أخرى كان يخاف أن تعد بديعة عمله وقاحة واحتقارا، وبعد أن افتكر في الأمر برهة غلب دافع الشوق في قلبه على دافع الخجل، فمشى نحو غرفتها بقدم مرتجفة، ولما أتت لتفتح الباب اضطربت اضطرابا لم يخف على الشاب، وقالت له بصوت متهدج: سيدي! ... إننا لم نكن نفتكر برجوعك هذا الغريب، وهذا ما حمل سيدتي والدتك وسيدي والدك والخواجة نسيب على الذهاب إلى الحرج وتمضية بقية النهار هناك. فابتسم فؤاد ونظر إليها بلطف قائلا: إنني أنا نفسي لم أحسب بأن رجوعي يكون بهذا المقدار قريبا، ولكنني لم أجد صديقي في البيت، ففضلت الرجوع على انتظاره.
فقالت بديعة ببساطة: لم يمض على خروج أهل البيت أكثر من نصف ساعة، فإن تبعتهم تقدر على اللحاق بهم.
فنظر إليها فؤاد نظرة ملؤها معان وقال بصوت منخفض: هل من ضرر في بقائي في البيت؟ - كلا يا سيدي. - إذن لماذا تفضلين أن تريني معهم على أن تريني معك؟
فلم تجب بديعة على هذا الكلام، ولكنها أحنت رأسها خجلا. أما هو فلحظ خجلها وأعجبه أدبها. فقال: أود أن تسمحي لي بالبقاء هنا؛ لأني أفضله على كل شيء آخر.
فأجابته متظاهرة بجهل معناه تماما، وقالت: إن البيت بيتك يا سيدي ، وأنت مخير في البقاء وعدمه، ومن أنا حتى تطلب السماح مني؟!
فقال فؤاد مكررا: إني أعني أن ... أن تسمحي لي بالبقاء هنا في هذه الغرفة.
عند ذلك رأت الفتاة بأن وقت المناضلة والوقوف بوجه هجمات التجارب قد أتى، فاستجمعت كل قوى نفسها، ونظرت إليه نظرة من وقف مناضلا عن النفس وذائدا عن الشرف والواجب بكل قواه وقالت بصوت رزين: كلا يا سيدي، إن هذا ما لا أقدر عليه؛ لأن مقامي كخادمة في البيت لا يسمح لي باستقبالك في غرفتي وبانفراد وبغياب سيدي والديك ... لأن هذا ما يحمل سائر الخدام على الشك والظنون، ويدعو إلى تغيظ والديك صاحبي الفضل علي وخرق حرمة شرفي وخيانتي بواجب إعطاء المثل الصالح لغيري من الخدم.
ولم يخف على بديعة ما أحدثه كلامها بقلب الشاب من اليأس والقنوط؛ إذ نظر إليها وقال: إن طلبي لم يظهر لي بالخطارة والعظمة كما ظهر لك، ولو افتكرت بأنني سأزعجك بكلامي وأسبب لك إساءة الظن لما تكلمت قط، ولكنني قلت ما قلت بقصد سليم؛ إذ أي بأس على فتاة عزباء مثلك إذا خاطبت شابا أعزب مثلي سواء كان على انفراد أم أمام الناس؟! - لا بأس من هذا يا سيدي مع من كانت في غير مقامي، فهل نسيت بأنني خادمتك؟
ولم تنته بديعة من كلامها حتى رجع أمل الشاب إليه؛ إذ ظن أن بديعة تتخذ كلامها هذا حيلة للتوصل إلى معرفة مقاصد الشاب وامتحانه. أما هي فلم تفتكر في هذا قط، بل إنها تكلمت كما افتكرت، وأكثر البلايا تأتي من الصدق وحرية الضمير وبساطة القلب، فقال: إنني أخاطب شخصك ولم أفتكر أبدا في مقامك؛ لأن المقام لا يصير الشخص، بل الشخص يصير المقام، وأنت بآدابك وفضيلتك «سيدة» بكل معنى الكلمة، وبالرغم عن هذا المقام الذي لا أحب أن يكون حجر عثرة في سبيل صداقتنا. وكلامك يدل على أنك لا تثقين بشرفي ولا باعتبار الناس لشرفك، مع أنه من الخطأ أن نحل الحقيقة محل الوهم يا سيدتي.
فحركت هذه الكلمة الأخيرة كامن الألم في قلب الفتاة؛ لأنها لم تكن سمعتها من رجل قبله، وعرفت صدق كلامه من وجهه فأجابته: إن لطفا كهذا نحو فتاة خاملة مثلي قد يخدعها بنفسها لو كانت غير خبيرة بالأحوال، أما أنا فأقول بأنك إن أجزت هذا وحللته لي فأبواك والناس وأنا ذاتي نحرمه، ونحرمه بحق.
فعجب الشاب من محافظتها على واجبات الحشمة والأمانة والأدب، وعوضا عن أن يخفف امتناعها من حبه أو يغيظه، زاده رغبة بمحادثتها ولطفا معها فقال مبتسما: إذا كنت لا تسمحين لي بدخول غرفتك فاسمحي لي بمحادثتك على تلك الشرفة؛ لأن لي ما أقوله لك، ولعمري أي بأس من وقوفنا هنا منظورين من كل الخدم؟!
فقالت له: إن هذا الأمر كذلك يا سيدي، فإذا كان لك ما تقوله لي فعليك أن تبلغه لوالدتك وهي تقوله لي؛ لأنني شديدة الحرص على واجب الأمانة بكل شيء، وأنت شريف فلا تظلمني.
فنظر إليها متعجبا من قولها: «بلغه لوالدتك.» وقال في نفسه: أهي جاهلة أم متجاهلة يا ترى؟! وانثنى راجعا بدون جواب.
رجعت بديعة إلى غرفتها وأغلقت وراءها الباب وفتحت كتابها ثانية لتقرأ فيه، فلم تقدر على ذلك؛ لأن أفكارها كانت اتخذت لها مجرى آخر، وقد يلحظ القارئ اللبيب عظم التضحية التي ضحتها بديعة حبا بواجب الأمانة؛ إذ لا شيء في العالم يمنعها عن محادثة الشاب الذي تحبه وهو أعزب مثلها، غير افتكارها في أن عملها ربما جر عليها غيظ سيديها، وجرح قلبيهما، وهي لا تريد ذلك لهما مكافأة على أفضالهما عليها، فرمت الكتاب من يدها وقالت: سعيد هو القوي الذي يقدر على الوقوف بوجه كل شيء من شأنه أن يخرق حرمة الشرف والواجب.
أما فؤاد فإنه لم ييأس كل اليأس من محادثة بديعة في ذلك النهار، فلما ذهب من عندها خطر له خاطر فذهب حالا إلى الحديقة وهو يقول: لا يجب أن تخضع قوة الرجل لقوة المرأة، فإن خذلت من مخاطبتها يجب أن أستعمل معها الحيلة وأكون بذلك «دفعت لإحدى النساء من عملتهن»، وكان يعرف شدة حرص بديعة ووالدته على زهور الحديقة وأشجارها التي كانتا تعتنيان بها بنفسيهما، ولما عرف هذا ضحك في سره وذهب مفتشا عن أكبر غرسة فيها، فوقعت عينه على شجرة من الفل المكبس ومن أكبرها في الحديقة، وللحال اقتلعها ورمى بها إلى الأرض وصاح بصوت عال إلى أحد الخدم وكان غلاما «مجذوبا» يصح أن يكون أعمى بصر البصيرة لا ينظر ولا يفهم، ولما أقبل الغلام قال له فؤاد بغضب وهو مقطب حاجبيه: من فعل هذا يا سليم؟ ومن اقتلع شجرة الفل؟
فأجاب الغلام متلجلجا: لا علم لي بذلك يا سيدي؛ إذ إنني لا أدخل هذه الحديقة مع أغلب الخدم بتنبيه من سيدتي والدتك ومن بديعة.
فقال فؤاد بغضب أيضا وهو يكاد يضحك من تظاهره الذي أرجف ذلك الخادم المسكين: إذن اذهب وأخبر بديعة بأنك وجدت هذه الفلة مقلوعة ومرمية، وإياك أن تذكر لها عن وجودي هنا.
فذهب الغلام وردد كلام سيده من أنه رأى شجرة الفل مقلوعة على أذني بديعة، فلم تنتبه لهذه الحيلة، ولشدة أسفها على تلك الفلة أسرعت إلى الحديقة ووقفت فوقها مبهوتة حزينة.
وبينما هي واقفة فوق تلك الفلة تتأمل بها، كان فؤاد مختبئا وراء شجرة ينظر إليها متأملا أيضا، ويقول في نفسه: إن كثيرين من الرجال المجانين قد قتلوا نفوسهم وغيرهم انغلابا من حبهم، فلا تحزني يا عزيزتي على هذه الفلة وإن كانت عزيزة عليك، فهي ليست أعز من حديثك على قلبي. وبسرعة عجيبة مشى بهدوء إلى أن وصل إليها، وقال بلطف: من يا ترى فعل هذا الفعل بهذه الفلة؟
إذ ذاك عرفت بديعة الحيلة؛ لأنه كان بصوت ووجه فؤاد ما دلها على ذلك، فرشقته بنظرة عرف منها بأنها قالت له: «أنت هو الفاعل.» ولما ضحك همت بالرجوع فمسك بيدها وقال: أرجو أن لا يغيظك هذا الأمر؛ لأنه وإن يك عظيما فالدافع عليه أعظم.
فقالت بديعة بأسف: يا ليتك استعملت غير هذه الحيلة واتخذت غير هذه الفلة الجميلة واسطة للتوصل إلى رغباتك، أما الآن فاسمح لي بالرجوع يا سيدي ؛ لأن سبب امتناعي عن محادثتك لم يكن من المكان، بل من الشيء الذي يصير في المكان، وحيث إن الشيء هو ذاته فأنا غير قادرة على إجابة سؤالك.
فقال لها: أرجوك أن تقلعي عن هذا العناد؛ لأن كل قصدي منك هو محادثتك بأمر ذي بال وطلب رأيك فيه، وأنت بعنادك هذا تزيدينني في الأمر رغبة وتزيدين نفسك احتقارا، فما هو الداعي يا ترى؟!
إذ ذاك افتكرت الفتاة في أمرها مع الشاب، فعرفت بأنه سيتابع هذا العمل إلى النهاية، ولربما حدث من سعيه وراء محادثتها ما لم يحدث من المحادثة نفسها، فقالت: إني أعرف ما سوف يحدثني به وأرى من نفسي قوة على الرفض؛ فلا يجب إذن أن أرفض مخاطبته، بل أسمع حديثه الذي يكون فصل الخطاب لأني أقدر على إقناعه بالبرهان الصادق بأن الأمر الذي يطلبه مستحيل؛ لأن اقتراننا - وهذا ما سيطلب - مجلبة للتعاسة والكدر لجميع العائلة ولنا أيضا؛ لأنه من العبث أن يعيش الإنسان بين من يكون قد كدرهم وقد أصبحوا لأجله تعيسين، ولا سيما متى كان هؤلاء ممن يسأل عنهم كالوالدين. وعلى أمل أنها «تقنعه» بالعدول عن عزمه نوت أن تسمح له بقص حديثه عليها، ولا غرو إذا غلطت بديعة هذه الغلطة التي تكون باب الحب الذي متى فتحه الإنسان لا يعود أمر إغلاقه سهلا كما يظن؛ لأنها كانت فتاة طاهرة القلب لم تذق الصعوبات لتعرف طعمها، ولطالما فعلت فعلها كثيرات من النساء الفتيات النقيات القلوب؛ إذ يتعرض سبيل معيشتهن شخص فيرين ميلا منه إليهن، ويعرفن بأن الخطر محدق بهن من هذا الميل، ولكنهن يتساهلن ويقلن: لا بأس من هذه الملاطفات، لا بأس من هذه الابتسامات، لا خوف من هذه الكلمات؛ لأننا قديرات على «إقناع» هذا الرجل متى حدثنا بأمر الحب. ولكن وا أسفاه! فإنهن يكن قطعن نصف الطريق تقريبا وهن لا يدرين، فإذا دنا الوقت الذي يحسبن من نفوسهن المقدرة على محاربة ذلك الميل الذي يبدو صغيرا تقدر المرأة على ملافاته، ولكنه لا يلبث أن يكبر بتساهلها، فتصبح المقدرة دونه، وتعرف غلطها وتندم عليه ولات ساعة مندم. لتحذر الفتيات من هذا؛ لأن المرأة التي لا تحب أن ترى ميلا من شاب أو رجل ما أو التي ترى خطرا ما عليها أو عليه أو على سواهما من ذلك الميل، يجب أن تقطع أول أمل منه لئلا يكبر وينمو ويمتد ويصبح شجرة بل دوحة عظيمة تظل كثيرين بأغصان التعاسة المتفرعة منهما، ولا يعود قلعها بالإمكان.
ومن هذا النوع كان فكر بديعة بإقناع فؤاد، ولذلك التفتت إليه وقالت بلطف: أرجوك إذن أن تتكلم إذا كان لا مفر من استماع هذا الكلام. قالت هذا وتقدمت نحو غرسة من الورد، وبدت تنقيها لتشغل نفسها عن النظر إليه، فتبعها هو ووقف بجانبها لينظر إليها بلهفة ويتأمل بيديها الناعمتين اللتين كانتا تشتغلان الأشغال الشاقة في البيت.
وسكت كل منهما يتفكر برهة، ثم تكلم فؤاد أولا فقال: إنني كنت أحفظ مجلدا لأقوله لك من ساعة، أما الآن وقد وقفت بجانبك ودعيت منك للكلام فلا أقدر عليه، فهل لك بتنشيطي بكلمة رضى واحدة عما أقوله تكون لي مقويا على الكلام؟
فقالت بديعة: إن سؤالك لغريب، إذ أنى لفتاة مثلي أن تعلم الغيب لترى بكلامك رأيها وعما إذا كان يستحق الرضى أو الرفض.
فقال فؤاد وقد استبشر من جوابها خيرا: إنني أعشق جرأتك الأدبية يا بديعة؛ لأننا نحن الرجال نعتبر ما لنا بغيرنا إذا لم نكن نظن أن ذلك الغير قادر عليه مثلنا، ولكن ألم ينبئك قلبك بما سأقوله لك؟ فقد كنت أظن أن اللبيب من الإشارة يفهم. - إن الفهم من الإشارة شأن اللبيب يا سيدي، أما أنا فلست لبيبة ولا قلبي ينبئني بشيء، وهب أنه فعل فليس من الممكن أن يكون صدى أفكاري؛ لأن القلوب تختلف بأميالها وشواعرها. - إذن لقد كذبت الأمثال القائلة: «من القلب إلى القلب دليل.»
إذ ذاك سكتت بديعة؛ لأنها لم تقدر أن تكذب، أما فؤاد فإنه بقي صامتا ينتظر جوابها، فلما لحظ بأن لا جواب على كلامه خطا نحوها بضع خطوات وقال لها بصوت متهدج: أيمكنك التصديق بشرفي والوثوق بصدقي يا بديعة؟
فنظرت إليه الآن وقالت بجرأة: لا يمكنني الجزم بهذين الأمرين؛ لأنني لم أختبرهما فيك، ولكن يمكنني القول بأني أظنهما فيك إذا اقتفيت أثر والديك الكريمين.
فنظر إليها الشاب بإعجاب وقال: سواء كنت تقصدين أم لا، فإنك بكل كلمة تكبلينني بقيود الإعجاب بك والهيام بأخلاقك، فلله درك ودر صديقك يا بديعة الشريفة، فاعلمي يا عزيزتي بأنني سوف أجعلك على يقين من شرفي وصدقي متى قلت لك الآن بأن حبي لك عظيم وبأنني أتوسل إليك بأن لا ترفضي تضرعاتي الحارة وآمالي العظيمة بالاقتران بك، فتعلمي في الاستقبال إن كنت شريفا وصادقا أم لا.
ولزيادة دهشته نظرت إليه بديعة بكل رزانة مقابلة اضطرابه بهدوء وعدم اكتراث، ليس لأنها كانت أقوى منه أو لأنها لم تحبه، كلا، فقد كانت دونه في الأمرين، بل لأنها كانت تنظر إلى الأمر بغير العين التي كان ينظر بها هو. هي كانت تحسبه «ضد الواجب»، وهو كان يحسب حبها «واجبا»، وهذا ما جعلها تقابله بغير حفول رغما عنها وتقول له بهدوء: إن طلبك يا سيدي شرف أكبر لهذه الفتاة الخاملة؛ ولذلك لا أقدر على إجابته لأن الأمر فوق طاقتي. - فوق طاقتك! إذن أنت مقيدة. - نعم بواجب الأمانة نحو البيت الذي أنا فيه، وله فضل علي ونحو الشخصين الكريمين اللذين أدعوهما سيدي واللذين لا أخونهما، وأكسر قلبيهما ولو اضطررت أن أموت. - هل هذا هو المانع الوحيد الذي يمنعك عن إجابة طلبي؟ وهل ليس من موانع أخرى سواه؟ - نعم إن هناك مانعا آخر وهو عدم المناسبة، ووجود التفاوت بيننا كما سبقت وقلت. فقال فؤاد بابتسام: أما المانع الأول فسهل زواله؛ لأن والدي يحبانني، ومتى عرفا أن سعادتي الوحيدة هي أنت فلا يحرمانني منك، ولا سيما بعد أن يتحققا بأن العناد لا يجدي نفعا وأن الرضا أوفق في أمر لا بد منه. أما الثاني فلا أراه يستحق الجواب عنه، إذن لقد زال المانعان، وليس هذا ما يهمني، بل كل همي هو أن أعرف ما إذا كنت تحبينني، وعما إذا كنت غير مقيدة بعهد ما مع أحد، فهل لك أن تزيلي هذين المانعين من جهتك كما أزلت أنا ذينك من جهتي؟
وكان يتكلم والصدق والجد ظاهران في عينيه، ولهما نغمة في صوته اهتزت لها أوتار قلب بديعة التي خافت من لهجته أكثر مما خافت من أمر آخر، ولم يعد لها هم بغير التخلص منه، ولو مهما كلفها الأمر. وفيما هي مفكرة في ماذا تجيبه سمعت صوت عربة آتية نحو البيت، فقالت لفؤاد بلهفة: إنني أسمع خرير دواليب العربة فأظنهم قد أتوا، فأرجوك أن لا تدع والدتك تعرف بشيء إلى الغد.
فقال فؤاد: لا أقدر أن أعدك قبل أن أسمع جوابك. فقالت: ستسمعه في الغد، فأتوسل إليك أن لا تطلع والدتك على شيء، وهذا هو أول الأوقات التي أقدر بها على اختبار «صدقك وشرفك»، عدني ...
فابتسم فؤاد؛ لأنه لم يكن يحسب رضا بديعة صعبا، وقال لها: لك ما تريدين، ولكن لا تنسي بأنني اعتدت أن آخذ أثمان أعمالي غالية، وثمن وعدي الآن سيكون أغلاها منك، فلا تنسي هذا ... قال هذا وبديعة مارة من أمامه مرور العصفور في الهواء، فلم تسمع كل كلامه.
ولم تكد تدخل غرفتها حتى رن في أذنيها صوت سيدتها وهي تقول لفؤاد: ما الذي رجع بك بهذه السرعة يا فؤاد؟!
وقبل أن يجيب فؤاد على كلام والدته سمعت صوتا آخر يقول: أرجعه شوقه إلينا! فتأثرت بديعة من هذه الكلمات لأنها خرجت من فم نسيب، واضطرب قلبها من هذا الشاب الذي لم تحب أن تنظر إليه أو تكلمه من حين رأته لسبب لا تعلمه، وظلت واقفة وقلبها يخفق وهي منتظرة لترى جواب فؤاد الذي قال: إني لم أجد صديقي، ففضلت الرجوع على انتظاره.
فعجبت بديعة في كيف لم يجب فؤاد نسيبا على كلامه «المبطن»، وقالت في نفسها: كأنه لم ينتبه. ولكنها أخطأت؛ لأن فؤادا كان أدرى بأخلاق ابن خالته منها، كان يعرف كم هو شديد الغيرة منه ولكنه كان يداويه بدواء ناجع، هو أن يسكت ولا يجيب على كلامه حتى لا يفتح له بابا للتشفي، وكان يعمل العمل الذي يريد عمله والذي يقهر نسيبا ولا يكترث لما يقوله، أو أنه يتهكم عليه به إلى أن يتم ذلك العمل فيدعه يحارب نسيبا بما لا يقدر هو عليه بالكلام.
اختفى أثر أصوات الجميع من الدار إذ دخلوا الغرفة، ولكنه بقي يرن في أذني بديعة التي انطرحت على كرسيها تحارب أفكارها، ووضعت يديها على قلبها لتهدئ نبضاته المتتابعة عند سماع كلام سيدتها التي حسبتها تعني به شيئا، وسواء ارتابت السيدة مريم برجوع فؤاد أم لا فإن بديعة حسبتها هكذا؛ لأن المذنب كثيرا ما يجلب الهم لذاته وكثيرا ما يفشي سره بأخذه كلام الناس المنطبق عليه تأنيبا له وبظهور التأثر عليه منه، وقد قيل: «من تحت إبطه مسلة تنخسه.» والحق يقال بأن بديعة لم تكن مذنبة إلا بعين نفسها؛ لأن ما حسبته هي ذنبا تستحق عليه القصاص الكثير لم يكن ذنبا على الإطلاق، بل هو أمر طبيعي يقع بالرغم عن الإرادة.
أي ذنب اقترفته تلك الفتاة الطاهرة باستماعها كلام فؤاد الذي أحبها حبا طاهرا هو ربيع حياة النفوس الشريفة؟! وأي أمر فظيع أتته بالشعور بحبه وهو أمر طبيعي أو بالأحرى ثمرة النفوس الشريفة التي لا بد منها مرة واحدة بالحياة؟ ماذا عملت حتى بكت وتنهدت ووبخت نفسها؟ وبعد أن كفرت أو ظنت أنها كفرت عن ذنبها عزمت على أن تتم التضحية بشجاعة؛ ولذلك صممت على أن تذهب في تلك الساعة إلى والدة فؤاد وتقص عليها قصتها، وتطلب منها أن تسمح لها بالذهاب من بيتها تلافيا للأخطار من بقائها فيه وهربا من ويلات مقبلة، ولهذا القصد كانت قد طلبت من فؤاد أن يكتم الأمر عن والدته إلى الغد، أي إلى بعد أن تكون ذهبت هي.
هذا ما خطر لبديعة أن تعمله في تلك الساعة المظلمة؛ قياما بواجب الأمانة وتخلصا من اللوم في المستقبل واجتنابا لتكدير صفاء عائلة كانت تحبها، ولم تفتكر قط لا في نفسها ولا في سعادتها ، فهل أشرف من تلك النفس؟ وهل أنقى وأطهر من ذلك القلب؟
وفيما هي تمسح دموعها وبقصدها الذهاب إلى غرفة سيدتها، طرق الباب فعرفت بأن الطارق هو سيدتها، وللحال سقط في يدها لتصورها من ستقابل وكيف يجب أن تقابلها، وتصورت محبة تلك السيدة لها وحنوها عليها، وكيف قضت في خدمتها أياما سعيدة كانت تعاملها في أثنائها معاملة أم لبنتها، فذمت الحب الذي اضطرها إلى مفارقة ذلك البيت السعيد وخسارة حب تلك الوالدة الكريمة. ومجرد افتكارها هذا أضعفها، فذرفت الدموع ثانية ووقفت مكانها وقد سها عن بالها أمر الباب إلى أن طرق ثانية، فأسرعت إلى فتحه، فرأت واقفة عليه تلك السيدة المتعظمة، ورأت وجهها الذي ظهر باردا باسرا وقد كان قبل تلك الساعة مملوءا من الحنو والحب واللطف. ولم تقو بديعة على ذلك المشهد، فاقشعر بدنها، وأحست بحمى داخلية أحرقت قلبها وصعدت إلى أذنيها وخديها.
ومن الغريب أنه لم يكن قد ظهر شيء يدل على حدوث ما من شأنه أن يجعل كل هذا الاضطراب في ذلك البيت، وما أحدثه إلا الوهم فقط؛ لأن السيدة مريم كانت قد ارتابت في رجوع ولدها إلى البيت بدون انتظار، وفي حين غيابهم ظنت أن في الأمر حيلة أو سرا وزادها افتكارا وتصديقا لظنونها ما رأته على وجه فؤاد من دلائل السرور والفرح، فأرادت أن تتحقق الخبر فأتت إلى غرفة بديعة وهي لا تعرف شيئا، ولكن هل لولدها علاقة مع غير بديعة؟ كلا. وكان منظرها البارد مسببا عن انقباض طبيعي في النفس مما مر عليها، فلما لحظته بديعة خافت وظنته نتيجة معرفتها بالأمر، فاضطربت وبكت، فزاد هذا في ارتياب السيدة مريم. ولما رأتها على تلك الصورة دخلت غرفتها وقد تحقق ظنها بأن وراء الأكمة ما وراءها، فأخذتها بيدها ومشت معها إلى مقعد هناك فجلستا. كان منظر تينك السيدتين مؤثرا للغاية؛ لأن بديعة كانت محمرة العينين مطأطئة الرأس يظهر في عينيها ووجهها انكسار قلبها وموت نفسها، والسيدة مريم تنظر إليها ببرودة وبكره، إن لم يكن «بغضا» فهو أول درجات البغض، وكل منهما تريد أن تتكلم ولا تحب أن تكون البادئة بالكلام، وبعد أن ساد بينهما السكوت عدة دقائق رأت بديعة من نفسها ضعفا على الصبر، فارتمت من مجلسها على قدمي سيدتها وقالت: أشكر الله على مجيئك يا سيدتي، فقد وفرت علي الذهاب إلى غرفتك وعرض همومي الظاهرة بوجهي وتعاستي على الغير.
فقالت سيدتها بهدوء وشيء من عدم الاكتراث: وماذا تريدين مني؟
فاضطربت بديعة، وفي هذه المرة لم تمسك دموعها عن الانصباب، فسالت من عينيها كالوبل، وقالت بصوت أضعفه البكاء: سامحيني يا سيدتي على أمر وقع بالرغم عني.
وكان هذا قصد السيدة مريم أن تعلم «ماذا صار»، فقالت لها متظاهرة باللطف: اجلسي وأخبريني القصة كما هي يا بديعة.
فشعرت بديعة بأن الحين قد حان، ولكنها لم تبال كثيرا؛ لأنها كانت قد قطعت مسافة من الطريق، وصممت النية على شرب تلك الكأس مهما كانت مرة، فجلست ثانية وسردت لها حديثها مع فؤاد كما وقع، ولما انتهت من كلامها قالت: يصعب علي يا سيدتي أن أترك من كانت لي كأم حنون، من أنا مديونة لها بأيام سعيدة، ولكنه يهون علي هذا الأمر كثيرا، وكل أمر آخر متى عرفت بأنني سأترك قياما بواجب الأمانة وحبا بعدم تكدير صفاء معيشتك، فاسمحي لي بأن أذهب في هذا الليل إلى حيث لا يعلم بي أحد، ومتى ذهبت يسلوني ولدك وترتاح أفكارك وأكون أنا قمت بواجب نحوك، فأرجوك الآن أن ... أن تصفحي عن ذنبي الغير مقصود، وأن تعتبري هذه التضحية التي قد ضحيتها لأجلك.
فقالت لها تلك السيدة بغضب خفي: إذن أنت تحبين فؤادا كما هو يحبك!
أجابت بديعة: ماذا يهمك من هذا الأمر يا سيدتي متى كان قولي لك بأني سأغادر بيتك إلى مكان لا يعلم به ولدك؟!
لم تكن السيدة مريم خالية من الهموم، بل كانت قد نالت نصيبا وافرا منها لأن أختها الوحيدة أم نسيب ماتت في عنفوان صباها، ومات لها ولدان أكبر من فؤاد، ولكن الهم الذي اعتورها من سماع قصة بديعة كان أعظم الهموم التي مرت عليها إلى ذلك الحين، فاضطربت لأجله كل حواسها وبقيت صامتة نحوا من نصف ساعة تفتكر في ما يجب أن تفعله، فقالت في نفسها: إذا سمحت لها بالذهاب بدون علمه ربما يغضب ويتبعها. وما يقدران على فعله وهما بعيدان عني لا يقدران عليه الآن.
وبعد هنيهة نظرت إلى بديعة وقالت: لا يجب أن تذهبي اليوم، بل اصبري إلى أن ننظر في الأمر، ولا تسمحي لفؤاد بمخاطبتك. ثم قامت وخرجت من الغرفة ولم تعد تنظر وراءها لترى تلك الفتاة الطاهرة بديعة، من كيف أنها جثت على ركبتيها وصلت بحرارة كلية لله تعالى كي يهبها قوة النفس والجسد ويهديها إلى الصراط المستقيم. ومن البديهي أن بديعة تضرعت إلى الله كي يفرج همها ويخلصها منه، اللهم حتى لا يكون بتكدير أو ضرر الغير؛ لأنها لم تحب أن تبني قلعة سعادتها الخاصة على أنقاض سعادة الغير العامة، وهذا هو الشرف الحقيقي.
الفصل السادس
الخيانة
وبات فؤاد ووالدته وبديعة ينتظرون الغد بصبر مزعج ويحلمون به، ففؤاد كان ينتظر الغد ليفاتح والديه بأمر حبه ويطلب رضاهما، فإن رضيا عنه كان خيرا، وإلا فإنه يقترن ببديعة على كل حال تبعا للمثل القائل: «لهما المشورة وليس الرضى.» وأم فؤاد كانت تنتظر الغد ولكن ليس بفرح وسرور كما كان ينتظره فؤاد، بل بهم وخوف لأنها كانت تعلم بما سيجلب لها ذلك الغد وتمنت لو لم تره.
ومع أن بديعة كانت تخاف من «الغد» أيضا، فإنها كانت أقل خوفا وأكثر أملا من سيديها؛ لأنها كانت تنتظر به أمرين سيتم أحدهما، وهما: إما رضى والدي فؤاد عنه وعدم معارضته بالاقتران بها، وإما عدم رضاهما وذهابها هي من ذلك البيت؛ فبالأول كانت سعادتها إذ تجتمع بحبيبها وتستريح من مشاق الحياة برضى من والديه، وتعيش طول حياتها سعيدة. وبالثاني كانت سعادتها بالتخلص من مرأى فؤاد الذي ربما كان سبب تعاستها؛ إذ تكون معه ما بين عاملين يتنازعانها دائما: عامل الحب الذي مصدره القلب وعامل الواجب الذي كانت تعتبره كثيرا بكل شيء، ولكنها رجحت الأمر الثاني لأنها علمت ما هي أخلاق الأغنياء وكبرياؤهم، وكيف أنهم يحسبون من هو من غير طبقتهم خارجا عن جبلة بني آدم ... فلذلك استعدت بكل قواها لتلقي الخبر الذي يقضي بذهابها وبقيت طول ذلك الليل تفتكر فيه.
فلما أصبح الصباح على الثلاثة وأتى بقليل من الفرج الذي لا يعرفه المهموم والمريض في ظلمة الليل، كانت بديعة أقل اكتراثا للأمر كيف أتى، ولا غرو فقد ميزت أن الافتكار في المصيبة يضعف من قوتها.
وبعد أن مضى على ترك السيدة مريم لغرفة بديعة ساعة تقريبا كانت ترى مرتدية ثوب النوم وشعرها الأسود الطويل مرسل على كتفيها، وهي واقفة على باب غرفة ابن أختها تطرقه؛ لأنها عجزت عن النوم في تلك الليلة وغلب عليها الأرق فلم تر لها من مغيث سوى نسيب الذي كانت ترتاح إلى محادثته وتعجبها نصائحه، لا سيما وأنها لم تحب أن يطلع زوجها على الأمر لترى كيف وعلى أي وجه تنتهي المسألة.
ولم يكن شيء يشغل بال نسيب؛ لأن ذلك الشاب لم يمر عليه هم في زمانه، ليس لعدم وجود الهموم، بل لقلة اكتراثه لها؛ فهو قد كان محبا لذاته أكثر من كل شخص ومن كل شيء، ولهذا لم يكدر صفاءه أمر من الأمور لأن الأمور كلها لم تكن تستحق التفاته واكتراثه، ومع أنه كان قد لحظ بأن لرجوع فؤاد سببا، وكان يرقب دائما ميل فؤاد إلى بديعة والتغير الذي طرأ عليه بمدة قصيرة، لم يعبأ بالأمر كثيرا شأنه في كل شيء؛ ولذلك لم يكن ما يقلقه فنام براحة. ولما سمع تلك القرعات الخفيفة على باب غرفته ولم يكن منتظرا لها، نزل من سريره مسرعا إلى الباب، ولما رأى خالته واقفة فيه قال لها: خير إن شاء الله يا سيدتي!
فلم تجبه بشيء بل دخلت وجلست على سريره والاضطراب باد على وجهها، فجلس هو إلى جانبها وطوقها بذراعيه وقال: بالله عليك يا خالة أخبريني عن سبب مجيئك إلي بهذه الساعة؛ فإن أفكاري قلقة جدا لأن قلبي يحدثني بأنك مصابة بأمر ذي بال.
عند ذلك تنهدت خالته وقالت: صدقت يا نسيب، فأنا مصابة بمصاب ليس أعظم منه. - وما هو يا سيدتي؟ - ما هو! آه يا نسيب، إنني لا أقدر على قصه عليك؛ لأنني لم أكن لأصدق بأنه يمر علي فينطق به لساني.
فنظر إليها الشاب وكان يعرف ما هي عليه من العظمة والكبرياء، ولما قالت الكلام الأخير تجسمت له كبرياؤها وعرف بأنها مجروحة، وأن هذا الجرح لا يبعد أن يكون من القصة التي افتكر فيها كثيرا، ولم يتمالك نفسه أن انتصب أمامها قائلا: أنا لك يا سيدتي بما أقدر عليه.
فأجابته هي بصوت أدنى إلى الغضب منه إلى الانكسار: إنني لهذا الغرض أتيت إلى غرفتك في هذا الوقت؛ إذ إنني لم أجد معينا سواك، فاجلس لأقص عليك قصتي المؤثرة.
ولما انتهت السيدة مريم من كلامها رفع نسيب نظره إليها وقال بهدوء: هذا ما كنت أخشاه، وقد عرفته تماما إذ رأيتك على باب غرفتي.
فقالت خالته وصوتها يرتجف من الغضب: إنك قد عرفت الداء وانتظرته قبلي، فلربما تكون أقدر مني على وصف الدواء، فما هو رأيك الآن؟ وما هو الجواب الأنسب الذي يجب أن أجيب به فؤادا في الغد على سؤاله العظيم الذي أفضل الموت على مجاراته عليه؟
فأطرق نسيب برأسه إلى الأرض يفتكر، ثم حوله إلى خالته قائلا: وهل عرف العم منصور بالخبر؟
فأجابت بتنهد: هذا ما دعاني إلى الإتيان إليك؛ لأنني لا أحب أن يعلم إلا إذا حدث ما يضطرني إلى إطلاعه على الخبر بعد الليلة. - لقد فعلت حسنا؛ لأن العم مزمع على السفر إلى مصر للنظر في شئونه التجارية في الأسبوع القادم، وهو سيقضي هناك أسابيع، والفرصة مناسبة، ولا سيما وأنا قد أنهيت دروسي هذه السنة وسوف لا أرجع إلى المدرسة، بل أساعد العم في التجارة، ويمكننا أن نقضي هذه المسألة بغيابه. فالتفتت إليه خالته مدهوشة وقالت: أتعني أننا لا نطلع عمك على الأمر مطلقا؟ - هذا ما أعنيه تماما. - ولكن إذا لم نفعل نحن ربما فعل فؤاد. فالأوفق أن نكون السابقين. - ولكن لم تطلعيني على ما ستقولينه لفؤاد متى فاتحك بالأمر. - هذا ما سألتك عنه؛ لأن الهموم قد استولت على عقلي ورشادي ولا رأي لي، فمدني بنصائحك إذ لا مخلص لي أتكل عليه في حراجة هذا الموقف إلاك.
وكأن ضمير نسيب وبخه على أمر ما، فقال لخالته: وهل تقبلين نصائحي المخلصة المنزهة عن كل غاية إلا غاية راحتك؟ - هذا ما أفعله بسرور لأنني أثق كل الوثوق بحبك لي. - فنصيحتي إذن هي أن تتظاهري بالرضى عن طلب فؤاد، وتطمئني خاطره وتطلبي منه أن لا يخبر والده بالأمر، ولا أن يتظاهر به أمام أحد، وقصدي من هذا هو أن يطمئن الشاب بمدة العطلة ويعاشر الفتاة لأجل التسلية إلى أن يرجع إلى المدرسة، وإذ ذاك يكون لكل مقام مقال، أظهري لفؤاد الرضى التام وقولي له بأن كلامك لوالده بهذا الخصوص يكون أكثر قبولا من كلامه هو. فقاطعته خالته وقالت: إنك لم تصرح بشيء يا نسيب، فكيف يمكنني أن لا أكترث لأمر هذه أهميته؟ - هذا هو أسد رأي يا سيدتي؛ لأنك إن طردت الفتاة أو تهددت الشاب فسيفعلان الأمر بالرغم عنك، فاللطف أحسن دواء لهذا الداء. - ولكن بعد هذا اللطف ماذا يصير؟ - بعد هذا اللطف يرجع فؤاد إلى المدرسة فيتم دروسه، وهو لا يفعل هذا ما لم يكن آمنا من جهة بديعة، ولما يرجع ندبر نحن حيلة هنا لطرد بديعة وحيلة أخرى لإقناع فؤاد بأن بديعة ذهبت برضاها أو كانت مدفوعة بأمر آخر ... - نسيب نسيب، ماذا تقول؟ هل أذنك بهذا المقدار بعيدة عن فمك؟ ألم تنتبه لعاقبة ومعنى كلامك؟
أنت تطلب مني أمرا هو أصعب من الأمر الذي نحن بصدده الآن، نعم مائة مرة أصعب لأنني إن فعلته أكون قاتلة وخائنة وكاذبة بوقت واحد.
إذ ذاك عزم نسيب على أن يمثل دور غاياته الشريرة على مسرح الخديعة، ورام أن يجرب مكره ليرى مقدارها، فقال ببرود: إنني لم أفهم كلامك يا خالتي، فأنت قد طلبتي مشورتي وأنا قد أشرت عليك بما أعرف أنه يعود عليك وعلى ولدك بالسعادة، ولا أدري كيف تصيرين قاتلة وخائنة وكاذبة من إتيانك أمرا مفيدا لك ولسواك.
فقالت تلك السيدة وهي تبكي لأول مرة من حين دخولها غرفته: نعم، نعم، إنني آتي الثلاثة أمور متى أطلعتك؛ لأنني متى وعدت فؤادا بالرضى وأخلفت أكون خائنة، ومتى تظاهرت برضاي عن طلبه وأنا لم أكن - ولن أكون - راضية؛ أكن كاذبة، ومتى تساهلت معه ومع تلك الفتاة المسكينة حتى إذا امتدت جذور الحب في قلبيهما وصار استئصالها منها يعني الهلاك وحاولت اقتلاعها؛ أكن قاتلة. وأنا لا أقدر على هذا العمل؛ لأن لي ضميرا يوبخني ولأنني امرأة مسيحية أخاف الله. - هذا كله وهم باطل؛ لأن حب ابنك للفتاة ليس ذلك الحب الذي «يميت القلب»؛ لأن فؤادا لم يصل بعد إلى عمر الرجال ليقدره قدره، بل هو حب يشعر به كل شاب أي وقت رأى وجها جميلا، وهو يبتدئ كبيرا جدا ثم لا يلبث أن يتضاءل إلى أن يزول أثره، ولعمري إنه خير لك ولابنك وللفتاة أن يمر عليكم طارئ هذا الحب وابنك غير مقيد من أن يكون مقيدا، فأنا أؤكد لك بأن حب فؤاد لبديعة لا يدوم أكثر من شهر، وهو وقت ذهابه إلى المدرسة. وأما بديعة فلا يجب أن تهتمي لأجلها؛ لأنها فتاة لا تحب شخص ابنك بل ماله، وأي قدر من المال يغنيها عن الخدمة يسليها عن حب ولدك ... فأنت لا تكونين كاذبة إذن لأن «الغاية تبرر الواسطة»، ولا تكونين خائنة؛ لأن بذلك الوقت الذي تخلفين فيه وعدك تكونين ترحمين الشاب والفتاة معا، لا قاتلة؛ لأن الحب الذي تظنينه عظيما ليس كذلك، ولا هو حب ابنك لبديعة ولا حب بديعة لابنك.
فمسحت السيدة مريم دموعها وقالت لابن أختها: إن هذا أمر لا أفعله ولو مت.
فقال الشاب بهدوء: إذن إنني أتأسف لعدم تمكني من مساعدتك. - ولكن أليس من أمر آخر أقدر فيه على حفظ شرف نفسي ومبدئي؟ - كلا، إلا إذا سمحت لابنك بالاقتران أو طردت الفتاة من بيتك ، ولكنك ستندمين على فعل الأمرين؛ إذ إنك بالأول تشترين التعاسة والمذلة مختارة، وبالثاني تجلبينها عليك بالرغم عنك؛ لأن الغضب يحمل فؤادا على اللحاق بالفتاة والاقتران بها، فيجب أن تكوني شجاعة وتصرفي المسألة بالتي هي أحسن. - ولكن يا نسيب إنني لا أرى من نفسي قوة على الشر! - قوة على الشر! إنك مخطئة يا خالة؛ لأن ما ستفعلينه هو عين الخير نحو الفتاة ونحو ولدك ونحو نفسك أيضا؛ لأن عدم المساواة تقضي بمنع هذا الاقتران كيف كان الحال. - دع هذه الكلمة «عدم المساواة»؛ فإنها تؤلمني، ولولا ذلك لكنت سعيدة باقتران فؤاد ببديعة؛ إذ إنني اختبرت الفتاة وعرفت بأنها عزيزة جدا بآدابها وفضائلها بين النساء، ولكنها خادمة واقترانها بولدي يجلب علي عارا لا يمحى ... فأنا أذعن لنصائحك مرغمة لأنها أحسن واسطة، وإنني أضحي بكل شيء لأجل سعادة ولدي، فلتكن مشيئتك يا رب، وساعدني إذا كان الأمر لأجل مساعدة فؤاد وسعادته.
ولم يدر غير الله بما خامر قلب ذلك الشاب الذي كان غيورا جدا، ولطالما دفعته غيرته على أتفه الأمور إلى ارتكاب أعظم الجرائم، فكيف وهو يغار الآن على أعظمها؟ ولما قالت خالته الكلام الأخير تحركت في قلبه نيران تلك الغيرة الفاسدة، فنظر إليها مبتسما ابتسامة الظفر، وقال بسرور وراءه غاية لم تدرك كنهها خالته: لم تسلكي غير أقرب الطرق الموصلة إلى السعادة؛ لأن هذا النوع من الحب لا يلبث أن يتحول إلى بغض، وهناك البكاء وصريف الأسنان، فعملك هذا عن حكمة، وهو ليس لسعادة فؤاد وحده بل لسعادة الفتاة أيضا، التي هي لا تعرف ماذا تعمل الآن، ومتى تحققت التفاوت العظيم الذي هو مجلبة التعاسة بينها وبين فؤاد بعد الزواج تجد تعاستها ولا تعود ترى منفذا للخلاص منها، ولكن الشيء يطلب تمامه يا سيدتي، فيجب عليك أن لا تنسي الفتاة من مكافأتك المادية؛ لأنها قد تعودت الراحة ويجب أن يدفع ثمن ضحيتها حسنا.
هذا ما لا أنساه؛ لأنني مديونة لبديعة بغير هذا الدين أيضا.
قالت هذا وهي خارجة من الباب وهي تشعر براحة من هذا القبيل، وبتعب كثير من جهة أخرى لم تفهم له معنى.
الفصل السابع
السعادة الوهمية أو معيشة الأحلام
بزغت شمس النهار، فاستقبلها الثلاثة أو بالحري الأربعة بقلوب تخفق اضطرابا، وبعد الفطور ونزول الخواجة منصور ونسيب إلى السوق كما هي العادة، وبقاء فؤاد عند والدته؛ فاتحها بأمر نفسه فلم يظهر عليها القلق الذي كان يتوقع ظهوره لو كان كاشفها بالأمر مباشرة، ولما سمعت كلامه جاوبته بما كانت تحلم به وتدرسه طول ليلها من أنها لا تجد أعظم سرورا من اقترانه ببديعة إذا كان يحبها حقيقة؛ لأن الفتاة متهذبة وهي تستحقه ... ولكن يجب أن يبقى الأمر سرا مكتوما عن والده اتقاء لغضبه، ومن بعد أن يرجع فؤاد من المدرسة تكون هي بتلك الفرصة قد سعت لديه بالأمر واستعطفت خاطره.
ولجهل فؤاد ما مر على والدته في ذلك اليوم، ولنقاوة قلبه، لم يرتب قط في صدقها، فرضي ولكن بعد أن تذهب معه بنفسها إلى بديعة وتطمئنها، فمانعت والدته بادئ بدء؛ لأنها اضطربت من مقابلة الفتاة بهذه النية، ولكن ولدها أصر على عزمه وقال: إن بديعة لا تصدق ما لم تذهبي أنت بنفسك إليها. فذهبت معه إتماما لحيلتها وتقيدا بقولها، ولما دخلا غرفة الفتاة وجداها متهيئة ولابسة ثياب السفر ومنتظرة جواب سيدتها وهي ذابلة العينين منهوكة القوى، يظهر عليها أنها كانت في عراك قوي طوال ليلها، ولما فتحت الباب لهما كادت تقع من الاضطراب عند دخولهما مع أنها رأت على وجه فؤاد ما يدل على سرور.
ولم يخف على فؤاد منظر بديعة واستعدادها، فترك يد والدته واقترب منها مستغربا وقال: ما لي أراك بهذه الحالة يا بديعة؟ وماذا جرى؟ فها هي والدتي، قد أتت معي لتبرهن لك عن عزمها على الرضى باقتراننا وعن احتقارها لما حسبته «سببا» لعدم الاقتران، وهو «المقام» الذي هو مقام العقل فقط، وستكونين منذ الآن «ابنة» لا «خادمة» لها.
فاحمر وجه بديعة خجلا، وجوابا عن كلامه نظرت إلى سيدتها نظرة استفهام، فابتسمت هذه قائلة: إن فؤاد صادق في ما يقوله؛ لأن إرادته هكذا تقضي، ثم اقتربت من الفتاة، وإذ ألقت شفتيها الباردتين على جبهة الفتاة لتقبلها اضطرمت بقلب الفتاة نار لم تكن نار السرور ولا السعادة، فخافت ورجعت إلى الوراء بضع خطوات.
وشكت بديعة في إخلاص سيدتها؛ لأن منظرها والرضى العاجل في مسألة كهذه دلا الفتاة على أن في الأمر ريبة، ولكنها لم تحسب قط أن القصد هو الإيقاع بها؛ لأنها وثقت بشرف سيدتها، وزين لها قلبها النقي أن ترضخ غير مترددة وتسلم أمرها لله.
وكان فؤاد قد ارتاب من نظر المرأتين المعنوي الواحدة إلى الأخرى، فدنا من بديعة وقال: ما بالك صامتة لا تجيبين؟
أما هي فبقيت على سكوتها ولم تجب، فقال ثانية: هل من مانع عن الجواب وقد كان عذرك الوحيد رضى والدي، وهل والدتي الآن تنوب عن والدي وعن نفسها بهذا الأمر؟
إذ ذاك سقطت من عيني بديعة دمعتان كحبتي لؤلؤ أثر منظرهما في قلب سيدتها أكثر مما أثر في قلب ابنها، فلم يعد بإمكانها الوقوف ولا تصور قلبين طاهرين محبين يحومان كفراشتين حول نور تلك السعادة المزعومة، ولا يعلمان بأنهما قريبا يسقطان على نار محرقة لا على نور مضيء من قصدها الشرير، وخوفا من افتضاح أمرها وحبا بالتخلص من ذلك الموقف المزعج قالت: يظهر أن بديعة تخجل من الكلام في حضوري فسأذهب عنكما.
وظنت مريم أن ذهابها من أمامها ينسيها مقاصدها، ولكنها نسيت بأنه ولو احتجب النظر عن مرأى نتيجة الأعمال فإن الضمير لا يموت عن الشعور ولو مهما كان مصابا.
فسر فؤاد لذهاب والدته التي أخلت له الجو لمخاطبة بديعة؛ الأمر الذي حقق له صدق رضاها عنه، وكان الأمر بالعكس مع بديعة التي مع خوفها من وجود سيدتها، فضلت بقاءها على تركها إياها مع فؤاد بوقت هذا الاضطراب، ولم تكن بعد على استعداد لمقابلته.
وكان الشاب والفتاة لا يزالان واقفين، فلما أقفل الباب وراء الذاهبة تقدم هو إليها، وقال بصوت مرتجف: بديعة ارفعي نظرك إلي.
عند ذلك نظرت إليه الفتاة قائلة: ماذا تريد يا سيدي؟
فقال متنهدا: ماذا أريد؟ آه ... ما أحلى هذا السؤال وما أمره! وما ألطفه وما أقساه! فكأنك لم تفهمي للآن مرادي.
عند ذلك شعرت الفتاة بوجود التصريح، وعرفت أن السكوت لا يعد في ذلك الوقت حشمة بل جبانة؛ لأن للكلام أوقاتا لا ينفع فيها السكوت، كما أن للسكوت أوقاتا يعز فيه الكلام. وقالت بصوت مرتجف: آه يا سيدي إن قلبي قد اضطرب لصوت والدتك وهيئة وجهها؛ لأني لا أقدر أن أتصور أنها تحبني الآن كما كانت تحبني قبلا.
فقال الشاب بفرح: إنك مخطئة يا حبيبتي؛ لأن والدتي تحبك الآن أكثر من قبل. - هذا ما تظنه أنت ولا أصدقه أنا؛ لأنني قد ذقت طعم حبها على الحالين، وأقدر على معرفة الحقيقي من الوهمي منه.
فقال فؤاد بشيء من الحزن: وماذا يهمك إذا كانت محبتها قد تناقصت قليلا الآن؟ أليس رضاها وحده الذي يهمنا ومحبتها تأتي تدريجيا مع الأيام؟ فأرجوك يا بديعة أن لا تكدري سماء أفكاري الصافية بأوهامك هذه؛ فإنني أحسب نفسي أسعد الناس الآن، فدعيني أبقى هكذا.
فأصاب هذا الكلام مكان الجرح من قلب الفتاة، ولكنها أظهرت عدم الاكتراث؛ اندفاعا بعوامل الحشمة وحب الاعتدال، إذ إنها كانت تعلم بأن الحشمة وجدت لترافق المرأة في أعمالها وأقوالها وأفكارها، وأنه متى وجد الاعتدال في الحالتين لا تكون قط أسيرة الكبرياء والقنوط، بل هما يصبحان أسيرين لها. وبعد أن سكتت برهة أرادت أن تحول مجرى حديثه إلى موضوع تقدر على التكلم فيه، فقالت: لم تذكر شيئا عن سيدي والدك.
فأجاب الشاب: إن والدي مسافر إلى مصر في الأسبوع المقبل، ومن رأي والدتي أن نكتم الأمر عنه الآن؛ لأنه حاد الطبع، ويجب أن نحصل على رضاه بالتأني.
وكانت أقل كلمة أو إشارة تدل على التفاوت الذي بينهما تؤلم بديعة وتجرح نفسها، فلما سمعت كلامه تنهدت وافتكرت في كيف أنها مضطرة إلى أن تحصل عليه بهوان وتذلل.
وأدرك الشاب موضوع أفكارها فقال: إن أمر والدي لا يهمك شيئا يا بديعة، فكما أنه لا يهمني أنا سوى رضاك والحصول على قولك بأنك «تحبينني»، فكلميني وقولي إن نعم فنعم، وإن لا فلا؛ لأني أريد الجواب وأريده الآن.
قالت بديعة بخضوع: وهل مثلي من تقابل الفضل بالنكران، والنعمة بالغموط، والسعادة برفضها؟! - هذه هي النقطة التي اتخذتها محورا تدور عليه أقوالك. فما هذا الكلام يا عزيزتي الذي تشتم منه رائحة العبودية وعدم الاستحقاق؟ ما هذه الأوهام التي لم أقدر إلى الآن على نزعها من أفكارك، فهل أنت عبدة وقد تحرر العبيد؟! أو أنت حرة وكل روح من الله حرة؟! كيف جاز لك أن تحسبي حبي «فضلا» عليك مع أنه واجب مقدس؟! ومن يا ترى ينظر إلى هذا الوجه الجميل ولا يحبه؟! ومن يسمع هذه الألفاظ العذبة ويقدر على الاستغناء عن سماعها؟! أو من يعرف حقيقة هذه النفس المضيئة بالفضائل وراء هذا الوجه الجميل ويرى السعادة بدونهما؟! فمن هو منا بعد هذا التصريح ممنون للآخر، ومن هو منا عبد للآخر، إذا كانت العبودية جائزة وهي محرمة بكل شيء؟! أأنا لأنني أقدم لك قلبا لم يخامره الحب قبل أن رآك وعقلا لم يقدر فضل النساء الحقيقي حق قدره قبل أن أختبرك، ومالا زائلا مقابل ما هو أبدي من فضائلك؟! أم أنت من تبادلني هذه الأمور الحقيرة بأطهر وأشرف وأذكى قلب اختلج في صدر امرأة في العالم؟!
فلم يسع بديعة إلا الابتسام من كلامه هذا، وتطرفه في الوصف، فقالت: أشكر الله أني ثقيلة الجسم «والدم أيضا»، ولولا هذا لكنت أنت واقفا مدهوشا الآن إذ تراني طائرة في الجو من كلامك، ألا تعرف بأن هذه مغالاة كثيرة وبأنني لا أستحق هذا الوصف؟
فقال لها الشاب: أرجو أن تعرفيني أكثر وأن لا تخفى عليك عواطف قلبي؛ لأن أعظم سعادة للمحبين أن يفهم كل منهما حقيقة الآخر وجوهره، فأنا يا بديعة لم أقل مثل هذا الكلام لامرأة في العالم، كما أنني سوف لا أقوله فيما بعد، ولو أنني عرفتك جاهلة لما قلته لك ولو كنت أعتقده، ولكن ثقتي بعقل وشرف نفسك حملتني على التلفظ به وهو لا يزيدك إلا رزانة وكمالا؛ لأنه من خصائص المرأة العاقلة أن تزين ذاتها بميزان الحكمة والعدل، فإن قيل ما هو فيها فلا يدهشها الأمر؛ لأنها تكون تنتظره، وإن وصفت بأكثر مما فيها تحتقر الفضول من القول وتبقي على ثقتها بنفسها، بعكس المرأة الجاهلة التي لا تعرف نفسها، وأقل ثناء من الرجل سواء كان جدا أم هزلا يجعل لها جناحين فتطير، ولكنها لا تلبث أن تسقط بعد طيرانها؛ لأن جناح الوهم مكسور لا محالة.
وكان قد سكن روع بديعة قليلا وارتاحت إلى مخاطبة الشاب بعد جلوسها، فقالت له: يظهر لي أنك خبير بأحوال النساء، فيا للعجب من شاب مثلك لم يختبرهن ويعرف كثيرا عن طباعهن! - لا تعجبي من هذا أيتها العزيزة؛ فإن الله سبحانه قد جعل في الرجل خاصة هي الحب لمعرفة أخلاق النساء بأسهل طريقة طبيعية، فلا تظني أن الرجل مهما يكن عاجزا وجاهلا يعجز عن درس أخلاق المرأة بعد معاشرتها، وأما الذكي فإنه يقرؤها بعينيها من أول وقوع نظره عليها، وأنا ذو استعداد كاف للدرس الذي تسنى لي من أول نظرة إلى وجهك الجميل. ثم اقترب منها وأراد أن يدني إليه وجهها ليقبلها، فأجفلت منه وأفلتت بنزق ثم رمته بسهم من نظرها الحاد تأكد منه بأن للمرأة قدرة كافية متى استعملتها عند شعورها بالواجب تنسها ذلك الظرف والدلال والنعومة، ولظنه أنه لم يأت منكرا لأن هذا أمر شائع «ودارج» بين الشبان والشابات الخاطبين حسب بأن الفتاة لا تحبه، وإلا لما كانت مانعته فيه.
كأن بديعة لحظت ما يخامر قلبه، فأرادت أن تمنع الالتباس من أفكاره فقالت: أرجو أن لا يكون قد أغاظك نفوري يا فؤاد، فأنا أعرف ما هو الحب الطاهر وأجله وأقدسه، وقد كان ظني أن تحسبه لغة الملائكة وأن شرفه وكماله لا يكونان بغير صيانته. وأما القبلة التي يحسبها بعض الشبان والشابات اليوم موضة، فأنا لا أعتبرها كما أنني لا أعتبر أكثر الأزياء المضرة بالآداب، بل إنني أحسبها للحشمة احتقارا وعلى الحب عارا.
فقال الشاب بحزن : إن طباعك تحيرني يا بديعة؛ فإنك بالأمس منعتني من محادثتك بدعوى أني غريب عنك، فما هو عذرك الآن وقد خطبتك وصرت لك وأنت لي؟!
فقالت: صحيح أننا قد تعاهدنا على الحب وصرنا خطيبين، ولكنا لا نزال غريبين الواحد عن الآخر، ومن حقي أنا أن أحافظ على شيء هو خاصتي، وأرى سلبه مني عارا لا يمحى، كما أنه من حقك أنت إن كنت شريفا أن تعتبر هذه المحافظة وتجلها.
