كلمات السادة العلماء
إهداء
1 - قافلة مكة
2 - أحداث الشام
3 - ورقة بن صليح
4 - الشملالة
5 - القرضاب
6 - الشمطاء
7 - حراس الباب
8 - ابن العفيفة
9 - الأمين
10 - الحارث بن كلدة الثقفي
11 - مصيف خالد بن الوليد
12 - نعاء! نعاء
13 - أم قتال
14 - فتنة
15 - في دار ابن الأرقم1
16 - دار طويف
17 - فراق الدار
18 - من أجل عين
19 - سجية ابن جدعان
20 - أراقم الثنية
21 - في كنف الأسقف
22 - وداع الأحباب
23 - يمين النضر
24 - عند الصيدلاني الفيلسوف
25 - لم الأطراف
26 - الصحيفة
27 - الهجرة إلى الحبشة
28 - خمار ونقاب
29 - في يثرب1
30 - يوم بعاث
31 - الأمير الجريح
32 - حديث الغار
33 - إلى أثريب
34 - في الإسكندرية
35 - بطرس البحريني
36 - حارس الأمير
37 - هرميون ولمياء
38 - ترهب القلب
39 - تدبير الله
40 - المؤامرة
41 - تفسير الشرط
42 - غرام مفاجئ
43 - القديس الأناني
44 - على هامش الحوادث
45 - شفاعة الحب
46 - نقض الصحيفة
47 - باب القمر
48 - اجتماع الشمل
كلمات السادة العلماء
إهداء
1 - قافلة مكة
2 - أحداث الشام
3 - ورقة بن صليح
4 - الشملالة
5 - القرضاب
6 - الشمطاء
7 - حراس الباب
8 - ابن العفيفة
9 - الأمين
10 - الحارث بن كلدة الثقفي
11 - مصيف خالد بن الوليد
12 - نعاء! نعاء
13 - أم قتال
14 - فتنة
15 - في دار ابن الأرقم1
16 - دار طويف
17 - فراق الدار
18 - من أجل عين
19 - سجية ابن جدعان
20 - أراقم الثنية
21 - في كنف الأسقف
22 - وداع الأحباب
23 - يمين النضر
24 - عند الصيدلاني الفيلسوف
25 - لم الأطراف
26 - الصحيفة
27 - الهجرة إلى الحبشة
28 - خمار ونقاب
29 - في يثرب1
30 - يوم بعاث
31 - الأمير الجريح
32 - حديث الغار
33 - إلى أثريب
34 - في الإسكندرية
35 - بطرس البحريني
36 - حارس الأمير
37 - هرميون ولمياء
38 - ترهب القلب
39 - تدبير الله
40 - المؤامرة
41 - تفسير الشرط
42 - غرام مفاجئ
43 - القديس الأناني
44 - على هامش الحوادث
45 - شفاعة الحب
46 - نقض الصحيفة
47 - باب القمر
48 - اجتماع الشمل
باب القمر
باب القمر
تأليف
إبراهيم رمزي
مقدمة
بقلم إبراهيم رمزي
مصر الجديدة في 15 مارس سنة 1936
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله خاتم الرسل وسيد الخلق أجمعين، وعلى آله وصحابته والتابعين.
أما بعد، فهذه الرواية هي الحلقة الأولى من سلسلة قصص استخرت الله في وضعه على معالم التاريخ الإسلامي، لا سيما فيما له علاقة بمصر؛ تحقيقا لأمنية تمناها أستاذنا إمام المصلحين المرحوم الشيخ محمد عبده في بعض ما سمعته من حديثه في الخرطوم سنة 1905، وإجابة لتكليف من إمام الوطنيين أستاذي وصديقي المرحوم الشيخ عبد العزيز شاويش يوم كنت أعمل تحت رياسته في تحرير جريدة اللواء في سنة 1909، ثم تقاضانيه أيام جمعنا الفلك الدوار مرة أخرى بوزارة المعارف سنة 25، حين كنت أعمل تحت رياسته كذلك في التفتيش على مدارس المعلمين الأولية.
فإن أكن قد تأخرت كثيرا فالعمل العظيم يحتاج إلى توفر، والرأي لا ينضج في زمن قليل، وقد يكون للكاتب من حالة الناس ما يقعده عن العمل إذا نشط له، ويصرفه عن المضي في الطريق اضطرارا، بيد أني قد عجلت من المقصد بشيء منذ سنة 1913 فيما وضعت للتمثيل العربي من روايات تاريخية من قبيل ما عني
1
ولكن ذيوع الروايات التمثيلية في يد الممثل لا في يدي، وعرضها معلق على إرادته لا إرادتي، وإحسان أدائها مرتبط بكفايته لا كفايتي، وانتشارها بين الناس تبع لحالة الزمن معه لا معي، كما أن أكلها مقصور على المدن في مصر وبعض البلاد العربية القريبة منا، حين أريد أن أدنيه من كل عين وكل يد وكل قلب في مصر وبلاد العربية وأصقاع الإسلام، شرقا وغربا وجنوبا وشمالا، وأبلغه إلى إخواني في الإسلام الذين يتاخمون غير إخوانهم في البلاد النائية من آسيا وجزائرها، وإلى أرومة المجد والفضل المنتشرة فيما بين جدار الصين وأطراف نهر الطونة
2
أولئك الذين نصروا الإسلام فنصرهم، وأعزوه فأعزهم، والذين سيجد القراء ما طالت الحياة حلقات من هذه السلسلة خاصة بفضلهم؛ فلقد كان منهم علماؤه الأعلام الذين ستبقى مؤلفاتهم - ما بقي الدهر - أصفى مورد، وأصدق معلم لطلاب حكمة الدين والحديث والتفسير والشريعة والأدب واللغة والتاريخ وفنون العلم والعرفان طرا، والذين كان منهم الرجال العظام الذين وقف منهم الملوك والأمراء والجنود يذودون عن حياض الإسلام ذود الأسود، ويكتبون بأعمالهم المجيدة صفحات من أخلد صفحات التاريخ الإسلامي، والذين جعلوا للإسلام من حبهم للفنون فنونا خاصة به في العمارة والموسيقى والزخرفة وزينة الحياة في المدن والمنازل؛ إدراكا لمعنى نعمة الإسلام، وتحقيقا لمشيئة الله في قوله (تعالى):
قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة .
وسيكون محور غالب القصص تاريخ الإسلام فيما له علاقة بمصر، وإذا قلنا مصر فقد قلنا بلاد العرب والشام والعراقين وبرقة وإفريقية، وما يتصل بها شرقا وغربا؛ إذ إن جوهر الذين كانت لهم يد في صياغة أحوال الدنيا في وادي النيل منذ الفتح العمري رجال من أهل تلك الأقطار، فالإلمام بهم يتطلب حتما الإلمام بتاريخ هؤلاء العظام، والتوغل في بيئاتهم بما لا يقصر القول على مصر. بيد أن مصر كانت في جميع من الأزمان ذات اتصال وثيق بهذه الأصقاع؛ إما تابعة كما كانت في عهد الراشدين والأمويين والعباسيين الأول والعثمانيين، أو متبوعة كما كانت في عهد الفاطميين والأيوبيين وسلاطين المماليك البحرية والبرية، أو تابعة اسما ومتبوعة فعلا كما كان حالها أيام الطولونيين والإخشيديين والأسرة المحمدية العلوية القائمة.
وهل يملك كاتب مهمته ما ذكرت أن يتجاهل منابت من كان سكان السفينة وقلم التاريخ في يدهم، ويهمل مصادرهم وعلاقاتهم بالخلافة والخلافة نفسها، أو يقتصر من أمرهم على أعمالهم في مصر حين أن أمجد صفحاتهم إنما خطوه بسيوفهم في غير أرض مصر؛ كصلاح الدين، وبيبرس، ومحمد علي مثلا!
على أن أروع حوادث التاريخ الإسلامي، وأمجد وثائقه، وأملأها بالعبرة، وأصرحها في القول المنذر، إنما كان يوم حملت مصر أمانة الإسلام في القرون الوسطى دون سائر إخوانها من العوالم الإسلامية، ذلك يوم اجتمعت أوربة على حرب الإسلام لإبادته وإبادة العربية معه، فجاهدت مصر واستبسلت حتى أنقذت الإسلام للدنيا والعربية لأوطانها، ولن يمر كاتب بهذه الأحداث العظيمة حيث تصادم الشرق والغرب، أو بالأحرى حيث أخذ الغرب يعلننا بإرادة السوء التي لم تزايله حتى يومنا هذا
3
ولا يعيرها إلا اهتماما قليلا، ويتجاوز ما كان لمصر فيها إلى توافه الأمور، حين نقصد بدراسة التاريخ على أية صورة، وبأن نكتب قصصا محوره حوادث التاريخ الإسلامي، أن ندل فيما ندل على هذه الإرادة السيئة القديمة العهد، والتي كان من أثرها في حاضرنا ما نرى؛ ابتغاء التنبيه والتذكير والإهابة بالجنسية العربية خاصة والإسلامية عامة أن كفى ما أنتم فيه، فانهضوا واعملوا، واحموا أنفسكم من عوامل الإفناء التي أخذتكم من كل جانب.
أبدأ سلسلة القصص فيما يختص بمصر برواية: «باب القمر» هذه، وإنما سميتها كذلك؛ لأنه اسم الباب الغربي من سور مدينة الإسكندرية الذي دخل منه السلار شاهين قائد الفرس لما جاء لفتح مصر (616-618م) على أثر فتحه الشام والقدس (616م)، فتم بذلك نصر كسرى أبرويز على هرقل في أدنى الأرض، قبل أن تحق عليهم كلمة الله فيعود الروم ويجلوهم عن الديار في بضع سنين.
ليس هذا فيما يلوح لبعض القراء لأول وهلة في شيء من تاريخ الإسلام بمصر؛ إذ الإسلام إنما جاءها بمجيء الأمير عمرو بن العاص لفتحها في خلافة الفاروق عمر - رضي الله عنهما - أي بعد ذلك الفتح الفارسي بثلاث وعشرين سنة، ولكن الواقع غير ذلك؛ فإن الحرب التي جرت بين الروم والفرس هي التي مهدت لانتشار الإسلام، والخلافات المذهبية والجنسية هي التي أيقظت النفوس إلى حاجة الدنيا إلى إصلاح العقول والقلوب، وتنظيم الحياة على شرعة الحق العقلي، والخلاص من تلك الأوزار، وهي التي أظهرت فضل الإسلام، ونبهت العرب إلى حق إخوانهم عليهم، وحفزتهم إلى فتح العراق والشام ومصر وما وراءها؛ لإنقاذ الوطن العربي وجيرته برا بالجار، وما يملك كاتب له نظرية في ذلك مؤيدة بتلك المظاهر أن يمر بهذا العهد الخصب كأنه ماحل قاحل، وهو هو العهد لا عهد سواه؛ لإمكان إظهار السر العظيم في نشأة الإسلام، وذيوعه هذا الذيوع السريع، وفي استقراره في مصر إلى الأبد، وانتشاره منها إلى ما وراءها، وإذا عرضت الأسباب في موسمها فمن الخطل أن يتركها الكاتب على أن يتحدث عنها بالرواية بعد انتهاء موسمها بسنين.
وإذ كانت مهمتنا تاريخ الإسلام، وكانت فترة الحرب بين الفرس والروم هي الفترة التي بعث فيها النبي المصطفى
صلى الله عليه وسلم
وأجاب فيها دعوته أولئك الرجال الذين خطوا بسيوفهم وأقلامهم تاريخ الدنيا بعد ذلك، فمن الخطل أكثر من ذلك أن يمر بها الكاتب دون أن يلم بمعالم الحال في بلاد العرب برمتها، وما كانت عليه من العقائد والمذاهب والنظم، ويذكر جوهر الدعوة وحوافزها، ويعرض تاريخ صاحبها - صلوات الله وتسليماته عليه - ويتأمل بيئته وأثرها فيما فكر وفيما صنع وفيما جهر، ويعرض الأمر كله في نور العلم الحديث؛ ليتيسر فهمه عند أهل هذا الزمان الذين جعل العلم لعقولهم كرامة، فهم لا يمكن أن يفهموا الشيء ويصدقوه إلا إذا كان منطبقا على قواعد المنطق ونظريات علم الاجتماع؛ ولذلك يطلبون إلى الكاتب، لكي يقتنعوا، أن يجيب الناس بالتعبير الحديث الخالص من روح التشيع: ما بلاد العرب؟ ما البيئة التي وجد فيها صاحب الدعوة؟ ما هي الدعوة ذاتها؟ هل كانت ضرورية لبلاد العرب وللدنيا؟ أهي دينية تعبدية فحسب كسائر الأديان جوهرها صلوا وصوموا وكونوا أخيارا، أم إن الصلاة والصيام مما بني عليه الإسلام لا الإسلام نفسه، وأن للإسلام غرضا أعم ومقصدا اجتماعيا عالميا حفز العرب إلى المجاهدة في سبيله بالقلب واللسان واليد؟
هذا ما عنيت به، ومن ثم فالرواية من حيث موضوعها القائم بالنسبة إلى مصر جوهرية في تاريخ مصر الإسلامي، وجوهرية في تاريخ الإسلام؛ ولذلك اقتصرت في الحقيقة على حوادث الإسلام التي دعت إلى تيقظ الحنيفية في مكة وظهور الإسلام في بلاد العرب، ولم تتعرض لما بعد ذلك من تاريخ الرسول
صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه تاريخ تطبيق دعوته في يثرب في أيامه، وليس هذا موضوعي الآن، واقتصرت على عرض الأسباب التي دعت - فيما بعد - إلى تهافت الناس على الإسلام في مصر لما جاء به الأمير عمرو بن العاص، وهي بالذات أسباب تهافت غير المصريين عليه في غير مصر من بلاد الفتوح. •••
ولعله يجمل بنا أن نعجل هنا بمعرض تاريخي وتوطئة لما نحن في صدده لبيان الرأي الذي اتجهت الرواية إلى تقريره.
الوثنية والمجوسية والفتيشية والصابئة والبوذية والبرهمية والمزدكية واليهودية والتثليث والتربيع ... وغيرها، هي الأديان التي كان عليها العرب في أنحاء الجزيرة العربية في أيام الرسول
صلى الله عليه وسلم ، وكانت سببا في الفرقة بينهم والعداوة، وكانت دعوة الرسول توحيد العبادة بتوحيد المعبود: توحيد الله (تعالى) الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، فاطر السموات والأرض الواحد الأحد القيوم الذي إليه الرجعى وإليه النشور، فصارت بلاد العرب تدين بوحدانية الله، والعرب كانوا في جزيرة العرب ملكا للفرس في اليمن، وأحرارا جمهوريين في مكة ويثرب، وكانت دعوة الرسول متجهة إلى توحيد الوطن تحت لواء واحد هو لواء العربية الموحدة، فصارت بلاد العرب كما أراد لها
صلى الله عليه وسلم .
وكان العرب في العراق والشام ومصر عبيدا للفرس والروم، وكانت دعوة الرسول إلى الوطنيين بعدما خلت أم الجزيرة من الشرك ومن نير الأجنبي، أن جاهدوا وحرروا إخوانكم في هذه البلاد النائية، ووحدوا كيان الجنس العربي حيث يكون؛ فأصبحت بلاد الجنس العربي حرة على يد صاحبيه أبي بكر وعمر في عشر سنين.
وكانت الدنيا فيما وراء ذلك شقية بحكامها، مرزوءة بنظمها ومعتقداتها، لا حق للشعوب في شيء من الحرية الصحيحة؛ إذ كان خيرها مقصورا على الحكام الزمنيين والدينيين في الأمة، وخير الأمة مقصورا عليها، أما جيرانها فأشقياء بأنفسهم وبجيرتهم، فدعا الرسول إلى التوحيد كذلك في الإنسانية. دعا إلى الإخاء العام والحرية العامة، ورفع الاضطهاد من الجنس للجنس المخالف، وإلى التسوية بين الناس ما داموا على شرعة واحدة، ومن ثم دخلت الأمم في دين الله دين الفطرة الشاعرة بوحدانية الله، الراغبة في العيش والسلام والإخاء العام: دين الإسلام البار والعربية الداعية، وصاروا في الحقوق مع العرب سواء؛ لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، وتاريخ فارس وتركستان وإفريقية أظهر دليل على ذلك وأقواه، ومن ثم نرى اليوم بين مسلم الشرق ومسلم الغرب صلة نفسية قوية أسقطت فروق الجنس إسقاطا تاما، وتيسر بفضل الإسلام ما عجز عن تحقيقه علماء الاشتراكية ودعاة الإنسانية وحكومات أوربة بالرغم من عصبها ومواثيقها ومعاهداتها.
هذا هو مقصد دين الإسلام الذي دعا إليه محمد خير خلق الله، وهذا ما تحقق فكان العالم صعيدا واحدا، وكانت الدولة قوية في مجموعها، لم يستطع أن يفتئت عليها أحد أو يلحق بها أذى، فلما استنام المسلمون إلى الدهر، وغفلوا عن سر عظمتهم، وحقيقة هذا الدين، وما كان لهم فيه من عصمة - كان ما هو حاصل من تفتتهم ووشك ذهاب ريحهم، ثم رأوا أوربة في منعة فالتفوا يبحثون عن سر ذلك ويلتمسون الدواء والنجاء، والدواء في يدهم والنجاء قريب لو درسوا مبادئ الإسلام، ولكنهم لم يفعلوا، بل فتنوا بمبادئ أوربة العنيدة التي لم يشأ لها سادتها أن تعتنق الإسلام احتفاظا بما كان في أيديهم من القوة والسلطان، حتى إذا لقيت شعوبها ما لقي من قبلهم، وأخذت تلتمس المخرج من الشرور التي تكتنفها، لم يخرجها مما كانت فيه إلا نور انبعث إليها من الإسلام في الأندلس، ومن الإسلام في الحروب الصليبية، وأخذ كتابهم يدلون بآراء هي نضح آراء الإسلام؛ كالاشتراكيين إذ ينادون بضرورة نشر مبادئ الإنسانية التي هي - كما مر بك - من قواعد الإسلام ومن أجلها جاهد العرب؛ إذ قال دينهم
إنما المؤمنون إخوة ، وقال نبيهم: «لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى»، وكالاجتماعيين الذين يقولون بالديمقراطية وهي من قواعد الإسلام التي أعلنها الرسول؛ إذ جعل للموالي من الحقوق وفرص الحياة ما للسادة، فكان منهم القضاة والحكام والولاة.
والراشونالست الذين لا يرون أن يكون للدين أكليروس وكهنوت يحرمون ويمنعون، ولا للدنيا أن يكون الملك فيها على غير إرادة الجمهور، وهو شرعة الحكم في الإسلام، وكالأطباء الذين يرون ضرورة إجراء تمرينات رياضية كل صباح، والنظافة طول النهار، والصوم في بعض الأيام، وهذه من قواعد الإسلام، وكالكماليين الذين يرون أن يعمر القلب في ليله ونهاره بالتقوى وحب الخير، وهو ما قرره الإسلام في جعل الصلاة مع أقسام اليوم، وكالقانونيين الذين يرون ألا يكون الزواج رباطا من حديد يقضي على الزوج والزوجة أن يظلا عليه ولو انتفت مصلحتهما منه وترتبت عليه شرور، وذلك ما راعاه الإسلام، وكالاجتماعيين - ثانيا - الذين يرون من حق الحكومة أن تأخذ من فيض الله على الأغنياء قسطا معلوما تصلح به حال من قعد بهم الفقر والمرض أو العجز والشرور الطارئة؛ حتى لا تثور النفوس المحرومة وتعبث بالسلام والحياة الاجتماعية كما يحصل في أوربة وغير أوربة من الأمم، ومطلوبهما هذا من قواعد الإسلام حين قرر الزكاة، وحين جعل الإحسان إلى الناس من كفارة الذنوب والتقصير في أداء الفروض الدينية.
أقول كل هذا من شرائع الإسلام ومبادئه الأساسية، أهملناها فأهملتنا الدنيا، ثم لما تنبهنا على روعة مما نرى لأوربة من المنعة والعز والسلطان عكفنا ندرس أبحاثهم وفلسفتهم وخطبهم ومواثيقهم بعضهم مع بعض، ففتنا بما يكتبون وما يقولون، وفتن المتطرفون بإلحادهم ولا دينيتهم، وخير ما وصلوا إليه حاضر بين أيدينا في ديننا ونظمنا وتاريخنا، وفي أن الإسلام دين الفطرة الذي لا يخجل عقل من اعتناقه، دين التوحيد الذي بني عليه الكون، فهو لا يغري بإلحاد ولا لادينية كما يغري سواه، إنما يكون الإلحاد فيما لا يقول بذلك، دين الديموقراطية التي كانت تشتاقها النفوس منذ عرفت الاجتماع، دين الإنسانية والمحبة والإخاء والمساواة، وهو أقصى ما وصلت إليه العقول. هو في شرعنا من أربعة عشر قرنا حين أنهم ما عرفوه إلا منذ عهد قريب جدا، ولا تزال حناجر بعض الأمم تطالب به حكامها وتثور من أجله، ومع ذلك لا يظفرون بشيء. •••
أشد عناصر الوطنية اتحاد الجنس واللغة والبيئة ثم الدين، وهذا ما اجتمع لنا نحن العرب مهما ترامت بلادنا، على أنه ترام لا يفصله فاصل؛ فوطننا العربي كتلة واحدة في ناحية من أرض الله، يشمل كل البقاع التي يشغلها العرب ويكون لهذا دولة واحدة، ولا افتئات منا في هذا؛ فإنه إذا جاز لبعض الأمم الأوربية أن تضم تحت جناحيها أجناسا وشعوبا وبلادا لا تتصل بها بأقل لحمة فمن حقنا من باب أولى أن نوحد وطننا العربي ونصونه، ونحج إلى كعبته شبانا وشيبا؛ لنتزود لحياتنا من مهد الإسلام والعربية، وإذا قلنا وطننا فهو وطن جنسنا كله؛ أي: جميع الجزيرة العربية التي جئنا منها: الحجاز ونجد واليمن وحضرموت وعمان والبحرين والعراق والشام وفلسطين ومصر، وجيرتها التي عمرناها قبل الإسلام وبعده، وهي طرابلس وتونس والجزائر ومراكش والسودان والصحراء الكبرى وأواسط أفريقيا والجزر المتصلة بها، هذه بلاد العرب من قبل أن يبعث النبي
صلى الله عليه وسلم
ثم ملأها العرب من بعده بالنازحين إليهما من بلاد العرب الأم على مدى ثلاثة العشرة من القرون. جنسنا فيها واحد هو جنس العرب، ولغتنا فيها واحدة هي العربية، ومجتمعنا فيها واحد؛ إذ حياتنا الاجتماعية في كل صقع منها مثيلة بها في كل صقع عربي آخر، ودين الغالبية، التي لا تعد الأقلية في جوارها شيئا كبيرا، هو الدين العربي، على أن هذه الأقلية عربية قديمة الأرومة، ولن يخرجها من حظيرة الوطنية العامة كونها بقيت على غير الإسلام، ولكن هذه الأوطان قد عبثت بها أطماع أوربة الاستعمارية وفكت من أوصالها.
وفي اعتقادي أن جهودنا في سبيل الحياة والاستقلال يجب أن تكون موجهة إلى توحيد الوطن العربي الذي حددته؛ سواء كنا تابعين في هذا أو متبوعين، ما دام يعصمنا الإسلام من الزلل. ولذلك يجب أن نحيي الخلافة في صورة عصبة متحالفة لأقطار العرب وسائر المسلمين؛ لنحيي المبدأ الذي قامت عليه دولة الإسلام في وجه الدنيا المغيرة منيعة خيرة؛ ليكون من قوينا لضعيفنا صون، ومن عالمنا لجاهلنا نور، ومن غنينا لفقيرنا ثروة وتمكين، ولنا من وسائل ضمانة حسن العمل والتوازن ما عرفنا العلم والتاريخ والنظم القائمة.
هذا ما يجب علينا عمله والدعوة إليه بكل وسيلة إذا كنا راغبين حقا في الحياة على صورة صحيحة مسعدة، أو كنا متألمين حقا لما أصابنا من الوهن والاتضاع، يجب أن نحيي وطننا العربي وديننا العربي، ونجري على ما أمر به رسول الله سيد العرب وسيد الخلق معا؛ لنستعيد مجدنا وهناءتنا ومنعتنا، وإلا فماذا ينتظر هذا الشرق الإسلامي من الدنيا إذا كان لا يعمل لها عملها، بل يهمل أسباب المنعة والقوة، ويكتفي من الأمر بالدعاء لله تعالى أن يرد عنه غائلة المغتالين ومطامع المغيرين! لا، لن يجيب الله دعاء قوم يعطيهم الإسلام فيتجاهلونه، أو يكتفون منه بمظاهر العبادة، فما العبادة إلا وجه من وجوه الإسلام، أما روح الإسلام فالإخاء والتعاون والتناصر والعمل الجدي على صيانة بلاد الله ودينها من عوامل الفناء الملحة عليه من كل جانب، بكل وسائل الصيانة والدفاع، ورد منعتها إليها؛ لتستطيع أن تعيش شريفة، وتسعد الدنيا معها، وتمحو منها هذه الشرور العصبية التي تفتك الآن بالناس جميعا، حتى بالفاتك نفسه.
من أجل هذا شرعت في وضع هذه السلسلة القصصية؛ لأعرف معالم تاريخ الإسلام إلى من لا يعرفونه أو لا يجدون الوسيلة ولا الزمن إلى مطالعته، أو لمن عندهم كل هذا ثم يهملونه؛ إذ هو علم، ولا يهملونه؛ إذ هو قصص، وقديما عرف الأوربيون فضل القصص في الدعاوة والتبصير والدرس الذي ما كانوا يملكونه لولا أن يصاغ في القالب الذي تتهافت عليه الأيدي والقلوب، وهو قالب القصة التي لا يجد فيها الناس مشقة عليهم في قراءتها ولا تكليفا، وإن وجدوا فيها علما ونورا، بل يجدون في عنوانها مغريا بتناولها، وفي روايتها حاديا على قراءتها، وفي اللذاذة منها تطلعا إلى أمثالها، ومن ثم تنتشر حيث لا يخطر على البال: في المدن والصحراوات والبحار وفي الجبال، في البيوت والفنادق والمعسكرات والمستشفيات، في القطر والسفن والطائرات وفي الترام والسيارات وفي الضياع والمزارع والمضارب والمنتجعات والمشاتي والمصايف، بين أيدي الكبار والصغار من رجال ونساء، وبين العلماء والجهلاء، والأغنياء والفقراء، والأبناء والأمهات، والبنين والبنات، وفي أيدي التلاميذ ومعلميهم، والجنود وضباطهم، والعمال والصناع والسادة والخدم وأحلاس البيوت. جميع هؤلاء ومن لا يستطاع حصرهم سيكون لهم من هذه الرواية وما سيتبعها من سلسلة قصص التاريخ الإسلامي - أيسر وسيلة للعلم به واكتناه الحقيقة فيه، وسيرون الإسلام فيما فعل المسلمون، وسيكونون - يومئذ - أدنى إلى الإجابة عند الإهابة، وأرعى للآباء ساعة النداء، وأزكى قلبا وأعظم بالعقل والروح؛ حبا لرسول الله وتقديرا للخير الأعلى الذي جاءنا من ظلال سدرة المنتهى.
وسيكون دأبي في هذا القصص غير دأب ديماس الفرنسي، فهو لم يهتم إلا بالخيال ولو أفسد التاريخ، ولا دأب وولتر سكوت الإنجليزي، فهو لم يرع للتاريخ كبير حرمة، بل سيكون إمامنا في ذلك لورد ليتون
4
وأيبرس
5
الألماني؛ فقد راعى كل منهما التاريخ أولا، وغلب حقه على حق الخيال ؛ لأنه لم يكن بصدد الأدب وحده ، بل كان بصدد مواعظ التاريخ وعبره، ولأحرى بي أن أنهج نهجهما وأنا بصدد العبرة من تاريخ بلادي ومواعظه، حين أنهما كانا يكتبان عن غير بلادهما، على أني لم أجد هذا المسلك علي شديد الوعورة حين كتبت قصصي التمثيلي، وهو أشق من هذا الصنف وأصعب مراسا؛ ولذلك أراني شاكرا فضل الله علي في أني لم ألجأ مرة إلى مباحثات الأدب القصصي فألوي التاريخ، أو أقدم الحوادث أو أؤخرها من أجل الأدب، بل التزمت مسار التاريخ فيما بين أيدينا من الكتب المعتمدة العربية والإفرنجية إلا فيما يختص بأشخاص الرواية الذين تخيلتهم.
وإذا قلنا الرواية فمعنى هذا الذوات التي حيكت بينها قصة محبة تقصر أو تطول تبعا للمقصد، وإذا طالت بنا قصة باب القمر؛ فالمقصد واضح، والغرض أعم وأوسع من أن تتضمنه بضع مئات من الصفحات. •••
ولا بد لي قبل أن أنتهي من هذه الكلمة أن أدل - وإن لم أكن في حاجة كبيرة إلى الدلالة - على أن معتزى هذه القصة وهو ورقة بن صليح، أو ورقة بن العفيفة، شخص خيالي استولدته من ذاتية الزمان العربي في أوائل القرن السابع الميلادي، هو مثال مكة الفتاة في انتظار الهادي الأعظم، ولسان آرائها وآمالها وعلو نفسها، ثم تحمسها لإصلاح بلادها ولم شعث جنسها، وإصلاح الإنسانية، وإنقاذ الدنيا من أوزار العقول على أثر ما أصابت من الهدي ببعثة الإسلام. غلام استولدته في كنف زعيم الحنفاء قبل الرسول
صلى الله عليه وسلم - ورقة بن نوفل ابن عم سيدة المؤمنين رضي الله عنها - خديجة بنت خويلد زوج الرسول
صلى الله عليه وسلم ، وربي على ما أراد له هذا الحنيفي الذي كان يدعو هو وزيد بن عمرو بن نفيل وعثمان بن الحويرث وعبيد الله بن جحش ... وغيرهم من حكماء العرب إلى الحنيفية؛ أي: دين إبراهيم
صلى الله عليه وسلم ، دين التوحيد الذي اقتضت رحمة الله بعباده أن يبعث به محمدا - صلوات الله عليه وتسليماته - هدى ونورا للعالمين كافة.
وسيرى القارئ لهذا أني بنيت روايتي على معالم التاريخ في بلاد العرب من صنعاء إلى نجران فالطائف، ومكة فيثرب، وبلاد ثمود والقدس والشام ومصر والإسكندرية، في أيام بعثة المصطفى
صلى الله عليه وسلم ، مصورا للقارئ حالتها الاجتماعية والسياسية والدينية، وذاكرا ما جرى من الأحداث فيها، وما فعلت قريش العاصية حين دعاها النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى ترك عبادة الأوثان؛ ليكون ما قصدنا من إيراد تاريخ الرسول
صلى الله عليه وسلم
في مكة أبين وأوضح بأسبابه ومقدماته وملابساته، متبعين في ذلك خطى كتب السيرة الصحيحة (ونبهنا إليه في الهوامش) ومستأنسين بما لدينا من مصنفات علماء الفرنجة الذين لا يسعني إلا الإقرار بفضلهم علينا، بما جهدوا وما بحثوا وبما أظهرونا على جلائل شئون وتفاصيل أمور ما كان في مقدورنا معرفتها أو تبينها إلا بجهد كبير ودرس طويل، وبتجرد منطقي ليس من الميسور تحقيقه إلا برياضة نفسية شاقة. هم أساتذتنا بما أخذنا عنهم، فلهم شكرنا الخالص فيما علمونا، وإليهم يرجع الحمد بما مكنتنا مؤلفاتهم من الاستعداد لأداء ما نشعر أنه أصبح مطلوبا منا، ألا وهو هداية الناشئة العصرية وتبصيرها بحقيقة دينها وأدب سلفها، ومحاضرتها فيما كان وما يجب أن يكون في الدنيا على نحو ما يفعل كتاب الفرنجة اليوم، وإذا استشعرنا هذا الواجب، ونرى من حقنا أن نؤديه قبل سوانا، فذلك لأن الناشئة العصرية لم تعد تأمن فيما يقدم لها من حكمة الدين وتاريخ من حملوا أمانته ورسالته، وشرح مقاصده وقواعده ومبادئه إلا لكاتب من أنفسهم، لا شكا في مقصد غيره، ولكن لأن وجهة الكاتب العصري في مهمته الدينية غير وجهة غير العصري؛ هو يلتمس الجانب الاجتماعي، ويعني بالقومية ومقوماتها، وهذا ما يعني مصر الفتاة أساسيا، وهو مثلها وليد الشك ينتهي إلى يقين، لا وليد التسليم لأول خاطر، وأساليبه أقرب إلى ذهنيتها وما اعتادت، ولأن للأدب العصري مطاليب كثيرة ليس في مقدور من لا يتيسر له الاطلاع على مناحي الفرنجة فيه أن يستكملها كمطاليب الفنون التي اختص بها الفرنجة ومن أخذ عنهم، ولهذه أصول وقواعد يبنى عليها علم النقد الحديث؛ أي: علم معرفة القيم في المؤلفات، وتبين وجوه الكمال والنقص فيها.
ولذلك أبادر فأعترف لعلماء النقد بنقص تعمدت أن يبقى نقصا؛ ذلك أنني لم أورد في روايتي من المواقف ذات العلاقة بشخصية الرسول
صلى الله عليه وسلم
إلا ما كان له سند صحيح من كتب السيرة، أما ما كانت ضرورة الرواية تتطلب استكماله بالخيال على سبيل الاحتمال فقد نبوت عنه وتركته؛ لاعتبارات كثيرة لا يجوز أن يتجاهلها حماة الأدب والقصة اعتمادا على أن الرسول وصفه الله تعالى بأنه بشر مثلنا يوحى إليه، يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؛ لأن ذاتية الرسول
صلى الله عليه وسلم
مقدسة عندنا، وليست مما يجوز أن يتناوله الكاتب حتى في أبسط نواحيها؛ أي: في الحوادث العادية كالأكل والمشي والتحية والالتفات والابتسام والدعاء، في مواقف متخيلة ليست ذات سند، فإن ما نزعم نحن أنه من عادي الأمور لا يكون كذلك في الواقع فيما يختص بذاتية كل خلجة من خلجاتها وحركة من حركاتها مما يبنى عليه أحكام ويؤخذ منه قواعد وبه يستشهد، من أجل ذلك أهملت هذا الجانب من مستلزمات القصة إهمالا تاما، إلا في ثلاثة مواقف لم أكن أستطيع مع اقتضابي إياها إلا أن أشبع السياق فيها، وهذه نبهت القارئ فيها بالإشارة في الهامش إلى أنها تخيل لا حقيقة تاريخية، وارتاح علماء الدين إلى ذلك، على أني تلوت الجانب العربي من القصة على أستاذنا صاحب الفضيلة الشيخ عبد المجيد اللبان شيخ كلية أصول الدين؛ وإذ رأى فرط حرصي على ما أنا بصدده أشار بأن ألزم القارئ التنبه إلى هذا في صلب الكلام نفسه وسياقه ففعلت، فله عظيم شكري.
نعم حسب القصة من أنها قصة ما لا بد أن ينبه، وكان يكفي للأمر أن يشار إليه، ولكنا لا نريد أن نطبق هذا على أقدس ذاتية خلقها الله. •••
وإذ يجب أن أتقدم بالشكر إلى من كانت لهم يد في هذا العمل، فشكري أوجهه بعد ذلك إلى صديقي الفاضل محمد أفندي جبر مدير مكتبة وزارة المعارف؛ لفضله علي قديما وحديثا، فقد هداني باطلاعه الواسع إلى ما لم يكن في استطاعتي الاهتداء إليه من موارد العلم فيما له علاقة بعملي القصصي من سنة 1913 إلى يومنا هذا، وإلى أبي الفضل والسادة الفضلاء الشيخ الوقور الأستاذ حسين بك أباظة؛ إذ أعارني من مكتبته ما لم أكن أستطيع الوصول إليه من كتب التاريخ والفقه، ولتوليه عني البحث والتحقيق في كثير من المسائل برا منه بدينه، وإكراما للعلم، وإلى صديقي الفنان الأستاذ حسين أفندي فوزي عضو بعثة وزارة المعارف ومدرس الرسم والتصوير بمدرسة الفنون الجميلة العليا، ثم إلى الأستاذين الناشئين أحمد أفندي زكي وكامل أفندي منصور من طلاب الفنون الجميلة العليا في روما؛ فقد تولوا تصوير مناظر الرواية وأجادوا.
