56

باب القمر

تصانيف

بلغوا هدى ونزلوا البيت وفرشوه على هواهم، وأعدوا لورقة غرفة كانت في جانب البستان. وأخذوا معهم بعض عبيد الدار وجواريها في مكة للخدمة في هدى، وانصرفوا إلى التمتع بالحياة في هذا المعزل المنيف على الجبال والبطاح معا بعيدين عما يكدر الصفو من أهل مكة الساخرين منهم والساخرات واللائمين منهم واللائمات، وهم كل صباح يقضون أحسن الأوقات في بستان الدار؛ يعملون في أرضه، أو يتفيأون ظلال أشجاره، أو يتجولون في جبل هدى ثم يعودون، وخطر لهم مرة أن يذهبوا إلى معبد هناك للعزى؛ ليروا صنما لتلك الآلهة المكرمة عند أهل مكة. فلم يجدوا إلا صخرة كبيرة بارزة من الجبل جزؤها الأعلى كرأس الإنسان، ثم ينحدر على الجانبين متصاغرا حتى يتصل بالجزء الأسفل، وعجبوا للناس كيف سولت لهم أنفسهم أن يعزوا الألوهية إلى مثل تلك الصخور وليس فيها ما يروع ولا يفتن أضعف العقول، ورأوا إلى جانبها شجرة كبيرة، قيل لهم: إنها الشجرة التي تسكنها شيطانة العزى في بعض أيامها يوم تترك سدرتها العليا شمالي مكة، وأنها لا تبدو إلا في بعض الأوقات على صورة امرأة شعثة ذات شعر كثيف يتدلى على الأكتاف

2

ورأوا بجوارها معبدا صغيرا يتولى السدانة فيه أربعة من شياطين الإنس ضريون بأساليب التدليس ومراسيم العبادة المفتعلة التي توارثوها عن أسلافهم في هذه الحرفة الدرارة، ووجدوا حول المعبد مرابد تلقى فيها لحوم الأضاحي من البدن

3

التي كان يأتي بها أصحاب النذور لهذه العزى بين آن وآن؛ ليذبحوها لدن صنمها أو شجرتها إذا برئ مريض، أو عاد غائب، أو ردت مطلقة، أو وضعت أنثى، أو تحققت أمنية من أماني النساء وأشباه النساء من الرجال، وإذ لم يكن في مقدور بطون السدنة أن تواري كل لحوم تلك الجمال كان لا بد لهم أن يتركوا بقيتها في العراء هي وروثها فتنتن ويملأ نتنها الجو حتى تأتي وحوش الجبال والفلوات المحيطة بهدى فتريح الناس منها بما تحمل منها بطونها السابغة. ومع ذلك لم يكن لها انقطاع ولولا أنها كانت تحت الريح الغالبة لما ترك وباؤها في ديار هدى ديارا، ورأوا غير تلك الأضاحي جمالا أخرى سائمة لا يعترضها معترض، ولا يمنعها عن رعي الكلأ مانع، يسمونها: البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي؛ تبعا للمقصد من إهدائها إلى الآلهة.

وكثيرا ما كانوا يذهبون إلى نهر هناك صافي الماء عذب المذاق كالسلسبيل يسمونه: المعسل لحلاوته وطيبه،

4

حتى ليقولون: إن حلاوته تنتقل إلى شاربه، ومن ثم كان أهل هدى أولي بشرة نقية، ووجوه مليحة، وكان نساؤهم مضرب المثل في جمال الخلقة في بلاد العرب كلها. من أجل هذه الخاصة فيه لم يكن شاطئه ليخلو من بعض نساء مكة يقصدنه؛ ليغسلن وجوههن بمائه الطيب، ويشربن منه، ويحملن على ظهور الجمال ركوات من سلسبيله الساحر الذي جعل وجوه الساكنين على شاطئيه من أهل هدى على ما امتازت به من صفاء البشرة وحلاوة الطلعة.

والواقع أن لنقاوة الماء أثرا مباشرا في هذا الجمال، أو بالأحرى إن ملوحة الماء أو غضاضته، أو احتواءه ما ليس من طبيعته من الأجسام الغريبة والجراثيم من شأنه أن يؤثر في المعدة والكبد والبشرة والدم، وسائر جوارح الإنسان، فيحدث فيها ما يحدث من الاضطراب والأمراض ظاهرها وخفيها، ومن ثم لا يكون شاربها معتدل المزاج صحيح البدن حي الطلعة مشرق الوجه. أما نقاؤه من كل تلك الآفات فمن شأنه سير أعضاء الجسم ظاهرها وباطنها فيما أراد لها مبدعها من السلامة، ما لم يعبث بها الفساد من ناحية أخرى، ومن ثم كان أهل هدى أصحاء البدن والمزاج، وكانت بشرتهم نقية، ووجوههم مليحة، ونفوسهم صافية، وكانت نساؤهم فتنة للعين.

كانوا يذهبون جميعا: الحارث وورقة وهرميون ولمياء سيرا على الأقدام في بكرة الصباح أو مطلع الشمس ولا يعودون إلا في الضحى؛ فيتناولون طعام فطورهم، ثم ينصرفون إلى شئونهم. فكان الحارث وورقة يذهبان للمطالعة، أو للنقل والمراجعة، وكان ورقة قد شرع يدون ما كان يحدثه به الحارث عن عقاقير بلاد العرب وفوائدها، واشترى لذلك رقاعا من مكة يكتب عليها ويعرضها على أستاذه فيصححها له، ولكن الحارث رأى أخيرا أن يتولى إملاءه حتى لا يضيع عليهما الزمن. فكانا يقضيان أيام وجودهما في هدى في تأليف هذا الكتاب:

صفحة غير معروفة