فنظر إليها خطيبها ورآها واقفة بعزم ثابت وهيئتها تدل على أنها تعني ما تقول، ولا أثر للتصنع على وجهها وفي كلامها، فقال: وهل أنت في شك من صدق حبي؟! - كلا، غير أنني أكرر القول بأنك غريب عني إلى أن يتم اقتراننا، وأنني بعد الآن لا أحب أن أحدثك إلا على مرأى من والديك أو أحد غيرهما، كما وأنني لا أوافقك إلى مكان ما؛ لأن هذا من شروط الحب الطاهر التي يجب أن تحافظ عليها الفتاة وهي في بيت أبيها.
فابتسم الشاب وقد تعجب من محافظتها على قواعد الحشمة النسائية، وقال: قد رضيت بكل شيء تريدينه. وقد حسب أن بديعة تكون أكثر تساهلا في المستقبل مما هي الآن، غير أنها لم تزد إلا تعصبا، بل كانت اجتماعاتهما مقتصرة على الحديث الطاهر بحضور والدتهما أو على مرأى منها كما أحبت بديعة. أما فؤاد فإن غيظه تحول إلى سرور، وصار أشد محافظة على هذه الأمور من بديعة؛ لأن الرجل متى رأى من المرأة ميلا إلى شيء وتحقق صوابيته، يميل معها إليه مهما يكن يبغضه في أول الأمر.
وكان حبهما ينمو مع الأيام، وهما كملاكين يرتعان في رياض الطهر والسعادة غير مباليين بشيء، حتى وبمراقبة نسيب والسيدة مريم لهما، وفي أحد الأيام كان الأربعة يتمشون في الحديقة بعد ذهاب الخواجة منصور إلى مصر، وبأثناء التمشي انحاز فؤاد إلى جانب بديعة ونسيب إلى جانب خالته، ومشى كل اثنين معا، فقال فؤاد لبديعة: لما وقفت معك أول مرة في هذه الحديقة ظننت أن الحب يأتي دفعة واحدة كما يعتقد البعض، ولكني الآن عرفت غير هذا، عرفت أن ذلك البعض مخطئ لأن الحب أول ما يكون دخوله إلى القلب، فهو وإن يكن عظيما فلا يتخذ له مسكنا إلا قرنة واحدة من ذلك القلب، وبعد المعاشرة إما أن يملأ ذلك القلب فلا يعود من سبيل إلى الزيادة أو النقصان، وإما يتناقص فيزول أثره من القلب بعد حين قصير.
وكانت والدة فؤاد تنظر إليه وهو يحدث بديعة، وترى دلائل السرور واللهفة بادية على وجهه المحول إلى حبيبته، بينما وجه هذه مبرقع ببرقع من الحشمة الحقيقية، وهي مطرقة بعينيها إلى الأرض. فقالت لنسيب: انظر إلى وجهيهما. وإذ نظر هذا أحس بحربة طعنت أحشاءه، فأرجع نظره إلى خالته متظاهرا بالتجاهل وقال: لأي سبب كان هذا السؤال يا سيدتي؟
فقالت له خالته: لترى الفرق بين نقاوة النية وفسادها، وليتبين لك ولي عظم عملنا الشرير.
فضحك ذلك الشاب وقال: المرأة ضعيفة ولو افتتحت الممالك.
الفصل الثامن
نتيجة الخيانة
وبقيت بديعة بمعاشرة فؤاد تتقدم إلى الاطمئنان والوثوق بإخلاص سيدتها يوميا، حتى زال من فكرها كل ريب إلا في سعادتها المستقبلية، وكأنها نسيت الدنيا كلها ما عدا هذا الأمر، وكان نسيب يظهر لها كل اعتبار ولطف وإخلاص، ويعاملها معاملة سيدة أو معاملة ربة بيت مقبلة، ولم يعلم أحد بالأمر الذي كان مكتوما حتى عن الخدم نفوسهم، ولما انقضت تلك الأيام السعيدة، وما أقصر أيام السعادة بالحياة! ودنا حلول وقت رجوع فؤاد إلى المدرسة، رجعت إلى بديعة همومها وشعرت بما يقلقها ويزعجها بدون أن تدري لذلك سببا، وكانت تخشى بعاده عنها، ولكنها لم تظهر له هذا لئلا يمتنع عن الرجوع لإتمام دروسه واستحصال الشهادة النهائية بتلك السنة. أما فؤاد فإنه بأول الأمر تردد عن الذهاب، ولكنه ما لبث أن اقتنع بوجوب هذا الأمر الذي لا مفر منه، وجرأته بديعة بقولها له إنها تحب العلوم فوق كل شيء وإنها ستكون سعيدة مع والدته وستذهبان لزيارته مرارا.
وفي صباح أول يوم من أيلول قبل فؤاد والدته وصافح يد بديعة، ونزل هو ونسيب إلى حيث كانت العربة بانتظارهما، فذهبا إلى المدرسة وبقيت السيدة مريم وبديعة تنظران إليهما، فلما توارت تلك العربة عن أنظارهما رجعتا إلى الدار، وفي تلك الدقيقة وما بعد شعرت بديعة أن زمن اضطراباتها قد أقبل؛ لأن معاملة أم فؤاد لها تغيرت بالكلية.
وبعد مرور أسابيع على رجوع فؤاد وقرب مجيء والده من مصر اشتغل طبخ الكيميا بين أم فؤاد ونسيب الذي كان يحثها على إنهاء كل شيء قبل قدوم عمه.
وفي أيام تشرين أول، الجميل بطقسه والمعتدل ببرده وهوائه، كانت بديعة في غرفتها تقرأ كتابا كان قد وصلها من فؤاد في ذلك النهار، وهي تبكي تأثرا لأسباب مقبلة يوحي بها إليها قلبها، فسمعت غير دقات قلبها الداخلية دقات مثلها خارجية عرفت أنها على الباب، فقامت لتفتحه ودموعها منهملة على خديها، ولم تنس بديعة قط تلك السيدة الطويلة القامة التي رأتها واقفة على الباب، واضطرب منها قلبها للمرة الثانية. وكان لبديعة الآن دالة على سيدتها لم تكن لها من قبل، فسألتها بلهفة عن سبب اضطرابها الظاهر، أجابت تلك السيدة: ادخلي يا عزيزتي؛ لأنني أتيتك بخبر هام جدا لا أدري كيف أفاتحك به.
وشعرت بديعة بقشعريرة في جسمها، فقالت: قولي ما شئت يا سيدتي فقد تعودت استماع الأمور الهامة فألفتها.
وبدون كلام تناولت السيدة مريم من جيبها كتابا وناولته لبديعة، فأخذته بديعة، وكانت تنظر فيه وترتجف وسيدتها تنظر في الأرض ولا تقدر أن تنظر إليها. وارتجفت السيدتان لما وقع المكتوب من يد بديعة إلى الأرض، فانحنت السيدة مريم وتناولته.
حمل الغيظ وعزة النفس بديعة على الكلام العاجل، فقالت لتلك السيدة التي خفضت الآن من كبريائها مقابل تلك الفتاة الطاهرة، إما لأن الرذيلة لا تكون سوى رذيلة أمام الفضيلة، وإما لأنها اتخذت هيئة التذلل والخضوع لإتمام حيلتها. - وماذا تريدين مني الآن؟ - فأجابتها: ألم تقرئي الكتاب؟ - نعم قرأته ورأيت فيه أن سيدي قد خطب لفؤاد فتاة «غنية جميلة مهذبة»، وأن مراده استصحابها معه، وأنه لا يشك في سعادة فؤاد معها؛ لأن الفتاة تناسبه، ولكني لم أعلم ما قصدت من عرض الكتاب علي. - قصدت إطلاعك عليه لتري فيه رأيك، ولتتحققي تعاستي وظلمي، فإن زوجي رجل متشبث برأيه غضوب، إذا عرف بالأمر يغضب علي وعلى فؤاد، وربما يطردنا ويحرم ابني من إرثه!
فقاطعتها بديعة قائلة، وقد عرفت مرادها: كفى كفى يا سيدتي! فإنني سأكفيك مئونة هذه الأمور كلها بذهابي من بيتك في هذه الليلة، وبذلك أفكك من قيود عهودك وأهبك ولدك الذي قد وهبته قلبي وسعادتي على غير أمل الاسترجاع، ولكن اسمحي لي يا سيدتي بأن أوضح لك أفكاري وأكلمك بحرية تامة للمرة الأخيرة في بيتك؛ فإن ضميرك سوف لا يريحك دقيقة واحدة لأنك خدعت وأقلقت حياة فتاة يتيمة ليس لها من يطالب بحقوقها غير الله، وهو أعظم المطالبين! إن حيلتك لم تنطل علي يا سيدتي، ولكنني رضخت لأحكام القدر التي نفذت في الآن، فإنك لم ترضي عن اقتراني بولدك قط، بل إنك تظاهرت بهذا الأمر خوفا على ولدك من مخالفة إرادتك والاقتران بي بالرغم عنك، فقلت: وأي بأس إذا سر ولدي نشر بمعاشرة الفتاة وبعد ذهابه أطردها ...؟ لأن هذا أمر جائز عند بعضكم أيها الأغنياء أن تكون أرواح وأموال وسعادة الفقراء والتعساء مسخرة لكم. أنت تجهلين بأنك أضررت بولدك وبنفسك كما أضررت بي؛ لأنك تلاعبت بقلبين طاهرين وحرمت شخصين سعادتهما الوحيدة، وخدعتني أنا الفتاة اليتيمة، ورمت طردي من بيتك وعلى منكبي حمل ثقيل من الهموم والتعاسة يعيقني عن إتيان أمور كثيرة مفيدة لمستقبلي، فلو سمحت لي بالذهاب من بيتك قبل أن خدعتني بإظهار حبك لي وقبل أن تعلقت بحب ابنك، لكان ذهابي منه ألف مرة أهون مما هو الآن، ففي ذاك الوقت كنت أتركه مسرورة بقيامي بواجب الأمانة نحو أصحابه. أما الآن فإن الحالة تفرق كثيرا؛ لأنني بحق أمكث فيه ولو كانت فتاة غيري مكاني لما كانت تخرج مطلقا، بل كانت تذهب إلى خطيبها وتقترن به بالرغم عن الجميع، ولكنني لا أفعل هذا؛ لأنني أقوم بواجب الشرف نحو أعدائي كما أفعل نحو أصدقائي ، فأنا سأخرج من بيتك أسيرة النفس كسيرة القلب، وقد دخلت إليه حرة، وليس من حقك أنت أسرهما، غفر الله لك يا سيدتي وصفح عن عملك معي. فهل أنت بدون قلب يا سيدتي حتى لا تشعري بألم القلوب المتوجعة؟! أم أن شواعر قلوب الأغنياء تفرق عن شواعر قلوب الفقراء؟! إن بعضكم يحسب هذا ويدعي الشرف له دون الفقراء، ولكن عملي وعملك يكذبان هذا ويقولان بصوت خفي: «إن الشرف الحقيقي إنما هو ثمرة القلوب لا الجيوب.» فأنا قد ضحيت وسأضحي لأجلك سعادتي، وأما أنت فقد ضحيت الشرف والشهامة والدين والذمة لأجل كبريائك، سامحك الله سامحك الله، ومد في عمرك وعمر عائلتك؛ لأنني لا أحب أن أجرح قلبك كما جرحت قلبي.
ولا حاجة إلى القول بأن كل كلمة من كلام بديعة كانت حربة تطعن قلب السيدة مريم، ولكنها تجلدت وأظهرت الصبر؛ لأن رجوعها عن عزمها كان مستحيلا في ذلك الوقت. ونظرت إلى بديعة قائلة: إنك تظلمينني بكلامك الآن يا بديعة؛ لأن الذنب ليس ذنبي، ولو كنت أنت مكاني لما كنت تفعلين غير ما فعلت أنا الآن، فإني امرأة أحب المحافظة على سعادة ولدي، التي لا تكون من الحب فقط متى حرمه والده إرثه وغضب عليه. ولو عرفت من هي تلك الفتاة التي ذكر عنها والده لما كانت تلومينه أيضا بل كنت تقولين: «إن الطيور على أشكالها تقع.»
عند ذلك حمي وطيس الغضب بقلب بديعة فقالت: إذا كنت سمحت لك بخداعي والتلاعب بي قبل الآن، فأنا لا أسمح لك بإهانتي الآن لأنني لم أضح ما ضحيت لأجلك «خوفا من سطوتك»، بل اندفاعا مع واجب الشرف والمروءة. وسواء استحققت هذا العمل أم لا فحسبي أنني قويت على عمله. أما الآن فإنني أستودعك الله؛ لأنني أخرج من بيتك في هذه الساعة. ثم نزعت من يدها خاتمين من الألماس الثمين وتركت بيدها واحدا قائلة: أرجوك أن تسلمي هذين الخاتمين لولدك عند رجوعه، وقد أبقيت معي هذا الخاتم تذكارا لحبه ولهذه القصة التي حدثت لي منك.
فقالت سيدتها وقد فرحت: لا أحب أن أفارقك على هذه الصورة يا بديعة، وأريد أن نفترق صديقتين كما كنا، وأن تقبلي مني هذه الهدية الصغيرة، وتتناسي الماضي، ثم وضعت أمامها كيسا مملوءا من الذهب.
فنظرت بديعة إلى ذلك الكيس الملقى على ذلك الكرسي وقالت بحنق: ما هذا؟!
هذا شيء حقير أرجو أن تحسبيه هدية تافهة، وأن تقبليها تذكارا كما قبلت أنا منك الخاتمين، وسوف أحفظهما لنفسي وليس لفؤاد. فلما سمعت الفتاة اسم خطيبها ابتسمت ابتسامة الغضب وقالت: لا عجب من هذا الأمر، لأن أمورك كلها معجبة ... فإنك تعنين بهذا المال ثمن حبي لولدك، ولا شك أنه «قيمتك»؛ لأن حبي الطاهر لا يباع ولا يشترى، فأنت مخطئة أيتها السيدة المعتبرة بظنك بي؛ لأنني وإن كنت فقيرة فأنا شريفة، ولو كنت أفضل الذهب على المروءة والشرف لما كنت أذهب من بيتك، ولكنت أمكث فيه وأحصل على حب ابنك وذهبه معا؛ لأن تهديدك إياي بقطع الميراث لا يهولني، وأنا أعرف كم يطول تهديد الوالدين مع حنوهما.
فأنا حرة الضمير وصادقة في كل شيء، وهذا ما يحملني على القول بأنني لا أحتاج من مالك إلا إلى عشرين ذهبا أستعين بها على السفر إلى أمريكا حيث أستريح وأريح.
وفي تلك الساعة فقط عرفت السيدة مريم مقدار شرف بديعة، فبكت من كلامها، وقالت لها بإخلاص: أكرر عليك الرجاء بأن تصفحي عن ذنبي وتقبلي تقدمتي الحقيرة.
فأجابت بديعة بصبر: متى صفحت عن ذنبك بعد أخذ مالك أكون بعت صفحي بما هو أقل منه قيمة، ومتى صفحت بدون المال أكون صفحت لأن الصفح واجب وأنال مكافأتي من الله، وحيث إنني أرغب في كل ما هو حسن فإنني أفضل الأمر الأخير.
الفصل التاسع
بعد أن أكملت بديعة معدات سفرها خطر لها أمر، هو أن تكتب إلى فؤاد قبل مفارقتها البيت، فجلست على منضدة صغيرة كانت في غرفتها، ولما مسكت القلم لتكتب تواردت عليها الأفكار، فصار من الصعب انتقاء الأفضل منها، وكان كل قصد بديعة من الكتابة إلى فؤاد أن تجعله في ثقة من أمانتها، وتشير إليه بطرف خفي بأنها ذهبت مضطرة، ولم تحب قول الحقيقة له في هذا الظرف الوحيد؛ لأنها عرفت الضرر الذي يتأتى من ذلك. وأي ضرر أعظم من بغض الشاب لوالديه والمعيشة التعيسة من بعد ذهابها! فقالت: إنني برضى واختيار قد قدمت سعادتي على مذبح الواجب بشجاعة، فلا يصح أن أضعف وأوهن عزمي الآن. وكانت بديعة ذات تهذيب كاف، تحافظ كل المحافظة على قواعد المراسلة، فأخذت ورقة بيضاء كقلبها، نظيفة كأفكارها؛ لعلمها بأن نظافة الورق من أول قواعد المكاتبة، وبعد أن أرخت كتابها واستهلته وضعت أمامها هاتين الآيتين: «إذا كتبت فاكتب ما يقضي به واجب الكتاب، وليس كل ما ترغب نفسك بثه، واكتب ما لا تخجل أن تراجع قراءته أو قراءة غيرك له.» وابتدأت بما يأتي، بخط واضح جميل:
سيدي العزيز
بعدما رجعت إلى المدرسة نظرت نظرة مدققة في ما جرى بيننا، فوجدت أن لحمة حبنا كانت الطياشة وسداه الغرور، وأننا وإن نكن خلقنا لبعضنا، بنظرنا الخاص، فلسنا كذلك بالنظر العام الذي له أكبر تأثير سيئ على السعادة في مستقبل الأيام.
ولهذا فبعد أن حدث لي ما حقق عندي هذا الظن، وبعد أن رأيت ذاتي مضطرة إلى المحافظة على حقوق وسعادة غيري أكثر من سعادتي، رأيت من أول واجباتي ترك بيتكم العزيز مع البقاء على محبتك إلى الأبد. وها أنا الآن على أهبة السفر الذي يكون بعد إتمام هذا الكتاب. أقول لك بأن محبتك لوالديك هي أوجب من محبتك لي؛ لأنهما أحباك قبل أن عرفتك أنا بعشرين سنة، ولعمري إن هذا العمل العظيم لا يكافأ بغير الطاعة والوداد.
فلا تزعج نفسك لجهتي يا عزيزي، واعلم بأنني أخرج من بيتكم وأنا أسعد من اليوم الذي دخلت إليه فيه، ليس لأنني أخرج منه مختارة، بل لأنني أوثر سعادتك على سعادتي، وهذا لا يكون بغير خروجي منه.
إن ذكرك سيكون عندي مقدسا في الحياة، فأرجو أن لا تنساني متى كنت سعيدا مع من تحب ومن هي مناسبة لك.
لا أعلم إلى أين يكون ذهابي ولكنه لمكان بعيد، فلا تطمع باللحاق بي لأنك سوف لا تجدني.
إنني أكتب الآن بيد ثابتة مع أن موقفي يقلقل الجبال، فأرجو أن تكون أنت عند قراءة هذا الكتاب ثابتا أيضا، وأن تكون قادرا على تصور الواجب بعين مجردة، وتعرف بأنني بقوة غير اعتيادية قد فضلته على ما هو أعظم من الحياة نفسها، وإنما لا أعظم منه على حبك.
ولما كان وراء كل شيء غاية، فغايتي من إرسال هذا الكتاب إليك هي لأمرين مهمين؛ الأول: وهو لكي تتأكد بأنني كما أنا أناجيك في آخر دقيقة في بيتكم، هكذا سأناجيك إلى وفي آخر دقيقة من حياتي. وأما الأمر الثاني: فهو أن تعتبر جميلك علي وتعرف بأن حبك هو الذي يقويني، وهو الذي سيجعل مني فتاة نافعة في الحياة؛ لأن للحب تأثيرين عظيمين: أحدهما جيد، والآخر سيئ. فمن الأول ينتج حب عمل الخير الذي تتجلى وتنبسط به صورة الحب الشريف الطاهر، التي تمثل الفضائل وتوجد في حبها تعزيزا للحب. وعن الثاني ينتج حب الانتقام، والميل إلى الشرور والمعاصي، والانحياز إلى جانب كل رذيلة، كالبغض والانتقام والغيرة والحسد وسواها. وإذ إنني لا أستطيع أن أكون إلا من النوع الأول الذي يظهر بأنني خلقت لأجله، فالفضل بقوتي راجع إليك.
متى رجعت من المدرسة مضفورة على رأسك أكاليل الفخر ولم أكن أنا في البيت من أول المهنئين، فاذكرني واسأل قلبك عني، وهو يدلك بأن في العالم قلبا كان وكائن وسيكون مخلصا لك، والله يحفظك.
للمخلصة بديعة ...
طوت بديعة الكتاب وهي ثابتة كما قالت لفؤاد؛ لأن الهدوء عند مساورة المصائب أعظم مساعد على إزالتها بحكمة وتدبير، وخرجت من بيت سيدها إلى أحد بيوت الجيران حيث سلمته لفتاة كانت لها صديقة ورفيقة، وأوصتها أن تسلمه لفؤاد عند رجوعه من المدرسة. ولم ترجع بديعة إلى تلك الدار الفخيمة التي كانت تحسبها في الأمس ملكها، وقد خرجت منها اليوم، وبعد أن تأملت في كل ما مر بها ظنت نفسها كأنها كانت بحلم وقد استيقظت وذهب كل شيء إلى عالم الغيب، ثم استحضرت عربة وركبتها.
وكانت وهي جالسة وحدها في زاوية العربة تحارب الهموم والأكدار بقدر استطاعتها؛ حتى لا تجعل للمراقبين سبيلا إلى التأويل. وكانت الخيل تجري بسرعة كلية ولكنها وقفت بغتة، وسمعت بديعة السائق: تفضل ادخل يا سيدي نسيب. ولما سمعت بديعة هذا الاسم اختلج قلبها وأطلت من العربة لترى إن كان المخاطب هو نسيب ابن خالة فؤاد، فلما وقع عليه نظرها أرجعته مضطربة. أما هو فلما دخل العربة أحسن التظاهر بأن التقاءهما كان صدفة، وهو لم يكن كذلك؛ لأن هذا الشاب كان عارفا بما حل ببديعة وإن يكن غائبا عن البيت بحيلة منه.
ولما استوى جالسا ووضع رجلا على رجل، التفت إلى بديعة مبتسما، وقال: إلى أين بالسلامة؟
فقالت الفتاة، وقد اجتهدت في أن تظهر هادئة غير مضطربة: إلى القرية الفلانية ...
أجابها هازلا: إذن ليس ذهابك إلى عينطورة كما ظننت؟
فقالت بديعة، وقد عبس وجهها من كلامه حتى حسبها نسيب غير تلك الخادمة الحقيرة التي كان يقول لخالته عنها بأنها خالية من الشرف والمروءة: إنني لم أجعل لك سبيلا بكلامي إلى المزاح، فأرجوك أن تعدل عما أنت عليه. - أرجو المغفرة منك على مزاحي، فهل لك أن تقولي لي الجد من أمر ذهابك وإلى أين هو؟ - هو إلى القرية التي قلت لك عنها، حيث لي صديقة ودودة من أيام المدرسة وبودي أن أسافر برفقتها إلى أمريكا.
فملق الشاب فيها بعينيه وقال: إذن أنت ذاهبة من بيت خالتي ولا تعودين إليه، فهل اطلعت ... - يظهر بأنك عالم بكل شيء. نعم لقد اطلعت على مكتوب سيدي، وتركت بيته مختارة قياما بواجب الشرف.
فسر نسيب في قلبه إذ عرف بأن حيلته كادت تتم، وقال: لا أعني مكتوب العم منصور، بل ... - بل ماذا؟ - بل كتاب فؤاد نفسه. - كتاب فؤاد! لا علم لي به، وبأي معنى هو إذا كنت قد اطلعت عليه.
إذ ذاك ناولها الشاب من جيبه كتابا، فلم تكد تنتهي من قراءته حتى ظهرت على وجهها الجميل علائم البأس والحنق ؛ إذ نظرت خط فؤاد وقرأت كلامه، وهو الشخص الوحيد الذي ضحت لأجل سعادته ما ضحت، وهي تحسبه لذلك الوقت محبا لها، وأهمه ما يأتي: «ولم أعرف مقدار نصائح الوالدة يا سيدتي الحنونة إلا بعد أن بعدت عن البيت، وتحققت بأن أتعس الناس من لا ينظر إلى المساواة في أمر زواجه، فالآن قد ألقيت عليك اتكالي فخلصيني من تلك الفتاة بتدبيرك ورأيك.» وكانت بديعة تقرأ هذه الكلمات وكل كلمة منها تحدث في وجهها لونا مختلفا عما قبله، ونسيب ينظر إليها نظرة الفائز وهو يعلل النفس بالظفر.
وقد انشغل بأفكاره عنها فلم يكترث لها إذ كاد يغمى عليها، واتقاء لذلك اتكأت على زاوية العربة وسترت عينيها بيديها كأنها تغطيهما، حتى لا تنظر إلى صورة ذلك الحزن المخيف الذي تمثل أمامها، وقد نسيت بأن مصدره قلبها.
وكان نسيب جالسا في الجهة الثانية من العربة مقابل الفتاة، فلما انتبه لها ورآها على هذه الحالة قام من مكانه وجلس بجانبها وأراد أن يمسك يدها ليعزيها. ولما فعل أحست بديعة أن قوة جديدة قد ملأت قلبها، وبعد أن كانت قريبة من الإغماء استوت جالسة وأفلتت يدها من يد الشاب، وجوابا على كلامه «اللطيف» قالت: إنه كان بإمكانك إخفاء هذا الكتاب عني يا خواجة نسيب؛ لأنك ولا شك عرفت بأنه قد كفاني ما لاقيت، وأنا قد تركت ذلك البيت غير آسفة على ما يحل به بغيابي مما يتعلق بي.
فقال الشاب متظاهرا بالكآبة الزائدة: لقد كان أحب إلي أن أخسر حياتي يا بديعة ولا أزعجك لو لم أحسب الأمر لمصلحتك؛ لأن الحقيقة وإن جرحت فإنها تقي من جراحات كثيرة بجراحة واحدة.
وكان نسيب جالسا في تلك العربة بجانب بديعة، وهو ذو جمال بارع قل في الرجال وجوده؛ لأنه كان أكبر من فؤاد سنا وأجمل منه وجها وأذلق لسانا، لكن الفرق كان بين الاثنين في جمال القلب فقط.
ولو كانت بديعة من الفتيات اللواتي يخدعهن الجمال الجسدي ويفرحهن اللطف في أي وقت ومن أي شخص، لكان جمال نسيب ولطفه الكثير لها خلبا لبها وأنسياها حب فؤاد، ولو لوقت، ولا سيما بعد أن قرأت مكتوب خطيبها وحسبته محتقرا حبها الشريف بعد أن قرع بتذلل باب قلبها وتوسل بكل وسيلة للحصول عليه. ولكن لطف نسيب وإظهار الغيرة على سعادتها لم يزيداها إلا حزنا على حزنها؛ لأنها كانت أغزر عقلا وأشرف نفسا من أن تسلو رجلا أحبته حبا شريفا طاهرا وتستبدله بآخر لا تعرف عنه شيئا. فأين عمل بديعة هذا من أعمال بعض النساء اللواتي يبحن بأسرار رجالهن ويتكلمن عنهم وعن أعز الناس إليهن لأي كان وقت الغيظ. ومتى رجعت المياه إلى مجاريها يعرفن بأن ذلك السر المقدس - الذي كان يجب أن يكون مصونا بين الزوجين حتى عن الوالدين أنفسهم - قد أصبح معروفا من الناس، ولربما مدوسا بأقدامهم فيندمن ولات ساعة مندم، ولكنهن قد يعدن إلى الأمر نفسه متى غضبن وحقدن ولا يذكرن ما جرى في الأمس.
وشعرت بديعة كأن حربة طعنت قلبها من كلام نسيب إذ ناداها: «يا بديعة» باسمها مجردا، وكانت بديعة شديدة التأثر من أقل إهانة تلحقها؛ لأن مناداة المرأة باسمها مجردا ليست من الآداب والتهذيب، إلا إذا كان المنادي زوجها أم شقيقها أم والدها. وكل رجل ينادي امرأة باسمها مجردا ولا يكون من الثلاثة المار ذكرهم يكون إما جاهلا غبيا يستحق النبذ والاحتقار، وإما محتقرا لتلك المرأة مع أن أمه وأخته وبنته نساء، وهو يستحق الاحتقار والمقابلة بالمثل. وخطر في فكر بديعة خاطر، فقالت: لا هذا ولا ذاك ما دعاه إلى مناداتي باسمي مجردا، بل هو أمر آخر، هو لأن من كان مثله من الناس لا يحسب ما أحسبه أنا شرفا واجبة رعايته، بل يعده عارا وهو «أمر الخدمة»، فيحتقر الخدام، ولو كانوا يفوقون أسيادهم أحيانا علما وشرفا وتهذيبا وفضلا؛ لأنهم خدام ... وهل للخدام لقب؟! ولم يكن لبديعة مآرب بكل هذه الأفكار الآن، فصممت النية على مجاوبة نسيب، ولكن بحذر كلي حتى لا يصدر منها ما تندم عليه، ولا شيء ليستدعي الندم مثل الكلام الفارط متى كان منه ضرر ما.
ولما أجابته على كلامه الأخير قالت: إني أشكرك كثيرا على غيرتك، ولكن ماذا يهم فتاة مثلي قد تركت ذلك البيت على غير قصد الرجوع إليه غير الافتكار بأنها معتبرة من أصحابه كما هي تعتبرهم.
ووجد هو للحديث الذي يريده مجالا، فقال: إنني لم أعد أصدق بأن السماء خالية من النساء الجميلات كما يقولون. - ولكن ما الذي حملك على تكذيب القول؟ - هو نقاوة ضميرك وحسن ظنك اللذين ستدخلين لأجلهما السماء وتخرقين نظامها ... - إذا كان الأمر كذلك كان الله يكافئ الخير خيرا ويجازي الشرير شرا وهو فاعل، فمن صميم فؤادي أطلب أن يعكس هذين الأمرين لأكون سعيدة بتحملي كل مشقة عمن أحب. قالت بديعة هذا بقصد مجازاة الشاب على تهكمه.
فأثار كلامها في قلبه كامن الغيرة والحقد، ولكنه عرف من هي التي يخاطبها، فلم يتظاهر بشيء بل تبسم متصنعا، وقال: «هذه حالة الدنيا»، فإنها شاءت وتشاء أن تهب بعض أبنائها ما لا يستحقون، بينما ...
ثم غير موضوع الحديث وقال: لا أكتمك يا بديعة أنني أشبه السعادة بجوهرة ثمينة، قد توجد عند من لا يعرف لها قيمة، إما لحصوله على كثير مثلها، وإما لجهله نفاستها، بينما يكون سواه متحسرا عليها وهي لكل غني في الدنيا، فيا سبحان الله!
فعرفت بديعة معناه، وقالت برزانة: وهب أن الأمر كما قلت حضرتك، فهل عدم معرفة صاحبها بقيمتها تذهب من هذه القيمة شيئا؟ وهل يبخسها الناس قدرها لأجل ذلك؟
فأجاب هو مسرورا برضاها عن الحديث قائلا: كلا، كلا، إن الجوهرة جوهرة أينما كانت، ولكن أليس الفرق بين وجودها في التراب أو وجودها على الجسم عظيما؟ إنها في المكان الأول جوهرة غير معروفة، وفي المكان الثاني معروفة من الناظرين. وهل من العدل أن يذهب نورها البهي الذي ربما خفي في حياة شخص قد لا يحتاج إليها وله من غيرها أضواء؟ وهل مكانها على الصدر مثل مكانها في الصندوق؟ كلا! - إن المعنى من كلامك معروف، وكلامك عنه مصيب، ولكن بعد التحقيق عما إذا كان الأمر كما قلت. - وهل من شك في ذلك وقد ظهرت لك الحقيقة التي لا ريب فيها؟!
فعرفت بديعة عند هذا الحد أنها قد تطرفت بالحديث الذي ربما لا تكون عاقبته حميدة، وقالت: اعذرني يا خواجة نسيب على تطرفي بالحديث؛ فإنه ليس من شأني أن أتكلم عن أمر تركته ورائي وبعد شهر أكون بعيدة عنه ألوفا من الأميال.
فنظر إليها الشاب بلهفة وكآبة حقيقيتين وقال: هل صحيح ما تقولين؟ وهل ذهابك إلى أمريكا مقرر أم هو نتيجة الغيظ؟ - إنه نتيجة الغيظ ومقرر أيضا. - آه يا بديعة! أرجو أن لا تفعلي؛ لأنه إذا لم يكن فؤاد - لسوء حظه - قدرك، ففي هذا العالم من يفعل ومن يحبك حبا لم يمنعه عن إظهاره لك قبل الآن غير الشرف؛ إذ لم يكن له حق بذلك، وأنت مقيدة. فهل تحتقرين حبي يا عزيزتي ولا تضيعين حياتك سدى بذكر من خانك! إن حياتك ثمينة، ومن الجهالة أن لا تنتشليها من وهدة الشقاء مع حياة أخرى لا تكوني شيئا بدونها.
ومن العجب أن هذا الكلام لم يؤثر في قلب بديعة شيئا؛ لأنه كان قد مات عن كل عاطفة حب نحو أحد بعد أن كلمها فؤاد لأول مرة، فأجابته عنه بكل هدوء قائلة: لا لزوم لأن تغتاب ابن خالتك بالكلام يا سيدي. أما كلامك فهو صادق وشرف عظيم لي، ويا حبذا لو كنت قادرة على مجاوبتك عليه بغير القول بأني مقيدة لا حرة. - ولكن أليس من التشبث المضر أن تقولي عن ذاتك هذا القول بعد أن فعل معك فؤاد ووالدته ما فعلا؟ إن هذا من الجنون! - ربما حسبته أنت هكذا أما أنا فإني أحسبه «عقلا»؛ لأن موقفي موقف تحذر لا تهور الآن إلى أن أتحقق الأمر من فؤاد نفسه.
لا أعلم كيف أجيبك على حديثك الذي يناقض بعضه بعضا، ألم تقولي الآن بأنك مسافرة إلى أمريكا وسوف لا ترين فؤادا فيما بعد، أم أنك تنوين زيارته بالمدرسة؟ - كلا، إن هذا لا يكون أبدا، وأما مشاهدته فقد تكون بعد رجوعي من أمريكا إذا حييت «وإن غدا لناظره قريب». فعرف الشاب بأنها تكتم عنه حقيقة أفكارها، وأنها تهزل، وأراد زيادة امتحانها فقال: لا غرو أن تبعث جولة جنسك؛ فإن المرأة يعميها الحب فلا تعود تنظر الحقيقة من الوهم فيه، وتصم أذنيها عن نصيحة كل مخلص؛ لأنها تضم بما تحب ثقة عمياء، فلا تعود تصدق فيه كلام أحد، ومن قال بأن «عين الحب عمياء» فهو صادق.
فاغتاظت بديعة من كلامه ونظرت إليه نظرة ملؤها التوبيخ قائلة: لا يحلو للرجل شيء مثل التهكم على المرأة حتى في وسط كلامه الحبي لها، ولو كانت أقرب الناس إليه، فقد أصابنا بكم أيها الرجال كما جاء في ذلك المثل من أنه إذا أكلت الفأرة الجبنة يقولون: أكلتها الفئران؛ كأن النساء بعقل ومبدأ وطبع واحد، وما هكذا هم الرجال. وأنا مع أنني لا أنكر قولك عن ثقة المرأة بمن تحب، فكواحدة من هذا الجنس أفتخر بهذا القول وأقسمه إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول:
هو أولئك النساء اللواتي إذا أحببن رجلا شريفا طاهرا يسلمنه قلوبهن بكل عواطفها لحسن طويتهن، ويحسبن بأن الرجال لا يجهلون المثل القائل: «كما تعطي أطلب.» ولذلك فلثقتهن بمبادلة الرجال فهن هذا الأمر لا يصدقه فيهم قول قائل، وهذا نوع من ثقة المرأة.
والقسم الثاني:
هو أولئك النساء اللواتي تتخذن كل واسطة من التحذر والاختبار لاختيار من يصادقن سواء كان رجلا أم امرأة، ومتى فعلن هذا عن اختيار وروية يعرفن من يحببن أكثر من الغير، فيضحكن من قول ذلك الغير فيه لعلمهن بأن مصدر القول إما فساد وإما جهل.
والقسم الثالث:
هو النساء اللواتي إذا سمعن قول أحد في من يحببن لا يكترثن له إلا بعد تحققه، فإن كان صادقا لا يعلمن غير نفوسهن به خوف الشماتة، وإن كان كاذبا نبذنه. ففي المظهر الأول تتجلى المرأة على سور البساطة الطبيعية طاهرة القلب نقيته، ذات ثقة شريفة وإن خدعت أحيانا جزاء نقاوة قلبها. وفي النوع الثاني تظهر بمظهر التعقل والرزانة والنشاط والاستقلال. وفي النوع الثالث تتجلى المرأة بأجمل الفضائل، وهي المعرفة والأمانة والشجاعة، فتسمع وشاية الوشاة، ومتى اختبرته فإن رأته صادقا عرفت كيف تتحذر بدون أن تعلم أحدا، وإن وجدته كاذبا احتقرته وبقيت على حالها. وعلى الحالين يجب حفظ عهد الصداقة؛ لأنه شريف في حالي الرضى والسخط.
فقال نسيب معجبا بقوة عارضة وشجاعة تلك الفتاة: ومن أي قسم أنت؟ - من القسم الأخير بدون شك. إنني، وإن يكن كلامك كحراب من الاحتقار والتهكم تطعن قلبي، فأنا أصفح عنه راضية مختارة؛ لأنه صوابي وطلي وحلو.
ولما وصل إلى هذا الحد صرخ الحوذي: الضبية، يا سيدي نسيب.
فقال له: «حاسب» إذن. والتفت إلى بديعة وقال: لا أتجرأ على سؤالك للنزول والاستراحة قليلا. ولكنني أتجرأ على القول بأنه إذا تبين لك كل شيء واختبرت صدق كلامي، فهل أكون سعيدا بالأمل بأنك ... بأنك تحبينني ...
فأجابته بديعة بهدوء: لكل مقام مقال يا خواجة نسيب، فأستودعك الله الآن. ثم جرت العربة ببديعة التي جلست براحة وحدها، وتنهدت كأن عبئا ثقيلا قد أنزل عن قلبها، ولم تكترث لكلام نسيب الحبي أبدا؛ لأنه لم يؤثر بها، وما لا يؤثر بالنفس لا يعيره الإنسان التفاتا. ولكنها كانت تشعر بكره داخلي لذلك الشاب، وكانت صورته مرافقة لصورة فؤاد التي كانت أمام نظرها دائما وهي لم تعرف للأمر سببا.
الفصل العاشر
جرت تلك العربة تقطع الوديان والسهول، وبديعة جالسة فيها تتنازعها الأفكار، حتى إنها لعظم همها نسيت ما هو ذلك الهم، ولم تعد تشعر إلا بثقل وطأته عليها. ولم تسمع - لشدة استغراقها في الهم - خرير دواليب عربة أخرى كانت تتبع عربتها وفيها نسيب الذي لم يكن نزوله إلى الضبية إلا مكرا؛ إذ لم يلبث أكثر من دقائق معدودة فيها. وركب عربة وتبع بديعة وبقصده مراقبتها واللحاق بها إلى أي جهة كانت من العالم؛ ليسرد على سماعها حديث حبه الممقوت منها، وليحول بينها وبين فؤاد.
كان ذلك الشاب يحب بديعة حبا مفرطا، حبا يجعل العاقل مجنونا، وهذا ما يغفر له تثقيله عليها. ولكن ما هو العذر عن خيانته لخالته التي ربته طفلا وعلمته ولم تفرقه بشيء عن ولدها. وتسبيبه العذابات لفؤاد الذي عرفه كأخ له؟ وأي شيء في العالم يغفر له إساءاته نحو ذلك البيت الذي كان مأوى صالحا عاش فيه بسعادة ورغد؟
وعرف الشاب أمر خيانته، لكنه قال: وأي بأس من هذا وعلى الإنسان واجب نحو نفسه وقلبه ويقوم به ولو أضر بكثيرين غيره، حتى ولو أضر بالعالم أجمع؟ ولا غرو، فالأنانية موجودة عند كل إنسان، وكل آدمي يحب نفسه قبل غيره.
ولكن الفرق هو في نوع المحبة وفي مطالبة تلك النفس ذاتها. فالشريف النفس يرى أنه بطلبه كل شرف وفضل، وبفعله كل خير يحب نفسه ويقوم بواجبه نحوها؛ لأن حياته هي الشرف. وهذا يفعل نحو غيره من الخير ويضحي لأجلهم من المصالح أكثر مما يفعل نحو نفسه ذاتها، ولكن النفس تسر بهذا؛ لأنه مطلبها. وذاك يحب نفسه وتكون هذه «وحشية» كل مطالبها سرورها الخاص ولو بالوقوف دون سرور الناس والإضرار بمصلحتهم. وهذا يحب نفسه ويطلب سرورها دائما ولو من وسط الشرور وهضم حقوق الغير المقدسة. كلا الحبين حب ذاتي أو ما ندعوه أنانية، ولكن الفرق هو أن أحدهما يحب نفسه، ولكن يحبها أن تكون شريفة. والآخر يحب نفسه ولا فرق عنده إن كانت شريرة أو صالحة، بشرط أن تكون مسرورة. وهذان النوعان من الحب يمثلان لنا بأعمال بديعة التي ضحت سعادتها لأجل غيرها، وبأعمال نسيب الذي ضحى شرفه لأجل سروره، والفرق بين الاثنين عظيم جدا.
لا يشعر الإنسان عادة بعاقبة عمله إلا بعد مضي مدة عليه. ويتضاعف هذا الشعور متى اختلى بنفسه وتجسمت له صورة ذلك العمل بمنظرها الهائل. وهذا ما كان للسيدة مريم في اليوم الثاني من طردها بديعة من بيتها.
فإنها بقيت في تلك الدار الكبيرة وحدها، وابتدأت الأفكار تقلبها على أحر من جمر الغضا، فلم تدر كيف تعمل؛ لأنها لم تحب أن تزور أحدا ولا أن تزار من أحد في وسط أحزانها، لئلا تكون معرضة للسؤال عن سبب همومها. ومجانبة الناس أحسن واسطة لاجتناب فضح سر الإنسان متى شاء كتمانه. وفي أصل ذلك النهار نزلت إلى الحديقة لتسلي أفكارها بين زهورها ورياضها. وفيما هي غارقة في أوقيانوس الافتكار بمصيبتها سمعت صوتا يناديها قائلا: مساء الخير يا خالتي.
فنظرت إليه بعينين خائرتين من الأرق وصاحت: نسيب! لماذا تأخرت؟ فقد انتظرت رجوعك الليلة البارحة.
أجاب الشاب: إنني كنت آيبا إلى البيت كما وعدت، فالتقيت ببديعة ذاهبة إلى القرية الفلانية ... فتبعتها إلى هناك ثم رجعت معها إلى هذه المدينة.
فنظرت إليه خالته وقالت مضطربة: إلى هذه المدينة؟ - نعم لأنها مزمعة على السفر مع رفيقة لها إلى أمريكا في الباخرة التي تترك الثغر غدا مساء. ولكن هل علمت يا سيدتي بأنني سأسافر في ذات الباخرة معها؟ اصبري اصبري. دعيني أتم الحديث، أجل إلى أمريكا حيث أقدر على مساعدتك هناك أكثر مما أقدر هنا.
فصرخت خالته فيه قائلة: كفى تعذيبا لخالتك المسكينة يا نسيب، فكلامك مهم ولا أفهم لذهابك سببا، وهب أن الأمر كان كذلك، فهل تراني قادرة على احتمال كل هذه المصائب؟ إنك عندي مثل ولدي فؤاد، وأنا لا أنسى وصية أمك المرحومة لي بك عند ساعة موتها. فهل تراني أسمح لك بالبعاد عني؟ أمريكا؟ كلا. كلا.
قال الشاب: إن معنى سفر بديعة إلى أمريكا هو هلاك ابنك لا محالة؛ لأن الفتاة الماكرة تعرف بأن فؤادا يحبها وأنه متى عرف بذهابها يتبعها لا محالة، وبهذا تكون سعادتها به مزدوجة وظفرها عليك باهرا، فوالله إنني لا أسمح لها بهذا أبدا؛ لأني سوف أتبعها وأجعل لك سببا للعذر لدى فؤاد لتحويل أفكاره عن اللحاق بها بقولك: إنني أنا أحببتها وسافرت معها ...
فمحت خالته المسكينة دموعها وهي تقول: يا حبيبي يا نسيب، ما أشرف عواطفك وأكثر مروءتك! فأنت تريد أن تحتمل كل هذه المشاق وتقاسي هذه العذابات لأجل راحة خالتك التعيسة.
وكانت تتكلم وهي تشعر بسرور لبعد بديعة عنها، ولأن ابن أختها سوف «يفدي» ولدها وهذا أمر طبيعي في الأمهات؛ يفرحن ولو تظاهرن بالغم متى رأين الغير يتحمل العذاب عن أولادهن. أما نسيب فإنه سر بانطلاء حيلته الأولى وتأمل نجاح الثانية فقال بلطف: كل شيء ممكن تحت السماء لا أجد عمله صعبا لأجل سعادتك وسعادة الحبيب فؤاد يا خالتي.
فقالت: «تقبر خالتك» ما أرق قلبك وأشرف نفسك!
ولكن يا نسيب، هل تظن أن حيلتك هذه تنجح؟ وأن فؤادا يعدل عن السفر وراءها متى صدق؟ - لا شك في ذلك؛ لأن فؤادا أبي النفس عزيزها، لا يلحق بفتاة يعتقد فيها الخيانة، ولكن فلنفرض أنه يذهب، فما هو أفضل أن أكون أنا هناك أقيه أخطار الغربة والهوى من أن يكون وحده؟
فأثر هذا الكلام في قلب تلك السيدة المتعظمة، وللحال وقعت إلى الأرض تبكي بكاء شديدا؛ ذلك لما تصورت المستقبل بتعاسته ورأت فيه ولدها الحبيب الوحيد راجعا من المدرسة يعاتبها على خيانتها ويطالبها بوعودها، وهو يريد أن يلحق ببديعة وهي عاجزة عن ردعه؛ لأن سلاحها صدئ ولا قدرة لها على محاربة مقاصده بالحق. ثم تصورت بديعة واقفة وهي كالزنبقة الذابلة تقول لها: انظري الفرق بين عملك معي وعملي معك الذي أطلب من الله ألا يجازيك عنه. ثم نظرت على قدميها قلبين قد مزقهما النوى بسببها؛ لأنها هي علمتهما الانضمام بالمحبة، ثم أجبرتهما على الافتراق فأماتتهما بعملها هذا البربري. وآخر ما كان من تصوراتها وداعها لابنها وهو مسافر لبلاد غريبة تبعد عنها ألوف الأميال لأجل فتاة خادمة حقيرة. فودت لو أنها قادرة على رتق ذلك الخرق، ولكن كيف يتم هذا وهي لا تريد أن تكون كاذبة وذليلة ولو خسرت ابنها وكل مقتناها.
ولو نظرها الآن صاحبنا ذلك الشاب الذي كان معجبا بآدابها ويراقبها ليلة الوليمة، لقال: يا للعجب! هل هذه هي تلك السيدة؟ هل هذه تلك المرأة التي كانت تحافظ أتم المحافظة على آداب السلوك وقواعد التهذيب؟ فإن كان هذه هي فكيف توفق بين أعمالها الماضية والحاضرة؟ هل أن من كانت مثال الأدب والشرف أصبحت إناء الشر والكبرياء؟ فما هو السبب يا ترى؟ أهو لأن حبها لولدها الوحيد هون عليها خنق صوت الضمير الحي؟ أو أن تلك الآداب والأخلاق لم تكن طبيعية بل كانت تأتيها بدون أن تعرف لها معنى كالببغاء، تعتبرها واجبا يتم في العموميات وينبذ في الخصوصيات؟ أو أن عواطف النفس ونقاوتها وأعمالها لا علاقة لها قط ببعض عادات اصطلاحية مكتسبة لا غريزية ومدفوعا إليها لا مرغوبا فيها؟
وبعد أن همرت دموعا كثيرة غسلت بها قليلا من همها؛ إذ لا شيء يفرج القلب من الهم كالدموع التي كأنها هي ذلك الهم ذاته، يعصر فيصير ماء وتقذفه العينان من القلب، قامت كاللبؤة وجلست بجانب ابن أختها تصغي إلى تعزيته. وبعد أن مسحت دموعها قالت: لقد نفذ المقدور، فليس علي غير الصبر والتدرع بدرع القوة لأنهي أعمالي بشجاعة. وأما أنت فإنك تحتاج إلى مال يعينك في السفر والغربة، فتعال معي إلى غرفتي فأعطيك ما هو متيسر الآن وإذا احتجت إلى أكثر فاكتب إلي.
وبعد ساعات كان نسيب مكبا على عنق خالته يقبلها بحرارة كأن الدافع عليها سروره بالمال، وهو الأربعمائة وثمانون ليرة التي رفضتها بديعة. وكانت خالته تقبله بشوق وحب وتشكر له مساعدته لها كأنه أتى نحوها خدمة عظيمة.
فلنذهب بالقارئ إلى ظهر باخرة من بواخر مساجري ماريتيم، حيث كانت بديعة ولوسيا واقفتين مع جمهور من الركاب تودعان بيروت على ظهر أول شيء من «عجائب أمريكا». ولما توارت المدينة عن النظر وأسدل الليل برقعه الكثيف من الظلام، رجع كل إلى مكانه، ولحظت لوسيا ما رابها من أمر رفيقتها بديعة التي كانت مضطربة مصفرة الوجه تتكلم بدون فكر. ولما كانت تجهل كل شيء من أمرها، ظنت أن هذا مسبب من دوار البحر. ولم تدر لوسيا بأن دوار بديعة كان اضطرابا فكريا لا جسديا، سببه تركها تلك المدينة المحبوبة «جوليت» وليس وجودها على تلك الباخرة.
وباتت الفتاتان تلك الليلة على طرفي نقيض من الأفكار؛ لوسيا تحلم مسرورة بأنها تركت بيت أبيها وتركت الفقر والتعب وراءها فيه، وتخلصت من مرأى وجه خالتها العبوس وحديثها الخشن.
وبديعة تحارب أفكارها وترى بأن كل أمل لها في السعادة قد غاب عنها منذ غابت بيروت، وهي أرقة لا تقدر على النوم بعد أن دفنت كل مطامعها بالسعادة في تلك المدينة السورية العظيمة.
وكان الليل قد حجب عن نظر بديعة الناقد كل مناظر المكان الذي كانت فيه، فلما أفاقت صباحا ذهلت مما رأته حولها من أشكال الناس المختلفي اللغة والجنس ولكن أكثرهم من بني وطنها. ثيابهم رثة بالية، ومضاجعهم قذرة، والمكان الذي ينامون فيه محاط بالأوساخ التي تنبعث منها رائحة كريهة لا تحتمل، وتجلب الأمراض من جهة ودوار البحر من أخرى، وتورثهم أمراضا تزيد تعاستهم تعاسة، ولا يعودون قادرين على تنشق الهواء النقي والخروج من تلك الجهنم الأرضية. ونظرت بديعة فرأت لوسيا تتأمل في تلك المناظر المؤلمة، فسألتها قائلة: ما بالك يا لوسيا حزينة؟
قالت لوسيا: آه يا بديعة إذا كان السوريون يتعذبون في أمريكا ويعيشون كهذه المعيشة بسفرهم؛ فإنني لا أكون كسبت شيئا، وأكون انتقلت من «المقلى إلى النار»، بل أفضل البقاء في وطني على هذه الحالة من أن أكون فيها في بلاد الغربة. - إنها حالة مضنكة يا عزيزتي، ولكن ما هو ذنب أمريكا يا ترى؟ أليس الذنب كله علينا نحن السوريين؛ لأننا نمشي كالنمل على طريق واحدة؟ انظري بين هؤلاء المسافرين يا لوسيا تري ثلثهم قد هاجر إلى أمريكا من قبل، وأتى بمال كثير فذهب إلى الوطن واشترى ببعضه أرزاقا وبنى بالبعض الآخر بيوتا للسكن جميلة، وأدان قسما بالفائض وهو راجع اليوم إلى أمريكا، إما مع عائلته وإما وحده طمعا بالزيادة من الربح. والثلث الثاني هو من الناس الذين يسمونهم «مستورين» في وطننا، وغيره من إخوانهم سافروا لأمريكا طمعا بالربح الكثير أيضا. والثلث الباقي هو من أولئك الفقراء مثلنا الذين ليس لهم إلا مال قليل يكاد يكفي للقيام بأودهم ولنفقات سفرهم إلى أمريكا، ومنهم من ليس لهم كفاية لهذا الأمر. فالثلث الأول من هؤلاء مجرم يا لوسيا؛ لأنه قد هاجر وعرف ما هي المعيشة، ومعه مال كثير، وترينه لا يزال على مثل ما كان من الجهل، يسافر هذه المرة إلى أمريكا على «ظهر البابور» كما سافر في المرة الأولى عندما كان فقيرا، وهو الآن قادر على اجتناب كل هذه القذارة والأمراض ببذل القليل من المال زيادة. والثلث الثاني مجرم في الدرجة الثانية؛ لأنه قادر على الاستراحة ولا يستريح، ولكنه يعذر أكثر من الثلث الأول الذي هو مجرم في الدرجة الأولى؛ لأنه أكثر اختبارا ومعرفة. وأما الثلث الأخير فهو معذور ويستحق الرحمة لأنه يمد رجليه على قدر بساطه.
ومن هنا يتضح لك بأن ليس لأمريكا يد «ببهدلتنا»؛ بل نحن نسعى بضرر نفسنا بنفسنا.
ولم تنته بديعة من كلامها حتى أمسكت لوسيا بذراعها وقالت: انظري انظري، فهل هذا ذنبنا أيضا؟
فالتفتت بديعة، وإذا بأحد النوتية يهين رجلا سوريا بالكلام، والسوري ساكت لا يبدي حراكا. فتأسفت بديعة لهذا الأمر وقالت: إن هذا الرجل يهان إما لأنه سبب الإهانة لنفسه، وإما لأن غيره سببها له بأعماله المغايرة حتى صار الجميع عند الإفرنج سواء. وفيما هما بالكلام حانت من بديعة التفاتة، فرأت نوتيا آخر وهو مار بجانب إحدى الفتيات ضربها بيده على خدها ضربة لطيفة تدل على المداعبة، فضحكت الفتاة ومر النوتي ضاحكا أيضا. وعند هذا المنظر تحركت عوامل الشرف في قلب بديعة وتمزق فؤادها الطاهر لهذا الأمر، ولشدة غيرتها على شرف جنسها لم تقف لتفتكر فيما إذا كان تداخلها بالأمر واجبا أم لا. وللحال قامت من مكانها وذهبت توا إلى تلك الفتاة التي كانت لا تزال واقفة مكانها. وكانت بديعة تشعر بأن الرجل لئيم، وقد أهان فتاة من جنسها. وبأن تلك الإهانة موجهة إليها نفسها؛ لأن المرأة الشريفة متى أهينت امرأة غيرها تتحمس لمعرفتها بأن الإهانة لحقت بكل امرأة على السواء وليس بامرأة واحدة فقط.
وكانت الفتاة قد عرفت الغرض من قدومها إليها فقالت: اعذريني يا أختي؛ فإنني لم أتجرأ على ردع هذا النوتي؛ لأنني أخافه، فاستري ما رأيت مني.
فقالت بديعة: إن السترة واجبة علي، وأنا لا أنكر لؤم ووقاحة كل رجل خال من الشهامة، ولكن كان يجب عليك يا أختي أن تقابلي تلك القوة الشريرة بالمقاومة؛ لأن ما لا يأتي باللطف يأتي بالعنف.
فقالت: وأنى لي ذلك وأنا امرأة ضعيفة، وهو رجل قوي، وقد التقيت به بهذا المكان المنفرد ولا قدرة لي على ردعه؟!
فأجابتها بديعة: إن الموت عند فتاة عذراء طاهرة نظيرك خير لها ألف مرة من أطماع رجل لئيم ساقط فيها واحتقاره لشرفها، فلو كنت أنا مكانك لكنت تناولت حذاء وضربت به ذلك الرجل وشتمته على مسمع من الناس حتى يعرف بأن للنساء قوة للمحاماة عن شرفهن، وحتى يرتدع عن معاملتك ومعاملة فتاة غيرك بمثل هذا فيما بعد.
فقالت تلك الفتاة المسكينة وهي تبكي تأثرا وخجلا: شكرا لك على نصيحتك يا أختي، وسأعمل بنصيحتك فيما بعد.
ولما رجعت بديعة مسرورة من قبول الفتاة لنصيحتها، قالت لها لوسيا: وهل هذا سببه ضعفنا كما قلت أو وقاحة هؤلاء النوتية القليلي الشرف.
قالت: إن هذا سببه ضعفنا وجهلنا وحبنا للمال الذي نطلبه بإغضاء الطرف عن أي الطرق يأتي منها. فإني سمعت بأذني والدة تقول لابنتها نهار أمس: «لا بأس إذا كلمك ذلك البحري وضحك معك؛ فإن مالنا قليل ونحن نحتاج إلى طعام.» وهكذا يا أختي يقول بعض الرجال لنسائهم كلاما يحرق شفتي لفظه، ولكنني مضطرة إلى قوله لأبين لك إلى أي درجة يصل الطمع بصاحبه ... آه يا أختي، إن بعض الناس يحسبون أن كل القصد من المهاجرة هو الكسب والكسب وحده، وبأي طريقة أتى لا يهمهم فيبتدئون بالتساهل وعدم الاكتراث من «ظهر الوابور»، فما بعد إنما نشكر الله أن هذا البعض قليل جدا ولكن ضرره كثير؛ لأنه يحقرنا في عيون الأجانب، ولأنه يكون مثلا قبيحا للمغفلين والجهلاء منا من نساء ورجال، ولأنه يجعل من يجهل أحوال المهاجرة أن يسبها ويذمها وهو لا يعرف عنها سوى أعمال هذا البعض. كما أنه يدعو الناس الذين نخالطهم إلى ذمنا وسبنا متى رأوا هذه الأعمال من بعضنا ولم يروا سواها. وكل قبح منته إليه ... إنني لا أعرف بعد شيئا عن أحوال أمريكا، ولكنني سمعت عنها كثيرا من بني وطني بأنها معدن الشرور ومعمل الرذائل وقلة الأدب. ولكنني لا أصدق هذا وأقول بأن نفس كل إنسان معمل أخلاقه.