وأرفع شكري كذلك إلى العلماء الفضلاء أصحاب الفضيلة والعزة محمد جاد المولى بك المفتش بوزارة المعارف ومراقب المجمع اللغوي، والأستاذ الكبير الشيخ مصطفى العناني مفتش أول العلوم العربية بالجامعة الأزهرية الشريفة، وفضيلة الأستاذ الجليل الشيخ محمد الحسيني الظواهري المدرس بكلية أصول الدين، والأستاذ النابغة الشيخ محمد عبد اللطيف دراز من جلة علماء الأزهر الشريف، وإلى المربي الكبير صاحب العزة محمد لبيب الكرداني بك مراقب التعليم الأولي بوزارة المعارف، وإلى الأستاذ الجليل أمين سامي حسونة بك ناظر معهد التربية، وإلى المؤرخ العمدة الدكتور حسن إبراهيم حسن أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية الآداب بالجامعة المصرية الموقرة، وزميله العالم الجغرافي النابه الأستاذ الشرقاوي، وإلى الأديب الفاضل الشيخ عبد الرازق سلمان مدرس التاريخ الإسلامي بكلية اللغة العربية، وإلى الأستاذ العالم الأجل الشيخ عبد الرحمن الجزيري كبير مفتشي مساجد الأوقاف؛ لاطلاعهم على الرواية قبل عرضها على القراء، وتفضلهم علي بالكلمات الكريمة التي أقتضبها وأنشر بعضها بترتيب ورودها تحدثا بفضل الله علي، وإثباتا لامتناني وشكري الدائم، فإن فيهما غذاء لنفسي يقويها على المضي فيما اعتزمت من خدمة الدين والتاريخ بقدم ثابتة وقلب مطمئن، كما أن فيها تزكية لعملي عند من أردتهم بما اعتزمت من صياغة التاريخ الإسلامي في قالب قصصي.
على أني لا أريد أن أقصر شكري على ذوي الأيادي الظاهرة علي في عملي، فإن هناك فريقا من علية القوم في مصر وزعماء الرأي والفكر فيها كانت لهم علي - ولا تزال - أيادي خير قوتني فيما أنا بصدده: وزراء وقضاة وكتاب وعلماء، وأساتذة في الجامعتين، ومراقبون ومفتشون ومدرسون في وزارة المعارف، وسيدات من زعيمات الحركة القومية في مصر، قرءوا منه وتتبعوه، فكان ارتياحهم إليه، واستحثاثي عليه، وتساؤلهم عنه، معوانا لي على العمل، وتقوية للجهد.
وكذلك إلى رصفائي الأدباء الذين لا أزال أحن إلى عهدي معهم - وأدعو الله أن يمكنني من الأوبة إليهم - كتاب الجرائد العربية الذين رحبوا بالمشروع، وكتبوا عنه قبل ظهروه؛ حسن ظن منهم بأخيهم، وتشيعا للفكرة كما تشيع معلمو التاريخ لها واغتبطوا بها.
وإلى صديقي المفضال صاحب العزة الأستاذ مصطفى غزلان بك رئيس قلم التوقيع بالديوان العالي الملكي؛ لتفضله بكتابة عنوان الرواية في شكله الرمزي بخطه البديع النادر المثال.
والآن أضع الرواية بين يدي العالم الإسلامي راجيا أن أكون قد وفقت إلى طريق الخير الذي قصدته، ولقد كنت أرجو أن يكون في الأحياء أستاذي وصديقي الخالد الذكر الشيخ عبد العزيز شاويش لأقول له: هذا باكورة ما سألتني أن أنهض له، فهل يرضيك؟ أو يكون حيا أستاذ المصلحين السيد الإمام المرتضى الشيخ محمد عبده - رضي الله عنه - لأقول له: يا خليفة الأفغاني العظيم، ويا من كان عليه أن ينفخ في الصور؛ ليوقظ العقول، ويهيب بالناشئة أن يعملوا للدين والوطن، هل أردت أن يكون الأمر من هذا القبيل؟
هذا ما أترك الجواب عليه لخليفتك الأعظم وولدك الأبر الأكرم:
صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر
وزعيم النهضة الإسلامية العصرية، وداعية الحركة الإصلاحية العلمية من بعدك، والذي يعد جلوسه على كرسي الرياسة العليا في الجامعة الأزهرية فوزا مما لك في عليين.
أتركه بين يديه مستفتيا، فإن كان الرأي أني في سبيل الوفاء لك ولأساتذتي من بعدك فوا سعداه، وإلا فإني منتصح في منهجي بنصحه، ومستهد فيه بهداه، والله الموفق وحده إلى الصواب.
كلمات السادة العلماء
كتب إلي صاحب الفضيلة والعزة الأستاذ محمد أحمد جاد المولى بك المفتش بوزارة المعارف والمراقب العام للمجمع اللغوي يقول متفضلا:
صديقي الكاتب الكبير ... تصفحت رواية «باب القمر» أولى حلقات قصص التاريخ الإسلامي، فراعتني عنايتكم بتصوير التاريخ تصويرا قصصيا أخاذا جمع بين صحة النقل وحسن العرض، هذا إلى روعة الأسلوب وسلاسته، وتخير الألفاظ المهذبة والعبارات المحررة، ولعمري، إن هذا الصنيع خير ما يحبب التاريخ إلى القراء، ويملأ نفوسهم تعلقا به وإقبالا عليه، ويبصرهم بما كان عليه سلفهم الصالح من خلال سنية وآداب رضية، وإن اضطلاعكم بهذا العمل الجليل قد استوجب لكم تقدير العارفين وإعجاب المثقفين ...
وتفضل الصديق الكريم والعالم الكبير الأستاذ الشيخ مصطفى عناني المفتش الأول للعلوم العربية بالجامع الأزهر والمعاهد الدينية فكتب إلي يقول: صديقي المفضال ... ... تصفحت على عجل قصة «باب القمر» فرأيتها مضيئة مشرقة جذابة مشوقة، ورأيتك قد بذلت فيها جهدا لا يقوم به إلا أمثالك ممن وهبوا حياتهم وفكرهم لخدمة العلم وتقريبه إلى النفوس، وتحبيبه إلى القراء، وتذكير المجهود بمآثر أسلافهم الخالدة، ومحاسنهم الطريفة والتالدة، وعرضها عليهم في ثوبها القشيب، وشكلها الناضر، وجمالها الباهر. نفع الله بك ووفقك إلى الخير، وجزاك بما يجزي به العاملين المخلصين.
وكتب صاحب الفضيلة الأستاذ الجليل محمد الحسيني الظواهري المدرس بكلية أصول الدين بالأزهر الشريف بعد ديباجة كريمة:
هذا، وإن رواية «باب القمر» قد وفق الله صاحبها إلى فتح باب جديد للدعوة الإسلامية على وجه شهي جذاب، لا يستطيع قارئها أن يلقي نظرة على أولها حتى يكملها فتكمل له السعادة؛ لما تضمنت من الحقائق التاريخية التي صاغها بأسلوبه العذب المتين. نسأل الله أن يجعل جزاءه على ذلك الجنة، إنه ولي الإجابة.
وتفضل حضرة صاحب العزة الأستاذ المربي الكبير محمد لبيب الكرداني بك مراقب التعليم الأولي بوزارة المعارف فكتب يقول:
صديقي الكاتب الكبير ...
ليس لي أن أتحدث عن روعة القصة وسحرها، فهذا مما للجمهور أن يدلي فيه برأي، وإن كنت واثقا أنه سيطرب كما طربت، ويعجب كما أعجبت، ولكن الذي لي أن أدلي به مع الثناء العظيم هو أن الحقائق التاريخية والجغرافية التي صيغت عليها روايتك «باب القمر» دلت على فرط حرصك في رعاية التاريخ، واستقصائك البحث فيما لا يعني به إلا المعلم المتعمق المطالب في قاعة المحاضرة بما يتم ويكمل، وفي اعتقادي أننا نستطيع اليوم، وقد اعتزمت أن تكتب تاريخ بلادنا الإسلامي في القالب القصصي الرائع الصادق الذي رأيناه في «باب القمر» - أن نعتمد على قصصك في تعليم الناشئة واستدراك ما فات غير الناشئة مما كان يجب أن يعلموه من تاريخ جنسهم ودينهم وسلفهم الصالح المجيد في مدى القرون الثلاثة العشرة التي مرت بنا، من غير ما مشقة ولا تكليف.
وإذ كان هذا غرضك من هذا القصص الذي أنت فيه علم من أعلامه المعروفة، فإني أهنئك من صميم قلبي لوثوقي أن سيكون لجهدك ما هو حقيق به من التوفيق والإقبال من أمتك التي تخدمها منذ زمن بعيد بمنتهى الاقتدار والبر والأمانة ...
وتفضل عميدنا العالم الفاضل مخرج ناشئة المعلمين للمدارس المصرية الأستاذ أمين سامي حسونة بك ناظر معهد التربية فكتب يقول:
أخي الأستاذ ... ... أشكرك إذ خصصتني بقراءة قصتك الجديدة «باب القمر» قبل نشرها، وإني كمعلم أرحب بالفكرة التي أوحت إليك كتابة تاريخ حقب من حقب الإسلام في قصص ممتع كهذا، ذلك أن القصة أصبحت أداة من أدوات التربية الحديثة يستعين بها المعلم على تحبيب مادته لعقول المتعلمين؛ ففي المراحل الأولى من الطفولة تكاد تكون القصة هي السبيل الأول الناجح في تنمية الملكات وتكوين أحسن العادات، وفي جميع مراحل التعليم الأخرى نستعين بالقصة على تحبيب القراءة والاطلاع للتلاميذ، وعندما تنقطع صلتنا بالمدرسة وينصرف كل منا إلى العمل الذي أعد له في الحياة، تستمر القصة همزة وصل بيننا وبين نواحي المعرفة المتنوعة: فالطبيب أو المهندس - مثلا - قد ينصرف بطبيعة عمله عن قراءة كتب التاريخ، ولكنه يقرأ القصة التاريخية أو يشاهد تمثيلها بعاطفة الحب للقصة، فيتعلم من التاريخ وفلسفته أضعاف ما تعلمه بالمدرسة، وهكذا كل من لم يتمكن من إتمام دراسته العالية يستكمل ثقافته العامة بقراءة القصص الراقية. فأنت إذ تكتب قصصك بهذا الروعة والدقة تخدم التاريخ الإسلامي أجل خدمة، وتقدم للقراء عامة مادة ثقافية ممتازة، وللمؤرخين موضوعا جديدا للدراسة والتحليل، وسيرى كل من يقرأ قصتك - كما رأيت - عظم المجهود الذي بذلته في تحضير مادتك وتنسيقها، فقد جمعت في قصتك بين التاريخ والاجتماع والأدب الراقي، وأنت في عملك تذكرني بتولستوي لما كتب (أنا كرنينا) فمثل لنا أصدق تمثيل حياة الروسيا السياسية والاجتماعية بجانب موضوع القصة الرائع، وما كان لنا أن نحصل على هذه المعرفة بالسهولة التي حصلنا عليها إلا عن طريق القصة. فاهنأ يا أخي بمجهودك، وليهنأ به قراء العربية وعشاق الأدب العالي والثقافة العميقة، لقد فتحت فتحا جديدا في عالم الأدب بترقية القصة العربية، إذ وضعتها في مستوى القصة الغربية، فلك منا الشكر والتقدير والسلام.
وتفضل الأستاذ الدكتور حسن إبراهيم حسن أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية الآداب بالجامعة المصرية فكتب يقول بعد ديباجة كريمة:
إلى الأستاذ الكبير والشاعر المطبوع ...
تصفحت روايتك الخالدة «باب القمر» أولى حلقات السلسلة القصصية التي اعتزمت بناءها على معالم التاريخ العربي الإسلامي، فبهرني اقتدار السيد على أن يصوغ لنا تاريخ بعثة النبي
صلى الله عليه وسلم ، وأحداث الزمان الجارية في مكة ويثرب وبلاد العرب وثمود والنبطيين وما دونها من الشام ومصر من اقتتال أكبر أمتين في الأرض يومئذ، في قصة طلية ساحرة بأسلوبها وأدبها، رائعة بما تضمنت من الحقائق التاريخية والنوازع النفسية والأسباب الاجتماعية التي لم يطرقها من المؤرخين العصريين إلا القليلون المتعمقون، وإني كمعلم للتاريخ الإسلامي أرى أن هذه القصة ستبلغ غاية المدى في تبصير الجمهور المصري والعالم الشرقي بتاريخ نشأة الإسلام، وحقيقة العربية والإسلام، وتاريخ مصر والشام في تلك الحقبة التي تعد على إبهامها في كتب التاريخ أهم حقبة في تاريخ مصر والإسلام.
ولقد وقفت غير مرة وأنا أطالع الرواية أتفحص معين نفسك المؤدبة المهذبة وأنا مثن عليك ومغتبط بك؛ لأن قصة غرام فتاك ورقة بن العفيفة بلمياء ابنة الحارث بن كلدة كانت على روعتها واهتزاز النفس لحديث حبهما منسجمة الموضوع مع القداسة والطهر الذي يغمر رواية محورها أثر الرسول الأطهر في هذه الحياة الدنيا، فلا يسعني إلا أن أسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يجزيكم عن التاريخ الإسلامي وعن اللغة العربية وآدابها جزاء من يحسن عملا.
وتفضل الأستاذ العالم محمد عبد المنعم الشرقاوي مدرس الجغرافية بكلية الآداب بالجامعة المصرية فكتب يقول:
أستاذي الكبير ... ... تكريم منك إلي أن ترسل إلي الحلقة الأولى من سلسلة القصص الذي نهضت لصياغته على معالم تاريخ العرب والإسلام.
ولقد قرأتها فإذا بي أمام عمل جليل ممتع ومهذب كدأبك في كل ما كتبت، بل لعمري إنك تفتح فتحا جديدا في عالم الأدب، كنا وكانت الأمم العربية في أشد الاحتياج إليه؛ لتبصير الناشئة بتاريخ سلفهم، وإحياء عزة القومية العربية في نفوسهم، وجمعهم تحت لواء واحد في معترك الأمم المتدافعة في ميدان الفور والغلبة.
ولا أراني مبالغا إذا قلت: إنك بما اعتزمت ستعمل على إذاعة تاريخ العرب والمسلمين، وجهودهم في سبيل الإنسانية بما لا يبلغه كتاب علمي أو بحث مستفيض، وكمدرس للجغرافية يعرف قدر جهدك فيما بنيت عليه قصتك، أبعث إليك بتهنئتي على ما وفقت إليه وإعجابي بهمتك التي لا تعرف الكلل في سبيل العلم والأدب.
وتفضل الكاتب المقتدر والخطيب الديني العالم فضيلة الأستاذ الشيخ عبد الرحمن الجزيري فكتب يقول:
عزيزي الأستاذ الجليل
تصفحت روايتك (باب القمر) فألفيت أسلوبا رائعا وخيالا حكيما ومعاني سامية لها أحسن الأثر في نفوس الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وقد أعجبني منك شدة أدبك مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في عبارتك وتجنبك ما عساه أن يؤاخذ به الروائي من التساهل في العبارة، والإمعان في الخيال إلى حد لا يليق بهذا المقام الأقدس. فلك على هذا العمل الجليل حسن المثوبة من الله - عز وجل - وحسن الثناء من المتأدبين الذين لهم من روايتك هذه أجمل الفوائد، وأجل العظات، والسلام عليكم ورحمة الله.
وتفضل صديقنا الأستاذ النابه الشيخ عبد الرازق سلمان مدرس التاريخ بكلية اللغة العربية وصاحب التأليف الطيب في هذا الموضوع فكتب تحليلا وتقديرا جديرين بأدبه الواسع وعلمه الغزير نجتزئ منه بما يأتي: «يبعث على العجب العاجب ما تكشفت عنه الأيام من مدهش في تاريخ العرب والإسلام هلهل تلك الستور التي طالما أسدلت على حقائق هذا الضرب من التاريخ فسفرت في ثوب جديد طرزه جلال المنطق ورائع الخيال، وبرزت لأبناء الضاد في أسلوب غير مسبوق إليه فكانت من أبدع ما نسقته يد الإنسان في هذا الزمان.
لقد راح صديقنا الأستاذ الكبير يستنطق الدهر بما كنزه في ثناياه من مجد الشرق، ويستوحي القرون ما احتجنته من عظمة العرب، ويستلهم الأيام ما أسرته من فضل الإسلام فأدرك البغية، وأحرز الأمل المنشود، ودل بما بذله من جهود على أنه غرة وضاءة في جبين العقل، ودرة تاج التفكير انبعث منها نور العلم انبعاث المدنية الحديثة في الشرق والغرب من باب القمر ... •••
وإنا لنرجو أن يتخذ الشباب من باب القمر عظة تحرك هممهم وتشحذ عزائمهم فيخلقون جيلا إسلاميا جديرا أن يعتز بعزة الإسلام، ويحفظ كرامة الإسلام، وإنه ليتسع أمام نفوسنا باب الأمل عندما نقدم للقراء «باب القمر» فجزى الله المؤلف عن اللغة والتاريخ والعلم والأدب أحسن الجزاء. •••
وتفضل الأستاذ النابغة الشيخ محمد عبد اللطيف دراز من علمائنا الأعلام فكتب إلي يقول:
عزيزي الأستاذ ... ... رأيت فصولا من رواية «باب القمر» فأعجبت بأسلوبها القصصي الطريف، وعددته فتحا جديدا في باب التأليف الحديث، وسيدفع الشبان إلى الاتصال بالتاريخ الإسلامي، وإذا اتصلوا بهذا التاريخ فقد تلقوا منه دروس المجد والعظمة أدام الله توفيق الأستاذ الكبير لخدمة الأمة والإسلام.
فالحمد لله أولا وأخيرا.
إهداء
ودلالة على ما قصدت من البر
أهدي الرواية إلى ابنتي الوحيدة
أميمة
الفصل الأول
قافلة مكة
كان أهل نجران
1
وجيرتها من بلاد اليمن وباديتها يعلمون أن القافلة عائدة إلى مكة في بكرة اليوم الأول من الربيع - ربيع سنة 616 الميلادية لتدرك عيد العزى
2
إلهة قريش
3
الكبرى قبل موعده بعشرة أيام، ولذلك حرص كل راغب في شهود العيد من شباب صعدة وصنعاء وأبناء سراتهما، وكذلك كل من كان في سبيله إلى العراق أو إلى الشام، من يهود اليمن ونصارى بني كندة
4
أن يكون في نجران قبل يوم القافلة؛ ليسير في أمنها وحماها.
وعمل تجار مكة الذين كانوا قد وردوا اليمن في أوائل الشتاء ليستبضعوا لهذا العيد أن ينسلوا إلى نجران قبل موعد الرحيل بأيام؛ ليستريحوا هم وجمالهم من وعثاء الأسفار في مرابع اليمن وأسواقها المترامية قبل أن يندفعوا في سفرة أخرى أمدها عشرون يوما متواصلة. على أن منهم من كان في نجران من قبل؛ ليستولي على ما تصنعه أيدي أهلها من البرد والأدم، ويزاحم على ما يرد إليها من العطور والتحف التي يتهافت عليها الناس في الأعياد، ولذلك امتلأ سفح الجبل من نجران ومغارس نخيله دوين البيوت بمضارب الأغراب والتجار ومناخات الإبل ومرابط الخيل والبغال وأكداس البضائع، ولاحت نجران كأنما هي في يوم الحشر؛ لاجتماع أنواع الخلق فيها، وتزاحم الناس في أسوقها متفرجين أو مستبضعين، وانتعشت الحياة فيها بما كان ينفق الرحل من الأموال، وما يدفعونه فيما يشترونه من الأثمان.
وفي عشية الربيع سمرت القافلة سمر الوادع، واشترك أهل نجران في السامر بمعازفهم وأعوادهم وغلمانهم وقيانهم، فشربوا، وغنوا ورقصوا، وتلهوا، إلى أن انتصف الليل أو كاد، فعاد أهل نجران إلى بيوتهم، وانصرف أهل القافلة إلى مراقدهم؛ ليغنموا شيئا من الراحة قبل الرحيل في بكرة الصباح.
جاءت ساعة الرحيل، فما همت النجوم بالإدبار حتى هب الرقود على صوت المنادي: أيها العير، آذنت الشمس بالشروق. هبوا إلى الأحمال.
لم تكن الشمس قد آذنت بشيء ولا الفجر، ولكنها أكذوبة اعتادها المنادون؛ ليوقظوا الركب من رقاده، ويصرفوه إلى العمل، ولم يكن الركب على علم بحقيقة الساعة؛ لأنهم كانوا نازلين على سفح الجبل من جانبه الغربي، وما كانت الشمس لو طلعت لتبين لهم قبل أن يعلو النهار وتعلو الشمس هضباته، ولذلك نفروا من مراقدهم؛ ليقوضوا الخيام ويلموها، ويجمعوا الرواحل ويحملوها حتى إذا تنفس الفجر كانت القافلة قد تهيأت للرحيل عن نجران.
الشماسة يتراكضون نحو القافلة.
ولكنها ما كادت تنتظم في طريق الحجاز، ويهم المنادي أن يصيح: سيروا على بركة الله، حتى اضطرت إلى الوقوف على صياح متدارك وارد من ناحية الكنيسة، ونداء من منادين يقولون: قفوا. انتظروا لا ترحلوا.
وقف الركب، والتفت الناس نحو الصائحين وهم على أكوار الإبل فإذا هم يتبينون في فترة الصباح ثلاثة أشباح تنحدر عن قمة الجبل حيث قامت الكنيسة، وتتراكض بين النخيل القائم على السفح تراكض الظلمان المستنفرة تبتغي ساحة الركب بأدنى سفحه. حتى إذا دنت لاح أنها أشباح ثلاثة من الشمامسة جاءوا لينهوا إلى الركب بخبر. فأخذ الناس في عجبهم يتساءلون ماذا جرى؟ لماذا يقفهم أهل الكنيسة عن الترحال بعدما توجهوا واعتزموا الرحيل؟ وفي ذلك ما فيه من سوء الطالع وشر النذير، ولكنهم لم يلبثوا في عجبهم طويلا فقد بلغ المجلي
5
من أولئك الشمامسة ساحة العير، واستطاع أن ينهى إليهم وهو يلهث من شدة الركض، أن مولاه ابن الحارث
6
أسقف نجران المعظم يأمرهم بالعودة إلى المضارب حتى يسافر معهم في الغد، وأنه يريد لقاء سلمان المنادي.
تذمر الركب لهذا الأمر على اختلاف من فيه أيما تذمر حتى المنادي حتى الحداة والسائقون، وغالبهم من نصارى نجران أتباع الأسقف نفسه وملتمسي بركته وفضله، ولكنهم لم يملكوا إلا أن يطيعوا كارهين، ويأخذوا بمقاود الجمال لينيخوها غاضبين، واستشعرت البعران سورة الغضب من أصوات قادتها، وشدة أخذهم بزمامها فعجت ذعرا، ولغبت استشفاعا، ثم بركت في النهاية طوعا للصوت والإشارة.
وكان الذين في الركب من تجار مكة ويهود صنعاء أشد حنقا وغضبا؛ لأنهم كانوا يحملون في القافلة أكداسا من بضاعة الأعياد، فكل يوم يقضونه انتظارا أو تلوما يذهب بالكثير مما أملوا من الكسب في تجارتهم، ولذلك عارضوا في الانتظار، وأمروا رجالهم بالمسير، ولكن الرجال أبوا أن يخذلوا أسقفهم الكريم، وأدرك العير أن لا بد لهم من الأناخة فشرعوا في ذلك وهم محنقون، ونفس أحد اليهود عن صدره وخاطب الشماس: أما كان مولاك الأسقف يعلم أن القافلة تسير اليوم! وأن الناس تاركون فراشهم في السحر! ليدركوا ساحة الركب ويتحملوا! لماذا لم يعلن العير برغبته هذه في أصيل الأمس أو عشيته، ويتركنا في مضاربنا ، ولا يكلفنا هذا العناء الكبير!
فلم يحر الشماس المخاطب جوابا، ولكن أحد الاثنين الآخرين تصدى من عنده بجواب لفقه في غير وعيه مما عنده من الأخبار التي كان يحرص أهل الكنيسة ألا تذاع إلا في أيام الصلاة العامة على لسان الأسقف وحده، ولذلك عاقبه الأسقف بعد يومه على ما قال؛ إذ خشي أن يتهمه اليهود بسوء. قال الشماس: وردت إلى مولانا رسالة من أسقف بني تغلب يدعوه للقدوم على عجل إلى ديار ربيعة؛ ليتذاكرا هناك فيما وقع بالشام من الأحداث.
فضحك اليهودي لهذا الجواب هازئا وسأله متهكما: خبرني بربك متى جاءت هذه الرسالة إلى مولاك الأسقف! ومتى جاء الرسول! أفي موهن الليل مع روح القدس! أم في السحر على جناح العقاب!
لم تخف لهجة التهكم على الشماس، ولكنه ما كان يستطيع أن يجابه اليهودي بمثلها، فقد كان اليهود حكام اليمن وولاة الشريعة فيها من قبل الأكاسرة، وكان مخاطبه لكثرة أسفاره معروفا في ديار نجران بما له من عريض الجاه في صنعاء. فصمت كما صمت الأول، وتدارى عن الجمع في جبانة، وسار عائدا إلى الكنيسة يتبعه صاحباه وسلمان، وقال أحد تجار مكة وهو ينزل عن راحلته غاضبا: أما والعزى وربها لأرفعن الأمر إلى بني عبد الدار
7
يوم أصل إلى مكة، ولأنتصفن لنفسي ولتجارتي من هذا الأسقف، فإذا لم ينصفني الحكم فلأعوقن الأسقف عن الرحيل إلى ديار ربيعة يومين ولو خلته القافلة.
عند ذلك تراءى الحداة والسائقون للمتحدثين ينتصرون لراعي كنيستهم الأكبر بعدما كانوا أول الغاضبين، ويحاولون تطييب خواطر المتذمرين تفاديا من الشر، فانبرى أحدهم يقول: وحق مريم البتول، ومارسرجيوس الشهيد،
8
ما عمد الأسقف إلى ما فعل بملكه، بل لهو أمر جلل أوحي به إليه كما قلت يا أبا دؤاد. فلم يطق اليهودي سماع هذا، وأشار بعصا كانت في يده إلى الرجل ليفسح له الطريق، وسكت ثم عاد إلى الكلام فقال وقد نالت قدمه الأرض: لا عجب أن يكثر الوحي في هذه الأيام! إذا جاز أن ينبغ في الوثنيين من أهل مكة أمي ويدعي الوحي، فلماذا لا يدعي الوحي مثله أسقف نجران!
تضاحك الجمع لدن هذه الملاحظة، وانتهز الجمالة فرصتها السانحة فأخذوا في حل الحمول، وانبرى أحدهم، وهو من جمالة ثقيف،
9
يقول: أما أنا فلا أومن بالوحي، ولكني أومن بالأسباب، ولا بد أن يكون لدى الأسقف سبب جلل حمله على رجائنا أن ننتظره، وإني لأعدكم أيها الرفاق، أن نغذ في السير فنعوض أنفسنا من يومنا الضائع يومين. إن الطريق سهل منبسط، والهواء لا يزال قرا، ولن يضيرنا أن نبكر في الغدو كل يوم ساعة، ونتعوق في الرواح كل عشية مثلها. فأجاب المكي متهكما: أجل، لكي تقتل البعران إعياء، وتحرمنا فترى العيد كلها. ثم نزل عن بعيره، ونزل معه الأكثرون.
ضحك الناس لهذا الأمر مرة أخرى، وانبرى بعض من كانوا يودعون الركب يخففون عنهم بالكلم الطيب. هذا يقول: إنما أراد الله أن نأنس بكم ليلة أخرى، وذاك يستكرم فيقول: إنكم أهل صنعاء ومكة أهل جود وكرم، ونحن هنا نعيش في خيراتكم، فلا بأس عليكم أن تكرمونا بالبقاء هنا ليلة أخرى.
على هذا هدأت سورة الغضب وسرى من الناس فنشطوا إلى خيامهم يحلونها عن الرواحل ويضربونها في المضارب كما كانت، وشرع الخدم والعبيد يعدون طعام الصباح.
الفصل الثاني
أحداث الشام
لم يكن الشمامسة صادقين ولا كاذبين حين قال المجلي: إن الأسقف راحل غدا مع القافلة، ولا حين قال المصلي: إن رسالة جاءته من أسقف بني تغلب
1
في الحيرة يرجو قدومه إلى ديار ربيعة
1
ليجتمع به هناك، ويتذاكرا فيما وقع بالشام من الأحداث، ولكنهم على كل حال نفذوا مشيئة الأسقف فيما أراد من تأجيل سفر القافلة إلى الغد.
نعم جاءته أخبار متوالية مع الركبان في مدى السنين السبع الماضية عما كان جاريا في أدنى الأرض من اقتتال الفرس والروم، واندحار جيوش الإمبراطور فوقاس، وخلفه هرقل في أرمينية والشام أمام جيوش كسرى أبرويز ووقوف القائد الفارسي شاه ورز على شاطئ خليج القسطنطينية يحاول عبور الماء؛ ليضرب المسيحية الرومية في عقر دارها ضربة قاضية، وانصراف زميله القائد شاهين إلى دمشق وبيت المقدس؛ ليجهز على مملكة الروم في الشام وفلسطين، وحقا إن هؤلاء الشمامسة الثلاثة اشتركوا في صلاة الشكر الحارة للرب على زوال دين الكفر الرومي من بلاد المسيحية، وعلى ما أنزل الفرس باتباع مذهب خلقيدونية
2
الملكي من الويلات بالتقتيل، وتهديم الكنائس وتفضيح الأعراض جزاء مخالفتهم لدين اليعاقبة
3
الحق، دين أهل الشام وبلاد العرب ومصر والحبشة، ولاشك أنهم سمعوا بعض القساوسة والرهبان يشيرون على الأسقف في فرحهم بهذا الفوز الباهر أن ينهض فيقصد بهم إلى الحيرة، ويدعو أسقف بني تغلب؛ ليذهب معهم هو وقسانه وفدا إلى مارية زوجة كسرى أبرويز وأختهم في المسيحية اليعقوبية، رافعين إليها آيات الشكر على برها بدينها، إذ حملت زوجها على قتال الروم وإبادة دين الكفر، ويقيموا الصلاة تلو الصلاة في الكنيسة التي أقامتها لعبادة الرب في بلاد المجوس؛ ليتم لها النصر بالاستيلاء على بيت المقدس، وتخليص الصليب المقدس من أيدي أدعياء الولاية عليه من بطارقة الروم على أن تعطيهم إياه؛ ليحفظوه عندهم في كنيسة نجران، بعيدا عن أيدي الطامعين، وأن الأسقف أقرهم على هذا الرأي السديد، وعزم على تنفيذه عندما يسترد شيئا من العافية التي فارقته بسبب كبر السن، وهو يأبى إلا أن يعزوها إلى الجو، وتقلب الأحوال، ولكنه ما كلف الشماسة إلا أن ينطلقوا فيوقفوا سلمان عن الرحيل، ويدعوه إليه. نعم سمعوه يقول في صوت المريض شيئا عن إزماع أحد الناس السفر في الغد، ولكن لم يخطر على بالهم أن في نجران أحدا تتأخر القافلة عن الرحيل من أجله، إلا بنو عبد المدان، وهؤلاء كان يمكنهم أن يقفوها من تلقاء أنفسهم بغير حاجة إلى الوساطة من الأسقف، ولذلك قدروا أنه الأسقف نفسه قد عزم على تنفيذ ما أجاب إليه القساوسة، وكذلك أنهوا إلى سلمان أنه مسافر في الغد، وتطوع الشماس الثاني بإبداء سبب سفره، فكان ما كان من غضب التجار، واستهزاء يهودي صنعاء، ووثني مكة بالأسقف الموقر على مسمع من أشياعه وأتباعه، ولذلك عنفهم الأسقف على سوء ما قالوا، وأوكل إلى كاتبه معاقبة القائلين عقاب الحمقى بضرب العصا وصفع القفا.
أما ما جرى فحقيقته أن باذان الوالي
4
الذي كان على اليمن أخبر معاونيه في الحكم من اليهود في صنعاء بما كان من اندحار جيوش هرقل في الشام، وتسلط الجنود المجوسية على الكنائس والأديار بالهدم والتقويض جزاء عناد أهليها وإقفالهم الأبواب في وجوه الجيوش.
وأن إخوانهم النازلين في أنطاكية وأذاسا
5
انضموا علانية إلى كسرى، وسبقوا المجوس فيما اقترفوه من أعمال التخريب، وعلموا كذلك أن الفرس في طريقهم إلى بيت المقدس، ولا بد أن يصنعوا فيه ما صنعوا فيما قبله من بلاد المسيحية. فتيقظت في نفس هؤلاء الحكام اليمنيين أمنيتهم القديمة، ألا وهي! إعادة مملكة أورشليم
6
في فلسطين إلى ما كانت عليه في عهدها الماضي، ورأوا أن يرسلوا إلى هؤلاء الإخوان وفدا يوقظ فيهم هذه الأمنية الغالية إن لم تكن قد تيقظت من قبل، ويشتركوا معهم في التدبير لتحقيق غاية الأماني هذه.
عينوا هذا الوفد سرا، وجعلوه تحت إمرة واحد من رجال الحكم النابهين اسمه إسحاق بن مردة، وجعلوا معه رفقة من أمثاله وبعض الأحبار، ولكنهم أذاعوا أنهم راحلون برسالة ولاء مجدد إلى متبوعهم الأعظم، ومولاهم الأكرم كسرى أبرويز ملك ملوك الأرض، وبتهنئة خالصة على فوز جيوشه على عاهل المسيحية، وتطهير أرض المعاد
7
من دين ابن يوسف النجار،
8
على أنهم كانوا يحملون معهم هدايا وتقدمات إلى كسرى وزوجته مارية؛ ليلقوه بها غير ما سبق لهم تقديمه إليه من قبل، ولكنهم لم يشاءوا إعلانها لئلا يغروا بهم الأشرار فموهوا على الناس أمرهم بأن خرجوا من صنعاء في عير قليل العدد، وساروا بغير ما حرس كبير؛ لأنهم كانوا يسيرون في بلاد لهم فيها المكانة العليا، وهي بلاد صنعاء وصعدة وجرش،
9
أما نجران فما بعدها فكانت لبعدها عن مستقر السلطان مما يستوجب أن يسير العير في حمى عير أكبر. فكان مقصدهم أن يسيروا في ركب مكة، ولكنهم ما بلغوا صعدة حتى مرض إسحاق فاضطروا أن يقضوا بها ما كان في نيتهم قضاؤه في نجران قبل رحيل القافلة . فلما أبل عاودوا الرحيل، وواصلوه من بلد إلى بلد في طريق نجران حتى إذا كان اليوم الثاني لإفاضتهم من جرش، وذلك قبل أن ينصرم الشتاء بيوم وليلة - كانوا قد وردوا حلة في الطريق على نهر هناك من الأنهار الكثيرة التي تخترق بلاد اليمن، وتكثر حولها الزروع والأشجار؛ وإذ كانوا يزعمون أن بينها وبين نجران بضع ساعات، حين كانت في الواقع على مسيرة يومين أو حوالي ذلك، آثروا في جهلهم أن ينيخوا في جوارها قبل موعد الإناخة، ويقضوا العصر والليل في حمى أهلها، ويرتاحوا واثقين أنهم بالغوا نجران في ضحى الغد قبل نهوض القافلة بساعات من النهار وساعات طويلة من الليل.
وكان مقدم جمالة الركب يزعم أن بين يومه ويوم نهوض القافلة من نجران ثلاثة أيام أو مثل ذلك؛ لأنه جلس في حظيرة الجمال هو وإخوانه الجمالة وعبيد العير يعدون الأيام والشهور على أصابعهم، وإذ كان غلام الحبر الذي في العير، في نظر نفسه، أحق الناس بأن يصدق؛ لأنه متصل بسيده الذي له التوقيت والتاريخ فقد أقنع مؤتمرهم أن أول أيام الربيع يوم الخميس، أي بعد يومين وليلة وأربع ساعات من حين إناختهم تلك الليلة.
اجتمع جهل الوفد بالطريق إلى جهل الجمالة بالمواعيد، فكان كل منهم في العشي سعيدا بما هو فيه، ولكن حدث أن خطر على بال أحد العبيد الذين وافقوا غلام الحبر من غير علم بالزمن ولا بغير الزمن، أن يسأل سيده في ذلك، لا ليتزكى ولا ليشي بأحد بل شعورا منه بأن هناك شيئا مما كان بين سيده وبينه من الكلفة قد رفعته صحبة الطريق، ولكن سيده كره منه هذا، ونظر إليه شزرا ولم يجبه. فتطوع أحد رجال الوفد وأجاب بالحقيقة في لغة يفهمها العبد فقال له: إذا طلعت شمس الغد يبقى بينك وبين الربيع يوم كامل، أي نهار كامل وليلة واحدة.
ظهرت الدهشة على وجه الرجل، وبدا شيء من القلق في عينيه، وأخذ ينظر إلى زميله المفتي غلام الحبر، وهذا ينظر إليه متوسلا أن يصمت، ولكن مقدم الركب كان قد دخل وسمع بما جرى، وما قيل، فاضطرب وأعلن الأمر لسادته على الفور، واتهم غلام الحبر بخداعه، وأنكر العبد نية الخداع بل أنكر أنه قال شيئا بتاتا إلا ما قال جميع الجمالة، وأراد إسحاق أن يصرف هذه الضوضاء، فقال: لا بأس، لم يصبنا من هذا الخطأ أذى والحمد لله. فليس بيننا وبين نجران إلا نصف نهار، ومن ثم يبقى لكم يوم طويل عريض تقضونه في نجران؛ لتستبضعوا ما تشاءون لرحلتنا في بلاد الوثنية.
