واطلع مروان بن الحكم على صيغة له بالغوطة فأنكر منها شيئا ، فقال لوكيله : ويحك إني لأظنك تخونني ، قال : أتظن ذلك ولا تستيقنه ، قال : وتفعل ! قال : نعم والله إني لأخونك وإنك لتخون أمير المؤمنين ، وإن أمير المؤمنين ليخون الله ، فلعن الله أشر الثلاثة ، وكان مروان يومئذ عاملا لمعاوية على المدينة بينما المنصور في الطواف بالبيت العتيق ليلا إذ سمع قائلا يقول : اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض ، وما يحول بين الحق وأهله من الطمع ، فجزع المنصور فجلس بناحية من المسجد ، وأرسل إلى الرجل ، فصلى ركعتين ، واستلم الركن ، وأقبل مع الرسول ، فسلم عليه بالخلافة ، فقال المنصور : ما الذي سمعتك تذكر من ظهور الفساد والبغي في الأرض ، وما الذي يحول بين الحق وأهله من الطمع ، فوالله لقد حشوت مسامعي ما أمرضني ، فقال : إن أمنتني يا أمير المؤمنين أعلمتك بالأمور من أصولها ، وإلا احتجرت منك واقتصرت على نفسي فلي فيها شاغل ، قال : فأنت آمن على نفسك فقل ، فقال : يا أمير المؤمنين إن الذي دخله الطمع وحال بينه وبين ما ظهر في الأرض من الفساد والبغي لأنت ، فقال : ويحك يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء في قبضتي ، والحلو والحامض عندي ، قال : وهل دخل أحد من الطمع ما دخلك ، إن الله استرعاك أمر عباده وأموالهم فغفلت أمورهم ، واهتممت بجمع أموالهم ، وجعلت بينك وبينهم حجابا من الجص والآجر وأبوابا من الحديد ، وحراسا معهم السلاح ، ثم سجنت نفسك عنهم فيها ، وبعثت عمالك في جبايات الأموال وجمعها ، وأمرت أن لا يدخل عليك أحد من الرجال إلا فلان وفلان ، نفرا سميتهم ، ولم تأمر باصال المظلوم ، ولا الملهوف ، ولا الجائع العاري إليك ، ولا أحد إلا وله في هذا المال حق ، فلما رأى هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك ، وآثرتهم على رعيتك ، وأمرت أن لا يحجبوا دونك ، تجبي الأموال وتجمعها ، قالوا : قد خان الله فما لنا لا نخونه ، فأتمروا أن لا يصل إليك من علم أخبار الناس شيء إلا ما أرادوا ، ولا يخرج لك عامل إلا خونوه عندك ونفوه ، حتى تسقط منزلته عندك ، فلما انتشر ذلك عنك وعنهم ، عظمهم الناس وهابوهم وصانعوهم ، فكان أول من صانعهم عاملك بالهدايا والأموال ، ليقووا بها على ظلم رعيتك ، ثم فعل ذلك ذووا المقدرة والثروة من رعيتك لينالوا ظلم من دونهم ، فامتلأت بلاد الله بالطمع ظلما وبغيا وفسادا ، وصار هؤلاء القوم شركاؤك في سلطانك ، وأنت غافل ، فإن جاء متظلم حيل بينك وبينه ، فإن أراد رفع قصته إليك عند ظهورك ، وجدك قد نهيت عن ذلك ، وأوقفت للناس رجلا ينظر في مطالبهم ، فإن جاء ذلك المتظلم فبلغ بطانتك خبره ، سألوا صاحب المظالم أن لا يرفع مظلمته إليك ، فلا يزال المظلوم يختلف إليه ويلوذ به ، ويشكو ويستغيث وهو يدفعه ، فإذا أجهد وأخرج ، ثم ظهرت صرخ بين يديك ، فيضرب ضربا مبرحا يكون نكالا لغيره ، وأنت تنظر فما تنكر ، فما بقاء الإسلام .
صفحة ٥٠