الفصل الحادي عشر
ابتداء مهمة بديعة التي وقفت حياتها لأجلها وهي عمل الخير
واستفاقت بديعة من نومها في ثاني يوم قبل لوسيا، فلم تشأ أن توقظها فتركتها نائمة، وصعدت إلى «ظهر الباخرة» وجلست هناك تنظر إلى ذلك البحر الواسع وصفائه ورونقه، وتود لو كان بحر أفكارها هادئا مثله إذ ذاك.
وفيما هي تنظر إليه، وتتذكر قصتها من الأول إلى الآخر، وتحسبها لغرابتها بأنها حلم لا يقظة، وفيما هي هكذا طرق أذنها صوت وقع أقدام بعيدة عنها، فنظرت لترى من ذا الذي يمشي، وإذا بفتاة تمشي الهويناء على ظهر تلك الباخرة، وهي تنظر يمينا وشمالا لترى إذا كانت منظورة، ولحسن حظها لم تر بديعة وهي جالسة تراقبها. ولما وصلت إلى طرف الباخرة تناولت من صدرها شيئا يشبه الصورة وتأملت فيه مليا وهي تذرف الدموع الغزيرة، ثم أرجعته لمكانه فوق قلبها ورسمت على وجهها إشارة الصليب، وصلت ودموعها تنهمل من عينيها بغزارة. وكانت بديعة لحظت من الفتاة بأنها تنوي إتيان أمر ما فلبثت تلاحظها إلى حين انتهائها من صلاتها، وإذ ذاك قامت من مكانها وأسرعت نحوها وأمسكتها بذراعيها وأرجعتها إلى الوراء؛ ذلك لأن الفتاة رامت أن تلقي بنفسها في البحر.
وكانت لما اقتربت منها قد سمعتها تقول: ما أرهب الموت، وما أمر الحياة! إنني قبل أن أقدمت عليه ظننته من أسهل الأمور التي يأتيها الإنسان تخلصا من عذابات الأرض. ولكنني لما عزمت عليه حقيقة وجدته من أصعب تلك الأمور، فكيف أعمل؟ فهل أرجع للبيت لأراه سعيدا معها وأنا أتقلى على مقالي الغيرة؟ أو أسافر إلى أمريكا ولا مال معي يوصلني؟ أو أموت غير مأسوف علي ولا معروف أين هو قبري؟ نعم، نعم، أموت لأن الموت ختم من ذهب على العذابات الأرضية. فارحمني يا إلهي يا من سددت بوجهي كل منافذ السعادة في الحياة ولم تفتح سوى باب الأبدية، ارحمني على هذا الموت الذي يقولون بأن من يموته يخسر الدنييين معا، ارحمني وساعدني واغفر لمن كان سبب موتي، وهب والدي التعيسين سلوى بعد موتي.
ولما انتهت من هذا الكلام وهمت بإلقاء نفسها لم تقدر؛ لأن يدا بديعة القويتين أرجعتاها إلى الوراء كما تقدم، وصوتها العذب ناداها قائلا: كلا، إنك لا تموتين هذه الميتة التي هي ميتة المجانين، ومن تكلم كلامك لا يكون مجنونا.
فأجفلت تلك الفتاة من كلام بديعة أكثر مما أجفلت من إرجاعها إياها عن عزمها، وللحال وقعت إلى الأرض هي وبديعة التي لم تتركها مغمى عليها. ولما استفاقت وجدت رأسها المملوء هموما على ركبة بديعة، وعينا هذه تنظران إليها وملؤهما الدموع. فنظرت إلى ذلك البحر الهادئ الواسع أمامها، وتبين لها ما كانت مزمعة أن تفعل. ثم حولت نظرها منه إلى وجه بديعة الجميل الذي حال بينها وبين السكن في قعره العميق.
وكانت الفتاة ذكية، فقرأت حالا على وجه بديعة سور الرحمة والمحبة والحنو، وعرفت كم هو مفيد للإنسانية التعيسة ذلك النور الباهر الذي كان ينبثق من عيني بديعة. ومن الغرابة بمكان أن وجه الناظرة كان ما يسمونه «بسيطا»، بينما وجه المنظورة كان جميلا فتانا يستخرج الغيرة من قلب كل امرأة، إلا قلب تلك الفتاة التي شعرت من تلك الساعة بحب خفي وامتنان زائد لذلك الوجه الذي نجاها من الغرق، وهل ليست محبة هذه الفتاة لتلك من العجائب، وبينهما حاجز عظيم هو كل ما ترنو إليه المرأة وهو الجمال؟ نعم، ولكن هناك سرا خفيا لا يتبينه إلا كل ناقد، وهو مساواة تينك الفتاتين بجمال النفس، وإن اختلفتا بجمال الجسد. فبعين الجمال من النفسين نظرت جميلة بديعة فأحبتها؛ لأن نفسها جميلة مثلها، ولم تكترث لجمال وجهها لأن من يعتبر الجوهر يحتقر العرض.
تحدثت نفسا الفتاتين وقلباهما قبل تبادل لسانيهما الكلام، وبعد برهة من التأمل قالت الفتاة جميلة لبديعة: إنني أشكرك على معروفك يا أختي، ولكن قد كان هذا المعروف مضاعفا لو تركتني أموت؛ لأن الموت خير من الحياة عندي.
فأجابتها بديعة بصوت حنون، وهي تمر يدها على رأس الفتاة الذي كان لم يزل على ركبتها: ولماذا كل اليأس يا صديقتي؟ - إن لذلك سببا يا عزيزتي لو عرفته لما لمت من تروم إبدال الراحة بالعذاب.
فعرفت بديعة ذكاء الفتاة، وأنها لم تقدم على الموت انتحارا إلا بعد أن قطعت كل رجاء من الحياة السعيدة. وقالت: ما عسى أن يكون أمرها غير أنها مصابة بداء كدائي؛ إذ ما هو الذي يعكر صفاء راحة فتاة بهذا العمر غير الحب، وهو أول صعوبة تمر عليها في الحياة وأعظم صعوبة. إن الداء متشابه ولكن الدواء مختلف. ثم نظرت إليها وقالت بحنو: لو كنت أعرف بأن انتحارك تعقبه راحة لا عذاب مزدوج، لكنت تركتك تتصرفين بنفسك كيف تشائين. ولكن كما أنني لا أجهل مرارة الهموم، فأنا لا أجهل بأن نفسنا ليست لنا وقتلنا إياها يعني الهلاكين في الدنيا والآخرة. - قد كنت أعلم كل هذا لما كنت بهناء من العيش، ولكن لما تواترت علي المصائب لم أفتكر إلا بإغماض العين عنها في هذه الدنيا ولم أكترث لما يحل بي بتلك. - مهما يكن مصابك عظيما ففي الدنيا مثله وأعظم منه، وأنا لا أشك الآن في عظمته؛ لأنني عرفت مقدار ما أنت عليه من الذكاء والفضل من حديثك، فعرفت بأن:
أفاضل الناس أغراض لدى الزمن
يخلو من الهم أخلاهم من الفطن
ومن اعتقادي أن الله بعدل يخص فضلاء الناس بكثير من المصائب؛ وذلك ليكونوا قدوة لسواهم من الناس. وقد قيل بأن الإنسان «خلق ليكون تعيسا إن كان عاقلا، وسعيدا إن كان جاهلا.» والسر بهذا أن الإنسان كلما كثر شعوره كثرت مطالبه، وكلما كثرت مطالبه وعظمت مقاصده كثر همه.
ولكن العقل الذي هو سلاح الإنسان يجب أن يحارب الهموم مع النفس، وليس النفس مع الهموم. ومن جنى على نفسه وهو جاهل يعذره الناس، أما العاقل فلا عذر له لمعرفة ماهية الأمور. ومن العار أن تحاربي نفسك أنت بسلاح الجبناء الذي هو الانتحار. - ولكن لو حكيت لك قصتي لعذرتني.
فلم تسألها بديعة أن تحكي لها قصتها؛ تأدبا وإبعادا لها عن الافتكار بما يؤلمها. أما الفتاة فقد لحظت منها هذا، وقالت: اسمعي قصتي واحكمي علي: إنني فتاة وحيدة والدي، ولما كنت في الثانية عشرة من عمري خطبني شاب من أسرتنا لئلا يذهب الميراث للخارج، فبعد خروجي من المدرسة أحببت الشاب حبا أقل ما يقال فيه إنه صادق، ومن مدة وجيزة أعلن وقت زفافنا وأخذت أنا بالاستعداد، وفي وسط هذا الاستعداد وجد الشاب من هي أجمل مني وجها فأحبها، واقترن بها ولم يكتف بما فعل كأن حبي له كان ذنبا عظيما يستحق قصاصا أكبر من هذا، فصار يجعل لي سبيلا للغيرة بأعماله وأقواله، حتى كاد يمزق قلبي وأنا لم أتكلم كلمة. ولما عيل صبري وازداد هو تماديا بعذابي تركت أبي وأمي الشيخين وجئت لبيروت، ومنها سافرت على ظهر هذه الباخرة لأرمي بنفسي في البحر حيث يبقى أمر انتحاري مكتوما عن كل إنسان، فأتيت أنت وخلصتني.
وكانت بديعة تسمع حديث الفتاة وتبكي لبكائها، فلما انتهت منه قالت لها: اسمحي لي يا أختي أن أقول لك بأنك ضعيفة للغاية. - وهل تكون قوية من تكون في مركزي؟ - نعم وألف نعم، متى انتصبت أمامها ثلاثة واجبات: أولها واجبها نحو نفسها بأن تخلصها لا تهلكها، وواجبها نحو والديها بأن لا تنغص حياتهما، وواجبها نحو بنات جنسها بأن لا تكون لهن مثلا قبيحا. - إن واجب الحب يفوق على كل ما ذكرت، وكأني بك لم تعانيه ولم يطعنك رجل بحربة الخيانة لتعرفي ما في.
فقالت بديعة: آه لو عرفت! ثم قالت بلطف وحماسة معا: إنني امرأة مثلك يا أختي، وغيرتي على بنات جنسي تدفعني للقول بأن المرأة التي تشقى حيث بوسعها أن تسعد، وتضر بنفسها وهي تقدر على نفعها لأجل رجل خائن، تكون ضعيفة جبانة وعارا على الجنس.
فتحركت لكلامها آلام الفتاة، وقالت: وبخيني ما شئت فأنا ممنونة، ولكن لا تقولي إن المرأة متى أحبت رجلا حبا حقيقيا تعود قادرة على نزع ذلك الحب من قلبها، ولو عرفت بأنه أكبر الخونة الأشقياء؛ فإن التحذر يكون قبل دخول الحب قلب المرأة وليس بعده.
فتأثرت بديعة لشرف عواطفها وقالت: إن هذا من الشرف، ولكن المرأة تحب من الرجل ما يكون بنفسها، فإن كانت شريفة تحب الرجل لشرفه، ولكن متى تبين لها خلاف هذا يجب أن تساعد على زوال هذا الحب من قلبها بالصبر وليس بالانتحار، وقد ذكرت لك ثلاثة واجبات تربط المرأة بحبل الصبر، وها أنا أذكر لك ما هو أعظم من جميعها - وهو الواجب الحقيقي - واجب الدين الذي يحرم علينا الانتحار لئلا نهلك نفوسنا.
أفلأجل رجل كالذي ذكرته تدوسين كل هذه الواجبات بقدمك وتذهبين ضحية جنونك، وهو باق يتنعم بالحياة ويضحك منك؟ يا لها من فظاعة عظيمة وعار لا يمحى!
ولما سمعت الفتاة كلام بديعة الأخير أطرقت في الأرض برهة وقالت: قد صارت تحلو لي المعيشة في الأرض بعد أن رأيت فتاة مخلصة مثلك فيها؛ فإن كلامك وإن يكن جارحا لأنه حق، فهو بلسم لجروح قلبي المضنى. فأنا أحببتك يا أختي حبا مخلصا قبل أن أعرف اسمك الذي سيكون جميلا كوجهك أو قلبك.
وبعد أن تعارفت الفتاتان وصرحت كل واحدة للأخرى باسمها، قالت بديعة لجميلة: رأيتك تتأملين بشيء قبل أن هممت بإغراق نفسك ...
قالت: نعم، إنه رسم «ل»، ثم مدت يدها إلى صدرها وتناولت الرسم منه وناولته لبديعة. وفيما هي تتأمل فيه قاطعتها جميلة الكلام قائلة: إنك ستعرفين سبب تركه لي وحبه لتلك الفتاة الجميلة بدون شك. ولكن عذري هو أنني قسته على نفسي إذ وثقت بعقله وأنه يفضل جمال النفس على جمال الجسد، ولكن بعدما وقع كل شيء تحققت فساد ظني، وعلمت بأنه لا شيء كالمساواة كفيلا للسعادة إلا ما ندر، والنوادر لا يقاس عليها.
فازداد إعجاب بديعة برفيقتها، وكيف أنها نطقت بجنانها بهذه الكلمات: «حيث لا مساواة لا حب على الأغلب.» وكان جواب بديعة على هذا الكلام أن قبلت الفتاة بحرارة زائدة، وقالت لها: هل لك أن تضعي ثقتك بي وتتخذيني لك أختا في الحياة لأكون لك مساعدة على مداناة الحياة السعيدة!
فقالت جميلة: كيف لا يكون هذا وقلبي قد تعلق بحبك، وأنا شديدة الوثوق بأنك سوف لا تخونينني لأن الجمال لا يهمك ... قالت هذا وابتسمت لأول مرة ربما من حين مفارقتها بيتها.
فسرت بديعة بابتسامتها التي جاءت دليلا على بعض السرور، وقالت وهي تبتسم أيضا: إن الجمال هو أحد أركان السعادة، ولا غنى عنه في الصداقة بين النساء والرجال، وأنت بنظري حاصلة على أكمله؛ لأنني أنظر إليك بعين النفس وليس بعين الجسد كما نظر إليك ذلك الجاهل.
قالت جميلة: إنني بعد أن سمعت كلامك انفتح أمامي باب كان مقفلا من قبل، وهو باب معرفة واجبي نحو والدي على الأخص؛ لأن موتي على هذه الصورة كان يعني موتهما أيضا. ولما ذكرت الفتاة والديها أجهشت في البكاء، فساعدتها بديعة التي ذكرت بأنه كان لها والدان أيضا وقد كانا يحبانها.
وبعد أن غسلتا بعض الهموم بدموعهما الطاهرة تخابرتا بشأن السفر، فقر رأي جميلة على أن تذهب إلى أمريكا برفقة بديعة، وتخبر والديها بالأمر من مرسيليا، وأنها متى راقت الأحوال نوعا ترجع إليهما.
وقالت بديعة لرفيقتها بأن لها رفيقة أخرى يجب أن تذهبا إليها. فقالت جميلة: وهل من الواجب أن نخبرها بالقصة؟
قالت بديعة: كلا. لأنه قد قيل:
إذا ضاق صدر المرء عن كتم سره
فصدر الذي يستودع السر أضيق
وهذا الشعر وإن كان لا ينطبق على الجميع فهو صوابي؛ لأن في العالم خمسة أشخاص يؤتمنون على السر، وهم الوالدان والزوج العاقل المخلص والأخ والصديق الودود بعد امتحانه، وما عدا هؤلاء فالسر يكون معهم بين الشك واليقين.
ولما نزلتا إلى حيث كانت لوسيا، نظرت إليهما هذه شزرا وقالت لبديعة بغضب: ما هذا الإبطاء وأين كنت؟ فقالت بديعة بلطف: اعذريني يا عزيزتي؛ لأنه أتيح لي التعرف برفيقة جديدة ستكون لنا ثالثة، وخير الرفيقات الثلاث. ثم عرفتها بجميلة فلم تكترث لها لوسيا كثيرا، وكلمتها ببرودة كلية، ولا غرو فإن القلب أكبر دليل؛ لأن جميلة لما نظرت بوجهها عرفت الفرق بين النساء.
واستأنفت بديعة رحلتها العقلية، ولكن بتغيير قليل؛ لأنها بعد أن عرفت مصيبة جميلة صغرت مصيبتها قليلا في عينيها، ولا شيء يخفف المصاب إلا المصاب على حد ما قيل:
ولكل شيء آفة من جنسه
حتى الحديد سطا عليه المبرد
ومن جهة أخرى كان وداد وذكاء جميلة أكبر مساعدين على تسليتها، كما أن إخلاصها وحبها لجميلة كانا يهدئان روع تلك الفتاة وينسيانها شيئا من مصائبها وأحزانها. ولنتركهما الآن ينمو حبهما بانحلال الأيام وعين لوسيا تنظر إليهما بغيرة كلية.
راجعين إلى نسيب، فإنه لما صعد إلى الباخرة وذهب إلى الدرجة الأولى فأضيف إلى ركابها نظر بديعة ولوسيا معها فتحقق ما عند الفتاة الأخيرة من الجمل الرائع، وقال: إن هذا من حسن الحظ، فإذا يئست من إقناع بديعة فيمكنني اجتذاب هذه الفتاة نحوي؛ لأنه يظهر من حركاتها ونظراتها بأن بين بديعة وبينها بونا شاسعا من الرزانة والتعقل، بل أكثر من ذلك؛ لأن دلائل الافتخار بالجمال تظهر على وجهها، ومن كانت كهذه يقدر الرجل على اجتذابها بأسهل طريقة، ولميلها إلى التدليس والإطراء، اللذين وإن يكونا آفة بعض الفتيات الخفيفات، فهما سلاح بعض الرجال لمحاربة أولئك النساء اللواتي لم يختبرن بعد العالم.
على هذا الفكر وعلى فكر آخر هو أن لا يظهر ذاته لبديعة في البحر، سافر نسيب مع الفتيات ولم يشعرن به.
ولما وصلت الفتيات إلى مدينة نيويورك العظمى لم يجدن أقل اعتراض على الدخول؛ لأنهن كن صحيحات الأجسام جميلات الصورة مرتبات الملابس مهذبات، وعيونهن سالمة من المرض الذي هو سبب إرجاع أكثر المهاجرين، وأحيانا يكون موجودا حقيقة وأحيانا لا يكون له أصل، بل يتخذونه واسطة لمنع دخول السوريين الذي لا حاجة لأمريكا إليهم؛ لأنهم قوم لا ينفعون البلاد بشيء كما قال مرة أحد المتوظفين بإدارة المهاجرة لأحد الأفاضل من السوريين. وهذا المرض يسمونه «التراخوما»، ويقول الأطباء بأنه مسبب عن وجود الرمال الناعمة بوطننا، وبعضهم يقول بأن من أسبابه «إهمال النظافة». وعلى كل حال فمن كان به علة جسدية خطرة لا يدخل، وخصوصا متى كان مصابا بعينيه.
الفصل الثاني عشر
في مدينة سنسيناتي - من أمهات مدن هذه البلاد - محل فيه من جميع الأقمشة والقواطع وكل ما يتجر به السوري المهاجر من البضائع والسلع، جلس شاب عند الساعة العاشرة صباحا على إحدى الطاولات الموضوعة بذلك المحل لعرض البضائع، واتكأ على رزمة من طقومة الرجال الموضوعة إلى جانبه، ورمى من يده جريدة عربية كان قد أتم قراءتها، ثم رفع نظره إلى سقف المحل وغاب في فضاء الأفكار؛ لأنه كان وحده، وكان المتعاطون معه من النساء والرجال قد ذهبوا ولا يرجعون إلا عند المساء.
وكان يظهر من عبوس ذلك الشاب بأن أفكاره تستدعي الاهتمام، وهي كانت هكذا صحيحة؛ لأنه كان قد مضى عليه العشر سنوات متغربا، وهو الآن في الخامسة والثلاثين من عمره، ولم يزل أعزب، ولماذا؟ ألأنه كان يعتقد كما يعتقد بعض الشبان العصريين بأن الزواج يخرب البيوت ويهدم أساس السعادة، وأنه مهما بلغ الأعزب من الشقاء لا يبلغ مبلغ المتزوج الذي يشقى بامرأته؟
كلا! إن هذا لم يكن ظنه؛ لأنه كان لا يحسب على الأرض سعادة أتم وأكمل من السعادة الزوجية. وكان يعتقد بأن العائلة أشرف شيء على الأرض، وأنها أكمل وأفضل وأجمل ما يوجد في الجنس البشري، وأنها إرادة الله الأولى على الأرض؛ إذ إنه جل جلاله لم يرض بأن يعيش جدنا آدم وحده، فخلق له امرأة وإنها أقدم وأعظم المدارس المعروفة للإنسان. بل هي تلك الكلية الكبرى التي تكون علمته القراءة فيها ركبة الأم وجعلت كتاب دروسه عينيها.
وكيف يكره شاب مهذب عالم فاضل كذلك الشاب، الذي عرفه القارئ جالسا في محله وهو يفتكر بأن البيت هو أحلى الأمور، وبأنه لا يكون قط حلوا بلا ربة هي ملكته، ورعية صغيرة فيه هي الأولاد. كان يعرف بأن البيت مهد أعظم الفضائل، وهو مكتشف الحب، وأساس الكنيسة. وهو ممثل لبيت أبينا السماوي على الأرض. وأن حب الوالدة الذي لا يعرف إلا به هو السلك الوحيد الذي يصل قلب الأولاد بالفضيلة والشرف وحسن الذكرى، بل هو الشيء العذب الحلو الذي يتسلسل معنا وينمو بقلوبنا بنمو الأيام ، وهو الذي يجعل الوطنيين ويولد الشرف ويقوي على الفضيلة إذا كان شريفا جيدا، والعكس بالعكس.
وإذ عرف كل هذا وتشوق إليه، فلأي سبب كان بقاؤه أعزب إلى اليوم الذي كثرت عليه الأفكار فيه، وهو لا يعلم لها سببا؟ ذلك لأنه لا يعجبه فتاة في أمريكا كلها ولا في الوطن أيضا. ولماذا؟ لأنه كان يطلب الكمال النسائي التام فلا يجده، فتنقبض نفسه لذلك، ويحول نظره عن طلب يد أية فتاة كانت ومهما كانت صفاتها.
وكان هو يلوم نفسه كثيرا على تشديده بمطالبه، ويقول: إن هذا من الجنون، هل أنتظر أنا لآخر عمري ما أنتظره في امرأة ما وأنا أعرف بأنني عاجز عن الحصول عليه؟ إنني أطلب امرأة كاملة نفسا وجسما، وهذا محال على الأرض.
فإذن يجب أن أخفف مطالبي وأرى بما هو غير محال.
ثم حول نظر فكره إلى فتاتين كانتا أكثر مناسبة من الجميع له، فقال: إن حنة جميلة الصورة ذات قد أهيف وخصر نحيل وحديث ظريف، تتكلم الإنكليزية وتقرؤها وتكتبها جيدا، وهي ذكية لطيفة تحسن الضرب على البيانو، وتقدر على دخول الجمعيات العالية ومخالطة الأمريكان وتكون مثلهم بينهم، وهم مسرورون منها ولكن ... إنها تطلب تغيير موضة ثوبها وحليها في رأس كل شهر، وإذا لم تفعل هذا إما أنها تغضب وإما تحزن. ولا تشتغل في البيت؛ لأن يديها الناعمتين لم تخلقا لهذه الأشغال البيتية الشاقة، وثوبها الناعم القشيب لم يعتن بخياطته ليقابل الوجاق ويجر ذيله الطويل على أرض المطبخ.
ولأنها لا تقدر على ذلك وهي لابسة المشد، ولا تقدر أن تنزعه عنها حتى في البيت، ولا تخيط بيدها؛ لأن خمسة وعشرة ريالات للخياطة لا تساوي «تعب فكرها ساعة»، ولا تساعد زوجها في الشغل؛ لأنها لم تخلق للتعب بل للراحة. ولا تنظر لمقدرته أو رضاه عندما تروم مشترى بعض قطع من الحلي أو بعض أثواب نفيسة تكون زوجها أقداما إلى الوراء. ولا تتنازل عن الزيارات حتى ولو كان أحد أعضاء العائلة مريضا. ولأن الزوج متى سعد بتسميتها زوجة أصبح غريبا عن بيته، بل أكثر بكثير من ذلك أصبح «أسيرا فيه»، حيث يجب أن يكون مطلق الحرية. فالباب مغلق بوجه أصحابه إذا لم يكونوا مقبولين عند سيدته، بينما هو مفتوح بوجه أصدقائها سواء رضي أم لم يرض، حتى ولو كان بعضهم من أعدائه. أمه مطرودة ومساء إليها في المعاملة ولو لم تكن تستحق. وأمها مقبولة مكرمة وهي وإياها على «رأس وقلب» ذلك المسكين. وإذ افتكر بكل هذه الأمور وكثير سواها، قال: أف لهذه المعيشة؛ فإن حلاوة بعض أخلاق هذه الفتاة لا تقاس بمرارتها، وعلى رأي المثل العامي: هي كالخرنوب «درهم حلو على قنطار خشب».
ثم قال: فلنر منة. إنها فتاة تختلف عن حنة تمام الاختلاف لأنها ليست «متأمركة» قط، بل هي لم تزل على أطباعها وأخلاقها السورية المحضة. هي جميلة الوجه جمالا طبيعيا، قامتها لم تزل كقامة أمنا حواء لم يضغط عليها المشد، ولم يرفعها ويغلظها اللبس بحسب تفصيله. هي متعصبة في الدنيا، حتى إنها تكره كل شيء غريب، ولا تنظر إلى شيء غريب، ولا تفعل شيئا غريبا، وتحسب بأن كل شيء غير سوري هو نجس منتن قبيح. ومتعصبة في الدين، فإذا ذكر أحد من غير دينها تقول بأنه «كافر» وتجل الناس عن ذكر اسمه. وتعتقد كما علمتها أمها بأن كل إنسان خارج عن دينها لا مكان له بغير جهنم، ولو مهما عمل من الأعمال الشريفة الصالحة. هي محتشمة، نعم، ولكن إلى حد أن لا تنظر إلى أحد ولا تكلم أحدا ولا تلج مجلسا، وإذا دخلته ترتجف من اضطرابها كورقة الشجر في الهواء. وأحيانا تبكي من الخجل. تصلي كثيرا، ولكن بدون أدنى معرفة بما تقول. لا ترتب شعرها ولا تنظف ثوبها لئلا تقول عنها العجائز بأنها «خفيفة»، تشتغل في البيت كثيرا ولكنها لا تحسن الطبخ جيدا؛ لأنها لم تتعلمه وليس لها به ذوق. ولا تحسن الاقتصاد المنزلي؛ لأنها لم تقرأ عنه شيئا، ولم تعاشر من يعرف هذا الأمر؛ لأن معاشرتها مقتصرة على النساء اللواتي مثلها. تضحي سعادتها لأجل سعادة أولادها وتخدمهم وتسهر عليهم بحنو عجيب، مما لا يوجد بقلوب ذوات الدلال مثله. ولكنه لا يأتي بالفوائد المطلوبة؛ لأن الحب من الوالدة وحده لا يكفي لحياة الولد الأدبية والمادية حياة مفيدة نافعة له وللوطن. تحب زوجها، تطيعه، تثق به، تعترف سرا وجهرا بأنه رأسها كما كان المسيح رأس كنيسته، وتضحي راحتها وسرورها لأجل راحته وسروره، وتقف منتظرة أوامره «ككلب الشمعة» مهما عمل يكون جائزا عندها لأنه «الرجل»، ولا يجوز في عرفها أن تعمل شيئا هي؛ لأنها «المرأة». ولكنها لا تكون قط له رفيقة وصديقة كما هي له زوجة ولأولاده أم. لا تقدر أن تشاطره أفكاره إذا كان لبيبا أديبا. ولا يقدر أن يستشيرها أشغاله إذا كان تاجرا أو صانعا. ولا يجد لذة بمعاشرتها إن كان ذكيا حاذقا. هي محبة لكنها عبدة، وزوجة ولكنها أسيرة، تشتغل آناء الليل وأطراف النهار في بيتها، ولكنه لا يكون قط مضيئا كما تضيء بأهلها وفرشها وكل ما فيها بيوت الغير. ولما افتكر بهذا أيضا وقابل هذه الفتاة بتلك، زاد كلوح وجهه ونزل عن تلك الطاولة وابتدأ يروح ويجيء بالمحل ويقول: إننا انتقلنا من «الدلفة لتحت الميزاب»، فإحداهما لينة تعصر والأخرى صلبة تكسر. الاثنتان متطرفتان. للاثنتين فضائل ونقائص، ولكن النقائص أضر وأزيد. فما تراه كان يصير لو وقفت المرأة «المتأمركة» عند حد الاعتدال، ولو تقدمت المحافظة نحو المعرفة والتمدن والعلم والذكاء خطوات؟ ماذا كان يضر لو كانت تخفض قليلا من كبريائها وتزيل شيئا من جهلها، مستعملة معرفتنا لإتقان واجباتها النسائية والزوجية والعائلية بمعرفة وإدراك كما تتقن ذاتها وثوبها ووجهها؟! وما كان أسعدني لو كانت منة تبقى على الفضائل الطبيعية التي لها وتحسنها بالعلم والتهذيب، وتنزع عنها رداء بعض العوائد السخيفة والاصطلاحات الذميمة الفاسدة المتلفحة بها من أم رأسها إلى أخمص قدميها، فتحجب بذلك جمالها الطبيعي وبعض فضائلها الغراء.
ولما وصل بتمشيه إلى الباب نظر موزع البريد آتيا فخرج لملاقاته لاستلام بريد الصباح، وبعد أن فض كتابا وأخذ يقرؤه ظهرت على شفتيه ابتسامة عدم الاكتراث والضجر؛ ذلك لأن عميله النيويوركي كان سائله في كتابه أن يذهب إلى المحطة في ذلك المساء ويلاقي ثلاث فتيات قد أرسلهن إليه ليقمن عنده ويشترين من محله بضائع ويبعنها.
ولما جاءت الساعة المعينة خرج أديب لملاقاة الفتيات متضجرا؛ لأنه كثيرا ما كان يخرج لملاقاة الكثيرين من السوريين القادمين من الوطن، ولا علاقة غير العلاقة التجارية له معهم.
وكان وهو ذاهب يحسب بأن أولئك الفتيات مثل كثيرات منهن يأتين في كل سنة، وهن بدون شك سوف لا يحصل له منهن نتيجة سوى النتيجة التجارية.
الفصل الثالث عشر
الانتقاد
وصل أديب إلى المحطة، فوجد القطار متأخرا عن ميعاد وصوله، فأخذ يمشي ذهابا وإيابا في المحطة بانتظاره، ورجعت إليه أفكاره؛ لأنه كان قد سئم معيشة العزوبة الناشفة المنفردة، وتاقت نفسه إلى محل يستريح فيه بعد عناء شغله المستمر، ويرى فيه وجها ضاحكا يستقبله، ويلمس يدا لطيفة تشتغل لراحته وسروره، ويناجي قلبا مخلصا طاهرا ينفتح له كلما دخل وخرج من ذلك المكان الذي هو البيت. فقال: يعود كثير من الشبان إلى وطننا لأجل الزواج، فلا يصلون إليه حتى يبتدئوا بالمراقبة من أول يوم، ولا تنقضي عليهم أيام حتى يخطبوا وبعد شهور يتزوجون، وبأقل من سنة، ويرجعون إلى أمريكا فيكونون قد عقدوا زواجهم على الطيش والعجلة قبل أن يختبروا أخلاق الفتاة أو تختبر هي أخلاقهم، وبعد أن يأتوا إلى هذه البلاد حيث زوابع وعواصف التمدن العصري تهب وتزعزع أسس قلاعهم التي لا تكون مبنية على صخر، وهذا ما لا أفعله؛ لأن الزواج حكمة وتبصر لا متاجرة ومضاربة.
ثم إن كثيرين هنا يتزوجون ولا يسعدون؛ لأن أساس زواجهم لا يبنى على المساواة والحب بل على مال الشاب والفتاة، أو على النظر باضطرار الشاب إلى الاقتران بامرأة؛ إما لتشتغل معه، وإما لتساعده وتوفر عليه باقتصادها، وإما لأنه يريد أن يتزوج وهو يجهل الزواج. فلعمري إنني لا أفعل هذا قط؛ لأن الزواج أصعب الأمور التي يأتيها الإنسان والمستوجبة للتحذر والروية. فسوف لا أتزوج غير الفتاة التي تصلح أن تكون زوجة فاضلة، وذلك بعد اختبارها؛ لأنني لا أطيق الافتكار بأنني بسعيي وراء هذا الائتلاف المقدس يجب أن أميت قلبي وقلب فتاة غريبة وقلوب أولاد في المستقبل.
وفيما هو على ذلك صفر القطار مقتربا حتى وقف، فتقدم إليه، ولما خرج الركاب كان كله عيونا تراقب، فلم ينظر القادمات، فقال في نفسه: إنهن لم يأتين.
ونزل من القطار بعد أن فتش كل عربة فيه فانزوى على الرصيف منتظرا مرور الركاب، ولكنه لم ير أحدا، فهم بالذهاب، وإذا بصوت عذب قد رن في أذنيه وجاء من ورائه خارقا أعماق قلبه، وكان الصوت صوت بديعة التي قالت: أظنه لم يأت. فنظر الشاب يمينا وشمالا ليرى من أين صدر ذلك الصوت العذب الذي تزيده عذوبة تلك اللغة العربية المحبوبة التي لفظ بها. وحانت منه التفاتة فرأى في زاوية أخرى ثلاث فتيات واقفات، ومنظرهن يدل على القلق وجهل المكان، فظن أنهن فتياته ولكنه ما لبث بعد أن نظر إليهن مليا أن حول وجهه وقال: كلا، إن هؤلاء أمريكيات أم أوروبيات؛ لأن ملابسهن لا تدل على أنهن سوريات في أول دخولهن لأمريكا. ولشدة انذهاله سمع ذلك الصوت مرة أخرى، وكانت المتكلمة الآن جميلة، فقالت: أظن أن ذاك هو الخواجة أديب ... فنظر أديب بغتة وإذ ذاك تحقق بأن هؤلاء الفتيات هن اللواتي يطلب. فمشى نحوهن بقدم ثابتة وهو معجب بهن. ولم تتم جميلة كلامها حتى نظرت الفتيات إلى أديب الذي وقف أمامهن مسلما منذهلا؛ إذ رأى ترتيب ملابسهن ونظافتهن وظرفهن، مع أن كل تلك الملابس كانت من الأقمشة المعتدلة الثمن ولكن ترتيبها ونظافتها صيراها تظهر نفيسة جميلة.
أمر أديب نظره على الفتيات الثلاث، فحسب ذات اللون الأبيض الأحمر والعينين السوداوين والشعر الأسود والقد الأهيف - وهي بديعة - أجمل الثلاث، وحسب لوسيا التي كانت أطول من بديعة قامة وأكثف منها لونا، أو أن لونها كان حنطيا مشربا بالحمرة وعيناها كستناويتين بلون شعرها ثانيتهن بالحسن. وأما جميلة فلم يحسبها جميلة أبدا؛ لأنه لم يكن فيها ما يروق سوى عينيها السوداوين اللتين زادهما ذلك الهم الداخلي ذبولا مؤثرا يفوق تصور البشر. ومع أن أديبا أعجب كثيرا بجمال الفتاتين وببساطة بديعة وهيئتها المحزنة، فلم يجزم بالحكم على أيهن أجمل حتى يجربهن ويرى من هي التي تفوق الكل بجمال نفسها فتكون أجملهن لا محالة.
وفيما هم جالسون في العربة عند ذهابهم إلى بيت التاجر بدا لبديعة من حديث أديب ما أقلقها؛ لأن الشباب أظهر لها التفاتا خاصا، وظهر منه إليها ميل لم يكن لرفيقتيها مثله.
ولا شيء يظهر كرم السوري المفرط وبذله المشكور مثل وقت الاجتماع والفرح؛ فإن أديبا في تلك الليلة دعا جميع أصدقائه والمتعاطين معه من السوريين، الذين حسب العادة تجمعوا ليسلموا على بنات وطنهم، وكانوا بدون استثناء معجبين بجمال وتهذيب بديعة ولوسيا، وانكسار وحزن جميلة التي لم تكن تقوى على إخفائهما بل كانت الأفراح تزيدها انقباضا.
واندفاعا بأمر خفي هو غير حب الربح المقبل من الفتيات أو القيام بواجب الضيافة، أظهر أديب في تلك الليلة جودا فائقا، وأحضر كثيرا من براميل الجعة وقناني المشروبات الروحية، وكان يدور بها على الجمع تكرارا وهو جذل مسرور؛ مما جعل العيون متجهة إليه وألسنة بعض الناس تلذعه بكلام التلميح، وهو يبتسم لكل هذا كأن شيئا أسمى من كل ما سواه كان يحقر الأمور في عينيه.
ونظرت بديعة بعين نفاذة، فرأت أن أكثر النساء الشابات - ولا سيما العزب منهن - ينظرن إليهن شزرا، وفي وسط ذلك الاجتماع كان شاب يكلم آخر باللغة الإنكليزية وينظر إلى الفتيات بطرف عينه ويبتسم، وآخر يتفنن جذلا ويتلوى يمينا وشمالا وينظر إليهن، وثالث يتكلم كلام خفة وطيش وينظر إليهن أيضا كأنه يتوقع «رأيهن في تهذيبه»، وهذا ما جعل بديعة تنفر من هؤلاء، وفي ذلك الوقت تلاقى نظرها بنظر جميلة صدفة، فعرفت كل واحدة ما تفتكر فيه الأخرى، وتخاطب القلبان؛ إذ لم يكن سبيل لتخاطب اللسانين، ولم تدريا أن قلبا ثالثا كان يخاطبهما في تلك الساعة؛ إذ نظر إليهما وعرف ما افتكرتا فيه، وقال: هل من الممكن أن تكون تلك الفتاة هي التي ينتظرها فراغ قلبي لتملأه ؟ وكان يعني بديعة ...
أما هذه فكانت منشغلة بمحادثة الناس والإصغاء إلى أحاديثهم، وكانت آيتها الذهبية أن تحدث الناس بما يسرهم لا بما يسر نفسها. وهذا ما كان يزيد حديثها طلاوة ويزيد الناس إعجابا ورغبة بمحادثتها ومجالستها، حتى دعيت فيما بعد «ملكة المجالس»، وبهذا كانت تفيد نفسها كثيرا؛ إذ إنها بنظرها لما يسر الناس من الكلام كانت تفتش عن أنفعه وأصحه، وكانت تمحصه وتزنه بفكرها قبل التلفظ به، فكان يأتي سالما من الغلط طليا مفيدا. وكانت لوسيا تلاحظ أثواب النساء «وموضهن»، وتنظر وتراقب الرجال لعلها تطلع على أخلاقهم مراقبة من تروم الاقتداء وترغب الزيادة. أما جميلة فقد رجعت بأفكارها المؤلمة إلى لبنان، حيث تجلت لها صورة والديها وصورة من خانها؛ لأنها رأت شابا هناك يشبهه فذكرها به.
وكان أديب يلاحظ بديعة وقلبه في عينيه، وأول دلالة رآها على آدابها هو أنها لحظت بأنها جرحت سيدة بكلامها على غير قصد منها، فغيرت حديثها بلطف حالا ولم تكمله دائسة إحساسات الغير بخشونة، أو تستعذر فستلفت أنظار الناس بغلاظة؛ لأن بديعة لم تكن كالنساء اللواتي يحسبن أن جرح إحساسات الغير بالكلام «عياقة وشطارة»، بل كانت تنسب هذا الأمر إلى قلة الأدب والخشونة وإلى النقص في التربية والأخلاق.
ومع أن بديعة كانت زعيمة الأحاديث في تلك الليلة لإصغاء الناس إلى أحاديثها الطرفة؛ فإنها لم تستأثر بالحديث، بل كانت تشارك وتصغي أكثر مما تتكلم أحيانا.
وما دهشت منه بديعة هو أن امرأة كانت تكثر من طرح الأسئلة على المحدث بشأن الحديث الذي كانت تسمعه، وتتكلم وتضحك بصوت عال جدا، وتستعمل لغة غير أدبية، وتنادي زوجها: «يا حبي ويا روحي»، وهو كلام وإن يكن جميلا بين الزوجين متى كانا منفردين فهو قبيح متى كان بينهما في المجالس. ثم إن تلك المرأة كانت تنادي الرجال بأسمائهم مجردة، مع أن هذا وإن يكن من الألفة والصلة الجنسية التي بيننا نحن السوريين، فهو يخالف التهذيب ويحمل على الاحتقار والريب.
وفيما هي تتأمل هذه السيدة أجفلت؛ إذ سمعت سيدة أخرى تقول بصوت عال لرجل أراد أن يحدث عن قصة: «إنني أعرفها.» فقال الرجل: إذا كنت تعرفينها فغيرك يجهلها يا سيدتي.
وسيدة أخرى أرادت أن تحدث عن شخص ما ولم تكن تعرف اسمه، فقالت: هذا ... شو ما بعرف اسمه ... وكانت هذه السيدة أيضا تتكلم بصوت منخفض لا يسمعه أحد، وهذا كالصوت العالي تماما في عدم لياقته.
وأنسى بديعة كل ما مر وجود فتاة بارعة الجمال في المجلس، عليها حلي وملابس ثمينة تبهر النظر، وكأن هذه الفتاة وجدت هناك لتظهر للناس كبرياءها وسوء تصرفها فقط، فلم يتكلم أحد إلا ضحكت منه وأصلحت له كلامه بدعوى أنه «غلط»، فكان حديثها كله نميمة في الغير واغتيابا لهم وضحكا من الحاضرين وإظهار الاشمئزاز منهم. وكان كلامها كله «مغلقا» أو «مبطنا» ذا معنيين. وكانت تبدي رأيها في كل أمر بدون أن يسألها أحد أن تفعل ذلك. ولم يكن شيء يدل على جهلها ويبرهن عن عدم تهذيبها وانحطاط آدابها عن الذين تذمهم إلا عملها هذا.
وبعد انقضاء تلك الليلة الساهرة أعدت للفتيات غرفة فذهبن إليها لينمن، ولما نزعن عنهن ثياب النهار وغسلن وجوههن جيدا ارتدين بثياب النوم، وطاب لهن الحديث على انفراد، والتحدث بما يراه الإنسان غريبا عنه طبيعي، وكانت البادئة به لوسيا التي قالت لبديعة: كيف رأيت هذه الليلة يا بديعة؟
فقالت بديعة: لماذا خصصتني بالسؤال دون جميلة؟
فقالت: لأنني أعرف طباعك وأنك خلقت لتلاحظي كل من وكل ما ترينه، فكأن دقائق حياتك معدودة عليك، وإذا لم تصرفيها بالأشغال فإنك تصرفينها بالأفكار.
أجابت بديعة بافتخار: صدقت يا عزيزتي؛ لأن الوقت ثمين والعمر قصير، ولكن أي بأس من الانتقاد العادل يا ترى، إذا لم يكن نميمة بل نصيحة وإرشادا أو ذكرى للغافلين الوناة؟!
قالت لوسيا: هذا ما حزرته، فإنك انتقدت أكثر من كان في المجلس، ولكن بماذا انتقدتني أنا وجميلة؟
قالت بديعة: صدقت في ما قلت؛ لأنني انتقدت البعض لإتيانهم ما أعرفه مغايرا للتهذيب والآداب، وانتقدتك وانتقدت جميلة ونفسي أيضا.
إذ ذاك قالت جميلة بهدوء: بما انتقدتنا وانتقدت نفسك.
قالت بديعة بجد: انتقدتك أنت يا لوسيا؛ لأن جلوسك على الكرسي لم يعجبني قط؛ إذ إنك كنت تتحركين وتضطربين دائما. وهذا ما تعاب عليه الفتاة الجميلة مثلك. وقد كنت تحركين يديك دائما وتلعبين بخواتمك وأساورك.
وأما أنت يا جميلة، فقد أتيت أمرا كان يجب اجتنابه، وهو أنك أظهرت حزنا وانكسارا فائقين مما جعل الناس يتساءلون عن السبب، وقد كان يجب عليك فعل أمرين: إما أن تتغلبي على حزنك فتخفيه، وإما أن لا تحضري المجلس أبدا حتى لا تجعلي لمن فيه سبيلا للتأويل. أما أنا فقد عملت ما هو أردأ من هذا، فقد قاطعت أحد الرجال بحديثه، ولم أتدارك الأمر إلا بعد أن فرط مني.
فاغتاظت لوسيا من كلامها، وقالت متهكمة: لو كنت معلمة أولاد لما وجدت تلميذا تعلمينه لصرامة قوانينك.
أجابتها بديعة بلطف. الشيء بالشيء يذكر، فإنني لو كنت معلمة أولاد لكنت أجتهد بأول الأمر أن يحبوني ويثقوا بي ويصدقوا كلامي. ثم أجعل همي الأول تعليمهم آداب السلوك وحسن التصرف ومعرفة المداخلة بين الناس بأدب وفهم وجرأة، وبعد هذا أعلمهم العلوم التي هي في درجة ثانية عن الآداب والتهذيب. فاعلمي يا عزيزتي بأنه لو كل معلمة ومعلم عرفا ما هي وظيفتهما في المجتمع الإنساني، وعرفا بأنهما وضعا بذلك المقام ليسدا أبواب السجون ومعاهد القمار ومداخل الحانات، وقاما بوظيفتهما حق قيام، لكان الناس يعيشون بنعيم وهناء على الأرض. ولكن بأسف أقول لك: إن أكثر المعلمين والمعلمات - وأعني في بلادنا السورية - لا يحسبون بأنه يطلب منهم إلا انتظار آخر الشهر لقبض أجرتهم وتدريس الأولاد ما درسوه هم على أساتذتهم، مع أن المعلمين والأساتذة خلقوا لأسمى الوظائف، وهي تربية الشعب وهو صغير وإعداده ليكون كبيرا، فتأملي بعظم هذه الكلمات وانظري إن كنت تفقهين معناها الحقيقي. وقد لحظت غيظك من انتقادي إياك، فعلى هذا أقول بأن «من قاسك لنفسه ما ظلمك»، وأي ذنب على مخلصة مثلي تمرن النفس على أمور مسلم بها من العموم أنها عماد المعيشة الحقيقية، ثم تبرزها نصيحة مجانية لأخوات تحبهن، فإن قبلنه وإن لم يقبلنه تكون هي قد قامت بواجباتها نحوهن؟
وعند هذا الكلام نهضت جميلة من فراشها وأقبلت نحو بديعة فقبلتها، وقالت: أما أنا فإنني أشكرك يا عزيزتي؛ لأنك بملاحظتك أنقذتني من عار كبير، ومن ملاحظات الكثيرين من الناس، وسأجتنب من الآن وصاعدا كل ما أعرفه أو يعرفه غيري بي ماسا للآداب والصيت.
فاغتاظت لوسيا من كلام جميلة؛ لأن الذي لا يحب قبول النصيحة يحظر على الناس قبولها إذا قدر ذلك ليكون كما جاء في الأمثال: «لا يحب الخير ولا يريده في الغير.» وللحال أدارت إلى الفتاتين ظهرها ونامت وتبعتها الفتاتان، وعند هذا الحد انقطع الحديث.
الفصل الرابع عشر
أول درجة من سلم الحرية
وفي صباح اليوم الثاني قرعت عليهما الباب عجوز كانت تخدم الخواجة أديب، وابنها كان يشتغل بمحله أيضا.
ولما استفقن قالت لهن تلك العجوز: ما مرادكن أن تفعلن يا عزيزاتي؟
فقالت بديعة: مرادنا نشتغل بما نحصل منه معاشنا؛ لأننا لهذه الغاية هاجرنا.
فتنهدت العجوز وقالت: وهل عرفت ما هو الشغل الذي يشتغل به أكثر المهاجرين؟
قالت بديعة: كلا.
قالت العجوز: إذن دعوني أن أخبركن عنه، هو ما يسمونه «بيع الكشة» يا بناتي، وهو الشغل الوحيد تقريبا للسوري في أول دخوله إلى هذه البلاد، ثم أشارت بيدها إلى صندوقة من خشب وحقيبة كبيرة فيها أقمشة كانتا موضوعتين في إحدى زوايا تلك الغرفة، وقالت: إن هذه الصندوقة الصغيرة فعلها كبير يا عزيزاتي، وهذه بالحقيقة قد ركبت ظهور أكثر السوريين، وقليلون منهم الذين لم يحملوها، ولا سيما بأول عهد المهاجرة. ففي هذه الصندوقة يضع البائع من كل أنواع الحلي والمجوهرات الكاذبة البراقة.
وفي هذه الحقيبة يضع من كل أنواع الأقمشة والملبوسات، وهذه يسمونها «كشة» يحملونها ويتجولون في المدن، وأحيانا كثيرة في الأحراج حيث يضطرون أن يقطعوا أميالا كثيرة ولا ينظرون فيها لا دارا ولا ديارا، وأحيانا كثيرة يضطرون للمبيت في الخارج حيث يفترشون الغبراء ويتلحفون السماء، يكدون ويجتهدون ويتعبون ويشقون ويتصبب عنهم العرق الكثير، ويطوفون أسابيع وشهورا في الغابات والبراري معرضين لخطر القتل والسلب والنهب، ولكنهم يربحون. وثلاثة أرباح المال الذي دخل بلادنا - وقد سمعتن به، وهو الذي ربما جركن إلى هذه البلاد - هو من هذه الصندوقة ومن الحقيبة. هذا هو بيع الكشة أو المهنة السورية الأمريكية باختصار.
فالتفتت بديعة إليها، وقالت بتفكر: إن التعب والنصب لا يهماننا؛ لأننا خلقنا لنأكل خبزنا بعرق جبيننا، ولكن ما يهمني هو الجولان في الأحراج والبلدان كما قلت.
قالت العجوز: اللواتي يكن مثلكن ذوات وجوه جميلة وثياب نظيفة يقدرن على التجول في المدينة براحة؛ لأن الأمريكية لا تغلق الباب بوجوهكن كما تفعل بوجه بياعة قذرة الثياب.
ولما نزلن إلى المحل في ذلك النهار لأجل «الاستبضاع» أو شراء البضائع اللازمة وترتيبها والجولان بها لاصقتهن نساء كثيرات كن «يتبضعن» أيضا وسردن لهن حديث العجوز تقريبا، فعند ذلك احمر وجه لوسيا غيظا، وقالت بنزق: إذا لم يكن للمرأة شغل غير هذا، فأنا أفضل الموت جوعا على أن أدور على البيوت وبيدي وعلى ظهري هذه الأحمال كالشحاذة، فإن المرأة لم تخلق لتكون دابة ...
فابتسمت بديعة وقالت للوسيا: «ما أهون القول عند العمل!» يا عزيزتي لوسيا أفلست أنت القائلة بأن هذه الأيام أيام بخار لا يهم المراكب فيها الريح بل تجري بالرغم عنها؟ فما بالك يوهن عزمك عند أقل صعوبة؟!
قالت لوسيا: إنني لم أحلم بأنني عند وصولي إلى أمريكا أمسخ دابة ...
وكان أولئك النساء قد اجتمعن هناك ينظرن إلى لوسيا، وقد «احمرت عيونهن منها» وأحببن مجاوبتها بكلام أحد من السهام، ولكن قاطعهن صوت أديب الذي التفت إلى بديعة وقال باحترام: وما هو رأيك أنت أيتها الآنسة بديعة؟
فأجابت بديعة باحتشام وصدق: رأيي أن العمل شرف وواجب، ويتضاعف شرفه إن كان لا بد منه، وإذا كان بطريقة أدبية مرتبة. فلعمري أي عار ببيع الكشة الذي هو تجارة متى تعاطته المرأة وهي مرتبة نظيفة الثياب، وإذا كان معها من يحمل لها تلك الكشة إذا كانت تقدر على ذلك، وإلا فتحمل هي «جزدانا» صغيرا جميلا في يدها؛ لأنه ليس العمل الذي يجلب الإهانة على صاحبه، بل الوسائط التي توصل إليه والتصرف الذي يرافقه، ولا أرى ماذا نعمل الآن ونحن غريبات نجهل اللغة وليس لدينا مال نستعين به على المعيشة إذا كنا لا نتعاطى بيع الكشة، فإن أصعب المشقات وأثقل الأحمال هو خير للمرأة من أن تكون عالة على سواها، وهي كطير مقصوص الجناحين يعتمد بمعيشته على سواه ممن لا يكون مطالبا به وبها.
وكان تأثر لوسيا من بديعة؛ الآن أضعاف ما كان من جميلة في تلك الليلة؛ لأن بديعة «أهانتها» - كما اعتقدت - أمام جماعة من نساء شامتات وشبان منتقدين، بينما كلام جميلة كان خصوصيا. وعوضا عن أن ترضخ لأحكام الحق وتقبل النصيحة أضمرت للفتاتين الشر وأكثره لبديعة.
حملت بديعة الكشة مختارة؛ لأنها لم تجد شغلا أنسب ولأنها - كما قالت - كانت تحسب شرف الأعمال بشرف الوسائط، وحملتها لوسيا مضطرة مرغمة، وحملتها جميلة غير مكترثة إلا لما يحول أفكارها عن همومها.
مضت شهور على أولئك الفتيات كن فيها على أتم اتفاق؛ لأن لوسيا كانت لم تظهر بعد عداوتها لرفيقتيها، وكن يذهبن إلى التجول والبيع من الصباح إلى المساء، وفي المساء يمكثن في غرفتهن يقرأن أم يطرزن، وعلى رأي بديعة يشغلن إما عقولهن بالمطالعة وإما أيديهن بالخياطة والتطريز وشغل البيت؛ حتى لا يتركن لألسنتهن وقتا للاشتغال بالنميمة واغتياب الناس. وعند الساعة التاسعة أو العاشر يذهبن للنوم لعلمهن بأن ساعة واحدة ينامها الإنسان قبل نصف الليل تهبه قوة لا تحصل له من خمس ساعات ينامها بعده.
وكثيرا ما كان أديب يراقب بديعة بانتباه زائد؛ إذ تجلس بعد رجوعها من شغلها وبيدها إما إبرة رقيقة تحركها بخفة ولباقة، وإما كتاب مفيد تنظر إليه وتطالعه، وكأن كل فكرها في عينيها حتى تضيع معنى من بين سطوره، وحتى يشرب دماغها فحواه فإذا فقدته لا تعود تأسف عليه؛ لأنها تكون قد وعته بفكرها على رأي أحد حكماء العرب. وكان ذلك الشاب المحب يتعجب من إيجاد بديعة شغلا لكل دقيقة من دقائق حياتها، وكيف أنها مع اشتغالها الزائد تجد فرصة في كل مساء للتمشي مع جميلة وأحيانا لوسيا أيضا - ومتى كان لها خاطر - مقدار ساعة أو ساعتين، وهذا مما كان يجعل وجهها نضيرا وصحتها جيدة دائما بالرغم عن مواثبة الهموم لها.
وبعد مرور تلك الشهور الصافية على الفتيات الثلاث ابتدأت أيام كدرهن؛ لأن لوسيا أخذت بإظهار البغض لبديعة ولجميلة، وكان أحب الأشياء إليها يصبح ممقوتا منها متى تكلمتا عنه أو فعلتاه.
وفي أول ابتداء داء «التأمرك المضر» في لوسيا ظهرت عليها أعراض «المعرفة أو التفلسف»، فكانت تروح بشيء وتجيء بآخر من أطباع وعوائد الأمريكان. وتخبر رفيقتيها عن أزياء وعوائد واصطلاحات تجري عليها الطبقة المنحطة من هذا الشعب العظيم، وهي معجبة بها ومستحسنة لها، وكانت بديعة تتعجب من كثرة اطلاعها على هذه الأمور في حين أنها هي مع جميلة تجهلها، ولم تدر بأن كلا يذهب مفتشا عما يناسبه ...
وكانت لوسيا تتكلم بأول الأمر عن تلك العوائد، وكأنها لما عرفتها وأحبت اتباعها أخرجت كلامها من حيز القول إلى حيز الفعل، فصارت تأتيها مسرورة حتى تبدلت أخلاقها تمام التبدل، وصارت تروح وتجيء أي وقت شاءت، وإذا عاتبتها بديعة تقول لها: «إن أمريكا حرية»، كلمة نقلتها من فتيات جاهلات من الشعب العظيم، وهذه آفته، وهي لا تدري بأن خرق حرمة الآداب وإتيان ضروب الخلاعة ليسا حرية حرية بالاعتبار؛ لأن من لم يكن مقيدا بقواعد الآداب لا يكون قط إنسانا نافعا.
وكانت بديعة تحاذر سوء عاقبة «تأمرك» لوسيا، وهي تحرق الأرم غيظا من بعض أعمالها، ولكنها بحكمة عرفت بأن الخشونة والغضب والبغض لا تجدي نفعا، وبأنه ليس كاللطف والمعاملة الحسنة لردع من ضل، وكانت كلما زادت لوسيا تمردا زادت بديعة معها لطفا وعليها أسفا.
ولم يكن لها من معين سوى جميلة الفتاة الحلوة التي كانت بسيطة الوجه حقيقة، ولكنها كانت «بارعة الجمال» عند من يفضل الجوهر على العرض؛ لأن التي تحصل كجميلة على نفس جميلة، تضيء من وراء ذلك الجسد الزائل وتبعث أشعتها من تينك العينين الفتانتين، لا تكون قط قبيحة.
ومع أنها لم تكن بعد بسمو مدارك وعقل وتهذيب بديعة، فإنها كانت قد اكتسبت منها كثيرا؛ لأنها عرفت كيف تستفيد من نصائح وآداب رفيقة مخلصة.
وما كان يثير غضب وحقد لوسيا بزيادة هو اعتبار العقلاء وثناؤهم على بديعة، وعوضا عن أن تنافسها كانت تجري على طريقة مناقضة لها وتحسدها وتضمر لها الشر.