هنا دق الجمال على صدره دقة يأس، وقال: ست ساعات! يا سيدي الأمير! إن بين هذه الحلة ونجران مرحلتين كبيرتين لا يقطعهما الركب إذا جد في أقل من يومين متواصلين.
فقال إسحاق: ويحك! ما هذا! فاستمر الجمال يقول: وإذا كان بيننا وبين قيام قافلة مكة يومين فمعنى هذا أن تموت الجمال إعياء.
فانزعج إسحاق ونهض يقول: ويل لك يا عبد السوء! ألم تقل لي هذه حلة الأراك؟
قال: بلى يا سيدي. قال: ألم تقل لي إن حلة الأراك على نصف مرحلة من نجران؟ قال: بلى يا سيدي. فقال إسحاق: فما هذا إذن؟ فقال مقدم الركب: لقد كان مولاي يسألني عن تخوم البلاد ومرابضها، وبين بلدة نجران وتخومها من ناحية جرش مرحلة كبيرة
10
وحلة الأراك على مسيرة ست ساعات من هذه التخوم.
سقط في أيدي الوفد اليهودي، وضاق صدرهم؛ إذ تبينوا أنهم لن يبلغوا نجران في أول الربيع، ولن يدركوا القافلة، وملكهم اليأس من كل جانب، وكاد إسحاق يضرب الرجل بسيفه لقاء ما أنزل به من الهم، ولكنه اكتفى بشتمه، وسبه وطرده من حضرته، وهو محنق مغضب حتى كاد الرجل ينصعق ذعرا.
وجلس إسحاق وصحبه صامتين يفكرون فيما تبينوا ولا يهديهم الفكر إلى سبيل. أيغامرون بأنفسهم في الطريق إلى مكة فيسيرون عيرا تغري قلته أعراب نجد والحجاز بتخطفهم وقتلهم وسلب ما معهم؟ أم ينتظرون قافلة أخرى تخرج من نجران، وهي لا تسير في العادة إلا مرة في الشهر أو الشهرين يضيع على أمراء اليمن في غضونه فرصة العمل لتحقيق أمنيتهم في قيام مملكة أورشليم! أم يرسلون رسولا يستمهل القافلة حتى يبلغوا نجران؛ عداء لا يستقر ولا يتلوم حتى يبلغ ساحة الركب! ولكن أين العداء وهم في حلة من حلل البادية لم يجدوا فيمن مر بهم من أهلها إلا أنقاضا من الناس أكلت الصحراء جسومهم؟ وأين من لا يهاب غوائل الطريق إذا هو سار وحده في تلك المهامه والأحقاف؟ لقد حاولوا أن يغروا الجمالة بوافر الأجر والجزاء إذا قام أحد منهم بهذه المهمة، فأبوا كلهم وذعروا ونكصوا على أعقابهم معتذرين بأن في هذه البادية جنسا من الناس يعرفون بالنسانيس يسيرون على قدم واحدة،
11
ما إن يروا أحدا من غير جنسهم حتى يجتمعوا عليه، ويحملوه إلى غيرانهم في مجاهل الصحراء يرقصون حوله ويعزفون، ثم يلقونه في النار ليشووه ويأكلوه.
ملك اليأس فؤاد إسحاق كما ملك سواه، ولكنه لم يطق البقاء في مكانه فنفر من مجلسه وخرج إلى ظاهر فسطاطه يستنشق نسيم الصحراء، وينفس عن صدره بالمشي في الخلاء، وقد صور له اليأس أن يهم هو نفسه بهذه المهمة؛ ليستوقف القافلة حتى يرد عيره بما معهم من الأثقال والحمول، ولكنه لم يكن بصيرا بالطريق. ثم تواردت عليه أخيلة مما صوره له جمالته من مخاوف الصحراء، وكانت الشمس قد آذنت بالغروب، وأخذت الأرض تصطبغ بألوان دهماء، وتعد النفس للأوهام، فخطا نحو رفقته يستأنس، وقد عول على المضي إلى نجران في هوادة، وينتظر بها حتى يرحل إلى الحجاز عير آخر.
الفصل الثالث
ورقة بن صليح
ما كاد إسحاق يستقر في خيمته، وينهي إلى رفقته ما استقر عليه رأيه حتى بلغ أذنهم صياح استغاثة ودقدقة أقدام غير بعيدة عن الفسطاط. فنهض من مجلسه فزعا ونهض من معه كذلك، وخرجوا إلى ظاهره ليروا ما هنالك، وإذا بهم يصطدمون بمقدم جمالتهم فارا من القتل، وإذا هم يرون فتى من عنفوان الشباب يجري محنقا مغضبا وراء الجمال، والسيف مصلت في يده. فاعترضه إسحاق قائلا: على رسلك يا فتى! من أنت؟ ولماذا تجري بالسيف وراء الرجل ؟
وقف الفتى في روعة شبابه يلهث وهو محنق، لا يتكلم بل أخذ ينظر إلى الحكم ورفقته بعينين واسعتين سوداوين طويلتي الهدب زادهما الغضب سعة وسوادا، وأظلهما حاجبان مقوسان كالسيف الذي في يده، وينظرون منه إلى محيا أسيل لم تخف سماحته حتى من وراء ما علاه من الغضب، وفم منتظم الشفتين والثنايا، وعنق متلع على صدر رحب في قامة وسط بين الطول والقصر، وليس عليه إلا ثوب
1
أسود بين المسوح والحبر،
2
قد تمنطق عليه بحميلة سيفه، وغرس خنجره في حزام عليه غير عريض.
وإذ لم يرد سؤال إسحاق عاد إسحاق يسأله وهو يعمل على تهدئته: ما سبب هذا يا ترى؟ هل أساء الرجل إليك؟ فأجابه الفتى، وقد عرفه؛ لأنه رآه هو وبعض من معه في صنعاء: إن هذا الجمال لص غادر. ثم تعجب للسائل كيف لم يتذكره فقال: ألا تذكرني أيها السيد الحكم؟ إني أنا ورقة ابن صليح المكي وقد تلاقينا قبل اليوم.
لم يذكره الحكم، ولا أحد من رفقته. فصمت متأملا ثم قال: أنا تلميذ الحارث بني كلدة الثقفي الطبيب ألم ترني معه؟ قال إسحاق: أنا أعرف الحارث حق المعرفة فهو من أصدقائنا، ولكني لا أذكر أني رأيتك معه. قال: أو لا تذكر أنا تحادثنا في سوق صنعاء؟ قال: ما أكثر نسياني، قال ورقة: ويحي أيها السيد إسحاق! ألا تذكر مجيئك أنت وهذا الحبر الجليل عند نعيم الصيدلاني فبعتك شيئا من عقاقيره، وإن نعيما خبركم أني من مكة، وأن الحبر سألني عن رجل من بني إسماعيل اسمه محمد قام في مكة يدعو إلى الحنيفية ملة أبيكم إبراهيم، فلما أجبته مصدقا قال الحبر: هذا مصداق ما ورد في التوراة!
هنا تذكر إسحاق والحبر هذه الحادثة فقالا على الفور: أجل. أجل. أهو أنت؟ قال: أنا هو بعيني! ثم التفت ورقة إلى أحد رفقة الحكم فقال له: وأنت أيها السيد سليمان: ألم تكن معهما في السوق يوم غنك بعير كان محملا قثاء! وكاد يوقعك على الأرض لولا أني تلقيتك بين ذراعي! فرد سليمان : بلى. بلى معذرة إليك يا فتى ، ولكن سورة الغضب قد أخفتك عني. خبرنا ما قصة الرجل؟ قال: إن قصته لقصة السفالة وأسوأ المكر والدناءة: ذلك أني كنت عند نعيم الصيدلاني وكان هو عنده أيضا يلقي حمولا أتى بها إليه من أرض سبأ.
3
هناك علم أني راحل إلى مكة بما جمعته لنفسي من بادية حضرموت
4
واليمن من نبات العقاقير ومعادن الأدوية. فعرض علي أن ينقلني إلى حيث أريد، وإذ لم يكن لدي ما أوثر به غيره عليه، وكانت ثقة نعيم به قد أعدتني رضيت بعرضه، وما زال الرجل من بعدها يتألفني حتى وثقت به، وإذ خطر لي أنه يحسن بي أن أشتري رواحل لمتاعي حتى لا يتحكم في الجمالة في الطريق، فقد أبديت له هذه الرغبة فأقرها مستحسنا، وعرض علي أن يصحبني إلى سوق الجمال ليهديني بخبرته إلى الأشد الأصبر. فشكرت له هذه المكرمة، واتفقت معه على يوم نذهب فيه إلى السوق. فلما جاء هذا اليوم حدث أن كنت مضطرا إلى انتظار كلاء من حضرموت يجيئني ببعض ما لم يتيسر لي الحصول عليه من العشب النافع للحمى ونهزة الشيطان. فاعتذرت إليه من قعودي، ولكني نقدته ما كان قدره من الثمن لثلاثة بعران، ورجوت منه أن يذهب ليشتريها بنفسه ثم يجيء بها إلى داري ليحمل عليها حمولي، وقد كنت علمت من المضرب أنكم راحلون في بكرة الغد إلى نجران مثلي فصح عزمي على الرحلة كذلك في بكرة الغد معكم، ولكني لما عدت إلى داري في العشية علمت أنه لم يجئ فقدرت أنه حاضر بها في السحر. فلم يحضر في السحر، ومع ذلك قدرت الخير والتمست له عذرا إثر عذر حتى مضى يوم كامل. فاضطررت أن أذهب للسؤال عنه فلم أهتد إلى شيء، وعلمت من بعض رجال الدرب أنكم خرجتم إلى صعدة في سبيلكم إلى نجران في نفس اليوم الذي كنت ضربته للرحيل عن صنعاء، وإذ كنت أكره أن أرجع عن العزم إذا اعتزمته فقد حسبت مسافة الطريق فأدركت أني مضيع فرصة المسير في قافلة مكة كما أضعت مالي إذا أنا انتظرت بعد ذلك يوما، ولذلك تركت الأمر بين يدي نعيم الصيدلاني، ومضيت في تنفيذ عزمي، وإذ كنت ضريا بطريق اليمن ومسالك الأعراب في البادية؛ لكثرة ما جبتها في طلب العقاقير من منابتها ومعادنها، حتى عرفني أهل البادية جميعا - اشتريت ببقية مالي بعرانا أخر، وأخذت أقرب طريق إلى نجران، طريق الجبل الذي لا يجرؤ على عبوره إلا اليائس مثلي أملا أن أبلغ نجران قبل القافلة، ولكن البعران كانت ضعيفة هزيلة فلم تسعفني، ولا أزال من نجران على مسيرة يومين، ولم يبق على قيام القافلة إلى مكة غير يوم واحد، ولذلك رأيت أن أنتظر بها حتى تخرج قافلة أخرى، أو عير كعيري وعيركم فأعاود السير إلى الحجاز أو ألتمس وسيلة أخرى للرحيل.
ولقد رأيت مخيمكم من فوق الجبل، وأنا لا أدري من أنتم، وكان قد أدركني التعب، وحنت نفسي إلى الراحة، فملت نحوكم لأستريح وأريح الجمال، ثم أرى لي رأيا فيما بقي من الطريق. فما كدت أنيخ حتى أبصرت بالرجل قادما نحونا، يتعرفنا وهو لا يدري من أنا، بل ما كان يخطر بباله أني يراني. حتى إذا قرب مني وعرفني أدرك ما وراء ذلك فصرخ من الذعر لما تبينه في وجهي من الغيظ لدن رؤيته وثوران رغبة الانتقام منه على الفور، وجرى إليكم وجريت وراءه لأقتله أولا إراحة لقلبي فما عاد يهمني المال، وكان الجمال في أثناء الحديث قد أخرج المال من جيبه مصرورا في قطعة من ثوب خلق، وأخذ يقاطع حديث ورقة لكي لا يتمه ويقول: خذ مالك. خذ مالك. إني لم أجد جمالا صالحة، ولم أملك أن أعود إليك. ثم رماه في صرته عند قدمي صاحبه، فلطمه إسحاق إذ ذاك على وجهه لطمة شديدة من شدة ما عراه من الغيظ، ثم تناول رقبته ودفع به حيث ألقى الصرة، وهو يقول لورقة: دونك رأسه فاعله بالسيف. لعمري لهو أهون جزاء. فانبطح الرجل على وجهه يستغيث ويسترحم، ولكن ورقة ركله برجله وشتمه، فنهض وجرى إلى حظيرة الجمال، وانحنى أحد اليهود فتناول المال من الأرض، وقدمه إلى صاحبه. فأخذه هذا وانصرف إلى بعرانه.
أما إسحاق فقد عاد إلى خيمته وتبعه إخوانه، وهم آسفون لما أصاب الفتى، وحانقون على الجمال لغدره وخيانته، وودوا أن يتركوه حيث هم لولا أنهم كانوا في قلة. بيد أنهم قرروا ألا يروا له وجها طول الطريق، وأن يجعلوا أحد جمالة ورقة سائق العير، ورئيس التحميل إذا هو آثر الرحيل معهم. ثم ذكروا الفتى وما بدا لهم من كمال رجولته، وعظيم شجاعته التي هونت عليه أن يسير في ثلاثة بعران في طريق محفوف بكل مكاره البادية، وتساءلوا فيما بينهم: ترى ألا يقبل هذا الفتى المكي أن يسير في مهمتنا ويعوق نهوض القافلة؟
نعم إنه لا يحمل رسالة إلى ملك الملوك مثلنا، ولا هدية ثمينة، فلا حاجة به إلى العجلة، وقد قال ذلك فعلا، ولكنه كان يود أن يدركهم حتى قطع المفازات مغامرا ليرحل معهم لولا ما أصابه من غدر ذلك الجمال، وقد لا يكره أن يدرك عيد آلهته الكبرى إذا نحن أيقظنا في نفسه الذكرى، وأريناه السبيل إلى ذلك، ولكن من لنا بمن يحمل القافلة على الانتظار حتى ولو بلغتها رسالتنا! إنها قافلة قرشية، وهؤلاء القرشيون لا يرون لنا عليهم حقا، بل لعلهم يؤثرون أن يحرجونا، ولو لم يكن لهم مصلحة في هذا الإحراج.
فأشار عليهم أحدهم أن يرسلوا في طلب ورقة للعشاء معهم، وأن يتلطفوا معه في الحديث، ثم يبلغوه حاجتهم، ويجعلوا له لإنجازها أجرا بمقدار كرامتهم وشدة حاجتهم - عشرة دنانير ذهبا - وخمسة ينقدها منادي القافلة في نجران؛ ليحمله على قبول التأخير. فوافق الوفد على هذا الرأي، وذهب أحدهم يدعو ورقة، فلما دخل عليهم نهضوا تجلة له من حيث لا يشعرون، وأجلسوه أكرم مجلس، ودعوا بالطعام فلم يأكل إذ كان قد تبلغ لليل وانتهى، وعرضوا عليه الرأي فقبل، وعرضوا عليه المال فرفض، وأبى أن يقدم رشوة للمنادي، بل اقترح أن يقصد إلى الأسقف وهو السيد المطاع في نجران، برسالة من إسحاق وتحية، ورجاء منه أن يؤجل سفر القافلة يوما ليلحقوا بها. فإذا بلغوها فيها، وأكرموا منادي القافلة وحداتها بما ودوا أن يكرموه به على يديه، ولكنه طلب إليهم أن يعدوا له خير رواحلهم وأصبرها، على أن يأتوا برواحله ورجاله في الغد معهم إلى نجران.
كبر الفتى في عيون اليهود لمروءته وإبائه، وشكروا له فضله وحسن رأيه، ووعدوا أن يعدوا له أكرم النوق، وعلى هذا استأذن في الانصراف ليدرك شيئا من ساعات النوم استعدادا لمشقة السفر في الغد فنهضوا لتوديعه حتى غاب، وعادوا ليعطوا الأمر بإعداد خير نوقهم لركوبه ساعة يفيق.
الفصل الرابع
الشملالة
استيقظ ورقة في موهن الليل على رغاء الراحلة التي أمر إسحاق بإعدادها. فرمى عنه غاشيته، ولم تكن غير برنس سميك اشتراه من إحدى أسواق الساحل في بعض رحلاته؛ ليكون مزدوج النفع: غطاء في الليل، ورداء في النهار. ثم نهض فانتعل خفيه، واحتمل سيفه وقوسه، وأصلح مكان خنجره من حزامه، وعمد إلى سقاء الماء فنطل على وجهه بعض ما فيه، وخرج ليأخذ سمته إلى نجران.
لم يكن ورقة خبيرا بالغ الخبرة بالإبل، ولكن ما وقعت عينه على الراحلة باركة على باب الخيمة حتى تبين أنها من أكرم النجائب، فلم يتمالك نفسه من فرط الإعجاب بها والتحدث إليها بذلك إلى رجال عيره الصغير، وكانوا قد أفاقوا هم أيضا على رغائها، وجاءوا لخدمته قبل الرحيل.
رأى عيطاء طويلة القوائم عصلبية فرهة، مخيفة النظرة كأنها مارد في مسلخ عيطبول، فقطع أنها شملالة عبر بواد، ودنا منها يربت على صفحتي عنقها بيديه اغتباطا بها وازدهاء بركوبها.
ثم إذ مال الكور ليرى ما عليه، مالت بعنقها تتفحصه هي أيضا تفحص العروس خاطبها، فلما رأته في ثوبيه وسلاحيه، وشمت ريح عارضيه، وكانت قد أحست وقع يديه، لاحت كأنما ارتاحت إليه، فأرزمت إرزاما، ورجعت في وجهه حنينا، وكأنما أدرك ما قصدت فسره رضاها، وتناول رأسها في يديه وهو يقول لها: إيه يا شملالة. نضو أسفار مثلك وحليف قفار، بيد أني أحمي الذمار، وأنبو عن مظنة العار ، ولقد عركت الدهر فما وجدت أعدل من الرمح ولا أمضى من الحسام البتار. هلم في سبيل نجران.
ما كاد يمسك بالعنان ويعتلي الكور حتى نهضت كالكثيب، وهمت بالمسير في طريق الجبل، وما كاد ورقة يودع أصحابه ويوصيهم بحوامله وحموله حتى كانت قد غاصت في مجرى النهر إذ كان جافا وعبرته واعتلت جانب الطريق، فلاحت في مواجهة نور القمر البازغ كأنما هي شغف في الجبل، أو قطعة من سحب دهماء تدفعها الريح على لبة السماء.
سارت به النجيبة دبيبا أشبه بزميل، ثم وجيفا أقرب إلى الإرقال، فهي تطوي الأرض طيا كانت تتلاصق به المرئيات وتتواصل كأنما هي متراصة، وورقة من فوقها كراكب السفينة في البحيرة الهادئة. فانصرف إلى التفكير فيما يحيط به من جلال الله وبدائع صنعه، وتواردت عليه في سكون الليل ذكريات مما رأى ومما شهد، فأخذ يتأملها ويتعجب ويحمد الله على أنه نجا بنفسه من غوايات الشيطان، وأغناه بفضله عن الإذعان لغير ما يتبين فيه الخير والصدق، وظل على هذا الحال حتى وهن الليل فتنبه إلى نفسه، وإلى القمر البازغ، وإلى وقع خفاف الناقة على الطريق وقعا منتظما، أثار في نفسه ميزان الشعر فألفى يحدوها بأبيات لا يدري كيف انطلق بها لسانه، ولا متى كان أول ما قال منها:
أيها المشرق في هذي الفلاة
لم ذا الإسراف في نور الإله؟
ليس في هذي الحياة مبصر
يطلب النور فتحبوه سناه
ليس في الأرض التي تغمرها
غير ذئب يحسب الناس شياه
ليس فيها منصف من ظالم
أو نصير من أفاعيل البغاة
أكند الخلق لرب الخلق من
خصهم بالخير في هذي الحياة
كفروا من بعد إيمانهمو
ثم صدوا كل هاد عن هداه
غيب الضوء فما أجدرهم
بنهار مظلم مثل دجاه
ولكن القمر لم يعره أذنا، بل زاد إشراقا ظهرت به ابتسامة إنسانه الساخر وضوحا، ولاسيما حين بلغ أذنيه عواء قريب شاهد على إثره ذئبين يدبان على جانب الطريق عن يمينه حتى إذا حاذاهما جريا نحوه في همهمة الجائع ودمدمة الظافر، والناقة ترعاهما ولا تعيرهما التفاتا، بل ترقل في طريقها كالنسر الجامح، ولكن ورقة كان كما قال نضو قفار وحليف أسفار، وكم مر به مثل هذا فجازه مع السهم المارق، ولذلك نزع قوسه عن مشجبها في قتب الراحلة، واستخرج سهما من كنانته، والذئبان يراوغانه ويعتورانه ميامنة ومياسرة، ويهمان به وبالناقة حتى إذا أوشك أحدهما أن يعلق ببطنها ليبقره كان السهم قد اخترق يافوخه فهوى على الأرض صريعا، ولكن كان الذئب الثاني قد قفز عن الأرض قفزة حاذى فيها رأس الناقة، ووقع على عنقها؛ ليعقرها عقر النمر حين شوح بذيله ليلطم ورقة على وجهه على عادة الذئاب في القتال، ولكنه لم يلطم إلا كتفه، وتدلى على لبان الناقة، وسرعان ما استل ورقة خنجره من قرابه، وحاول أن ينال من الذئب مقتلا، ولكن الذئب كان أبعد من منال يده؛ إذ كان ورقة على سنام الناقة والذئب على قفاها، فشد ورقة عنانها؛ لترفع رأسها، ويدنو قذالها فيدنوا الذئب منه، ولكن الذئب كان أسرع منه وأبصر، فما كاد ورقة يغمد الخنجر في خاصرته حتى كان الذئب قد لطمه بذيله مرة أخرى على صفحة عنقه فارتدت الطعنة عن المقتل، وأصابت فخذ الذئب، فوقع على إثرها على الأرض يحاول الجري على ثلاث.
عند ذلك وقف ورقة ناقته، وأناخها وترجل، وأخذ يتفحصها، ولكنه لم يجد بها إلا جرحا على صفحة العنق اليسرى من ناب الذئب، وجر وحافى لبانها من مخالبه لم تجز إلى اللحم. ذلك بأن قذالها كان مغطى بالأديم، فلم يبلغ الناب منه مأربا كبيرا، وكان الذئب في ذعر ممن وراءه فلم يتمكن من فريسته.
حمد الله ورقة على هذه العاقبة، وتناول سقاءه، وأخذ يغسل جروح الزميلة، وفيما هو كذلك رأى جثة الذئب المصروع فأخذ يتأمل حتى إذا ملأ عينه منه وقلبه رأى نفسه يحدثه حديث الظافر المطمئن، ويقول: إيه يا ذئب العرب الأبي الكريم الذي لا يستخذي، ولا يماري، ولا يبيع حياة الحرية مع الجوع بكل فضلات موائد الأمراء والأقيال كما فعل بعض قبيلك في الراحلين إذا استكلب وارتضى عيشة المذلة والهوان من أجل لقمة يلقيها إليه بنو الإنسان. لا لعمرك لقد أنصفت، فإن كنت قد خذلت الليلة فطالما ظفرت، وإني لأراك سيدا عملسا، عليك كسوة كريمة لم ينسجها لك غير ناجذيك وأظفارك، وتلك لعمري من أردية الأسعدين، ولكنك يا ذئب حاولت أن تأكل أكرم خلقين أنا وهذه النجيبة: حبيبين لم يجتمعا إلا منذ قليل، وقد تعاهدنا على الوفاء، فاعذر إذا أنا حميت إلفي، وجعلت حتفك فداء حتفي. ثم تناول ورقة قبضة من تراب الصحراء فعفر به الجروح، وإذ أنت الشملالة وعجت من ألم الضماد ربت على عنقها، وهون الأمر عليها، ثم اعتلاها فنهضت به، وأخذت في المسير كما كانت وكأن لم يصبها شيء.
الفصل الخامس
القرضاب
ذر قرن الغزالة على ورقة بعد مسيرة ست ساعات لم يقطعها عليه إلا الذئب في قليل من الوقت. وكان صباحا بهيجا يملأ النفس روعة واغتباطا بالحياة، وكانت الناقة تسير على سجية واحدة من الهمة والنشاط، لا يعتورها فتور ولا تراخ في المسير، وكأنما كانت معودة هذه الطرق، فهي عارفة بالدروب بصيرة بالمجازات، ولذلك لم يكن ورقة في كبير حاجة إلى تسييرها فلقد حدث له أنها صرفته غير مرة عما يعلم أنه طريق نجران، ويحاول ردها فأبت أولا، ثم أطاعت، فوجد أنه كان في ضلال، فعاد بها إلى حيث اختلفا، ومن ثم ترك لها العنان. فكانت تسير فيما كانت تغالبه عليه، وكثيرا ما كان يدعها تسير على هواها فيراها تأخذ سمتا يجهله. تدخل دربا لا عهد له به، وتخرج منه إلى واد ملتو، أو ترقى مصعدا في جبل، ثم تنخرط منه إلى سفح فواد وهكذا؛ فإذا هو قد قصر الطريق بقدر ما يقصر الوتر من القوس، والواقع أن هذه الناقة لم تكن مما يسير في القوافل، فإن القوافل تلتمس أهون السبل وإن كان أطولها التماسا للسهولة والراحة، بل كانت راحلة من رواحل الرسل والبرد بين اليمن والعراق ومدائن كسرى، وهؤلاء لا يلتزمون طريق القافلة وإن هان، إذا عرفوا ما هو أقصر منه ولو كان شاقا، ومن ثم كانت الشملالة أدرى من راكبها بحاجته وأضرى بالطريق، ولذلك أذعن في آخر الأمر لها وسلمها قياده، وشغل نفسه بتأمل الأصقاع التي كانت ترودها.
ولقد كان من بين تلك المرائي الجديدة خميلة من شجرات مورقة، ونخيل متعثكل، قائمة في منبسط عند مقطع أكمة من جبل قائم في مواجهة شمس الصباح، كانت الناقة تسايره قرابة الساعة، ولقد كانت الأكمة قبل أن يدنو منها غبراء، وفي بعض الأحيان سوداء داكنة كغيرها من الأحقاف التي مر بها، فإذا هي الآن تتألق بما كان ينحدر عليها من ماء لم يره من قبل. فتعجب كيف لم يره والناقة قادمة عليه، ولكنه عزا ذلك إلى التواء في صفحة الأكمة رد أشعة الشمس إلى غير جهته، وإن كان الواقع غير ذلك، وبهذا التعليل سار حتى دخل الخميلة واحتواه الشجر شاكرا للناقة فعلها. هناك رأى الماء يسقط متراخيا عن يساره على صفحة الجبل، وإذا هذه الصفحة قائمة أو تكاد. كاللوح المنصوب أو الجدار القائم والماء ينصب من بين صخرتين رابضتين على ناصية الجبل كما يربض الوحش أو يرخم العقاب، ثم يتدلى مستعرضا على جبهة الجبل كأنه غلالة منشورة، ثم ينزل عنه متجمعا في مسارب منحدرة إلى رقيعة؛ بل نقرة يخرج منها فلج يسير فيه ما يفيض من الماء.
ولكن كل شيء في هذا المكان كان غريبا، فليس على الماء حي ولا أثارة من حي، والماء داعية الإنسان والحيوان إلى التعمير إلا ما كان من أثاف قليلة، وبعرات متناثرة، وبقية من عظام كانت كأنها بقايا سفر نزل به من قبل.
على أن هذه الوقيعة لم تكن كغيرها من المستنقعات، فهي لم تكن مبللة الجوانب، بل كان ثراها ترابا جافا، وكان الفلج أشبه بالأخدود لجفافه، كأن لم يكن لهذا ولا لذاك عهد بالماء إلا الآن، وإن لاح بالفلج أثر قديم منه ولكنه لم يعر ذلك التفاتا ومضى، فما كاد يتوسط الخميلة على صغرها حتى رأى نفسه يكاد يصطدم بعوارض من أعجاز النخل علقت بين الأشجار على قامة من الأرض أو بعض ذلك فسرعان ما لوى عنان راحلته ليقيها ويقي نفسه أثر الصدمة وكذلك نجا. ثم أوقفها ليتبين طريقا يمر منه، ولكنه وجد أن الحائل ممتد إلى اليمين ومنعطف وإلى اليسار ومتصل بجدار الجبل، فقدر أنها حظيرة صنعتها قافلة سابقة، ثم تركتها ومضت، وحمد الله على أنه رأى الحائل قبل أن تصطدم به الناقة، وفيما هو يلوي عنانها ليخرج من حيث أتى ويلتمس الطريق اخترق سكون المكان صوت أجش مزعج يقول له في إنذار ووعيد: قف: إنك في رحاب النسر فلا تمل وإلا هلكت. أنخ واعقل.
ذعر ورقة لهذا الصوت ذعرا شديدا، لأنه جاء فجأة وزاده ذعرا أنه لم يعرف من أين أتى. ولا كيف يتبينه، وشعر أنه وقع في أحبولة لص من قطاع الطرق، ولكنه لم يكن يملك إلا أن يقف، فوقف متهيبا وأخذ يتأمل المكان ليرى من أين ينصب عليه الأذى، وقد زعم أن صاحب الصوت مختبئ بين أغصان ما كان تحته من الأشجار فتطلع وتمعن ولكنه لم ير أحدا، وحدثته نفسه أن يعود من حيث أتى، ولكنه وجد من العبث أن يخرج؛ لأنه لو حاول ذلك، وكان صاحب الصوت يريد به سوءا، فما كانت محاولته الخروج بمنجية له من الموت؛ إذ يرديه بسهامه وهو مكشوف، فبقي على حاله ولم يشأ أن ينيخ كما أراد الصوت، وكان صاحب الصوت في أثناء ذلك يراقبه ويراقب الناقة ويعجب بها، فلما استبطأه ناداه: أنخ واعقلها وتوكل.
فتوجس ورقة من ذلك خيفة ورد مستنكرا، وقد ارتد إليه شيء من الجراءة على إثر ما تملكه إذ ذاك من القنوط: أنيخ، وأعقلها، وأتوكل!! على من أتوكل؟ - على النسر الأعلى، أخي يغوث
1
ويعوق
2
وأبي اللات
3
والعزى ومناة.
4
أوجس ورقة أن القائل من اللصوص الذين يحتالون على الناس برطازات الكهان في بلاد العرب، وإذ كان العرب يعبدون أوثانا متعددة فقد حشرها في صعيد واحد ليحدث جوا أغبر يتصيد فيه فريسته، وجعل بينهم لحمة ونسبا؛ ليكون حديثه أشمل، وتأثيره بهم أبلغ، ولكن ورقة لم يأبه لحديثه؛ لأنه لم يعبد الأصنام في حياته، بل ولد في كنف الحنفاء الذين نهضوا في مكة؛ ليصرفوا الناس عنها، ثم ثبته الإسلام على ذلك، ولكنه كان في خوف من اللص، وزاده خوفا أنه لا يدري أين مكانه ليتدبر، وكان عليه أن يجيب فلم يجد ما يجيب به في هذا الظرف مما ينفي السوء، فأجاب على سجيته: يا عجبا! أتوكل على صخرات لا تشعر ولا تعي. - ويحك يا كافر، إني أنا النسر الإله الأعلى - هلم إلي في العراء، واجث على ركبتيك ضارعا ومنيبا.
عقل ورقة راحلته على عجل، وإذ علم أن صاحب الصوت خارج الخميلة عمد إلى الرحل فانتزع قوسه وسهامه في خفة وعجل، ووقف وراء جذوع النخل يتأمل الجبل؛ لعله يرى صاحب الصوت فيرميه حيث يكون، ولكنه لم يشهد شيئا غير صخر أسود قبيح المنظر، ليس فيه من مظاهر الحياة إلا ما يبدو للعين من الصخرتين، فقد كانت إحداهما قائمة على ناصية الجبل كقتب البعير، صورها لنفسه طيرا، على أثر ما ذكر الصوت عن النسر الإله الأعلى، ولكنها كانت صورة شوهاء لا جمال لها، ولا روعة، ولولا تقاسيم عارضة ميزت أعلاها عن أسفلها، وما فصل بينهما من شبه عنق أحدثته الأعاصير أو حاولته اليد ما خطر على القلب أنها صورة شيء، ولكن إيعاز الصوت صورها كذلك لورقة، وكذلك كانت آلهة الوثنية الأولى في كل أرض وكل زمان على مثل هذا من دلائل طفولة الإنسان في عقله وفي يده، ولعل هذا النقص والتشوه، وما يجده الناظر إليها من الحيرة في محاولة اكتناهها، ومن الجبن في الشك فيما يروي الشيوخ والعجائز من أمرها - كان من أوسع موارد الخيال والتدليس والتلبيس والإذعار التي حكمت الدنيا ألوفا تلو ألوف من السنين ولا يزال أثرها كامنا حتى اليوم في النفوس.
ولقد كان ورقة من مكة بلد النصب والأصنام، وملتقى الرطازات والأوهام، ومستقر ثلثمائة وستين من هذه الأحجار الشوهاء، وكم سمع صلاة القبائل العربية من حولها، وسمع العجائز والشيوخ يعزون إليها الصمدانية والقدرة العليا، ويروون عن شياطينها الأعاجيب وإن لم يكن يصدقها قط منذ سمع سميه ورقة بن نوفل يقول: إنها أضاليل بهتان، وأحابيل شيطان وجد فيها أقوياء العقول غنية عن قوة الذراع في التسلط على الناس فتمسكوا بها، وحملوا الناس على تصديقها، والنزول على حكمها، ولكنه الآن يسمع صوتا ولا يرى صائنا، ويرى نسرا أيضا يتكلم بلسان الآلهة في مكان قصي خلقت من حوله جنة لم يرو عنها الركبان شيئا، فغلبته غريزته القديمة التي توارثها من ألوف من سنين قضاها آباؤه في تصديق الأوهام. فقال في نفسه الحائرة: لعل شياطين تلك الأصنام تحدثني اليوم حقا، وهي مطمئنة في هذه الغلاة الموحشة. ألم يقل ورقة نفسه إن في الدنيا جنا وشياطين نرى أفعالهم، ولا نرى ذواتهم، ولكنه تذكر أن نسرا قد ذهب بذهاب حمير من اليمن، وأنهم هدموه يوم تهودوا، ولم يبق له من أثر. فقال يرد على الصوت: لقد طوفت في بلاد حمير جميعا، فلم أجد للنسر إلا أثرا دارسا، وشعفة مهشمة تسلح عليها بغاث الطير في أرض بلخع.
5
فأجابه الصوت مرعدا: ويحك يا كافر بالإله الأعلى! تقدم إلي، واملأ عينك في العراء منه. ها هو ذا جاثم على شعفة الجبل ينظر إليك مكذبا.
ولكن ورقة لم يطاوعه فيخرج إلى العراء، فقد كان في نفسه أنه إنسان، وأن هذا الإنسان يريد أن يخرجه من وراء الشجر؛ ليكون هدفا ظاهرا لسهم يخترق فؤاده، ولذلك استمر يحادث صاحب الصوت، ويطاوله عسى أن يجد له بالحديث مخرجا؛ فقال: لا أجرؤ أن أقف في حضرة الإله الأعلى من غير حجاب، وأنا فتى من مكة أعرف حق الآلهة علي، وإن كنت قد استغضبتها منذ سنين. فقال الصوت: لا بأس عليك. أجب واقترب، وانحر دابتك قربانا لي، وإن شئت فاتركها لي وتوكل، وليكن عملك هذا كفارة عما سلف من أمرك. افعل كما تؤمر، وإلا لحقت بك في الطريق فأنشبت فيك مخالبي، وطرت بك في أجواز السماء، حتى ألقي بك في أجمة الأساود تلهو بك وتنهشك، در على عقبيك، وامش في طريقك مغمض العين، حتى تزول هذه الخميلة عن الأرض، وإذ أنك في سبيلك إلى نجران فستجد نفسك على أبوابها قبل الظهيرة، وهأنذا أبدأ بالماء فأوقفه عن الجريان. قف أيها الماء بأمري، وعد إلى معينك.
