فتنهدت بديعة من أعماق قلبها وقالت: وهل ابن خالته يعوده في كل يوم؟
قالت الممرضة : كلا، بل في كل أسبوع، وقد عاده مرة وبرفقته سيدة جميلة يظهر من ملابسها الثمينة وحلاها النفيسة أنها من الغنيات، وقد تأففت كثيرا من عيادتها له؛ لأنها تكره مرأى المريض أو كما قالت «تقرف منه»، وتخجل أن تدخل مستشفى الفقراء، لئلا يظن الناس أن أحد أقاربها فيه ... فإن الشاب غير ذي قرابة لها كما صرحت، بل هو صديق لخطيبها الذي رافقته لعيادة صديقه، وستكون هذه العيادة الأخيرة.
ولو علمت تلك الممرضة اللطيفة بما كان يفعل كلامها بقلب بديعة لأشفقت عليها.
وكانت بديعة تقول في نفسها: صار له عشرون يوما وحيدا فريدا يقاسي آلام الداء ... وابن خالته لا يزوره إلا مرة في الأسبوع! آه ماذا يهم ابن خالته إذا مات؛ فإنه يرثه لأن خالته تحبه ... ثم قالت: أف لي ما أضعفني! إنني أفتح بابا لا أحب الدخول فيه الآن ... ولكي تتناسى هذه الأفكار قالت للممرضة: أرجوك أن تخبريني عن أسباب مرضه وهل من أمل بشفائه؟
فقالت هذه: إن سبب مرضه هو إدمان الخمرة، وأما شفاؤه فلا أقدر أن أتكلم بأمره؛ لأنه قد قيل: «طالما يوجد حياة يوجد أمل.»
فكان حزن بديعة لقول الممرضة بأن مرضه من الإفراط في شرب الخمر أكثر من حزنها على المرض ذاته، وعرفت بأن جالب المرض نسيب الذي أوصله بعشرته إلى هاوية الضلال، فقالت: عشرة الأشرار أشد خطرا من ركوب البحر!
ودفع دافع الحب والشوق بديعة، فأمرت يدها على جبين الشاب ثانية، وفي هذه المرة نادته فلم يجبها، فكررت النداء ففتح عليها عينين غائرتين كأنه من أهل القبور، فقالت له بلطف وحنو: هما طبيعيان فيها والدمع يترقرق من عينيها: ألم تعرفني يا فؤاد؟ أنا بديعة.
وكأن صوتها هذا اللطيف أرجع الشاب إلى صوابه دفعة واحدة، فحملق فيها عينيه كمن يريد ابتلاعها، وقال لها بصوت ضعيف: اذهبي عني أيتها الخائنة الماكرة ودعيني أموت غير منزعج من منظرك. ماذا أتى بك إلي؟ وأين هو حبيبك الذي فضلته علي وأوصلتني بمكرك إلى هذه الحالة التعيسة؟ أين هو ذلك الشاب الذي نظرته يلبسك الخاتم بعيني؟ أين هو؟ أين ... آه من أعمالك ... آه من غدرك ومكرك ... آه!
فقاطعته بديعة الكلام وهي تقول بهدوء وتجلد: يجب أن تتكلم بهدوء يا فؤاد؛ لأن التأثر يضرك، فإنني لم أكن ولن أكون خائنة، بل أمينة على حبك، ولو قدرت على مخاطبتك بذلك الوقت لكنت برهنت لك عن أمانتي بصدق وشجاعة. أما الآن فقد مررت بهذه المدينة وأنا عائدة إلى الوطن، فلم يطاوعني قلبي بعد أن سمعت بمرضك أن أتركك وأسافر دون أن أعودك.
فقال المريض متنهدا: عائدة إلى الوطن!
صفحة غير معروفة