وهذه آفة السوريين؛ فإن الحسد وإن يكن عاطفة غريزية في النفس، فإن له مجريين أحدهما لخير الحاسد والمحسود معا، بمنافسة الأول للثاني والكد والجد بالسير على طريقه ... والآخر ضار بالاثنين بمناقضة الحاسد لأعمال المحسود ثم السعي وراء أذيته، فيصطدم الاثنان مرارا ويسقط الحاسد في أكثر الأحيان، ويكونان بهذا اتبعا آية شمشون الجبار القائلة: «علي وعلى أعدائي يا رب.»
الفصل الخامس عشر
السير على الطريق السهلة
ابتدأ داء الكسل في لوسيا فكانت تفضل أن تذهب للتنزه أو تنام على أن تشتغل، والكسل باب الشرور، متى دخل قلب المرأة أضعفه عن كل نشاط وتقدم، وجرد بيتها أو كنسه من كل «جمال».
ولامتها بديعة على ذلك قائلة: يا عزيزتي إننا في بلاد تربتها نشيطة، فلا تتعب من إنماء المزروعات الجيدة وإعطاء الغلال والخيرات الكثيرة، وسماؤها جوادة فلا تمل من إنزال الأمطار صيفا وشتاء لإنماء المزروعات وإرواء الأرض لتعطي الخيرات والبركات للبشر، وعالمها عزوم نشيط حتى أصبح الشغل عنده هو الشرف، ولما كان لا يبغض أحد الشرف فلا يبغض الشغل في هذه البلاد التي يجب أن نحافظ فيها على آدابنا ونكسب منها نشاط أهلها ونحن الغانمون.
ولكن جواب لوسيا على كل نصيحة من بديعة كان «أن أمريكا حرية» وضاعف اغترارها بنفسها تهافت الشبان على مرضاتها. وكثيرا ما يكون الجمال سبب تعاسة المرأة التي ليس لها عقل يفوقه.
وفي المهاجرين تختلف حالة السوريين عنها في وطنهم؛ فبينما في الوطن يرقص الشبان بدور «غنجهم وترمقهم» عيون البنات، نرى في أمريكا الحالة بالعكس؛ لأن البنات في هذا المرسح راقصات، فالشاب السوري المهاجر يكاد لا يصدق أن يرى أية بنت ليقترن بها، وقلما يهتم بالحسب والنسب و«جاه العم والخال» مما هو رائج السوق في الوطن، وأقل من ذلك المال الذي صار يطلب من الشاب لا من البنت، ويمكن لبنت جميلة مثل لوسيا أن «تغمض عينيها وتكمش»، فأي شاب «طلع في يدها» يرضى بها إذا رضيت هي به، وهذا ما زاد الفتاة اغترارا بحالها وافتخارا بجمالها، لا سيما بعد أن تحول التفات الشبان كلهم إليها لعلمهم بأن لا نتيجة من بديعة وجميلة لتجنبهما الزائد.
وساعدت «السيدة موضة» على انتفاخ لوسيا إذ أمرت عليها يد التحسين والتجميل، فغدت بهجة للعين ونسيت تلك اليد التي ودعت بها رفيقاتها على «العين» فلم تعد تذكرهن ولا تذكرها ... كما أنها نسيت «بيت أبيها» ومعاملة خالتها لها، وكيف أنها كانت تحملها على الذهاب وراء المعزى لإيرادها ورعيها ... ولم تفتكر إلا في حاضرها إذا رأت ذاتها ملكة الدلال وربة الظرف وإلهة الجمال.
وكانت بديعة تنظر إليها بقلب ملؤه الإخلاص؛ لأنها كانت تخشى العاقبة إذ رأت بأن لوسيا «تقيس» أولئك الشبان وتقول عن هذا بأنه قصير وذاك قبيح، بينما الآخر جميل ولكنه فقير، وغيره حقير، وعلى هذا النسق حتى إنه لم يكن يعجبها أحد، ولكنها كانت تبتسم في وجوه الجميع وتقبل زياراتهم على السواء، وهي بسرها «تضحك عليهم»، وتفتخر بانتصارها على كل منهم وتسلط جمالها على عقولهم.
وغدا الشبان كما هي العادة يتسابقون إلى إهداء الهدايا النفيسة، والتنافس في أيهم تكون هديته أحسن من الآخر. ولعبت الغيرة بقلوب جميعهم حتى أوجدت التنافر فالتباغض بعدما كانوا أصدقاء أوفياء. ولا بغض كالذي يتسلط على قلب شاب يزاحمه آخر في حب فتاة. ولم تكن لوسيا تشعر بعظم وخطارة عملها الضار؛ لأنها لم تكن تعرف «الواجب» كبديعة، التي كانت تقول لجميلة عند اختلائها: لا شيء تفعله الفتاة أضر على الهيئة الاجتماعية من الأمر الذي تفعله لوسيا الآن، وهو ضار بالرجال والنساء؛ ضار بالأولين لأنه يعلم بعضهم الكسل والإسراف، ومن البديهي أن ذلك الشاب الذي يطمع بحبها ويلتذ معاشرتها لا يقدر أن يشتغل ما زالت هي منقطعة عن العمل، ولا يهمه المال بل يصرفه جزافا إكراما لذبول عينيها ومنافسة لغيره من الشبان الذين ينحون نحوه ويعم الضرر الكثيرين. وضار بالنساء لأنها تعطيهن المثل القبيح، ولا سيما لأولئك الفتيات اللواتي يكن أصغر منها سنا، إذ إنهن أول ما يفتحن عيونهن على العالم ينظرن برغبة ودهشة إلى أعمال الفتيات اللواتي يكن أكبر منهن سنا، ويحسبنها مرايا يجب أن تنعكس أشعتهن عليها.
ومن هنا تعلمين يا جميلة تأثير المرأة على الهيئة الاجتماعية إن في الخير وإن في الشر. فإن عمل امرأة واحدة يحسبه البعض لا يؤثر شيئا، هو بالحقيقة شبه حبة صغيرة تبذرها في عقول كثيرات من بنات جنسها، فتنمو ولا تلبث أن تصير شجرة كبيرة ويكبر نفعها أم ضررها بحسب طبيعتها.
وفي مساء أحد الأيام رجعت بديعة من شغلها قبل جميلة، فوجدت لوسيا في البيت تستعد للذهاب إلى حفلة رقص عمومية، وقد ارتدت بثوب لو رأته عليها إحدى وريثات الأمريكان لحسدتها عليه. فقالت لها مبتسمة وهي تكاد تتميز غضبا: لا مبالغة إذا شبهتك بالقمر؛ لأنك بهذا الثوب الناصع البياض، وهذا الوجه الجميل الفتان أبهى منه ضياء، فهل تنوين الذهاب إلى حفلة ما؟
فأجابت لوسيا بإعجاب: إنني ذاهبة إلى حفلة رقص حافلة مع سليم.
فاضطرب قلب بديعة من جوابها، وقالت لها بحزن وهي تقدم كرسيا لتجلس عليه بجانبها: آه يا لوسيا، إنني لو علمت بأن محبتنا - والتي هي ثمرة خمس عشرة سنة من المعاشرة - ستتحول إلى بغض في أمريكا لما دخلتها قط.
فرفعت لوسيا نظرها إليها وقالت ببرودة: ما دعاك إلى هذا الكلام يا بديعة؟
أجابت بديعة بحزن شديد: دعاني إليه ما أراه في كل يوم، من نفورك مني وإعراضك عني واشمئزازك من نصائحي التي كنت ترتاحين إليها قبل الآن.
فأجابت لوسيا بكبرياء ونفور: إنني لا أبغضك قط، ولكنني أعرض عن استماع نصائحك؛ لأنني فتاة قد علمتني أمريكا الاستقلال والحرية فصرت بغنى عنها، ولا يخفى عليك يا بديعة أن حكم نفس على نفس من أصعب الأمور ...
فتنهدت بديعة وقالت: إن النصيحة خدمة لا حكم يا عزيزتي، ولعمري إنه من المدهش انقلابك حتى صرت ترين الصداقة وما ينتج عنها من الغيرة عبودية؛ ولذلك ترومين الاستقلال كما قلت. وما هكذا تفعل جميلة التي تقبل نصائحي وأقبل نصائحها، وتحبني من عشرة شهور أكثر مما تحبينني أنت من عشر سنين.
فقالت لوسيا مبتسمة باستخفاف: إنني أهنئك بمحبتها، أما أنا فمع أنني لا أبغضك فلا أرى نفسي محتاجة إلى إرشادك؛ لأنني أعرف مثلك كيف أسلك الطريق القويمة.
فأثار هذا الكلام غضب بديعة، ولكنها تسلطت بقوة عقلها على إرادتها وكظمت غيظها، وقالت للوسيا بلطف بعد أن تقدمت إليها لئلا يسمعها أحد: وهل ذهابك في هذه الليلة مع شاب غريب - ليس لك في عشرته غير أيام - إلى حفلة «عمومية»، وكل من فيها غريب عنك، برهان على سلوك «الطريق القويمة»؟
فابتسمت لوسيا وهي تنظر إلى مروحتها الثمينة، وقالت: وأي بأس من هذا وأنا فتاة عزباء وهو شاب عزب؟ أوليست هذه هي العادة في هذه البلاد؟
وكانت برودة هذه الفتاة الجاهلة تزيد في حدة وغيظ بديعة أكثر من كلامها، ولكنها كظمت غيظها هذه المرة أيضا وقالت بلطف كالأول: هلا من بأس على فتاة جميلة نظيرك تذهب مع شاب غريب ليلا وتختلط بأناس لا تعرف أحدا منهم، ولا تعرف عن المحل شيئا، وهلا من بأس من تقولات الناس، لا سيما نحن السوريين الذين نحافظ على قاعدة الحشمة ونأبى ضم بعض هذه العوائد المتطرفة إلى آدابنا! أوليس من بأس عليك متى أحدثت للناس شكوكا وكنت حجر عثرة في سبيل حشمة الفتيات نظيرك، قلت بأن هذه العادة المتطرفة هي من عوائد الأمريكان! ولكن أنا أقول لك بأنها من عوائد الطبقات المنحطة منهم؛ لأن المرأة المهذبة من هذا الشعب لا تذهب إلى محل رقص عمومي ما لم تعرف عنه شيئا، ولا تذهب بدون أمها أو أبيها أو أخيها أو زوجها أو الشاب الذي تكون خطبته لها معروفة ومقررة. فأين أنت من كل هذا يا لوسيا؟ وما بالك قد ارتحلت إلى الأمور التي كنت تنكرينها في الوطن وكنت مصيبة؟ فإذا كنت قد ألفت الحرية الضارة حتى لا تكترثين لهذه الأمور التي تقتلع أصول الحشمة والصيانة من قلب المرأة؛ فإن بني وطنك يرونها بصورتها القبيحة، وسوف تندمين يا عزيزتي على إضاعة أيام الصبا بأمور هي مرارة أيام الشيخوخة.
ثم تنهدت أخذا للراحة واقتربت منها قائلة بصوت لا يكاد يسمع: إنني على ثقة من نقاوة قلبك يا لوسيا، وهذا ما يحملني على الغيرة عليك؛ لأن أنقى الناس قلبا أشدهم انخداعا بمكر الأشرار، فاسمحي لي بأن أقول لك بأنك إن بقيت على إهمالك وتساهلك وانخداعك بظواهر ومظاهرات بعض هؤلاء الشبان فأنت هالكة لا محالة؛ لأن هؤلاء وإن أظهروا لك اعتبارا واحتراما فهم ليسوا هكذا في الباطن؛ لأن الفتاة التي لا تصون آدابها وحشمتها عن الشاب لا يعتبرها هو ولا يصون لها ما هي أحق بصونه، وإذا أحب معاشرتها فلا يجب الاقتران بها إلا إذا كان جاهلا أو كان يرجو أن تغير سلوكها، وهذا نادر.
وقبل أن تنتهي بديعة من كلامها طرق الباب ودخل منه شاب طويل القامة جميل المحيا حسن البزة، فحيا بديعة ودنا من لوسيا التي وقفت له حالا، إلا أنها كانت متهيئة فأخذت بيده وخرجت من الباب وهي تقول لبديعة: «خاطرك.» ولما وصلت إلى حيث كانت العربة بانتظارهما ضحكت ضحكة عالية سمعتها بديعة فقالت: إنها تفضل هذه المعيشة التي فيها «السرور والبسط» على المعيشة الحقيقية، ولكن سيأتي يوم لا تعود هذه الأمور لذيذة لها كما هي الآن، وتصير تطلب مؤنة ذلك اليوم فلا تجدها، ويصح فيها مثل «الزيز والنملة».
وكانت ضحكتها لم تزل ترن في أذني بديعة، فقالت: ما معنى هذه الضحكة ... ثم ذكرت أمرا فقالت إنها ستخبر ذلك الشاب بالكلام الذي قلته لها ويشاركها هو في ضحكها مني، فمن الجهل أن ينهى الإنسان فتاة جاهلة غبية عن أمر صار يتعلق بشاب ما؛ لأنه بذلك يعرض نفسه لعداوتين بدل العداوة الواحدة: عداوة الفتاة وعداوة الشاب.
خرجت لوسيا مستندة إلى ذراع ذلك الشاب وهو يردد على مسامعها جملا ربما رددها على مسامع الكثيرات من الفتيات مثلها، وكل واحدة يقول لها ما هو قائل الآن للوسيا: «إنني أحببت قبلا ولكنني لم أعرف ما هو الحب الحقيقي حتى عرفتك.» كلام تغتر به تلك الفتاة الجاهلة وتصدقه، وهو ربما قاله لغيرها في اليوم الثاني. ومشت دائسة بقدميها الصغيرتين نصائح صديقتها المختبرة المخلصة، ولم تفتكر في أنها بذهابها أتت أمرا، وإن يكن جائزا عند ذوي التسامح والتغاضي من الأمريكان فهو غير جائز عند عليتهم ولا عند بني وطنها. ومن العجائب أن هذه الفتاة التي أتت ما يضر بنفسها لم تبال كبديعة التي وقفت تنظر إليها بأسف وحسرة.
ولحسن حظها وصلت جميلة في تلك الساعة مع امرأة كانت ترافقها واعتذرت كثيرا لبديعة عن تأخرها الاضطراري، وبعد أن ذهبت تلك المرأة إلى غرفتها نظرت جميلة إلى بديعة فوجدتها مضطربة جدا. ولما عرفت السبب قالت لها بقنوط: يجب أن نتركها وشأنها؛ لأنها قد تمادت في الغواية، ونصائحك لا تجديها نفعا، وهي فتاة متكبرة.
فقالت بديعة متنهدة: يا ليتها تعرف كيف تتكبر يا جميلة لأن من الكبرياء ما هو مفيد، كما لو تكبرت على معاشرة بعض الشبان وهي لا تحب الاقتران بأحدهم، وكما لو تكبرت على قبول هداياهم، والآداب تحظر على المرأة قبول هدية نفيسة من رجل غريب ... آه يا جميلة! إنني بقدر ما كنت سعيدة حين أنقذتك من الغرق أكون تعيسة إذا افترقت عن لوسيا بهذه الصورة.
فقالت جميلة بحزن: لا أدري ما الذي غير أخلاقها، فهل من دواء لدائها يا ترى؟
فقالت بديعة: لم يغير عقلها شيء، بل إنه قابل لهذه الأمور، وما كان «يقصرها عن صعود الجبل إلا الحفا»، أما الآن وقد لبست حذاء بخمسة ريالات ... فقد صارت قادرة على السير بسرعة كلية ... لأن ريح حرية أمريكا العاصفة لا تحرك الجبال الراسية بل تحرك العشب وتلويه ... فإنني أنا أفضل ألف مرة موت الجسد على موت النفس؛ لأنه إذا مات الجسد وكانت النفس طاهرة فإنها تبقي ذكرا حسنا على الأرض، وأما إذا ماتت النفس وبقي الجسد حيا فهناك الأثر القبيح.
الفصل السادس عشر
اللقاء وابتداء المصائب
ولبثت الفتاتان بانتظار لوسيا إلى قرب نصف الليل، فلما لم تأت ذهبتا إلى فراشهما ونامتا، وكان ثاني يوم الأحد يوما جميلا من أيام الصيف، فأحست بديعة بثقل وطأة الهموم عليها وأرادت أن تختلي بنفسها لتناجيها، وإذ علمت بأن هذا لا يتأتى لها بين الجماهير التي تجتمع في ذلك البيت نهار الأحد؛ لبست ثيابها النظيفة البسيطة وذهبت إلى حديقة البلدة لتريح أفكارها وتناجي نفسها.
لما صعدت بديعة إلى مركبة الترامواي لم تر شابا غريبا اشترى جوازا وصعد إلى المركبة الثانية التي كانت معلقة بمركبتها.
ولما وصلت إلى تلك الحديقة الجميلة انفردت عن جماهير المتنزهين وذهبت إلى مكان بجانب حوض الماء، وجلست على مقعد بجانب جذع شجرة من السنديان، وللحال تبادر إلى ذهنها ذكر تلك الحديقة التي كلمها فيها فؤاد بأمر الحب لأول مرة، وجر عليها هذا ذكر مصائبها الماضية والحاضرة كلها، فجلست تفتكر، ولما تمادت بالأفكار أحست بانقباض في النفس وضعف في العزيمة، وكانت تتوصل إلى الندم على ما فعلت وكيف أنها تركت الوطن بدون أن تشاهد فؤادا، ولما وصلت إلى هذا الحد رجع إليها رشادها وقالت لنفسها: يا له من ضعف معيب! إنني قد فعلت ما فعلت قياما بواجب الشرف، فما لي أخون هذا الواجب بالأسف الذي يوليني ضعفا، وأنا في بلاد غريبة تحتاج فيها المرأة إلى القوة النفسية لتحارب التجارب أكثر من احتياجها إلى كل شيء سواها.
وبينما هي جالسة وقلبها ينتعش وينقبض لهذه الأفكار لم تسمع وقع أقدام من ورائها، ولم تنظر إلى شخص كان ينسل ما بين تلك الأشجار بقدومه إليها. لكنها لم تلبث أن استفاقت من سبات أفكارها، ونظرت مبهوتة إلى ذلك الشخص الواقف أمامها، ولولا تعقلها ومعرفتها بأنها تعرض بنفسها لانتقاد الناس لصرخت بأعلى صوتها عند رؤيته. أما هو فنظر إليها مبتسما وقال: صباح الخير.
فأجابت بديعة قائلة: هل أنا في يقظة أم في حلم يا خواجة نسيب؟
قال الشاب: في يقظة؛ لأن لحاق محب هائم بك ليس من المعجزات، وهجره بلادا هجرها كل سرور لمهاجرتها ليس إلا أمرا طبيعيا بسيطا.
فاحمر وجه بديعة من كلامه، ليس خجلا أم حياء كما يقولون، بل حنقا وغيظا من قحته التي لم يدفعه إليها عهد سابق منها، ولكنها تجلدت وقالت بهدوء: ومتى قدمت هذه البلاد؟
قال كاذبا: من ثلاثة أسابيع. ولم يقل لها بأنه كان مسافرا معها وأن تأخره في نيويورك كان لغاية خبيثة منه.
فقالت له وهي مطرقة إلى الأرض بصوت المضطرب الخجل الذي يريد أن يقول مضطرا كلاما يخجل من قوله: إذن لم يمض على مفارقتك الوطن وقت طويل ... فكيف هو وكيف من فيه؟
فسر نسيب لهذا السؤال الذي جاء مطابقا لجوابه، وقال: إنه زاهر بهم ... وهم فيه بخير وهناء وسعادة ...
وعندما قالت بديعة: «هذا ما أرجوه.» صبغت وجهها هذه المرة الحمرة الحقيقية التي فيها بعض دم القلب يصعد إلى الوجنتين والأذنين.
ورأى هو مجالا للكلام والتلميح، فقال: إذن أنت لا تغارين. وحيث الأمر كذلك - وهو غير ما ظننت - فدعيني أخبرك بأن فؤادا رجع من المدرسة ووجد والده بانتظاره مع العروس فعقد خطبته عليها وأنا تركتهم على أهبة العرس وأتيت لكي ...
فقاطعته بديعة قائلة، وقد ظهر على وجهها ما كذب قول نسيب من أنها لا تغار: لكي تخبرني بالأمر وتجهز على قلبي الذي طعنته مرة من قبل، فمن صميم فؤادي أرجو لهما السعادة الملازمة؛ لأن هذا الأمر هو سعادة ومشتهى قلبي.
فنظر إليها مستفهما وقال: أصحيح ما تقولين؟ تتمنين السعادة لمن خانك؟
فقالت بديعة بهدوء: إذا كان هو خانني كما قلت أنت فأنا لم أخنه، بل إنني أحبه اليوم كما أحببته من قبل، وهذا الحب يحملني على طلب السعادة له؛ لأن معنى الحب الحقيقي هو إرادة الخير للغير.
فكان كلامها حرابا على قلب ذلك الشاب الخائن، وقال في نفسه: إنها خدمت في بيتهم شهورا فضحت لأجلهم أعظم ثروة وأكبر سعادة، وأما أنا فإنني لاعبت فؤادا طفلا وعاشرته يافعا ولازمته شابا «وأكلت معه بالصحن»، وخالتي ربتني بعد موت والدي، وزوجها علمني وأحبني، وهذا صنيعي معهم مقابل صنيع هذه الفتاة، ولكن ما لي ولهذه الأفكار الآن فقد بدأت ويجب أن أتمم.
ثم تأمل بعين فكره في هذه الجملة فقال: إن هذه الجملة هي آفة الكثيرين؛ لأن الإنسان الذي يسلك طريق الشر يعرف بأنه سالكها حين يكون في أولها أو منتصفها، ولكنه يقول: «ما عدت قادرا على الرجوع.» أو أن رجوعي لا يجدي نفعا؛ لأنني قد لبست ثوب العار، وهذا خطأ فاضح وضرر كبير؛ لأن الرجوع من أول أو نصف الطريق خير من متابعة السير على البصير المرعوي.
وبينما كان فؤاد يفتكر كانت بديعة تفكر أيضا، وقد جلست مطرقة تتصوره سعيدا بمن يحبها، فانفطر قلبها من الغيرة التي متى كانت معتدلة ولسبب حقيقي تكون بنت الحب الصادق.
ولكنها لم تلبث أن قالت لنفسها كما قالت لها قبل وصول نسيب: إن هذا هو الضعف يا نفس، فيجب أن تكوني قوية وتعرفي بأن الإنسان العاقل لم يخلق لذاته أيضا، بل للإنسانية حق فيه لأنه عضو منها ويطالب بالقيام بواجباته نحوها بقدر إمكانه. وما هي هذه الواجبات؟
هي مساعدة الفقراء بقليل من المال، وإذا لم يكن المال موجودا فبالكلام المعزي اللطيف. وقد قال أحد الحكماء: إننا لا نشعر بالسعادة التي يشعر بها الغير من كلامنا اللطيف لهم. فهذه السعادة قد ترجع الضال إلى حظيرة الآداب والفضيلة. وقد تشبع جائعا فينسى احتياجه إلى الخبز. وتسلي حزينا فينسى حزنه ولو لوقت. هذه مساعدة الإنسانية يأتيها الإنسان مهما كان خاملا ولا سيما المرأة. ومن يظن أنه لا يخدم الإنسانية إذا لم يخدمها كأكابر محيي الإنسانية يكون إما جاهلا لا يعرف بأن كل جزء صغير هو من كل كبير، وإما بخيلا لا يقدر على إتيان العظائم في الخير - وإن قدر لا يفعلها - ولا يعمل ما هو دونها ادعاء بأنها لا تحسب شيئا، وفلس الأرملة أكبر برهان على خطئه لو اعتبر.
وبعد أن مرت هذه الأفكار بمخيلة بديعة وهبتها قوة جديدة لمقاومة الهموم؛ لأن الذي يحب عمل الخير ويرغب فيه يجد به سلوى عن كل غم وهم في الحياة.
وكان نسيب وبديعة شعرا باحتياج كل منهما إلى سريح الأفكار في فضاء الماضي، فأعطيا لبعضهما فرصة، وكان أول من انتهى نسيب الذي التفت إلى بديعة وقال: قلت لك ما جرى باختصار، وقلت بأنني أتيت إلى هنا لكي ... فهل تعلمين لماذا؟
قالت: إنني أجبتك قبل الآن.
قال: لم يكن شيء من ذلك، بل مجيئي هو كي أطالبك بوعدك.
فقالت بلطف: لم أعلم بأنني مديونة لك بوعد ما، فهل لك أن تصرح؟
فقال: هل نسيت؟ هل ذهب عن فكرك ذكر تلك المرافقة إلى الضبية؛ إذ فتحت لي طريق العذابات، ولولا أملي بالسعادة المقبلة لما قدرت على تحملها.
وهذه المرة الثانية التي كذب عليها فيها؛ لأنه إذ أراد أن يوهمها بأنه كان في الوطن يقاسي العذابات لأجلها كان، في نيويورك مع رفيق له ينتقل من حانة إلى أخرى، ولما يمتلئ رأسه من الخمور يأخذ القلم ويكتب إلى خالته وإلى فؤاد مكاتيب الوشاية ببديعة ليمنع فؤادا عن اللحاق بها، حتى يكون قد أتم حيلته وفاز بالاقتران بها. ومع أن قصد نسيب كان حسنا من بديعة؛ لأنه رآها جوهرة فلم يرد أن يخسرها، وقال: المرأة الفاضلة لمن يجدها؛ لأن ثمنها يفوق اللآلئ.
وقد جعل واسطته شريرة قصير الغاية شريرة.
فظهرت على وجه بديعة لوائح التبصر والارتباك بغتة، وكأنها لم تفطن قط بأن ذلك الشاب يحبها وأنه خاطبها مرة بأمر الحب؛ لأنها هي لم تكن تحبه ولا يلازم فكر الإنسان إلا الشيء الذي يشعر به. فقالت له بجد: أجل إنني أذكر تلك المقابلة جيدا، ولكنني لا أذكر صدور وعد ما مني فيها.
فلحظ الشاب وتجاهل بأنه عرفه إذ قال: إذا كنت نسيت فأنا أذكرك بوعدك الذي كان قولك «بأن لكل مقام مقالا.»
وها أنا أطالبك بهذا القول؛ لأن مقال هذا المقام هو غير مقام ذاك. بديعة ... بديعة ... إن كل شيء تغير الآن، فإن فؤادا قد خطب وقد يكون تزوج الآن، وأنا قد هاجرت إلى هذه البلاد لأجلك - لأجلك فقط - وعلى كلمة من شفتيك يتوقف هنائي أو شقائي. فهل من العدل أن تحبي رجلا لا يحبك وقد خانك، وتنبذي محبة رجل كل غايته من الحياة أن يجتهد بجعلك سعيدة فيها؟
فقالت بديعة بغير تأثر: أنت يا سيدي صادق وأنا قد قلت بأن لكل مقام مقالا، وقد ظننت أن عقلي يتغير، أما وأنا لم أزل على مبدئي الأول فزواج فؤاد يزيدني ثباتا. وتراني الآن أصبحت أقوى على الثبات من ذي قبل؛ لعلمي بأن فؤادا قد تزوج وقد سلاني.
فصدقني يا خواجة نسيب إنني أفضل العزوبة على الزواج؛ لأنني لا أرى به إلا الشقاء، لأن الحب نور الحياة الزوجية وبدونه تكون الحياة مظلمة، وأنا قد مات قلبي عن الحب؛ لأنني أحببت حبا صادقا طاهرا، ولا أقدر أن أحب مثل هذا الحب غيره. هذا ما أشعر به في الوقت الحاضر، فلذلك أرى من التعاسة والخيانة معا أن أقترن برجل يحبني ولا أحبه؛ لأن الاحترام شيء والحب شيء آخر. فحياتي منفردة أناجي نفسي وأقوم بواجباتي نحوها ونحو القريب، وذلك خير لي من أن أكون مع رجل يقدم لي كل شيء ولا أقدر أن أقدم له شيئا؛ لأن كل شيء ما عدا الحب في الحياة الزوجية باطل.
فنزل كلامها على رأس الشاب نزول الصاعقة ومر عليه مرور البرق، فقال في نفسه: إن هذه الفتاة تجازيني على خيانتي وهي لا تدري، وهذا فعل العناية. ثم غاب هذا الفكر ورجعت أفكاره الأولى وقد خامر قلبه حب الانتقام من بديعة إذا أصرت على عنادها، ولكنه رغما عن هذه الانفعالات قدر على إحسان التظاهر.
فقال بلطف: إنك فتاة مخلصة وشريفة النفس، وحيث إن معنى الحب هو إنكار الذات كما قلت، فيا ليتني أكون قادرا على جمع شملك بفؤاد إحياء لقلبك العظيم بحبه وشواعره، ولو مات بذلك قلبي، ولكن هذا مستحيل، وأنا أسألك بشرفك أنك لو سئلت إبداء رأيك بفتاة قصتها كقصتك، وماذا يجب أن تفعل: تعيش بذكر حبيبها وحده، أم تتزوج برجل آخر تعتاض بحبه عن الأول، فماذا تجيبين؟
أجابت بديعة: أقول بأنها يجب أن تتغلب على الحب القديم إذا كان بالإمكان، وتعتاض عنه بالحب الجديد؛ لأن ما فات مات، وعلى رأي أحد شعراء الإنكليز: «الطاحون لا تطحن بالماء التي جرت بل التي تجري.»
فقال: إذن كيف لا تصفين دواء غيرك لنفسك وأنت أحوج من سواك إليه؟
قالت: لأنني لا أقدر ولا أظن بأنني أقدر فيما بعد على حب رجل آخر، كما أنني لا أظن أن كل فتاة تقدر على هذا الأمر أو كل فتاة مثلي تحب بأن يتزوجها رجل لا تحبه مختارة تكون أتت خداعا ومكرا.
فقال: غيري فكرك يا بديعة وارحمي قلبي الذي أضعه على أقدامك الآن وارتضي بالاقتران بي، فمتى تم اقتراننا وجربت حبي واعتباري وتفاني في مرضاتك تحبينني، وأنا أرضى بهذا الأمر لأنني أعلم بأن الفتاة الشريفة مثلك تكافئ الشيء بمثله.
فقالت بديعة مبتسمة: كثيرا ما سمعت هذا القول من الشبان للبنات، ولكنه قول باطل وإذا صح أحيانا فذلك نادر؛ لأن لا أمل بإحياء القلب الميت والمراد إحياؤه حياة جديدة تامة. والمرأة أو الرجل اللذين يرضيان بهذا الامتحان يكونان يسحبان ورقة «يا نصيب»؛ لأنه قد تحب الفتاة شابا حبا صادقا، فتفترق عنه وتتزوج بآخر «فتحترمه»، وتكون تحفظ لذلك الرجل زبدة الحب رغما عنها. أما أنا فلا أفعل هذا؛ لأنني لا أشرك بحبي، ولأنني إذا لم أقدر أن أمحو الحب الأول من قلبي فلا أحب ثانية، وأكون خائنة لزوجي بحفظي ذكر رجل آخر.
فقال: أما تتزوجين أبدا؟
قالت: هذا ما لا أعلم، إن المستقبل لله، ولكنني أتزوج متى رأيت رجلا يقدر أن يمحو حب فؤاد من قلبي، وليس قبل ذلك.
قال بحنق: إذن أنت لا تحبينني، وقد تحبين غيري؟
فعرفت هي ما ينوي، ولكنها لم تبال، بل قالت بصدق وجرأة: نعم إنني لا أقدر أن أحبك مع أنني أعتبر إخلاصك، وأود لو كان بإمكاني إجابة طلبك، لكن على رأي أحد كتبة السوريين: إن الحب ليس بغرسة يغرسها الإنسان أي وقت شاء ويقتلعها متى شاء.
فعند هذا الكلام وقف أمامها وتهيأ للذهاب، ورمقها بنظرة أحد من السهام قائلا: لا تستخفي بحبي يا بديعة ولا تضحكي من تذللي، بل اعلمي أن الحب قد يتحول إلى بغض، ويكون في هذا الوقت تأثيره أشد من الأول، فاحذري. قال هذا وتركها فريسة الأفكار وذهب.
الفصل السابع عشر
الإخلاص الحقيقي
وبعد ذهاب الشاب سقطت من عينيها دمعتان ربما كانتا شكرا لله على ذهاب ذلك الشاب عنها، أكثر مما كانتا حزنا على حالتها، ومع وفرة عقلها وصبرها قالت منقادة بغريزة الإنسان الذي يمل من التشكي: يا رب هل أنا مستحقة كل هذا؟ أعيش يتيمة فقيرة لا أحظى بحب الوالدين، ولا أعرف حنوهما، ولا يدفأ قلبي من حرارة تعزيتهما، ثم أسعد بحب شاب كنت أظنه محبا فأحرمه، وإذا بشاب وقح كهذا يتوعدني أو يعذبني وأنا في بلاد غريبة. أواه! إنني لا آمن من الذهاب للبيع وحدي فيما بعد، ولا أحب أن يطلع أحد على أسراري. وهذا الرجل سوف يلازمني ملازمة ظلي لي، وأي مكان رآني فيه سوف يردد على مسامعي جمله الحبية الباردة فكيف العمل؟
ثم تذكرت قولها لجميلة على ظهر تلك الباخرة من أن الإنسان خلق ليكون تعيسا إن كان فهيما عاقلا وسعيدا إن كان غبيا جاهلا.
ولم تحس بديعة بوجود شخص ثالث بالقرب منها يحجبه عن نظرها جذع دوحة عظيمة، وهو قد كان في ذلك المكان من مدة وقد سمع معظم حديثها مع نسيب، ومع أنه عرف بأن التنصت في غير محله من قلة الأدب فإنه فعل ما فعل متعمدا؛ غيرة على من يفديها بالروح واندفاعا بوحي خفي كان يدله على الحاجة إليه في ذلك الوقت. ومع أنه سمع تهديد الشاب للفتاة فلم يظهر نفسه له لئلا يجعل له سبيلا للغيرة الممقوتة. ولكنه بعد أن سمع تأوه بديعة ونظر إلى ارتباكها لم تطاوعه نفسه على ملازمة الحياد كما فعل في المرة الأولى بل مشى نحوها وقلبه يختلج في صدره، ولما وصل إليها قال بصوت ضعيف: لا تخافي يا بديعة فإنك لست وحدك.
فاضطرب قلب الفتاة وأجفلت كثيرا من كلامه؛ لأنها لم تكن بانتظاره، وهذه المباغتة كثيرا ما تؤلم الإنسان ولا سيما متى كان متحول الفكر إلى أمر مهم. ولم تقدر بديعة على المجاوبة حالا؛ لأن قلبها كان يختلج في صدرها اختلاج الطائر المذبوح، ولأنها كانت حزينة جدا لئلا يكون أديب قد سمع كلامها وكلام الشاب واطلع على سرها. وبعد أن هدأ روعها قليلا قالت لأديب بصوت مضطرب: وهل مضى على وجودك في هذه الحديقة وقت طويل؟
فعرف الشاب ما خامر قلبها حالا وقال، وهو لا يقدر على الكذب: من نحو نصف ساعة.
فاصفر وجه بديعة، واستأنف الشاب حديثه مطمئنا لها فقال: لما ذهبت ضيوفي أتيت إلى غرفتكن لأقضي الشطر السعيد من الوقت، فرأيت جميلة وحدها، وكنت نظرت لوسيا ذهبت مع سليم إلى النزهة ... فسألت جميلة عنك فقالت لي بأنك خرجت على غير عادتك ولم تعلميها بشيء، فلبست ثيابي واندفعت بعامل خفي للحاق بك، وسألت أحد الجيران الأمريكان عنك فقال لي بأنك أخذت الترامواي الفلاني، ولما وصلت إلى هنا وجدتك مع الشاب فهممت بأن أبعد كي لا أسمع الحديث لكنني لم أقدر؛ لشعوري بما يضطرني إلى البقاء، وبعد ذهاب الشاب سمعت تأوهك فكاد ينفطر قلبي، وأتيت لمساعدتك فعسى أن لا تحسبيني متطفلا.
فقالت بديعة بصوت مضطرب، وقد أثر بها كلام ذلك الشاب الأديب: إذن قد سمعت ما دار بيننا من الكلام!
فشعر أديب بأنها توبخه لإتيانه أمرا محرما في شريعة الأدب، ولكنه لم يقدر على غير ما فعل لما وجد بديعة في خطر، لا سيما وأنه رأى على وجه بديعة عند أول وصوله علائم الاضطراب والقلق وعلى وجه الشاب دلائل المكر والشر، فخاف عليها منه. وكان أديب قد شك بخروج بديعة وحدها على غير سابق عادة، فلما وجدها مع ذلك الشاب ظن أن خروجها كان لسبب، ولكنه لم يسئ الظن بفضيلتها قط، بل أحسنه، وقال: ربما كان هذا اللقاء لفصم عرى ودادية قديمة أو ما أشبه. وما يهم أن يكون لفتاة عاقلة شريفة كبديعة سر تكتمه وذلك السر خير لا شر.
ولكنه بعد أن جلس وسمع أكثر الحديث عرف سبب انقباض بديعة، ورأى له «باب فرج» من كلامها لنسيب بأنها لا تحبه وقد تحب سواه.
وقال أديب بصدق: نعم إنني سمعت أكثره فاصفحي عن ذنبي؛ لأن القصد كان حسنا.
فاضطربت بديعة من جهة لافتضاح سرها، وسرت من أخرى؛ لأن أديبا أتى في وقت مصائبها، وهي تشعر بحاجة إلى مساعدته، وكانت قد عزمت على طلب مساعدة جميلة وإفشاء سرها لها. ولكنها فطنت أن جميلة مع إخلاصها الذي لا شك فيه ليست سوى امرأة مثلها لا تقدر على غير التعزية والتسلية بالكلام. وذلك الموقف كان موقف عمل لا كلام. فاحتارت وشعرت بأنها بحاجة إلى مساعدة شخص أقوى من جميلة، أو إلى مساعدة رجل ضد رجل آخر؛ إذ لا يفل الحديد إلا الحديد. وكما أن جميلة كانت بإخلاصها وحبها بلسما لجراحات قلبها وقت التعزية، كذلك كان لا غنى لها عن مساعد يحارب معها ويذود عنها وقت الظلم والتجارب.
ولكن من يكون ذلكم الرجل؟ إن المهمة التي تطلب منه القيام بها عظيمة، فما هي مكافأتها له؟ وللحال تمثلت له تلك المكافأة بوجه أديب الذي كان أمامها يطفح حبا وعيناه تبرقان بأشعة الأمل. فعرفت بأنها واحدة وهي طلب يدها للاقتران؛ إذ لا يعقل بأن الشاب الذي يجرد سيفه للمحاماة عن فتاة ويوقف كل قواه لصيانتها يكون يحامي ويصون من لا تكون له، ومع شدة احتياج بديعة إلى هذا الشخص، ومع معرفتها بأنه لا يكون غير أديب؛ لأنها لم تر غيره أهلا لهذا الأمر، اضطربت وفضلت أن تموت موتا ولا تطلب مساعدة إنسان لا تقدر أن تكافئه المكافأة التي يريد، وهذه المكافأة مستحيلة بالوقت الحاضر؛ لأنها كانت تثق بشرف أديب وتعجب بآدابه وتحترم إخلاصه كثيرا وترتاح إليه كما ترتاح إلى جميلة، ولكنها كانت تميز بين الاعتبار والحب، فعرفت أن صداقتها له صداقة أخوية شريفة ولكنها ليست حبا على الإطلاق.
ثم تصورت أمرا فقالت لنفسها : إنني أكون جبانة لئيمة إذا اقترنت بأديب وأنا لا أحبه؛ احتماء به من نسيب، فإن هذه متاجرة بالقلوب وخيانة عظيمة.
وكان أديب ينظر إليها باحترام، وبقي واقفا وهي جالسة لزيادة في احترامها، ومع أنه لم يعرف ما هي أفكارها تماما فإنه عرف بأنها مضنكة للغاية تستدعيها الظروف الحاضرة، ولو عرفت بديعة كم هي شريفة نفس ذلك الشاب وكم هي مخلصة عواطفه لما تأخرت قط عن طلب حمايته التي كان يبذلها لها بدون مكافأة؛ قياما بواجب مروءة الرجل نحو المرأة.
ولما انتهت بديعة من أفكارها نظرت إلى أديب وقالت: إنك قد سمعت معظم القصة، فأرجو أن تجلس لأسردها لك.
ولما سمع الشاب قصتها حزن حزنا شديدا؛ لأنها كانت موضوع آماله الحاضرة ونجمة حياته المقبلة، وكان يود أن تكون له معها فرصة ليبوح بما في ضميره من حبها، ولم يستطع ذلك لتباعدها عنه وهربها من مخاطبته على حدة مخافة من هذا الأمر.
ولم يكن أديب يظهر حبه للفتاة في حركاته وكلامه ونظراته أمام الناس؛ لأنه أديب كاسمه ويعتقد بأن الحب مقدس لا يجوز عرضه للنواظر في كل ساعة ووقت، بل يجب أن يصان في القلب ليبقى على بهائه، وبهذا يكون الحب صادقا لا كاذبا، ويكون كقطعة نفيسة يخاف الناس عليها فيحتفظون بها، ولا يظهرونها إلا وقت اللزوم، وكان أديب دائما يقول: على الشاب العاقل كتم سر حبه في قلبه وامتلاك عواطفه متى كان مع من يحبه في مجلس ما، ويجب أن ينسى ذلك الحب قطعيا، فلا يظهره في عينيه وحديثه وأحيانا «تنهداته».
قال: هذه الأمور من الخفة والطيش وهي شائنة إن صدرت عن محبين سواء كان بعد الزواج أم قبله؛ لأن الزوج أو المحب الذي يعامل خطيبته أم زوجته معاملة متطرفة في خصوصيتها أمام الناس يكون يحتقرها، وهو مطالب باحترامها سواء كان بالنظر أم القول أم الفعل.
ولذلك لم يظهر عليه ميل إلى بديعة أمام الناس قط؛ لأنه كان يعاملها كما يعامل غيرها ولكن بأفضلية هي لها، من حيث أدبها وعقلها وإعطاء كل ذي حق حقه من التعقل، مع أن أديبا كان يحفظ لبديعة حبا ساميا عظيما قدرته هي قدره، وإن لم تشعره به. وكان لم يزل لأديب بارقة أمل فلما هدأ روعها قليلا قال لها بلطف: سمعتك تقولين لنسيب بأنك متى أحببت رجلا كما أحببت فؤادا تقترنين به، وأظن أن هذا ما حرك فيه ساكن الغضب.
فاضطرب قلب بديعة لإدراكها ما وراء كلامه من المعاني وقالت إذ عجزت عن السكوت: إنني قلت ذلك.
قال أديب: كم يكون سعيدا من بين رفقائه ذلك الذي يحظى بجوهرة يتيمة بين النساء. ورمقها بنظره ليقرأ أفكارها، أما هي فلم تدر بما تجيب، وللحال سقطت دموعها، وقالت بزفير: كفى كفى يا خواجة أديب؛ فإن ما بي يكفيني ولا أقدر على تصور الصديق الوحيد فالشرف في العالم يغلق بوجهي آخر أبواب الفرج ...
قال أديب: كأنك ترين بحب الناس لك ظلما؟ فإن كان هذا فلم لا تعاتبين ربك يا بديعة إذ جعلك بهذه الصورة النفسية والجسدية؛ حتى أصبح حب الناس لك أمرا مقررا؟! ولكن الحب الصادق والشريف منه ليس ظلما. قالت: نعم هو ظلم؛ لأني تعيسة جدا في الساعة الحاضرة وأرى بأن كل معروف لا أقدر على مكافأته لا يزيدني إلا تعاسة.
إذ ذاك قال أديب بلطف: إن كلامك يشف عن اعتقاد تام بصداقتي وثقة بشرفي، فدعينا نترك أمر الحب جانبا يا بديعة واسمحي لي بإلقاء خدماتي ومساعداتي على قدميك؛ فإن الصديق لوقت الضيق وأنت في أشد الأوقات ضيقا الآن، وتحتاجين إلى مساعدة، أنا لا أزعجك، أنا أحبك حبا عظيما صادقا وهذا الحب يدفعني إلى مناصرتك بما في الطاقة، فإن بدا لي وميض أمل كما أرجو فتكون سعادتي تامة، وإلا فحسبي أن أكون خادمك المخلص وأن تكون خدمتي لمنفعة من أحب، وأنا أرضى بالقليل إذا لم أحصل على الكثير يا بديعة، أنا أخدمك وأساعدك بكل أمانة ولا أقول بأن حبك ليس غايتي الوحيدة. كلا، بل أقول بأنني إذا لم أحصل عليه في المستقبل فلا أتهدد ولا أتوعد بل أرضى أن أكون خادمك المطيع وأخاك الصادق المحب.
وكانت بديعة تسمع كلامه الشريف وتبكي فلما انتهى لم تقدر إلا على الوثوق به، وقالت: إن اللسان أحقر من الجنان بكل شيء؛ فهو لا يقدر على بث عواطف الشكر عنه. فالله وحده يقدرني على مكافأتك.
قال أديب بفرح: آمين، لأن بمكافأتك حياتي ...
وكان الوقت إذ ذاك أصيلا فلحظ أديب تلبك وقلق بديعة الظاهرين، وقال: إنك لا تحبين الرجوع برفقتي خوفا من لغط الألسنة، ولكنني لا أتركك تذهبين وحدك ولو مهما حدث.
فقالت بديعة: إنك تقدر على قراءة أفكاري بسهولة؛ لأن فينا عادة - نحن السوريين - هي أن نحمل كل ما نراه على محمل سيئ، وذلك لعدم الفرق بين الناس ومعرفة عقولهم لنعرف منها أعمالهم ونحكم عليها. وكما أخاف من الذهاب معك أخاف من الذهاب وحدي؛ لأنهم سيشكون على كل حال وهذا ما يؤلمني؛ إذ إني أكره أن أكون مسببة للناس الشكوك.
فأجاب: إنهم بدون ريب سيعرفون بأمرنا وأننا التقينا مع بعضنا بسبب خروجنا من البيت كل بمفرده. فدعينا نذهب سوية وذلك ينجينا من خطر الطريق وخطر المكر.
الفصل الثامن عشر
تأثير المحبة
وكانت بديعة باستعداد تام لازورار الأعين والتلميح بالكلام، فلم تبال بهما كثيرا عند وصولها، والذي زاد بعدم مبالاتها هو ابتسامات جميلة الحلوة لها وقبلاتها الحارة.
ومن العجائب كان حب الواحدة للأخرى من هاتين الفتاتين، فقد يحتار الإنسان بما يدعوه إلا «حب الأم»؛ لأن هذا هو الحب الوحيد الذي تضحى فيه المصلحة الذاتية بسرور تام، والذي ليس للغيرة من أثر فيه. وهذا الحب عمومي تقريبا في الأمهات ونادر جدا في الأزواج والزوجات، وغير موجود ما بين الإخوان والأخوات، فلهذا كان يحسب كل ما يرى هاتين الفتاتين ويعرف ما هو حبهما لبعضهما أن كل واحدة منهما بنت الأخرى ... لأن كل واحدة منهما كانت تحب السرور للأخرى وإن كانت هي حزينة، وقد يظن القارئ أن كلام هذه المؤلفة تصور وهمي إذا قالت بأن جميلة مع أنها كانت بسيطة الخلقة فإنها كانت تسر من النظر إلى جمال بديعة الفتان؛ لأنها كانت عاقلة فلا تبغض أختها لأمر لم تكن صنعته إحداهما، وبديعة كانت تعيسة جدا بذلك الوقت ولكن لو قدر لها أن ترى جميلة سعيدة لسرت وتسلت بسعادتها عن تعاستها هي؛ لأن الغيرة لم تخامر قلبي هاتين الفتاتين. وكانت إذا فقدت الواحدة منهن شيئا حلوا ولذيذا في الحياة تسر ولا تحزن إذا وجدته مع أختها، وتشعر معها بالتلذذ فلا تحسدها لأجله، كما هي الحالة حتى بين الشقيقات أحيانا.
وقد يسمى هذا الحب «حب الأمهات»؛ لأنه وإن يكن عظيما ومعجبا بين فتاتين صديقتين، فهو تافه وبسيط عند الأمهات اللواتي يحببن التنازل عن كل شيء حسن لهن لأولادهن، ويكن سعيدات، فكأنهن لا يكن سعيدات، ولا تتمثل صورة آمالهن جميلة بأعينهن إلا في الأولاد، فيا ما أعظم هذا الحب من الأمهات! ويا ما أحقر ما يقابله به الأولاد!
فإن المثل القائل: «إن الجزاء من جنس العمل.» لا يمكن أن يتم بولد نحو والديه؛ لأنه مستحيل لولد مهما فعل أن يكافئ والديه وخصوصا أمه.
وبناء على هذا الحب سرت جميلة لما رأت بأن بديعة آتية مع أديب؛ لأنها كانت تعرف ما هو عليه الشاب من الأدب والغنى والشرف والجمال، فقالت: «إنه يليق ببديعة.» ولما جلست بديعة على الكرسي وهي مصفرة اللون من الانزعاج، لم تعرف جميلة ما جد لها، فصارت تلمح بالكلام وهي تكاد تطير فرحا لظنها أن أديبا قد خطب بديعة، ولحظت بديعة فشكرت حب هذه الفتاة في قلبها، ولكن الليل لم يأت جميلة بالأحلام السارة، بل أبدلها بالأحلام المزعجة؛ لأن بديعة قصت عليها قصتها بتمامها.
لما خرج نسيب من الحديقة تاركا فيها بديعة، حمله الغيظ إلى أول مركبة بانتظار الركاب، فركب فيها ولم ينظر وراءه إلى أحد.
وفيما هو جالس تتقاذفه أمواج الأفكار سمع ضحكة عالية، وكان الضاحك امرأة فقال في نفسه: ما أشد جهل الذين يقولون بأن في أمريكا تمدنا! ولكنه لم يلبث أن كذب نفسه؛ لأنه سمع الضاحكة تتكلم اللغة العربية مع رفيق لها فقال: يا للعجب! كيف أن هذه الفتاة تتكلم اللغة العربية وهي لا تخجل بها؟ فإن التكلم بهذه اللغة قد أصبح «موضة قديمة» حتى في بلاد العربية ذاتها. وبعد برهة تحقق السبب الذي من أجله تكلمت الفتاة هذه اللغة؛ ذلك لأن حديثها كان سريا، فقال في نفسه: إن السوري لا يتكلم اللغة العربية إلا إذا كان في سر يريد كتمه أو في كلام يخجل أن يقوله على مسمع من الأمريكان، وربما كان هذا رأيه؛ لأنه كان حديث العهد في أمريكا.
وبقي الشاب مصغيا لحديث الرفيقين، فسمع اسم «بديعة» و«أديب» مرارا وسمع النم والاغتياب في كثيرين، وهكذا بقي صامتا حتى عرف أسرارا كثيرة لو عرف أصحابها بإفشائها لفدوها بما عز وغلا. فهز رأسه وقال: ما أجهل هذين الشخصين اللذين يتكلمان مثل هذا الكلام في الأماكن العمومية، وهما لا يدريان من الحضور فهم لغتهما. وكان لذلك الوقت لم يلتفت وراءه ليرى من هما، فلما فعل عرف الفتاة التي رافقت بديعة في البحر ونظرها معها للمرة الثانية وهي لم تنظره.
وكان نسيب قد أعجب بجمال لوسيا من قبل كما مر، فلما رآها هذه المرة رأى بأن ذلك الجمال قد صار مزدوجا الآن؛ لأن لوسيا كانت مرتدية بأجمل ثيابها في ذلك اليوم «والصقل برداخ المادة» فلما نظر إليها قال في نفسه إذا لم أقدر على إقناع بديعة - وهذا ما لا يكون - فسأختبر هذه الفتاة فإن كانت مثل بديعة وقدرت أن أحبها أقترن بها، وإلا فإنني أرمي لها شراك حبي فأصطادها بها وأسلب منها مالها؛ لأن المال نفد مني ولا أقدر على الشغل. والعجيب أن ذلك الشاب مع كثرة شروره رام «اختبار لوسيا» ولم ينخدع بظواهرها مما يدل على أن في الرجل أمرين؛ الأول: أنه وإن يكن شريرا فهو يقدر على معرفة المرأة الفاضلة، والثاني: هو أن الرجل يحترم المرأة التي تحترم نفسها، وإن كانت عدوته اللدودة، فيا حبذا لو اعتبر بعض النساء هذا، واعتبر أيضا أن الرجل لا يسأل على نقصه، وإنما يطلب الكمال في المرأة ، وقد قيل إن المرأة خلقت لتكمل نقص الرجل.
وكان نسيب ينظر إلى لوسيا من تلك الساعة بتدقيق وهو يقول في نفسه: إنني رجل نبذت الفضل ولكنني أعرفه، والذي أراه هو أن هذه الفتاة خلقت لتكون زهرة ذات رائحة تنعش القلب ولكنها لا تهتم قط بأن تكون ثمرة، وهي لا تعلم بأن الزهرة يشم الإنسان رائحتها فقط وبعد حين تزول هذه الرائحة، وأما الثمرة فإنه يأكلها وتتحول في معدته إلى دم يتوزع من قلبه إلى كل جسمه.
ولما نزل الرفيقان أمام مرسح خارج البلدة - لأن الوقت كان صيفا - تبعهما نسيب ولم يلبث أن عرفهما بنفسه، فلما عرفا بأنه سوري مثلهما طلبا إليه قبول ضيافتهما والدخول معهما إلى المرسح ففعل، وكان ما بين كل فصل وفصل يلقي شباك مكره للوسيا التي عرف حالا بأن صيدها سهل للغاية.
ظنت الفتاة في أول الأمر أنها تلاطف نسيبا شأنها مع كل الشبان نظيره، الذين كانت تقبل هداياهم وتذهب نهارا معهم إلى المتنزهات، وليلا إلى المراسح، وهي لم تحسب عملها مغايرا للأدب قط؛ لأنها في بلاد تفعل عادات أهلها، ولكنها بالحقيقة كانت لا تميل إلى واحد من أولئك الشبان أكثر من الآخر، ولا تفضل واحدا منهم على سواه.
ولم تكن تنتهي تلك الليلة حتى شعرت لأول مرة بما لم تشعر به من قبل؛ بسرور زائد من محادثة نسيب وارتياح زائد إليه. ولما فارقهما وذهب إلى المنزل، أحست بأن بعضها قد فارقها وحزنت لفراقه.
وأول شيء فعله نسيب في صباح اليوم الثاني هو ذهابه إلى شارع السوريين وتعرفه بهم؛ لأنه كان له في تلك المدينة أيام لم يعرف أحد به وهو يترقب خروج بديعة وحدها ليراها، وثاني شيء كان تقربه الزائد من لوسيا واجتهاده بفصلها عن السكن مع بديعة وجميلة وعن معاشرة الشبان.
واندفاعا بالحب الذي أسر لوسيا بعد أن كانت آسرة استأجرت غرفة مع عائلة سورية وسكنت بها وحدها، وصار نسيب يأتي آكلا شاربا عندها، ولما يخرج تضع لوسيا في جيبه بعض الدولارات «لأجل الخرجية».
وهنا انقلبت الأحوال مع لوسيا انقلابا تاما؛ فإنها بعد أن كانت ملكة على كل الشبان أصبحت عبدة لهذا الشاب، وبعد أن كانت تهدى إليها الهدايا النفيسة أصبحت تهدي ما لديها لمالكها بعد أن أهدته أعظم الأشياء عندهما وهما «حريتها وقلبها».
وكانت مسرورة لأنها كانت تحبه، وهو يعدها بالاقتران بها حتى توفر المال الكافي لذلك.
وهكذا فإن هذه الفتاة رجعت إلى نشاطها الأول وكانت تشتغل دائما إرضاء لحبيبها.
الفصل التاسع عشر
المرض
وكان جل مقاصد نسيب من لوسيا آلة لمحاربة بديعة والانتقام منها بها، وكانت لوسيا مستعدة لهذا الأمر؛ لأن بديعة «عدوة حبيبها».
ولكن ما هو السلاح الذي استعانا به لمحاربة بديعة؟ هو سلاح الجبناء، هو اللسان الشرير الذي أداراه بالاختلاق والنميمة والكذب، والذي صورا به قصة بديعة عارا عليهما، وليس شرفا لهما كما زعما دون مراعاة للحقيقة، وهذه هي الحالة مع الأشرار في كل وقت؛ فإنهم إذ يعجزون عن إلحاق أقل أذى بمن هم شرفاء يتكلمون عنهم بما في ذواتهم.
أثر تواتر المكايد والشدائد ببديعة تأثيرا عظيما، وبالرغم عن تعقلها وصبرها أصيبت بمرض؛ لأنها كانت شديدة التأثر رقيقة العواطف.
مرض قلب بديعة فمرض لمرضه جسدها؛ لأنهما تآخيا بالنقاوة والطهر، وكان ما يشعر به الأول يشعر به الثاني، ولم تحرم بديعة إبان مرضها تعزية وتسلية أصدقاء كثيرين كانوا يوفونها دينها؛ لأنه «بالكيل الذي تكيلون يكال لكم وأزيد.»
وكان العقلاء من نساء ورجال السوريين يعزونها؛ لأنها كانت مثال اللطف والوداعة مع الفقراء والفضلاء، كما كانت صورة الترفع والأنفة على الجهلاء وذوي اللؤم، فنالت من كل منهم مكافأتها ...
والذي كان يخفف عنها بعض الألم هو وجود أديب وجميلة بجانب سريرها، فكانت تقول: إن المصائب لا بد منها بحياة الإنسان ولكن كم يكون الإنسان سعيدا وكم يكون الله يحبه متى كان له بمصائبه صديقان مخلصان وأخوان عزيزان كأديب وجميلة.
وكان أديب يحافظ على صحتها محافظة على أنفس شيء في الحياة، فأهمل في اشتداد مرضها شغله، وكان يتبادل مع جميلة قراءة الكتب لها والاعتناء بتمريضها ليلا ونهارا.