لم يعجب ورقة إذ علم أنه يقصد نجران، فقد كان الطريق طريقها، ولكنه مع ذلك ظل مشدوها مذعورا، وزاد ذعره أنه رأى الماء قد وقف فعلا، وانقطع سيله عن الجبل، وكاد يهم بالمضي فيما أراد الشيطان، لولا أنه سمع صوت لطمة جسم صلب يأتي من أعلى الجبل، فتنبه والتفت فإذا هو يتبين شبح إنسان يخطو عجلا نحو الصخرة ويطل من بين منحدر الماء بوجه ملفف في خرقة سوداء بلون الصخر لم يفت ورقة أنه وجه رجل. فزال شكه كله، وأدرك أنه كيد يكاد له، ولكنه لم يجرؤ أن يبينه قبل أن يتخذ له عدته، فقال وهو يتراجع في مسار النبل محتميا في جذوع النخل وقد حرص أن يجعلها بينه وبين صخرة النسر لتقيه أذى الرجل، وقال متظاهرا بالامتثال: السمع والطاعة لك يا إله الآلهة، والمتاب إليك، ولكني لم أعد أريدها. سأنحرها لك لتغفر لي ما مضى من ذنبي وترضى عني. أمهلني حتى أعقرها. ثم وضع يده على خاصرته متظاهرا أنه يخرج السكين حين كان في الواقع يخرج سهما من كنانته المعلقة على كتفه ليرمي به الرجل، وقد استهدف له في منحدر الماء من بين الصخرتين، ولكن الرجل كان قد سئم الانتظار وأذعره أن يهم الفتى بنحر هذه النجيبة الغالية، فتحول عن مكانه متراجعا، وصرخ من جانب الصخرة يقول: أبق عليها، ولا تمسها. إني رادها إليك في الطريق لتحملك في بوادي العرب، ترفع اسمي، وتشيد بذكري. اتركها واذهب في طريقك مظاهرا.
تظاهر ورقة بالامتثال لأمر هذا الإله، وقال لبيك ربي. هأنذا ذاهب ونازل على حكمك، ولكن ائذن لي أن آخذ عن الناقة زادي وثوبي.
فأجابه الرجل: لا تفعل، ولا تثقل كاهلك بغير سيفك، فإني مدركك بهما في الطريق قبل أن تعلو محجة نجران.
قال الفتى: لبيك إلهي طائعا ومنيبا.
وانصرف ورقة يمشي قدما في استقامة محتميا بجذوع الشجر فيما بينه وبين الصخرتين كما كان ليوهم الرجل أنه ماض في سبيله حتى يطمئن فينزل من وكره الذي اعتصم فيه، ولكن الرجل لم يكن بالحدث الغر، وقد رأى في حديث ورقة واحتمائه بالنخل ما رابه من أمره، وإن كان قد شاهده يعود إلى محجة المسافر بقدم ثابتة. فخطر على باله ألا يستهدف لأذاه بنزوله من مكانه، وقد رآه يحمل سيفا، وقوسا، وخنجرا كذلك، ورأى في الفتى شدة الرجال، وجراءة الشجعان، ورأى من الخير أن يريح نفسه منه بقتله. فما أن لاح له جانب من ورقة حتى صوب إليه السهم تلو السهم، ورمى عليه، ولكن السهام مرت من فوق رأسه ترن رنينا ثم تخفت ساقطة في الرمال. فوجد ورقة في ذلك الفرصة المشتهاة. فما سمع الرنين حتى صرخ صرخة عالية لم يدر أن صحبتها صرخة أخرى صادقة واردة من مكان بعيد، ولكن هذه ذهبت أو اشتجرت مع صرخته فكان الصوت بالغا، وحرص ورقة أن يتظاهر بالموت، على أن يكون موتا يدنيه من الحياة، فلم يقع على وجهه أو جنبه، بل ارتمى على ظهره، وأخذ يزيح الرمل برأسه ليزيغ لرأسه حفرة يستقر فيها اليافوخ متدليا، ويستطيع وهو على هذه الحالة أن يرى الرجل وهو على الجبل. هناك تأوه ورقة مرتين، وصرخ صرختين؛ ليوهم القرضاب أنه مات، وليرى ما وراء ذلك من فعله، فما كان يشك في أنه نازل من الجبل ليظفر بغنيمته، وصدق حدسه وصح تدبيره، فقد زعم اللص أنه قتل ورقة وأمن شره، فنهض حيث كان، وظاهر العراء ليتدلى من الشق الذي كان ينزل منه الماء، وأخذ يضع أقدامه على ما أبقت المياه والأعاصير من نوانئ. حتى إذا توسط صفحة الجبل، وأصبح لا يملك إلا أن ينزل أو يصعد في طريقه. نهض ورقة في خفة النمر، وشد قوسه، وأخذ يرميه بنباله رميا متداركا حتى رأى اللص قد خارت يداه وقدماه وسقط يلتطم ببقية المهوى إلى أن تلقفته وقيعة الماء، فصب فيها بقية ما كان في جسمه من الدماء، واستقر فيها بلا حراك.
لم يدر ورقة ماذا يفعل بعد ذلك، ولكنه وجد أن من الخير أن يركب ويمضي. فذهب في فرحه إلى الناقة، وكانت في هذه الأثناء ترزم حنينا إليه، وهو يقول لها. إيه يا أخية. هأنذا. أكنت ترين أن أخاك في خطر؟ لا. هأنذا فاحمدي الله معي.
ود أن يحل عقالها ويركب، ولكنه كره أن يغادر المكان قبل أن يتأمل غريمه، فذهب إلى حيث كان، ووقف ينظر إليه فإذا هو أمام رجل كأنه الضبع العرفاء، طويل شعر الرأس والشاربين مسوده، وإن كان قد وخطه الشيب، ذو رقبة مرتصعة غليظة، وفكين كفكفي القرد الكبير، وذراعين كالأسطوانتين وساقين كذلك، وملأ ورقة عينه من الرجل فهابه في موته، بل تملكه الذعر، ثم تذكر أن الله وحده هو الذي أراد له النجاة وإلا فما كان يستطيع أن يغالب مثل هذا الوحش لو جادله، ولا أن يقاتله وهو في معتصمه بين الصخرتين. فلم يطق أن يطيل الوقوف عنده، وعزم على الانصراف عنه قبل أن يهديه خياله إلى سبب ترتاح إليه نفسه في مسيل الماء من بين الصخرتين وانقطاعه. ولكن هيبة الرجل كانت أعمق أثرا في نفسه من عجبه، فسار عنه وهو ينظر إليه، ثم لكزه برجله لكزة ينتقم بها منه لما أنزل به من الذعر وهو واقف حياله، ولكن رجله لم تضرب في رقارق بطن الرجل بل التطمت بجسم صلب ارتدت عنه قدمه. فسرعان ما جرد ورقة خنجره وشق ثوب القتيل، وإذا هو يكشف عن منطقة عريضة من الجلد، رأى من ظاهرها أنها مكتظة بالنقود فحلها عن وسط الرجل وانتزعها، وسار على عجل إلى الناقة فركبها وأنهضها، وعاد من حيث دخل الخميلة يلتمس محجة الطريق، ولكنه لم يتمهل حتى ينصرف عن المكان ليرى ما تحتويه المنطقة، بل حل أربطتها وأفرغ في حجره ما كان فيها فإذا هي تحوي من مسكوكات الذهب والفضة شيئا كثيرا دراهم فارسية بغلية، وأخرى رومية طبرية، ودنانير كذلك من أوزان مختلفة . كان منها ذو العشرة القراريط، وذو الإثنى عشر، بل وجد من بينها نوادر الدنانير الذهبية ذات العشرين قيراطا، وعجائب الدنانير الفضية التي كانت بقدر راحة الغلام
6
عد الذهب على عجل فبلغت عدته ثلاثين ومائتي دينار ففرح بها فرحا كبيرا، وأعادها إلى جرابها على عجل، فاكتظ بها ولم يسعها كلها، فوضع بقيتها في جيبه، واحتال حتى تمنطق به تحت ثوبه، وسار في خفة الظافر الموفق السعيد يلتمس المحجة وهو غارق فيما هو فيه من الاغتباط.
وفيما هو يسير متجها نحو الشرق عسى أن يعثر بالطريق الذي حادت عنه ناقته باختيارها أيقظه من غيبوبته السعيدة أنين وارد من جانب الطريق فتأثره فإذا هو ينبعث من غلام في الثانية عشرة من العمر منطرح على الأرض والدم يسيل من خده وفمه. فوقف عليه ناقته وأخذ يتأمله. ثم سأله: ما بك يا غلام؟ فلم يحر الغلام جوابا لشدة ما كان فيه من البرح، ولكنه شرع إليه جفنيه وبكى ثم أغمضها على الفور، وإذ لم يجد ورقة في الغلام ما يريبه أناخ بجواره ونزل ففحص عنه فوجد أنه مصاب في شدقه وفكه، وقدر أنه أحد السهام الطائشة قد أصابه، وتذكر أنه سمع صوته صارخا عندما صرخ هو أيضا مدعيا أنه المصاب، ولكنه تعجب أن يسير الغلام وحده في هذه الناحية، وهي على ما رأى من مخاوفها، وود أن يسأله، ولكن الغلام لم يكن يستطيع الكلام. فانصرف إلى إسعافه بقدر ما يملك، وعمد إلى سقاء الماء، وأجلس الغلام، وغسل الدم عن فمه ووجهه. وتحسسه فلم يجد كسرا فاطمأن وطمأنه، وهون الأمر عليه؛ فتنشط الغلام، واستطاع أن ينطق، وكانت أولى كلماته شكرا بالغا. ثم قد ورقة من عمامته شقة لثم بها الفلاح، وفيما يده تمر بفمه مال عليها الغلام وقبلها شكرا واعترافا بالجميل. ثم طلب إليه شربة ماء فأعطاه زقه وتمضمض ولفظ ثم شرب ولم يكثر، وعاد إلى شكر ورقة وهو يقول له: الحمد لله الذي نجاك من القرضاب، ولكني أنصح لك أن تبعد عن هذا المكان على الفور، وإني أخشى أن يدركك.
دهش ورقة لهذا النبأ، فسأله: أتعرفه؟ قال: نعم. أنا غلامه. قتل أبي منذ ثلاث سنوات وأخذني سبيا لأني كنت معه، ولقد وقع في فخاخه كثيرون، وشهدت ما حاق بهم؛ قتلهم، واستلب أموالهم من نقود ومطايا كما فعل بأبي. بالله خبرني كيف نجوت؟ إنه يحسن الرماية فإذا كان السهم الأول قد طاش فما كان يطيش الثاني. قال ورقة ولم يرد أن يشرح ما جرى قبل أن يعرف ما عجز عن معرفته: أما كيف نجوت فبفضل الله، ولكن قل لي ما سر هذا الماء الذي يسير منحدرا عن الجبل تراه العين من مدى بعيد، ثم لا تجد له الآن أثرا؟
قال الغلام: هذا ما خدع به كل من جاءوا قبلك. كان بعضهم يلتمس مقيلا في تلك الخميلة، أو ماء لراحلته إن كانت قد أوشكت أن تموت عطشا فيأتي إلى الجبل. فإن كان غرا صدق حكاية النسر، ومضى تاركا راحلته بما عليها للإله، فنزل وأخذها ودار بها حول الجبل حتى يصعد بها. ثم ينحدر بها إلى الأسواق ويأخذني معه فيبيعها ويعود على راحلتي وأنا أرادفه، وإن لم يكن غرا رماه بالقوس فقتله، ولكني رأيتك تسير وحدك وقد تركت راحلتك، فلماذا رماك؟
قال ورقة: لأنه رأى أني لم أكن غرا وإن كنت قد تركت له هذه الشملالة. ثم ضحك والتفت إليها. لا. لم أكن لأفارقك حتى أموت. ثم عاد إلى الغلام يقول: ولكنك لم تخبرني عن الماء. ما اسمك يا غلام؟
قال: معذرة إليك. اسمي رؤبة. لقد ألهاني ذعري من فعله عن إجابتك: هذا ماء محول، وأنت ما اسمك؟ فقال: اسمي ورقة. قال رؤبة: إني أحب هذا الاسم لأن أبي كان يقول: إن ورقة هذا نبي ظهر في الحجاز كان يقول للناس إن عبادة الأصنام حمق وجهالة، وأنا على رأيه منذ رأيت هذا الرجل وإلهه الكاذب، ورأيت الناس يتركون أموالهم قربانا لصخور وهم يتوهمون أنهم يتقربون إلى الله. إن الله في السماء. ألست على رأيي يا ورقة؟ قال: بلى . بلى، ولكنك لم تخبرني عن هذا الماء المحول. عجبي لك إنك تنصحني أن أعجل بالرحيل عن هذا المكان، ثم تطيل حديثك فيما لا أريد. كفاني ما قلت عن الماء. دعني أركب. ثم هم يمتطي، فقال رؤبة: امتط امتط. سأسير معك وأنا أحدثك.
فامتطى ورقة ناقته ولكنه لم ينهضها؛ لأنه لم يكن يخشى شيئا بعد أن قتل الرجل، وظل على ظهر الناقة والغلام مستمر في حديثه قال: إن لديه فوق الجبل عينا يسيل منها ماء قليل، وإذ أن له بيتا من الناحية الأخرى من الرابية فمسيلها نحوه، ولكنه قد احتفر بجوارها حفرة عميقة وراء الصخرتين اللتين رأيت ليملأها من ماء العين. ثم خد بين الصخرتين أخدودا ليسيل منه الماء إذا أراد أن يحدره على هذا الجانب، وذلك بأن يسد مجراها من ناحية بيته، وهو يسد هذا الشق كل ليلة بركام من التراب والحصا، فإذا طلع الصبح نهض وأطل من بين الصخرتين، أو أطللت له ليرقب الطريق. فإذا لاح له راكب منفرد مثلك في أي وقت من أوقات النهار، أزاح حشو الشق وأذن للماء أن يسيل على جدار الجبل رقراقا، إذا واجهته أشعة الشمس تألق وشامه الراحل من بعيد فإما ورد إليه أو إلى ما دونه من الشجر، وكم للإنسان من حاجة بين الماء والشجر، وهنا يقع. ولكنه عمد منذ ليلتين إلى ربط أعجاز من النخل بجذوع الخميلة؛ ليعرقل السائرين ويوقفهم أو يتلف مطاياهم، وكدت تتعرقل لولا أن لويت عنانك. أنت ذاهب إلى نجران. قال ورقة: نعم. قال رؤبة: إن هنا طريقا يقرب مسافة ما بيننا وبين نجران نصف مرحلة آه. ليتني أستطيع أن أدلك عليها! قال: وما يمنعك؟ قال: خوفي منه إنه الآن يراقبني، وسأقول له: إنني كنت أستمهلك حتى يعود إليك، ولكني أعرف أنه لا يجرؤ أن يلقى أحدا وهو بعيد عن الجبل؛ لأنه يقول: إن الطريق للناس كلهم، أما الرابية فله وحده. فضحك ورقة، وقال: ألا تشعر أنك عوقتني كثيرا؟ قال: بل وربي، يا لشديد جرمي، ولكني لا أطيق فراقك. أما وهو لم يأت فسر على بركة الله ألم أقل لك سر وأنا أتابعك! قال ورقة: لم يعد يملك سيدك أن يلقاني ولو صعدت إليه. عد الآن إلى بيته فخذ لنفسك ما فيه. إني قتلته، وهو الآن مسجى في دمائه عند مسقط الماء.
صات الغلام لدن سماعه هذا الكلام صوت مفجوء، ثم قال: قتلته يا سيدي! حقا. قال ورقة: نعم. فعاد رؤبة يسأله: أصبح جامدا كهذه الأرض؟ ودب عليها بقدمه. قال ورقة: نعم، ميتا. قال رؤبة: كما مات أبي! قال ورقة: وكما كنت سأموت. فاستمر الغلام في دهشته وفرحه وهو لا يكاد يصدق، وتقدم بيديه ضارعا إلى ورقة يقول: بحق اللات والعزى إلا ما أخذتني معك إنني من خولان
7
ولئن رددتني إليها لأنحرن ليعوق كل عام هديا ليبقيك ويقيك ويحميك. فقال ورقة: لقد عدت إلى ضلالك القديم يا صاحبي. ألم تقل لي إنك تنكر الأصنام. فكيف تقسم باللات والعزى ثم تترضاني بنحرك ليعوق ما تنوي نحره! لا يا رؤبة لا. ما هكذا يكون الوفاء لابن نوفل. فلطم رؤبة وجهه خجلا من نفسه، وقال: لا أدري وحقك ماذا أصابني، ولكني أجد لنفسي في بعض أحوال اضطرابي ما أكرهه منها وانا هادئ، ولقد ذكرت أمي وما هي فيه من الشقاء؛ لفقدها الزوج والولد معا ولم يكن لها سوانا. فاعذرني يا أخي.
فقال ورقة: وكيف تيسر لك اليوم أن تترك الأكمة ولم تهرب. قال: إنه يرسلني في الصباح لأرد عليه النوق الجامحة من أثر عراكه مع فرائسه ويأخذ يراقبني، فإذا جمحت أنا أو شردت، أو خرجت فيما وراء هذه الشجرة بغير ما سبب، فالسهم في أثري يعلنني برأيه في. إنه لا يحادثني إلا بلغة القوس والوتر، ولقد أصابني اليوم سهمه إلا أنه ما كان يعنيني، ولكني قدرت أنه راميك بغيره وغيره حتى يصيبك فيرديك. أما هو فهيهات أن يصاب. إنه معتصم وراء العقاب، وما عجبت لشيء قدر عجبي لأنك قتلته. أقتلته حقا يا سيدي ومات! وأصبح لا يستطيع أن يدركني! قال ورقة وهو يضحك: نعم. نعم، وربي قتلته بحيلة جازت عليه، وسأخبرك ماذا فعلت حتى أنزلته من معتصمه فرميته وقتلته. تعال اركب رديفا. قال رؤبة وهو يركب: حييت يا بطل حييت، وإذ أصبح الطريق مأمونا فمل بنا من وراء الخميلة؛ لنسير في الدرب القصير.
فلوى ورقة عنان الشملالة نحو الشمال؛ ليعطف وراء الخميلة، ويسير في رفقة الغلام.
الفصل السادس
الشمطاء
انعطف الطريق نحو اليسار وراء تلك الخميلة فلاح دربان: أحدهما يلتوي إلى اليمين ذاهبا في الجبال، والآخر إلى اليسار صاعدا إلى أكمة القرضاب. فأشار رؤبة بيده وقال حين أوشكا أن يبلغا مفترق الدربين: من هنا كان القرضاب يصعد بغنيمته إلى بيته، ولولا أني أكره أن تقع عيني مرة أخرى على مكان شقائي بعدما نجوت لسألتك أن تصعد لأريك ما في داره، وأحمله لك فهو اليوم من حقك. قال ورقة: وماذا عسى أن يكون فيه مما يهمني؟ قال: ثلاث قسي نادرة من العتل الفارسية وسبعة سيوف عجيبة هندية ومشرفية بله بعيره وأزواده وماعون الدار. قال ورقة وقد استحدث فيه كلام رؤبة عن القسي والسيوف رغبة في حيازتها: إنك يا غلام لتغريني بأحب الأشياء إلي، ولكن أليس في الدار ديار؟ قال: بلى. عجوز شمطاء ليس إلا، وسيسرها أن تعلم بمقتل الرجل ونجاتها منه هي أيضا. يا لله ما أشد مقتها له! لقد كان يدعوها خالته، ولكنها في الحقيقة خالة امرأة كانت له قتلها في بعض غضباته على مرأى مني ومن خالتها، ويالهول ذلك المشهد! أخذ يضربها بالسيف دراكا حتى تقطعت أشلاء، وأنا والعجوز نصرخ من الفزع، ولولا أننا جرينا واختبأنا في الدار للقينا حتفنا بنفس السيف الذي لقيت به المسكينة حتفها، ولكن الخالة فقدت وعيها من شدة جزعها، فقد رقدت ثلاثة أيام لا تتكلم ولا تعي كنت فيها أقوم على طعامه، وأعني بالخالة المسكينة حتى أفاقت وردت العافية إليها. إلا أنها انقطعت عن الكلام معه ومعي بعدئذ حتى حسبتها خرست، ولكنها كانت تتمتم في وحدتها بكلمات المقت للرجل، وكم مرة دخلت عليها فوجدتها تتضرع إلى «يعوق» وتستنزل على الرجل غضبه ولعنته. آه. لو أنني أذهب إليها وأخبرها وأعود من فوري أن «يعوق» قد استجاب لها! لقد كانت تحسن إلي وترعاني. ثم أليس من حقها علي أن أودعها وأخبرها بما جرى لتتدبر أمرها؟ ستظن إذ لم يعد إليها ولم أعد أنا أيضا أننا خرجنا وراء طريدة فتنتظر وتنتظر على غير جدوى وحيدة بين مراتع الوحوش.
قال ورقة: ويحك يا رؤبة. إنك لتغريني بالصعود إليها بكل وسيلة، وتلقي علي تبعة ما تلقى المرأى في وحدتها. هلم، وسارا نحو مصعد الجبل. فقال رؤبة: ما أشد مروءتك يا سيدي. فأجاب ورقة: قد أكون كما تقول، ولكني أخشى أن أضيع المروءة من شرعة أخرى. إني قاصد نجران كما تعرف في مهمة، ولا بد لي أن أدرك قافلة مكة. إنها ترحل في بكرة الغد، ونحن الآن في الضحى. قال رؤبة ضاحكا: وستجهد الشملالة لتبلغها في حينها! أراك يا سيدي تجهل الطريق! إنك الآن على مرحلة واحدة من نجران، ومن الميسور أن تبلغ مكان القافلة في العشي ما دمت على ظهر هذه العصوف، وما دمت معك أريك درب الهارب.
وفيما هما يميلان إلى الصعود انخرط عليهما من منعطف الطريق بعير محمل عليه رجل قليل الجسم، صغير الوجه، مغضنة، جعل على رأسه عصابة تستر قذالة وتغطي فمه، وإلى جانبه سيفا، وعلى كتفه اليسرى قوسا وكنانة.
لم يكن الدرب واسعا حتى يمر بعيران، ولا كان الصاعد يتوجس ورود هابط من أعلى الجبل، وهو فيما علم قد خلا من صاحبه، ولذلك فزع ورقة، وزعم على الفور أن الغلام كان يستدرجه إلى موقف لا مفر من الهلاك فيه. فسرعان ما جرد سيفه واستعد للقتال، ولكن الراكب لم ينذعر ولم يأبه لشيء إلا لما أصاب بعيره من الذعر لدن هذه المفاجأة. فقد زلت خفافه واندفع منزلجا على الدرب حتى اصطدم بالشملالة، ولولا ذلك لرمى عنه راكبه وما حمل، وكان ورقة يتأمل هذا الراكب في أثناء ذلك فوجده شيخا ضئيل الجسم كأنه غلام لم يشب عن الطوق ، فأغمد سيفه على الفور. وقال الراكب : لا بأس عليك يا فتى. عم صباحا، وعش دهرا طويلا. فما كاد رؤبة يسمع الصوت حتى صاح من فرحه: أهو أنت يا خالة! ثم ضحك سرورا وقال مازحا: ما أمثلك بفوارس كسرى! سيف وقوس ولثام. ما عهدي بك تحسنين التدليس! ولكن يعوزك الدرع. ألم تجدي درعا؟ أعرفت ما لقي عدوك؟ لقد قتله هذا البطل وتركه عند الوقيعة طعاما للذئاب! قالت: أعرف ذلك. لا شلت يمينك يا بني. ذهبت إلى الحوض أغترف لطعامه وسمعت وحيه فأدركت أن هناك فريسة يتصيدها فأطللت في حذر. رأيتك ففرقت لشبابك، وتذكرت شرور الرجل فهممت أن أرميه بحجر لأقتله قبل أن يصيبك أذاه. ولكني لم أقو. فعدت إلى الماء أملأ الماعون، وأنا أصلي ليعوق أن ينقذك، وتمتمت بكلمات الدعاء فرماني بحجر وقع على الماعون وصات فغضب لما جرى، ونظر إلي نظرة وعيد عرفت ما بعدها. فأخذت الماء وانصرفت، ولكني غافلته وانتحيت بعيدا، وأخذت أراقب ما يجري، وأنا لا أفتر عن الدعاء إلى يعوق أن ينقذك، وقد أنقذك! رأيت كل شيء، وسمعت كل شيء. رأيت رؤبة وقد أصابه السهم ووددت لو ألقي بنفسي من الجبل لأسعفه، ثم رأيتك ترتمي على الأرض وتصرخ فما شككت في أنك قضيت، وكم كان عجبي وفرحتي عظيمين حين رأيتك تنهض لترمي الرجل وهو معلق بالصخر وترديه. عندئذ سقطت أنا كذلك لفرط ما نالني من الفرح بنجاتك، ولم أفق من غشيتي حتى رأيتك تحادث رؤبة وتحمله معك رديفا، فأيقنت أنك ذهبت به، وأني أصبحت في هذه الأرض وحيدة. فحملت ما في الدار لأرحل إلى يعوق، أنحر له واهدي شكرا له على استجابته دعائي. على أن لي في جواره أهلا وخؤولة أرجو أن تكون الأيام قد أبقت لي على بعضهم لأعيش في كنفهم، ولكني لا أدري لماذا تصعد الجبل؟ تراك ملتمسا مقيلا أو منزلا إلى غدك فأعود معك لأقوم على خدمتك؟ قال ورقة: شكرا لك. إني وحقك طالب نجران، وما أملك للتلوم وقتا، ولكن رؤبة لم يطاوعه قلبه فيرحل قبل أن يودعك. قال رؤبة : حملته على الصعود لأخبرك بمصرع الباغي، فقد زعمت أنك كنت في الدار على عادتك فلم تسمعي شيئا. أردت أن أنزل في قلبك المسرة، وأكون لك فيما تدبرين، ثم أودعك، ولقد أغريته بما ترك من السلاح؛ إذ هي مطمع الفارس، ولكنه لم يهتم؛ لأنه في مهمة، فذكرتك له وذكرت ما كنت تلقين من الرجل، وما كان من برك بي في إساري، فلم يسعه إلا أن ينزل على رجائي وإن لم أعلنه له؛ ليمكنني من أداء حقك، ورضي أن يتعوق. قالت الشمطاء وقد أخذت بمروءة ورقة: إنك لسيف الله ونقمته أيها الفتى. لك شكري وشكر الله على ما فعلت. أما السيوف والقسي فإليكها. ها هي ذي على جانب الرحل. انقلها يا رؤبة. لقد زعمت أن رؤبة حاملك على الرحيل فحملتها. لا حاجة بي إليها، ولا هي من حقي. أما الزاد والبعير فما أنت في حاجة إليهما كما أرى. إني راحلة إلى خيوان
1
بلاد يعوق كما ذكرت، ولا بد لي منهما فيها. قال ورقة: صدقت. هي لك وما لي بها من شأن. في سلامة الله يا خالة. لو كان طريقك معنا لصحبتك، ولكني ذاهب إلى نجران. قالت: في سلامة الله وبركته. هنا المفترق إذن. سأدعو لك دائما، وكان رؤبة قد تناول منها لفافة السلاح ووضعها في جوالق الناقة، وودعها ودعا لها، وقبلته وقبلها ودعت له، وفيما هي تهم بالمسير تناول ورقة من جيبه قبضة من المال الذي كان قد فاض عن وعائه حين كان يرده إليه ومد بها يده وهو يقول: إليك هذا يا خالة زادا لبعض أيامك في خيوان. فترددت المرأة في قبوله، ولكن ورقة ألح، وتدخل رؤبة مغريا على عادته، فقبلته شاكرة، وإذ مدت كفيها لتأخذه أخذت تتأمله فوجدت في النقود قطعا ذهبية لم ترها في حياتها. فقالت: أهذه الصفراء دنانير؟ قال: نعم. قالت: لا يا بني. لا. خذ الدنانير. ما لي حاجة بها. قال: بل أبقيها فما هي بكثير، ولعلك تحتاجين إليها. قالت: وددت لو أرد لك جميلا، ولكني لا أملك إلا الدعاء. قال: في وديعة الله يا خالة. قالت: وفي وديعة الله أنت يا بني وأنت يا رؤبة أستودعك الله، وما كاد يلتفت عنها ورؤبة يدعو لها حتى تذكرت أن معها خرزات كانت تعتز بها، وترى أنها عصمتها من كل شر فيما مضى، ولا بأس أن تنزل له عنها الآن. قالت: مهلا يا بني. خذ هذه الخصمة للدخول على ذي السلطان والخصومة. اجعلها تحت فص الخاتم أو زرا لقميصك، أو في حميلة سيفك فإنها عاصمتك من الأذى، ومنيلتك غاية المشتهى. فتناولها منها مبتسما وشاكرا، وقالت: وأنت يا رؤبة، خذ هذه الوجيهة هذه العقيقة الحمراء،
2
لرضى الناس عنك. إنها من أندر خرزات اليمن فهي مما يلفظه يعوق يوم عيده، فيلتقطه السدنة ويغالون به. إنها مما ورثته عن أمي وجدتي.
تقبل الفتيان منها هديتها باغتباط وشكر ارتاحت نفسها إليه؛ لأنها كانت تود أن يكون لها شبه يد في مقابل أياديه عليها، وعلى هذا مضت تلتمس الطريق وهي لا ينقطع لها دعاء.
كانت الشمس قد علت وأضحت، فقال ورقة لرؤبة وهو يعود إلى الدرب بناقته: إياك أن تغريني بشيء بعد هذا، إنك إن تفعل فلن أستمع لك. فضحك رؤبة وقال: لم يبق ما أغريك به إلا المسير. خذ إلى يمينك.
لم يكن ورقة في حاجة إلى أن يوجه الناقة، فقد كانت قلقة طول مدة التقائهما بالشمطاء، وما إن لوى عنانها نحو الدرب حتى انصرفت إليه جارية كأنما هي أرقم يلتمس وكره؛ لأنها كانت تعرفه من قبل، وكانت الخميلة طريقها فيما ضريت لولا أنها لم ترها من قبل مقطوعة بأعجاز النخل.
سارت في طريق الجبل، وكانت تسبق رؤبة إلى الدرب قبل أن يدل عليه بالقول أو بالإشارة فتعجب لها، وأدركه شيء من الخجل؛ إذ لم يعد يرى نفسه في منزل الدليل العظيم الفائدة لرفيقه. فقال لصاحبه وهو خجل من نفسه: لا أراني والله أستحق أن تحملني الناقة على ظهرها، فإن معك دليلا أبصر مني بالطريق وأعجل. لكأني بالناقة ... فضحك ورقة لهذا ضحكا لم يسبق أن امتلأ صدره منذ ما غادر مكة يطلب العقاقير والطب في اليمن. ضحك لصراحة الغلام فيما استشعر، وطيب خاطره فقال له: بل إن حديثك معي أثمن من كل شيء.
وإذ وجد رؤبة من رفيقه ارتياحا إلى الكلام المزهر ترك للناقة أمر الطريق، ولم ينقطع عن مؤانسته بما لديه من أخبار اللص، ومشاحناته مع الشمطاء خالة امرأته، وكيف أنه حملها وهي كما رأى من الضعف على تعلم الرمي بالقوس؛ لتكون له عونا عند الحاجة، وكيف كان يذمها إذا هي أخطأت المرمى، ويضربها على إضاعة السهام سدى، ويحملها على تدلي الجبل للبحث عن النشاب الطائش حتى لم تجد المرأة بدا من أن تتعلم صناعة السهام من خشب الغضا،
3
لتعوضه مما يضيع، وكيف أنها وقفت دونه مرة لتطلق عليه الوتر إثر ما ضربها فصاح في وجهها وسقطت هي والقوس ذعرا، وورقة يضحك من رواياته ويعجب لاختياراته إلى أن صعدت بهما الناقة تبة عالية لاحت نجران من أمامها تحت نخيلها وأشجارها ناصعة في شمس المغيب كأنها ملاءة بيضاء مبسوطة في عرصة الدار، ولاحت قافلة مكة في مكانها من سفح الجبل على كبرها وكثرة حمولها وعددها، كأنما هي رقش يزين حواف هذه الملاءة.
طرب ورقة لرؤيتها وأمل أن يجد فيها الجيرة والأصدقاء؛ لأنها قافلة مكة بيد أنه قدر أنه غير بالغ نجران قبل أن ينقضي الهزيع الأول من الليل، ولكن رؤبة استمسك برأيه؛ لأنه رأى الناقة تطوي الطريق طيا فهي لا بد أن تدركها قبل انقضاء العشية.
ولقد صدق حدس رؤبة وتقديره، فقد بلغا نجران في العشية مع غيرهم من ركبان تأخروا في الورود مثلهم إلى نجران، وكانوا راحلين في القافلة إلى ديار مذحج
4
فانصرفوا إلى مستقرها. أما ورقة فلم يذهب معهم بل التمس الطريق إلى الكنيسة في ذراها، وخاض غمار الناس؛ إذ كانوا عائدين من سهرتهم مع القافلين.
الفصل السابع
حراس الباب
اخترقت الناقة براكبيها بلدة نجران حتى انقطعت دورها، ولم يبق من مبانيها إلا الكنيسة قائمة في ذراها. فمضى إليها مصعدا، وكان القمر في تلك الساعة قد بزغ، ولكنه كان قمرا منقوصا؛ لأنه كان في الثلث الأخير من الشهر، فلم تستفد منه إلا ناحية الشرق من نجران. أما ناحية الغرب فظلت في عتمتها حتى علا قبيل نهوض القافلة. على أن الكنيسة وقفت في ضوء القمر إذ ذاك وباتت تلقي ظلها الأدهم على ما جاورها، ولولا قنديل باخ ضياؤه كان معلقا على بابها ما عرف ورقة أين هي؟ وإن كان قد سبق له أن قصدها ودخلها وقضى زمنا بها حين نزل مع أستاذه الحارث ابن كلدة الثقفي الطيب وولده النضر ضيوفا على الأسقف يوم جاء الأستاذ بامرأته الرومية هرميون وابنته لمياء مهاجرا إلى نجران. على أنه استعد للقاء الأسقف، فأخرج رسالة إسحاق من رحله، وأوصى رؤبة بانتظاره حيث ينيخ حتى يعود إليه.
بلغ ساحة الكنيسة فأناخ، وذهب من فوره إلى الباب، وكان بابا عريضا لا يفتح إلا في المواسم الكبيرة. أما في الأيام العادية فكان دخول الكنيسة من خوخة فيه. على أن هذه كانت مقفلة أيضا، ولكنه كان يعلم أن للأسقف في جانب من فناء الكنيسة من داخلها منزلا ذا طبقتين، سفلاهما تشتمل فيما تشتمل على حجر لبعض الشمامسة؛ ليكونوا في حراسته وخدمته. فإذا هو قرع فلا شك أن يسمعه أحد هؤلاء الحراس ويفتح له، ولذلك قرع الخوخة في انتظار من يفتح له. ولكن لم يجبه مجيب وعاد إلى القرع مرة بعد أخرى فلم ينتبه له أحد من أهلها. فحار ورقة ماذا يفعل، وعاد إلى مبرك الناقة يستأنس برأي رؤبة وإن لم يؤمل أن يهديه إلى صواب. على أنه ما خطا نحوه بضع خطوات حتى خيل إليه أنه يسمع بعضهم من داخل الكنيسة ينادي بصوت ضعيف، يا جريس، يا حنا. فعاد أدراجه في انتظار أن يجيبه جريس هذا أو حنا، أو المنادي نفسه ولكن لم يأته أحد. فأخذ هو ينادي عليهما من ناحيته ويطرق الباب علهما يسمعان، ومع ذلك لم يجبه أحد فسكت وسكت الصوت الذي كان ينادي من الداخل، وعاد ورقة إلى ما كان فيه من الضيق، ولكنه خشي أن يذهب أثر ذلك النداء سدى بطول سكوته، فأخذ ينادي الأسقف نفسه: يا مولانا الأسقف! رسالة إليك! رسالة! ولكنه لم يوقظ بندائه هذا اهتماما من أحد. إلا أنه سمع صوت يد تعالج مزلاج باب الخوخة وتحاول جره من عضادته فأفرخ، ولكن الباب لم يفتح، فقد كان المزلاج مستعصيا على صاحبه حتى لقد يئس هذا من مطاوعته له فتركه، وأخذ يسأل بصوت مبهم: من الطارق؟ ولكنه كان سؤالا لا يراد به جواب، سؤال مخمور تشتهي نفسه أن يترك لينام، ولذلك لم يجبه ورقة، وإنما أمره بشدة أن يفتح الباب، وشتمه، فتنبه المخمور وجمع قواه وجر المزلاج فانفتح الباب وسقط الفاتح وراءه.
تنفس ورقة الصعداء، وأخذ يتأمل الفاتح، فإذا هو رجل بادن شحم في الأربعين من العمر، عاري الرأس، مدلى الشعر طويله، مثقل الجفنين مقفلهما، مفتوح الفم، مدلى الشفتين غليظهما، حافي القدمين قذرهما قد ارتدى جلبابا أسود مشقوق القبة إلى مدى بعيد لاح من ورائه صدرا كأنه نام ولم يخلعه، وكانت تفوح ريح الخمر من كل نواحيه، وإذ اعتاد من يفتح الباب ولاسيما في الليل أن يسأل: من الطارق؟ فقد سأل هو كذلك: من الطارق؟ وما كاد يبين، وإذ لم يكن يهمه الجواب استند إلى عضادة الباب، وانحنى على ذراعه وغاب عن الوعي نائما، ولكن ورقة لم يتركه يهنأ بهذه اللحظة فناداه ليوقظه: هيا جريس! أفق. جريس! أفق!! لعن الله الخمر وشاربها. يا جريس! قل لمولاك الأسقف إني آت إليه برسالة من أمير صنعاء. فلم يهتم الرجل لهذا الكلام. وإن كان قد فتح فاه للجواب، ولكنه ما تهيأ له إلا ليصحح اسمه فقد استطاع حسه في أول تنبهه أن يدرك أنه سماه جريس، وليس هذا اسمه. فاشتغلت نفسه بذلك وهو وسنان فرد يقول: أنا حنا. وأشار بيده إلى حيث ظن أنه ساحة القافلة وقال: جريس ... ثم عاد إلى سباته.
وكان في عرصة الكنيسة شخص آخر يسمع هذا ويرى. امرأة مسنة من أهل بيت الأسقف كانت قد استيقظت على القرع، وأدركت أن الحراس لم ينتبهوا فنزلت لتوقظهم، وإذ رأت حنا مخمورا لم يسعها إلا أن تتقدم إلى الباب لتنوب عنه في لقاء الطارق، ورآها ورقة قادمة عليه فعرف أنها بربارة قهرمانة بيت الأسقف، فلم يمهلها حتى تلقاه، وقال: معذرة يا خالة وعفوا. إني أنا غلام الحارث بن كلدة إن كنت تذكرين. كيف حالك وحال مولانا الأسقف. قالت: مرحبا بورقة وأهلا. ثم قال: ما كان لي أن أزعجكم بطروقي في هذه الساعة من الليل لولا أني رسول من صنعاء، جئت لمولانا الأسقف برسالة من أحد الأمراء، ولا بد أن يطلع عليها الآن، وإلا ذهب ما لقيته من المتاعب من أجله سدى، وهاهي ذي. أرجو أن تقرئي مولاي الأسقف تحيتي وسلامي، وتسلميها إليه على الفور. ثم قدم الرسالة إليها. فتناولتها منه وقالت: حبا وكرامة، ولكنها لم تجد من حقها أن تدعوه للدخول حتى تعلن سيدها بأمره. فاكتفت بأن كررت قولها حبا وكرامة. انتظر حتى ألقى سيدي وآتيك بجواب. ثم التفتت إلى الحارس فوجدته قد قعد ونام فتناولت يده لتنهضه، وساعدها ورقة على إنهاضه، وأخذت تنبهه وتقول له: تعال يا حنا، تعال. عد إلى مرقدك، ونم ملء جفنك. ما أصلح مثلك للحراسة والخفارة! ثم أخذت تسانده وسارت وسار معها في ثقل النائم مجانبا، مندفعا وناكصا حتى إذا بلغت به باب غرفته أمرته أن يدخل وينام. فتنبه لهذا ودخل، وارتمى، وسمع ورقة لسقطته عجيجا فضحك في نفسه وأسف ألا يتعظ الناس بمثل ذلك فيتجنبوا الخمر.
وفيما هو ينتظر عودة القهرمانة سمع من ورائه وقع أقدام تتخبط في الطريق على غير هدى، وسمع معها وعيدا خائرا. فالتفت فإذا هو يرى رجلا يتقدم نحو الباب ويسير متجانفا. فخطر على باله أنه جريس الذي كانت القهرمانة تناديه هو وحنا، وكان الرجل جريسا حقا، ولكنه لم يكن كصاحبه متفضلا عاري الرأس حافيا ولا مخمورا مثله وإن كان على ملابسه أثر من السقطات واللطمات ورقع من الروث والأوحال. فلقد استطاع حسه أن يدرك أن بالباب رجلا، وأن هذا الرجل يحمل سيفا وأنه متجه إليه، وزاد تنبهه حين رأى ورقة أن يلهو به قليلا وينبهه، ويقول له: مرحبا بجريس الهمام! وأن يتراجع جريس الهمام، ثم يفزع، وينظر إلى وجهه متأملا ثم يرتد جاريا صوب الزريبة خوفا منه وهو يقول: وحق القديسين جميعا ما أنا الذي سرق السقاء بل هو حنا والراقصة، ولذلك سكر وحمله الناس على حماري ليعود إلى الكنيسة. قال ورقة وقد استطاب أن يستمر في عبثه معه: تعال لا توجل، هنيئا لك ولهم ما شربوا، ولكن خبرني لماذا لا أجد أثرا للحمار معك. ألم يعودوا به إليك؟ قال وهو متنفخ متغيظ: اللعين ميكال! قال ما خطبه؟ قال: لم يرد أن يحرم نفسه شهود سامر القافلة، فما كاد أصحاب حنا يلقونه في مرقده حتى أفاق وركب الحمار، وجاء إلينا؛ ليأخذ نصيبه من هذه الليلة النادرة. قال ورقة: أراه أحسن صنعا، ولكني أراك عدت ماشيا. لماذا لم تعد على حمارك؟ بعد ما عاد به إليك ميكال؟
قال: لأن ميكال اللعين غافلني وترك السامر قبل أن أتركه؛ ليظفر بركوب الحمار دوني ويعود. قال ورقة: كان حقا عليك أن تجري وراءه وتأخذ حمارك منه بالقوة. قال: لقد فعلت ولكنه أبى. واجتمع الناس علينا فقال لهم: إنه أخذ الحمار من باب الكنيسة ولا يدري حمار من هو، فإذا تركه لي كان مفرطا في حق الناس، وأصر ألا يفارقه إلا هناك. فحكموا له ألا يسلم الحمار إلا عند باب الكنيسة عينا.
قال ورقة: وأنت رأيت العدل فيما قال وما حكموا! قال حنا: نعم. إنها لحجة بالغة وإن كان الحمار حماري. قال ورقة: لأن الحمير تتشابه. قال: صدقت، هذا ما احتج به ميكال، وقد أقره الجمع على ذلك. فضحك ورقة ملء شدقيه، وقال: يعجبني من الرجل أن ينزل على الحق وإجماع الناس ولاسيما إذا كان أتانا مثلك.
كان هذا الحديث يجري ورؤبة يستمع، فما أن بلغه قول ورقة في جريس أنه «أتان» حتى ضحك ضحكة عالية رنت في ساحة الكنيسة فضحك ورقة وضحك جريس كذلك، ورأى ذلك وقتا مناسبا للدخول، ولكنه تعجل فعثرت قدمه بعتبة الباب وهي عالية، وكاد يسقط على ما وراءها من الصخر لولا أن القهرمانة كانت عائدة إلى ورقة بجواب الأسقف، فدفعته بذراعيها وحمته أن يقع، ولكنه ما كاد يتبين أنها بربارة قهرمانة الأسقف وصاحبة القول الأعلى في البيت، حتى أخذ يتضرع إليها أن تستر أمره فلا تبلغه إلى مولاها. فوعدته خيرا وانصرفت للحديث مع ورقة، وانصرف هو إلى مرقده.
والواقع أن الحراس الثلاثة لم يطيقوا أن يحرموا أنفسهم الاشتراك في مسرات القافلة وطيباتها من مأكول ومشروب وملموس، وكان حنا وجريس أشد رغبة في ذلك من ثالثهم ميكال، أو أجرأ منه في مخالفة الواجب فاشتريا منه تبكيرهما في الذهاب بدرهمين على أن يلحق بهما إذا شاء بعد أن ينام الأسقف، وعلى أن يترك الباب مفتوحا، وقد أغراهما رقص القيان وغناء الغلمان بالإغراق في الشراب فكان ما كان، ولكن ميكال كان أشد حرصا من صاحبيه وأشد مكرا، فقد ترك ساحة الركب ساعة أن رأى جريسا يتهيأ للعودة؛ ليسبقه إلى ركوب الحمار ويعود مرتاحا كما جاء مرتاحا، ولكنه لما بلغ الكنيسة وجد الخوخة مقفلة، إذ كان حنا قد وضع المزلاج وراءها على العادة؛ لأنه لم يكن في تمام وعيه، فلم يتنبه إلى أن له زميلا بل زميلين لا بد لهما أن يعودا إلى مرقدهما مثله، ولذلك اضطر ميكال أن يستضيف الحمار فعاد إلى الإسطبل، ورقد في مذوده ملء جفنيه!
أجابت القهرمانة ورقة بأن مولاها الأسقف اهتم للرسالة، وعزم أن يوقف القافلة إجابة لرجاء الأمير، ولكنه لما كان مشغولا بالصلاة فسيدعوه إليه إثر انتهائها فلم يبق إلا أن يدخل حموله ويريح مطيته وينتظره، ولكنها لم تجد بدا من أن تتولى هي العناية بشأن ورقة ومطيته، بعدما رأت من حال الحراس، واستعانت على ذلك بورقة نفسه معتذرة إليه بما رأى وما سمع. فرجت منه أن ينقل حموله إلى فناء الكنيسة؛ لتكون في صونها، وأن يسير براحلته إلى حظيرة الدواب.
فعل ورقة كما رأت القهرمانة شاكرا فضل الأسقف وبرها، وفيما هو يسألها عن مكان يرقد فيه تابعه رؤبة، ويشير إلى مصطبة هناك بجوار الباب ويستحسنها مرقدا للغلام سمع صوتا يناديه ويحييه من كوة في علية: عم صباحا يا ورقة. اصعد إلي، ولقد كان الصوت ضعيفا فيه شيء من أنين المرضى فلم يتبينه ورقة، ولم يعلم أنه الأسقف يناديه ويحييه، لولا أن نبهته القهرمانة إلى ذلك فجهر يرد التحية معاجلا؛ ليستدرك لحظات تأخره عن الرد على الأسقف الكبير، وتقدمته القهرمانة إلى السلم لتصعد به، ولكنها سمعت الأسقف يقول لها: أرسلي الشمامسة إلي. قالت سمعا يا سيدي. ثم التفتت إلى ورقة وأشارت إلى غرفة الأسقف، وقالت: اصعد أنت وحدك. ها هي ذي غرفته. لعلك لم تنسها. قال: أهي على عهدها منذ زرته فيها أنا والحارث وأهله؟ قالت: نعم، وهو على عهده، ثم استأذنت منه في أن ترسل الغلام رؤبة؛ ليوقظ ميكال من مرقده في مذود الحمار. ولكن رؤبة لم يمهلها حتى يطلبا إليه ذلك، فقد كان مرهف الأذن بما عودته صحراء القرضاب، وكان عند باب الكنيسة ساعة نطقت باسمه واسم ميكال. فقال: سأنهضه على الفور وآتيكما به من غير عنان! ثم اختفى ذاهبا إليه.
صعد ورقة للقاء الأسقف، وعادت القهرمانة لتوقظ السكارى، وهي لا تدري كيف توقظ أمواتا. ولكنها استطاعت على كل حال أن تأتي بجريس وحنا ليقفا تحت الكوة حين كان رؤبة قد أتى بميكال من الإسطبل مبلل الوجه واللحية من أثر ما صب على رأسه من الماء لينعشه، ولكنهم كانوا متعبين فارتكن حنا إلى جدار البيت تحت الكوة وارتكن جريس عليه. أما ميكال فوقف فاتحا رجليه بغير سبب. فلما رأتهم بربارة على هذه الصورة لم تتمالك نفسها من الضحك، وعلا صوتها فتنبه الأسقف لها، وقال: ما خطبك يا بربارة؟ قالت: حضر الشمامسة يا مولاي. فقال لهم في صوته الضعيف: اذهبوا إلى سلمان فادعوه إلي على الفور، وأوصوا أبناءنا من حداة الكنيسة وجمالتها أن يؤجلوا الرحيل بالقافلة إلى الغد. قال الأسقف ما قال ولكن الشمامسة لم يسمعوا منه شيئا كثيرا وإن كانوا قد أرهفوا سمعهم وحولوا آذانهم نحو الكوة، وإذ كانوا قد فهموا جملة الغرض من إيقاظهم ولم يستطيعوا أن يستعيدوه أجابوا الأسقف بالسمع والطاعة، ومالوا للخروج إلى القافلة وهم كارهون. وكان حنا أشدهم امتعاضا؛ لأنه كان أشدهم سكرا، فقال لرفيقيه، وقد تحولوا نحو الباب بجوار مرقد الغلام: لماذا نذهب كلنا في أمر كهذا؟ دعوني هنا للحراسة واذهبا أنتما. قال ميكال: بل أبقى أنا وتذهب أنت؛ لأني يقظ أما أنت فسكران والمشي نافع لك والهواء ينعشك، وإذ أخذ جريس يقترح أن يكون هو الذي يبقى دونهما ولا يبدي سببا لذلك، تدخل رؤبة بينهم فقال: أما ورب يعوق لئن لم تنتهوا وتدعوا هذا الكلام الفارغ لأعلمن مولاكم بسكركم ورقصكم وسرقتكم سقاء سيدي، وحديث الجارية التي كانت مع أحدكم، و ... فلم يمهلوه حتى يتم وعيده، وخرجوا يقفزون عن عتبة الباب قفز التيوس في سبيلهم إلى القافلة؛ ليبلغوا سلمان ما بقي في آذانهم من كلام القهرمانة.
الفصل الثامن
ابن العفيفة
نترك ورقة يصعد إلى الأسقف ويلقاه، ونتركهما يتحادثان حتى يعود الشمامسة بسلمان. فلن يستطيع القارئ تتبعهما ولا تبين ما هما بصدده، ولا معرفة من سيأتي ذكره في الحديث من رجال ونساء، وحوادث وشئون، حتى يكون قد سبق له العلم بهؤلاء الناس، والوقوف على تلك الحوادث، وما كان لورقة بن صليح، بل ورقة ابن العفيفة بكل منهم ومنهن من صلة وعلاقة.
من أجل ذلك نستميح القارئ عذرا من انصرافنا به من نجران ودار الأسقف في ليلة الربيع من سنة 616 هذه، إلى مكة ودار خديجة بنت خويلد قبل أن يسعدها الله بتزوج خير الخلق محمد بن عبد الله؛ لنعرض عليه حوادث عشرين سنة أو حوالي ذلك، كان لها أثر في ورقة حتى جاءت به إلى نجران وغير نجران من بلاد العرب السعيدة.
سنعرضها عرض الحافظة مختزنها على المخيلة في المنام، فإذا عدنا به إلى نجران، وأدخلناه على الأسقف يسمع حديثه مع ورقة، تفهم الحديث بلا عناء، وتعرف إلى الناس بلا استئذان. •••
كان ورقة مكيا ولكنه لم يكن قرشيا. لم يولد من أشراف العرب، ولكنه كان عنوان الشرف. نشأ في ظلمة الفقر، ولكنه عاش في نور العلم والفضل. كانت أمه سبية تدعى تماضر من سبايا رجل من أعيان مكة يدعى عبد الله بن جدعان،
1
جيء بها إليه من تخوم بني لحيان،
2
وهي طفلة في الرابعة عشرة من عمرها؛ وإذ كان هذا الرجل على عظم شأنه نخاسا له جوار يساعين في مكة كما كان كثير غيره من عظماء قريش،
3
إذ كانت هذه التجارة السافلة مباحة فيها قبل أن يجيء بتحريمها الإسلام فقد دفع بالفتاة إلى الفحشاء، وأمر عبده أن يخصص لها بيتا ويعلق عليه الراية البيضاء التي اعتادوا أن يعلموا بها بيوت هؤلاء الجواري الشقيات.
نفذ العبد إرادة سيده، فأخذها إلى بيت كانت قد أخلته صاحبته بموتها وأنزلها فيه، والفتاة لا تعلم ما يراد بها، ولكن فساق مكة كانوا قد سمعوا في أنديتهم بفريستهم الجديدة، فأجمع نفر منهم على غشيان دارها، وأخذوا لليلتهم الليلاء حاجتها من غبوق وصبوح، ومزاهر وأعواد، وذهبوا ليقضوا سهرتهم مع هذه الطفلة المسكينة يهديهم العبد متهللا، ويدعوها إليهم منبسطا، ويعرضها عليهم مزهوا ومفاخرا، والفتاة لا تكاد تصدق ما ترى، ولكنها لم تجرؤ أن تفصح عما ساورها من الشك في مآربهم، أو تبين عما تملكها بعد ذلك من الذعر من اجتماع رجال ذوي لحى وشوارب في غرفة لها. حتى إذا دنا منها أبو سفيان
4
وكان أحد هؤلاء الفساق، وأخذ يداعبها أسفل مداعبة، رأت كفيها تتعاروانه باللطم على عقنه ووجهه من حيث لا تدري. ثم هبت من مكانها صارخة صراخ من أصابته جنة، ومرقت من بين الجمع مروق الهرة من النار، خارجة من دارها في حلكة الليل؛ حتى إذا لمست رجلاها أرض الطريق ركضت في الظلام على غير هدى، تلتمس مهربا وحمى، والعبد يتابعها راكضا وراءها، ولكن المسكينة لم تجد أمامها إلا بيوت أمثالها من الجواري، وانعطف بها الدرب فدخلت في طرقات الشعاب المجاورة لبيت الله، ولكنها لم تجد فيها بابا مفتوحا ولا مصباحا منيرا؛ إذ كان الناس نياما في أول الهزيع الثاني من الليل، وكانت تخشى إذا هي وقفت تطرق أحد الأبواب أن يدركها العبد فيمسك بها ويضربها ويعيدها، فاستمرت تجري وتختبئ حتى لمحت في الحلكة نورا قد انبعث على غير انتظار من منعطف باب، وخرج من هذا الباب شبح. فقصدت إليه وهي على آخر رمق. فلما دخلته ألفت في ردهة الدار سيدة وقورة دون الأربعين من العمر يدل مطلعها على عظيم الخير الذي ضمت عليه جوانحها. فلم تملك الفتاة إلا أن تلقي بنفسها على الأرض أمامها ضارعة بغير كلام؛ إذ كانت قد استنفدت نفسها في الجري، ولكن السيدة لم يسعها وقد رأت علائم الذعر الشديد على وجه الطفلة إلا أن تتقدم إليها فاتحة ذراعيها، وتأخذها في صدرها قبل أن تسقط على الأرض أخذ الأم ولدها، وهي تقول لها: لا بأس عليك اطمئني، والطفلة غائبة عن الوعي، والسيدة لا تدري سبب ذعرها، ولا تجد فائدة من أن تسألها وهي على هذه الحال، وإذا بالعبد يدخل الدار لاهثا من شدة الجري، ويضع يده على الفتاة ليأخذها قسرا، وهو لا يدري من السيدة، ولا هي تدري من العبد، وكاد يغلب السيدة على الفتاة لولا أنها صرخت في وجهه صرخة عرف عزة الكرام من نبراتها، فكف يده عنها وتراجع، وإذا هو أمام خديجة بنت خويلد سيدة نساء قريش. تراجع العبد مرة أخرى في خشوع، ووقف ينظر ما وراء ذلك، فلما هدأ نفسه سألته سيدة قريش: من أنت يا غلام؟ فقال: أنا غلام عبد الله بن جدعان، وهذه الفتاة جاريته. قالت: وما خطبها، قال: أرسلها مولاي لتحل محل جاريته «سريفة» التي قضت نحبها منذ أيام، ولكنها لطمت أبا سفيان وصرخت في وجوه المخادنين، ومرقت في الشعاب آبقة. قالت: ألا ساء ما تفعلون. لاهم إن هذا منكر لا يرضيك! اذهب إلى مولاك فادعه إلي. قال: لا أجرؤ يا سيدتي. قالت: ولا أنا أردها إليك. الله أرسلها إلي لأعيذها منكم، ولقد أجرتها فاذهب أنى شئت.
أفاقت تماضر عند ذلك من غشيتها، ووجدت نفسها في صدر كصدر أمها، وسمعت حديث السيدة فأخذت تبكي وتنشج في البكاء، والسيدة خديجة تطمئنها، وتمسح بيدها على رأسها لتسري عنها، وإذا بغلامها ميسرة قد عاد؛ إذ هو الذي كان قد فتح الباب وخرج في حاجة عرضت لها، فأمرته أن يسير بها إلى حيث يرقدها بجوار فراشها ويعود إليها. فقال العبد: ماذا تريدين من مولاي يا سيدتي؟ قالت: أحادثه في شأنها وأبتاعها منه. قال العبد: حبا وكرامة يا سيدتي، لقد أذن لي مولاي من قبل أن أبيعها بأربعين طبريا إذا رغب فيها راغب. قالت وإني لراغبة. هات يا ميسرة مما لديك أربعين دينارا وزدها واحدا لغلام ابن جدعان.
فأتى ميسرة بالمال وعده للعبد، ثم زاده الفضل الذي أمرت به سيدته فأخذه العبد، وخرج شاكرا مطمئنا.
وظلت تماضر في خدمة سيدتها ثلاث سنوات كانت محل الرعاية والإكرام من سيدتها إلى أن حدث ذات يوم أن احتاجت سيدتها إلى سقيفة تقي تجارتها الشمس والأعاصير، فجيء لها بنجار كانت تعرفه وترتاح إلى عمله، وكلفته عمل هذه السقيفة.
كان هذا النجار قد استقدمه أبو ربيعة المغيرة من مصر؛ ليصنع له نجر بيوت أقامها لأولاده في بساتينهم في أرباض مكة. فلما أتم عمله وأصاب من ورائه رزقا طيبا آثر الإقامة في مكة ارتياحا إلى العمل في بلد تقل فيه مهرة الصناع، وإجابة لإشارة سراتها، وكذلك عاش بين ظهرانيهم عشر سنين يصنع لهم ما يريدون من النجر فإذا لم يكن لديه ما يشغله من حاجة الناس عكف يصنع من خشب الساج الأسود تماثيل لهبل
5
ومن خشب السدر أو العرعر لغير هبل من آلهة الجاهلية ما بين صغيرة وكبيرة، بغير ما تقيد بصورة، ولا تعمل لإتقان ويبيعها للأعراب مغاليا أيام مواسم الحج والاعتمار، وزاد في إقبالهم عليه أنه كان يحفر على كل نحيته اسمها بالقبطية.
كان هذا النجار عربيا يدعى صليحا القبطي؛ إذ كانت كلمة قبطي نسبة تطلق على كل من يرد من مصر من سكانها عربيا كان أو فارسيا أو أثيوبيا. فما كلمة قبطي التي أطلقها العرب إلا تحريف لسانهم لكلمة جبت الرومية التي يعنون بها ما نعني الآن بكلمة مصر العبرية، ويطلقها أهل أوربة جميعا على بلاد وادي النيل ما بين أسوان وبحر الروم، وما أهل مصر في الحقيقة إلا أبناء العرب الرحل الذين وردوا إليها من قديم الزمان قبل مصاريم وبعده، وفي عهد الرعاة وبعده، ولا سيما من شمالي الجزيرة العربية، كلما أجدبت بهم الأرض، أو اضطرهم الغالب إلى النزوح، أولئك استوطنوها، ثم لم ينقطع سيلهم عنها كما لم ينقطع عن وادي دجلة والفرات، وكان القديم منهم يعد نفسه أصيلا حتى يتقادم العهد على الجديد فيندمج في القديم، ويشترك في تسميته الأجد دخيلا حتى يندمج هو أيضا، وهكذا إلى وقتنا هذا، وكانت لهم وفدة كبرى في أيام الإسكندر إذ جاء العرب النبطيون إلى مصر ففتحوها له، واستقروا بها، وكذلك في الأيام القريبة من البحرين والقدس أيام غلب العرب الغساسنة على بلاد بني سليح الضجاعمة في الشام وبلاد القدس فهاجروا منها إلى مصر، كما فعل إخوانهم من قبل، وملأوا الوادي من شماله إلى سيوط حين ملأ بنو أعمامهم السابقون والراحلون إلى مصر من أثيوبيا والنوبة ما بين أسوان وسيوط من بلاد الوادي الخصيب، وإذ كان من عادة هؤلاء الأعراب أن يدخلوا في دين مصر، في الوثنية والنصرانية، وجرى بينهم ما يجري بين أهل الدين الواحد من الاختلاط بالتزاوج، وتوحدت مصلحتهم ووطنيتهم بإزاء سادتهم الروم الذين حرموهم بحق الفتح والغلبة حقوقهم الوطنية، فقد أطلق عليهم الروم كلمة النسبة إلى جبت
6
أي مصر حين احتفظ لهم العرب بالنسبة إلى رومة، حتى بعدما انتقلت الإمبراطورية إلى بيزانطة، ولم يهم الروم أن يفرقوا بين الأثيوبي والعربي؛ لاختلاطهم من ناحية، وتقارب سحنتهم من ناحية أخرى، واتفاقهم في الدين من ناحية ثالثة، وهو أهم شيء.
فكلمة قبطي معناها مصري، أي: سكان مصر، وليس لها أي معنى آخر لولا أن بقيت للدلالة على اتباع الملة اليعقوبية في مصر ولو كان روميا أو زنجيا أو ابن أمة. لا للدلالة على جنس خاص.
كان صليح يعرف ذلك ويعتز به، ولكنه كان في الواقع عربيا خالصا، قريب العهد بديار العرب ومثابتهم ولكنه إذ كان مسيحيا أطلق عليه لفظ النسبة إلى جبت فسمي القبطي.
كان أبوه غواصا ورد إلى الإسكندرية من سواحل بلاد البحرين؛ ليبيع فيها بعض لآلئ جاد بها عليه بحر الفرس، وكان روم الإسكندرية أهل ثراء ورفاهية، فاشتروها منه بثمن كريم. ثم حلا له المقام فيها، فاستوطنها واشتغل بصيد السمك فيها، وتزوج من أعراب حي رقودة في الإسكندرية،
7
وكان صليح يقول إن له إخوة برقودة، وأن له في مريوط خؤولة كثيرة، وأن أهل أبيه لم ينقطعوا عن الورود إليهم من الحيرة، وهم في سبيلهم في قوافل برقة وطرابلس أو قوافل القدس والحيرة.
وكان ميسرة غلام السيدة خديجة - رضوان الله عليها - يعرف هذا النجار ويحبه، وكلما مر به في سوق حزورة قضى معه بعض الوقت يتحدث ويسائله عن مصر والإسكندرية ويتعجب لرواياته، ومن ثم عرفته السيدة خديجة! فقد كانت كلما جدت لها حاجة إلى نجر ذكره لها ميسرة، وجاء به إليها فأتم لها العمل على أحسن وجه، وأكرمته فوق حقه، ولذلك جاء به ميسرة إليها هذه المرة أيضا. كان صليح أعزب في الثلاثين من عمره يوم جاء إلى مكة، ولكنه لم يكن يفكر في الزواج انتظارا ليوم عودته إلى بلاده. فلما استقر رأيه على البقاء في مكة خطر له أن يتزوج، ولكنه لم يكن يدري كيف يحقق رغبته في مكة، وليس فيها إلا قرشيون لا يزوجون مثله، وإلا فتيات من جواريهم ليس من كرامته أن يخطب إحداهن لتكون أما لأولاده، وما كان يعرف فيما وراء مكة أحدا ممن يمكن أن توجد بينهن إنسانة تليق أن تعاشره وهو ابن الإسكندرية المتحضر. فلما جاء يصنع السقيفة لسيدة قريش خطر له أن يبدي حاجته إليها على لسان ميسرة، ويلتمس منها العون في ذلك واثقا أنها ستهديه إلى الزوجة الصالحة، ولكنه رأى في منزل السيدة خديجة فتاة في السابعة عشرة من عمرها فتاة حسنة الطلعة، على وجهها كرامة لم يعهدها في كثيرات. فمال إليها قلبه، واحتال في سؤال ميسرة عنها. فلما علم أنها جارية مولاته تعلق بميسرة يرجو منه أن يفاتح عنه السيدة العالية في شأنها؛ لأنه لا يجرؤ أن يتكلم بحاجته، وأوصاه أن يذكر لها أنه عزم أن يستوطن مكة، فلا خوف من رحيله بجاريتها التي علم من ميسرة أنها تؤثرها على سائر جواريها. على أن السيدة رضيت بزواجها منه بلا شرط، ولكنها رأت أن تستأنس برأي الفتاة، وتستشير ابن عمها وعظيم أسرتها ورقة بن نوفل في هذا الزواج. فوافق، ولكنه اشترط أن يكون الزواج على سنة قريش، وأن يجري بدار قصي بن كلاب
8
لا على سنة أهل مصل المسيحية، واشترط كذلك أن يقلع عن صناعة الأوثان ويعيش من النجر وحده. كذلك جرى الزواج، وزفت تماضر إلى صليح في إعزاز وإكرام في دار وهبها لها سيدها ورقة بن نوفل، ولما ولدت أول غلام سمته باسمه، إذ كانت تحبه وتجله لفرط بره بها؛ لأنه كان رجلا بعيدا عن الدنايا التي انغمس فيها أهل مكة، وتزعم - لتقواه - أنه نبي أرسله الله لهداية العرب، وذلك لأنها كانت تسمعه يدعو الناس إلى عبادة الله واتباع ملة إبراهيم، ويعيب عليهم اتخاذ الأوثان آلهة من دون الله، ويعيب على قريش تمسكهم بهذه الأحجار، واستغلالهم مكانتهم في ابتزاز الأعراب الذين يردون من كل الجهات ليطوفوا ببيت أبيهم إبراهيم، في مواسم الحج والاعتمار.
ولما تزوج عليه السلام بسيدة قريش بعد ذلك بعام أخال أنه لما عرف قصة الفتاة ونفورها من الخنى عزها وأكرمها، وأخال أنه نعتها بالعفيفة تكريما لها، وأنه لما رزقت بولدها كان يداعب ولدها ويحسن إليه، وأخال كذلك أنه
صلى الله عليه وسلم
كان إذا ناداه قال له: يا ابن العفيفة.
9
ومن ذلك الحين سقطت عنه النسبة إلى صليح، وصار يدعى ابن العفيفة، وأكرم به اسما ولقبا.
الفصل التاسع
الأمين
ظل الغلام في بني هاشم ونوفل مرعي الجانب محبوبا ؛ لحبهم لأمه، ولأنه كان على شيء ظاهر من الذكاء، وعفة النفس. كما أنه كان حلو الحديث سريعا إلى إجابة سادته إلى ما يطلبونه إليه من المهام. بيد أن ابن نوفل كان أشدهم تعلقا به وأرعاهم له إذ لم يكن له عقب، حتى لقد شغل نفسه بتعليمه القراءة والكتابة، وكان العارفون بها في مكة قليلين،
1
ولذلك صار لابن العفيفة مقام في مكة على صغر سنه، وصار يقرأ للناس ويكتب. وأخال أن منهم سيدته أم المؤمنين، وإن كانت ممن تعلموا القراءة والكتابة.
كان عمر الغلام في ذلك الوقت عشر سنين، وكان قد حدث سيل في مكة انحدر إليها من شعابها ووديانها فصدع بناء الكعبة لقدمه، وأذاب في تياره كثيرا من بيوتها،
2
وأغرق عديدا من أهلها، وكاد يذهب بورقة وأهله لولا أنهم اعتصموا ببعض الجبال. وإذ كان لا بد لقريش أن تعيد بناء هذا البيت المقدس، بيت أبيهم إبراهيم وأمهم هاجر أم إسماعيل، الذي يطوفون به، وينسل إليه جميع القبائل العربية من أصقاع جزيرتهم المترامية الأطراف، والذي يجعل لهم من سدانته وحجابته وسقاية حجيجه ورفادة أهله شأنا أي شأن؛ فقد أجمعوا على بنائها في أحسن تقويم، وان يسقفونها حتى لا تبدو كما كانت في كل عهودها الماضية عارية معرضة للأعاصير، وإذ لم يكن يوجد من مكة بناء يحسن البناء بالحجر، ولا في أسواقها ما يحتاج إليه من أدوات العمارة، اللهم إلا أحجارها المقدسة فكروا في إرسال وفد منهم إلى مصر؛ لشراء حاجتهم من الخشب، وليستقدموا معهم بناء خبيرا بعمارة بيوت الله، ولكن حاجتهم إلى البناء الماهر وأدوات البناء الصالحة لم تطل فقد حدث أن دفعت الريح إلى شاطئ جدة
2
سفينة كبيرة كانت محملة بالأخشاب والرخام والحديد وسائرة في طريقها إلى الحبشة لبناء كنيسة هناك. اصطدمت السفينة بصخور المرفأ صدمة شديدة أتلفتها حتى لم تعد تصلح للمسير، وكان لا بد من تفريغ شحنتها، وإلا تناولها البحر. يومئذ تكاتف أهل جدة على إنقاذ شحنتها وحملها في قوارب صغيرة سالمة إلى البر، حتى يعدوا سفينة أخرى أو سفنا صالحة لتحملها إلى بلاد النجاشي.
ولكن القوم تسامعوا في مكة بخبرها، فجاء وفد أعيانها ليأخذوا حاجة البيت من أخشابها، ويدفعوا ثمنه سواء رضي صاحبها بالبيع أو لم يرض. غير أنهم لم يضطروا إلى ذلك فقد أجاب صاحب السفينة طلبهم على الفور، وإذ عرف مقصدهم عاد معهم إلى مكة؛ ليرى ما هم بصدد بنائه.
كان الرجل روميا من أهل بيزنطة يدعى باقوم،
2
وكان رجلا وديعا طيب الخلق في الخمسين من عمره. بدأ حياته بناء في القسطنطينية، فلما تولى الإمبراطور موريقس
3
ود أن يستغني عن مسترزقة الجند من الصقالبة والأرمن والعرب بجنود من أبناء الروم أنفسهم، فكان باقوم أحد هؤلاء.
وبقي باقوم عشرين سنة في الجندية لم ير فيها خيرا، ولم يتزوج، ولم يستقر بمكان إلا يوم أسعده القدر فكان من حرس أحد قصور الإمبراطور، ولكن هذه السعادة لم تطل، فقد قتل الإمبراطور بعد تعيينه في الحراسة بقليل، ودارت الدائرة على أقرب الجند إليه، وإذ كان باقوم أحد هؤلاء الأقربين في نظر الثوار فقد كان أوشك أن يذهب ضحية هذه الأوهام لولا أنه اختبأ، وفر قبل أن يكشفوا مكمنه.
فر إلى الإسكندرية، وهناك عاد إلى صنعته الأولى فكان بناء ثم كان متعهد بناء، ومن ثم اتصل ببناة الكنائس والبيع ومنهم أنستاسيوس بطريق اليعاقبة الذي عهد إليه في بناء الكنيسة التي كان ذاهبا إلى الحبشة بالأدوات اللازمة لإقامتها.
وعاد الوفد به إلى مكة وأروه الكعبة التي يريدون هدمها بعد ما تصدعت، وبناءها من جديد. وطلبوا إليه أن يدبرهم في أمرها، ويستقدم لهم بناء من مصر مع الخشب الذي سيرسل في طلبه بدل ما أخذوه منه، وعرضوا عليه أجرا كريما لهذا البناء.
لم يكن باقوم قد أخبرهم من أمره إلا بأنه متعهد أعمال، فلما رأى العرض وجيها، وأن مدة انتظار مجيء سفينة إليه من مصر تكفي لبناء الكعبة أعلن أمره إليهم، واستعداده لبناء الكعبة لهم.
على أن الكعبة لم تكن تتطلب من الرجل في بنائها خبرة ممتازة بالبناء، ولا فنا دقيقا؛ لأنها لم تكن إلا بيتا من غرفة واحدة أبعادها عشرة أمتار في عشرة تقريبا، ولعل أصعب ما كان فيها هو تعريش كل تلك المساحة بسقف من الخشب، ولذلك استأذنهم في أن يقيم في باحتها أعمدة ستة تحمل السقف. فلما وافقوا على بناء الأعمدة، وحدد يوما للشروع في البناء أهدوا ونحروا، ودعوا وصلوا، ورتبوا للخدمة فيها أبناء قريش الأكرمين؛ إذ هم أحق بهذا الشرف من سائر قبائل العرب، ولذلك كنت ترى بينهم من بني هاشم أصحاب السقاية: أبا طالب والعباس وحمزة ومحمدا
صلى الله عليه وسلم
وبني أعمامه، ومن بني أمية أصحاب الراية: أبا سفيان بن حرب وأولاده، ومن بني نوفل أصحاب الرفادة: الحارث بن عامر وأهل بيته، ومن بني عبد الدار أصحاب السدانة والحجابة ودار الندوة: عثمان بن طلحة وعشيرته، ومن بني أسد يزيد بن زمعة بن الأسود صاحب رياسة الشورى، ومن بني تيم أصحاب الأشناق والديات والمغارم: أبا بكر الصديق - عليه الرضوان - وعبد الله بن جدعان، ومن بني مخزوم أصحاب القبة والأعنة: الوليد بن ربيعة وابنه خالد وعمرو بن هشام (أبا جهل) ومن بني عدي أصحاب السفارة: الخطاب وابنه عمر وسعيد بن زيد بن نفيل، ومن جمح أصحاب الأزلام والقداح: صفوان بن أمية وإخوته، ومن بني سهم ولاة الأموال المحجرة لآلهة قريش: الحارث بن قيس وعشيرته.