وكان أديب يكاد ينفطر القلب كلما رأى بديعة بهذه الحالة؛ لأنها كانت تذبل ذبول الزهرة كل يوم عن يوم، وهي باسمة صابرة، وكان أديب - وهو يعرف السبب - يتمنى لو قدر على لم شملها مع فؤاد، ويكون أول الفارحين مع حبه العظيم لها الذي لم تتغلب عليه الأنانية. ولكثرة ملازمة أديب لجميلة في مرض بديعة قدر على معرفتها أكثر من الأول، فإنه رأى بها صورة نفس بديعة وأخلاقها وأطباعها تماما وإن يكن بعضها أنقص مما هو في بديعة، فقد كان قريبا من المماثلة، ولو كان لجميلة وجه بديعة لكانت مثلها تماما ولكن ... قال أديب إن جمال النفس ثلثا المرأة وجمال الجسد الثلث الباقي، فإذا خير الرجل بينهما فإنه يطلب الأكثر لا محالة، ولكن إذا جمع الثلاثة في امرأة كما هي الحالة مع بديعة فتكون المرأة بالغة حد الكمال الممكن، وهذه نعمة ولكنها نادرة، فإذن يجب على المرأة أن تطلب أولا «الكمال» فإن عجزت عنه فلترض «بثلثيه» اللذين هما أفضل من الثلث، وهذا لا يهم وحده سوى الجاهلات.
ولكن جميلة لم تكن «قبيحة» ولم تكن «جميلة»، بل كانت «بين بين»، وكانت ذات عينين فتانتين تنبعث منهما أشعة الذكاء والفضيلة من فوق ذلك الوجه البسيط، الذي ارتاح إليه أديب أكثر من ذي قبل إذ رأى اعتناء صاحبته الزائد ببديعة، ولربما كان هذا ما دعاه إلى محبة جميلة على حد ما قيل: «حبيب إلى قلبي حبيب حبيبي.»
وكان من الناس الموجود منهم في كل مكان من يحسبون بأن ذكر لوسيا ونسيب «ضمة زهور» يهدونها إلى بديعة في مرضها. فيأتونها قائلين: قال نسيب كذا وقالت لوسيا كذا «ليربحوها جميلة» فكان جوابها: إنني لا آسف على اغتيابهما إياي بل أسفي هو على خسارة صداقتهما.
الفصل العشرون
السفر
في أحد الأيام أتى أديب إلى غرفة بديعة وأدلة السرور بادية على وجهه، ولما اقترب من سريرها وجدها مبرقعة بهيئة محزنة ومفرحة معا.
محزنة لأنها صفراء كالموتى، ومفرحة لأن هذه الصفرة ذاتها كانت مثال هيئة ملائكية وجمال غريب وهي مغمضة العينين، وقطرات العرق كحب من اللؤلؤ المنثور على جبهتها، ولما لم يشأ إزعاجها مشى بهدوء مفتشا عن جميلة التي وجدها في المطبخ تعد لها طعاما.
فقال مبتسما: قد أتيت لبديعة ببشارة حسنة فوجدتها نائمة. فقالت هذه بلهفة: وما هي؟
أجاب: إن نسيبا ولوسيا قد غادرا هذه المدينة إلى نيويورك لأجل السكن هناك.
فخرت تلك الفتاة المسكينة عند قدمي الشاب وقبلت الأرض قائلة: أشكرك يا الله فإن عزيزتنا قد أبلت مرضها.
فقال وهو معجب بإخلاصها: لا عدم هذا الإخلاص الشريف من البشر.
أجابت: إنني لا أكافئ بديعة بأضعاف أضعاف هذا الإخلاص لو كان لي.
فقال: لا غرابة فإن الجزاء الحق من جنس العمل، وبديعة مخلصة، وكلتاكما أهل لهذا الحب.
قالت: أطلب من الله أن يستجيب قولك فيقدرني على إنقاذ بديعة من المرض كما أنقذتني هي من الموت غرقا. فظهرت على وجه أديب لوائح الاندهاش وقال لها: من الموت غرقا؟
قالت: نعم. وقصت عليه قصتها بتمامها، فلما فرغت قال الشاب متأسفا: إن مصيبتك ومصيبة بديعة متشابهتان، ومن الظلم أن يكون هذا جزاء فتاتين شريفتين من البشر.
فتنهدت جميلة وسكتت؛ لأنها كانت تسكت أكثر مما تتكلم في أغلب الأحيان، وفي برهة سكوتها سمعت صوت بديعة تناديها فهرولت مسرعة إليها وتبعها أديب والفرح باد على وجه الاثنين، ولم تقدر جميلة على كتمان ذلك الأمر المفرح عن بديعة فأكبت على عنقها وقبلتها قائلة: قد أتاك أديب ببشارة تسرك وتشفيك إن شاء الله.
فتنهدت بديعة وقالت: ما هي يا ترى؟ ولكن قبل أن تقصاها علي دعاني أخبركما بحلم مزعج حلمت به، هو أنني كنت سائرة في طريق مقفرة وحدي، وكانت الأرض موحلة فسقطت رجلي في حفرة هناك إلى ركبتي والتصق بها الوحل، فعانيت كثيرا في سحبها منه ومشيت مسرورة. وبعد قليل وقعت في حفرة أعمق من الأولى بكثير، وإذ رأيت نفسي فيها خفت وصرت أصرخ إليكما وأقول: لتكن مشيئتك يا رب فإنني لا أكاد أخلص من حفرة في الحياة حتى أقع في أعمق منها ، ولولا أنني انتبهت الآن لكنت جننت لا محالة من الخوف.
عند ذلك اقترب أديب من سريرها قائلا: أبشري يا بديعة فإن حلمك قد صدق من جهة وكذب من أخرى؛ لأن نسيبا ولوسيا قد سافرا إلى نيويورك وسوف لا يرجعان، وهذه هي الوحلة التي خلصت منها، أما البئر فلم تقعي بها وحلمك من هذه الجهة كاذب.
فأغمضت بديعة عينيها عند سماع كلام أديب، وكأنها أرادت بهذا أن تحجب عن نظرها إخلاصه وحبه العظيمين، واللذين لا تقدر أن تبادله أحدهما كما يريد.
ومع أن بديعة لم تسترح كل الاستراحة من جهة حلمها، فإنها فرحت بذهاب نسيب كثيرا ورضيت بالحاضر مسلمة المستقبل لله.
ولا حاجة للكلام بأن بديعة أخذت تتقدم إلى الصحة؛ لأن الأمراض مهما كانت يؤثر بها الهم كثيرا، فكيف متى كانت مسببة عن الهم ذاته! ولما أخذ ذلك الهم بالتناقص، أخذ مرضها بالزوال شيئا فشيئا.
الفصل الحادي والعشرون
رأي بديعة في المهاجرة وبيع الكشة
وفي أحد الأيام دخل أديب إلى غرفة الفتاتين فوجدهما مشغولتين بخياطة ثوب لبديعة، فنظر إلى وجه هذه فرآه لم يزل مصفرا وعليه من الوهن والضعف أدلة، وكان أديب يحب محادثة بديعة كثيرا لأنه يرى لها إلماما ومعرفة بكل أنواع الأحاديث الأدبية المفيدة، فقال لها وهو ينظر في يديها الناحلتين بدون ملل: أي شغل أحب إليك من الثلاثة: الخياطة أم بيع الكشة أم ترتيب البيت؟
فأجابت بديعة، وكان لها رغبة وشوق إلى الحديث في ذلك اليوم: إن لذتي ليست بجنس وطبيعة العمل بل بالعمل الواجب عمله؛ فشغل البيت من واجبات المرأة الأولى، وهو أشرف أعمالها، والمرأة التي لا تقوم بأشغال بيتها بمعرفة وترتيب وأمانة لا تكون امرأة كاملة ولو كانت ملكة؛ لأن المرأة إذا لم تشتغل في بيتها بيديها يجب أن تشتغل بعينيها ولسانها، وذلك بملاحظة الخدم وإرشادهم. والمرأة على كل حال ملكة وبيتها هو مملكتها الصغيرة، وكيف نشكر هذه الملكة إذا لم تكن عارفة بأحوال مملكتها؟ أم إذا كانت عارفة وترى من العار إدارة هذه المملكة بذاتها ، ولعمري إن المرأة التي تلتهي عن شغل بيتها بشغل الناس تجد من أولئك الناس احتقارا ولا تكون إلا متطفلة.
وأما الخياطة فهي واجب المرأة الثاني، وهي إن تكن من شغل البيت أيضا فإنها فرع مستقل بذاته، فالمرأة يجب أن يكون لها إلمام بكل المعارف والعلوم، ولا سيما البيتية والاجتماعية منها. وهي أحوج إلى تعلم فن الخياطة الآن منها قبل سنين وأجيال؛ لأن «السيدة موضة» مسرفة للغاية وتوجب هذا الإسراف على رعاياها، وهي تأتينا كل يوم بفن لا بد لبعض النساء منه، فإذا لم تقدر المرأة على الاقتصاد في أثمان الملابس وأثمان تخريجها فلا أقل من الاقتصاد بأجرة الخياطة، وهذا الكلام يعم الغنية والمتوسطة الحال والفقيرة؛ لأن الثلاث سائرات على طريق واحدة تقريبا في هذه الأيام. فالأولى لا يضرها إن اقتصدت قليلا في أجور الخياطة بعمل ثياب أولادها وثيابها البسيطة إذا لم نقل غيرها، وينفعها إذا وزعت هذا المال الذي تكون سلت نفسها باجتنائه أو توفيره على الفقراء المعوزين بدون أن تمس مالها أو مال زوجها. والوسطى ينفعها هذا الاقتصاد كثيرا؛ لأن حالتها مكربة بالتشبه بالغنية التي لا يهمها الاقتصاد كما يهمها هي. وأما الفقيرة فهي مطالبة شرعا بتعلم فن الخياطة حتى تكون قادرة على لبس أثواب جميلة هي وأولادها؛ لأنها إذا كانت تخيط وترتب ثوبها تقدر على مشترى الأقمشة المعتدلة الثمن وجعلها جميلة صالحة للبس وخياطتها «على الموضة»؛ وبهذا توفر المال الذي يجب إنفاقه على الغذاء، وتصون ماء الوجه إذا كانت تضطر أن تذهب إلى عند فلانة وفلانة لتفصل لها هذا.
ومن واجبات المرأة البيتية القراءة أيضا؛ لأن المرأة التي تكون أمية تشتغل في بيتها بيدين فقط، وأما متى كانت تقرأ فإن أيادي كثيرة وعقولا كبيرة تساعدها على الشغل والاقتصاد والصبر وحسن إدارة البيت. ورب امرأة تقرأ مجلات مفيدة فتقدر على إدارة بيتها على نسق لا يكون في بلدتها أو وطنها أيضا، وتقدر أن تطبخ ألوانا من الطعام لم يكن أحد من أهلها أو بني وطنها ذاقها، وتكون قرأت هي عنها في كتاب طبخ.
وفضلا عن هذا فإن القراءة صابون الهموم، والمرأة البيتية أحوج الناس إلى غسل القلب والرأس بعد الاستراحة من شغل البيت؛ فالجريدة تسليها بأخبارها عن أتعابها وتسبح بها في عالم كبير لا تقدر أن تدخله وتعرف ما فيه، والمجلة تعلمها كيف تطبخ، وكيف تربي أولادها وكيف تهذب نفسها وتهذبهم، والخلاصة أن الجرائد والكتب والمجلات المفيدة تعلمها كيف تدنو من الكمال، وكيف ترى بعين فكرها غير جدران منزلها وبيت جارتها وكيف تقدر على مشاركة زوجها بآرائه ولذته متى أتى ليصرف وقت الراحة في البيت، وكيف تجعل له ذلك البيت جميلا ومبهجا وهادئا، وتكون هي فيه لصرف ساعات سعيدة بعد مجيء زوجها من أشغاله وانصرافها هي من أتعابها.
أما بيع الكشة فهو تجارة، وهو «جائز ومحرم» بحسب الظروف. جائز لأنه تجارة غير محرمة على المرأة متى كانت مضطرة إلى تحصيل معيشتها بذاتها. وهذا الأمر يتم بواسطتين هما التجارة والخدمة. والواسطة الأولى هي أشرف وأنفع للمرأة إذا قدرت عليها؛ لأنها تكون لائقة بها. وأما الثانية فإنها تأتي بعد الأولى، وبيع الكشة في هذه البلاد تجارة للمرأة وللرجل السوري على السواء، فإذا اضطرت المرأة إلى البيع وتعاطته بشرف وأدب تكون قامت بواجب العمل الشريف، وعرفت بأنه خير وألف خير للمرأة الفاضلة أن تكد وتتعب بالعمل الشريف لتحصل منه خبزها، من أن تأكل بكسل وخمول، أو تلقي اتكالها على أحد غريب عنها فتعيش ذليلة مهانة وهذا ما هو محرم.
إنني بكل حرية أقول وأنا آسفة بل حزينة: إن بعض نسائنا يتعاطين بيع الكشة إما دناءة وطمعا في جمع الكثير من المال والرجوع به إلى الوطن كيفما كان الأمر، وبعضهن يفضلن التجول والدوران والتنقل من بلد إلى بلد متاجرات، على ملازمة البيت والقيام بالواجبات التي خلقت لها المرأة، وقد رأيت بعيني سيدة لا تحب أن تأتي إلى البيت إلا أياما في السنة وترجع، وأخرى تقول: إن صدرها يضيق متى دخلت بيتها ووجدت زوجها مقطب الحاجبين عابسا وأولادها سيئي التربية قليلي الأدب وبيتها قذرا قبيح الفرش، وهذه النقطة التي أردت الوصول إليها؛ فما الذي صير وجه زوجها عابسا إلا أنه كان يأتي إلى ذلك البيت فلا يجد فيه من يعلمه اللطف والبشاشة؟ وما الذي صير أولادها قليلي الأدب سيئي التربية غير تركها إياهم وإهمالها لهم، يدخلون ذلك البيت يأكلون ويشربون فيه ويخرجون منه إلى الأزقة والشوارع التي ليست في عيونهم أقبح بل أجمل منه. وماذا يرون فيه يسرهم ويرغبهم في البقاء ضمن جدرانه؟ أهناك لطف الأم وحنوها وحبها الذي هو أعظم مسل ومرغب للأولاد في البيت؟ أم ترتيبها واعتناؤها بأجسادهم ونفوسهم اللذين يجعلانهم أغراسا نضرة تسر العين، وفيها أثمار لذيذة من الأدب تغذي القلب؟ إنهم لا يرون هذا ومتى خرجوا فإلى أين يخرجون؟ إلى الشوارع الملآنة بأولاد الطيش وعشراء السوء؟! إلى الحانات وطاولات القمار؟! وعلى هذا يشبون، فمتى تزوجوا بنساء كأمهاتهم جاهلات يبقون على حالهم، ولسان حالهم يقول: «من الدلفة لتحت الميزاب.» وإن بلا الله بهم نساء فاضلات من بيوت عامرة لا يقدرونهن قدرهن، ويعشن معهم بظلم وهم لا يلامون بل تلام أمهاتهم اللواتي هن نساء اليوم؛ لأنهن لم يجعلن بيوتهن كما قال أحد الحكماء: معامل للفضيلة. وقد كن منشغلات عنها بجمع المال الذي كان يقدر الرجل على جمعه وهو لهذه الغاية خلق ولم يخلق ليتبادل مع المرأة الصنائع والحرف فتذهب هي متاجرة بينما هو ملازم البيت مع الأولاد، أو متخلف في الوطن «عند الرزقات»، ومرسل امرأته الضعيفة لتحارب التجارب والمصاعب ببلاد أصغر ولاية من ولاياتها هي أكبر من وطنه.
هذا هو بيع الكشة يا سيدي، فهو خير وشر على الوطن وأبنائه، وكل الأشياء تتمشى على هذا النمط متى وضعت في غير مواضعها.
فعجب أديب من إصابة رأي بديعة وذكائها، فقال لها: أظن أن المرأة السورية في سورية أوفر راحة منها في أمريكا. أجابت: نعم ولكنها أقل نفعا وتهذيبا بوجه العموم، وغاية ما أقدر على قوله عن المرأة السورية المهاجرة والسورية المقيمة في وطنها هو أن الطبقة الأولى من نساء المهاجرات مجتهدات ويشتغلن في بيوتهن أكثر من نساء الطبقة الأولى في الوطن، وأما هؤلاء فإنهن ذوات رفعة وجاه وعظمة وخيلاء أكثر من أخواتهن المهاجرات، ولكن المهاجرات يفضلهن بأمر مهم هو نظافة بيوتهن من «اللعب»، وبكلمة أوضح، خلو أكثرها من موائد القمار التي دخلت كل بيت كبير في بلادنا تقريبا. وأما الطبقة الوسطى من المهاجرات فهي أكثر تهذيبا وتمدنا وأهدأ بالا من مثلها في وطننا، هي مجتهدة نافعة تكسب الوطن فضلا عن الأرباح المادية أرباحا أدبية عظيمة.
وأما الطبقة الفقيرة فقد جعلت نفسها وصيرتها والنساء فيها نشيطات مجتهدات فاضلات، وقد أخذن أن يتهذبن، ولولا المهاجرة لما كان لهن اسم يذكر، أما الآن فقد «خلقتهن المهاجرة» خلقة جديدة، ولها كل الفضل على تقدمهن المادي والأدبي، وما هن كذلك في الوطن بل هن هناك كالإماء.
ولما انتهت بديعة من كلامها أخرج أديب من جيبه خاتمين من الألماس، وتقدم نحو جميلة فوضع أحدهما بإصبعها قائلا: «هذا جزاء اعتنائك ببديعة.» ثم تقدم بالآخر نحو بديعة وقال: «وهذا جزاء مساعدتك نفسك على الشفاء العاجل.» وكان وهو يلبسها ينظر إليها بعين ملؤها الحب والإخلاص.
وفيما هو يضع الخاتم بيدها سمع صرخة قوية ورجلا يقول: يا خائنة! فنظرت بديعة وإذا بفؤاد داخلا من الباب وهو يزأر كالأسد، ونسيب من ورائه، فوقعت للحال مغمى عليها. ولما استفاقت وجدت نفسها تحت عناية جميلة، وفؤاد ونسيبا قد انصرفا. وبعد برهة نهض أديب الذي عرف من منظر فؤاد بأنه حبيبها ذاته، وخرج مسرعا وراءه وبقصده أن يلحق به فيخبره بقصة بديعة، ويسعى جهده للجمع بينهما، مع أنه كان يحبها المحبة المفرطة، ولكنه لم يجد فؤادا فرجع إلى حيث بديعة وأخبرها بالأمر.
الفصل الثاني والعشرون
رجوع الخواجة منصور إلى البيت
نترك الآن بديعة في أمريكا تتقدم إلى الصحة يوما فيوما، وجميلة وأديبا مسرورين من ذلك، بينما الأخير يلاحظها بعين يزيد بها الحب كل يوم. ونرجع إلى الوطن ... لما رست الباخرة التي تقل بديعة ولوسيا ونسيبا في مياه الإسكندرية مخرت من تلك الميناء باخرة تقل رجلا له علاقة كبيرة بالحادثة التي جرت لبديعة وحملتها على السفر، ولكنه كان جاهلا مجرى الأمور تماما ولذلك وصل إلى البيت مطمئنا.
ولما رست تلك الباخرة في ميناء بيروت نزل ذلك المسافر منها، وهو الخواجة منصور، ولما دخل بيته وقابل امرأته ارتاب في منظرها الذي كان يدل على تغير كبير، فسألها عما إذا كانت مريضة فأجابته: كلا. وهذا ما زاد قلقه؛ لأن امرأته كانت قلقة البال ومصفرة اللون وعلى وجهها وفي حديثها دلائل الانزعاج والاضطراب.
ولم يصدق أن انتهى من أشغاله، فدخل غرفة زوجته فرآها جالسة تفتكر في أمر هام، وكأنها اضطربت من قدومه.
أما هو فوقف بجانبها وألقى إحدى يديه على كتفها ووضع اليد الأخرى في جيبه، وقال: ما بالك مضطربة ومتغيرة يا مريم؟ فإنني منشغل وأظن أنه قد طرأ بغيابي ما ضعضع أحوالك وأحوال البيت والشغل. فقد أخبرني الكاتب بأن نسيبا لم يذهب إلى المحل من سبعة أيام والأشياء على غير انتظام هناك، كذلك قد أخبروني الخدم بأنك قد طردت بديعة من البيت، فلماذا هذا كله؟! ماذا حدث؟ أخبريني. ولما رآها تبكي من كلامه مسح دموعها بمنديله وقال: لماذا البكاء؟ هل أصاب فؤادا سوء؟!
قال هذا بلهفة واضطرب فأحوج زوجته إلى سرد القصة له بتمامها، وكان هو يسمعها ولونه يتغير من الاصفرار إلى الاحمرار ومنهما إلى الاخضرار، ولما انتهت نظر إليها نظرة كأنها كانت تنتظرها، فقابلتها بهدوء تام، وقال: جرى كل هذا ولم تعلميني بشيء يا مريم؟!
قالت: نعم؛ لأنني خشيت إزعاجك وغضبك.
فقال وقد ابتسم ابتسامة الغضب: لو كانت أمامي امرأة غيرك لكنت قلت لها: «يا خائنة» وأما أنت فلا أدري بماذا أكلمك ولا إلام أنسب سلوكك واستقلالك بهذا الأمر.
فبكت وقالت: ارحمني يا منصور؛ لأنني لم أكتم ما كتمت عنك إلا خوفا من غضبك، وظنا مني أن النساء أقدر على احتمال الهموم من الرجال. فقال لها بحدة: ولكنك لم تظني قط أن النساء الفاضلات لا يأتين حتى التافه من الأمور بدون علم رجالهن، فكيف والأمر عائلي محض للرجل كما للمرأة حق الاطلاع عليه وإبداء الرأي فيه إذا لم أقل أكثر؟ وقد نسيت على ما أظن بأن الزوجين يجب أن يتشاركا في هذا الأمر، ويكون لكل منهما رأي فيه فإن اتفق الرأيان كان الشيء أتم وأنفع وإن اختلفا ينظر بحكمة وعدل في الرأي الأصح، ومتى كان الأمر برأي الاثنين يرتفع الملام عن أحدهما ولا سيما عن الزوجة.
ولما كان هذا الجرح الوحيد الذي جرح قلبها به بحربة الكلام آلم السيدة مريم كثيرا، فرفعت نظرها الذي كان منخفضا إليه وكأنها ظنته يمزح، ولكنها لم تلبث أن رجعت فأطرقت إلى الأرض ثانية؛ لأن سهام عينيه كانت أحد من سهام كلامه.
وبعد أن ساد السكوت بينهما عدة دقائق قالت له بصوت أضعفه البكاء: إنني مخطئة يا منصور، وعذري لديك هو ظني أنني أنهي المسألة بدون علمك اتقاء لغضبك وتوفيرا عليك.
فقال لها باللهجة الأولى: نعم هذا ما ظننت، ولكن الظن فاسد. ولو نظرت إذ ذاك إلى الواجب لا المراعاة لعرفت بأن واجبك الأول هو الذهاب إلى زوجك في أوقات ضيقك، وليس إلى ابن أختك؛ لأنه إذا حدث أمر على غير علم الزوج فأول من يطلع عليه يجب أن يكون ذلك الزوج، وأما إذا كان الأمر مع الزوج فإن أول من يطلع عليه من المرأة الفاضلة الوالدان، فما الذي منعك عن الإتيان إلي عوضا عن الذهاب إلى نسيب وأنت تعلمين حبي وحنوي؟ وما الذي سول لك كتمان الأمر عني وفؤاد ولدي كما هو ولدك؟
قالت: لا كلام لي أقوله إلا الكلام السابق، وما ترى كنت تفعل أنت لو كنت مكاني غير ما فعلت أنا؟
فقال بأنفة: لو كنت علمت بالأمر قبل ذهاب بديعة لكنت رضيت عن اقترانها بفؤاد. فنظرت إليه امرأته باستطلاع، ولما قرأت الجد بعينيه ووجهه وجدت حجة عليه فقالت: وهل ترضى بزواج فؤاد بفتاة فقيرة يتيمة ... بخادمة؟!
قال بهدوء: إن الخدمة ليست عارا؛ لأنها عمل محلل وكل عمل محلل شريف، فأنت وأنا وكل إنسان في العالم خادم لسواه. وأما اليتم فهو أمر يدعو إلى الاحترام لأنه مشيئة الله، وأما الفقر فهو أحقر هذه الأمور شأنا؛ لأن ثروة المرأة جمالها، وبديعة جميلة النفس والجسد، وقد أحبها فؤاد وأحبته والحب يبارك كل شيء، وتحلله في الحياة الزوجية المساواة الأدبية.
فقالت إذ ذاك ببرودة وقد نشفت دموعها: إنني لم أعرف قط بأنك غيرت مبدأك من أن عدم المساواة يجعل الزواج تعيسا. قال: إنني لم أزل على هذا المبدأ، أقول بأن الزواج بدون مساواة لا يكون قط سعيدا، ولكنني لم أقل بأن المساواة بالمال؛ لأن السعادة بنت الحب الصادق، وهذا ينتج عن المساواة بالأخلاق والمشارب والأذواق، ولا أظنك تنكرين هذا ولما تزوجتك كنت مع أمك وأختك تشتغلن لمعيشتكن، ولكني لم أبال بهذا؛ لأنني أحببتك ورأيت بأن ثروة تهذيبك وجمالك تفوق ثروة مالي، فلم تفضليني ولم أفضلك بشيء وكانت حياتنا أسعد من كل حياة بين أصدقائنا كما تعلمين.
ولما سمعت كلامه نسيت موقفها وأنها مذنبة وقالت له بغضب: إنك تحتقرني بتشبيهك إياي ببديعة!
فقال ببرودة: إن بديعة فتاة مهذبة شريفة النفس، فإذا شبهتك بها لا أكون احتقرتك، ولكنني رمت أن أذكرك بالآية الذهبية التي هي: «اعمل بالناس كما تريد أن يعمل الناس بك.» وأنها ليست معروفة حتى عند سيدة تدعي التهذيب والفضل نظيرك. قال هذا وخرج من غرفتها غاضبا، وبقيت هي تنظر إليه ولا تتجرأ على أن تتبعه أم ترجوه الرجوع.
بقيت تلك السيدة المتعظمة طول ذلك المساء وحدها بدون عشاء وبعد أن راجعت قصتها وجدت نفسها مخطئة نحو زوجها وولدها ونحو نفسها أيضا، فمشت بقدم مرتجفة إلى مكتبة زوجها، فوجدته جالسا على كرسي يقرأ جريدة، ولما دخلت لم يكترث لها قط فجلست على كرسي آخر بدون كلام، وبعد أن انقضت على دخولها دقائق قامت وتقدمت إليه وجثت على ركبتيها طالبة الصفح والمساعدة.
فقال لها: إنك تطلبين مساعدتي الآن لأن نسيبا غائب، وما كنت تهتمين بالأمر لو كان موجودا، ولكن الحق أقول لك بأن نسيبا خائن، وقد حثك على طرد بديعة وإبعادها عن فؤاد؛ لأنه هو يحبها .
فسكتت عندما سمعت هذا الكلام، وفطنت لاجتهاد نسيب في الأمر وأن حبه الزائد لفؤاد لم يكن حبا مجردا، فلامت نفسها كيف أنها لم تترو أكثر، وكتمت عن زوجها خبر إعطاء المال لنسيب وكانت لم تخبره به بعد، وقد قصدت أن تخبره في ذلك الوقت لولا كلامه.
وبعد دموع غزيرة وتوسلات كثيرة استرضت مريم زوجها؛ إذ لا قوة على الأرض تقف في وجه غاية المرأة متى كان سلاحها خضوعها ودموعها، ولما وثقت من صفح زوجها ورضاه قالت له: من الضروري أن نزور فؤادا في المدرسة ونخبره بالمسألة.
فقال: إن هذا الخبر يكسر قلب الغلام، ولا أعلم بأية واسطة تقدرين على إبلاغه إياه.
فابتسمت إذ ذاك ابتسامة الظافر وقالت: أرجو أن تترك الأمر لي يا حبيبي حتى يكون انتهاء المسألة كابتدائها على يدي.
فقال هو مبتسما أيضا: أحب أن تخبريني كيف تقابلين الشاب، وما الذي تقولينه له، وهل تنوين قول الحقيقة أم ترومين خداعه هذه المرة أيضا.
فاصفر وجه مريم إذ رأت زوجها قد رجع «إلى الجد» في كلامه وقالت له بحزن: إن الصدق لا يجدي نفعا الآن؛ لأن ما فات مات، وأما إظهار الحقيقة لفؤاد فإنه يزيد في أشجانه وأشواقه إلى الفتاة وهي بعيدة، ويحدث في قلبه النفور مني وأصبح محتقرة عنده، ولا أظنك يا منصور بهذا المقدار قاسيا حتى تظهر مكري وخداعي لولدي الوحيد فيبغضني.
فقال زوجها بحنو وقد رق لكلامها: إنني لا أريد هذا قط، كما لا أريد أن أرى زوجتي المحبوبة الفاضلة موصومة بوصمة الخيانة والمكر، ومكتوبة على وجهها الجميل آيات الغدر.
فلما سمعت كلامه الصادق صاحت قائلة: كفى، كفى يا منصور! فإنني مذنبة ومن أقر بذنبه فلا ذنب عليه، ولو كنت أرى بالإقرار مغنما لكنت أقر، لكن الأمر قد صار ماضيا الآن، وأنا فعلت ما فعلت ليس لأجل نفسي بل لأجل من يفدى بالنفس - لأجل ولدي - والوالدة المحبة تشتهي كل شيء وعمل في سبيل سعادة ولدها، أنا ضحيت شرفي وذمتي لأجل ولدي، ويجب أن أكمل الضحية الآن وأموت. أنا قد بليت يا منصور، فإذا لم تساعدني على التخلص من هذه الورطة شريفة محبوبة من ولدي، فيمكنك أن تساعد ولدي علي وتلطخ اسمي بالعار عنده، ولكنني سوف لا أتركك ترى نتيجة عملك هذا؛ لأني أنتحر وأتركك ورائي خائنا قاتلا! ثم انطرحت على الأرض تبكي بكاء مرا.
أما هو فقام عن كرسيه يتمشى في الغرفة ذهابا وإيابا وهو مبلبل الأفكار، لا يريد أن يسلم مع امرأته بأمر يحسب قلة دين وعارا وكذبا، ولا يريد أن يرى امرأته محتقرة مبغوضة من ولدها كما قالت، وهو يخاف من أكثر من ذلك من أن تتمم وعيدها فعلا وتقتل نفسها؛ لأنها كانت ذات كبرياء شديدة تستهون كل شيء عند جرح كبريائها. وبعد أن تمشى نحوا من نصف ساعة وهو يطلب من الله المساعدة، خطر له أن يجاري امرأته على أفكارها ولا يخبر فؤادا بشيء، حتى إذا رجع من المدرسة يسفره إلى أمريكا ليجتمع ببديعة، وبهذا يكون قد قضى الواجبين بوقت واحد. ورجع إلى زوجته فأنهضها عن الأرض ومسح دموعها وطيب خاطرها، ولكنه نسي أن يسألها عن فحوى الكلام الذي ستقوله لفؤاد.
الفصل الثالث والعشرون
مواجهة فؤاد
في ردهة الاستقبال في مدرسة عينطورة الشهيرة جلس الخواجة منصور والسيدة مريم زوجته بانتظار مجيء فؤاد إليهما، وكان رئيس المدرسة يصف لهما حسن أخلاق وتهذيب فؤاد وسروره بنجابته وذكائه، وهو غافل عما يخامر قلبيهما وعن سبب زيارتهما؛ إذ ذاك وبعد برهة دخل فؤاد وهو يكاد يرقص فرحا من قدومهما إليه، ولكنه لم يلبث أن تراجع خطوات إلى الوراء بعد أن أدار نظره في الغرفة ولم ير بها سوى والديه، وحالا زالت عنه تلك الدلائل السارة، وبدت مكانها هيئة الكآبة والحزن، وكان والده ينظر إليه وهو عارف سبب حزنه، أما والدته فقد عرفت ذنبها ولكن كبرياءها التي كانت في حرب دائم مع حنوها وحبها منعتها عن إظهار الشفقة والحنان إذ ذاك، ولما سألها ولدها عن بديعة سرا أجابته إنها تخبره متى خرجا من القاعة.
وبعد أن استراحوا وقدمت لهم المرطبات، طلبت السيدة مريم من ولدها أن يخرج معها إلى حديقة المدرسة، وبقي والده مع الرئيس يتحدثان، فمشت تلك الوالدة مع ولدها ولا قدرة لها على مباشرة الحديث؛ لأنه كان مؤلما، وكان هو ينتظر بفارغ الصبر ابتداء ذلك الحديث، ولا يحب أن يسألها تأدبا. وكانا قد قطعا نصف الحديقة تقريبا والوالدة لم تتكلم بعد، ففرغ صبر الشاب وقال: إنني أخشى امتناعك عن الكلام يا أمي، فماذا جرى لبديعة فلم تأت معكما؟ قال هذا ونظر إليها ليسمع جوابها. أما هي فلبثت مطرقة إلى الأرض بدون كلام، فقال الغلام ثانية وقد زاد انشغال باله: أستحلفك بالحنو الوالدي يا أماه إلا صدقتني الخبر؛ لأن قلبي يكاد يتقطع من سكوتك.
فرفعت نظرها إليه وقالت: لو لم تكن مهذبا لما تجرأت على إبلاغك الخبر بنفسي ولكن ... فقاطعها ولدها الكلام وقال بتضجر: أرجوك أن تحذفي المقدمة وتقرئي الفصل، أخبريني الخبر مجردا؛ لأن حشاشتي قد ذابت ولو كنت تشعرين بقلبي لرحمتني. أخبريني ماذا جرى لبديعة؟
ولما قال هذا الكلام شعرت هي بتمزق أحشائها أيضا، ولكن تلك العدوة اللدودة بثوب الصديقة المخلصة - وهي «الكبرياء» - كانت واقفة لها بالمرصاد فلم تكد تهن حتى استرجعت قواها وقالت: «إن بديعة سافرت إلى أمريكا.» وكان إذ ذاك قد أشرفا على مقعد من حجر، فارتمى الشاب على ذلك المقعد وقال بصوت عال: «بديعة سافرت!»
أجابت والدته بهدوء: نعم إنها سافرت.
فقال الشاب بانكسار، ونظر إلى والده نظرة تفتت كل قلب إلا قلبها: قولي ماتت يا أماه ولا تخافي؛ إذ إن سفرها من المحال، فلماذا سافرت؟ ومع من سافرت؟
أجابت برزانة: لماذا سافرت؟ ذلك لأنها خائنة! ومع من سافرت؟ مع ذلك الخائن مثلها ابن خالتك نسيب!
فانتصب فؤاد واقفا، وقال غاضبا بصوت متهدج: ماذا تقولين؟! إنني لم أفهم كلامك فأرجو التصريح؛ لأن قلبي يتفتت. ولو كان الصخر مكان قلبها لتفتت فلم يكن انفجار ينابيع دموعها شيء كثير إذن وهي واقفة أمام ابنها تنظر إلى حزنه الشديد الذي سببته له إشباعا لكبريائها، التي ساعدتها على التجلد الآن فقالت له: لا أقدر أن أقول غير أنه بعد مجيئك إلى هنا ابتدأ تاريخ محبة نسيب وبديعة، وإذ لم يقدرا على الاقتران هنا سافرا إلى أمريكا مقترنين أو غير مقترنين لا أعلم ...
فكرر الشاب قوله: سافرت إلى أمريكا، هي ونسيب! إنني لا أفهم كل هذا.
قالت والدته: لا غرو إذا كنت لا تفهمه يا ولدي؛ لأنك لم تزل حديث العهد بمعرفة النساء، ولم تبل بعد بمكرهن وخداعهن، ولكن أرجو أن تكون هذه الأمثولة كافية لأن تعلمك التحذر منهن مرة ثانية وعدم الوثوق بهن بشيء «ولو قلن نزلن من السماء».
فقال: إنني أسمع هذا من كثيرين، ولكن صدوره عن واحدة من هذا الجنس يجعلني أن أصدقه ولكن ... هل بديعة ماكرة ومخادعة؟ إنني لا أصدق هذا ... إذ ليس كل النساء سواء.
قالت والدته مبتسمة: هنيئا لقلبك الطاهر وطوبى له! وبعد أن استرجع الشاب قوى نفسه عرف بأن والدته تحتقر بديعة باغتيابها، فقال في نفسه: إنني لا أطيق هذا ومع أنني أحب الانتقام من بديعة، فأحب أن يكون هذا الانتقام مني لا من سواي ولو كان «أعز الناس إلي». ثم نظر إلى والدته وقد أخذ لون وجهه الأصلي يرجع إليه وهو يتجلد: إنني أخطأت إذ قلت بأن الضربة قاضية؛ لأنني أرى من نفسي قوة عظيمة على الصبر واعتبار هذه المسألة من التوافه. فكادت والدته تطير من فرحها عند سماع هذا الكلام؛ لأنه غير ما كانت تنتظر، وظنت أن الولد رضي الرضى التام واقتنع، ولكنها - وا أسفاه - قدرت تحكم على الظواهر ولم يخرق نظرها الحاد ما وراء تينك العينين المضيئتين بالذكاء، ولا ذلك الوجه الهادئ لتعلم ما خبأ لها الدهر هناك من المصائب والويلات. وحالا طوقته بذراعيها قائلة وهي تقبله بحرارة: استعمل عقلك كسلاح لمحاربة هذا الأمر التافه يا عزيزي الذي هو لأجل سعادتك. ثم خطر في بالها فأمسكت بيده قائلة: فؤاد، لا أظنت تفعل شيئا من مثل اللحاق ببديعة أو الاضطراب والحزن إلى حد فقد صحتك وعلومك.
أجاب الشاب بسكينة : إنني قادر على قبر هذه الأفكار في صدري يا أمي إلى ما بعد انتهاء أيامي المدرسية، وإذ ذاك أرى ما يوافق الظروف؛ لأنني أفرد لكل عمل وقتا خاصا به.
فهلع قلبها لهذا الكلام الذي عرفت بأنه صائر لا محالة، ولكنها كتمت ما بها «لوقته» وأطاعت ولدها؛ إذ قال لها: يجب أن نرجع إلى حيث والدي لأنني مشتاق إليه.
فحزنت الوالدة لحب الولد لوالده وقالت في نفسها: ماذا يقول لو عرف؟ وهل أعود أستحق هذه الكلمة عنده يا ترى؟ ولم يخف على والده بأن تأثره من كلام والدته كان شديدا، فعندما ضمه إلى صدره وقبله همس في أذنه قائلا: إنني عرفت بكل شيء فلا تخف يا حبيبي؛ لأنني سأكون عضدك وأساعدك بالشيء الذي يشتهيه قلبك.
وبالحقيقة إن صبر فؤاد كان عجيبا نظرا لجيوش الأفكار التي كانت تحاربه، فإنه قضى باقي أيامه في المدرسة هادئا ساكتا؛ وذلك لأنه كان شجاعا يستصغر المصائب مع الصبر والعقل، وقد صدق فيه قول القائل من أن المصيبة تزيد العاقل قوة والجاهل ضعفا، وقد رأى بعين بصيرة أن احتياجه كان إلى الصبر والتجلد والتؤدة كثيرا، ومع أن عاطفة الحب كانت متربعة على دست الرئاسة في قلبه؛ فإنه أنزلها إذ ذاك وأجلس عاطفة الواجب مكانها، وما ذلك إلا لأنه يعرف قيمة الوقت وأن كل شيء يجب أن يعمل بوقته.
وما ترى كان يجديه الهم والجزع لو استسلم لهما؟ إنهما كانا يفقدانه قسما من صحته وربما كلها، ويعيقانه عن إتمام دروسه إن لم ينسياه الماضية منها فإنه كان يشعر بالحب ويحب معرفة أمر بديعة كما هو، ولكنه ترك هذه الأشياء لوقتها أي إلى ما بعد خروجه من المدرسة؛ فكان له من هذه الفكرة قوة على الصبر عظيمة.
الفصل الرابع والعشرون
في البيت ومكتوب بديعة
وفي آخر تلك السنة أحرز فؤاد الشهادة المدرسية ورجع إلى البيت مكلل الرأس بإكليل الفخر والمجد، ومكلل القلب بإكليل الهموم والأحزان التي كانت تستنزف دمه.
جارى والديه رغما عنه بإقامة حفلة أعظم من كل حفلة سواها إكراما لرجوعه ونجاحه، ولم يظهر عليه شيء من الهم أو الحزن لأنه كان يعرف كيف يقوم بواجبات الضيوف، ولو اضطر إلى إزعاج نفسه والضغط على عواطفه.
فجاء هذا العمل دليلا على وفرة أدبه، ومبعدا لشك الناس، ومنعشا لقلبي والديه الحزينين.
كانت تلك الحفلة مجلى الأبهة والجمال؛ لأن كل حفلة كانت تقام في بيت الخواجة منصور كانت تفوق على ما سواها، فكيف والحفلة هذه كانت إكراما لرجوع فؤاد من المدرسة وعلى رأسه إكليل الفخر والفوز، والذي زادها رونقا وجمالا هو استعداد البنات التام للظهور بأبهى حلل الزينة والجمال؛ لأن فؤادا كان قد أتم علومه في تلك السنة ... وكان في الحفلة فتاتان على طرفي نقيض: إحداهما جميلة جدا حتى إنها حجبت بجمالها الفتان النظر عن كل فتاة موجودة إذ ذاك، وأخرى قبيحة المنظر جدا ولكن الذي كان ينقص هذه من ضياء الوجه والعنق والزندين كانت تعوضه عليها الحلي الثمينة التي كانت كالكواكب المتلألئة على صدرها، وفي عنقها ويديها ورأسها، وما كان ينقص تلك من نور هذه الجواهر كان يعوضه عليها وجهها، وشتان ما بين الطبيعي والاصطناعي من الأشياء ... لذلك كانت الفتاة الجميلة مع بساطة ملابسها تستلفت الأنظار أكثر من الفتاة القبيحة مع نفاسة الملابس والحلي التي عليها.
وكان مع الأخيرة قريبتها التي كانت تجلس بجانبها دائما، والتي كانت ترتاح إليها بإفشاء أسرارها أكثر من والدتها نفسها. فبعد أن رقصت مع أحد الشبان رجعت إلى تلك المربية التي فتحت المروحة وأخذت تهوي لها، وهي متكئة بجانبها، ولما انتهت نظرت إليها قائلة: ما أبلد هذا الشاب! وأومأت برأسها إلى فؤاد.
قالت المربية: إنه ليس بليدا، ولكنه متكبر على ما أرى. فنظرت إليها الفتاة نظرة الاستخفاف وقالت: متكبر! إن هذا عذر جميل ... فهل تعلمين يا آدال ما أخبرني عنه بعض أصدقائه؟
قالت المربية: كلا.
قالت: قال لي بأنه يكره «الدوطة». وأنه قال عنها بأنها جدار عال يقام فاصلا دون رغبة الشاب في الأهلية بالفتاة، وأنها ضرر اجتماعي كبير في هذه الأيام بعد أن صار الشاب يطلبها قبل أن يطلب العروس، وبعد أن صارت تهمه هي أكثر مما تهمه العروس، ويرتاح إلى النظر إليها قبل اختبار أهلية العروس، وأنها كثيرا ما تدوس على الحب الحقيقي الذي هو أساس السعادة، فكأن الشاب الآن يعشقها دون الفتاة؛ ولهذا فإن أكثر الفتيات ييأسن من الراحة في الحياة إذا لم يكن لهن دوطات. ولكن مهما قال هذا الشاب الجاهل لحقيقة الأمور الآن فسيرى نور منفعتها من بعيد ويسرع إليه؛ لأن الأغنياء يتهافتون على «الدوطة» في هذه الأيام أكثر من الفقراء، فهي الكل في الكل. وأنا أفضل أن يكون والد كل فتاة رحوما كوالدي، فعوضا عن أن يبذل ماله لتعليم ابنته وتهذيبها «يصمد» لها هذا المال فيضيفه إلى دوطتها؛ لأن الفتاة متى كان لها دوطة كبيرة فإلى أي شيء آخر تكون حاجتها؟
فقالت تلك المربية بتدليس: لا بد منه للفقراء من الأغنياء، إن فؤادا لا يكون بهذا المقدار جاهلا يا سيدتي حتى يترك عشرة آلاف ليرة ... رغبة في وجه جميل أو طرف كحيل ...
ولما قالت المربية هذا نظرت تلك الفتاة بوجه الفتاة الجميلة وكانت جالسة بجانب والدتها، وتنهدت دلالة على أن كلامها عن الدوطة كان «فشه كربه»، وأنها هي ذاتها تعتقد بصوابيته، وقالت في نفسها: ما أجملها!
وكانت أم تلك الفتاة تقول لها إذ ذاك: إن فؤادا كان ينظر إليك وأنت ترقصين؟
فصبغ احمرار الخجل وجه الفتاة وأطرقت في الأرض من كلام والدتها. وبالحقيقة إن فؤادا كان ينظر إليها دائما، ولكن السبب هو أنها كانت تشبه بديعة؛ فهو كان ينظر إلى صورة بديعة وليس إليها.
ولم تحب والدة الفتاة قطع الحديث عند هذا الحد فقالت: إن الغني أول ما ينظر إلى الجمال؛ لأن لديه المال الكثير والجاه العريض وكل ما يشتري المال له. وعنده الخدم تطبخ وتربي الأولاد وتعتني بتدبير المنزل، والذي ينقصه هو شمس تضيء في منزله، وتنير فضاء بيته، وتكون بهجة عينه. وكم أنا سعيدة؛ لأنك أبهى وأنور من الشمس يا عزيزتي مرتا ... ماذا تهم الدوطة عند الجمال ؟!
فضحكت مرتا - في عبها - من كلام والدتها، ورفعت نظرت إلى فؤاد، وصادف أن هذا الشاب كان ينظر إليها الآن ويفتكر في بديعة، فاحمر وجهها وامتلأ قلبها سرورا ...
ولكن - وا أسفاه - أن جسم فؤاد كان في تلك القاعة حقيقة، ولكن فكره وقلبه كانا بعيدين ألوف الأميال عنها.
ولم يصدق فؤاد أن انقضت تلك الليلة؛ لأن الأنوار المضيئة ما كانت إلا لتزيد ظلمة قلبه ظلاما، وألحان الموسيقى وأصوات المدعوين ما كانت إلا لتزيد شجونه وتذكره بأنه قد خسر ما هو ألذ وأشهى إلى قلبه من كل هذه الأمور، وأنه حزين لأجلهم وهم فرحون. ومن الطبع أن حزين النفس لا تسره الأفراح؛ لأنها تزيد في حزنه وتؤلمه بتذكاراتها، وأما ما يسره فهو الجلوس مع من هم مصابون بمصابه يبادلهم الشكوى ويحسبهم رفاقه ويمزج دموعه بدموعهم فيغسل بها صدأ الأحزان عن قلبه، وكل يميل إلى جنسه؛ ولذلك لم يصدق أن انتهت تلك الحفلة التي كان كل من فيها - حتى والديه العزيزين - غير محبوب إليه.
ولما ذهب إلى غرفته جلس على كرسي ليستريح من العناء والأفكار بعد أن أوصد الباب، وكان جلوسه بجانب النافذة فأطل رأسه منها قليلا يتنشق النسيم العليل بكثرة عله ينتعش، ولما فعل رأى القمر مضيئا أمامه فنظر إليه متنهدا وحسده على ضيائه؛ إذ تذكر بأنه في مثل تلك الأيام من السنة الماضية كان قلبه منارا بما هو أبهى من نوره.
وبينما هو سابح في فضاء الأفكار، وسائر بنظره مع القمر، سمع طرقا خفيفا على باب غرفته، فنهض متعجبا من هذا الأمر، وفتح الباب، وإذا بخادمهم الأمين يوسف يقول: هل كنت نائما يا سيدي؟ قال فؤاد: كلا، فلماذا سؤالك؟ قال: لأنني واقف منذ دقائق على هذا الباب أطرقه ولم يجبني أحد.
فابتسم فؤاد وقال: إنني لم أكن نائما يا يوسف فما هو غرضك؟ فتناول الخادم من جيبه كتابا ونظر يمينا وشمالا ليرى إن كان أحد ينظر إليه، ثم ناوله إياه وقال بصوت منخفض: أتت اليوم فتاة وأعطتني هذا الكتاب، واستحلفتني بشرف أسيادي أن أسلمك إياه في هذه الليلة.
فأخذ فؤاد المكتوب منه، ولما قرأ العنوان كاد يرميه من يده المرتجفة، لكنه تجلد أمام الخادم، وصرفه عنه بعد أن شكره ورجع فأوصد الباب ثانية وذهب إلى كرسيه.
قرأ فؤاد كتاب بديعة فارتجف كالورقة، وكان وهو يقرؤه يشعر بنار محرقة من الكلام الذي جاء فيه، وباضطراب داخلي عظيم، وبعد أن أتم قراءته تضاربت أفكاره، وتكاثرت فلم يقدر أن يحكم: أكانت والدته صادقة وبديعة خائنة، أم كانت بديعة صادقة وقد ذهبت مرغمة كما دل فحوى كتابها؟ ولكنه على كل حال لم يقدر أن يصدق كلمة «خائنة»؛ لأنها كانت نارا محرقة تكاد تلتهم قلبه.
وراجع قراءة مكتوب بديعة مرارا فصدق إذ ذاك بأنه صادق وصادر عن قلبها؛ إذ قد قيل إن الكلام الصادر عن القلب يذهب إلى القلب، وأما الصادر عن اللسان فلا يتعدى الآذان.
وكان يردد في فكره جملة أخيرة جاءت في كتابها وهي:
متى رجعت إلى البيت واستلمت هذا الكتاب فاذكرني واسأل عني قلبك فهو يدلك.
فوضع يده على قلبه وقال: نعم، إنه يدلني بأنك بريئة يا حبيبتي، ولكن آه لو كنت أقدر الآن على معرفة سبب ذهابك. ولما ذكر «سبب ذهابها» ذكر قول والدته فيه، فاضطرب وقال: لا يبعد أن تكون بديعة كاذبة؛ إذ في النساء طبع هو أنهن يظلمن نفوسهن نفوس الغير، وينادين مستغيثات قائلات: «لله يظلم من ظلمنا!» ولهذا ارتاب في كلام بديعة. ولا يلام فؤاد إذا شك بصدق بديعة وهو رجل من الرجال يبدي رأيه في «امرأة» من النساء، وكل رجل يحسب «كل امرأة» مهما بلغت من الكمال النسائي لا بد لها من إتيان بعض الأمور الذميمة الموصوفة بها بنات جنسها، ولو كانت تخالف مبدأها، وهو يحسب بأن «العادة طبيعة» ولو كان مصدرها الجهل، وأن العقل يدني الإنسان من الكمال سواء كان امرأة أو رجلا، وأنه حيث وجد العقل مرشدا وجدت الفضائل الغراء السامية، ولا فرق بين المرأة والرجل بهذا؛ لأنهما من جبلة واحدة، ولكن ما يجعل المرأة تنقص الرجل في بعض الأمور هو جهلها، وهو كثير عندها، وقليل عنده وما عدا ذلك فالمرأة كالرجل بكل شيء.
فرحماكم أيها الرجال بالمرأة، وإذا قلتم عن البعض من هذا الجنس إنه «ماكر أو نمام أو ثرثار» قبلنا قولكم بشرط أن لا تقولوا: «كل الجنس»، وبودكم أن تبرهنوا بأن العلم والجهل عند هذا الجنس سيان؛ لأنه كما خلق يموت ولا يؤثر فيه شيء، وما هذا هو الحق؛ لأن المرأة مادة كمادة الرجل قابلة للتعقل والتهذيب، فمتى جربناها فيها كالرجل تماما يعرف إذا كان من فرق بينهما، ومتى فعلتم ذلك فلوموا نفوسكم على رذائل المرأة ولا تلوموها هي.
ولو كان فؤاد يقرأ كتابا من رجل إذ ذاك لصدقه وقال: «إن الرجل شجاع وصادق.» أما وهو من امرأة فقد قال عنها وهو حبيبها بأن مكر النساء مشهور ...
فهل هو العدل أن نسلم سرنا لأشقى رجل معروف ونكتمه عن أفضل امرأة مثلا، ونقول: إن الرجل يكتم السر لأنه رجل والمرأة تفشيه لأنها امرأة؟! ما أضل هذا الوهم الذي يماثله اعتقاد بعض الجهلاء من كل طائفة بأن الرجل الذي من طائفتهم يجب أن يعتبر ويحترم ويعترف له بالفضل رغما ولو كان من أشقى الأشقياء، كما يجب أن يحتقر رجل آخر ولو كان فاعلا الخير فاضلا صالحا ... والسبب هو أن الأول من مذهبهم والآخر من غير مذهبهم! اعتقاد فاسد سداه الغباوة والجهل ولحمته التعصب والمكابرة.
ولما ذهب فؤاد إلى سريره قال: «قبح الله مكر بعض الرجال والنساء!» لأن الشر يكون مشتركا بين الجنسين دائما، ولا يكون نصيب أحدهما منه أقل أو أكثر من نصيب الآخر، وهذه قصة بديعة وما شاكلها أكبر شاهد، إنما قضت الضرورة بأن يستقل الجنس الغالب بالخير وينسب الشر إلى الآخر، وأن ينصت الجنس المغلوب عن عجز وضعف. وما كان الله ظالما وجائرا فهو لم يخص النساء بالشر والرجال بالخير، بل خلق الجنسين وخلق الفضائل والرذائل متساوية بينهما.
الفصل الخامس والعشرون
سفر فؤاد ووصية أبيه والتقاؤه ببديعة
وفي صباح اليوم الثاني تناول فؤاد القهوة مع والديه حسب العادة، وذهب مع والده إلى المحل، وفيما هما في العربة قال فؤاد لوالده: أنسيت قولك لي في المدرسة يا سيدي من أن تساعدني؟
أجاب الوالد ببشاشة: كلا، وأية مساعدة تريد مني؟
قال: إنني اعتزمت السفر إلى أمريكا بقصد مشاهدة بديعة، فإن وجدتها بريئة أنصفها، وإن وجدتها مذنبة أشعرها بأنني قد عرفت بخيانتها. ومساعدتك لي تكون رضاك عن ذهابي لا غير. قال والده: إن وعد الحر دين عليه، وأنا لا أمانعك بالذهاب بشرط أن تعرف بأن تساهلي معك هو من حبي لك، وأن هذا الحب يطلب المكافأة، التي تكون برجوعك إلي وإلى والدتك بأقرب فرصة ممكنة.
فقال الولد: إنني أطيع يا سيدي، ولكن هل تفتكر بأن بديعة خائنة كما قالت والدتي؟
فقال الوالد: وكيف أقدر أن أحكم على أمر حدث بغيابي؟! عند ذلك ناوله ولده المكتوب وقال: إن والدتي قد أخبرتك بالقصة، وهذا مكتوب بديعة فاحكم بين الاثنين.
وبعد أن قرأ الوالد الكتاب وعجب من شهامة بديعة أرجعه إلى ولده وهو يقول: وهل أنت في ريب من صدق كلام والدتك يا فؤاد؟
وكان قصد الوالد أن يعرف أفكار ابنه. أما هذا فظن أنه مذنب بكلامه وأن والده يوبخه، فقال بلطف: كلا يا سيدي فإنني أصدق كلام والدتي الشريفة، ولكنني افتكرت بحدوث سوء تفاهم فقط.
فقال والده متنهدا: إن كلامك في موضعه؛ لأن ما استنتجته من كلام الفتاة هو أنها شريفة النفس تعرف الواجب، وقد يكون ذلك الغادر نسيب فعل ما فعل وموه على عقل والدتك بأن بديعة مذنبة أو غير ذلك، فلا تحفل بأمر قبل أن تتحققه بنفسك.
سمع فؤاد هذا الكلام من والده فنسي بأن المتكلم عنها هي تلك الفتاة التي كانت مبغوضة منه من ساعة، وبرهانا على فرحه الزائد من كلامه أخذ يده عن ركبته وقبلها قائلا: إنني أشكر حسن ظنك بالفتاة يا سيدي، فأنت تحبني أكثر من والدتي؛ لأنك لم تجرح قلبي كما فعلت هي.
ولا عجب إذا ارتاح فؤاد إلى كلام والده؛ لأن الإنسان متى كان مرتابا في أمر أو بشخص ما يكون فرحه شديدا متى سمع تبرئته من سواه، وحزنه أشد متى سمع تذنيبه.