فلما بلغ البناء قامة الرجل وأرادوا وضع الحجر الأسود في الركن الشرقي من الكعبة كما كان اختلفت قريش فيمن يكون له هذا الشرف الأعظم
4
برفعه ووضعه بمكانه لتعنو الجباه عنده لرب الكعبة، وادعى كل فريق أنه أحق بهذا الشرف من سواه فاحتدم الجدل واللجاج، وتنافرت القلوب التي كانت مجتمعة على بيت الله، وظل الجدل خمس ليال بيت كل قبيلة مناهضه وقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما، ثم تعاقدوا هم وبنو عدي وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم، ثم اجتمعوا في المسجد الحرام للفصل فيما اختلفوا فيه بحد السيف، ولكن الله ألهمهم الصواب فإنهم ما كادوا يهمون بالشر حتى رئي أسن قريش يومئذ أبو أمية حذيفة بن المغيرة يعتلي كومة مما كان هناك من الأنقاض وينادي في القوم: «يا معشر قريش كلكم في السؤدد سواء، والغالب منكم في هذا اللجاج مغلوب. ثوبوا إلى أنفسكم، ودعوا الفصل فيما اختلفتم فيه لأول قرشي يدخل علينا من باب الصفا؛ فإما رفعه هو بيديه، أو قضى لنا بمن يرفعه، ولا تعقيب لحكمه».
فلما سمعت قريش هذا الرأي قبله البعض حقنا للدماء، وعقب سائر الجمع بالرضاء، وعلى ذلك اتجهوا بأنظارهم نحو باب الصفا ليروا أول قادم؛ فإذا نور ينبعث من مدخل الباب يتقدم صاحبه كأنه نور القمر يسبق مطلعه، وإذا محمد بن عبد الله يشق فضاءه، ويطلع عليهم من ذلك الباب. فلما شامته العين الشاخصة سرت بمرآه، وصاحت ألوف الأفواه من فرحها بأنه هو القادم تقول: الأمين! الأمين! إذ هكذا كان يدعى في قريش. ادن منا أيها الأمين واحكم بيننا. ثم خبروه خبرهم وما اتفقوا عليه. قال: «لا بأس عليكم. هلموا إلي بثوب» فأتي به فأخذ الحجر الأسود فوضعه فيه، ثم قال: «لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوه جميعا» ففعلوا. فلما بلغوا به موضعه وضعه بيده في مكانه، وبنى عليه بين تهليل الناس فرحا وثنائهم على الأمين، وكأنهم بأصوات عالية تعلو أصوات التهليل تتجاوب من حول المطاف في جهاته الأربع يلقي بها أربعة رجال بعضهم تلو بعضه، وهم يقولون: الله أكبر. الله أكبر. مكررين! يا معشر قريش، ويا أبناء إبراهيم جميعا، ليكن هذا اليوم فاصلا بين أمسكم وغدكم طهروا هذا البيت مما طهره منه إبراهيم من قبل، واعبدوا الله وحده لا تشركوا به أحدا، وكسروا هذه الأصنام الصماء التي تعدون هذا البيت؛ ليتحملها فقد كسرها قبلكم أبوكم إبراهيم.
5
يا معشر قريش، لقد أظلكم زمان يظهر فيه نبي من أنفسكم ورد ذكره في التوراة والإنجيل، وله علامات ومخائل، ولقد قضينا ما قضينا نتفحص الناس، ونستهدي الأحبار والرهبان حتى عينوه باسمه وأرومته فعرفناه، واطمأنت إليه نفوسنا، وقد جئنا نشهدكم علينا قبل مبعثه بخمس سنين
6
أننا به مؤمنون وبدعوته مقرون. فلا ندري أنحيا حتى نلقاه ونشد أزره أم يقبضنا الله إليه في الصديقين. يا معشر قريش، ستكون لكم به الدنيا فارقبوه، وستكون لكم الآخرة فاتبعوه. انظروا فيما حولكم وتأملوا: إن الذي وضع لكم الحجر بيديه هو نبي هذه الأمة وهاديها إلى الصراط المستقيم. ذلك هو محمد بن عبد الله الأمين.
وكان الناس قد التفتوا يتعرفون القائلين فإذا هم شيوخ أولو وقار وكرامة في قريش زيد بن عمرو بن نفيل،
7
وورقة بن نوفل،
8
وعثمان بن الحارث،
9
وعبيد بن جحش،
10
وكانوا معروفين في مكة وبلاد العرب بأجمعها بأنهم أعيان الحنفاء
11
الذين يدينون بدين أبيهم إبراهيم خالصا من عبادة الأوثان، ويحرمون على أنفسهم الخمر والميسر والنصاب والأزلام، ويفتدون الموءودة، ويدعون إلى عبادة الواحد الأحد القهار.
ولكن القوم كانوا لاهين بما هم فيه مغتبطين بأن يعبدوا آلهتهم حيث كانت من الكعبة، وإن كان لهم أن يغيروا دينهم فلن يكونوا هم البادئين إنما عليهم أن يثبتوا على دينهم ويجاهدوا في سبيله غير متسائلين، ويسفهوا كل ما عداه بغير نظر ولا بحث، ولذلك صموا عن هذا النداء، بل انبرى بعضهم بزعامة الخطاب أبي عمر الفاروق يسبون هؤلاء الشيوخ الأجلاء، ويطعنون عليهم بكل لسان ويرمونهم الأحجار، وما زالوا بهم يرجمونهم ويطاردونهم جزاء سبهم آلهتهم، حتى أخرجوهم إلى ما وراء مكة في طريق غار حراء، وكان قد أصاب الإعياء كبيرهم زيد بن عمرو بن نفيل، وبرحت به جراح الرجم، فقضي في ذمة ربه من ذلك اليوم، وكان الأمين
صلى الله عليه وسلم
عاد إلى بيته في شعب بني عامر يتعجب لما روى عنه الشيوخ الأجلاء، وكانوا أعلم من في قريش بما في كتب الله، يقص على أهله ما رأى وما سمع.
وإذ أتم باقوم بناء الكعبة وكان قد تعرف إلى أهل الفن من الصناع بمكة، وعرف من بينهم أبا ورقة صليحا، وتوثقت بينهما الصداقة بالمحبة والإخاء، فقد نصح لقريش أن يصنع لهم نجر البيت الكريم، وأثبت لهم اقتداره في ذلك بما صنعه من قبل، وإذ كانوا يعرفونه ويعرفون دقة صنعه، وكان أبو الوليد بن المغيرة ، مستقدمه إلى مكة صاحب الرأي الأعلى في شئون البناء شهد له بالنبوغ، عهدوا إليه في تسقيف الكعبة وصنع بابها
11
فأقام السقف على أحسن وضع، وصقله بذوب من الشمع، وصنع بابها على نحو ما كان يصنع في مصر، فطربت قريش لصنعه، وجزته على ذلك جزاء كريما.
ولكنه ما حمل أدوات العمل بعد انتهائه وعاد إلى منزله حتى ملكته حمى شديدة من أثر ما خلفته السيول، ومرض بضعة أيام، ثم قضى نحبه تاركا ورقة وأمه في كنف الله.
حزن بنو عبد المطلب ونوفل لما أصاب العفيفة في زوجها، وتباروا في مؤاساتها، وبالغت سيدتها في تعزيتها، وكانت تود أن تنقلها إلى دارها لولا أن باقوم كان قد مرض هو أيضا ولجأ إلى دار صديقه صليح، ومات صليح وباقوم في منزله يفيق وينتكس، والعفيفة وابنها يقومان بخدمته في مرضه حتى شفاه الله، ولكنه كان هزيلا فبقي في رعايتها بضعة أشهر حتى أبل، وإذ ذاك لم يجد من المروءة أن يرحل عن البيت بعدما دخله وهو عامر، وأخذته شفقة على الغلام وأمه، ففكر في أن يقضي أيامه الباقية في مكة؛ ليكون أبا للغلام يرعاه كما كان يرعاه أبوه، وإذ كان الرجل أعزب فقد خطر له أن يبني بالعفيفة إذا رضيت به بعلا ليعيشوا كلهم معا، واستأذن سيدتها في ذلك، فأذنت وباركت هذا الزواج.
ظل ورقة منذ ذلك الحين إلى أن بلغ من العمر ست عشرة سنة في كنف باقوم، وباقوم يتولى بناء دور السراة في مكة وغير مكة من بلاد الحجاز، وكان يود أن يعلم الغلام صنعة البناء، ولكنه وجده يصلح لما هو أفضل من هذا وأعود عليه بالخير. فأخذ يعده لما توسمه فيه، وكان لا يفارق الغلام لحبه له، وإذ لم يكن يحسن العربية فقد تعلم ورقة منه الرومية وقراءتها، وصار لا يكلمه في خصائصه إلا بها، وتزكى بما كان يقصه عليه باقوم من أخبار مصر ونيلها العجيب، والإسكندرية وما فيها من الدور والقصور والكنائس والمدارس، وبلاد الشام والروم وما جرى فيها من الأحداث ، وكيف أنهم إنما غضبوا على إمبراطورهم موريقس الطيب، وانحازوا إلى قاتله فوقاس بدعوى أنه أذل الروم بدفع جزية لبرابرة من الشرق يعرفون بالتركمان.
12
وكان إذا عاد إلى مكة في انتظار عمل جديد يخرج بالفتى إلى ما وراء الدور؛ ليعلمه الرماية والمسايفة على نحو ما كان يقاتل وهو جندي، ويقول له: إنك لا شيء ما لم تحسنهما، والولد يزداد كل يوم تعلقا به، وهياما بالبلاد التي كان يصفها، وباقوم يعده أن يسافر به إلى الإسكندرية ليريه الدنيا وأنواع الحياة، إلى أن كانا ذات يوم يسيران في بعض شعاب مكة عائدين إلى دارهما، وبعير شارد يرقل بجوارهما وعثر وانحل تحت خفه حجر صغير تلاه حجر كبير نال قدم باقوم فهشمها وانحدر وكاد يقضي عليه، وسرعان ما حمله ورقة إلى داره، ثم ارتد من فوره إلى بيت سيده ورقة بن نوفل؛ ليخبره خبره، ويستفتيه فيما يعمل لأبيه هذا وصديقه المحبوب.
الفصل العاشر
الحارث بن كلدة الثقفي
كان الحارث بن كلدة الثقفي أشهر أطباء العرب يومئذ، ملأ صيته العراقين واليمن وما بينهما،
1
وجاوزها إلى مدائن كسرى والإسكندرية، وكثيرا ما دعاه عواهل تلك الأقطار؛ لتطبيبهم مما كان يعجز عنه حذاقهم على أنه كان بفطرته نزاعا إلى النقل، شديد السأم من الإقامة مدة طويلة بمكان واحد، فما أن ينزل بناحية حتى يعاجله التفكير في الرحلة إلى ناحية أخرى في طلب العلم والصحة، والأنس بالأصدقاء والخلان، وما كان يجيء إلى مكة إلا ليزور قبر امرأته الوهبية أم أولاده: النضر الطبيب وقتيلة الشاعرة،
2
وأولاد أختها الكبرى، وليتفقد أحوالهم، وينفحهم بهداياه الغالية، وشيء من فيض ماله الكثير. من هناك يرحل إلى اليمن مارا بنجران فيقضي بها شطرا من العام في زيارة صديقه أبي الحارث الأسقف الوقور، وبقية من أقارب بني الحارث ظلوا في ربوعها بعد انتقال دولتهم إلى بني الديان، ومن هناك يرحل إلى صعدة وصنعاء؛ ليجتمع فيها بأحبار اليهود وعلمائهم الذين كانوا أول من أخذ العلم بالطب عنهم، ومن هناك يكر عائدا إلى مكة، ليرحل منها إلى الحيرة ، ومدائن كسرى ودمشق والقدس والإسكندرية، وهكذا دواليك.
ولكنه كان في سنواته الأخيرة يطيل مكثه في الإسكندرية على غير عادته، وإذا جاء إلى مكة لم يذهب بعدها إلا إلى اليمن متعجلا، ومنها يعود بطريق البحر إلى عيذاب في سواحل مصر، ومنها إلى قفط وقوص، ثم ينحدر مع النيل إلى منف والإسكندرية. ذلك لأنه كان قد اتصل فيها بالعالم قوزمان الطبيب وتزوج ابنته هرميون، وأعقب منها ابنة سماها لمياء اجتمعت فيها محاسن العرب والروم من الخلق والخلق معا، وتكشفت يوما بعد يوم عن زهرة فاتنة لكل من رآها، فكانت متعة أبيها، ونجعة قلبه، وقرة عينه، حتى لم يعد يفكر في مكة ولا من له فيها من البنين والبنات. وكان كلما أرسل إليه ولده النضر رسالة شوق وعتاب، أرسل إليه يعتذر بكثرة مشاغله، وما كانت مشاغله إلا بفاتنته لمياء الصغيرة.
على أنه كان في مكة يوم أصيب باقوم في قدمه. ذلك لأنه لم يشأ أن يبقى في الإسكندرية بعد ما تراكمت عليه أسباب الذعر مما يحيق بها؛ وألفى نفسه وامرأته وابنته في أنياب العطب غير مرة.
كان فيها يوم ورد إليها نبأ ثورة رهيبة قام بها في بيزنطة جندي سوقي مشوه الخلقة يدعى فوقاس أفسد الجيش بأكاذيبه ووعوده، وتمكن بذلك من قتل الإمبراطور الطيب الخير موريقوس، وقتل كل أولاده وبناته وأمراء بيته واعتلاء العرش مكانه،
3
وكذلك في سنة 909 يوم جاء النبأ بأن هرقل ابن أمير أفريقية (تونس) - وكان قد غضب لهذه الجريمة - دعي إلى القسطنطينية لطرد الإمبراطور المغتصب فوقاس، فخرج بجيشين؛ أحدهما: سار به في البحر إلى بيزنطة؛ ليطرد منها هذا الإمبراطور المغتصب المكروه، والثاني: سار به بالبر بقيادة صديقه نيقتاس مارا بطرابلس وبرقة قاصدا الإسكندرية، وكانت عاصمة الإمبراطورية الثانية؛ ليستولي عليها، ويطرد الوالي الفوقاسي منها، وكان الحارث يود أن يغادرها لولا أن امرأته كانت مريضة. فلما أبلت كان نيقتاس قد حاصرها فأقفلت أبوابها، وأصبحت جميع الطرق غير آمنة، بل انتشرت عصابات اللصوص وقطاع الطرق في جميع نواحي القطر، حتى أصبح البقاء في الحصاد آمن وأكرم.
4
فلما انتهى الحصار بانتصار نيقتاس ولاح الأمن كأنما استتب في الديار عزم على الرحيل بزوجته وابنته إلى مكة من طريق الصحراء، ولكنه علم أن الإمبراطور فوقاس أرسل أمير الشرق بونوسوس أغلظ قواده كبدا وأسلفهم نفسا؛ ليسترد الإسكندرية من نيقتاس، وليعفي أثر حي اليعاقبة خاصة من الإسكندرية، وهو حي رقوده، وذلك انتقاما منهم لقتلهم تيودور بطريق الروم، ولفرحهم بزوال دولته من مصر، وأن بونوسوس هذا قد نشر جيوشه في العامرة والغامرة، وأباح لمناسر اللصوص أن يسرقوا ويقتلوا ويفضحوا الأعراض. فآثر الحارث ويل الحصار وانتظار العاقبة على أن يغامر بنفسه وزوجته وابنته في طريق الصحراء وغير الصحراء، والحال على ما علم، وبقي في الإسكندرية على مضض شديد إلى أن اضطر بونوسوس إلى ترك الحصاد والعودة على عجل إلى أنطاكية مقر إمارته في الشام قبل أن يقطع عليه الطريق. فقد بلغه أن كسرى أبرويز بلغ بجيوشه أرمينية وحدود الشام؛ ليأخذ بثأر الإمبراطور موريقوس الذي قتله فوقاس، وكان لموريقوس على أبرويز فضلان؛ الأول: أنه رده إلى عرش فارس لما اغتصبه منه وزيره بهرام
5
والثاني: أنه أكرمه فزوجه من ابنته مارية ابتغاء حقن دماء شعبين عظيمين لم يهدأ لهما سيف في قراب منذ كانا متجاورين.
عندئذ أراد الحارث أن يرحل عن الإسكندرية ذات الثورات والبلايا، ويعود إلى البلاد التي جعل الله بينها وبين مطامع الشعوب فلاة لا مطمع فيها لطامع، فعاشت لقاحا لا يملكها مالك. ولكنه لم يستطع أن يحمل زوجته على قبول السفر، حتى رأى قوزمان نفسه والد امرأته أن من الخير لهم أن يبعدوا عن مصر كلها، ولكنه نصح لهم أن يأخذوا طريق النيل إلى قفط، ومنها بالجمال إلى عيذاب على شاطئ البحر؛ لينتقلوا في سفينة إلى جدة فمكة، وكتب بذلك إلى أصدقائه في مصر العليا فسهلوا نقلة الحارث وكذلك كان، واستطاع أن يبلغ مكة دار الأمن والسلام، ويسري عن نفسه سحابة الذعر الذي تملكه أربعة عشر عاما في الإسكندرية، ولما جاء ورقة يخبر سيده ابن نوفل بما نزل بعمه باقوم نهض ابن نوفل من فوره إلى دار الحارث، ورجا منه أن يسير معه إلى باقوم، وأخبره خبره. فنهض الحارث، واحتمل ورقة حقيبة أدواته ولوازمه، وسارا إلى حيث رقد باقوم.
فحص الحارث عما أصاب باقوم فوجد أن مشط القدم قد تهشمت عظامه، ولا يجدي فيها تجبير ولا مروخ، وأنه إن تركها على أمل أن تلتئم ويزول ما تحدثه من الألم فلن ينتفع بها. على أنه كان يرجح أن يصيبها العفن ويمتد وراءها ويموت الرجل، ولذلك أشار ببتر هذا الجزء المهشم على الفور قبل أن يسري القيح منه إلى سائر البدن.
لم يكن لأحد بعد هذا الإيضاح أن يتردد في النزول على رأي الحارث، ومن ذا الذي كان يشك في صواب حكمه، وهو أشهر طبيب في الجزيرة العربية بأجمعها، ولذلك أقره ابن نوفل وباقوم نفسه، ورضي بقضاء الله، ورجا من الطبيب أن يشرع في بتره على الفور، وقال: إنه يرغب أن يعيش من أجل تماضر وولدها ورقة الذي يحبه حبا شديدا، ويخشى عليه نكبات الأيام. ثم مد رجله مستسلما، وأغمض عينيه حتى لا يرى دموعا كانت تتراءى بها عيون تماضر وورقة وسيده ابن نوفل نفسه.
استعد الحارث لعمله فأخرج مشرطه من جرابه وغسله وأحرقه، ثم طلب إلى نوفل وورقة أن يمسكا بساق الرجل وأعلى قدمه حتى لا تتحرك تحت المشرط، ففعلا، وشرع الحارث في عمله فجرح وقطع، وهم جميعا معجبون بتجلد الرجل وصبره؛ لأنه لم يصرخ إلا مرة وسكت. على أنه كان قد أغمي عليه من شدة الألم ولم يفق إلا وقد ضمد الجرح، وأزالت تماضر آثار الدماء من الغرفة وأعادتها كما كانت.
الحارث يبتر أصابع باقوم.
أفاق باقوم من غشيته شيئا فشيئا، فهنأه الجمع بسلامته، وإذ علم أنه لم يبق شيء شكر للحارث فضله، ولمولاه بره، وإذ انحنى ورقة عليه يسأله عن حاله تناوله فقبله ودعا لامرأته بكل خير.
ارتاح الحارث لما رأى من همة الرجل وشكره وأحبه، وأخذ يتردد عليه كل يوم ليراقب حالة الجرح حتى التأم، ونجا باقوم من موت كان محققا، ولكنه لم يعد صالحا لاعتلاء النصب للبناء. فعول على أن يتاجر في مواد العمارة يستقدمها من مصر، ويستعمل ورقة في هذا العمل ليخلفه فيه، وكان قراره هذا مريحا لقلبه، مهونا عليه ما أصابه في قدمه.
كثر التقاء ابن نوفل بالحارث بعد ذلك إذ كان هذا الحادث سببا في تجديد مودتهما القديمة، وإحياء ذكريات ماضية، وأنس كل منهما بصاحبه، وكان ورقة ابن العفيفة يصحب ابن نوفل في كل اجتماع لهما، ويحضر مجالسهما مع الأبناء. بل كان إذا عاقه عائق عن الحضور معه افتقده الحارث وتساءل عنه وأرسل في طلبه، وابن نوفل فخور به؛ لأنه أستاذه، والحارث معجب به؛ لأنه وجده غلاما فرها حسن الطلعة، شديد الذكاء، ولأنه خبره في أمور كثيرة فوجده صائب الرأي يحسن أداء ما كان يعهد إليه من المهام. ذلك بأنه كان إذا غم عليه الأمر لم يتركه ليستفتي صاحبه، بل كان يمضي فيه برأي من عنده يكون فيه الصواب والسداد.
وإذ كان الحارث قد انتوى في نفسه الرحيل إلى اليمن أخذ يحبب إلى زوجته هذه البلاد السعيدة، ويذكر لها وللمياء ما فيها من الخيرات والبساتين والقصور والميادين، حتى حنت نفسهما مثله إلى النقلة إليها، ولا سيما لأنهما كانتا قد بلغتا مكة في الربيع، وأخذتا تتذوقان حرارة السموم التي تتقدم الصيف، ولذلك أبدت هرميون استعدادها للسفر على الفور التماسا لطيب الهواء في غياض صنعاء ورياضها، ولكن الحارث لم يكن يملك ذلك على شدة رغبته فيه؛ إذ كان معتزما أن يزف ابنته «قتيلة» إلى ابن عم لها في الطائف، وكان لا بد له من المكث في مكة شهرا لإتمام هذا الغرض.
في ذلك الشهر أخذ يفكر في مشاق السفر، ولا سيما بعد ما أصبح عليه أن يرعى في حموله زوجة وابنة، ورأى أنه لم يعد يستطيع أن يأخذ ابنه النضر ليعينه على عمله في التطبيب إذا عالج، وفي التحصيل إذا درس ويهون عليه مشقة النقل؛ لأن النضر كان قد تزوج وأعقب، ولذلك نزعت نفسه إلى ضم ورقة بن العفيفة إليه لما رأى فيه من الرجولة والذكاء، ولأنه كان فوق هذا يعرف الرومية عن باقوم فهو لهذا أصلح الناس، إذ يكون كذلك عونا لامرأته على التفاهم مع الناس، وجلب حاجتها من الأسواق، ولكنه وجد أمامه عقبتين؛ أولاهما: أن أبويه في حاجة إليه، وثانيتهما: أن ابن نوفل يستعين به في شئونه ودرسه، ويكرم أهله من أجل ذلك. فأخذه - إذا تيسر - يضر بابن نوفل وأهل ورقة معا. كما أنه كان يعلم أن ابن نوفل بلا عقب، وأنه يحب الغلام ويكرمه بعاطفة أبوة لا يكبحها فيه إلا الوقار. فإذا هو طلب الغلام إليه، فإما أن يعتذر بحاجته إليه فيخجله، وإذا سمح له به كان هذا تورطا منه في إجابته رجاء للحارث فيكون كالمغتصب، ولذلك آثر ألا يكلمه في هذا الشأن، وأخذ يفكر في سواه.
على أن ابن نوفل كان في الحقيقة يشتهي لو تيسر للفتى سبيل الحياة بما هو أحسن وأمثل، ولا يرى خيرا له وهو يعرف القراءة والكتابة بالعربية والرومية في بلد قلما وجد فيه من يعرف أن يخط حرفا أو يعرف غير لغة الحديث، إلا أن يلحق بالحارث الطبيب الذي نبغ في بلاد العربية كشجرة مورقة؛ ليتعلم عليه ويأخذ عنه، ولكنه استحيا أن يفاتحه في الأمر؛ لأنه كان يعلم أن الحارث كثير الأسفار وفي تنقل ورقة معه كبر نفقة، ولذلك آثر ألا يكلمه هو أيضا.
ولكن حدث ذات يوم أن جرى ذكر ورقة في غيبته، وكانت نفس الحارث مأزومة بحيرتها ومشتغلة برغبتها في أن يكون ورقة معه. فقال الحارث لابن نوفل: ولدك هذا يا ابن نوفل على تمام الاستعداد بفطرته، ولقد أصبح لمعرفته القراءة والكتابة بالعربية مهيأ للعلم والعلا لو وجد المعلم البار.
فانتهز ابن نوفل فرصة عطفه وتقدير للفتى وأجابه: هل في بلاد العرب من هو خير منك معلما أو أبر أبا! ولكني أشفقت أن يثقل عليك، فإن رأيت أن تسبغ عليه فضلك فهو ولدك وولدي معا، وعلي تدبير أمر أبويه إن شئت به خيرا، وهو حقك يستحقه: فخذه وعلمه علم العقاقير، وعرفه خواصها، ودله على منابتها ومظانها، فلعله إذا بلغ سن الفتوة مستطيع أن يتجر فيها في مكة، أو يكون طبيبا ينفع الناس بطبه.
ولشد ما كان فرح الحارث لهذا الغرض وارتياحه إذ لم يكن هو البادئ به، وإن لم يكن فيه إجازة بأخذه معه حيث ينتقل، ولكن الحارث ترك هذا إلى ما بعد وأمل خيرا فأجاب سؤل ابن نوفل من فوره شاكرا، وأبدى أنه لا يجد في أخذ الغلام كلفة؛ لأنه سينتفع به بقدر انتفاع الغلام منه، وهون الأمر على أبوي ورقة أن الحارث كان يوم عودته إلى مكة قد ذكر لسيدة قريش أنه لن يرحل عنها وعرفت العفيفة وباقوم ذلك، فكان سرورهما بما جرى الاتفاق عليه عظيما.
بقي الغلام يتردد كل يوم على بيت الحارث تردد التلميذ على معهد العلم، ثم يعود إلى أبويه في المساء، وظل يرافقه في زياراته وعياداته، ويشتغل معه في بيته وغير بيته بإعداد العقاقير لمختلف الأدواء، وكانا إذا وجدا بينها نوعا ناقصا خرجا إلى أودية مكة ومرابضها؛ ليبحثا عنه بين عشبها، ويأتيا به، أو يكتبا في طلبه من منابته، وقد يتغيبان عن مكة ليلة أو ليالي في سبيل ذلك، حتى ضري أبواه بغيابه، وهما سعيدان بما كان يحدثهما الفتى عن سعادته في حياته الجديدة، إذ كان محل الرعاية من أستاذه والمحبة من امرأته هرميون وابنته لمياء؛ لأنه كان لسانهما الذي تكلمان به الناس، وعينهما وأذنهما اللتين تريان بهما وتسمعان؛ إذ لم تكن هرميون تعرف من العربية إلا ألفاظا قليلة لا تنفع، ولم يزد علم لمياء وهي عربية الأب عن بعض جمل لا تسعف، ولذلك لم تكونا لتملكا صبرا على غيبته عنهما ساعة واحدة ولو كان في عمله. على أن ورقة كان صبيا صبوح الوجه سعيد الطالع، يقبل على سائله بأدب ومحبة ورغبة في إرضائه من غير ما تكلف لذلك، بل نضوجا عن بر، وشعورا بمسرة في أن ينفع الناس، وكان على هذا عف اليد والعين والضمير. فلم تملك هرميون ولا لمياء إلا الشكر لله عليه؛ واختصاصه برعايتهما، ومحبتهما اختصاص الابن البار والأخ الرحيم، ولم تكن لمياء لتكتم تعلقها به؛ لأنه كان سلوتها الوحيدة في معشر كان كل من يزورها من بناته ونسائه يضحك من لحنها في النطق، وعجزها عن أداء المراد، وينصرفن عنها للزراية بها في بيوتهن مدفوعات إلى ذلك بعاطفة حسد لها وغيرة منها؛ لما خصها الله به من نعمة الجمال، ورقي الحسن، وما ميزها به من الثقافة ودماثة الخلق، ولما اكتسبته في الإسكندرية من خصائص الحضارة في ملبسها ومظهرها، وإن لم تزد يومئذ على الثالثة عشرة من عمرها، وكان بر هرميون بورقة يزيد في تعلق لمياء، وتعلق لمياء به يزيد في حب هرميون، وحبهما معا ينضح على الحارث فيزيد في إكرام ورقة وتألفه، وكانتا تقولان للحارث: إنه لمن نعم الله عليهما أن تجدا في مكة من يكلمهما بلغتهما الرومية، ويؤنس وحشتهما في بلد لا تدريان كيف استطاع الإنسان أن يستعمرها، وهي قطعة من واد غير ذي زرع،
6
لم يخلق الله فيه ماء
7
ولم يرد أن يرسل عليه سماء، وأنه لولا البيت الكريم، لم يكن يصلح إلا مدفنا لمن يهلكه السفر في القوافل.
وكان الحارث يضحك لحديث امرأته مداريا هواجس نفسه من أن ينقلب تعجبها كرها لمكة وإصرارا على مغادرتها هي والبلاد التي لم تجد فيها أنيسا إلا الصبي ورقة؛ لتعود به إلى الإسكندرية بلد الثورات والدماء، ولذلك كان يرى لورقة عليه فضلا أكبر في أنها لم تكن حين تذم مكة تذكر له الإسكندرية أو النيل، ولا ما في مصر من الخصب والنماء، وطيب الهواء وعذوبة الماء، ولكن كان يعكر عليه صفوه من ذلك ولده النضر. فإنه لم يكن راضيا عما يلقى الغلام من الرعاية في بيت أبيه وكان يحادثه في ذلك لائما، وإذا لقي ورقة لقيه متجهما، وإن لم يجد في سلوكه ما يعاب، وإذا وجده سائرا في حاجة لسيدته الرومية نبهه إلى التزام عمله في العقاقير ورده عن أداء هذه الحاجة، ثم انصرف إلى امرأة أبيه ينبهها إلى خطأ ما تفعل، ويطلب إليها الإقلاع عن ذلك، حتى أصبحت هرميون تكره رؤيته، وتود لو تملك أن تفارقه، ولكنها كانت تخشى إذا هي أيقظت في نفس زوجها الرغبة في النقلة إلى اليمن كما حدثها أن يأخذ ابن نوفل ولده، أو ترى سيدة قريش أن أمه أحق به، وفي ذلك شقاؤها هي وابنتها، ولذلك لم تعد تطالب الحارث بشيء مما وعدها من بساتين اليمن، ولا قصورها ومياهها، ورضيت أن تعيش في أجدب بقاع الله حتى ترى لها رأيا، أو تتبدل الأمور من تلقاء نفسها فتواتيها بما هو خير.
استمر الأمر على هذا الحال شهرين أو يزيدان زفت فيهما قتيلة ابنة الحارث إل زوجها في الطائف، وذهبت هرميون ولمياء فيمن ذهب معها لشهود حفلة العرس. فأعجبت هرميون بالطائف أيما إعجاب، ودهشت إذ رأتها في صحراء العرب بلدا أشبه بغياض الشام وقرى جباله في زرعه وضرعه، وعيونه وبساتينه، بل وفي برده وثلوجه على ما روى لها الناس من أمرها ليلتئذ، وعجبت لزوجها وهو ثقفي من أهل الطائف وأعيان أهلها كيف لا يجعلها مستقرا له، ويؤثر عليها مكة الجرداء. ولم تستطع أن تخفي دهشتها عن زوجها لما عادت إلى مكة؛ لأنه لم يذهب معهما إلى الطائف، ولا عجبهما من أنه لم يذكرها لها من قبل على حقيقتها، يوم كان يغريها بترك الدنيا في مصر والمجيء معه إلى الصحراء. فقال لها مازحا: إنه لا يجب المبالغة ولا الفخر بمسقط رأسه مثلها، وأنه اكتفى من الأمر بما ذكره لها النضر عنها وأهل النضر. قالت: إنك لتعلم أني لم أعد أصدق حديث أحد في هذه البلاد بعد ما رأيت من مبالغاتهم وأخذهم باليقين فيما يجدون شبهة للحق فيه، ولقد كنت تقول لي عن هذه البلاد أشياء ظهر ... فضحك الحارث ولم يدعها الحارث تتم جملتها لما يعرف فيها، وقبلها شاكرا فضلها في رضائها بالمجيء معه إلى بلاده، وأبدى لها أنه ما كان يستطيع أن يتركها في بلاد لم يهدأ السيف فيها في قرابه يوما، ولم تنقطع الحرائق منها، وما كان يقوى على أن يعيش بعيدا عنها، ولو في الجنة، ولكن الواقع من أمر سكوته عن الحديث عن الطائف أنه كان قد غاضب إخوته وأهله فيها وهو فتى، فأقسم لينزحن عنها مفارقا ويهجرها هجر الغريب عنها، حتى لا يعود إلى عشرتهم ولا إلى الاجتماع بهم. فباع كل ما كان له فيها، واتخذ مكة مستقرا لولده، وكان هذا سببا في أنه لم يذهب مع الذاهبين بابنته إلى الطائف. ولم يضره هذا القسم؛ لأنه كان قلما يبقى في مكة حين يأتي إليها إلا أشهرا، ثم يرحل إلى بلاد الحضارة التي أنسته الطائف وغير الطائف.
ولم تكن هرميون لترى صوابا أن تطلب إليه النقلة إلى الطائف لا لأنه مقسم بل لأنها كانت تخشى ما خشيته من قبل من الوحدة فيها. بقعود ورقة عن الانتقال معهم، وقد أصبح من ضرورات حياتها. فقد كانت الطائف على مرحلة من مكة، فهي دار غربة للصبيان. فلم تفاتحه في ذلك، ولكن الحارث عرف ما وراء هذه السكتة فجاءها ذات يوم يقول: لعلك يا هرميون كنت تودين النقلة إلى الطائف لولا ما علمت من قسمي. قالت: لا وربي بل لأني إذا انتقلت إليها فسأكون فيها وحيدة أنا وابنتي. أما قسمك فقد بررت به ثلاثين عاما، وحسب آلهتك منك هذا. قال الحارث: لا وحقك ما عنتني آلهتي بشيء وإنما عنتني نفسي. أقسمت أي عزمت وعاهدت نفسي. فإذا أنا حنثت فقد ذللت واتضعت. بيد أن ليس لي إلا إله واحد يا هرميون، هو رب إبراهيم، ذو المجد والعلا، ولكني أعلنك بخبر تسرين له كل السرور. نادي لمياء لتسمعه. فلما جاءت قال لهما: لقد رأيتكما أغرمتما بما رأيتما في الطائف من ثلوج تذوب، وأنهار تجري، وبساتين وغياض، وفاكهة وأعناب، وثمرات ورياض. قالتا: أجل إنها والله لجنة، أما مكة ... قال: وفي ظني أن ليس لكما في الطائف بعينها مأرب خاص. قالت هرميون: كيف يكون لنا مأرب فيها، ونحن لم نعرفها إلا منذ حملنا ولدك إليها. قال: إن على مسافة ساعتين من مكة قرية ألطف من الطائف هواء، وأكثر غياضا. جنة صغيرة فيها ما تشتهيان وما لا تؤملان أن تجداه في صحراء العرب. جنة فوق جبل يكاد ينطح السحب. تلك هي قرية الهدى فوق جبال كرا التي تريانها من هنا. بيد أن الثلج يدوم على شعافها نصف العام، وهي بلدة يجتمع فيها أحيانا بعض عباد اللات والعزى، ينحرون ويتقربون، ولقد اتفقت مع سيدة قريش وابن عمها على أن يصحبنا إليها ورقة، ويكون معي في الحل والترحال، ورضيت العفيفة وزوجها بذلك، على أن يزورهما إذا اكتمل البدر مرة، وإذا هل أخرى؛ ليقضي عندهما ليلة في كل زورة، وأن يمر بهما كلما دعتني الضرورة إلى نزول مكة وصحبني إليها، وهي - كما قلت - قرية يبلغها الراكب المجد في ساعتين. فإذا رضيتما بذلك فليكن الغد يوم النقلة.
لم يكن أطيب من حديث الحارث حديث، ولا أدعى إلى المسرة والرضا، ولذلك تهافتت عليه هرميون ولمياء، فقبلتاه وشكرتاه. ثم نهضتا من فورهما تجمعان الأمتعة، وإذا بورقة يدخل عليهما متهللا؛ لأنه كان مع أبويه ساعة جاء ابن نوفل ليستأذنهما فيما أعلنه به الحارث من عزمه على الاصطياف في قرية هدى، ورغبته في أن ينتقل معهما ورقة، ويذكر لهما ما اشترطه عليه من زيارتهما وأنه (أي ابن نوفل) قد أهدى ورقة فرسا؛ ليحمله بين الهدى ومكة، وأنه نزل على كل هذه الشروط ووعد بأكثر منها.
فلما رأتاه كذلك هللتا، ودعتاه إلى التعجيل بجمع الأمتعة؛ لينصرفا عن هذه النيران التي تتأجج في جحيم هبل في مكة حتى سودت جسمانه. فضحك ورقة لهذا الكلام؛ لأنه كان يعلم أنهما لا تؤمنان بهبل ولا غير هبل، ولكنهما أرادتا المزح معه والتهكم من آلهة قريش، فقد كان هبل في الكعبة، وكان من حجر أسود، ولكن هرميون لم تشأ أن تقر بأنه كذلك، بل إن حر مكة قد أحرقه وسوده، كما تسود النيران أثافي القدور، ولكن ورقة لم ينصرف إلى ما دعتاه إليه، بل ذهب من فوره إلى الحارث فقبل يده شكرا على بره به، فقبله الحارث في جبينه وأثنى عليه، ثم كلفه أن يستعد للنقلة في الغد.