وأحدث كلام فؤاد في قلب أبيه تأثيرا عظيما، فقال له وهو يريد رتق ما فتقته امرأته بدون أن يشعر الغلام: سر يا عزيزي بحراسة الله، ولا تطل غيابك علينا؛ لأن والدتك المحبوبة تموت من بعادك هما، وإذ إن سفرتك بعيدة والمخاطر التي سوف تعترض طريقك كثيرة فأود منك أن تقبل مني وصية واحدة لها أكبر علاقة بأمرك، هي أن تتحذر من أربعة من الناس في سفرك هذا وأن لا تأخذ من أفواههم الشهادة ببديعة، بل اختبر أمرها أنت بنفسك؛ لأنه قد قيل:
ما حك جلدك مثل ظفرك
فتول أنت جميع أمرك
وهؤلاء الأربعة الذين ذكرت لك عنهم هم حجارة عثرة في سبيل السعادة والراحة، وهم أولا: الحسود؛ فإن هذا لا يحارب المحسود منه بغير الاختلاق والذم ظانا أنهما يسقطان من قدره ويذلانه أمام الناس، وإن يكن هذا الظن فاسدا؛ لأن البريء تظهر براءته بعد التهمة بأكثر جلاء ونورها يكون أشد ضياء، فالحساد يقفون في سبيل المحسودين لوقت أحيانا ثم يضمحلون. والثاني: هو الرجل الذي خلق ليفتئت الناس وربي على النم بهم والتكلم بحقهم بكلام رديء، فهذا لا يقدر على الاشتغال بغير الشغل الذي خلق له، وكأنه لا يقدر على الكلام الحسن بالناس فيعمد إلى الكلام القبيح بهم؛ فكأن لسانه يا ولدي لا يعرف الكلام الجيد، فاحذر من أن تجرئه على الثلب في حق أي كان. وأما الثالث: فإنه لتعاسته يكون ذا سيرة رديئة وأعمال قبيحة، فهذا وإن عرف أعمال الغير الحسنة واعتبرها في قلبه فإنه لا يقدر على إظهارها بهذا المنظر أمام الناس، بل إنه يفصل للناس من ذات النسيج الذي يصنع منه أثواب عمله ويلبسهم مثلها، وقد قيل: من كان بيته خرابا يدعو على بيوت الناس كلها بالخراب. والرابع: لا يعرف ما هو العدل ولا يسمع باسم الشرف الحقيقي والصدق الشريف، فهو إن صادق إنسانا وكانت عيوبه كثيرة نسيها أو تناساها، وهذا ما لا يهم كثيرا؛ لأن ستر عيوب الناس أحسن من إظهارها إذا لم يكن من هذا الإظهار فائدة لذوي العيوب وغيرهم. ولكنه إذا عادى إنسانا لأشياء خصوصية وكان هذا الإنسان من أشرف وأفضل خلق الله يتهمه بكل قباحة وشناعة وخيانة. فهؤلاء الأربعة يجب أن تتحذر منهم؛ لأنهم كالمعاول والعتلات الهادمة لبنيان الصداقة والسعادة والظن الحسن بالناس، وليس أسعد من الإنسان الذي يقدر أن يفتكر بكل أحد حسنا لا قبيحا.
وإياك إن جمعت بأحد الأربعة أن تصدق كلامه عن بديعة سواء كان قبيحا أم حسنا، والسبب أنه ربما كان صديق بديعة فيتكلم عنها بحسب هواه ومأربه، وربما كان عدوها فيتكلم عنها هكذا أيضا، وإياك أيضا أن تصدق كلام أحد عنها قبل أن تختبرها بنفسك؛ لأن الصديق ينظر بعين الصداقة إلى الحسنات فقط، والعدو مثله ينظر إلى السيئات، وقليلون هم الذين يعرفون العدل وينظرون إلى الحسنات والسيئات في حالتي الصداقة والعداوة فيشكرون ما يجب شكره ويذمون ما يجب ذمه.
وهناك يا عزيزي وصايا أخرى أدبية كثيرة هي للمسافر مثلك زاد النفس، كما أن الطعام زاد الجسد، وأنا أقدر على ذكر كل هذه الأمور لك بجملة واحدة هي «أنه يجب على الغريب أن يكون أديبا»، واللبيب من الإشارة يفهم. وكان فؤاد يسمع كلام والده وهو يبكي من حنوه ومن هم نفسه، ولما انتهى قال له بصوت حزين: أطلب من الله يا سيدي أن يحقق آمالك بي وآمالي ببديعة. وكأنه ذكر أمرا اصفر له وجهه؛ إذ قال لوالده: أتظن يا سيدي أن نسيبا ...
فقاطعه والده قائلا: لا تذكر اسم هذا الشاب أبدا؛ فإنني أؤكد لك بأن بديعة لا تحبه ولا تهتم به، ولكنه هو قد سعى بإبعادها وتبعها ووشى لوالدتك بها فصدقته والدتك، وإن فكري يدلني بأنك متى رأيت بديعة تنجل لك الحقيقة وتتحقق برؤيتها، فاقترن بها وتنزها بأمريكا وتفرجا على عظمتها قبل رجوعكما بالسلامة، ولا تهتم بأمر نسيب متى تحققت خيانته، أو تنتقم منه؛ لأنه إذا كان الانتقام أرضيا فالصفح سماوي.
فقال الشاب فرحا وهو معانق والده: إن كلامك أكبر منشط لي يا سيدي؛ لأن فكري ببراءة بديعة هو غيره بخيانتها فأنا مديون لك بهذا الحب العظيم لي، وبديعة مديونة لك بظنك الحسن بها الذي غير أفكاري فيها فأنت «أم» يا سيدي؛ لأن لك حنو الأمهات لأولادهن، ووالدتي «أب» لأنها عاملتني بقساوة كثيرا ما تصدر عن الآباء وليس عن الأمهات، فالله يحفظك لي أبا مرشدا وعضدا في الحياة، ويحفظني لك لكي أقوم بواجب الخدمة نحوك وأسر قلبك ولكن ألا تظن أن والدتي تمانع جدا بذهابي؟
أجاب الوالد: لا بد من إقناعها بذهابك؛ لأن الواجب نحو تلك الفتاة الطاهرة يضطرك إلى الذهاب.
فابتسم فؤاد إذ ذاك وقال: إنك تذكر بديعة بالطاهرة والشريفة والبريئة، فهل أنت متأكد من هذا؟
أجاب والده: هكذا يدلني فكري، والفكر الصادق أكبر دليل.
وبعد أن رجعت أم فؤاد من وداعه وهي محمرة العين وحزينة القلب ندمت على فعلها لما رأت من نتائجه، والبلوى هي بأن البعض لا يتوبون إلا عن فشل وعجز.
سافر فؤاد مسرورا لأن كلام والده كان رفيقه كما قال، ولما وصل إلى مدينة نيويورك ونظر إليها عند نزوله من البحر أحس بأن مدينته مع عظمتها لا تعادل شارعا واحدا من هذه المدينة، وبما أن «الغريب أعمى ولو كان بصيرا» وقف الشاب مبهوتا وقد هم بمناداة أحد سائقي العربات وإذا بصوت من ورائه يقول: هل هذا أنت في أمريكا يا خواجة فؤاد أم أنا في حلم؟ فالتفت فؤاد ليرى من ذا الذي يخاطبه بلغته بين تلك الجماهير الغريبة، وقد ارتاح لسماع الصوت، وإذا بشاب جميل الصورة حسن البزة طويل القامة واقفا أمامه فلم يعرفه فؤاد، وقال للمخاطب: إن اسمي فؤاد يا سيدي، ولكنك لا تعرفني على ما أظن؛ لأنني لم أسعد بمعرفتك من قبل.
فابتسم الشاب إذ مد يده إلى فؤاد مصافحا وقال: أظنك نسيتني فأنا وديع ... وإنني أعرفك وأعرف بيتكم وأباك وأمك، وسرد له أشياء كثيرة عنه وعن والديه كان قد تلقنها من نسيب لهذه الغاية.
وكان الفتى لطيفا جدا، «كما هي العادة عند الغاية»، فظن فؤاد أن لطفه كان أدبا ونعومته تهذيبا، وسر به جدا؛ لأنه أنس منه صداقة وهو مفتقر إلى صديق ودليل في بلاد هو غريب فيها، وكان فؤاد نقي القلب طيب السريرة، وعهد دخوله بمدرسة العالم حديثا، وكان يقيس الناس كلهم على نفسه، وهذا الأمر كثيرا ما يكون آفة الأفاضل، ولكنهم يأتونه انقيادا بالغريزة.
وبعد أن تصافح الشابان وتعارفا استأجرا عربة أقلتهما إلى نزل سوري في شارع واشنطون أو «شارع السوريين»، وفي ذات الساعة التي وصل فيها فؤاد أرسل وديع تلغرافا إلى نسيب ينبئه فيه بوصوله، فأتى نسيب وتبعته لوسيا التي لم تشأ مفارقته.
ومع أن نسيبا لم يكن يحب لوسيا ولا مرافقتها؛ «لأن كل شيء يبتذل يهان» ولوسيا كانت قد «رخصت» نفسها بعين نسيب؛ لأنها هي خطبته لا هو، وسعت وراءه بخفة، وكل شيء يكون من واجبات الرجل وتغير عليه المرأة بأمور كهذه يحتقرها لأجله، فكلما ترفعت الفتاة عن الشاب كلما أحبها وكلما تساهلت معه كلما زاد احتقاره لها.
ولما وصل إلى نيويورك أنزلها في نزل وذهب وحده لملاقاة فؤاد، وكان هذا في قهوة مع بعض الرفاق، فلما وصل نسيب إليه انطرح على عنقه يقبله ويبكي، فبهت الحضور لبكائه؛ لأن بكاء الرجال عزيز، لذلك هو يلذ ولا ندري إن كان ذلك البكاء عن حب أو عن شعور بالذنب أو حيلة للجذع، والأصح أنه الأخير؛ لأن نسيبا عزم على إحكام عمله الشرير لا على فصم عراه.
ولم يكن فؤاد بانتظار هذا الملتقى، فاضطرب وخفق قلبه وتصور نسيبا أمامه خائنا ومناظرا له في حب بديعة، فلعبت نار الحقد في قلبه، ولكنه تذكر كلام والده له، وكان لم يزل يحفظه، فصافح نسيبا لأجل ذلك وتأدبا أمام الحاضرين.
وبعد برهة من الزمن خرجا من تلك القهوة، وذهبا إلى غرفة فؤاد، وكان نسيب يلاطف فؤادا في الطريق، وهذا غير مكترث له؛ لأنه إن لم يكن عليه حاقدا فلم يكن له محبا.
الفصل السادس والعشرون
الالتقاء ببديعة
ولما دخل الغرفة قدم فؤاد لابن خالته كرسيا وهو متعبس الوجه، فجلس هذا عليه وأخذ يستعد لما يحامي به عن نفسه، أما فؤاد فأخذ يتمشى في الغرفة وهو مضطرب البال قلق الفكر، وبعد هنيهة اقترب من نسيب وقال له بصوت منكسر: إنك شجاع يا نسيب!
فأثرت هذه الكلمة بنسيب وأطرق في الأرض بدون كلام، فاقترب منه فؤاد وقال له متهكما: ما بالك أطرقت يا ابن الخالة؟! فإن الذي خاض معركة الخيانة نظيرك لا يهوله مرأى سيف الحق حتى ولا يؤلمه جرحه ...
عند ذلك رفع نسيب نظره وقال بصوت خافت تظاهرا بالحزن: كفى كفى يا فؤاد، فمن الظلم أن نتعادى ونحن كأخوين لأجل امرأة خائنة لا تستحق كل هذا ...
أجاب فؤاد: لا تتهمها بالخيانة يا أيها الأمين! فإنني لا أسمح لك بذلك قط ما لم أتحقق الخبر بنفسي ... ولنفرض أنها خائنة فخيانتها لا تعد شيئا مقابل خيانتك. فتنهد نسيب وقال: نعم، نعم أنا أعرف هذا، ولكنني قد نلت جزاء خيانتي من خيانتها فأنت وأنا متساويان؛ لأنها قد كالت لي بالكيل الذي كلت لك أنا به وأزيد ... إنها بعد أن أغرتني على الفرار على الفرار معها وسلبت مني مالي أحبت غيري وخانتني أيضا ... وهكذا قد سقتني تلك الخائنة بذات الكأس التي ساعدتني بها على تجريعك الجحود والخيانة منها وأنت أخي وحبيبي ... فأواه يا فؤاد إن ظلمي منها هو عذري عندك! وأنت قادر على الصفح لأنك كريم. وانطرح على قدميه وهو يتظاهر بالحزن الحقيقي.
وكان فؤاد واقفا وقد أحس بأن نارا محرقة تذيب أحشاءه، وبعد قليل جلس على كرسي كان بجانبه، وقال لنسيب وهو يكاد يقطع آخر خيط أمل من براءة بديعة: أخبرني عن القصة تماما.
فقال: إنها كما أخبرتك والدتك.
قال فؤاد: إن والدتي اكتفت بذكر سفركما فقط.
قال نسيب: بعد ذهابك إلى المدرسة كان شغل بديعة الوحيد طرح الشباك لي؛ لأنها فتاة لا تحب لأجل الحب نفسه فإنها كانت تريد أن تكون محبوبة من كل رجل، وبهذا كان افتخارها وسعادتها؛ لأنها امرأة. ولما رمت شباكها لأول مرة لم تكتف بذلك العصفور، ولم تلك الشباك، بل أبقتها مرمية وزادت من الحب حتى وقع هذا العصفور الثاني، وإنك لا تلومني يا فؤاد؛ لأنني رجل وأحب الجمال والحب جنون. وبعد أن صار هذا وظننت أنها تحبني طلبت منها الاقتران فلم ترض وطلبت مني أن أسافر معها ففعلت، ولما أتينا إلى هذه البلاد أحبت شابا غيري، وهي تعده بالاقتران الآن، ولا أعلم ما يكون نصيبه معها.
وكان فؤاد يسمع هذا الكلام وهو يرتجف كورقة الشجر في الهواء، ولكنه تجلد وقال: وأين هي الآن؟
قال: هي الآن في مدينة سنسيناتي. وبعد أن صدق فؤاد كلام نسيب مر بخاطره كلام والده فشعر بشيء من الراحة، ومد يده إلى جيبه فأخذ كتاب بديعة وناوله لنسيب قائلا: هل تصدق بأن اليد التي سطرت هذا الكتاب تخضب عمدا بدم قلبين نقيين ...؟
ولما انتهى نسيب من قراءة الكتاب اصفر لون وجهه؛ لأن الرذيلة تخاف الفضيلة في كل وقت، ولكنه ضحك ضحكة عالية اقشعر منها جسم فؤاد وقال: أظنك نسيت قول القائل بأن مكر النساء ودموعهن سلاحان لا يحاربان ...
قال فؤاد: لم أنس هذا، ولكن في كتاب بديعة ما يدعو إلى الريب.
عند ذلك أخرج نسيب من جيبه رزمة من الرسائل وناولها لفؤاد قائلا: اقرأ هذا ولا تعد ترتاب فيما بعد بمكر النساء.
وكان أول كتاب فتحه فؤاد بخط بديعة إلى نسيب وفيه هذه الجملة التي لم يقرأ سواها ورمى التحرير وهي:
ولا حق لك بمعاتبتي لأنني لم أحب سواك أبدا الحب الذي أحببتك حتى استهنت بكل شيء في سبيله ...
وكان فؤاد بعد أن رمى الكتاب يرتجف ويقول: إنني لا أقدر على التصديق بأن اليد التي سطرت هذا الكتاب قد سطرت ذاك، وأكاد أكذب نظري وعقلي وفكري.
فقال نسيب: لله در ذلك الحكيم العربي إذ قال: «رأيت أفعى تسقى سما» إذ رأى امرأة تتعلم، فالمرأة أفعى يا عزيزي وسمها يتضاعف بالعلم؛ لأنها بهذا تفتكر بفكرين وتشتغل بيدين وتكون أقوى على الشر وهي مسلحة مما هي عليه بدون سلاح.
وكان قد هدأ روع فؤاد نوعا الآن فأجاب نسيبا بلهجة تفرق عن لهجته؛ لأنه كان رجلا يعتبر جنس النساء الذي والدته منه؛ فسلام عليك أيها الحب الشريف الأدبي المنزه الذي يربط قلب الولد بالوالدة ويوجب عليه احترامها والنضج عنها واحترام كل امرأة سواها؛ لأنها من جنسها. سلام عليك أيها الحب السماوي الذي نطقت بلسان فؤاد إذ قال لنسيب: إنك باحتقارك بديعة تحتقر كل النساء ومعهن أمك، فجرب أن تلطف حديثك وتنبذ كلام فيلسوفك العربي؛ إذ تعرف بأن المرأة هي نصف الهيئة الاجتماعية، ومن الجهل والخمول والظلم أن يكون نصف هذه الهيئة مظلما ونصفها الآخر مضيئا، وإنه متى حرمت المرأة من التنور والعلم حرم العالم نصف الجمال وفائدة الهيئة، وهو النصف اللطيف فيها، فالعلم الصحيح هو الذي يصغر الشر لا يكبره، ومتى كانت امرأة شريرة وعالمة لا يكون الذنب على علمها بل على غريزتها التي قويت على العلم وغلبته، وفي أكثر الأحيان نجد أن سبب هذا «الجهل» هو الذي يتحدر من أم جاهلة. وأكبر برهان حسي على فائدة العلم للمرأة هو تقدم الأمم وانحطاطنا، فمن كان ينظر ويتعامى يكون ذا غاية دنيئة، ومن كان أعمى لا ينظر فلا يلام، فصدقني يا نسيب إنني أندب حالة النساء إذا كان رأي كل الرجال كرأيك فيهن، فلو كانت النساء خلقن للشر كما قلت، سواء كن جاهلات أم عالمات لكنا لا نرى في العالم الآن غير الشر والأشرار؛ لأن كل رجل تستلم زمام أموره امرأته وهذا ظاهر، ومن المؤكد أن الذي تربيه امرأة وتعاشره امرأة طول حياته يتلقن عنها الشر ويصبح العالم كله أشرارا «بنظرك». ولكنني أشكر الله أن الذين يذهبون مذهبك قلال، وأنت وهم تستحقون أعظم القصاصات من النساء. فتظاهر نسيب بالضحك وقال: أرجو أن تتسلى ... ولكنني قلت وأقول بأن النساء أصل كل شر على الأرض وسبب كل تعاسة، وأما قصاصي فقد نلته منهن وهذا ما حملني على مثل قولي لك.
فقال له فؤاد: أنت قلت بأنك «انخدعت» من بديعة وأطعتها بالهرب معها، فإن كنت فعلت هذا مختارا؛ تكون شريكا في الجرم، وأنت وهي متساويين، وإن كنت أتيت الأمر مضطرا؛ لأنك لم تقو على المدافعة تكون ضعيفا جبانا وتستحق أن تقودك امرأة كيف شاءت، ولكن إذا خدعت من امرأة فلا يحق لك ذم الجنس كله.
فقال نسيب: إذا كان علم وتهذيب بديعة لم ينتجا غير عملها هذا، فأنا أشك بوجود امرأة فاضلة وبأن العلم مفيد للمرأة.
وإذ ذاك نهض فؤاد عن كرسيه وكان خائر القوى ونظر إلى نسيب شزرا وقال: أرجو أن لا تلفظ اسمها فيما بعد وأن تتركني لأنام قليلا.
ذهب نسيب ولم يحضر لبعد ثلاثة أيام، لا هو ولا ذلك الدليل الذي ظنه فؤاد من أصدقائه.
الفصل السابع والعشرون
الالتقاء ببديعة
وبعد انقضاء أربعة أيام على مشاهدة فؤاد لنسيب، نزل الشابان في محطة سنسيناتي، فوجدا فيها شابا كان يعرفه نسيب، وهو من أصدقائه، فسر بالالتقاء به ودعاه إلى ركوب العربة معهما.
وفيما هما في العربة كان نسيب يسأل الشاب قائلا: كيف حال صاحبتك بديعة يا يوسف؟ وهل عهد اقترانها بأديب قريب.
فقال يوسف: هذا ما أسمعه، وقد مرضت بديعة مرضة قوية ولكنها في طور الإبلال الآن وتتقدم إلى الصحة. فاضطرب قلب فؤاد من سماع الجملة الأخيرة كما اضطرب من الأولى؛ لأنه كان لا يزال يحب الفتاة بالرغم عن كل ما صار. وسمع حديثهما الباقي بصبر غريب، واستأنف نسيب حديثه قائلا ليوسف، وقد غمزه بطرف عينه: يظهر بأن بديعة تحب أديبا كثيرا.
أجاب الشاب: كيف لا وهو لم يفارق سريرها كل وقت مرضها، وكنت تراه آتيا من السوق كل صباح وسلة الفاكهة في يد وضمة الزهور في أخرى ...
وعند هذا الحد من الكلام فرغ صبر فؤاد، فقال لنسيب وهو ينظر من النافذة: ألم نزل بعيدين عن محل قصدنا؟
فقال هذا: كلا. وبعد برهة وقفت العربة بهم أمام نزل شهير، فنزل فؤاد ونسيب وقيدا اسمهما وصعدا إلى غرفتيهما.
وكان نسيب يترقب الفرص إلى أن علم من أحد أصدقائه بوجود أديب في غرفة بديعة، فذهب مع فؤاد إلى هناك، وكانت تلك الغرفة من جهة السوق وبابها ونوافذها مفتوحة؛ لأن الفصل فصل الصيف وأديب وبديعة وجميلة في داخلها.
وإذ وصلا وقفا إلى جانب الباب، وتوقع وصولها؛ إذ كان أديب يضع ذلك الخاتم في إصبع بديعة، وهو ينظر إلى يدها نظرة لم تخف على فؤاد، فثارت به الغيرة وهجم على تلك الغرفة بغتة كالأسد وصرخ بصوت عال: آه يا خائنة! ثم خرج حالا ونسيب وراءه يضحك في سره من هذا الفوز الباهر.
وكان نسيب مسرورا جدا من إبعاد بديعة عن فؤاد، حتى نسي أنه هو خسرها أيضا.
وظن نسيب وهو راجع إلى نيويورك مع ابن خالته أن هذا ربما أحب لوسيا واقترن بها، فيكون قد رمي عصفورين بوقت واحد، ولكن ظنه خاب بعد رجوعهما لأنه «لم يتبين عاطلا من مطوق» من كل امرأة رآها بعد بديعة؛ إذ إن حبه الصادق كان قد خلق ومات فيها.
وبعد أن اختبر فؤاد بديعة بنفسه وتحقق خيانتها كما ظن صار هذا الفكر يحاربه في ليله ونهاره حتى نحل جسمه، وسئم المعيشة فأذعن أخيرا «لنصيحة» نسيب له بإدمان الخمرة؛ لأنها «تطرد الهموم».
وكان مع فؤاد مال كثير فكان يبذله على أصدقائه بغير شفقة؛ لأنه لم يتعود قبض الكف في مال والده الكثير، وكان منعكفا على القصف والزهو مع رفقائه نسيب ووديع وآخر غيرهما.
وكان يخلص لهم الصداقة؛ لأنه كان خارجا حديثا من المدرسة، ولم يتعود غير الإخلاص مع رفقائه التلامذة. وكان يظن أن معيشته الحاضرة هي كمعيشته السابقة في المدرسة وأن رفقاءه هؤلاء هم كأولئك التلامذة، ولكن الفرق كان عظيما؛ لأنه بينما كان يعيش مع هؤلاء في عالم عظيم مملوء من المصائب والتجارب والشرور، كان يعيش مع أولئك في عالم هادئ وتحت سماء المدرة الصافية من غيوم الحسد والبغض والكبرياء والانتقام، فارتشاف كأس الخمرة المؤذية المؤدية إلى الهلاك النفسي والجسدي هي غير ارتشاف كأس العلوم الصافية التي هي بلسم جروح الشرور والجهل.
وبعد اتباع فؤاد نصيحة ابن خالته «المخلص» لم يتبين طرق هذه المعيشة من تلك، ولا عرف كم أضافت إليه تلك النصيحة من الآلام والهموم؛ لأنه كان ثملا لا يفيق.
ولما مشى فؤاد على هذه الطريق نسي نصائح والده له تماما؛ لأنه كان قد نسيه معها، وأخذ يكتب إليه كثيرا واعدا بقرب رجوعه وبإيقافه على قصته، وهذا ما كان يسلي ذلك الوالد التعيس الذي أوقعه شرف مبدئه بهذه الوهدة، وتلك الوالدة المستحقة الرحمة التي أوصلها كبرياؤها إلى هذه النتيجة الهائلة.
وكان فؤاد يمشي مع رفقائه على طريق الهلاك، ومن يراه يعرف بأنه مدفوع إلى سلوكها مرغما؛ لأنه كان لا يعي على شيء ولا يصغي أو يفتكر، فكان إذا قدم له الناس كأسا يشربها وربما شرب عشرات مثلها ولا يرفض، ولكنه لم يذهب بنفسه ويشربها. ولم يتغير شيء من أحواله قط؛ فإنه بقي كما كان دمث الأخلاق لطيف المعشر كثير الافتكار يحب الرحمة والإحسان، وكثيرا ما يكون سكرانا ومتوكئا على ذراع أحد أصدقائه، فيمر بأحد الفقراء ولا ينساه، بل يأخذ من جيبه مالا ويدفعه إليه. وكان يأتي أمورا كثيرة شريفة تدل على أن سلوكه كان إما رغما عنه وإما عن غير انتباه.
وبينما كان فؤاد بهذه الحالة على موائد الخمور وبين أسباب السرور ويتعذب بنفسه وجسده ولا يدري، كانت بديعة في أشد حالات العذاب وهي تتعذب وتدري لماذا هو عذابها.
الفصل الثامن والعشرون
الكتاب
وكانت بديعة من حين سمعت كلمة «خائنة» من فم فؤاد لم تذق راحة، إلا أن ما كان يعذبها كثيرا هو بطلان هذه التهمة التي لم تعرف ما دعا فؤادا إلى تصديقها، وقد جهلت تلك المساعي الشريرة ضدها.
ولما كانت لم تزل ضعيفة الجسم انتكست وعادت إليها آلام المرض، فلم يجد حديث أديب المسلي وحنوه وحبه الصادقان، ولا سهر واعتناء جميلة نفعا؛ لأن الضربة كانت عظيمة، وقد كانت تظهر التسلي لما تكون بين الناس ولسان حالها ينشد:
لا تحسبوا رقصنا ما بينكم طربا
فالطير يرقص مذبوحا من الألم
وفي أحد الآحاد كانت جالسة على سريرها ومتكئة على صدر جميلة، وهذه ماسكة بيدها جريدة كانت بديعة تقرؤها، فدخل أديب ورأى هذا المنظر فتأثر جدا، وبعد أن جلس هناك قليلا ناولها كتابا معنونا باسمها وقال: هذا أول كتاب أتى باسمك. فلما تناولته قالت: هذا خط فؤاد. وناولته لأديب قائلة: يجب أن يفض ويقرأ فأرجو أن تفعل أنت ما أعجز أنا عن عمله. ثم استلقت على وسادتها وسترت عينيها بيديها فقرأ أديب بصوت متهدج ما يأتي:
أيتها الخائنة الماكرة!
ولم يقرأ غير هذه الجملة؛ لأنه عرف ما تكون عاقبة تأثير مكتوب كله شتم وذم كهذا على بديعة فمزقه حالا.
وأما بديعة فقد قرأت المكتوب بفكرها؛ ولذلك فما جاء تمزيق أديب له بنفع؛ لأن حالتها ازدادت خطرا.
وفي أحد الأيام جلس أديب بجانب سريرها حسب العادة، وجلست مقابلة جميلة وهي منكسرة القلب لحالة صديقتها، فقال أديب لبديعة: إنك تضرين بنفسك وبنا بهذا العمل يا بديعة، فهل مرادك أن تنتحري انتحارا بطيئا أو تريدين أن تقوي على أفكارك المزعجة وترجعي إلى صحتك دائسة على الهموم؟
أجابت بديعة متنهدة: إنني أفتكر بهذا الأمر؛ فإن المرض الذي سببه همي العظيم يكاد يذهب بعقلي وجسدي ويضنيكما أنتما اللذين تستحقان أعظم مثوبة من الله عني، ولكن كيف العمل؟ إنني محتاجة إلى حبكما الذي يساعدني على احتمال كلام الناس وكلام من هو أعظم من كل الناس عندي.
قال أديب: أما الكلام فلا يهمك قط؛ لأن الناس تنطق من فضلات قلوبها، والأوعية تنضح بما فيها، وقد قال أحد حكماء الغرب:
يتحامل الأشرار على النفوس الشريفة، ولكنهم لا يستطيعون أن ينالوها بأذى، فهي كالصخور الصوانية على الشواطئ، تصدمها الأمواج عند هبوب العواصف فيظن أنها أغرقتها وصدعتها وتكون غسلتها فقط، فتعود أجمل للنواظر وأبهج للخواطر.
قالت بحزن: هذا ما يعرفه الأدباء وحدهم، أما اللئام فإنهم يستعملون ألسنتهم الحادة حرابا يطعنون بها القلوب ويمزقون الصيت والسمعة، ويتوهمون بذلك الفوز المبين لهم.
فابتسم أديب وقال: وهل أنت تطلبين شهادة غير العقلاء فيك؟
قالت: كلا؛ لأن الذي يطلب شهادة حسنة من شخص قبيح الأعمال يكون كمن يطلب شهادة إسكاف في فن الطب إذ أنى للإنسان أن يعرف ما يجهله؟
قال: إذن أنت تطلبين شهادة العقلاء الذين «يشهدون بما يعرفون» ويعتبر الناس شهادتهم، وهي لك فما ينقصك يا ترى؟
وكأن مكتوب فؤاد وكلام أديب قد ساعدا على تقوية بديعة، فأخذت تطرد عنها جيوش أفكارها بالتمادي، ولهذه علاقة كبيرة بالمرض؛ لأن الهم نصف المرض. فلما هدأ اضطراب فكرها قليلا تقدمت نحو الصحة وأخذت باسترجاع بعض قواها.
ولما عادت قوتها إليها عادت هي إلى شغلها رغما عن توسلات أديب إليها بالاستراحة وذلك لسببين؛ الأول: لأنها كانت باحتياج كلي إلى العمل لتسلية أفكارها؛ إذ لا يوجد ما يذهب الهموم مثله. والثاني: لأنها أبت لعزة نفسها أن تكون تنفق من مال أديب.
ومن الشغل والمشي واستنشاق الهواء النقي يوميا، عاد لون بديعة إلى وجهها الشاحب وسرى دم النشاط في جسمها الناحل.
وعرفت بديعة واجب نفسها فتشددت، ثم ذكرت بأنها هي تسلي الناس، فمن العار إذن أن تقول ما لا تفعل، فعزمت على أن تمرن النفس على عمل كل ما تود إلى الناس عمله لتقوم الأفعال مقام الأقوال، وذلك خير وأبقى.
الفصل التاسع والعشرون
قول بديعة عن النساء وحبهن لبعضهن
وفي أحد الأيام رجعت من البيع قبل جميلة، فجلست وحدها تفتكر، ولما قاست مصيبتها بمصيبة جميلة وجدت بأن هذه أسعد منها. ذلك لأنها هي لم تعرف بزمانها موئلا تذهب إليه إبان المصائب والعذابات، وهذا لا يكون على غير ركبتي الأم، ولم تتدرع بدرع تتقي بها رميات النوائب وتهجمات الأشرار؛ لأنها لم تناد بكلمة «أبي» بحياتها، فأخذت في البكاء والشهيق وقد نسيت كل همومها الحديثة عن هذا العالم الماضي وهو حاضر دائما. وفي ذاك الوقت وصلت جميلة فلما وجدتها بهذه الحالة هلع فؤادها وقبلتها قائلة: تعزي يا بديعة يا عزيزتي، فإن الفجر ينبثق دائما بعد الظلمة، ولا بد لظلمة حياتك من فجر يضيئها؛ إذ لا ظلام بغير سواد ولا نور بغير ظلام.
فابتسمت بديعة عن عجز وقالت لرفيقتها: سبحان الله يا جميلة! كيف أنك تكافئينني الآن بذات الشيء الذي باديتك به، أجل يا حبيبة قلبي، إنه لا بد للإنسان من مرأى النور والظلام في حياته، ولكن ألا تعرفين بأنه يوجد أقطار في العالم لا تشرق فيها الشمس إلا أياما قليلة في السنة؟ هكذا أنا يا عزيزتي فإن شمس حياتي نادرة البزوغ، وإذا بزغت فمن تحت غيوم متلبدة تجعل نورها ضئيلا، وعلى كل حال فإن كلامي هو عن الماضي والحاضر، وأما المستقبل فتعليل وأمل، ومن كانت مثلي حصلت على صديقين عزيزين هما أنت وأديب لا يجب أن تشتكي من دنياها أبدا، وهل تكون الدنيا باردة قاسية متى وجدت فيها حرارة كحرارة حبكما وإخلاصكما لي؟ كلا.
فقالت جميلة: إنني أفتكر بأمر يا بديعة.
قالت: ما هو يا عزيزتي.
فقالت: يقولون بأنه من المحال أن يخلص النساء المودة لبعضهن، أو أن تكون محبتهن حارة، وأن المرأة يمكنها مصادقة الرجل وحبه وتضحية كل شيء لأجله مما لا يكون منها لأختها في الجنس، وكثيرا ما سمعت بأن بعض الفتيات يكن عبوسات خشنات مع أترابهن وبالعكس مع الرجال الذين ينالون منهن كل لطف، فهن يهربن من محبة المرأة إذا لم أقل يبغضنها، ويفرغن جهدهن بالتقرب من الرجل، مع أن اعتقادي هو أن محبة المرأة للمرأة واجبة؛ لأنها من جنسها.
قالت بديعة بتفكر: إنك محقة يا جميلة؛ لأن الصداقة الحقيقية متى عرفت من الناس يجب أن تكون بين المرأة والمرأة على الأكثر؛ لأن الصلة الجنسية أكبر واسطة لذلك. خذي لك مثلا على هذا من أعظم شخصين على وجه الأرض وهما الوالدان؛ فإنك ترين البنت دائما منحازة إلى والدتها والصبي إلى أبيه؛ لأن الأولى تحب اكتساب معرفة واجبات الجنس من أمها فتصادقها إذ تكون مطاليبهما وأعمالهما متساوية، وكذلك يكون الصبي مع أبيه، وهكذا يجب أن يكون بين جميع طبقات البشر، أن تبذل المرأة لأختها الصداقة كما تبذلها للرجل، وفي ظروف مخصوصة يجب أن تخصها بها دون الرجل؛ لأن ما تقدر أن تساعد المرأة صديقتها به وفيه لا يقدر عليه الرجل، ورب صديقة غريبة تكون للمرأة أنفع من زوجها وابنها؛ لأنها من جنسها. ولكن صداقة الرجل التي أشرت عنها يا أختي هي التي تحول دون هذه الصداقة النفيسة، بل هي كثيرا ما تحولها إلى بغض وانتقام كما نرى غالبا؛ إذ كثيرا ما تبغض الأخت أختها والبنت أمها والأم ابنتها لأجل محبة رجل، وهذا أمر يظهر بأنه طبيعي يا أختي لا يزايله إلا «الواجب»، وهذا غير معروف من كثيرين لسوء الحظ؛ لأن كلمة هائلة قد طردته من قلوب أكثر الناس وتولت مكانه وهي «الأنانية».
وأما فيما خلا هذا الظرف فلا أرى من مانع يمنع المرأة عن مصادقة إخوتها في الجنس، ولكن هناك أيضا ثلاثة حوائل هي كالحائل الذي تقدم ذكره، بل هي مشتبكة ببعضها، وكل واحد سبب الآخر، وهي أولا حب الذات وثانيا الحسد وثالثا الضعف.
فحب الذات يا أختي يطرأ في النفس وفي سواها؛ فنحن النساء محبات لذواتنا كثيرا ولكن الغريب هو أننا مع هذا كثيرا ما نضحي ذواتنا لأجل الرجال، ومع تساهلنا الكثير لأجل من يحسبون الأمر منا «خفة» أحيانا. فنحن ضنينات وحريصات بالتنازل عن أتفه الحقوق لبنات جنسنا؛ مثلا لو أحبت المرأة رجلا تقدر أن تضحي حتى محبة أمها وأختها لأجله، وأن تتنازل عن رضى أمها النفيس لأجل رضاه، ومع هذا فهي لا تتنازل لتضحية ساعة بتعزية أو تسلية امرأة مثلها تكون محتاجة إلى التعزية أكثر مما هو محتاج إلى ابتسامتها الحلوة إذا كانت هذه الساعة من الوقت له فتأملي.
أما الحسد فحدثي عنه ولا حرج في جنسنا، المرأة يا جميلة تحسد أختها متى رأت لها شيئا أحسن منها، ولو كانت من أعز الناس إليها. والحسد والحب لا يتفقان يا عزيزتي؛ لأنه أسهل على الإنسان أن يذهب مفتشا بين الذئاب الضارية عن صديق من أن يطلب هذه الصداقة من قلب حاسد وإن تظاهر بها، فالحسد هو أساس الشرور؛ لأنه عاطفة وحشية لا يسأل الإنسان معها عن دين أو ذمة أو شرف ، وعمل الحاسد الوحيد متى تبع هواه هو إلحاق الضرر بالمحسود منه؛ لأن هذه مهنة الحاسد الوحيدة متى كان لئيما، وأنت تعرفين بأن أعظم الجرائم التي يمكن للإنسان اقترافها هي جريمة القتل أو الإضرار بالغير، سواء كان بمادياتهم أو أدبياتهم، وهذه رغبة الحاسد، وأما الضعيف فإنه سبب هذين الحائلين ولكنني ذكرته بعدهما فإن المرأة ضعيفة، ومع أنها تعرف ضعفها فهي لا تقدر على مداواته أحيانا وكثيرا ما يجرها هذا الضعف إلى إتيان أمور لا تريدها لنفسها وبعد فوات الوقت تندم، ولكن متى كان الضعف قابضا بيده الحديدية على قلبها تكون ندامتها أشبه بتوبة السكران لما يرى غيره سكرانا، أو لما يأتي أمرا قبيحا من السكر، ولكنه لا يلبث أن يتناسى كل ذلك ويطلب من هذه الخمرة الطيبة في يد غيره، فهل تحسبين ترك المرأة للبيت الذي ربيت وعاشت فيه كل أيامها الحلوة وذهابها مع رجل - ربما لا تعرف عنه شيئا - غير ضعف. وهل تحسبين بأن ميل الفتاة إلى شاب ما يكون مخطوبا لسواها وانتزاعه من غيرها لنفسها غير ضعف؟ هذا الضعف المشين الذي يتسلط على جنسنا في أكثر الأحيان، ولأجله يدعو الرجل «المرأة ناقصة العقل والدين»، الرجل الذي تضحي المرأة لأجله كل هذه الأمور وسواها من مثل سعادة وواجب وحب والدي يضحك منها ويحتقرها، فتأملي! تأملي!
الفصل الثلاثون
الشتاء والربيع وحوادثهما
انقضت الأيام والشهور على بديعة وهي تكلف نفسها التجلد والصبر والقوة تبعا لمثل الأمريكان القائل: «من لا يساعد نفسه لا يساعده الله.» حتى عادت إليها قوتها كما كانت قبل مجيء فؤاد وليس قبل تعرفها به، فقنعت بحالتها الحاضرة وارتاحت أفكارها نوعا؛ لأنها لم تسمع عن فؤاد شيئا كل تلك المدة.
وأتى الشتاء بهدوئه في برده وزمهريره فاستراحت بديعة به من الشغل واسترجعت ورد خديها؛ لأن الشتاء يعين على الصحة.
ولشدة عجب بديعة لم يذكر لها أديب طول ذلك الشتاء باجتماعاته الطويلة كلمة عن الزواج، ولا أظهر شيئا من رغبته في الاقتران بها، إلا أنه لم يكن باردا في معاملته التي كانت حرارتها محرقة حتى في أيام البرد القارس، وكان يغار على شرفها وصحتها وسعادتها غيرة صادقة تشف عن شرف ذلك الشاب الوافر.
وأقبل الربيع بثوب من الأزهار يبهج النظر ويسر القلب، وهو مفاخر إخوته الفصول الثلاثة باعتدال طقسه واعتلال هوائه وبرودة مائه. ولما بلغ منتصفه أخذ يعتذر إلى السيدات بمنعه إياهن ثلاثة شهور عن لبس أثوابهن الشفافة الجميلة، التي هي من شباك الشرور ومجلبة أمراض الصدور، فقبلن عذره وخرجن كطوائف الغزلان يتمشين في آصال نهاراته وأوائل لياليه وهن أجمل وأنضر منظرا من أزهاره.
وكانت بديعة تخرج بصحبة جميلة كل ليلة للتمشي، وأحيانا متى كان الجمهور كبيرا يرافقهما أديب وليس في غير وقت، ولم يكن شيء يسر أديبا مثل نظره إلى بديعة وهي تتنقل بهذه الأيام الربيعية أمامه؛ لأن مشية بديعة الطبيعية كانت تسر النظر، فقد كانت تنتقل بمشيتها تنقلا طبيعيا لا تصنع ولا «غندرة» فيه، وكأنه وهي تمشي تطير على الأرض طيرانا لا تدوسها برجليها، وكانت لا تهز يديها وهي ماشية بل تحمل بيد واحدة مظلتها، وباليد الأخرى طرف ثوبها فترفعه عن الأرض إلى ما فوق الكاحل فقط، وكانت تمشي وهي هادئة رصينة لا تنظر إلا إلى أمامها، ولم تكن تجر رجليها على الأرض جرا كأنها «نعسانة أم نشوانة»، ولا تمشي ببطء حتى يظنها الناس غير قادرة على المشي، أو تركض في الشوارع ركضا. ولم تكن تقف في الشارع للتفرج على شيء - ولا شيء يوقف المرأة المتهذبة في وسط الشارع مهما يكن غريبا - ولا تدير عينيها في المارة وتحدق بهم.
وبينما كانت ماشية مع جميلة مرة قالت لها هذه: أتذكرين استياء لوسيا منك في السنة الماضية في مثل هذه الأيام، وكيف أنها تركتنا ومشت وحدها؛ لأنك نصحتها بأمر؟
قالت بديعة متنهدة: نعم إنني أذكره، وأذكر أيضا ذلك الكلام الذي اغتاظت منه، وسأعيده عليك لعل في الإعادة إفادة، وهو أنني قلت لها: يا عزيزتي لوسيا إن الرجال إجمالا وبعض النساء المتهذبات خلقوا ليلاحظوا وينتقدوا من يرونهم، ولا سيما النساء منهم؛ لأن في الرجال رغبة خاصة بملاحظة النساء وحبا شديدا للحشمة لا تعرف مقداره إلا المرأة المهذبة العاقلة، وقد يكون الحامل لهم على حب «الحشمة النسائية» إن هذه الحشمة ليست لهم بالمقدار الذي هي فيه للنساء، والإنسان خلق ليعتبر ما هو لسواه وليس له، فكما أن النساء يحببن في الرجال شجاعتهم هكذا الرجال يحبون في النساء حشمتهن. والرجل مع حبه الزائد للجمال لا يكترث له متى تجرد من الحشمة واللطف؛ لأن الجمال يجب أن يكون مصونا وسياجه الحشمة، والأمكنة التي يقصد الرجل اختبار «حشمة المرأة وأخلاقها» فيها هي الشوارع والمحال العمومية، فالويل لها إذا أتت في هذه الأمكنة ما يخالف قواعد الحشمة والآداب الحقة. قلت «الويل لها» لأنني لا أعرف ويلا في السماء أو على الأرض أشد من انتقاد الرجل لها أو ضحكه منها، واحتقار الرجل للمرأة ويل وطلب المرأة لاعتبار الرجل أمر طبيعي محلل إذا كان منه طلب اعتبار الفضيلة والأدب. فانظري إذن ما هي الشباك التي يطرحها الرجل للمرأة في الشوارع، واعتبري كم هي رغبتها بمرضاته، واحذري كل الحذر من أن يفرط منك ما تؤاخذين عليه في الأماكن العمومية. هذا ما كنت أقوله، فهل هو يغضب؟
قالت بديعة: كلا. إنه لا يغضب الفتاة العاقلة، ولكن - وا أسفاه - إنه لم يؤثر شيئا؛ لأن رأس لوسيا الجميل كان كأنه مركب فوق جسدها «برفاص» فهو أبدا يتحرك من اليمين إلى الشمال. وعيناها الناعستان فيه كأنهما ركبتا فوق زئبق، فلا يستقران على حالة، وشفتاها العنابيتان قد أقسمتا بمواصلة الافتراق بابتسامات تكشف عن أسنان منسقة كاللؤلؤ تسبح تلك اليد التي صنعتها، كما قال أحد الكتاب.
هيئة فاتنة، جمال رائع، صورة مبهجة للنواظر، ولكنها لا تكون قط معتبرة عند محبي الجمال الحقيقي من العقلاء، ما لم تكن تسدل الحشمة عليها برقعا، ولا سيما في الأماكن العمومية حيث تتكسر النظرات التي بعضها سهام.
وبعد أن مشتا قليلا قالت لبديعة: لم أنس قولك منذ هنيهة بأن كلامي لم يؤثر بلوسيا شيئا، فالحق أقول لك يا عزيزتي بأنه إذا لم يكن أثر في الماضي والحاضر فإنه سيؤثر في المستقبل؛ لأن الشعور به لم يذهب من ذهنها قط، إذ ذهب صداه. ثم قالت: والذي كان يغيظني منها أكثر من الكل هو تكلمها بصوت عال في الشوارع، وضحكها بصوت أعلى، ثم وقوفها مع من تعرفه من الناس ولا سيما الرجال في الأسواق لمحادثتهم مما يجعل للناس شكا وهو أمر تؤاخذ عليه المرأة أكثر من كل أمر سواه.
ولما كانت تصورات الشبان والشابات جميلة في أيام الربيع، فإن بديعة كانت ترى مسرورة أكثر من كل وقت؛ مما جعل أديبا وجميلة يسران أيضا. وكانت أحيانا تنسى همومها بالكلية وتضحك وتسر كثيرا، فإذا سألها أديب وجميلة عن السبب تجيب: إنني أشعر بسرور لم أشعر به من قبل وهذه مقدمة إما لحادث سار وإما للموت. فيقول لها أديب بحزن: وهل مثلك من يشتهي الموت يا بديعة؟ فتجيبه: نعم، متى كان بإرادة الله فهو خاتمة العذابات الأرضية، ويدني النفس من السعادة الأبدية فهو سار.
الفصل الحادي والثلاثون
السر
نترك بديعة في تصوراتها الجميلة في أمريكا ونرجع إلى الوطن مرة ثانية، حيث نأخذ القارئ بالفكر إلى أحد قصور دمشق الشاهقة، فهناك في ذلك القصر الفخيم غرفة داخلية غطتها ظلمة هي ظلمة الموت الهائلة، وفي إحدى زوايا تلك الغرفة سرير وثير الفرش نظيفه، وعليه شبح امرأة عجوز لم تبق منها الأيام غير العظام، وعند رأسها امرأة متشحة بثياب سوداء بلون شعرها وعينيها، يظهر من بينها وجهها الأبيض بغضونه الكثيرة، وقد كان جميلا فتانا في الماضي، وكان يستدل من منظرها أنها في الخامسة والأربعين من عمرها مع أنها لم تتجاوز الثانية والثلاثين.
ولو دقق أحد الذين يحلو لهم التهكم على جنس النساء في نقد تلك السيدة لقال: إن آثار الهم الظاهرة على وجهها قبل أوان ظهورها ومذبلة لجمالها، وهي بهذا العمر هي «لأنها اهتمت بإزالة هذا الجمال قبل الأوان فكان هذا الهم سبب ذلك» لأن المرأة من حين تولد إلى أن تلحد تكون في هم مستمر من الحزن على زوال جمالها، وهذا ما يساعد على ظهورها أكبر من سنها، ولكن مهلا يا أيها المتهكم اللطيف، فإن «هم» هذه السيدة لم يكن خوفا من خسارة «جمالها»؛ لأنها لم تكترث لذلك الجمال من حين صباها، بل همومها كانت لأجل سواها، وقد زادت الآن هذه الهموم إذ جلست إلى سرير والدتها حزينة على موتها، وإن تكن مسببة لها الهم وأمرت نظرها بتلك الغرفة المظلمة، وتصورت تلك الدار الفخيمة خاوية خالية ولا مسلي فيها بعد موت والدتها، ولم يبق فكرها عند هذا الحد بل بعد كثيرا عن تلك الغرفة، وخرج من تلك الدار منفكا من قيود الوحدة وسابحا في فضاء. فاضطربت، ولشدة اضطرابها وقعت من يدها المروحة التي كانت تهوي لوالدتها بها.
وكأن المريضة أحست بالحر حتى في نومها، ففتحت عينيها ونادت بصوت ضعيف: جميلة ... أين أنت؟
فانتبهت السيدة جميلة للأمر، وللحال تناولت مروحتها عن الأرض، وأخذت تهوي لوالدتها وهي تقول: إنني بجانبك يا أمي.
قالت المريضة بصوت لا يكاد يسمع: إنني أعرق عرقا باردا ... فما هو هذا الظلام في هذه الغرفة؟ آه يا جميلة إن الغرفة مظلمة، وثوبك مظلم، وخيال الموت الذي يتمايل فوق رأسي مظلم، وأفكاري أشد ظلاما من الكل.
قالت ابنتها بيأس وحزن: لا تتصوري الظلمة يا أماه؛ فإن مرضك غير خطر كما يقول الأطباء.
فتنهدت الوالدة وقالت: إن مرضي غير خطر ...! آه يا عزيزتي إنها أفكار مريحة، ولكن سوف لا تتم؛ لأن كل أطباء العالم لا تقدر أن تطمئنني وأنا أعرف بنفسي منهم، وإنني سوف لا أنظر شمس الغد، وليس هذا ما يزعجني. ليس هذا ما يؤلمني؛ لأن عجوزا مثلي لا تطلب غير الراحة الأخيرة ولكن ...
ولكن ماذا؟ قالت السيدة جميلة: إنك سليمة يا أمي ولا يوجد ما يزعجك قط.
أجابت المريضة: لا يوجد ما يزعجني قط! ما أجمل هذه التعزية لو لم يكن الشعور خلاف الكلام، ولكن هل أنت مصرة على عزمك يا جميلة؟ وهل تقدرين على المعيشة المنفردة وعلى البقاء وحيدة بعد موتي إكراما لذكر كان يجب أن يمحى من تصوراتك.
حينئذ نظرت السيدة جميلة إلى والدتها برزانة وكلمتها ببرودة قائلة: إنني سوف لا أعيش وحيدة بعون الله يا أماه، فلا تزعجي نفسك لأجلي.
قالت وهي تتنهد وقد ضعف صوتها أكثر من الأول: قلت لك بأنني لا أعيش إلى بزوغ شمس الغد ...
أجابت السيدة: وهب أن الأمر كان كذلك لا سمح الله، فسوف لا أعيش وحدي.
وكأن هذا الكلام من الابنة أنسى الوالدة آلامها فأبرقت أسرتها سرورا، وأدارت وجهها بضعف وجهد نحو ابنتها، وقالت همسا: هل أذعنت لكلامي وسوف تقترنين بحنا؟
فاشمأزت الابنة من ذكر هذا الاسم، وقالت لها: أرجو ألا تذكري هذا الاسم على مسمعي مرة أخرى.
فأرجعت تلك المريضة الحزينة رأسها كما كان على الوسادة، وقالت بصوت يخنقه البكاء: إذن كيف تقولين بأنك لا تكونين بعد موتي وحدك؟
فقالت جميلة: إنك تطلبين سعادتي أليس كذلك؟
قالت: نعم يا عزيزتي وأنت تعلمين ذلك؟
فقالت: إن هذه لا تكون باقتراني برجل لا أحبه لا هو ولا سواه من الرجال؛ لأنني قد قطعت مراحل الصبا ولم أفتكر في الزواج، فكيف أتزوج الآن برجل له أولاد أضطر أن أربيهم ... بعد ... بعد ... الخلاصة أرجوك يا والدتي أن تتركيني أشعر بقلبي لا بقلبك هذه المرة. قالت هذا وخرجت من الغرفة لاستنشاق الهواء؛ لأنها خافت أن يغمى عليها، وكانت تسمع أمها تقول: إنني أتعس الأمهات؛ لأنني جلبت تعاستي وتعاستها بيدي.
وهذا كان آخر كلام سمعته الابنة من والدتها؛ لأنها لما رجعت ثانية إلى غرفتها وجدتها جاحظة العينين، ووجدت جسمها باردا، فتجسم للابنة ذنبها بالخروج من غرفة أمها وهي في نزع الموت وسجدت أمام سريرها تبكي وتقول: اغفري لي ذنبي يا أماه اغفري لي خطئي العظيم، ولا تذهبي غضبانة علي فإن عذابي يكفيني ...
ولكن وا أسفاه أن صوت هذه السيدة كان قد رن صداه في الأبدية، حيث كانت بالروح وجسدها هامد بارد أمامها.
الفصل الثاني والثلاثون
سفر ميخائيل
وبعد أن دفنت والدة السيدة جميلة ذاقت هذه من مرارة الوحدة ما كاد ينسيها عذاباتها الماضية، وفي أحد الأيام كانت جالسة في المكان الذي رأيناها فيه أول تعرفنا بها، وأمامها على كرسي آخر امرأة عجوز هي مربيتها. وكان السيدة جميلة مطرقة إلى الأرض تفتكر، فأرادت هذه المرأة أن تحول أفكارها بالحديث فقالت: ألم يأتك خبر من ميخائيل للآن؟ قالت السيدة: كلا، آه يا أم سمعان، إن نفسي حزينة حتى الموت وأنا أشعر بعظم ذنبي.
قالت أم سمعان: يجب أن تصبري يا سيدتي، فالذنب لم يكن ذنبك بل ذنب والديك رحمهما الله.
قالت: نعم، نعم، ولكن قد مضى والداي إلى مقر الراحة وبقيت أنا أتعذب من أجل غيري، وغيري، وغيري من هو أعز من الحياة يتعذب من أجلي.
فكررت أم سمعان قولها: تصبري يا سيدتي فإن اجتماعك بها قريب؛ لأن العقبات قد زالت كلها.
إذ ذاك أطرقت السيدة إلى الأرض وأجابتها بصوت حزين: بل إن جبلا شامخا قد قام في وجهي الآن؛ لأنه لم يجدها!
فصرخت المربية: لم يجدها؟
قالت السيدة: نعم ليتم شقائي، فأنا مستحقة هذا العقاب الشديد؛ لأنني بعد أن كان العصفور بيدي أفلته ورجعت أفتش عليه وأتعذب لاصطياده ولكنه قد طار ... قد طار ... وهذا جزاء التهامل والخيانة.
وإذ لم تجد أم سمعان ما تتكلم به سكتت. وبعد قليل قامت تفتح الباب فرأت بأن الطارق هو ميخائيل، فصرخت بملء صوتها: ميخائيل! أهلا وسهلا.
ولما سمعت السيدة الجالسة هذا الاسم نسيت همها ونهضت تستقبله وتصافحه، فدخل الغرفة وجلس بدون كلام شأن من معه خبر مزعج ولا يريد أن يقصه.
ولحظت السيدة منه ذلك فقالت وقد فرغ صبرها: أرجوك أن تقول الصدق كيفما كان يا ميخائيل.
فنظر الرجل إليها بوجه وقور يزيده بياض الشعر كإكليل من الكمال والتعقل وقارا وقال: الحقيقة هي أن الفتاة سافرت إلى أمريكا.
فلما سمعت السيدة جميلة هذا الكلام صرخت صرخة من أعماق قلبها ووقعت على كرسيها.
فقال الرجل: إن الخبر مع هوله لا يستحق اضطراب سيدتي؛ لأن السفر إلى أمريكا والرجوع منها اليوم كالسفر إلى بيروت والرجوع منها.
قالت تلك السيدة بحنق: تسلية، اطمئنان، وهم. ولكن الحقيقة هي أنه قد كتب لي أن أعيش تعيسة طول عمري ولا مفر من إرادة الله.
قال: إنك تظهرين ضعفا في غير محله يا سيدتي؛ فإنك الآن بعد أن توفي والديك هان عليك كل أمر، ومن أراد أن يبلغ المراد من أمر كهذا لا يقتضي له إلا المال وهو متوفر لديك.
أجابت: نعم، أنا لا أجهل هذا، ولكن ألا تعرف بأن أكبر قصاص لخائنة مثلي هو أنه لا شيء لدي يكفل لي الفوز؛ فالفتاة تجهلني تمام الجهل، ومن المحال أن تسلم ذاتها على هذه الطريقة.
قال: لا تقرني كلمة الخيانة باسمك يا سيدتي؛ لأنك قد ضحيت كل عزيز لأجل والديك وهذه أمانة لا خيانة.
قالت: نعم، أمانة لأناس وخيانة لآخرين.
ورأى الرجل تأثرها فقال محولا أفكارها عن تلك النقطة: إن الوقت ثمين يا سيدتي، ومن الواجب أن ننظر في الأمر.
قالت: لم تخبرني القصة بإيضاح، فمن أين عرفت بأنها سافرت؟ وهل لديك عنوانها؟
قال الرجل: لدي كل التعليمات اللازمة؛ لأنني أخذتها من عائلة كانت تخدم عندها ...
فلم تدعه يكمل كلامه بل صرخت قائلة: كفى يا ميخائيل لا تذكر لي شيئا لئلا تتجدد آلامي. إنها كانت تخدم ... أواه، إن عندي عددا من الخدم وهي اضطرت أن تخدم لتعيش! آه يا ربي ماذا يكون قصاصي عندك؟! إنني نسيتها في هذه الأيام يا ميخائيل ولم أرسل إليها مالا من مدة ثلاث سنوات، ذلك من اضطراباتي الداخلية في البيت، أنا ... أنا القاسية التي أتيت بها إلى هذا العالم لكي أعذبها فيه، فهي تتعذب بتحصيل معيشتها وأنا في راحة ورخاء لا أعمل عملا، فهلا أتى الوقت الذي يجب أن أكفر فيه عن ذنوبي؟
وعند هذا الحد خرجت أم سمعان، وما بقي من الكلام بين جميلة وميخائيل كان سرا، وفي ثاني أسبوع كانت واقفة في باب الدار وبيدها صرة تناوله إياها وتدعو له بالسفر الميمون.
الفصل الثالث والثلاثون
أديب في نيويورك
في عصر يوم الأحد من شهر آيار الجميل، كان أديب ماشيا في شارع واشنطون في نيويورك، فالتقى بصديقه القديم ورفيقه في المدرسة وابن بلدته سليم، ففرح كل منهما بهذا اللقاء فرحا لا مزيد عليه وتصافحا ودخلا قهوة هناك، وأخذا يتشاكيان مر الفراق، ولم يطل عليهما الوقت حتى فتح سليم ساعته وقال لصديقه: أرجوك يا عزيزي أن تنتظرني هنا مقدار ساعة؛ لأذهب فأودع صديقا لي عائدا إلى الوطن وأرجع إليك.