الفصل الحادي عشر
مصيف خالد بن الوليد
كان الوليد بن المغيرة المخزومي من ذوي الثروة الواسعة في مكة، وكان يملك كل ما كان من البساتين فيما بين مكة والطائف،
1
وكان قد سأله ولده خالد أن يقيم له بيتا يصطاف فيه في هدى. فأقامه على جبل تلوح الطائف منه كأنها في بطحاء، وكان صليح أبو ورقة صانع نجره كغيره من بيوت إخوته. ثم أصلح ما جاوره من الأرض وأعدها بستانا لزراعة الخضر وأشجار الفاكهة فيه، وأجرى إليه الماء من عين مهملة كانت تسيل في الوادي ضياعا، وجعل في الدار أحواضا تجتمع فيها المياه؛ لينتفع بها في مصالح الدار، ثم يطلق الزائد منها في البستان.
ولكن خالدا لم يكن يصيف فيه كل عام، ولا إن صاف ليقضي فيه كل الصيف. فكانت زوجته لهذا تؤثر عليه بيتهم في الوادي؛ لأن مطاليب العيش كانت لقربه من سوق مجنة ومدارج التجار والناس أوفر وأيسر، وفي العام الذي عاد فيه الحارث إلى مكة، كان خالد قد ذهب على عادته هو ونفر من فرسان بني مخزوم ولاة القبة والأعنة في قريش - أي زعماء الجيش فيهم - وغيرهم من فتيان بني عدي وأمية إلى مدائن كسرى للنزهة في بلاد العراق، وللوقوف على طرائق الفرس في تنظيم الجيوش وسوقهم إلى ميادين القتال؛ إذ كانوا قد أوغلوا في بلاد الروم فاستولوا على أرمينية، وقصدوا إلى القسطنطينية؛ ليثأروا من عاهلها السفاح فوقاس جزاء قتله موريقوس أبا مارية المحبوبة زوجة سيدهم العظيم كسرى أبرويز حتى لقد تطوع خالد هو وإخوانه من قريش في بعض تلك الغزوات، كما تطوعت الألوف الكثيرة من الحيرة وشمالي يثرب في هذا القتال مسترزقين، وإنما انضم خالد وإخوانه إلى جيش الفرس؛ ليقفوا على طريقة تنظيم القتال. فأبلوا وأحسنوا، وغنموا في الغانمين، وعرفوا الشيء الكثير من فنون الحرب، ولم يعودوا إلى بلادهم حتى اشتد الشتاء في جبال أرمينية وطرسوس.
وإذ كان بيته خاليا في الوقت الذي زف الحارث فيه ابنته إلى ابن عمها في الطائف، حين لامته هرميون على إنزالها في مكة، وجرى ذكر هذا البيت في مجلس له مع الوليد بن المغيرة، فقد رغب إليه أن يستأجره أبد الصيف، أو يبيعه إياه، ولكن الوليد لم يجد إلى ذلك سبيلا؛ لأنه إذ بناه لخالد كان البيت بيته، ولكنه رضي أن يشغله الحارث بلا أجر حتى يرى فيه رأيا.
وقد سر الحارث لحيازة المنزل سرورا بالغا؛ إذ إنه يحقق أمنية الزوجة التي أشقاها بنقلها إلى الصحراء بعدما كانت في الإسكندرية عروس المدائن، وذهب من فوره واتفق مع ابن نوفل في أمر ورقة، وكان ما كان من اغتباط هرميون ولمياء، وإعدادهما حمول الانتقال إلى هدى.
بلغوا هدى ونزلوا البيت وفرشوه على هواهم، وأعدوا لورقة غرفة كانت في جانب البستان. وأخذوا معهم بعض عبيد الدار وجواريها في مكة للخدمة في هدى، وانصرفوا إلى التمتع بالحياة في هذا المعزل المنيف على الجبال والبطاح معا بعيدين عما يكدر الصفو من أهل مكة الساخرين منهم والساخرات واللائمين منهم واللائمات، وهم كل صباح يقضون أحسن الأوقات في بستان الدار؛ يعملون في أرضه، أو يتفيأون ظلال أشجاره، أو يتجولون في جبل هدى ثم يعودون، وخطر لهم مرة أن يذهبوا إلى معبد هناك للعزى؛ ليروا صنما لتلك الآلهة المكرمة عند أهل مكة. فلم يجدوا إلا صخرة كبيرة بارزة من الجبل جزؤها الأعلى كرأس الإنسان، ثم ينحدر على الجانبين متصاغرا حتى يتصل بالجزء الأسفل، وعجبوا للناس كيف سولت لهم أنفسهم أن يعزوا الألوهية إلى مثل تلك الصخور وليس فيها ما يروع ولا يفتن أضعف العقول، ورأوا إلى جانبها شجرة كبيرة، قيل لهم: إنها الشجرة التي تسكنها شيطانة العزى في بعض أيامها يوم تترك سدرتها العليا شمالي مكة، وأنها لا تبدو إلا في بعض الأوقات على صورة امرأة شعثة ذات شعر كثيف يتدلى على الأكتاف
2
ورأوا بجوارها معبدا صغيرا يتولى السدانة فيه أربعة من شياطين الإنس ضريون بأساليب التدليس ومراسيم العبادة المفتعلة التي توارثوها عن أسلافهم في هذه الحرفة الدرارة، ووجدوا حول المعبد مرابد تلقى فيها لحوم الأضاحي من البدن
3
التي كان يأتي بها أصحاب النذور لهذه العزى بين آن وآن؛ ليذبحوها لدن صنمها أو شجرتها إذا برئ مريض، أو عاد غائب، أو ردت مطلقة، أو وضعت أنثى، أو تحققت أمنية من أماني النساء وأشباه النساء من الرجال، وإذ لم يكن في مقدور بطون السدنة أن تواري كل لحوم تلك الجمال كان لا بد لهم أن يتركوا بقيتها في العراء هي وروثها فتنتن ويملأ نتنها الجو حتى تأتي وحوش الجبال والفلوات المحيطة بهدى فتريح الناس منها بما تحمل منها بطونها السابغة. ومع ذلك لم يكن لها انقطاع ولولا أنها كانت تحت الريح الغالبة لما ترك وباؤها في ديار هدى ديارا، ورأوا غير تلك الأضاحي جمالا أخرى سائمة لا يعترضها معترض، ولا يمنعها عن رعي الكلأ مانع، يسمونها: البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي؛ تبعا للمقصد من إهدائها إلى الآلهة.
وكثيرا ما كانوا يذهبون إلى نهر هناك صافي الماء عذب المذاق كالسلسبيل يسمونه: المعسل لحلاوته وطيبه،
4
حتى ليقولون: إن حلاوته تنتقل إلى شاربه، ومن ثم كان أهل هدى أولي بشرة نقية، ووجوه مليحة، وكان نساؤهم مضرب المثل في جمال الخلقة في بلاد العرب كلها. من أجل هذه الخاصة فيه لم يكن شاطئه ليخلو من بعض نساء مكة يقصدنه؛ ليغسلن وجوههن بمائه الطيب، ويشربن منه، ويحملن على ظهور الجمال ركوات من سلسبيله الساحر الذي جعل وجوه الساكنين على شاطئيه من أهل هدى على ما امتازت به من صفاء البشرة وحلاوة الطلعة.
والواقع أن لنقاوة الماء أثرا مباشرا في هذا الجمال، أو بالأحرى إن ملوحة الماء أو غضاضته، أو احتواءه ما ليس من طبيعته من الأجسام الغريبة والجراثيم من شأنه أن يؤثر في المعدة والكبد والبشرة والدم، وسائر جوارح الإنسان، فيحدث فيها ما يحدث من الاضطراب والأمراض ظاهرها وخفيها، ومن ثم لا يكون شاربها معتدل المزاج صحيح البدن حي الطلعة مشرق الوجه. أما نقاؤه من كل تلك الآفات فمن شأنه سير أعضاء الجسم ظاهرها وباطنها فيما أراد لها مبدعها من السلامة، ما لم يعبث بها الفساد من ناحية أخرى، ومن ثم كان أهل هدى أصحاء البدن والمزاج، وكانت بشرتهم نقية، ووجوههم مليحة، ونفوسهم صافية، وكانت نساؤهم فتنة للعين.
كانوا يذهبون جميعا: الحارث وورقة وهرميون ولمياء سيرا على الأقدام في بكرة الصباح أو مطلع الشمس ولا يعودون إلا في الضحى؛ فيتناولون طعام فطورهم، ثم ينصرفون إلى شئونهم. فكان الحارث وورقة يذهبان للمطالعة، أو للنقل والمراجعة، وكان ورقة قد شرع يدون ما كان يحدثه به الحارث عن عقاقير بلاد العرب وفوائدها، واشترى لذلك رقاعا من مكة يكتب عليها ويعرضها على أستاذه فيصححها له، ولكن الحارث رأى أخيرا أن يتولى إملاءه حتى لا يضيع عليهما الزمن. فكانا يقضيان أيام وجودهما في هدى في تأليف هذا الكتاب:
5
الحارث يملي وورقة يكتب، وكلما نفدت الرقاق انتهزا فرصة وجودهما في مكة إذا هما هبطاها لعيادة مريض فاشتريا منها حاجتهما، وعادا بها ليملآها تحبيرا.
والواقع أنهم قضوا شطرا كبيرا من أيام الصيف في متعة وهناءة على هذا المنوال، لا يكدر صفوهم مكدر، ولا يشعرون بالحاجة إلى أنيس، ولم ينقطع ابن نوفل عن زيارتهم وقضاء أيام في جوارهم، كما أن العفيفة أم ورقة وزوجها باقوم زاراهم وقضيا معهم بضعة أيام كانا فيها على أحسن ما يكون الضيف في منزل مضيف؛ فقد بالغت هرميون ولمياء والحارث في إكرامهما، وكان باقوم محل الإكرام الخاص من هرميون؛ لأنه رومي مثلها، ولأنه كان يعرف أباها حق المعرفة، وكان يحدثها عن الإسكندرية ويذكرها بأمورها وأحداثها، وما رأى فيها بعينه من أعمال القتل والنهب وتخريب المعابد، وقيام أهل المسيحية الملكية على أهل اليعقوبية وأخذ هؤلاء بالثأر، وانتهاز اليهود الفرصة للإيقاع بهؤلاء وهؤلاء، وارتداد الفريقين عليهما، ويحمد الله على أن هيأ له الفرصة للبعد عن مواطن هذه الجهالات، وكان سرور الحارث عظيما عندما سمع زوجته تحمد الله هي أيضا على ذلك، فقال: وأنا أحمده أيضا على أن أسمعني بأذني اعتراف أم لمياء بما صنعت؛ إذ نقلتها إلى بلاد لا يسمع فيها صخب ولا لغب، ولا يرى فيها حريق ولا بريق. قالت هرميون: صدقت، وإني لسعيدة بمقامي هنا، وأرجو الله أن يديم طمأنينتي على أبي الشيخ الأرمل وأختي هيلانة.
عاد باقوم وامرأته مشيعين بكل محبة وإكرام، وظل الحال كذلك فترة من الزمن، وهل هلال فذهب ورقة إلى أهله للزيارة على عادته، وانتظروه صبيحة الغد فلم يجيء؛ فساروت نفوس أهل البيت وساوس، ولكنهم لم يروا أن يتعجلوا سوء الظن فظلوا يرقبون الطريق، وكانت لمياء عينهم عليه؛ فقد ظلت طول اليوم فوق سطح المنزل عالقة العين بطريق مكة تمر الأشباح أمامها تلو الأشباح، وتنفيها واحدا بعد آخر؛ لأنها لم تكن تمثله. كان له شبح واحد تعرفه حق المعرفة، وتميزه بين ألوف من أشباح أخرى ولو اجتمعت. حتى إذا غربت الشمس نزلت وهي كمدة تعلن أنه لم يلح، وكان الحارث قد ساوره الخوف من أن يكون الفتى قد أصابته حمى من أثر نتن الأضاحي الذي كان يهب عليهم إذا دارت الريح دورتها فدخلت عليهم من الجنوب بعد إذ كانت تدخل من الشمال من ناحية الشام، فعزم على أن يذهب في الغد إلى مكة ليرى ماذا جرى لورقة.
جاء الغد ولكن الحارث لم يستطع النهوض من فراشه؛ لأنه أصيب بشيء من الفتور في جسمه ألزمه الفراش، ومضت ضحوة اليوم الثاني على ورقة والحارث في فراشه. فاضطرب الأمر في البيت اضطرابا عظيما، وساورت المخاوف هرميون ولمياء من كل جانب، ولم يخطر لهما ببال أن يرسلا أحد العبيد إلى النضر؛ ليخبره بمرض أبيه، ولعلهما كانتا تكرهان التقاء النضر وورقة في البيت؛ لئلا يعود إلى سابق كلامه المر، فاستقر رأي كل منهما على أن يسقطه من ديوان الفكر، ولذلك لم يكن له أثر في ذهنهما حتى في تلك الساعة التي لم يكن ورقة فيها في البيت، ولكن عبدهم زيادا الذي أحضروه معهم من مكة لم يسعه إلا أن يسأل سيدته لماذا لا ترسله إلى مكة؛ ليستدعي مولاه النضر وهو طبيب لا يشق له غبار،
6
ليرى أباه ويصف له الدواء الشافي؟ فتنبهت هرميون عندئذ إلى أنه يجب عليها أن تستدعي النضر لزيارة أبيه ولعيادته ما دام طبيبا عظيما؛ فأرسلته إلى مكة على الفور، وكلفته كذلك أن يذهب إلى بيت باقوم؛ ليسأل عن ورقة، ولم تزد على ذلك فيما يختص به؛ لأنها كانت تعلم أن هذا العبد يحب ورقة كثيرا، ويسعى في خدمته كأنه ابن سيده بل أكثر من ذلك، ولا بد أن يتعرف الأسباب التي حملته على هذا الغياب الذي لم يعتادوه منه فقد كان ورقة يعمل على ألا يغيب عنهم إلا ساعات قليلة لا يشعرون بها؛ ذلك أنه كان إذا جاء يوم مبيته عند أبويه ركب فرسه في العشي فبلغ مكة في أول العشية، وقضى الليل معهما، وركب في بكرة الصباح فبلغ هدى مبكرا؛ ليجتمع بلمياء وهرميون، وينعم بجوارهما قبل أن ينصرف إلى عمله مع أستاذه.
والواقع أن ورقة كان يشعر بدبيب الغرام في قلبه للمياء، ولكنه لحبه لأستاذه وأهل بيته كان يحسب أنه الهزة التي تعتري القلب إذا استشعر ولاء، أو الروح التي تتخلل جوارح الإنسان إذا أحس لأحد ودا ووفاء، ولكنه كان يرى هذه الهزة تشتد في أوقات خاصة، هي أوقات وحدته في مخدعه في هدى، أو في بيت أمه في مكة. هناك يتمثل لمياء في ظلام الليل فيتمثل كل محاسن الدنيا فيها وحدها، ويتمثل نظرات عينها الخفرة يشع منها في الحديث معه أو الإنصات إليه ذلك الضياء البهيج الساحر الذي يهز نفسه كلما شامه، وتتراءى له من ثغرها الألعث العجيب الصنع تلك البسمات التي تغمره بعواطف بر كثير لا يرى أنه جزاء له عن فضل، ويتذكر أنسها به، واقترابها من مجلسه وهم جالسون، ومجانبته وهم سائرون، وأن ذلك البر لم يكن مقصورا على ساعات حضوره مجالسهم في الدار، واجتماعه بهم تحت الكرم في البستان، أو مرافقته لهم إلى المعسل والبطيحة. فقد خبره صديقه زياد - غلام البيت - أنها لا تنقطع عن ذكره في ساعات غيبته عند أمه ، وتسائل والدتها وزيادا وجاريتها سودة: ألا تشعرون بفراغ لغيبة ورقة؟ فيقرها المسئولون على ما تشعر وينسون أنه ليس ولدهم ولا أخاهم، وذكر له أنها تظل تشيعه بالنظرات من فوق سطح الدار حتى يغيب عن العين، ولعلها لا تنام من الليل إلا أقله، ثم تنهض مبكرة في الصباح؛ لتتعجل رؤيته وهو عائد، وذكر له زياد كذلك أن لمياء رأت فتيات المعسل الفاتنات يترددن على سودة في البستان ويتألفنها ويهدينها تعاويذ مما يصنع السدنة، وحليا مما اشترين في بعض الأعياد، وعلمت منها فيما علمت أنهن يكثرن من الحديث عن ورقة وأهله ومكانه من الطبيب، فأوجست شرا وغضبت فأمرت سودة ألا تلقاهن، وأن ترد عليهن هداياهن مع زياد، كما أمرته أن يحرم عليهن الحضور لزيارتها في البستان.
تمثل ورقة كل ذلك وذكره، فأحس في نفسه حنوا شديدا عرف أنه الحب الذي يلهج به الشعراء. وتمنى لو يستطيع أن يراها الآن؛ ليضمها إلى صدره، ويقبلها، ويصارحها بما يجد لها في قلبه من الحب، ولكنه تنبه إلى نفسه وأمنيته المنكرة وعزاها إلى الشيطان الذي يلقي فسادا في القلوب التي تتجه إلى الله؛ ليفتنها عن الرشد، ويغريها بما لا يحمد. ما أشد جرمه لأستاذه وامرأته الطيبة وابنته المطهرة إذا هو عقهم وخان أمانتهم! إن من السيئات الكبر أن يضرم في قلب فتاة مطهرة كلمياء التي تحبه حب الأخت أخاها حبا لا ينتهي إلى خير. فما هو بكفء لها ولا ضريب! ما هو إلا ابن نجار عاش فقيرا ومات فقيرا، من سبية وجارية لا وزن لها في الحياة ولا قيمة! أما هي فابنة الحارث بن كلدة الثقفي قريع كسرى وجليس الملوك، وإن كان متواضعا حلو النفس، وهرميون ابنة قوزمان أعلم علماء الإسكندرية وبلاد الروم بأجمعها! إن كانت تحبه وتكرمه فلأنه نزيلها، ولأنه أمين لها ووفي، وإذا عطفت عليه فهو عطف إحسان وبر بيتيم لم يدر حتى اليوم كيف يحصل رزقه، لا لترفعه إلى مقام العزة التي هي فيها! بله أنها لا ترضى لابنتها بعلا لا تكون في حماه سيدة عظيمة، ذات جاه واسع ! ألم تقل في بعض حديثها مع زوجها على مسمع منه وتقل لجماعة من زوارها في مكة: إنها لن تزوجها لأحد من أهل هذه البلاد، بل لا بد أن تعود بها إلى الإسكندرية يوم تكبر؛ لتزوجها من بيت نيقتاس حاكم الإسكندرية كخالتها هيلانة.
لا حق له إذن في أن يعلن لمياء بحبه لها، وليس من تقوى الله ولا الأمانة ولا من الخير أن ينمي في قلبها الطاهر غير ما له فيه من حب الأخت أخاها! ولا من الشرف وعرفان الجميل أن يبدي من أمره إلا ما يبدو حتى الآن من عواطف الولاء والشكر! بل ربما كان خيرا أن يرتد قليلا ويلتزم الإجلال والتوقير للحارث وزوجته، ويعمل على رد لمياء إلى ما صدرت عنه من البر والمودة.
هذا ما استقر عليه رأيه في مكة ليلة ذهب لزيارة أمه، ولكنه تمثل البرح الذي سيعانيه قلبها الفطير؛ لما سترى منه من الأزورار عنها، والتزام الحد الفاصل بينه وبينها، وخطر على قلبه أنه سيسيء إلى من أحسنت إليه، وأنه إذا انتوى ذلك كان كالذي يضمر الشر لإنسان بريء آمن، ورأى أنها كالحمل الوديع الذي عزم صاحبه على ذبحه في الصباح، ولم تشفع فيه وداعة الأمس ولا براءته؛ فضاق صدره وقعد في فراشه مأزوما يتأوه، حتى غلبه الهم فهوى على فراشه يبكي وجدا وحسرة، وأسفا لما سيلحقه بالفتاة باختياره من الآلام، ولخجله من نفسه يوم تراه على غير ما كانت ترى منه، ولكنه أسلم أمره إلى الله، وأخذه الرقاد وهو يناجي ربه ويلتمس منه العفو والقوة والرضاء.
الفصل الثاني عشر
نعاء! نعاء
نهض ورقة ليركب جواده عائدا إلى هدى، ولم يكن حاديه اليوم على ذلك هوى نفسه للاجتماع بأحبابه؛ بل حبه لسيده وأستاذه الأول ورقة بن نوفل، فقد كانت والدته خبرته في العشية أنه مريض منذ عشرة أيام، وأن العلة اشتدت به ولا يعرفون له دواء، ولذلك رأى أن يبكر في العودة إلى هدى؛ ليستدعي أستاذه الحارث ليعوده عسى أن يكون شفاؤه على يديه، ولكنه ما كاد يذهب ليخرج جواده حتى تنبهت أذنه إلى صوت غريب. صوت أجش رتيب يسير به صاحبه متئدا وإن كان يتجلى شيئا فشيئا كلما تقدم نحو الدار، ولم يتبين منه ورقة إلا صورة قوله: نعاء. نعاء! وإذ لم يكن ينعى على هذه الصورة إلا العظيم القدر في الناس
1
فقد أشفق أن يكون المنعي سيده ابن نوفل فترك جواده، وجرى نحو الباب؛ ليتبين الحق حين كان ناعي الكرام على مقربة من باب الدار وهو يكرر قوله: نعاء! نعاء، ثم يعقبها بقوله: يا آل مكة عوضكم الله خيرا في أخيكم ورقة بن نوفل لا يبعد له مزار ولا يلمم بجدثه بوار.
دارت بورقة الأرض دورتها بمن تصميه النوائب، فانهد وجلس على عتبة الدار يفكر ولا فكر، وينظر ولا يرى، ثم لطف الله به فبكى، وزاد وجده فنشج، وكانت والدته قد سمعت النعي الفاجع فأعولت في الدار وولولت، وتجاوبت أصداء النحيب والعويل من ديار بني نوفل والحي المجاور، وكان صياحا أليما، وكان باقوم على فرط وجده لما فقد قد سمع بكاء الغلام ورثى لحاله، وخشي أن يبرح به الهم فنهض يتوكأ على عكازته إلى حيث جلس، وأخذ يحاول لفته عن وجده بكلام كان يعلم أنه لا يطفئ أهون شرارة من نار حزنه، ولكنه جعله وسيلة؛ ليأخذ بضبعه لينهضه، ويدخله بهو الدار عسى أن يتمكن من تخفيف ما أصابه. فنهض ورقة مطاوعة للشيخ الحنون، وسار حتى لمحت عينه في البهو مكتلا فجلس عليه يبكي كما كان، وجلس الشيخ إلى جواره يعزيه، ولكنه كان يبكي هو أيضا ويندب سوء حاله من بعده. أما العفيفة فلم تتئد بل خرجت من فورها وهي على حالها من الهلع، وسارت كذلك حتى بلغت دار الفقيد، وكان نسوة بني نوفل قد اجتمعن فيها وخديجة أم المؤمنين بينهن تبكي في صمت ووقار، وابن عمها مسجي أمامها في سريره، وكان العليات من بني عبد مناف يقبلن عليها مولولات نائحات؛ ليشتركن معها في الفاجعة، إذ كانت السيدة خديجة أقرب أهله إليه، وكانت منه على تعادل مفترعهما بمنزلة الابنة كما أن الرجل مات بغير عقب.
2
فلما رأتهن السيدة خديجة على هذه الحال أوعزت إلى فاطمة ابنة الخطاب - وكانت جالسة في جوارها - أن تنهى تماضر العفيفة أم ورقة عن ذلك العويل؛ لتنتهي عنه غيرها، وكانت فاطمة ابنة الخطاب حنيفية كزوجها سعيد بن زيد بن نفيل، ومن أوائل من آمن بسيد الحنفاء محمد بن عبد الله؛ فانبرت تلقي على المعولات عظة مما وعظها به الإسلام، ولكنها كانت توجه الخطاب إلى تماضر أم ورقة حتى لا تتأذى سواها. قالت: عفا الله عنك يا تماضر! إنك لتعقين سيدك الراحل بما تفعلين. أما تعلمين أن الميت يعذب ببكاء أهله، ولعمر الحق ما كنت من بره إلا كما تكون الابنة! قالت: صدقت يا سيدتي، فكيف أملك صبرا على مصيبتي فيه! وإنه لغافر لي عجزي. قالت فاطمة: لقد كان ينهي عن العويل والنياحة. قالت: وا سوأتاه إن له على كبدي لحقا يجزيه الآن حرقة والتياعا! قالت: فهلا انتهيت بما نهى عنه مولاك رسول الله! إنه لبريء من الصالقة والحالقة والشاقة جيبها. قالت: سلام على أبي القاسم! سمعت يا مولاتي وأنبت، وليلطف بي الله! على دينه أحيا وعلى دينه أموت. ثم جلست وراء الجالسات تبكي كسيدتها وقد انقطع العويل والنياحة حتى إذا جاء وقت الغسل توارت النسوة؛ فغسل على العادة وكفن، ثم حمله الرجال في سريره على الأعناق، وخرجوا به ليدفن في المعلاة شمالي مكة، وكان قد اجتمعت قبائل مكة في الطريق؛ لتسير في جنازته. فلم تشهد أم القرى له جنازة اجتمع فيها أشراف القوم وكأن على رءوسهم الطير كجنازة ابن نوفل، وإنه ليخيل إلي من عظم الراحل وقرابته من سيدة قريش أن النبي
صلى الله عليه وسلم
أكرمه، وأن أكبر الظن أنه
صلى الله عليه وسلم
مشى فيها هو وخليفته الصديق أبو بكر وصحبه ممن سعدوا بنعمة الإسلام في أوائل أيامه: عثمان بن عفان وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وعلي بن أبي طالب وطلحة بن عبيد الله وطليب بن عمير بن وهب، ومن كان في مكة يومئذ من المسلمين وعدتهم إذ ذاك قرابة الأربعين، منهم: أبو ذر وبلال وزيد بن حارثة وعمرو بن عبيسة السلمي وخالد بن سعيد بن العاص وعثمان بن مظعون، ولم يكن العباس ولا حمزة ولا بعض أخوة علي بن أبي طالب قد أسلموا بعد، ولكنهم لم يكونوا في فريق المشركين بل انحازوا إلى مصاف رسول الله هم وأبو طالب، وكنت ترى من مشركي مكة يومئذ أبا عمرو بن هشام وأبا لهب وعمر بن الخطاب وعمرو بن العاص قبل إسلامهما وأبا زمعة الأسود بن عبد يغوث وعقبة بن معيط وعبته بن ربيعة وأبا سفيان بن عبد الحارث بن عبد المطلب وأبا سفيان بن حرب بن أمية والحكم بن أبي العاص وسعيد بن العاص والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث ولبيد بن ربيعه ... ومئات غيرهم من أعلام مكة يومئذ، وكان يحمل النعش منهم سادة القبائل وزعماء البيوت؛ فتعاوره أبو طالب وأبو بكر وعمر وأبو سفيان بن حرب والوليد بن المغيرة وسعد بن أبي وقاص والزبير بن العوام وأمية بن خلف الجمحي وغيرهم.
فلما بلغوا المعلاة وأرادوا دفنه فيه ظهر لهم من تحت النعش غلام لم يبلغ العشرين بعد، وقال بصوت محزون مكبود: رويدكم يا قوم، وصية أبلغها وأمنية للراحل أعلنها! فالتفت الجمع ليروا من القائل فإذا به ورقة بن العفيفة. فقالوا له: ما خطبك يا غلام؟ قال: لقد كان ابن نوفل يقول لي: إنه أوصى أن يدفن بجوار صاحبه زيد بن عمرو بن نفيل في حراء وما حراء من هنا ببعيد. أليس فيكم يا قوم من سمع وصاته غيري؟ لقد كنت منه كولده وكان كأبي، وإني وحق الله لصادق. فبرز سعيد بن زيد يقول: بلى لقد سمعته بأذني يقول هذا، ورأيت أبي وابن نوفل يتواصيان بهذا. ولقد كان النضر بن الحارث معي في مجلسه ساعة قال هذا. قال النضر: حقا تقول يا ابن زيد هو عهد تواصيا عليه في حراء يوم الحجر الأسود، وقال عثمان بن مظعون: هو والله ما قال ابن العفيفة لقد كان ابن نفيل يئن من جراحه يومئذ ويطلب إلى ابن نوفل ألا يفارقه فأقسم هذا لن يفارقه، وأوصى إن هو استؤخر عنه أن يدفن إلى جواره. فسيروا بنا إلى حراء ندفنه حيث دفن الخطاب ابن أخيه يوم قتلته غلمانه رميا بالأحجار من أجل قوله الحق في محمد رسول الله. هذان رجلان ملآ الدنيا سماحة وهدى، وألقيا في ظلمات العقول نورا، كانا في الدنيا صديقين ولهداية الناس إلى الحق متحالفين فليرقدا اليوم بالقبر متجاورين!
لم يجد المشيعون بدا بعد هذا من تحقيق وصاة الرجل بدفنه في حراء، فساروا به إلى حيث دفن ابن نفيل وشقوا له في جواره لحدا وواروه التراب، ثم قام الخطباء فأبنوه وعادوا إلى بيوتهم في العشي، ثم إلى أنديتهم حول الكعبة يتذاكرون.
أما ورقة فلم يعد في العائدين، وبقي على القبر يبكي سيده ويندبه حتى إذا افتقدته سيدته أم المؤمنين، وعلمت بنبأه أرسلت إليه زيد بن حارثة - وكان غلامها الذي وهبته لرسول الله - وأوصته أن يأخذه إلى داره مترفقا، ويرحله في الغد إلى هدى؛ ليصرف همه بعيدا عن موارده من مكة، وإذ خشيت إن هو سار إلى هدى من طريق حراء أن يعرج على قبر سيده أمرت زيدا أن يخرج به من طريق أجياد
3
ولو بعد، وأن يصحبه إلى ما وراء مكة عائدا إلى مصيف أستاذه.
فعل زيد كما أمرت سيدته، وقضى الليلة معه في بيته يسليه بالأحاديث، ولم يجد زيد أنفى للهم الحاضر من هم جديد فأخذ يذكر له ما جرى في مكة من الأحداث في غيبته؛ إذ صدع رسول الله بأمر ربه بين عشيرته الأقربين فتبعه خلق كثيرون، وذكر له من أحداث تلك الأيام ما فعل المشركون بمستضعفي المسلمين؛ إذ جعلوا يحسبونهم، ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش ورمضاء مكة؛ ليفتنوهم عن دينهم، ولكنهم كانوا يتصلبون فيه، ويعصمهم الله من الافتتان والرجعى إلى عبادة الأوثان. ذكر أمية بن خلف الجمحي؛ إذ علم بإسلام غلامه بلال بن رباح فكان إذا حميت الشمس وقت الظهيرة يلقيه في الرمضاء على وجهه وظهره، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتلقى على صدره ويقول له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى، فلا يقول إلا قولة المسلم: أحد. أحد، وهو صابر لا يفتنه البلاء، وكان فقيد اليوم يمر به وهو يعذب، ويقول قولته هذه: أحد. أحد، والله يا بلال.
4
ثم يقول لأمية: أحلف بالله لإن قتلتموه على هذا لأتخذن قبره منسكا وحنانا، فرآه مولاي أبو بكر الصديق وهو على هذا الحال فقال لأمية: ألا تتقي الله في هذا المسكين! فقال: إنك أفسدته أنت وصاحبك فأبعدته عن الحق. فقال له الصديق: أي حق هذا الذي أبعدناه عنه! عبادة الأصنام! ارحمه يرحمك الله، وإذا شئت فعندي غلام على دينك أسود أجلد هذا أعطيكه. قال: قبلت. فأعطاه أبو بكر الغلام، وأخذ بلالا فأعتقه،
4
وكذلك فعل أبو جهل بعمار بن ياسر وبأبيه وأمه سمية فقد أمر بهم أن يجروا على وجوههم فوق رمضاء الأبطح حتى مات ياسر من العذاب، فلما أغلظت له امرأته الكلام طعنها أبو جهل بحربة كانت في يديه فقتلها.
4
ظهر الغضب على وجه ورقة وقلق، وأخذ ينفث ولا يتكلم، ولكن زيدا استمر يروي له من أخبار غيرهم ما زاده حنقا وثورة فذكر له ما لقي صاحبه خباب بن الأرت؛ إذ كانوا يعرونه ويلصقون ظهره بالحجارة المحماة بالنار ويلوون رأسه وهو متصبر، وذكر له عمر بن الخطاب إذ كان يعذب صديقتي أمه لبينة وزنيرة وكانتا من فتيات بني عدي، ويضربهما ضرب غرائب الإبل.
4
كان زيد يذكر هذه الوقائع فيزيد ألم الفتى ويغضب، ولكنه لم يكن يتكلم؛ لأنه كره أن يشغل قلبه ولسانه بغير ما كان يشغله من الحزن على سيده، ولكن ما كاد زيد يذكر ما فعلوا بالنساء حتى هب ورقة وانطلق لسانه يقول: أمسك يا زيد أمسك! والله ما يحزنني من الأمر تعذيب هؤلاء الحنفاء بقدر ما يحزنني من أن مكة قد خلت ممن يغيث هؤلاء المستضعفين أو ينصفهم من سادتهم غلاظ الأكباد! أيعذب المرء أن يقول ربي الله! قال: إنما المنصفون قليلون، ولم يؤمر نبي الله بعد بشيء مما ترى، وإنما أمر النبي
صلى الله عليه وسلم
أتباعه أن يفتدوا كل عبد مسلم؛ فاشترى أبو بكر أكثرهم وأعتقهم، واشترى غيره من اشترى، ولكن المشركين فطنوا إلى ذلك فكفوا عن بيع عبيدهم، واستمروا في إيذائهم.
لم يكن في قصد زيد أن يوغر صدر الفتى على المشركين أو يستفزه لشيء، ولكنه أراد أن يدفع هما في قلبه بهم فانساق إلى هذا وهاج غضب الفتى رثاء لهؤلاء، فتململ في مجلسه وهو يقول: أما ورب إبراهيم ومحمد! لو رأيت الجمحي وهو يعذب بلالا أو رأيت عمرو بن هشام وهو يطعن سمية حيث طعن أو عمر وهو يضرب زنيرة لقتلته ولو تناولتني السيوف من بعدها حتى لم تدع مني قطعة تحدث عن مكانها من جسدي. قال زيد: مرحى لك يا ورقة! هل آمنت بمحمد ودينه! ... فبهت الفتى، ثم قال: ويحي يا زيد ألا تعرف ذلك؟ قال: أنى لي أن أعرف ولم أجدك بايعته ولا أسلمت بين يديه. قال ورقة: وا سوأتاه ما حاجتي بمبايعته وإسلامي بين يديه وأنا حنيفي مثله أومن بالله ونبيه إبراهيم كما كان أمامي ابن نوفل وصاحبه ابن نفيل. قال زيد: ما زدت عن المشركين في كثير فهم في الحق على دين إبراهيم لولا أنهم ضلوا السبيل فجعلوا الأصنام وشياطينها شفعاء لهم من دون الله، ارفع أصنامهم كما رفعها إبراهيم تجدهم على ما كان عليه ابن نفيل وكما كان ابن نوفل. قال ورقة: لعمري لم يدعهم مولاي محمد إلى أكثر من هذا، وما غضبه إلا لله ولدين إبراهيم، وما يكره من قومه إلا عبادة هذه الأصنام التي أبطلها إبراهيم، وما غضب المشركين عليه إلا لأنه يسفه أحلامهم فيما يعبدون. فهو اليوم إمام الحنفاء، وسيد الموحدين، ومحيي دعوة إبراهيم، وخليفته في أبنائه من إسماعيل. قال زيد: هو ذلك ورسول رب العالمين إلى أمة لم يأتها النذير. قال ورقة: ويحي يا زيد! وما إسماعيل وأبوه! أليسا في المنذرين ألم يقل إبراهيم الله ربي الواحد الأحد الذي لا شريك له ولا وزير ولا معين ولا ظهير الذي إليه الرجعى وإليه النشور؟ وما كلمات إبراهيم التي ابتلى بها؟ تلك الكلمات العشر التي نحن عليها أجمعين. حنفاء ومشركين؟ الخمس التي في الرأس: وهي المضمضة والاستنشاق وقص الشارب وفرق الشعر والسواك، والخمس التي في الجسد: وهي الاستبراء وتقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة والختان؟ وما الغسل من الجنابة وغسل الموتى وتكفينهم؟ وما الحج والاعتمار والإحرام والتلبية؟ وما الهدي ورمي الجمار وتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير وكراهة الخمر؟ أليست كلها من دين إبراهيم؟ وهل جاء مولاي محمد بغير ذلك أو نقضه؟ قال زيد: كلا بل قره الرسول
صلى الله عليه وسلم . قال ورقة: فإلى أي شيء تدعوني إذن؟ إن كان لترك الأصنام فقد تركتها قبل أن أكلف عبادتها وأنا غلام في العاشرة من سني، وإن كان لترك دين التثليب - دين المسيحيين الذي كان عليه أبي - فقد تركه أبي منذ تزوج من أمي، كما تركها صاحبه باقوم من بعده واتبع ابن نوفل. قال زيد: هذا كلام كبير يا بني، وعليه مسحة من الصواب، ولكن فاتك أن تتبين صوابا أكبر. قال: ما هذا؟ قال: لا تعجب يا بني أن أحدثك عنه. إني كما تعلم متنقل في تجارة مولاتي، وقد حضرت مجالس الأحبار والرهبان، وتعلمت الشيء الكثير. بل أنا أقرأ وأكتب مثلك. ما الدين يا بني مقصور على النظافة والغسل وكلمات تحفظها عن الناس وترددها. الدين نور من عند الله من استضاء به اهتدى وأرضى، ومن أبى إلا أن يسير فيما تزينه أهواؤه لنفسه من النؤور ضل واعتدى، ولقد اندرس دين إسماعيل، وتاه كتابه فتاه الناس من بعده حتى انقلب الحال بهم فإذا أولاده وأبر الناس به وببيته قد عادوا إلى جاهليتهم الأولى التي أخرجهم أبوه منها؛ عادوا إلى عبادة النصب والأصنام التي كان قد هدمها بيديه، ومن حق العباد على ربهم بعد هذا الضلال البعيد أن يرسل إليهم نذيرا آخر، نذيرا جديدا يبسط لهم أوامره ونواهيه زيادة عما تقتضيه العقول من واجباتها، وإلزاما لما جوزته من مباحاتها؛ لأن الناس بنظرهم وحدهم لا ينكرون مصالحهم لأنفسهم فهم ميالون بفطرتهم إلى البغي والعدوان، ولا يشعرون بعواقب أمورهم لغرائزهم، ولا ينزجرون إلا أن يرسل الله إليهم أدبه فيلتزموه.