فقال أديب: إنني أفضل الذهاب على البقاء إذا لم يكن من بأس بذلك.
قال سليم: كلا، بل إن ذهابك معي يزيد في سروري. وفيما هما في الطريق سأله سليم عن سبب قدومه إلى نيويورك الآن مما لم يفعله من قبل، فقال له: عادة هذه الأيام هي أن يأتي تجار الداخلية إلى نيويورك لشراء بضائع محالهم، وهم يفتكرون بأن هذه القيمة التي يصرفونها بإتيانهم يتوفر عليهم أضعافها من الأرباح التي لم يفتكروا بها من قبل، وهم يرون من هذا إفادة على ما أظن.
وسأله أديب عن اسم صديقه فقال: اسمه ميخائيل، وهو شيخ في الستين من عمره، ولكن له نشاط الشباب وقوتهم. وقد أتى إلى هذه البلاد للتفتيش على فتاة ولكنه وجدها قد ماتت، وتراه الآن بهم زائد لأنه سيرجع بخفي حنين، وقد قال لي بأنه على لقاء الفتاة وعدم لقائها يتوقف أمران: إما سعادته وإما تعاسته.
فقال أديب: وما اسم الفتاة؟
أجاب: لا أعلم وسنسأل صاحبنا عنه.
ولما وصلا إلى الرصيف وجدا ميخائيل واقفا مع عدد من الأصحاب، وهو وقور يخامر وقاره الحزن العميق. وحينما رآه شعر بميل إليه واعتبار له، ولكنه لما صافحه شعر بكهربائية الحب تتصل إليه من ذلك الشخص الوقور ولم يدر لهذا سببا.
وشعر أديب بدافع إلى السؤال عن الفتاة، فانحاز هو وسليم إلى جهة مع الشيخ، وسأله عنها لعله يستطيع مساعدته.
فقال الرجل اسمها بديعة وقد كنت أتيتها ببشارة عظيمة كانت ولا شك سعادتها وسعادة شخص آخر وسعادتي أنا؛ لأنني أكون الجامع بينهما، ولكن صديقة بديعة أخبرتني بأنها ماتت وقطعت بهذا الخبر آخر خيط من حبال آمالي.
فلما سمع أديب هذا الاسم اضطرب قلبه وسأل الرجل قائلا: من هي صديقة بديعة؟ وهل تعرف اسمها؟
أجاب الشيخ: هي لوسيا رفيقة الفتاة من الوطن، وتسكن في الشارع الفلاني من هذه المدينة.
فقال أديب: هل لك أن تصف لي ملامح الفتاة؛ فإنني أعرف واحدة بهذا الاسم.
قال الشيخ: لا يمكن أن تكون فتاتي التي هي واثقة من موت صديقتها؛ لأنها أسلمت الروح بين يديها كما أخبرتني.
ولما سمع أديب كلامه عن بديعة وهيئتها احمر وجهه، وقال للشيخ: إنني أعرف الفتاة وهي بمحلي الآن.
فشهق الشيخ من الفرج وقال: يا للبشارة يا للسعادة! فكيف إذن قالت لي تلك الفتاة إنها ماتت من ستة شهور.
قال أديب: كأنك أخبرتها بأنك تحمل لبديعة بشائر حسنة؟
قال: نعم.
قال: هذا هو سبب «موتها» فلا تعبأ به، وإذا كنت لم تزل على عزمك من طلب بديعة فلا تأسف على خسارة جواز السفر.
فقال الشيخ وهو يلتفت إلى الجواز الذي بيده ويهز رأسه: مائة مثل هذا لا تهم لأنني لغاية الالتقاء بالفتاة قد تركت بيتي وعائلتي وأتيت، وأؤكد لك بأن الموت أهون علي من الرجوع بدونها.
الفصل الرابع والثلاثون
البشارة
ولما رجع أديب من نيويورك وذهب لغرفة بديعة مسلما، رأت هذه بوجهه سرورا، ولم يكن من قبل باديا. أما هو فقال لها: إن في غرفتي رجلا بانتظارك يحمل إليك بشارة حسنة، فتعالي آخذك إليه وأعود فأحادث جميلة.
وفيما هما سائران نحو الغرفة، نظرت بديعة في وجهه وابتسمت، فقال لها: ليس كما ظننت ...
وبالحقيقة إن أديبا كان صادقا؛ لأن الرجل لم يكن فؤادا كما ظنت هي، بل كان شيخا وقورا لا تعرفه.
فاحتارت بديعة فيمن يكون هذا الرجل، وما هي هذه البشارة التي يحملها إليها؟ أما هو فلم يحتج إلى من يعرفه بها؛ لأنه كان قد رأى تينك العينين وهذا الوجه من قبل. نعم إنه عرفها ذابلة من الهموم، وهو يراها نضيرة وفي ربيع الحياة الآن، ولكن الهيئة هي ذاتها.
فبقي أديب في باب الغرفة وهو يقول: إن السيدة بديعة أقدر من على تقديم نفسها إليك. وخرج، فدخلت بديعة الغرفة بقلب واجف وصافحت الشيخ وهي تتساءل عما يكون غرضه.
ولم تطل بديعة جلوسها حتى مد ذلك الشيخ يده إلى جيبه وناولها كتابا، ففضته بيد مرتجفة، وأخذت تقرؤه وقد شعرت بأن نفسها صعدت إلى ما فوق هذا العالم، إلى عالم لم تكن تحلم به من قبل؛ لأن الكتاب كان كما يلي:
يا بنيتي المحبوبة
إنني والدة لا أستحق أن ألفظ كلمة «ولدي»؛ لأنني احتقرت هذا الاسم الشريف العزيز كثيرا، فصرت أستحق خسرانه. وهذا أخف قصاص على ذنبي العظيم، لولا أنني أثق برحمة الله الغزيرة، وأؤكد صفحك عن والدة هي التي أتت بك إلى هذا العالم، وهي التي تركتك تتحملين برودته وقساوته، وأنت كل أمل لها في الحياة وكل سعادة. ولكن قد يفعل الإنسان أحيانا يا عزيزتي ما يظنه «واجبه» ويكون بالحقيقة مصدر شقائه. وإنك من أولئك الناس الذين جلبوا على نفوسهم وعلى غيرهم معهم التعاسة إكراما لقوم آخرين وقياما بالواجب.
أنا يا حبيبتي قد ضحيت سعادة تربيتك وضمك إلى صدري لأجل والدي، فهل لك أن تصفحي أنت عني قياما بواجب الأمومة عليك أيضا؟ وذلك رحمة بقلب والدة تعيسة لا ترى سعادة بغير صفحك عنها ورجوعك إليها، واحتراما لعظام أب شريف كان محبا في حياته!
إنك سوف تتعجبين من هذه الكتابة؛ لأنك يا ابنتي لم تفتحي عينك على عين والدة حنونة، ولم تسمعي كلامها الحبي يرن في أذنيك؛ ذلك لأن حب العظمة والكبرياء العالمية قد حال دون الحنو الوالدي وأماته في صدري إلى هذا الوقت، حيث نشر من قبره وأتى صارخا نحوك يطالبك بالغفران والرجوع إليه بعد زوال العقبات؛ لأنك له وهو لك.
وإن سألتني: من أنت التي تخاطبينني بلغة لم أسمعها فلذلك لا أعرفها؟ أجيبك: إنني أنا هي تلك المرأة التي زارتك في المدرسة مرارا. ألا تذكرين هذا يا بديعة المحبوبة؟ أذهب عن بالك ذكر تلك السيدة التي كانت تزورك كل سنة بثوب أسود؟ ألا تذكرين الوقت الذي أعطيتك فيه صورتي وأخذت صورتك وقلت لك بأنني صديقة والدتك المرحومة؟!
فإن كنت تذكرين هذا، وإن كنت تثقين بكلامي، وإن كنت ترجعين إلي غير طالبة زيادة إيضاح إلا لحين المشاهدة؛ فاسألي الخواجة ميخائيل صديقي الأمين، وهو يخبرك بما يعرفه عني ويسلمك ثلاث صور؛ الأولى: هي رسمك المحبوب، والثانية: هي رسمي من خمس سنوات، والثالثة: هي رسمي بحالتي الحاضرة التي ليس أتعس منها لبعدك عني.
هذا كفاية الآن، فلا تخيبي أملي ولا تجازيني على عملي بالموت الأكيد إذا رفضت الرجوع، وألف قبلة قلبية من والدتك الحزينة المحبة.
جميلة
روفيه
فأخذت بديعة الكتاب، وأخذت تنظر إلى الرجل الذي كان بانتظار جوابها، وكانت دموعها تتساقط من عينيها كالوبل؛ لأن كلام والدتها كان مؤثرا للغاية. ثم إنها تذكرت تلك السيدة التي كانت تزورها في كل سنة كما قالت، وكم كانت لطيفة معها ومحبة لها، وكيف أنها هي كانت تحبها لأسباب لا تعلمها، وكيف كانت تبكي عند مفارقتها، وكيف أن تلك السيدة كانت تعطيها مالا لتصرفه هي ولوسيا تلك الفتاة الجحود، وذكرت أيضا قول الفتيات لها بأن تلك السيدة تشبهها وبأن أمرهما يدعو إلى الريب ...
ذكرت كل هذا وراجعت قراءة المكتوب، فشعرت بأن قلبها يكاد يطير إلى تلك اليد التي سطرته، ولكنها بعد هذا السرور من تلك التذكارات الحلوة مر ببالها خاطر أزعجها، وقالت: ما هو الداعي إلى كل هذه الأسرار في حياتي يا ترى؟! فبكت، وكان الرجل ينظر إليها بحنو، ولم يقدر أن يمنع دموعه عن السقوط. وبعد أن قبلت بديعة الكتاب نظرت إلى الشيخ قائلة: إنني أجهل معنى هذا الكتاب، فهل لك أن تتكرم بالصور لعلي أعرف منها ما لم أتبينه من الخط؟
فدفع إليها الصور، وناولته هي الكتاب لكي يقرأه.
ولما وقع نظرها على الصور أخذت تقترب من التصديق، وكان أحد تلك الرسوم للسيدة التي كانت تعرفها جيدا، والآخر رسمها الذي أعطته لتلك السيدة مرة وعليه هذه الجملة:
من بديعة لصديقة والدتها.
فوضعت رسم والدتها على شفتيها، وأخذت تقبله بحب، وتبلله بدموعها، ثم ضمته إلى قلبها، ووضعت يديها فوقه، ونظرت إلى الرجل قائلة: هل انتهيت من قراءة الكتاب يا سيدي؟
أجاب: نعم.
قالت: إنني أقبل هذه الصورة، ليس لأنني صدقت بأنها والدتي، بل لأن لها علي فضلا لا ينكر حينما كنت في المدرسة.
قال: وهل أنت في ريب من أنها والدتك؟
قالت: نعم؛ لأنني أجهل هذا قبل الآن.
قال: أؤكد لك بشرفي بأنها والدتك، وهي من شريفات دمشق الشام، وما كان كتمها هذا الأمر عنك إلا رغما عنها، وإنني صرفت في خدمتها عشر سنوات ولم أعرف قصتها إلا من شهور فقط.
قالت بحزن: وما هو السبب الذي حملها على كتمان حقيقة الخبر عني؟
قال: ألم تقرئي شرطها عليك في الكتاب؟ فهي لا تقدر على إفشاء هذا السر إلا مشافهة، وأنت شريفة يا عزيزتي ويجب أن تثقي بكلام والدتك الشريفة.
فأطرقت بديعة إلى الأرض تفكر، ثم قبلت صورة والدتها ثانية وقالت لميخائيل: إنني أثق بكلام والدتي وبكلامك يا سيدي؛ لأنك رسول أمين لا تقول إلا الصدق. ثم تنهدت وقالت: إنني أشكر الله الذي شاء أن يمحو بعض عذاباتي الماضية.
فقال الشيخ ناظرا إليها: وهل تعذبت كثيرا يا سيدتي؟
أجابت: نعم لأن زوايا الدنيا مشحونة بالمصائب، وقد نلت نصيبا وافرا منها.
فتنهد الشيخ، وقام من مكانه متقدما إليها، وقال: إنني خدمت جدك يا سيدتي من حين كنت في العاشرة من عمري، ولي عشر سنين في خدمة والدتك الخاصة، فاسمحي لي أن أقبلك عنها كما أوصتني؛ لأنني سأكون لك والدا بعد والدك.
فاقتربت بديعة منه وقبلت يده باحترام، أما هو فقبل جبهتها بحنو وجلس بجانبها، وأخذ يقص عليها ما يعرفه عن والدتها، عن غناها وأخلاقها وعذاباتها الماضية وفضائلها الجمة، فكانت نفس بديعة تنقبض مرة وتنبسط أخرى لسماع كلامه. ولما وصل بحديثه إلى كلام لوسيا عنها بأنها ماتت، تنهدت بديعة وقالت: أرجو أن يكون هذا الأمر آخر سعاياتها.
ولكنها لم تحزن؛ لأن سعاية لوسيا بضررها لم تقف عند ذاك الحد.
الفصل الخامس والثلاثون
الخبر الجديد
وبعد أن صرفت بديعة مع ميخائيل ساعتين تركته ينام ويأخذ قليلا من الراحة، وذهبت إلى غرفتها فوجدت أديبا وجميلة واقفين أمام الباب، وهيئة الأول تدل على السرور، بينما الثانية مطرقة إلى الأرض وهيئتها تنبئ عن اضطراب داخلي لكنه سار أيضا.
فلحظت بديعة أمرا، ولكنها لم تصدقه لأنها لم تحلم به من قبل، ولفرط فرحها لم تنتظر زوال اضطراب جميلة، بل ذهبت توا إليها، وطوقت عنقها قائلة: إن اسم «جميلة» حلو لذيذ، ولكنه أصبح بعد اليوم خلاصة الحلاوة واللذة والجمال؛ لأنه اسم والدتي المحبوبة. فشهقت جميلة ونسيت موقفها إذ قالت بفرح: اسم والدتك المحبوبة!
قالت بديعة: نعم. بعد أن نظرت إلى أديب، ومدت إليه يدها فصافحها.
وقال: ما هو الخبر السار؟
وكانت بديعة تقص عليهما قصتها، وهي تكاد تطير فرحا، ولما انتهت منها شد أديب على يد جميلة أيضا وقال لبديعة: إنك أفرحتنا بقصتك، فيجب أن نكافئك بأن نبشرك بخطبتنا.
فنظرت بديعة في وجه جميلة لعلها تقرأ بعينيها الخبر، فلم تقدر لأن تينك العينين كانت ناظرتين إلى الأرض، فحولت نظرها نحو أديب الذي قرأ من نظرتها مجلدا.
وكان جوابه عن «سؤالها» بتلك النظرة أن قال أديب: نعم يا بديعة، إن هذا الأمر صحيح؛ لأنني أحب جميلة لأجل نفسي كما أحبها لأجل نفسها؛ لأن نتائج فضائل وآداب المرأة مرجعها إلى خير الرجل أكثر من خير المرأة، فإذا أحب الرجل فتاة لأجلها وتزوجها يكون أحب خير نفسه أكثر مما أحبها، ولا شك أن جميلة تغفر لي هذه الأنانية بعد أن عرفت القصد منها. قال هذا وحول نظره إلى جميلة ليقرأ جوابها في عينيها كما فعلت بديعة، فكان حظه من هذا كحظ بديعة؛ لأن جميلة كانت لم تزل مطرقة، أما هو فقال بحرارة: «إن جمال المرأة حشمتها، وحشمتها جمالها.»
وكانت بديعة بذلك الموقف المفرح تنظر من جميلة إلى أديب ومن أديب إلى جميلة، فليتصور القارئ سرورها بحب أديب لجميلة واقترانه بها وسلوه لها هي التي كانت مزمعة أن تتركه، ثم سعادة جميلة بحب هذا الرجل الفاضل.
وعرفت بديعة بعد أيام من أديب بأنه كان يحب سعادتها أكثر من سعادته، فلذلك لم يزعجها بكلامه الحبي، ولما عرف من ميخائيل عزمه على إرجاعها معه حول مجاري حبه كلها إلى جميلة، التي لم تكن تنقص بديعة في غير جمال الوجه، وهذا كان أمرا ثانويا عنده، فقال: إنني أحببت جميلة لما رأيت بها المرأة التي كنت أنتظرها بشوق في بلاد هجرتي؛ امرأة محتشمة حشمة طبيعية معناها فعل كل شيء شريف أدبي بجرأة، والابتعاد عن كل شيء قبيح، والخوف منه كالخوف من الموت، امرأة تعرف واجباتها نحو زوجها فتطلب أن تكون شريكته في كل شيء، ولكن بعد إعداد ذاتها لتصير أهلا لهذه المشاركة، تطيعه لا عن خوف وجبن في الظاهر وبغض ونفور الباطن، بل عن رغبة أكيدة ومحبة واحترام ومعرفة كونه رأس العائلة ويجب له الطاعة، كما أنها هي قلب تلك العائلة ويجب لها الحب والإكرام، امرأة تحب الجمال ولكن المحلل منه الذي مصدره الترتيب والنظافة وليس التصنع والتطرئة، تحب التنزه ولكن بوقته وبعد الأشغال البيتية والواجبات العائلية، تحب اللبس ولكنها تلبس دائما دون قدرتها لا فوقها حتى لا تستلفت أنظار الناس إلى خفتها وإسرافها.
هذه كانت صفات جميلة كما وصفها أديب الرجل العاقل، اتبعت بها آثار بديعة الغراء، فأضاءت في بلاد الهجرة، بينما بديعة كانت تضيء بها في بلاد الآباء ومواطن الأجداد وكل فائدة في واحدة من البلدين مرجعها إلى الاثنين.
فهل «جميلة» جميلة أم قبيحة؟ وهل أديب عاقل أم جاهل؟
ولم تبرح بديعة هذه الولايات قبل أن وقفت مع الشيخ ميخائيل إشبينة لعزيزيها.
وكانت تهنئتها لهما أن جمعت ما لديها من المال الذي أجهدت نفسها في تحصيله، واشترت لهما به هدية كتبت عليها:
هذه هدية مشتراة بمال كد وجد تنوب لدى أخلص صديقين عزيزين من أثبت صديقة.
بديعة
الفصل السادس والثلاثون
التقاء بديعة بفؤاد مرة ثانية
وكان زاد بديعة على الطريق ذكرى إخلاص وسعادة ووداع أديب وجميلة، وكانت كثيرا ما تنفرد وحدها وهي تنظر من نافذة القطار وتفتكر. وبم تفتكر؟ تفتكر بإخلاص أديب لها وبخدمته النصوحة، وكيف أنه لم يتذمر عندما قالت له بكل صراحة إنها لا تحبه، ولم ينتقم ولم يمنن ولا حال دون ذهابها على أمل إبقائها بالقرب منه تعللا بتغيير فكرها من جهته، بل بذل جهده بجمعها بفؤاد «بمن تحبه دونه»، ثم عاد فسعى لإرجاعها إلى الوطن بعد بعدها عنه؛ كل ذلك رغبة بسعادتها.
ولما مرت بمخيلتها كل هذه الأفكار قالت: هل كل شبان هذا العصر يفعلون كما فعل أديب؟ أما أن كثيرين هم الذين يقفون في سبيل الفتيات الطاهرات إذا أردن التزوج بسواهم؟ أوليس منهم من يتهددون ويتوعدون فلانة؛ لأنها رفضتهم وقبلت بفلان فيثلمون صيتها ويلحقون بها الأذية أدبيا وماديا؟
نعم إنهم يفعلون ... يفعلون لأن أكثرهم يحسبون بأن الزواج عبودية وأسر، فإذا رضي الرجل عد رفض المرأة جريمة تقاص عليها؛ لأنه في عرفهم أن كل شيء وجد للرجل وليس للمرأة شيء، وقد فات مثل هؤلاء أن الزواج إن لم يكن برضى الفريقين التام فهو عذاب وشقاء؛ لأن السعادة كالنار لا تشعل بقطعة واحدة من الخشب، فعسى يعتبر هذا بعض الرجال وأن يعتبروه الوالدون أيضا؛ لأن الزواج الإجباري هو منتهى الظلم، تكون الفتاة فيه معرضة لأمرين إذا لم تكن سعيدة؛ فإما موت النفس الأبدي عن الفضائل وانحيازها إلى جانب الرذائل، وإما موتها عن كل سرور ولذة في العالم محافظة على الفضائل، والأمران من أفظع نتائج الظلم.
وكان ميخائيل يعجب من افتكارها الكثير ولا يعرف له سببا؛ لأنه كان لم يطلع على حبها لفؤاد. ولما وصلا إلى نيويورك طلبت منه بديعة أن يبقى معها أياما لتتفرج على تلك المدينة العظيمة فرضي.
وعجبت بديعة من أمر، هو أنها كانت دائما في سوق واشنطون الذي هو مجتمع تجار السوريين، وكلهم تقريبا فيه أو في جواره، ومع ذلك لم تسمع عن فؤاد شيئا.
وكانت بديعة اندفاعا بالغريزة البشرية تشتاق كثيرا إلى مشاهدة فؤاد، ونسيب ولوسيا قبل سفرها، وكانت تقول بأنها لو رأتهم لما حقدت عليهم قط، وإذا اضطرت إلى الكلام معهم تكلمهم بكل بساطة وحب؛ إذ إنها لم تكن حقودة تقول: «إذا نظرتهم عيني أقلعها.»
وكانت الفتاة تؤخر سفرها يوما عن يوم رغبة بهذا الأمر، فلما يئست منه اقتنعت بالسفر لإلحاح ميخائيل بالعود السريع إلى والدتها.
وفي ذلك اليوم بينما كانت في أحد المطاعم مع ميخائيل سمعت من ورائها حديثا، فأصغت بكليتها إليه، فقال أحد المتحادثين إن أصحابه تركوه الآن؛ لأن «جيبه ملتهب»، وهو ملقى على سرير المرض، وقد قيل والقول صادق:
إن قل مالي فلا خل يصاحبني
أو زاد مالي فكل الناس خلاني
فكم عدو لبذل المال صاحبني
وصاحب عند فقد المال خلاني
فقال له الآخر: إذن لماذا تتمثل أنت بقول الشاعر وأنت صديقه؟ وكانت امرأة واقفة في باب المطبخ الداخلي تسمع حديثهما، فاقتربت منهما وقالت: عمن تتكلمان؟ أليس عن فؤاد؟
أجاب أحدهما: نعم!
فقالت: «يا ولدي عليه» كيف صحته اليوم؟
قال: إنه بحالة خطرة من المرض.
فتأوهت تلك المرأة ورجعت لمكانها؛ لأنها كانت طاهية، وسمعتها بديعة تقول: الله يساعد والدته ...
وكأن هذا الكلام أفقد بديعة رشادها، فقامت عن المائدة بدون انتباه، ولكنها عادت فانتبهت واعتذرت عن عملها إلى ميخائيل.
وفي هذه المرة لم يلحظ ميخائيل تغيرها أيضا ولا استغربه؛ فإنه كان قد قطع من السنين ما أنساه تلك الأيام التي ربما كانت شواعره فيها كشواعر بديعة الآن.
وكم تشوقت بديعة للذهاب لمشاهدة فؤاد قبل سفرها كي تظهر له براءتها من كل ما اتهمها به ظلما، وتريه محبتها وأمانتها ومقدرتها على الصفح وتناسي الإساءة شأن المرأة الفاضلة، ومع كل هذا فقد كانت تفتكر فيما إذا كانت هذه العيادة لا تمس بآدابها، ولكن موقفها لم يسمح لها بزيادة التفكر؛ لأنها بعد أن عرفت بأن فؤادا مريض وأنها قريبة منه ويجب أن تراه ولو دقيقة واحدة قبل سفرها، استعدت لعيادته فلبست ثيابها وأوصت السيدة صاحبة النزل بأن تقول لميخائيل عن ذهابها وأنها ترجع عما قريب. وذهبت إلى مستشفى «سانت جيمس» كما كانت سمعت من المتحدثين. ولما قرعت جرس الباب أتت امرأة عليها ثياب بيضاء ومشمرة عن ساعدين أبيضين وعلى قبعة بيضاء أيضا، فعرفت بديعة من ملابسها أنها إحدى الممرضات في ذلك المعهد الخيري العظيم، وللحال شعرت بكهربائية الحب لتلك الفتاة تجري في بدنها كجريان الدم، ولم تعلم بديعة أكان ذلك الحب الذي شعرت به نحو تلك الممرضة مسببا عن افتكارها بأن فؤادا تحت عناية إحدى الممرضات، فهي تحب جميعهن؟ أم أن المرأة الفاضلة تشعر بحب وامتنان نحو إخوتها في الجنس خادمات الإنسانية التعيسة؟ ولما كانت بديعة تمشي وراءها إلى حيث هو فؤاد تدافعت عليها الأفكار، فقالت في نفسها: لو أتى بعض أولئك الرجال الذين يقولون بأن المرأة خلقت للشر فقط، ونظروا معي إلى هذه المرضة؛ لعرفوا ضلالهم. إذ يرون هذه الفتاة الحلوة مشمرة عن ساعد الجد والعزيمة لتمريض المساكين الفقراء وطرد جيوش الهموم والوحدة، ومثلها جيوش الأمراض والآلام عنهم، وهي جالسة عند رءوسهم تغسل بيدها اللطيفة عن جباههم أحيانا غبار الموت، وأخرى جراثيم المرض القتالة بمعرفة وحكمة، لقالوا: إن هذه القبعة البيضاء هي رمز عن إكليل الفخر والمجد، نعم إكليل الفخر والمجد الحقيقيين وإن اعترض على قولي البعض؛ لأن الفخر والمجد لم يخلقا إلا لمساعدة الإنسانية التعيسة، فمسح دمعة واحدة من عين باكية، وتخفيف ألم عن فقير مريض، وتسلية منفرد مستوحش، والنظر بلطف وحنو إلى متألم منازع؛ أعظم ما في العالم من الأمجاد.
نعم إن الفتاة التي تقوم بكل هذه الخدمات نحو المصابين من بني جنسها - مقابل أجرة زهيدة لا توازي سهرها على مريض ليلة واحدة أو الخوف من موته بين يديها - لهي صاحبة المجد الحقيقي وإن لم يفتكر بهذا ويعظمها العالم كما يعظم أحد الأبطال الذي يكون قد أتى أمورا خشنة، وربما كثيرة بحياته، وهرق دماء كثيرين من إخوانه في الجنس، بينما هذه الفتاة تساعدهم بقدر إمكانها في المرض وتحاول إنقاذهم من الموت؛ فهي تنال مجدها الخالد من الله، وتدعى بطلة الرحمة وتنال ثناءها من الإنسانية المتألمة التي تصرخ طالبة من الله مكافأتها، فهنيئا لك أيتها الممرضة التي تخففين آلام البؤساء، وتمسحين دموع التعساء، وتساعدين المرضى الضعفاء، وتخدمين عيال الله الفقراء. طوبى لك؛ لأنك تقومين بوصية سيدك، وتستحقين مثوبته؛ لأنه قال: مهما تفعلوه مع إخوتي الصغار، فإنكم معي تفعلوه، وطوبى لنا نحن النساء؛ لأنه إذا لم يوجد منا غير المربيات والممرضات والراهبات، لكفانا ذلك فخرا.
وعند هذا الحد نادتها الممرضة قائلة: هو ذا المريض! فنظرت بديعة إلى ذلك «المريض» الذي كان ملقى على سرير بين كثيرين من المرضى غيره، وهيئة المرضى في المستشفيات العمومية تجرح القلب، وأي قلب لا ينجرح من مرأى مرضى كثيرين يتقلبون على فرش الأوجاع، وإذا لم يخف الواحد منهم من مرضه نفسه، يخاف وينزعج من مرض رفيقه الذي يكون يتوجع أمامه.
فطوباك يا بديعة على مقدرتك وشجاعتك وصبر قلبك المحب على مرأى حبيبه ملقى على ذلك الفراش في مكان غير لائق به، وهل إذا قلنا إنها بكت نكون وفيناها حقها؟ كلا! لأنها شعرت بما هو أعظم من البكاء عند ذلك المشهد، شعرت بأن قلبها يتقطع ونفسها تتوجع.
فقدمت لها الممرضة كرسيا، ووقفت تنظر إليها وإلى الشاب، وتفتكر فيما عسى أن يكون الواحد للآخر منهما.
وكانت بديعة تنظر إلى فؤاد من خلال دموعها وهو مغمض العينين خائر القوى يلهث بخور وضعف، فأمرت يدها اليمنى على وجهه الجميل لأول مرة في حياتها، وأبعدت بها شعره الجعدي الطويل عنه، وكأن هذه اليد كانت اليد الأولى التي مرت على جبهته بهذه الصورة في وقت مرضه هذا، أو أنه شعر بأنها يد بديعة؛ لأنه حينما شعر بها فتح عينيه بدهشة، ونظر حوله وعاد فأطبقهما كأنه لم ير أحدا.
إذ ذاك التفتت الممرضة إلى بديعة وقالت لها: إنه لم يعرفك لأنه لم يع على أحد منذ ثلاثة أيام، وقد أتى شاب لعيادته نهار البارح فلم يعرفه، والشاب ابن خالته ورفيقه كما قال لي.
فقالت بديعة بحزن وحسرة: كم له بهذا المستشفى؟ أجابت الممرضة: عشرون يوما.
فتنهدت بديعة من أعماق قلبها وقالت: وهل ابن خالته يعوده في كل يوم؟
قالت الممرضة : كلا، بل في كل أسبوع، وقد عاده مرة وبرفقته سيدة جميلة يظهر من ملابسها الثمينة وحلاها النفيسة أنها من الغنيات، وقد تأففت كثيرا من عيادتها له؛ لأنها تكره مرأى المريض أو كما قالت «تقرف منه»، وتخجل أن تدخل مستشفى الفقراء، لئلا يظن الناس أن أحد أقاربها فيه ... فإن الشاب غير ذي قرابة لها كما صرحت، بل هو صديق لخطيبها الذي رافقته لعيادة صديقه، وستكون هذه العيادة الأخيرة.
ولو علمت تلك الممرضة اللطيفة بما كان يفعل كلامها بقلب بديعة لأشفقت عليها.
وكانت بديعة تقول في نفسها: صار له عشرون يوما وحيدا فريدا يقاسي آلام الداء ... وابن خالته لا يزوره إلا مرة في الأسبوع! آه ماذا يهم ابن خالته إذا مات؛ فإنه يرثه لأن خالته تحبه ... ثم قالت: أف لي ما أضعفني! إنني أفتح بابا لا أحب الدخول فيه الآن ... ولكي تتناسى هذه الأفكار قالت للممرضة: أرجوك أن تخبريني عن أسباب مرضه وهل من أمل بشفائه؟
فقالت هذه: إن سبب مرضه هو إدمان الخمرة، وأما شفاؤه فلا أقدر أن أتكلم بأمره؛ لأنه قد قيل: «طالما يوجد حياة يوجد أمل.»
فكان حزن بديعة لقول الممرضة بأن مرضه من الإفراط في شرب الخمر أكثر من حزنها على المرض ذاته، وعرفت بأن جالب المرض نسيب الذي أوصله بعشرته إلى هاوية الضلال، فقالت: عشرة الأشرار أشد خطرا من ركوب البحر!
ودفع دافع الحب والشوق بديعة، فأمرت يدها على جبين الشاب ثانية، وفي هذه المرة نادته فلم يجبها، فكررت النداء ففتح عليها عينين غائرتين كأنه من أهل القبور، فقالت له بلطف وحنو: هما طبيعيان فيها والدمع يترقرق من عينيها: ألم تعرفني يا فؤاد؟ أنا بديعة.
وكأن صوتها هذا اللطيف أرجع الشاب إلى صوابه دفعة واحدة، فحملق فيها عينيه كمن يريد ابتلاعها، وقال لها بصوت ضعيف: اذهبي عني أيتها الخائنة الماكرة ودعيني أموت غير منزعج من منظرك. ماذا أتى بك إلي؟ وأين هو حبيبك الذي فضلته علي وأوصلتني بمكرك إلى هذه الحالة التعيسة؟ أين هو ذلك الشاب الذي نظرته يلبسك الخاتم بعيني؟ أين هو؟ أين ... آه من أعمالك ... آه من غدرك ومكرك ... آه!
فقاطعته بديعة الكلام وهي تقول بهدوء وتجلد: يجب أن تتكلم بهدوء يا فؤاد؛ لأن التأثر يضرك، فإنني لم أكن ولن أكون خائنة، بل أمينة على حبك، ولو قدرت على مخاطبتك بذلك الوقت لكنت برهنت لك عن أمانتي بصدق وشجاعة. أما الآن فقد مررت بهذه المدينة وأنا عائدة إلى الوطن، فلم يطاوعني قلبي بعد أن سمعت بمرضك أن أتركك وأسافر دون أن أعودك.
فقال المريض متنهدا: عائدة إلى الوطن!
فآنست منه بعض الارتياح، ولذلك قالت: نعم لأنني الآن بحالة غير حالتي الأولى؛ لأني لست يتيمة كما كنت أظن، بل إن والدتي حية، وقد أرسلت في طلبي شيخا فاضلا ليرجعني إليها.
فقال فؤاد بغضب: آه يا خائنة ... إنك تطعنين قلبي بحربتين الآن ولا تبالين: حربة مكرك وغدرك وحربة الشماتة، فأنت ستذهبين إلى أمك سالمة بعد أن تتركيني أموت في بلاد الغربة وتخسر أمي ولدها بسببك ... وهو يموت في مستشفى الفقراء ...
وبالحقيقة أن بديعة كانت شجاعة؛ لأنها ثبتت غير متزعزعة أمام غضبه لأن سلاح الحق معها، وما كان بكاؤها إلا تأثرا من كلامه الجارح ودموعه الغزيرة، ومن تألم الروح فأجابته قائلة: بالله عليك يا فؤاد لا تظلمني؛ لأنني لست مذنبة، وأنا أبتهل إلى الله أن تعيش مائة سنة بعد اليوم، وتندم في كل يوم من أيامها على إساءة الظن بي.
فقال: إساءة الظن بك!
إنني بعد أن تحققت الأمر بنفسي لم تعد خيانتك «ظنا»، بل أضحت أمرا مقررا.
قالت: قلت لك وأقول تكرارا بأنني لست خائنة، ولكن في الأمر سوء تفاهم وغدرا أوصلانا إلى حالتنا الحاضرة من الافتراق، وعلى كل حال إنني لم أعدك لاسترجاع حبك الآن، بل أتيت قياما بواجبي نحوك؛ فإن قبلت عيادتي كرجل شريف كان خيرا، ومتى شفيت تتحقق من منا المذنب نحو الآخر، وأظن أن الذنب ليس على واحد منا، بل إننا قد ذهبنا فريسة الغدر وإن ...
وقبل أن تتم بديعة كلامها سمعت صوتا من ورائها اقشعر له بدنها يقول: أنت هي المذنبة، أنت هي الخائنة الماكرة نحوي ونحوه؛ لأنك بعد أن حملتني على الهرب معك كتبت ذلك الكتاب الكاذب إلى فؤاد، فكان سبب لحاقه بك ووصوله إلى هذه الجالية.
فلم تقدر بديعة على المجاوبة؛ لأنها لم تجد ما تجاوب به، وكان موقفا حرجا جدا، وهي بين قساوة وبغض فؤاد ومكر ونفاق نسيب، فقامت وتركت المستشفى حالا.
الفصل السابع والثلاثون
مرض بديعة
ولم تحتج بديعة أن تكذب على ميخائيل «بتمارضها» لتبقى في نيويورك إلى ما بعد شفاء فؤاد، بل إنها مرضت حقيقة وغابت عن وعيها ثلاثة أيام، وبقيت مريضة زمنا والأفكار تزعجها.
ولما أبلت من مرضها ذهبت إلى المستشفى وقابلت الممرضة وسألتها عن حالة فؤاد، فقالت لها هذه: إنه يتقدم نحو الصحة بسرعة غريبة، ولكن ما ينقصه الآن هو الطعام الجيد؛ لأنه يجد شهية للأكل ولا يحب أكل المستشفى، ولا مقدرة له على شراء المأكولات التي يرغبها. واستأنفت الممرضة قولها بأنه لو كان لديه مال يشتري به الغذاء الذي يريده، لكان يتقدم للصحة بأسرع مما يتقدم الآن؛ لأن ثلاثة أرباع مرضه في الوقت الحاضر من ضعف القوى، والاحتياج إلى الغذاء الجيد الذي يفيده أكثر من الأدوية.
فليتصور القارئ تألم بديعة لدى سماعها هذا الكلام عن حبيبها الذي قد تربى بالدلال والترف، ثم إنها هي التي احتملت ما احتملت لأجله قريبة منه تقدر على مساعدته وتسليته لو أراد، ولكنه لا يريد لأن مكر نسيب كان مستوليا على قلبه ومحققا له خيانتها، ولم يكن لدى بديعة مال إلا بعض دولارات قليلة؛ لأن ميخائيل كان يقوم بالمصروف.
ولم يكن عليها حلي يذكر أيضا؛ لأن بديعة كانت تعتبر حلي الآداب والفضائل مغنية عن المجوهرات، وكأنها في ذلك الموقف نسيت بأن في يديها خاتمين من الألماس الثمين، ولكن لم يكن ذلك لأنها نسيتهما، بل لأنها لا تحسبهما حليا؛ لأن لبسهما لم يكن لأجل الزينة بل لأجل الذكرى. وبعد هنيهة نظرت في يديها، فرأت في كل منهما خاتما، فاحتارت في أيهما تضحي في سبيل هذا الواجب: أخاتم اليد اليمنى الذي ألبسها إياه أديب في ذلك اليوم الرهيب الذي تغيرت بسببه حياتها؟ أم خاتم اليد اليسرى الذي وضعه فيها فؤاد في أول يوم من بزوغ شمس حياتها المظلمة الآن بعد الكسوف! فخاتم اليد اليمنى كان مذكرا لها دائما بلطف وحب وإخلاص ذلك الأخ الصادق الذي لو وجد مثله كثيرون لما وجدت قلوب منكسرة، أم خاتم اليد اليسرى الذي أعار قلبها ضياء من قلبه في أول الأمر، ثم عاد فاسترجعه منه وتركه في ظلام كأن جواهر القلوب ليست مستحقة للنور في أيام غلب فيها الظلام عليه.
وبعد التفكر هنيهة قالت: كلاهما عزيز وكلاهما يصعب علي فراقه، فبينما أحدهما يذكرني بحب شريف لا بد من دخوله قلب كل فتاة طاهرة فيسعدها أو يتعسها، أرى الآخر يدل ببهائه على حب عزيز جدا، ولذلك فهو نفيس جدا على حب لا تكدره الغيرة؛ لأنه أشرف نوع من الحب يشعر به قلب امرأة نحو رجل أو امرأة، هو عاطفة النفس الشريفة يهزأ بالغاية ولا غاية منه سوى غاية عمل الخير مع الغير ومشاطرته السراء والضراء، ويضحك من الزوال لأنه أبدي لا يزول؛ إذ إنه لم يدخل القلب قبل أن ينظفه من صغائر العواطف، فلا يبطره الفرح بل يزيده رزانة وهدوءا، ولا يوهنه الحزن بل يزيده بشاشة وقوة وثباتا. ثم قالت: إن هذا الخاتم لا حق لفؤاد به؛ لأن له من يطالب به، وأما هذا - وأشارت إلى خاتم فؤاد - فهو حقه، ومع أنه يصعب علي تضحيته فإنني سأفعل وتكون هذه آخر ضحية مني على مذبح الواجب، ولكن فؤادا لم يعتبر أو يعرف كل هذه الضحايا ... ومن أشد بلايا الإنسان أن يعمل كثيرا مع من يحبهم، ولا يطلب جزاء إلا اعتبارهم لأعماله ولا يحصل عليه.
ثم نزعت الخاتم من يدها ودموعها تتساقط كحب اللؤلؤ وقالت: أنت يا أيها الخاتم العزيز أول هدية منه إلي في أيام سعادتي، وستكون الآن آخر هدية مني إليه في أوقات تعاسته، فإذا حرمت النظر إلى تذكار حبه فيك، فلا أحرم الفكر بأنك ستفيده وتعزيه وتغذيه. ثم ناولته الممرضة التي كانت واقفة تنظر إليها مدهوشة وقالت: أرجوك قبول هذا الخاتم كرهن عندك، فهو يساوي ثلاثمئة ريال، فأتيه بكل ما يطلبه من كساء وغذاء، ومتى شفي وعرف بأنني تركت هذه البلاد، أخبريه بقصتي وقصة هذا الخاتم الذي هو لك إلا إذا دفع لك ثمنه.
فأخذت الممرضة الخاتم، وكانت عرفت من النظر إليها ما كلفها أمر نزعه من يدها من الحسرة، وأقسمت لها بالصلة التي بينهما من الجنس والعمر أنها تعامل فؤادا معاملة أخ لها وتعتني به.
الفصل الثامن والثلاثون
السفر
وبعد ثلاثة أيام كان موعد سفر الباخرة التي تقل ميخائيل وبديعة إلى سورية، وكانت بديعة قد اعتمدت على السفر هذه المرة؛ إذ لم يعد لها بالبقاء مأرب بعد تحققها شفاء فؤاد.
وفي اليوم المعين لسفرهما طلب منها رفيقها الشيخ أن تذهب معه لزيارة عائلة من أصدقائه، وقال لها: إن في تلك العائلة فتاتين كريمتين أديبتين تودان مشاهدتي وقد طلبتا مني ذلك. فسرت بديعة لهذا الأمر، وربما كان هذا ما رغبها بالزيارة؛ لأنها كانت تعشق ذكر كل امرأة أديبة، ولا سيما إذا كانت سورية وتشعر باحتياج السوريات إلى الأدب، فإذا رأته فيهن تسر وتفرح فلا تغار ولا تستصغر؛ لأن الفضل يعرفه ذووه، ولأن بديعة لم تكن فتاة جاهلة تبغض كل امرأة أديبة، ويكون عذرها بذلك جهلها. ومن جهل شيئا عاداه.
ولم يستريحا بعد دخولهما حتى أحضرت المرطبات والحلوى والقهوة، أو بالحري «حضرت الضيافة السورية» عادة؛ إذ لم يكن لنا غيرها وغير الحشمة، فكفانا بها فخرا عند الأمريكان الذين يعجبون بهما وإن كنا لا نعتبرهما لأنهما من «عوائدنا».
ولم يطل الجلوس ببديعة أو يتم سرورها بمحادثة الفتاتين، حتى سمعت وقع أقدام في الخارج. ولما دخل الزائران لم يكونا سوى نسيب ولوسيا، فاضطرب قلب بديعة واحمر وجهها، ولكنها تجلدت ولم تظهر شيئا.
ولحظت من ربة البيت انقباضا حين دخولهما، وكأن تلك السيدة المعتبرة خجلت أن ترى فتاة متأمركة تأمركا معيبا زائرة مع شاب غريب عنها، ونظرت إلى ابنتيها اللتين كانتا كزنبقتين نضيرتين أو كبرعمتي ورد إحداهما أكبر من الأخرى؛ لأن إحداهما كانت في السابعة عشرة، والثانية في الثانية عشرة، وكانت تربيتهما سورية محضة. وكانتا لم تزالا بظل عناية والدتهما، فلا تدخلان مجلسا أو تذهبان إلى مكان إلا بصحبتها.
وكانتا إذا دخلتا مجلسا جلستا فيه على جانبي والدتهما، فتظهر هذه بينهما كالقمر بين نجمتين، وهكذا كانتا الآن إلى جانبي بديعة التي أحبتاها كثيرا.
ومع أن أهل البيت لم يحفلوا بلوسيا كثيرا «لأنهم كانوا يعرفونها»، فلم يؤثر هذا الأمر فيها شيئا، وابتدأت تتكلم كلاما «مبطنا» أو ذا معنيين، وقصدها أن تقهر بديعة؛ لأن سلاح الجبان القاصر مغامز لسانه، بينما سلاح العاقل الفاضل أدبه ورزانته وصبره على الشر، وهذا ما يخفض الأول ويرفع الثاني.
وكان نصيب لوسيا من تلك العائلة المتهذبة الازدراء، وكانت سيدة البيت تارة تضحك من كلامها، وطورا تعرض عنه، وأحيانا تزجرها وتنظر بعين ملؤها الاعتبار لبديعة الهادئة، وفي الأمثال العامية: «ما أحد عقل وندم.» وهذا حق لأن الذي «يعقل» لا ينال من صبره وتجلده على الأشرار وزجره وحشية نفسية إلا الصيت الحسن، وهو أعظم شيء على الأرض، والعكس بالعكس.
وخرجت لوسيا من ذلك المجلس وهي تكاد تتميز غيظا، زاده فيها قول نسيب لها بأن أعمالها تجلب لها الاحتقار؛ لأن هذه الفتاة المغرورة كانت تظن بأن حبيبها يعتبرها، وأن اعتباره وحده كاف لسرورها ولحمل الناس على اعتبارها، وقد خاب ظنها؛ لأن نسيبا كان يعرفها كما هي، وهكذا كل رجل، ولم يكن ثناؤه عليها إلا «ليضحك عليها» ويسلب مالها في بعض الأحيان.
وهب أن نسيبا كان يعتبرها حقيقة؛ فإن عين الحب عمياء في أغلب الأحيان، وشهادة المحب وحده على الخلال لا تكفي، وأعظم شهادة للمرأة هي شهادة العقلاء من نساء ورجال فيها.
ولو سمعت لوسيا كلام صاحبة المنزل بحقها لازداد غضبها؛ فإنها بعد خروجها قالت أمام أصحابها الذين تثق بشرفهم: إنني لا أحب أن أرى فتياتنا بهذه الحالة، كما أنني لا أحب أن تنظر بنتاي إلى هذه الفتاة؛ لأنها حجر عثرة في سبيل نفسها وسبيل سائر الفتيات نظيرها، فالله يهديها.
وجرح هذا الكلام قلب بديعة؛ لأنه بحق فتاة أحبتها كثيرا ولم تزل تحبها بالرغم من أعمالها، ولما خرجت من ذلك البيت قالت ربة المنزل: إن هذه الفتاة الأديبة تستحق كل اعتبار وثناء من الأمهات الفاضلات؛ لأنها بأعمالها تكون مثلا صالحا لبناتهن يؤثر في عقولهن أكثر مما تؤثر تربية الأم ذاتها أحيانا؛ لأن الفتيات شديدات الرغبة بالاقتداء بأترابهن.
وفي عصاري ذلك النهار تركت بديعة نيويورك، ولما صعدت إلى الباخرة نظرت إلى وجه السماء، فرأته مكفهرا مكمدا وهو مثقل بالغيوم، كما أن قلبها مثقل بالهموم، فتنهدت وقالت: إن الفلك مهموم الآن، ولا أدري أمن همي مشتق همه أم من هم نفسه.
الفصل التاسع والثلاثون
اللقاء السعيد وإفشاء السر
لا غرو إذا تعجبت بديعة من مرأى ذلك البناء الفخيم الذي كانت عتيدة أن تدعوه «بيتها» لأنها لم تسكن في بيت «لها» من حين أفاقت لنفسها، فقالت في سرها: إذا كانت هذه مجازاة الله للصالحين الصابرين على الأرض، فكيف هي في السماء يا ترى حيث الجمال والبهجة أتم وأكمل؟!
هذا كان سؤال بديعة لنفسها إذ دخلت تلك الدار معتمدة على ذراع ميخائيل، فوجدت في صدرها تلك السيدة التي كانت تزورها في المدرسة بثوبها الأسود، وهي كما كانت منذ خمس سنوات، كأن الهموم أتتها دفعة واحدة فأوقفتها عند حد الكبر، وكانت الآن واقفة بانتظار ابنتها ودموعها متساقطة كالوبل، وهي فاتحة ذراعيها تترحب بدخول بديعة إلى بيتها وقلبها معا.
لم تنظر بديعة بدهشة إلى تلك الدار حين وصولها إليها، بل ظهرت عليها علائم عدم الاكتراث؛ لثلاثة أمور الأول: لأنها كانت رأت مثلها من قبل؛ وإذ عرفت بوجودها في الدنيا قل اعتبارها لها، وإن تكن تلك التي رأتها لم تكن ملكها. والثاني: لأنها كانت تنظر إلى قلب الدار لا إلى جسمها، إلى داخلها لا إلى خارجها؛ حيث رأت «بناء» أفخر وأجمل وأكمل عندها من ذلك البناء الحجري، بناء جسم والدتها. والثالث: لأن رزانة بديعة كانت عجيبة، واندهاشها من الأشياء كان نادرا، ولكن إذا رأت ما يدهشها لا تكترث له، وهي بذلك على حد ما قيل:
وتعظم في عين الصغير صغارها
وتحقر في عين العظيم العظائم
ولا حاجة إلى وصف الفرح الذي استولى على ذينك القلبين الحزينين من اللقاء بعد ذاك الفراق؛ لأن كل والدة وابنة من القارئات تعرف وتشعر بهذا، فتكفينا مؤنة الوصف له. وغاية ما نقول أن فرحهما كان مزدوجا؛ لأنه أتى بعد عذابات أليمة وفراق طويل، وكل شيء بعد الشقاء واليأس والعناء حلو لذيذ.
وبعد أن استراحت بديعة من التعب أخذتها والدتها بيدها، وأدخلتها غرفة خاصة يظهر من منظرها أنها كانت غير مأهولة. ولما استقر بهما المكان وكانت كل واحدة منهما تنظر إلى الأخرى بتفكر، الأم تتصور ذاتها لما كانت بعمر البنت، وكان لها الحب والصبا والجمال، وتسر ولو بالفكر، والبنت تصور نفسها بعد عشرين سنة؛ إذ تصير كوالدتها وتفتكر بما تكون الحالة إذ ذاك - نظرت الوالدة إلى صورة معلقة على حائط تلك الغرفة، وأشارت بيدها إليها قائلة: أتعلمين صورة من هذه يا بديعة؟
أجابت الفتاة بحزن: أظن أنها صورة والدي.
فتنهدت الوالدة وقالت: أليس جميلا؟
قالت البنت: أجمل رجل رأيته بحياتي.
وكان كلام بديعة صادقا؛ لأنها قبل أن رأت هذه الصورة كانت تقول هذا القول عن صورة فؤاد، ولكنها لم ولن تنظر بالرجال أحسن من صورة والدها، ولا بالنساء أجمل من صورة والدتها؛ لأنها شريفة. وأثر كلامها بقلب والدتها أكثر مما أثر منظر الصورة، فبكت وبكت بديعة معها.
ولما استراحتا قليلا قالت الوالدة: دعيني أقص عليك تاريخ صاحب هذه الصورة الذي هو أبوك وتاريخي.
إنني يا عزيزتي لما كنت بسنك كنت مثلك في الهيئة تماما، أما الأخلاق فلا أقدر أن أقول عنها شيئا؛ لأنه كثيرا ما تمحو المعاشرة والتربية ما يكون قد علق بأخلاق الإنسان بالإرث. وإذ كنت في الخامسة عشرة من عمري مرت علي العاصفة التي تمر على كل فتاة في هذه الحياة، والتي أرجو أن لا تكون مرت عليك بعد؛ لأن مرورها وأنت بحجر والدتك يكون أصلح وآمن، فهي عاصفة الحب التي تحتمل الفتاة، فإما أن تنزلها في مكان أمين، وإما أن تطرحها في هاوية خطرة.
وكنت يا بنيتي جميلة وغنية وعزيزة عند والدي وأصدقائي، أرى أمامي من جهة مالا كثيرا يشتري كل ما يباع بمال، ومن جهة أخرى سعادة وخدما ووالدين وأصدقاء يحبونني، وأنا أسكن في دار، فخيمة تحفني فيها كل أنواع العظمة والجمال، وتحسدني عليها أكثر النساء؛ إذ يحسبنها سعادتهن. وأما أنا فلم أكن أحسبها كذلك، بل كنت دائما أشعر بفراغ في قلبي ولا أعرف له سببا، وكنت أنفر من كل هذه الأشياء لأنني أميل إلى المعيشة الروحية، ولذلك أحسب هذه العظمة وهمية، والشيء الذي يسرني ويملأ فراغ قلبي لم أكن قد وجدته بعد.
ومعلوم أن شبان المدينة كانوا يتسابقون إلى طلب يدي، فمنهم حبا بمالي ومنهم بجمالي وأشياء غير هذه متعددة، ومع ذلك فإن قلبي لم يحب أحدا منهم. ومع أنني كنت أعرف اضطراري للاقتران يوما ما إتماما لرغائب والدي، فلم أحب أن أظهر ميلا خاصا إلى أحد أولئك الطلاب، وكنت أفضل الانتظار.
وكنت مولعة بالرياضة الجسدية كثيرا، ففي أحد الأيام بينما كنت مع جماعة من الأتراب نتنزه في الخرج مر بنا رجل لابس اللباس الإفرنجي وعلى رأسه قبعة. وبما أن الثياب الإفرنجية لم تكن زي تلك الأيام كما هي اليوم بكثرة، عرفنا بأن الرجل غربي ثم فرنساوي؛ لأنه خاطبنا باللغة الفرنساوية سائلا عن الطريق الأقرب إلى المدينة، وإذ لم يكن بين الفتيات من تفهم هذه اللغة غيري دللته على الطريق. وبعد أن شكرني ومشى بضع خطوات، رجع إلي ثانية وطلب مني جرعة ماء. وكان معنا زاد وماء، فسقيته، فظهر لي من هيئته بأنه تعبان، وكانت ثيابه بالية وحذاؤه مرقعا، والخلاصة أن هيئته كانت فقرية ولكنها جميلة للغاية. وكان وراء ذلك المنظر الفقري قلب يتحرك بالعينين، فشغف به قلبي، وبكل جرأة سألته ما إذا كان يريد طعاما، والذي حملني على سؤال رجل إفرنجي غريب هو وجود خادم وخادمة كهلين كانا قد خرجا معنا لأجل الخدمة، فنظر إلي الشاب عند هذا السؤال نظرة شكر لا أنساها قط وجلس حالا؛ لأنه كان جائعا فأتيته بطعام، ولما انتهى قام وذهب بعد أن رفع قبعته وقال: شكرا لك يا سيدتي إنني سوف لا أنسى طعم جميلك وطعامك ما حييت.
ولم أعد أنظر الشاب بعد ذلك، ولكن ذكره لم يفارقني، وكنت دائما أؤاخذ نفسي على الافتكار بشاب غريب فقير كهذا، ولكن نزوع هذا الفكر إليه كان فوق مقدرتي.
وذهبنا لقضاء فصل الصيف بعد أيام، ولما رجعنا سمعنا بذكر مصور شهير أتى دمشق، وقد أصبح ذكره بها كذكر روفائيل في العالم.
ورأينا من تصويره ما أدهشنا نحن أيضا، فقالت لي جدتك: يجب أن تتصوري عنده، فبعثنا نستحضره، ولا تسلي عن خفقان قلبي واضطرابي يا بديعة؛ إذ دخل المصور وعرفته بأنه نفس ذلك الشاب الذي كانت صورته في قلبي، أما هو فبغت أيضا وخاطبني بلغته التي لا تفهمها والدتي قائلا: إنني سعيد يا سيدتي لأنني قدرت على أن أشكرك مرة ثانية.
ولما كان يصورني خاطبني قائلا: إذا كان أحد يقدر على فهم الجمال الحقيقي وتصوره، فهم المصورون يا سيدتي. ومن تلك الدقيقة عرف كل منا ما عند الآخر، وتدرجنا في المحبة إلى الوعد بأن كلا منا هو للآخر، وعملا بالعهد فاتحت والدتي بالأمر فحزنت جدا، وأخبرت والدي الذي غضب وأخذا يتهدداني، أما أنا فلم يثبط كل ذلك عزمي، فهربت مع الشاب من دمشق إلى بيروت حيث اقترنا وسكنا هناك.
وقد كنت أظن أنني متى اقترنت به أحصل على كل سعادة ويمتلئ فراغ قلبي، ولكن قلبي التعيس امتلأ من جهة وفرغ من أخرى؛ لأنني بعد أن ظننت أن الحب هو كل سعادة في الحياة، اختبرت وعرفت أن الحب الذي يداس به على الواجب المقدس لا تكون سعادته خالصة، بل مشوبة بوخز الضمير الحي.
وكنت يا بنيتي سعيدة مع أبيك وهو سعيد بي، ومع أننا قاسينا مضض الفقر والهم ، فإنني لم أكن أبالي بشيء ولا يزعجني غير مثول وجهي والدي الغاضبين دائما أمامي.
وكان أبوك يذهب إلى القرى يصور مع رفيق له، ولكن مهنته لم تكن تأتي بمال كثير؛ لأنها مع شرفها لم تكن معتبرة في تلك الأيام كما هي الآن، لذلك كنا يوما في نعيم وآخر في جحيم من جهة الماديات.
وكان أبوك ذا إحساس وشرف غريبين، فكان يقول لي دائما بأنه مذنب نحوي؛ لأنه انتزعني من بين ذراعي والدتي ووالدي وجلب علي نقمتهما، وأتى بي من بين العظمة والرفاه إلى حيث لا يقدر أن يعوض علي شيئا منهما.
فكنت أقول له بأنه إذا كان من ذنب فكلانا مشتركان به، وأظهر له سعادتي دائما لئلا أزعجه، ولكنه لم يقتنع بمظاهراتي وعرف ما أنا عليه من الهم. وكان يرى دائما مهموما ويقول بأن ضميره لا يريحه، ويكد ويجتهد لأجل سعادتي، حتى ضعف جسمه فاعترته حمى خبيثة لم يقو عليها ذلك الجسم الناحل، فمات - وا حسرتاه - إذ كنت في الشهر الأول من عمرك، وذقت أنا بموته أمر وأشد حسرة في حياتي، لم تزل تعذبني لليوم، وكنت بغاية الفقر إذ ذاك؛ لأن ما كان معنا صرفناه على مرض وموت والدك، فعزمت أن أحصل رزقي بيدي، وفي تلك الأثناء أتت جدتك تزورني؛ لأنها عرفت بموت والدك، وبعد جدال ورجاء طويلين أغرتني - سامحها الله - وأنا إذ ذاك صغيرة السن بوضعك في العازارية وإخفاء المسألة والرجوع معها، وإلا فهي لا تقر بي ولا تقر بي مع والدي.
وكأن وطأة الهموم كانت قد أضعفت عقلي حتى رضيت معها بهذا الأمر، فنزعتك عن صدري وقلبي، وأرسلتك إلى دير العازارية، ورجعت مع والدتي إلى البيت، وكنا أرضينا رفيق والدك الذي هو أبو لوسيا التي كانت في المدرسة معك لإخفاء الأمر بمال كثير، وقلنا له أن يدعوك ابنة أخته حتى لا ترتابي في نفسك.
وهكذا يا حبيبتي تركتك ورجعت، ولكن ظن والدي خاب في؛ لأنني لم أقبل معهما بالزواج، إذ إن ذكر والدك وذكرك كانا كافيين لأن يمنعاني عن هذا الأمر.
وكنت ظننت وأملت أن والدي يرقان لي ويسمحان باسترجاعك بعد زوال عاصفة غضبهما، فكان قلبهما صخريا، والذي كان يساعدني على الصبر هو زيارتك في المدرسة. وفي أوائل هذه السنة مات جدك وماتت بعده جدتك، فأرسلت صديقي ميخائيل ليفتش عنك، فأتى وأخبرني بأنك في أمريكا، وما بقي فأنت تعلمينه. فهل أنا مستحقة الصفح عندك ابنتي؟
قالت هذا وانطرحت على ركبتي ابنتها، فارتعدت فرائص بديعة، وحاولت أن ترفعها عن الأرض، فلم تقدر فانطرحت بجانبها وهي تبكي وتقول: أمن كانت مثلك تحملت كل هذه العذابات والمشقات لأجل والدي ولأجلي تعد مذنبة يا أمي؟ وهل والدة مثلك قد أعدت لابنتها هذا المستقبل العظيم مخطئة وتطلب الصفح؟! إنني أنا المذنبة يا أمي؛ لأنني لم أقدر أن أشاطرك همومك فيما مضى، ولكنني أعدك بكل ما عندي من الاعتبار لشرفك أنني أعوض عليك في المستقبل ما قد خسرته في الماضي، بأن أكون لك بنتا محبة ومطيعة وفاضلة، وهذا ما يفرح ويسر قلبك الشريف.
وخرجت جميلة وابنتها من تلك المعركة الفكرية منهوكتي قوى النفس والجسد.
الفصل الأربعون
إعجاب الأم بالبنت
وبعد اجتماع السيدة جميلة أعلنت قصتها. فتناقلتها ألسنة الناس والجرائد في كل أنحاء سوريا، وكانت تبتدئ وتنتهي دائما بذكر الوالدة وعذابها وحبها، وبأدب وتهذيب وفضل الابنة التي جاءت كجزاء عادل من الله لتلك السيدة التعيسة بعد صبرها على العذاب، والله يكافئ الصابرين.
ومعلوم بأنه لو كانت هذه السيدة فقيرة، لكان اكتفى أصحاب الجرائد بسرد قصتها «تفكهة للقراء»، ولكان اكتفى «قراء التفكهة» بقراءتها. أما والحالة تفرق كثيرا، فإن مقالات الجرائد كانت كسلسلة متصلة الحلقات لمدة شهور.
وكان إعجاب الوالدة بابنتها عظيما بعد أن اختبرتها؛ لأنها لم تكن تنتظر ما رأته من العلم والآداب والتهذب والفضائل في الفتاة التي «نزعتها عن صدرها»، وباتت في شك من اكتسابها شيئا حسنا وهي بعيدة عنها.
وآخر مرة نظرت الوالدة ابنتها في المدرسة لم تحلم قط بأنها ستصل إلى هذه الدرجة من جمال النفس والجسد، وأظهرت ذلك لبديعة مرة إذ قالت : إنك بأخلاقك وطباعك وجمالك كما أريد يا بديعة وفوق ما أريد، وكم تمنيت ذلك فلم يخيب الله آمالي، وأنا أراك بهذه الصورة الكمالية الآن أصدق قول القائل:
الابن ينشا على ما كان والده
إن الأصول عليها ينبت الشجر
وقد كنت أشك في صدق هذا البيت أحيانا كثيرة؛ لما أراه مناقضة الولد لوالديه بأخلاقه، فما هو رأيك أنت؟
قالت بديعة: أنا أعتقد بأن للدم أكبر تأثير يظهر في أخلاق وصحة وطباع الولد، ولهذا فقد حكم الأطباء والحكماء بأنه يجب على الإنسان أن ينظر إلى نقاوة دم العائلة قبل الزواج؛ لأن آثار هذا الدم تظهر في الولد. فتأثير الدم أكيد، ولكن التربية إما تزيله وإما تزيده. مثلا لو كان رجلا سكيرا وولد ولدا، فإن حب المسكر يولد معه، ولكن إذا سعد بمن يربيه تربية قويمة ويهذبه تهذيبا حقيقيا من صغره؛ فإنه يزيل بعنايته هذا الميل إلى السكر إذ يبغضه به ويبرهن له عن أضراره، فيتلاشى هذا الميل مع الأيام إلى أن يزول. وبالعكس، فإنه ينمو به كلما أنماه إذا لم يحسن تهذيبه وتربيته، أو إذا ترك لنفسه، فإنه يرث أخلاق والده، ويمثل هذا بصدق قول القائل: «إن الأصول عليها ينبت الشجر.» لأن تأثير الدم ينمو فيه ولا ينقص.
وقد يحدث مع كل إنسان تقريبا أن يأخذ بذرة من ثمرة جيدة ويغرسها، ولما تنبت وتأخذ في النمو يتركها ولا يعود يكترث بها فتأتي بغير الثمر الذي يكون ينتظره، ليس لأنها غير جيدة الأصل، بل لأن جودة أصلها وحدها لا تكفي إذا لم يحول البستاني إليها عنايته والتفاته، وهذا القول يناقض ذاك المعنى: أن للدم تأثيرا، ولكن التربية إما تلطفه وإما تمحوه كما قلت.
فازداد إعجاب الوالدة بابنتها، وقالت وهي ترغب الاستزادة من هذا الحديث الذي طالما تاقت نفسها إليه. ومن يا ترى كان بستاني بذرتي الجيدة حتى مطابقة لأصلها، بل زادت عليه جودة؟
فابتسمت بديعة وأجابت: إن بستاني المفضل علي هو أمريكا.
أمريكا! قالت الوالدة بدهشة: إنني لم أحلم بهذا من قبل لأنني أسمع دائما بأن أمريكا بلاد متى دخلتها المرأة السورية تترك وراءها حشمتها وآدابها وكل فضيلة نسائية، كأن لا حاجة لها إليها في تلك الأقطار الشاسعة. ومتى رجعت إلى وطنها ثانية تصير تجدها عوائد قديمة خلقة، فلا تعود تفتكر بها.
قالت بديعة: إنني لا ألومك يا أماه على ظنك هذا بأمريكا؛ لأنك تبنين قولك على جهة واحدة، وأما أنا فأقدر أن أبين لك حالة أمريكا مع النساء السوريات بكلمات قليلة وهي: أن المرأة القابلة للتهذيب تزيدها أمريكا تهذيبا وعقلا وفضلا، أما المرأة الغير أديبة أو الجاهلة فأمريكا تزيدها قلة أدب وجهلا.
فالتفتت إليها والدتها وابتسمت، وقبل أن تتكلم سبقتها بديعة وقالت: إنني أعرف ما يخامر ضميرك يا أمي، ولكن ليس هذا ادعاء، بل افتخارا؛ لأني قد عرفت بأنه من واجبات المرأة أن تكون أديبة وفاضلة، وكنت أسعى جهدي لأصبر كذلك فلا أكون إلا عارفة معنى الواجب ومستعدة للقيام به، وليس هذا من الادعاء بشيء.
عند ذلك قالت لها والدتها: ما أقدرك على النطق بلساني والافتكار بجناني! فدعيني أعترف لك بأفضليتك على نفسي بأنك تجدين لكل دقيقة من دقائق حياتك شغلا لائقا بها، وتأتين كل شيء بضبط ونظام، فكيف تأتين هذا بكل هذه السهولة؟
أجابت بديعة بحنو: ذلك من حين عرفت كم هو ثمين الوقت، وفهمت بأن الترتيب شريعة الله الأولى؛ لأنه تبارك اسمه مرتب، وقد حفظت عن أحد الكتب التهذيبية أربع قواعد مفيدة، وهي:
أولا:
أن أرتب لكل شيء محلا مناسبا، وأن أضع كل شيء بمحله.
ثانيا:
أن أعين وقتا موافقا لكل شيء، وأن أعمل كل شيء بوقته.
ثالثا:
أن أحفظ اسم كل شيء جيدا، وأن أدعو كل شيء باسمه.
رابعا:
أن أستعمل كل شيء بوقته المعلوم، وأن أعرف كيف أستعمله.
وإذ سمعت والدتها منها هذا الكلام اقتربت وقبلتها بحرارة قائلة: حفظك الله لي ابنة نافعة فاضلة؛ فإن عذاباتي الماضية كلها لا تحسب عندي شيئا مقابل سعادتي بك الآن.
الفصل الحادي والأربعون
رأي بديعة مخالف لرأي والدتها
ومع سرور بديعة بوالدتها ، لم تنس قط همها العظيم وحزنها لجهة فؤاد، وكانت معذبة القلب من حمل همها وحدها، وتريد مشاركة والدتها به؛ لأنها كانت فتاة بالغة حد الكمال الممكن، ولا تحب أن يفوتها واجب من واجبات الفضيلة، وكانت تعرف بأنه لا سر في الحياة تقدر أن تكتمه البنت عن أمها متى كانت في بيتها، ولا عن زوجها متى انتقلت إلى بيته، ولا تعد مخطئة لأن الوالدين أصدق الأصدقاء، ولعمري أي صديق أو حبيب في العالم يضحي لأجل شخص ما، ما تضحيه الأم لأجل ولدها؟
فإفشاء الأسرار للأم ومشاركتها بها واجبان لثلاثة أسباب؛ الأول: لأن المهم يجد دائما بأنه عاجز عن حمل همومه وحده، ويشعر إبان هذه الوحدة باحتياجه إلى تسلية وإرشاد، وإذ إنه من التعقل والفائدة أن لا يسلم الإنسان أسرار نفسه إلا لمن يعتقد بحبهم، ويعرف بأن هذه الأسرار متعلقة بهم كما في المشتكى، لا يرى الولد غير الأم ذات علاقة أولى واهتمام صادق به. والثاني: لأن الفتاة متى كانت لم تزل تحت سلطة والدتها تكون مطالبة بالأمانة نحوها، وواجب هذه الأمانة يقضي على الفتاة بأن لا تأتي أمرا بغير علم والدتها به. والثالث: لأن المثل العامي يقول: «من هو أكبر منك بيوم أعلم منك بسنة.» وهذا صواب متى تساوى الاستعداد وتقابلت الوسائط إلا في ظروف نادرة حيث يسبق الصغير بالمعرفة الكبير.
ولعمري أين هي معرفة الفتاة التي تكون حديثة عهد السير على طريق مجهولة منها من معرفة الأم التي قطعت نصفها بل كلها؛ لأن أعظم عقبة تعترض الفتاة في طريقها هي عقبة «الحب والزواج»، والوالدة تكون مرت عليها واختبرنها. وأية فتاة لا تسلم بالقول بأن البنت التي تكون تجهل طريقا ما ولا تسأل من قد سلكها قبلها عنها إما حياء وإما كبرياء وإما استقلالا بالرأي، تكون تعيسة وجاهلة؟ هذه كانت أفكار بديعة بهمومها، ولكنها كانت فتاة محبة لوالدتها، وعرفت بأن قصتها محزنة، فمن الحكمة أن تصبر عن مفاتحتها بها إلى بعد انقشاع بعض غيوم تعاستها.
وفي أحد الأيام جلست بديعة في نافذة الغرفة التي كانت أجمل ما في القصر برياشها وترتيبها، ولما أدارت وجها في تلك الغرفة تنهدت قائلة: يا له من فرق عظيم بين الفقر والغنى ... إن السيد المسيح له المجد لما قال: «لا تعبدوا ربين الله والمال.» أراد أن يذكر الإنسان بما سيقدم عليه من حبه للمال حتى ينسيه عبادة خالقه، فلو كنت أنا بحالتي الحاضرة حينما خطبني فؤاد، أكانت فعلت والدته ما فعلت بي وأنا خادمة؟ كلا! مع أنها صرحت باعتبارها لآدابي إذ ذاك، وبحبها لي، ولكن كل ذلك لم يهم لأنني لم أكن غنية، فلو رأتني الآن لكانت تدعي بأن القرب مني مفخرة ... وأنا لم أزل كما كنت ولكن هو المال ... هو المال الذي يهب الخامل شرفا ويجر بواسطته الجاهل ذيولا من المعرفة والعلم يدعيها لنفسه، ويصادق على ادعائه الناس وإن لم يروها ويشهدون زورا بما لا يعرفون! المال، يصير القبيح جميلا والغبي ذكيا والشرس صالحا؛ لأن خطاياه مغفورة بقوة المال. ولكن ليس هذا ما يسرني؛ فإنني أحب كل شيء طبيعي - كل شيء جميل - كل جوهر لا عرض. ولما أحبني فؤاد وأنا خادمة اعتبرت محبته جدا، وكنت سعيدة بها ذلك لأنني عرفت صدقها. ولكن لو كنت بحالتي الحاضرة إذ ذاك لكنت في شك دائم من تلك المحبة ولم أصدقها، ولكنت في خوف من حبه لمالي أكثر مما هو لحالي، وعند هذا فتح الباب ودخلت والدتها ودلائل الفرح بادية على وجهها.
قالت الوالدة بسرور: إن عائلة من الأصدقاء تكون هنا بعد وقت، فيجب أن تستعدي لملاقاتهم يا بديعة وناولتها علبة صغيرة مغلفة بالمخمل الأحمر الجميل. فقالت بديعة: ما هذه يا أمي؟ أجابت الوالدة: هذه هي العلبة التي أعطتني إياها والدتي حينما رجعت من المدرسة، وفيها كثير من الحلي النفيسة، فاختاري منها ما يعجبك؛ لأن قاعة الاستقبال ستكون ملآنة من الضيوف الليلة، ويجب أن تظهري بأجمل مظاهرك.
فتناولت بديعة العلبة، ووضعتها على طاولة بالقرب منها، وقالت لوالدتها مبتسمة: إنك غير مصيبة يا سيدتي؛ لأن الحلي للسيدات المتزوجات وليس للفتيات مثلي، وكل ما أطلبه لأظهر «بأجمل مظاهري» كما ترغبين هو ثوب أبيض بسيط وزهرة واحدة جميلة، وباعتقادي أنني إذا كنت جميلة حقيقة فمن الخطأ أن أطلب زيادة عن صنع الله من صنع يد الإنسان، وإذا لم أكن جميلة فكل الدنيا وجواهرها لا تجعلني جميلة. ومن العبث أن أطلب الجمال المتأتي عن الحلي والذي هو جمال يكشف القبح الطبيعي.
فنظرت والدتها إليها بشيء من النفور لأول مرة وقالت لها: ما هذه الطباع يا بديعة؟ فإن أول شروط الموضة اليوم الإكثار من الحلي، وبالحقيقة إنها أجمل ما تتزين به المرأة.
فقالت بديعة: أرجوك أن تسمحي لي بالجري على الخطة التي أريدها؛ لأن موضة لبس الحلي للفتيات العزب موضة قبيحة لا أحبها، وعلى كل حال لا أريد أن أكون سيدة الموضة ولا عبدتها.
وبعد جدال طويل أقنعت بديعة والدتها بأن لا جمال بغير البساطة الطبيعية.
ولبست بديعة ثوبا من الكتان الأبيض بسيط الخياطة والتخريج، ووضعت في شعرها الأسود الجميل زهرة من الورد الأبيض، فظهرت صنعة يد الله العظيمة في وجهها وعينيها وثغرها ونحرها وقامتها ويديها.
ولا غرو إذا كانت بساطة الملابس تزيد الجمال وضوحا؛ لأن الألماسة الثمينة يركبها الصائغ دائما فوق ذهب بسيط الصنع فيظهر جمالها جيدا، وأجمل ما يكون القمر متى ظهر في سماء بسيطة ولم يكن محاطا بالغيوم الكثيرة ...
ولم تكمل وضع ملابسها حتى دخلت والدتها، وهي تقول: إن صديقتي مشتاقة جدا إلى مشاهدتك، وستحبينها وتحبك لأنها من أجمل وأذكى سيدات بيروت.
ولما سمعت بديعة اسم «بيروت» خفق قلبها، فكانت تمشي متثاقلة بقدم مضطربة ولم تعرف لذلك سببا.
الفصل الثاني والأربعون
اللقاء العجيب
ولكنها لم تلبث أن عرفت السبب؛ لأنها أول ما وضعت قدما في باب القاعة أرجعتها وهي مضطربة لا تدري أفي يقظة هي أم في منام. وكانت عيون الضيوف متجهة نحو الباب بشوق لمرأى بديعة؛ لأنهم كانوا سمعوا عنها شيئا كثيرا ولد فيهم شوقا عظيما إلى مشاهدتها، ولما وضعت قدمها في باب القاعة كما ذكر أسرعت السيدة مريم نحو الباب وهي تصرخ بصوت عال: بديعة بديعة! أهذه أنت؟!
وكان زوجها قد تبعها للباب أيضا، أما ولدهما فقد كان ضعيفا للغاية، وإذ أتته تلك الضربة القلبية عجز عن الوقوف، ولما رأى ذلك الوجه وسمع والدته تنادي بذلك الاسم، انطرح على المقعد لا يقدر على الجلوس، وكأنه لم يقدر على مشاهدة ذلك المشهد أيضا فغطى وجهه بيديه.
وكانت السيدة جميلة أشد اضطرابا من الجميع؛ لأنها وقفت هناك تشاهد ذلك المشهد المحزن ولا تعرف السبب. أما بديعة فلبثت واقفة كالصنم بدون حراك ولا كلام، وإذ ذاك اقترب الخواجة منصور فضمها إلى صدره وقبلها قائلا: «إنني أسعد الجميع بلقائك؛ لأن محبتي لك لم يشبها كدر أو غدر، فالشكر لله ثم الشكر لله على نعمته.» وكأن كلام هذا الرجل المحب أعان بديعة فارتمت على كتفه وذرفت الدموع السخنة.
وشعرت السيدة مريم بهذا الجزاء من بديعة التي تبعت وحي قلبها بحب الخواجة منصور، ونسيت بأن مكتوبه هو الذي أخرجها من البيت، فنظرت إلى ولدها لتقابل نظره وتقرأ أفكاره، ولسعادتها كان لم يزل ساترا وجهه، فتنهدت من أعماق قلبها تنهد من تخلص من أمر صعب.
وبعد أن هدأ روع الجميع جلست بديعة ما بين والدتها والخواجة منصور، وقص هذا على السيدة جميلة القصة بصدق، وكانت بديعة مطرقة فلم تعر فؤادا ووالدته التفاتا.
ولما أتم منصور حديثه التفتت جميلة إلى مريم وقالت معاتبة: وهل كان كلامك لي عن تلك «الخائنة» موجها لحشاشة قلبي الطاهرة يا صديقتي؟
فقالت السيدة مريم - وكانت زهرة كبريائها قد ذابت الآن: أرجو أن تكتفي بقصاصي الماضي ولا تزيدي يا عزيزتي.
إذ ذاك تحركت في قلب بديعة عاطفة «عمل الخير» التي كانت تفوق جميع العواطف بنفسها، وللحال دنت السيدة مريم وجثت أمامها كملاك طاهر قائلة: إذا كان الصفح سماويا، فلنكن كلنا ملائكة بقلوب نقية، ولتصفح الواحدة عن الأخرى لأن الذنب مشترك بين الجميع ...
وبعد أن قبلت تلك السيدة الباكية انتقلت منها إلى فؤاد وقلبها خانق، وكان هذا لم يزل كما شاهده القارئ عند دخول بديعة وهيئته محزنة. وحزنه هذا اضطر بديعة للابتداء بملاطفته؛ لأنها رأت هذا من واجباتها. أما هو فلما سمع وقع خطاها المقتربة إليه رفع يديه عن عينيه وجرب ينظر إليها، فلم يقدر أن يقابل نظرها وأنى له ذلك. وهو عجز عن النظر إلى صورتها الوهمية بعدما تحقق براءتها، فكيف الآن وهو ينظر إلى الصورة الحقيقية.
لم يبك فؤاد لما اقتربت بديعة منه كما فعلت والدته؛ لأنه قل من يبكي من الرجال بوقت المصائب، وهذا دليل على أن سلاح الرجل شجاعته وسلاح المرأة دموعها، أو أن المرأة أشد حنوا من الرجل. على أن الشجاعة لم تظهر على وجه فؤاد مكان دموعه؛ لأنه كان مطرقا أصفر يرتجف كالورق. آثر منظره هذا في بديعة فوهبها شجاعة، فاقتربت منه واضعة يدها على رأسه المنخفض وقالت بصوت مضطرب: إن الموقف مفرح لا محزن، فما الذي يزعجك يا فؤاد بعد أن سمعت القصة من فم والدك؟ يجب أن تفرح وتصفح.
وكأن هذه الكلمة الأخيرة أحرقت قلبه، فصعدت الحرارة إلى خديه المصفرين وقال ناظرا إليها: أصفح! عمن؟!
أجابت بهدوء: اصفح عن الظروف التي سببت ما سببت لأجل سعادتنا بدون شك.
وكان الوالدون قد التهوا عنهما بالحديث، فجلست هي بجانبه وقالت بلطف: إن التقاءنا هنا مدهش عجيب، فيظهر بأنك بعد شفائك رجعت من أمريكا حالا، ولكن يا فؤاد هل علمت ببراءتي قبل الآن؟
فقال: هل تظنين أنني لو لم أعلم هذا الخبر من أمريكا كنت رجعت منها إلى حيث أنت؟
فابتسمت لكلامه الدال على عظم حقده الماضي عليها، وقالت بلطف: ولكن من أخبرك؟
قال: إن الله تمجد اسمه أوجد الموت وأوجد في قلب الإنسان رهبة منه، وجعله مهما يكن شريرا أن يشعر بافتقاره إلى تنقية الضمير والقلب قبل ذهابه من هذه الدنيا إلى حيث هي الطهارة والنقاوة؛ فإن الذي كان مسبب متاعبنا الماضية لما خاف من ملك الموت الرهيب أقر بخيانته وصرح ببراءتك. فعرفت بديعة بأنه لم يكن غير نسيب، ولكنها قالت: ومن هو؟
فأجاب فؤاد: هو ذاك الخائن نسيب!
فعلا وجهها بعض الاصفرار وقالت بحزن: وهل مات نسيب يا فؤاد؟
فابتسم وقال: وهب أنه مات فهل تأسفين على من كان سبب عذاباتنا يا بديعة؟
قالت: نعم آسف لأنني أصفح عنه من كل قلبي، وإذا كان قد مات حقيقة فأنا أحزن عليه لأنه قد أتى ما أتى مدفوعا ... ثم رفعت منديلها ومسحت به دمعتين طاهرتين سقطتا لأجل رجل لا يستحقهما.
فقال فؤاد: أرجو ألا تبكي عليه؛ لأنه لا يستحق هذه الدموع الطاهرة.
قالت: ولوسيا؟
أجاب: هي في أسوأ حالة من جراء عمله معها وعملها مع نفسها.
فتنهدت تلك الفتاة المحبة، ولم تمنع دموعها عن السقوط الآن، فسقطت بغزارة. وأراد فؤاد أن يحول فكرها عن هذه النقطة فقال: ألا تحبين سماع القصة؟
أجابت: بدون شك.
الفصل الثالث والأربعون
قصة فؤاد واعتراف نسيب
قال: من بعد زيارتك لي صرت أتقدم إلى الصحة كأن خيالك الطاهر وهبني القوة التي كنت رفضتها إذ ذاك، فصرت أطلب الأكل فلا أحصل عليه كما أخبرتك الممرضة. وكان نسيب يزورني مرة في الأسبوع وكل مرة يكون سكران، وكأنه عرف بأن يدي فارغة من المال، فصار يحتال علي لأطلب مالا من والدي أو من أحد معارفه في نيويورك لكي يسلبه هو مني. أما أنا فلم أكترث لقوله؛ لأن المرض كان قد علمني أمثولة حسنة، إذ إني لم أكن بهذا المقدار شريرا حتى أتابع سيري في طريق الضلال التي فتحها أمامي نسيب، وساعدني على دخولها همي من فراقك، ونويت أنني متى خرجت من المستشفى لا أرجع إلى الوطن ما لم أسلك، ولكنني سوف لا أرجع لأعمالي الأولى، بل أشتغل وأحصل معاشي من الكد. والذي كان يعيقني عن الخروج حالا من ذلك السجن المؤلم، هو ضعفي الزائد واحتياجي إلى الغذاء الجيد.
ولفرط عجبي غيرت تلك الممرضة خطتها معي بعد عيادتك؛ فإنها كانت تعاملني معاملة خصوصية، وتأتيني بكل ما أشتهيه من المآكل والمشارب سرا.
فمر بخاطري حالا أنها بعد أن أبللت تحققت ما أنا عليه من الجمال فوقعت بهواي ...
وكانت بديعة قد ابتسمت الآن من خلال دموعها الغزيرة، فابتسم هو أيضا وقال لها: ساعديني على الكلام بابتساماتك الحلوة يا بديعة؛ لأن هذه أمور ماضية لا تحزن. ثم استأنف الكلام فقال: ومع أنني لم أبال بغرام تلك الفتاة الذي حسبته سبب معاملتها الحسنة لي، فقد سررت به لأمرين؛ الأول: لأني مثل كل إنسان فرحت لأنني حتى في حالتي من المرض والضعف والفقر لم أعدم من تحبني من السيدات. والثاني لأني كنت باحتياج إلى مثل هذا الغرام الذي يجلب المنفعة في أشد أوقات الحاجة إليها. لا تنظري إلي شزرا يا بديعة؛ فإنني وإن كنت إذ ذاك ميت القلب عن كل حب، فقد كنت ميت الجسم أيضا. ومن الجهل أن أرفض قبول ما حسبته نعمة وقد كنت أحسبه قبل الآن نقمة.
ذلك لأن الأيام علمتني أن أكون مع الظروف لا ضدها، فلا تغتاظي إذن متى قلت لك بأنني كنت أوهم تلك الفتاة بنظراتي وملاطفاتي أنني أحبها. ولكن لم ألبث أن عرفت كم هي أفكاري ساقطة مقابل شرف نفسها؛ لأن تلك الفتاة اللطيفة لم تكن تفتكر بما افتكرت به، بل كانت تقوم نحوي بواجب لم أعلم سببه.
ولما لحظت هذا سررت لأنها وفرت علي مئونة التعب بما أظنه أنا يسرها، وهو بالحقيقة لا يهمها. ولما عرفت بأن معاملتها «واجب تقضيه» استرحت من إظهار الحب لها مسرورا.
وفي أحد الأيام قبل خروجي من المستشفى بيومين أتت تلك الصديقة، وأخبرتني القصة تماما وقالت لي بأنها رهنت الخاتم تحت مبلغ من النقود، وأنها لم تصرف علي أكثر من ثلاثين ريالا، فمتى وفيتها آخذ الخاتم. وأردفت بقولها: لأنني أعلم كم هو عزيز على قلبك ...
فتأملي كم كان شكري وإعجابي بأمانة هذه الفتاة الشريفة على الواجب الذي فضلته على خاتم يسوي ثلاثمائة ريال.
ولم يمض على خروجي من المستشفى غير أيام حتى دعيت إلى بيت لوسيا بالعجل، ولما وصلت وجدتها تبكي بكاء مرا فوق رأس نسيب الذي كان يسيل دمه، فأخذتني الرعبة من منظره وحزنت لأجله. وبعد الفحص وجدت أن أحد أصدقائه طعنه في صدره لأسباب كثيرة الحدوث على موائد القمار. ولما فتح عينيه ورآني فوق رأسه صرخ بأعلى صوته: أهذا أنت يا فؤاد؟ آه ... ما أشرفك وما أشرني! ما أسعدك وما أشقاني! ما أودعك وما أغلظني! فأبشر يا ابن خالتي بالسعادة التي تنتظرك لأنك عن قريب تلتقي ببديعة وتقترن بها وتعيشان سعيدين، بينما أنا أكون نلت جزاء خيانتي وذهبت نفسي إلى خالقها؛ لتقف أمامه ذليلة من ذنوبها الماضية التي أعظمها خيانتي لك ولبديعة.
وكنت أنا أسمع كلامه وأظنه يهذي. ولما انتهى ارتبت في أمره واقتربت منه قبل فوات الفرصة. ولما دنوت منه ووضعت يدي على رأسه قال لي: ادن مني لأن عندي أخبارا تهمك، ودع هذه المرأة وهؤلاء الناس يخرجون. فأومأت أنا إلى لوسيا والحاضرين فخرجوا، وأخذ يسرد علي مؤامراته عليك مع والدتي، وتزويره التحارير عن لساني ولسان والدي إليك، ثم عن لسانك إلي. وأخبر بديعة ما بالقصة كما صارت وأخبره عنها نسيب ثم قال فؤاد، وهذا أخبرني به ذلك الخبيث الماكر.
فثبت لبديعة ما كان عندها من قبل ظنا وقالت لفؤاد بحزن: لا تقل عنه هكذا؛ لأنه يجب علينا اعتبار الموتى مهما كانوا أشرارا، وفضلا عن هذا فهو ابن خالتك وقد ربيتما معا، وإنني لمتعجبة كيف قدرت أن تخيب قصته ولم تبك وهو قد مات تائبا.
فابتسم فؤاد وقال: لو كان مات تائبا لكنت حزنت وسررت معا، ولكنه لم يمت بل شفي ورجع إلى مرسح أعماله الأول يمثل عليه أفظع رواياته الشريرة. فهو لم يتب إلا حينما شعر بأن يد الموت الحديدية تقبض على روحه. ولما أحس بأنه أفلت منها أفلت نفسه من عقال توبته ورجع إلى ما كان عليه، ولكن الله رحوم؛ فإن خوفه من الموت خلص قلوبا دامية محبة ...
فقالت بفرح: إذن هو لم يمت؟ ولكن هل قابلت الشر بمثله يا فؤاد أم أنك تبعت وحي نفسك الشريفة الآمرة بالمغفرة؟
أجاب: فعلت الأمر الأخير لأني استدنت خمسمائة ريال، صرفت أكثرها عليه لأنه فقير، وكل المال الذي تحصله تلك الفتاة الجاهلة يصرفه على القمار، وقد دفعت مائة ريال إلى تلك الممرضة الصديقة، واسترجعت منها الخاتم بألف جهد؛ لأنها أبت إلا أخذ المبلغ الذي صرفته فقط.
وبقيت معتنيا به إلى حين شفائه، فبحثت عنك فقيل لي بأنك سافرت إلى الوطن، فرجعت إليه مطمئنا مسرورا لأنني لم أشك بالحصول على صفحك، ولكن دوار البحر والحزن من المصائب الماضية والأسف على تركي ذلك الأثر القبيح لنفسي في أمريكا؛ كل هذه أمور ساعدت على انحطاط قواي كما ترين.
ولما وصلت البيت وجدت والدي الحزينين بحالة يرثى لها من التعاسة لفقدي، فلم يطاوعني قلبي على معاتبة والدتي، ولكنها هي أخبرتني بالقصة نادمة، وطلبت صفحي فصفحت عنها بشرط أن تسعى لاجتماعنا كما سعت لافتراقنا.
ونهار البارحة طلبت مني والدتي أن أرافقها لزيارة والدتك، فقبلت مضطرا ولكنني غير نادم الآن كما أظن ...
وإنما يا بديعة! ما هذا الاتفاق الغريب والصدفة السعيدة المدهشة؟! فأخبرته هي عن قصتها تماما، فبات كل منهما متعجبا من تلك الخيانة التي أبعدتهما وجعلت كلا منهما يصدق بخيانة الآخر له.
ولما حكت بديعة لفؤاد عن إخلاص وحب أديب له، وكيف أنه سعى جهده لجمعها به، وعن خدمة واعتناء جميلة بها، وعن فضل الاثنين عليها في مرضها؛ قال فؤاد مبتسما: آه لو كنت أقدر على الوصول إلى ذلك الشاب الشريف لأصافحه وأشكره وأجثو أمام تلك الفتاة الجميلة القلب وأقبل الأرض شكرا لها أيضا! وحقيقة يا بديعة إنني لا أغار من الاثنين على محبتهما لك الآن؛ لأنهما فعلا ما يمحو هذه الغيرة من قلبي.
فضحكت بديعة لكلامه وقالت: إنك تقول هذا ما زلت بعيدا عنهما، ولكن متى قربت تتغير الحالة ...
فنظر إليها بنظرة التوسل وقال لبديعة: أنت تعرفين بأن الغيرة الشريفة هي بنت الحب الصادق، فهلا غيرت الأيام من اعتقادك بحبي؟
أجابت: كلا؛ لأنني كنت أحسب دائما أن في الأمر خيانة، وكنت أعتقد بأنك لا تعاملني هذه المعاملة بدون سبب.
قال: إذن أنا غير أهل لك؛ لأنني حقدت عليك واتهمتك بالخيانة، وكنت أشك ببراءتك لأنني حسبت لضعف الجنس تأثيرا عليك.
فقالت: والآن؟
أجاب: الآن. لا أقدر أن أعبر عن أفكاري؛ لأنني ضعيف القلب والجسم. عند ذلك سمعا صوت والدة بديعة تناديها، فقالت بديعة: ماذا تريدين يا أماه؟ قالت الوالدة: أريد معاتبتك؛ لأنك لم تخبريني بأمر حبك لفؤاد. فشكت لها عذرها.
ورأت السيدة جميلة بأن من واجباتها ملاطفة فؤاد، فأتت إليه وقبلته قائلة: ليت الله سمح لي بأن أناديك «ولدي» قبل الآن.
فقال الشاب: وهل أنت تحبينني يا سيدتي؟ أولم تحقدي علي لأنني سببت لبديعة كل هذه العذابات؟!
فقبلته ثانية قائلة: إن عذابات بديعة الماضية وإن تكن مؤلمة، فقد علمتها أمثولة حسنة، وهي أعظم معين لها على سعادتها المقبلة؛ لأن كل شيء يحصل بعد العناء يكون لذيذا ونافعا. وسعادة بديعة الآن لذيذة جدا؛ لأنها دفعت ثمنها باهظا.
وبعد ساعات تبادلت العائلتان القبلات وانصرفوا إلى غرفهم.
الفصل الرابع والأربعون
بديعة وفؤاد في الحديقة مرة ثانية
مضت تلك السهرة وبديعة وفؤاد يتخاطبان بالنظر أمام الضيوف؛ لأن السيدة مريم رغبت ببقاء الأمر سرا، وهكذا أحبت بديعة إكراما لمن هي عتيدة أن تصير لها والدة ثانية، ولمن هي مضطرة أن تتعود محبتها لتتم سعادتها.
ولم تقدر بديعة على إغماض جفنها طول ذلك الليل لشدة فرحها، بل كانت تمشي في غرفتها مصلية لله وشاكرة له على نعمه التي لا تستحقها. وقبل انبثاق الفجر لبست ثيابها، ونزلت إلى الحديقة قبل أن يفيق أحد، وقصدها أن تشارك الطيور بتغريدها وتسبح الله معها. وفيما هي صاعدة بالفكر إلى ما فوق الأرضيات، وقلبها ثمل من صوت الموسيقى الطبيعية التي كانت مؤلفة من تغريد الطيور وحفيف ورق الأشجار وخرير الماء من أنبوبة كانت أمامها، سمعت وقع أقدام تقترب منها، فخافت لأن الفجر كان لم ينبثق بعد تماما. وبعد ثوان قليلة طردت ذلك الخوف بابتسامة حلوة كشفت عن شيء مضيء كالماس في تلك الظلمة؛ ذلك لأن القادم كان فؤادا، ولما وصل إليها بهتت ثم قالت: كيف أفقت وما أدراك بأنني في هذه الحديقة ولست في غرفتي في مثل هذا الوقت؟
فأجابها بفرح: أتظنين أن الله خصك بالسعادة وحدك وأنك قد سهرت تتلذذين بهذا السرور وتشكرين الله على نعمته، بينما أنا غارق في بحر النوم العميق ولي نفس الحق الذي لك بالسهر. كلا إن هذا لم يتم يا سيدتي؛ لأن الشعور كان متبادلا، وكلانا عرف واجبه نحو خالقه ونفسه، فسهر شاكرا ربه وسعيدا بذكرى اجتماعه، كأنه خاف أن ينام فلا تغنيه الأحلام عن اليقظة شيئا «وشتان ما بين الحقيقة والوهم». وأظنك نسيت بأن غرفتي مطلة على الحديقة، وقد رأيتك إذ أتيت إلى هنا، فتبعتك لأنني لا أحب أن تكوني وحدك دقيقة واحدة بعد اليوم، وأنا أخاف عليك من الوحدة ...
فقالت بديعة: قد نسيت بأن غرفتك هذه - وأومأت برأسها إليها - ولا غرو إذا كنت تخاف علي من الوحدة الآن ولم تفعل هذا من قبل؛ لأنني بحالة يخشى فيها علي منها في هذه الحالة، ولم أعد خاملة فقيرة كما كنت من قبل!
فنظر فؤاد إليها نظرة توبيخ وقال: مهما دنت المرأة من الكمال النسائي ومهما تقدمت في العقل والتهذيب، تبقى على بعض أخلاق مختصة بالنساء؛ من مثل حب النكاية وجرح إحساسات الرجل. فإنك يا بديعة الحبيبة تعلمين بأنني لم أتركك إذ ذاك برغبة مني بل إتماما لرغائبك أنت، ولو علمت بأنه سيحدث ما حدث لفضلت أن أخسر علمي - حتى وحياتي - على أن أفقدك سعادة يوم من حياتك. وأرى بأن لتغير الأحوال تأثيرا عليك، وأنك سوف تضعين ذكر «المال» أمامك في كل أحاديثك. فإذا كان الأمر هكذا وكنت لا تنسين كل شيء، ما عدا أنني أنا ذلك الشاب الذي نظرته في مستشفى الفقراء في نيويورك، وأنك تلك الخادمة التي تعرفت عليها في بيروت؛ فاطرديني من أمام وجهك. قال هذا وتظاهر بأنه يروم الابتعاد عنها، فضحكت وقالت: اصبر يا فؤاد، فقد فاتك بأن في النساء عادة هي تفقد حبهن في قلوب الرجال دائما، وطبيعي فيهن استخراج مديح الرجال بذم نفوسهن، فدع الماضي حتى والمستقبل أيضا، ودعنا نتلذذ الآن بجمال هذه الطبيعة المحتفية بنا. اسمع اسمع! إنا نسر باستماع أصوات الطيور الجميلة. أما يلذ لك ويطربك صوت خرير الماء وحفيف أوراق الشجر. فكل هذه أنغام طبيعية سماوية، أين منها الألحان الاصطناعية وهي تذكرنا الآن بأن حبنا ابتدأ صادقا وطاهرا لا أثر للأثرة فيه، وهكذا يجب أن ينتهي. فاجلس ولا تفتكر بغير الحاضر، وانس الماضي حتى والمستقبل أيضا.
فأطاعها فؤاد وهو يقول: إنني أقدر على تناسي الحاضر، ولكنني شديد الافتكار بالمستقبل لأنني لا أتصور به غير السعادة، أعني أن سعادتي هي باجتماعي بك، وكل مصائب العالم لا تعد شيئا إذا كنت بالقرب مني، كما أن كل سعادة لا تكون شيئا بدونك. والشيء بالشيء يذكر؛ فأي متى تريدين أن يكون وقت اقتراننا يا بديعة؟
أجابت بديعة: إنك لا تطلب تعجيل هذا الأمر بعد يا فؤاد؛ لأن لوالدتي حقا بي، وأرى من واجباتي أن أخصص لها كل التفاتي وذاتي مدة أعوض عليها بها ما خسرته في الماضي.
وكان إذ ذاك جيش الظلام قد ابتدأ بالانهزام، وانبثق نور الفجر على الزهور الباسمة بقطرات الندى من ثغورها. فقدرت بديعة أن ترى وجه فؤاد المكفهر عند استماع جوابها، فقال: ليس هذا عذرا يا بديعة؛ لأن والدتك ستكون معنا دائما قبل اقتراننا وبعده، وهي لا شك ترضى باقتراننا العاجل. - إنني أترك الأمر لها ولك ولوالديك - قالت بديعة - وكما تحبون أجري.
الفصل الخامس والأربعون
العرس
وفي اليوم الثاني كانت بديعة مع والدتها تودع فؤادا ووالديه على محطة القطار. وبعد هنيهة جرى ذلك القطار مقلا فؤادا بدون قلب، إلا إذا جاز أن نسمي قلب بديعة قلبه.
وشاع الخبر بمدينة دمشق الشام بقرب موعد اقتران بديعة الفتاة الجميلة الغنية المهذبة بفؤاد الشاب المناسب لها.
وبهذا الاقتران اسودت وجوه وابيضت وجوه، وصرمت حبال آمال كثيرين من الشبان والبنات في المدينتين.
واجتهد والدو العريسين بجعل العرس بهجة ذلك العام. أما العريسان نفساهما فلم يكترثا لهذا الأمر كثيرا، ويستدل على هذا من قول بديعة لفؤاد مرة: لو لم يكن حبنا العظيم يشدد ربط الزواج المقدس، هل كانت كل هذه الفخفخة تسرنا يا ترى؟
فقال لها فؤاد: عرس العريسين بقلبيهما وليس ثيابهما.
وبعد مضي شهرين على تلك الاستعدادات كانت بديعة في بيت فؤاد، ولم ترهب دخول بيت غريب عنها لأنها كانت قد استعدت لهذا من قبل؛ إذ كانت قد خالفت بنفسها تلك القاعدة المصطلح عليها عند بني وطننا، من أنه من الحشمة أن لا يقال شيء عن البيت الجديد المزمعة أن تدخله الفتاة. ولما كانت بديعة «خادمة» كانت تعتبر العمل أشرف شيء على الأرض، فلما أصبحت «سيدة» على بيتين عظيمين لم يقلل هذا من حبها للعمل شيئا، وكانت تشتغل بيديها وتعمل كل شيء تقدر عليه، وما لا تقدر على عمله تناظر على الخدم الذين يكونون يعملونه.
ولما ولدت بديعة بنتها البكر لم تحتج إلى من يعلمها الاعتناء بها؛ لأنها كانت قد تعلمت كل هذا وهي عزباء، وكانت تقول للخادمة متى طلبت منها أن تلبس وتغسل لها الصغيرة: إنها لا تشعر باللطف والحنو حين مرور يدك على جسمها اللطيف، كما تشعر بهما من يدي فتطلب من الله مجازاتي على ذنبي العظيم.
ومعلوم أن هذه الوالدة التي قضت كل أيامها الماضية تدرس واجبات المرأة الفاضلة، كانت والدة وسيدة وخادمة وزوجة وملكة بجمالها ووجاهتها وآدابها بوقت واحد، وكانت تقوم بكل هذه الواجبات بأمانة وتسعى نحو الكمال النسائي بقدم ثابتة؛ لأنها عرفت واجباتها نحو نفسها ونحو الغير: نحو نفسها «بأن تثقفها وتهذبها دائما، ونحو غيرها بأن تعمل بذلك الغير كما تريد أن يعمل بها»، وهذه قاعدة كل دين وأدب وفضل.
وبعد ولادة الصغيرة بأيام دخل فؤاد غرفة زوجته فوجدها تلاعبها وتقبلها وهي مسرورة بها، فاقترب منها مظهرا الغيرة وقال: هل أنت سعيدة بها يا بديعة؟
فنظرت إليه وابتسمت تلك الابتسامة التي كان يحسبها كل سعادة وحلاوة في الحياة، وقالت: إن سؤالك معجب يا حبيبي؛ إذ ما هو يا ترى الشيء الذي يسر قلب الأم كالولد؟
قال: ولكن الأب يخسر قسما من حب زوجته؛ إذ يعطى للولد فيغار منه.
وكان جواب بديعة أن ناولته ذلك الملاك وقالت ضاحكة: ذكرني كلامك بما كنت أسمعه في أمريكا من أن بعض الناس يقتلون زوجاتهم وأولادهم أحيانا، أو يهجرونهم من هذه الغيرة الحيوانية.
فقبل فؤاد الطفلة وضحك أيضا. ولما تأمل فيها قال: إنها تشبهك كثيرا يا بديعة، ويؤدي أن أتبع خطة الإفرنج وأدعوها باسمك؛ لأنني أحب هذا الاسم كثيرا وأحب أن أسمي به كل مولودة.
فقالت بديعة ضاحكة: إذن تدعو الهرة والكلبة بديعة كما يفعل الإفرنج؟! لا! فؤاد، أنا أحب كل شيء عربي متى كان جيدا، كما أحب كل شيء إفرنجي متى كان جيدا أيضا، ولذلك أفضل طريقة الأسماء العربية على الإفرنجية، لا سيما وأن في هذه شاعرة حب نحو اللغة والوطن.
قال فؤاد: إذن ماذا نسميها؟
قالت: أحب أن أدعوها «مريم»؛ لأن هذا أشرف وأطهر وأجمل اسم ما بين الأسماء. وهو اسم والدتك الذي هو عزيز عندنا.
ففرح فؤاد في قلبه من محبة امرأته لأمه وتناسيها الإساءة الماضية، وقال: الأمر لك.
ولما نظرها ترضع الطفلة قال: إن المرضعة تأتي بعد ثلاثة أيام، فلا يجب أن ترضعيها بعد حضورها.
فقالت له بلهفة: ماذا تقول؟ لا يجب أن أرضع مريم!
لماذا يا فؤاد؟ هل أنا مذنبة حتى استحققت هذا القصاص منك، أن أحرم بنتي من قوتها الخاص إلا إذا حال ما يمنعه عنها، وأحرم طفلا آخر من قوته أيضا! وما هي فائدة من هذا العمل غير حرمان الفتاة من حبي وحنيني الذين يجب أن تتغذاهما مع اللبن، وحرماني أنا من حبها الخالص متى شركت في تغذيتها امرأة أخرى، امرأة لا أعرف عن ماضيها وأخلاقها شيئا. وعلى كل حال فهي سوف لا تكون متهذبة التهذيب الذي أريده؛ لأنها ليست من الطبقة الأولى أو الثانية، بل هي الطبقة الثالثة التي دعي عليها بالجهل في بلادنا السورية. إنك لا تجهل هذا كله يا عزيزي، فلا أعرف ما حملك على هذا القول.
فقال زوجها بتفكر: إنني لا أجهل هذا يا عزيزتي، ولكنك مضطرة إلى حضور الحفلات والولائم وإقامة مثلها في هذا الفصل، وإذا أرضعت ابنتك تقصرين بواجبات أصدقائك وبواجبي أنا أيضا؛ لأنني أريدك معي في كل وقت مفرح، فأجابت تلك الوالدة الفاضلة بحب: إنني من حين أفقت لحالي لا أذكر أني ضحيت واجبا واحدا لأجل مسرة ما، فكيف تطلب مني الآن يا عزيزي أن أضحي أعظم الواجبات لأجل المسرات؛ فإن كان لأصدقائي حق علي يا فؤاد، فذلك من بعد حق أولادي، وأنا لا أقدر على ترك فلذة كبدي في حجر امرأة غريبة كما وصفتها، وأذهب لحضور الحفلات والولائم. إنني أفضل خسارة هذه الأمور لمدة وجيزة من عمري على خسارة أدبية ربما سببتها نقطة حليب واحدة في أخلاق طفلتي.
وكان فؤاد يطيع امرأته بكل ما يكون الحق فيه بجانبها. وكانت بديعة كما قال أحد وجهاء لبنان مرة: «للمطبخ وللصالون.» فكانت تلبس لكل حالة لبوسها وتقوم بواجباتها على الوجاق وبين «الطناجر» والخدم كما تقوم بها في القاعة وعلى البيانو وبين الضيوف.
ولا مشاحة بأنها لم تكن محبوبة من كثيرات من النساء اللواتي كن يحسدنها ويبغضنها بقلوبهن، ولا يظهرن لها ذلك لأنها لم تأت بحيلتها ما يغضب أحدا. وكانت لطيفة وأديبة مع الجميع. ولكن مداخلاتها كانت مع من هم على مبدئها فقط مع النساء والرجال، أما من لا يكونون على مبدئها فإنها كانت تكرمهم ولا تهتم بهم أو تتداخل معهم بشيء.
وأما بغض بعض النساء الشابات لها فكان لثلاثة أمور؛ أولا: لأنها كانت جميلة وغنية وذكية. ثانيا: لأن اعتبار الرجال الأفاضل لها كان عظيما، حتى إنهم كانوا يعنونها إذ يقولون: «المرأة الفاضلة.» وثالثا: لأنها لم تكن تلعب البوكر وأمثاله، ولا تحب اللهو والقصف، وكانت بعيدة عن الكبرياء والخفة. وبهذا لم تكن تجاريهن بأعمالهن؛ لأن عليها واجبات أسمى. وتظهر بفعلها قبح أعمالهن، وقد قيل: «الضد يظهر حسنه الضد.»
وكانت بديعة لا تنكر هذا الميل عليهم، إلا أنها تضحك في سرها من إهمال التثقيف الأول غير مظهرة شيئا. وهذا ما كان يحولها عن مصادقة ومعاشرة أكثر النساء الشابات، ويوجه كل أفكارها إلى معاشرة الكهلات والشيخات من السيدات بعد أن رأت بأنها تستفيد من نصائحهن واختبارهن ما لا تقدر عليه من معاشرة بعض لداتها، وقد صرفهن حب اللهو والأزياء عن اكتساب كل شيء حسن والالتفات إلى كل واجب شريف.
وكانت قاعدة بديعة الرئيسية في الحياة عمل الخير وحب القريب والغريب؛ لأن هذه المبادئ الشريفة كانت غريزية في قلبها، فكانت تأتيها بكل سهولة وبدون عناء. ولم تنس قط صديقيها المحبوبين أديبا وجميلة؛ لأن ذكر حبهما الماضي لها وسعادتهما الحاضرة كانا يساعدانها على السعادة والسرور، كما أن ذكر لوسيا التعيسة كان يلبد سماء أفكارها بغيوم الهموم؛ لأنها كانت تشفق ولا تحقد.
وكانت رسائلها إلى أديب وجميلة متواصلة، وفي كل كتاب يرد منهما تقرأ هذه الكلمات من جميلة:
إنني مديونة لك بالحياة؛ لأنك خلصتني من الغرق نفسا وجسدا، ومديونة لك بما أعرفه من الواجبات النسائية؛ لأنني لا أرى كمالا وفضلا وسعادة للمرأة بدونها، ومديونة لك بالحياة السعيدة والحب الصحيح؛ لأنك علمتني كيف يجب أن أعيش وكيف أعامل الناس، فاتبعت نصائحك وعرفت أكثر أسرار الحياة، فعشت براحة، وراحتي الآن مزدوجة بوجود والدي معي.
ثم تختم كتابها بهذه الكلمة:
وأظن أديبا الذي هو واقف على يدي وأنا أكتب إليك الآن يشركني بما مر، فكيف تظنين أنت؟
الفصل السادس والأربعون
كتاب لوسيا
وعاشت بديعة ثلاث سنوات تحت سماء السعادة الصافية، ولم يكدر صفاء هذه المعيشة شيء إلا ما كانت تراه في كل يوم من تعاسة بعض الناس وفقرهم، ولكنها كانت ترى بهذا سعادة أيضا؛ لأنه كان يذكرها بواجبها نحو أولئك المساكين الذين لهم حق شرعي من الله في مال الأغنياء الذين يكونون مذنبين نحوه تعالى ما لم يشاركوا الفقراء المستحقين ببعضه. فكانت لا تنسى عمل الإحسان اليومي، كما أنها لا تنسى واجبها نحو زوجها وولديها مريم ويوسف، ووالدتها وأصدقائها الكثيرين.
وفي ذات يوم دخل فؤاد غرفتها، فبغت من مشاهدتها تبكي. فاقترب منها ليعلم السبب، فوجد بيدها رسالة قد فرغت من قراءتها وهي تبللها بدموعها، فحزن، وبعد أن مسح تلك الدموع سألها عن سبب بكائها، فناولته تلك الرسالة التي قرأ بها ما يأتي:
يا صديقة الفضيلة وحبيبة الرحمة
إن اليد التي تسطر هذا الكتاب هي غير يدي المرتجفة، ولكن القلب الذي يملي هو قلبي الذي وإن كان قد مات عن الفضيلة، فهو لم يزل يذكر أصحابها.
أما بعد فأنا هي أيتها السيدة السعيدة، تلك الصديقة التعيسة التي كانت تضحك وهي برفقتك مما حسبته تعاستك وسعادتها. وقد كان أول طريق الهلاك لها. أنا هي لوسيا، تلك الفتاة الناكرة الجميل، الجاحدة الفضل، التي لم تعرف قيمتك، ولم تقبل نصائحك لجهلها، حتى بلتها الأيام بما حذرتها منه.
إنني بأعظم حالات الشقاء الآن يا بديعة؛ لأن مالي وشرفي وصيتي وجمالي وصحتي قد ذهبت فريسة خداع نسيب، وهو بعد أن أغراني على الزواج المدني تركني إذ رأى من هي أفيد له مني، تركني أقاسي آلام المرض والفقر والهم، ولي ولد جميل قد قسم له النحس أن يولد ليشاطر أمه شقاءها وتعاستها ويرثهما بعد موتها.
فالآن يا سيدتي الآن ... ترينني منطرحة على فراش الآلام، وقد بعت كل الأثواب الجميلة والحلي النفيسة التي كنت أحسبها كل مجد العالم، بعتها لأقتات بثمنها ... والآن قد تذكرت نصائحك الثمينة التي احتملها تيار جهلي وغروري، والتي لو قبلتها لكنت بغير حالتي الحاضرة من الشقاء، الآن قد علمتني المصائب بأن طريق الفضيلة وإن تكن ضيقة والداخلون منها قليلين، فهي هي وحدها التي تكفل للمرأة حياة سعيدة دائمة. هي التي تجعل العذابات حلوة؛ إذ لا تكون مسببة من النفس بل من خالقها، وتضاعف عنده السعادة وتدعيها لخلوها من التذكارات المرة ... وبعدل قد خلق الله المصائب على الأرض، التي إن لم تكن إلا لتذكير بعض الفتيات المغرورات مثلي بواجباتهن وردعهن عن الأعمال الباطلة الضارة، فكفى بها نفعا!
فهل تقبلين توسلاتي يا أيتها الجوهرة التي كانت خسارة صداقتها قصاصا مؤلما على عذابي؟! وهل تقبلينني على باب رحمتك وصداقتك ثانية مع ولدي. أم تطردينني عنه لأقاسي برودة وقساوة هذا العالم، كما فعل معي من ضحيت كل شيء في الحياة لأجله!
إنني متعللة بانعطافك علي، وعلى هذه التعلة وحدها أعيش إلى أن يأتيني جوابك؛ لأن الصفح من شيم النفوس الشريفة، وهذا ما يزيد بقيمته، وهل أشرف من نفسك؟!
فانظري يا أختي بواجبك نحوي الآن؛ لأن التعساء - ولا سيما التعيسات مثلي - هم عيال الله، وضيوف ذوي الفضل متى تابوا واهتدوا. خلصيني، خلصيني من عذاباتي وأرجعيني إلى تخوم ظل صداقتك المنعشة يا بديعة المحبوبة، لأنك تعلمين كل الأمر؛ إذ إن الله لم يهبك فضلك وشرفك لتكوني فيها على بعض بنات جنسك فقط ولا لتكون فائدتهما راجعة إليك وحدك، بل لتساعدي بواسطتهما الفتيات من أخواتك في الجنس وأولهن أنا صديقتك القديمة. وغاية ما أطلبه الآن أن تخلصيني من وهاد الشرور وتسترجعيني إليك لأكون أمينة في خدمتك بعد الآن، وأربي ولدي في حمى أولادك، والله يحفظك مساعدة لمن هي أتعس صديقاتك.
لوسيا
فلما انتهى فؤاد من قراءة هذا الكتاب نظر إلى امرأته وقال: إنني أشكر الله قبل كل شيء؛ لأنه أوجد في عاطفة حب الخير، وبعده لأنه أوجد عندي ما أقدر أن أستعين به على عمل الخير، ثم لأنه جل جلاله بين لنا نور الفضيلة؛ لأن عافية الضلال وخيمة. فماذا يجب أن نفعل الآن يا بديعة؟
قالت بديعة: يجب أن نري الكتاب لوالدينا كي يساعدونا في الرأي، وأن نكتب لأديب كي يزور لوسيا، فإن وجدها كما كتبت يسفرها إلينا، وإلا لا يكترث بها لأنني أخاف من أن يكون الكتاب من نسيب حيلة لخداعنا.
فقبل فؤاد رأي زوجته وقال: ما هذا إلا لأنني أقدر فضائل زوجتي المحبوبة قدرها.
وبعد شهور وصلت لوسيا إلى بيت بديعة، ومن مجرد نظر هذه إليها عرفت كم قاست المسكينة، وأنها دفعت ثمن تطرفها من دم قلبها وحياتها.
ولم تنظر بديعة إلى شيء في لوسيا ولا عاتبتها بشيء، بل كان كل اهتمامها الاعتناء بها وبولدها المريض حتى شفي الاثنان تماما.
وأفردت بديعة للوسيا غرفة جميلة في الدار لسكناها.
صفحة غير معروفة