يومئذ تكون شرعة الله فيهم مستعملة، وحدوده فيهم متبعة، وأوامره فيهم ممتثلة، ووعده ووعيده فيهم زاجرا، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض كما فسدت في هذه الأيام، وحلت الفوضى على الناس كما هي حالة اليوم. فليس عن بعثة الرسل يا بني معدل، ولا منهم لانتظام المصالح بدل، وإلا فلو ترك الناس على سجيتهم؛ لبغوا في الدنيا بغي الذئاب، واستأثروا بالخير لأنفسهم ولمن يحبون دون خلق الله جميعا، وهذا غاية الفساد. قال ورقة: هذا حق يا زيد وربي، ومن أجل ذلك ينهض المصلحون بدعوة الناس إلى طريق الهدى حتى لا يضلوا ولا يبغوا. قال زيد: لا يا بني، ليست النبوة نهضة ناهض بملكه واختياره مهما كان خيرا أو رشيدا، وإلا كثرت المذاهب فلا يدري الناس بأي هذه المذاهب يهتدون، وإذا ضل طالب الهدى فما صنعت شيئا. قال ورقة: فما هي إذن؟ قال: هي بعثة وتكليف من لدن رب الخلق، وأمر منه لمن يختار؛ فالنبي رسول يبلغ رسالة الله، ويتكلم بما يوحي به الله إليه، لا ينطق عن هوى إن هو إلا وحي يوحى، وللرسل صفات ربانية في خلقهم وعلامات جسمانية في خلقهم يخصهم الله بها؛ ليتعرفهم المستعرف، ويطمئن إليهم المستهدي كيلا تجوز دعوى المدعي على الناس فيقع في ضلال جديد. قال ورقة: صدقت يا زيد صدقت. زدني بالله مما تقول فقد خبرني مولاي ابن نوفل أنه هو وصاحبه قد وجدا كل ذلك في سيدنا، وأنه آمن به قبل أن يبعث، وعزم على شد أزره يوم يؤمر بالدعوة، ولكني ولا أكذبك لم أكن قبل هذا أجد لهذه البعثة حاجة، ولا إلى هذا الإيمان من ابن نوفل ضرورة ، وأما اليوم فإني أرى نورا ينبعث من فمك فيجلو جهالتي كما يجلو نور الصباح ركام الظلام ... يا لله! أإذا كان في الناس صلحاء أخيار أوفياء للحق فصدروا عن طبيعة الخير التي في أنفسهم مخلصين في القول والعمل لم يؤمن أن يضلوا! قال زيد: نعم سيكون لكل منهم في الخير مذهب قائم يأمر به، ويدعو إليه، ويتعصب له، وقد يؤذى الناس في سبيله؛ فإذا وجد كل ذي مذهب أنصارا وجدت الناس كلهم مختلفين متنافرين متباغضين، وأي خير في هذا؟ قال ورقة: صدقت. صدقت. قال زيد: لا بد إذن من دين واحد يأتي به نذير واحد من عند الله الواحد؛ ليجتمع الناس عليه متحدين، ويعملوا به متناصرين، ويسيروا تحت لوائه مجاهدين. بأمره يأتمرون وبنهيه ينتهون، فلا ضلال ولا فساد ولا فرقة ولا عناد. دين يرتضيه العقل والقلب حتى لا يكره الناس عليه إكراها، ولا تتورط فيه الأبناء رعيا للآباء والأسلاف، وهذا يا بني دين الإسلام! دين محمد بن عبد الله! قال ورقة: رباه! رباه! إني لأجد نورك يملأ قلبي، فاغفر عنادي وجهلي، وزدني اللهم نورا، ومضى زيد في كلامه يقول: ولقد خلت أمة العرب من عهد أبيهم إسماعيل من المرشد والنذير حقا. أليست ثلاثة آلاف من السنين بكافية؛ لتخلو دنيا الماضي من كل خير! بلى. لقد اختلت أفعالهم، وفسدت أحوالهم، واتضع بين الأمم شأنهم، ولم ينفعهم ما بقي من سنن إبراهيم وشرائعه وعباداته التي ذكرت ما هي إلا أنقاض بيت تهدم وما يؤوي الخراب إلا الهوام والذئاب فاقتضت رحمة الله العادل الذي لا يعذب حتى ينذر أن يرسل فيهم نبيا من أنفسهم؛ لينذرهم بدين الحق الذي نزل على آدم والنبيين، ويردهم إلى دين إبراهيم حنيفا ومطهرا وكاملا ومصونا؛ ليدركوا به السابقين، ويضووا إليهم اللاحقين، وليجعل لهم في الدنيا شأنا كما جعل لغيرهم في الغابرين. ذلك هو سيدنا محمد بن عبد الله النبي الأمي الذي بشرت بنبوته الأحبار والرهبان؛ لما ورد عنه في التوراة والإنجيل، ففيهما اسمه ونسبه وصفاته. وبشر به ابن نفيل وابن نوفل وصاحباه بما علموا يوم احتشد الناس في بيت الله، وآمنوا به قبل أن يأتيه وحي ربه بسنين؛ ذلك لصفاته الربانية وعلاماته الجسدية، فقد عرفوها واطمأنوا إليها فأعلنوها، واحتملوا الأذى في سبيلها حتى مات مقدمهم من جرائها. قال ورقة: أجل. أجل. إنها لنعمة والله أن يموت الإنسان في سبيل الله. قال زيد: ولقد بعث الله محمدا اليوم بالحق مصدقا لما بين يديه، ونزل القرآن؛ ليعصم الناس من بعده عن الضلال مرة أخرى، وأمره أن يعلن الدعوة للناس كافة بعدما تحنث لها ثلاث سنين، وما كان ليعلن إلا أن يؤمر، وقد أمره الله من أيام أن يصدع بأمره. أويرضيك يا بني أن يظل العرب ثلاثة آلاف أخرى من السنين وهم على نبلهم وذكائهم، وتمام رجولتهم ومروءتهم، وسلامة أبدانهم وعقولهم، وكمال سجاياهم ونقاء طبائعهم فيما هم فيه من خمول الشأن بين الأمم؟ يأخذون عنهم ولا يعطون؟ وتعولهم القرون، ولا يعولون أحدا؟ قال ورقة: لا وربي لا يرضيني هذا. قال زيد: وإنما أرسله الله إليهم كما أرسل موسى وعيسى إلى بني إسرائيل فأخرجوهم من الظلمات إلى النور إلى أن عقهما الخلف، وصدفوا عن طريق الله. ابتدع كل فريق لنفسه بدعة وقاموا يروجونها بكل لسان، واختلق كل قوم لأنفسهم في الدين مذهبا عجبا، وجعل السيف له عضدا من دون العقل، وهل بعد ما يجري في الشام وبلاد القدس من الأحداث فساد! ألا ترى أنهم لعداوتهم بعضهم لبعض قد هللوا لعبدة النار، وحكموهم في دينهم وأعراضهم. هل بعد هذا بوار؟
قال ورقة: لا والله لقد حدثني عنهم الحارث العجب العجاب. قال زيد: من أجل هذا كانت رسالة محمد بن عبد الله إليهم هم أيضا فقد أرسل للناس عامة؛ لينير لهم ويهديهم سواء السبيل، ويجمع الأمم على دين يريح العقل ويسايره، ويأبى أن يلحق به ما ليس من طبيعته، ولن يضل من بعده أحد، فسيبقى الذكر في صون الله لا يعتوره تغيير ولا تبديل، ولا عبث كما عبث السالفون، وسيكون لأتباع رسول الله ملك كسرى وهرقل فما وراءهما. هكذا وعد الله رسوله ولن يخلف الله وعده.
فلما سمع ورقة هذا الكلام نهض، وقال: اللهم اشهد أني مؤمن بك وبرسولك، ومهتد بهديك فيما هدى، ومنته بنواهيك فيما نهى، وإن له قلبي ولساني ويدي. فنهض زيد يقبله ويبكي فرحا به وبهدايته إلى الإسلام على يديه، وقال له: وددت لو أخذتك الآن إلى رسول الله في دار ابن الأرقم؛ لتعلن إسلامك بين يديه! ولكنا الآن في الليل وأنت راحل في الغد فأبقها حتى تعود. قال ورقة: وهل يجمل بي وأنا فتى أضع يدي في يد رسول الله! من أنا في الناس يا زيد! أنا عبده وخادمه! قال: إن أكثر المسلمين اليوم عبيد وإماء، وأكثر من آمن بدعوته من السراة شباب. قل لي: أنت أسن أم عثمان بن عفان؟ أم سعد بن أبي وقاص؟ أم عبد الرحمن بن عوف؟ أم خالد بن سعيد بن العاص؟ قال: إني أنفت على العشرين. قال: وما منهم من بلغها يوم أسلم، وإن من فضائل الإسلام أن جعل المسلمين إخوة؛ فبلال اليوم أخ لأبي بكر، وزنيرة أخت لخديجة، ولا بد لك يا فتى أن تصلي بصلاة الرسول، وتعرف كيف يتوضأ للقاء ربه في الصلاة، وتحفظ ما نزل حتى اليوم من كتاب الله. بيد أني سأعلمك ذلك، وأصلي معك ركعتين لله، فانهض بنا إلى سقاء الماء نتوضأ ونصلي، وندعو الله أن ينصرنا على القوم الكافرين.
نهضا للوضوء فما خرجا من الباب حتى رأيا أمامهما في الظلام شبح باقوم يتمشى إلى السقاء معتمدا على عكازته حتى إذا بلغه ألقى العكازة بجواره، وتناول السقاء وقال بصوت غير جهير: نويت الوضوء لله تعالى. فتعجب زيد وورقة لأمره، ولم يكونا يعلمان بإسلامه فكلمه زيد: رويدك يا باقوم من علمك هذا؟ قال: بلال أيام كان الجمحي يعذبه. قال زيد: هذا يوم بعيد. قال باقوم: وأنا على الإسلام منذ ذلك اليوم. فقال ورقة: ثم لا تخبرني يا أبتي، وتهديني كما اهتديت! قال خفت يا بني أن تحاجني كما كنت تحاج الليلة زيدا فيرتج علي في الحوار فتزيد في ضلالك. فضحك ورقة متعجبا وقال: ضلالي يا أبتي! ما كنت ضالا، ولكني كنت أحسبني على ما عليه رسول الله فلم أجد بي حاجة إلى أن أعلن ما هو معروف حتى بصرني زيد بأمر جلل لا أحسب أن في المؤمنين أنفسهم من يعرف صدقه وصوابه وضرورته عرفاني، وهل أنت وحدك في هذا يا أبي أم معك أمي؟ قال باقوم: بل أمك إليه أسبق. قال زيد: ألا تخبرنا كيف لقيت بلالا أم انه جاء إليك في من يجيء إليهم؟ قال: والله ما جاءني ولا جئته، ولكن الله أراد لي الهدى فأخرجني إليه؛ شعرت وأنا جالس هنا ذات يوم أن بي شيئا يحفزني إلى النهوض والخروج، وخيل إلي أني إن لم أخرج فسأختنق، ولم أجد غير المطاف فرجة فذهبت إلى البيت الكريم، وفيما أنا أتسلل إليه رأيت بلالا ملقى على الرمضاء في الهجير لا يملك قوة على النهوض، فقد كان الجمحي ضربه وأوجعه وهده وتركه على هذا الحال ومضى، ورأيته ينظر إلي نظرة مستغيث من آلامه فأخذتني رقة عليه وانحدر الدمع من عيني؛ لأني كنت أعلم أنه يعذب هكذا كل يوم. فرأيتني أجري إليه كأنما أنا غلام في مثل سن ورقة بالرغم من عرجي، فحملته على كتفي وسرت به إلى داري هذه وأنا أتوكأ على عكازتي. فما أحسست لجسمه على عاتقي من ثقل، بل قواني الله حتى لكأنه هو الذي كان يحملني. فلما حططته عند هذا السقاء لأسقيه وأنشطه؛ إذ كان في شدة من العطش، تناول السقاء وهزه فوجد أن ما فيه من الماء قليل، فظل على ظمئه وآثر أن يتوضأ به؛ ثم قام يصلي لربه ويتعبد ويبكي وهو يقول كلاما مما نزل على محمد؛ فملكتني رقة وبكيت حتى اخضلت لحيتي، ولما سلم توسلت إليه بحق الله عليه أن يعلمني كيف أفعل مثله لأتجه إلى ربي وأحادثه كما كان يحادثه؛ لأني كنت أرى السكينة تنزل على قلبي حين كانت تنزل على قلبه وترقأ دمعه ودمعي فقال : قرب فتوضأ. قلت: ليس في السقاء ماء. أما ألقيته بيدك. قال: إن ما فيه يكفي فقد أمرنا رسول الله بالاقتصاد في الماء، وقال: امدد راحتيك تحت السقاء. فمددتهما طوعا له. قال: اتل ورائي القول. قل نويت الوضوء لله تعالى. فقلتها، فقال: اغسل يديك فغسلتهما، وما زال يقول افعل كذا وافعل كذا والماء يتدفق حتى أتممت وضوئي كله، وألقى السقاء على الأرض كما كان. ثم علمني الصلاة فصليت كما صلى، وأنا عاكف عليها من ذلك الحين، وسعيد باعتناقي هذا الدين فهو دين النظافتين في القلب والبدن. ائذن لي يا زيد أن أعلم أنا ولدي إني أحق به منك؛ ففرح زيد بما سمع، ورضي أن يتولى باقوم تعليم ربيبه الوضوء وهو يشهد ليرى، وما زال باقوم يتوضأ أمام ورقة ويراعي الترتيب في التطهر ويفعل ورقة مثله حتى أتى على آخره، وزيد يتعجب لدقته وعنايته. فقال لورقة: ما كنت أستطيع وربك أن أبصرك بما هو أدق من هذا. هكذا يتوضأ سيد الخلق فانح نحوه في كل وضوء.
ثم توضأ زيد بعدهما، وقاموا كلهم يصلون لله، وزيد بينهم يتلو من كتاب الله ما وعى صدره حتى انتهت الصلاة وسلموا، وحمدوا الله، وذهبوا إلى المضاجع ليناموا، وقد سرى الله عن ورقة شدة حزنه وملأ قلبه بنور الإسلام.
الفصل الثالث عشر
أم قتال
لم يستطع ورقة أن يرحل إلى هدى فيما اعتزم من غده؛ ذلك لأن «أم قتال» أخت مولاه ورقة بن نوفل أرسلت في طلبه، فلم يكن له بد من أن يجيب. كان منزلها إذ ذاك في طريق الصفا جنوبي مكة، فذهب إليها من فوره، بعد أن حلف لصاحبه ألا يعود إلى حراء في يومه، ورجا منه أن ينصرف إلى سيدة قريش بتحية منه وسلام، قائلا إنه سيسير من الصفا إلى هدى نزولا على إرادة البر التي أرادتها.
دخل ورقة على أم قتال، وكانت امرأة فوق الستين من العمر بكثير، أكلت السنون من شحمها ولحمها، وإن لم تأكل من بريق نظرها، ولا حياة عصبها، ولذلك كانت في نشاط الشباب والقوة، وإن لم يكن لها من ظاهرها ما يلائم ذلك. كانت إذ ذاك في فراشها لغير مرض، ولكناه حضرت يوم وفاة أخيها ورأته ميتا، وسمعت نوح النائحات عليه، فذعرت من الموت حتى لم تعد تستطيع أن تبقى في بيت أخيها إلى أن يحملوه، بل خرجت إلى دارها فارة بنفسها من هول ما كانت ترى وتسمع، وقد ألقت على عتبة داره كل ما كان في قلبها من الحزن والأسف لموته قائلة: إن في حمله أو التظاهر به أذى لها، وربما عجل بموتها هي أيضا.
أشفقت أن يصيبها ما أصابه فهلعت ولزمت فراشها، ودعت إليها النضر بن الحارث، وكان عالما بالطب كأبيه، فوصف لها ما عن له من العقاقير، وأكد لها الشفاء العاجل على أثر تعاطيه، وإن لم يتبين عليها شيئا، وإنما فعل ذلك مسايرة لوهمها؛ لتهدأ حتى يزايلها الوهم كله، ولكنها لم تكتف به وهو أكبر طبيب مقيم في مكة، بل أرسلت في طلب كل حجامي البلدة وباعة عطورها؛ لتستشيرهم وتصرفهم، وأرسلت في طلب ورقة بن العفيفة، وقد علمت أنه عاد عرضا إلى مكة، لا لأنه طبيب، بل لأنه متصل بأشياء الطب والأطباء، وماذا عليها لو سألته هو أيضا حتى لا تدع في مكة أحدا له اتصال بالداء والدواء دون أن تعرض عليه أمرها؛ لعله يرى ما لا يرى غيره، ولو كان غير بصير، فقد يكون في علم الجاهل شيء يجهله العالم، وكان عندها إذ ذاك أبو طالب عم رسول الله، دعته لأنه كان أكبر من يبيع العطر في مكة، وأبو طيبة ميسرة الحجام الذي كان يحجم زوج ابنة عمها - محمد بن عبد الله - عند الحاجة. على أن أبا طالب لم يلب دعوتها؛ ليبيعها عطرا، بل جاء على أثر ما خبر من دعواها المرض؛ ليعودها ويعزيها في أخيها، ويقضي معها وقتا يتسلى فيه، فقد كانت من معارفه، وإن شئت فقل من أهله؛ لأنها ابنة عم السيدة خديجة، ولأنها أخت ورقة بن نوفل، ومن سيدات قريش، وكانت معروفة فيهم بالجراءة والصراحة، وبالخفة وكثرة المازح بلا تورع، ولا سيما بعدما أسنت، وبأنها أخذت بشيء جديد في أيامها الأخيرة، ذلك هو الخوف من الموت، وادعاء المرض لأهون سبب، ونفورها من مجامع الأحزان، وشهود الباكين والباكيات؛ ولذلك سرها أن سمعت السيدة فاطمة ابنة الخطاب تنهى النسوة ضحى الأمس عن العويل على أخيها، بل زادت على ذلك قولها بصوت خافت: بل كان أخي - رحمه الله - يكره أن يحزن عليه أحد، وأوصاني بذلك خاصة، فلم يتمالك من سمعتها من الضحك؛ لأنهن كن يعرفن شدة بغضها للأحزان، وخوفها على نفسها من الشجو، ولولا أن جاء الرجال وقتئذ فأخذوا الميت ليغسلوه لانقلب المأتم مضحكة.
كان أبو طالب إذ ذاك واقفا بجوار سريرها، ومنحنيا عليها قليلا يمسح جبينها بشيء مما كان معه من عطر اليمن الجيد، وهو يكتم ضحكة في صدره؛ لأنه لم يجد بها شيئا غير عادي، وإنما كان هو أيضا يحب التبسط، وكأنها أدركت أنه يضحك منها؛ إذ رأت اضطراب بطنه، فأخذت ترمقه وهو مشغول عنها بالنظر في الفضاء، وأحس بريق عينيها تحت لحيته فالتفت صوبها، وأغمضت عينيها على الفور، كأنها لا تريد أن يعرف أنها كانت تتفحصه، أو أنها لا تريد أن تراه. فانفجر ضاحكا وهو يقول: والله ما بك شيء يا ابنة عم، وإنما هو بعض وهمك الذي اعتدناه، وستعيشين في هذه الدنيا حتى تحضري مآتم قريش جميعا، فاستمرت في إغماضها، ولكنها ردت عليه تقول: لا لن أحضر مأتم أحد بعد يومي. سأبكيكم كلكم إن شاء الله وأنا هنا في داري. إن حضور المآتم يؤذي القلب. قال: أجل ويغضن الوجه، ويسود البشرة، ويقفل العين، وإن ترك اللسان يلعب كالأفعوان. قال ذلك وتذكر كيف كانت هذه المرأة الشوهاء اليوم فتنة للعيون والأبصار في شبابها، ولكنه أراد أن يثأر لنفسه من إرادة السوء التي أرادتها له ولغيره من قريش وهي مطمئنة مبتهجة، كأن موتهم وحياتها من بعدهم أمر واقع، وقد أرادت أن تنتقم منه على تذكيرها بما هي فيه الآن فقالت: وددت لو كان أخوك عبد الله هو الواقف أمامي الآن لا أنت، وأن محمدا ولدي، ولكنه تعفف لا ردء الله. فضحك أبو طالب ملء شدقيه لامتلاء قلبها بالحقد على أخيه حتى بعد ما مضى على وفاته أربعون عاما وتزيد، وتذكر قصتها معه وهيامها به، وكيف أن عبد الله خيب أملها منه. فقال لها: بربك يا أم قتال، إلا ما خبرتني قصتك مع أخي! فلم ترد لأنها كانت تفكر في عبد الله آخر إذ ذاك، فأعاد عليها الرجاء. فقالت: إن النضر بن الحارث أمرني ألا أتكلم كثيرا. قال: لعله إنما أراد أن يريح الناس من نقيقك يوما أو بعض يوم. قالت: هو ذاك وربي. إنك لتقول حقا يا أبا عقيل، فهو كما علمت ابن الوهبية أخت ضرتي آمنة. قال أبو طالب! ضرتك! بالله حدثينا لماذا ترينها ضرتك وما تزوجت من أخي عليك؟ قالت: هو حديث طويل. قال: لا عليك. هاتيه. فإني والله أشتاق أن أسمعه من فمك أنت، وأعرف ما لم يكن في مقدور أحد أن يعرفه؛ لأنه خاص بك. قالت: هو ذاك فاجلس، ولكن حذار أن تعيبني، أو تجمد بعد سماعه كما جمدت لابنه محمد. قال: هاتيه، ولا تتهميني بما لا تعلمين. حسبي من إقراري بمحمد أنني أحميه وأمنعه، وأغضب كل الدنيا في إرضائه، وأرضى أن يتبعه ولدي، وهو فلذة كبدي، ولكن للشيوخ حكمة لا يعرفها الفتيان ولا النساء. قالت: أريد أن أعرف هذه الحكمة قبل أن أتكلم وإلا سكت. قال ألا تمضين في حديث أبدا إنك لمغرمة بالمداورة. قالت: هات حكمتك وإلا لعنتك. قال: اعلمي يا بنية أني أمنع محمدا من أذى قريش وكفرها، بفضل ما يزعمون من أني لا أزال كافرا مثلهم، فلي عندهم اليوم حق، ولي عليهم كرامة. أما إذا علموا أني انضويت تحت لواء محمد فإنهم يسقطون حقي، ويمنعون كرامتي، وعندئذ ينالون من ابن أخي ومني معا ما لا قبل لأحد منا بدفعه. قالت: لست شيخا يا أبا طالب. أنت شيطان. فهذه حكمة الشياطين. فقهقه أبو طالب وقهقه الحجام وابتسم ورقة، وقال أبو طالب: وفيت لك بما أردت فحدثينا. فقالت: إنك لتعلم أن أباك كان قد نذر لله إن رزقه أولادا وتمت عدتهم عشرة يعيشون حتى يحموه، أن يذبح واحدا منهم. قال: نعم. قالت: وتعلم أنه أحضركم جميعا إلى الكعبة وأدخلكم إلى هبل عند البئر التي تجمع فيها ما يهدى إلى الكعبة، وأعلن نذره لصاحب القداح ليضربها عليكم فأيكم خرج عليه القدح كان ذبيحه. قال: نعم، فخرج القدح على عبد الله. قالت: نعم، وكنت أحب عبد الله لجماله وبهجته، وأشتهي أن يكون زوجي، ولكن لا حيلة للمرأة في ذلك فهي في شرعكم؛ سلعة تبقى في الحانوت ساكنة حتى يأتي الشاري يقلبها، فإما اشتراها أو ألقاها. قال أبو طالب: ولنعم الشرع شرعنا إذ يقينا شهوات النساء وتقليبهن لنا. ثم ماذا حدث لك. قالت: بكيت حزنا على شبابه؛ لأني كنت أعلم أن أباك على دينه وتقواه أحمق أبله. قال أبو طالب: لماذا؟ قالت: إنه أراد أن يقلد أباه إبراهيم صاحب البيت، ولكن إبراهيم كان يتلقى وحي ربه بالرؤيا؛ إذ أمره أن يذبح إسماعيل، أما أبوك فيتلقى الوحي من قداح يلقيها رجل مثله، وماذا عليه لو استغفر ربه، واعتذر إليه من ترك نذره، وقال له: إنه لا يطيق قتل أحد من أولاده؟ أربه قاسي القلب مثله؟ قال: دعينا من هذا الكلام وأتمي الحديث. قالت: أما وربي لو كنت أعطيته ألف وعد في ذلك لكذبته وأنا مطمئنة! فقهقه الجمع قهقهة جمعت عليهم أهل الدار، ولكن أم قتال انتهرتهم فانصرفوا ليسمعوا من وراء الجدران. قال أبو طالب: يا للجراءة! قالت: فلما حزنت قريش لما اعتزم واستفتوا صاحب هبل هل يقبل الدية؟ وخرجت القداح بقبول الإله مئة من الإبل، واستعد أبوك بالمئة، عزمت على أن أخرج لأراه يسوقها؛ لتنحر عند منحر آساف،
1
وأشهد هذا المشهد الرائع المروع. يا لله! يسيلون دماء مائة من الإبل في ساعة واحدة، من أجل وهم من أوهام الشيوخ والمجانين! ما أشد حمق الناس وظلمهم للحيوان! قال أبو طالب: سألتك بالله أن تتمي الحديث. أأنتم كلكم صخابون خارجون على الناس في كل شيء! قالت: لعن الله السفهاء! عزمت أن أخرج لأرى ذلك المشهد، ولأشهد عبد الله، فقد كان الحتم أن يكون في الذاهبين، وكان أخي وصاحبه ابن نفيل قد اجتمعا في بيتنا صباح ذلك اليوم، وجرى بينهما ذكر هذه الأمة، وتنكرها لأبيها إبراهيم؛ إذ أعادوا الأوثان التي هدمها وجعلوها فوق بيته، ويعجبان لماذا لا يعجل الله بإرسال نبيه الذي ورد ذكره في التوراة والإنجيل، وما عرف من الأحبار والرهبان أنه كائن في قريش، ومن بني هاشم عينا.
فلما سمعت هذا الكلام لم أتورع من الدخول عليهما، وكنت قد عرضت كل بني هاشم فلم أجد فيكم أجمل ولا أبهج من أخيك عبد الله، وخيل إلي حبي له أنه هو النبي المنتظر، فأنشأت أخبرهما خبره، ودللت عليه بما أرى في وجهه من النور وما أعرف من أدبه وحيائه، فما سمعا مني هذا الكلام حتى رأيت ابن نفيل ينهض ويقول لي: واغوثاه! إن كان ما تقولين حقا يا بنية، فهو أبو النبي لا النبي نفسه، وما هذا النور الذي ترين إلا ولده امتلأ به دمه، فهو نور حتى يقر في أحشاء من يسعدها الله بأمومته ويولد نورا للعالمين، واحسرتاه أأعيش حتى أراه وأومن به، وأظفر بشفاعته يوم القايمة! من لي بأن أعيش ما عشت؟ تعالي معنا يا بنية أريني إياه، فلا عهد لي به من قبل.
أخذني هو وأخي، وسرنا لنشهد نحر الإبل فشاهدنا أخاك، وهو يسير بينكم كالبدر، يلقي نوره عليكم فتنكسفون جميعا به، وهذا من فضل الله عليكم ذلك اليوم؛ لأن وجوهكم لم تكن مما يشرف أبا ولا أما وإن كان أبوكم زهرة الشيوخ، وإذ شاهد ابن نفيل نور جبينه هو وأخي، أقرا أنه هو ولا مراء، وقالا: هذا نور النبوة! هذا أحمد الذي وعد الله ببعثه! وإذ علمت أنهما قد مالا إلى العودة إلى الدار، وما كنت أريد ذلك، انسللت من موقفهما، وجست خلال المجتمعين واختفيت؛ لأني كنت أريد أن أملأ عيني من أخيك، وأتمتع بالنظر إلى نور محياه.
كنت يومئذ في العشرين من عمري أو أزيد قليلا، وهو في الثالثة أو الرابعة والعشرين، وكنت قد سمعت من حولي من نساء مكة يقلن إن أباه ذاهب به بعد النحر إلى حي بني زهرة؛ ليخطب عليه آمنة بنت وهب، فملكتني غيرة ما أظن في النساء من ملكتها مثلها. كنت أحبه وأشتهيه زوجا وهو الآن يذهب إلى غيري، وكنت أشتهي أن يكون نبي الأمة مني، وها هو ذا ذاهب يحدوه أمر الله؛ ليكون نبي هذا الأمة من غيري، فاستبحت لهذا الفوز الأعظم أن أعترض طريقه وأدعوه لنفسي، ولم يكن يخطر لي أن لن يكون نبيه من نحو ما خيل إلي، ولكني لقيته على كل حال، ولا أدري كيف لقيته، إذ كنا في جوار البيت الحرام، فقلت له: هل لك يا فتى في أن ألقاك، ولك مني مثل ما نحر أبوك.
2
قال وقد رأى ذلة نفسي، وما علاني من الخجل للحديث معه في مثل هذا الريب، ولم يشأ أن يقتلني برفضه: إن أبي معي لا أستطيع فراقه ولا خلافه. عودي إلى دارك وليلطف بك ربك.
ولكني لم أعد، بل ذهبت إلى حي بني زهرة في بعض نسوة أعرفهن، ووقفت لأراه عائدا من عندهم بعد الخطبة، حتى يكون وحده فأغريه مرة أخرى قبل أن يدخل بآمنة وينتقل إليها نوره، ولكني استحييت من نفسي فعدت إلى الدار.
وفيما أنا ذات يوم بباب داري وقد دخل بآمنة، رأيته مارا في الطريق وقد زال عنه ذلك النور الوضاء الذي كان يشع من مسام وجهه، ولحظ أني أتأمله متعجبة لحاله، فابتسم لي وقال مازحا: أنعمي صباحا يا أخية. قلت متجهمة له: نعمت! فأدرك غضبي وضحك، وقال: ما لك لا تعرضين علي اليوم ما كنت عرضته بالأمس؟ قلت: استجاب الله دعاك فلطف لي؛ لأني أرى وجهك قد فارقه النور الذي دعاني إليك، وإني لأراك اليوم قبيح الوجه كأخيك أبي طالب.
فقهقه الجمع لهذه الخاتمة وهذا الانتقام، وكان أبو طالب أعلاهم في الضحك صوتا، ولما هدأ قال لها: الحمد لله على نجاة أخي منك. كل وليد يكون منك ينطفئ نوره في رحمك يا شيطانة! ثم التفت إلى ميسرة، وقال: عجل واحجمها، وأوغل بمبضعك في فؤادها، وأرح الدنيا من أم قتال.
فنهضت من فراشها إذ ذاك، وتناولت هراوة كانت تعدها بجوار سريرها، وجرت وراء الحاضرين جري السعلاة حتى أخرجتهم من باب الدار، وعادت تشتم وتسب.
الفصل الرابع عشر
فتنة
خرج ورقة بن العفيفة في الخارجين فرارا من هرواة أم قتال، وكان الضحى قد آذن فقال: ما علي لو التمست دار الأرقم التي قال ابن حارثة إن رسول الله يستخفي فيها هو وأصحابه؛ لأبلغه إسلامي، وأصلي معه صلاة الضحى، ثم أنصرف من بعدها على بركة الله إلى هدى! وكان يعلم أن دار الأرقم قريبة من حيث خرج فلم يمتط جواده بل سار آخذا بعنانه وهو مطرق يفكر كيف يلقى رسول الله؟ وماذا يقول له؟ وإذا هو يسمع فيما أمامه بابا يفتح وتطل منه جارية كان في فمها بقية من غنوة تغنيها، فلما عرضت وجهها تنظر هنا وهناك عرف أنه فتنة جارية عبد الله بن جدعان التيمي ابن عم أبي بكر الصديق، وعرفته هي أيضا فعجلت له التحية قبل أن يمر ببابها، ولكنه لم يرد تحيتها وأغمض عنها عينيه؛ لأنه كان يكره تجارتهن، ويمقت رؤيتهن، ويعجب لسادة في قريش أن يرتزقوا من المساعاة في البغي والخنى. فلما صدها بسكوته نزلت عن عتبة دارها واستوقفته؛ إذ قبضت على لجام جواده، وقالت له: أحييك تحية المسلمين ولا تردها؟ قال: لا أردها على غير مسلم ولا على باغية ولو كانت مسلمة! قالت: إن الإسلام والبغي لا يجتمعان. قال: سعدت. قالت: بل ارتددت يا ابن العفيفة. قال: إنما يرتد من كان في فؤاده مرض، وما كانت إذ أسلمت مقلدا أو مجاملا وإن كنت من موالي بيت الرسول، ولكن من أين لك أني أسلمت؟ قالت: صباح اليوم من ابن حارثة. فاتسعت عينا الفتى دهشة لما سمع إذ يكون لزيد بها علاقة. قالت: لا تدهش ما كان ابن محمد
1
ليلقاني، وإنما أنا لقيته اليوم في بيت سيدة قريش أم المؤمنين. فزادت دهشته، ولكنها عجلت فقالت: وعرفت منه ما كان منك بالأمس. قال: أو تذهبين إلى بيت رسول الله! قالت: إنما ذهبت لأنيب إلى الله وأستغفر وأعلن إيماني بالله ونبيه ولو أمر ابن جدعان بجدع أنفي. هنئت يا ورقة بما ظفرت. قال: وهنيئا لك التوبة يا فتنة. قالت: والله إني لأجد الهناءة اليوم في قلبي، وأشعر كأنما صب الله في فؤادي نهلا أبديا ينعشني ويحبب إلي الحياة بعد إذ كنت كرهتها وكرهت نفسي معها، وكأني بعثت اليوم بعثة أخرى، وما فتحت الباب وربك لحاجة ولا لمأرب، ولكني لم أستطع أن أهدأ منذ عدت. أجهدت نفسي في كنس البيت وتنظيفه وملأته شدوا وغناء، فلما لم يبق به شيء يشغلني، ورأيته ضاق في عيني ففتحت الباب لأملأ الدنيا بما يفيض على القلب من السرور. قال ورقة وماذا هداك إلى الإسلام؟ قالت: والله ما هداني إلا الضلال البعيد. قال وقد ابتسم تعجبا: كيف كان هذا؟ خبريني بربك. قالت: أعداني أولئك المشركون بفرط عداونهم لأحلم خلق الله وصاحبه أبي بكر والمسلمين جميعا فكرهتهم من غير ما سبب أعرفه كرها شديدا إلا اعتيادي سماع ذمهم في رسول الله، وسبهم إياه، وافترائهم عليه أكذب الفرى، ولقد حفظوني كما حفظوا غيري من الجواري شعرا ورجزا نتغنى به في ذم أشرف خلق الله وصحبه، وكنت أغنيهم هذا الشعر فيطربون، ويوصونني أن أذيعه في الناس، وأن أطلقه في وجه محمد وصحبه كلما رأيته مارا من هنا. فأجبت، ولكني لم أفعل ذلك وربي إلا مرة واحدة حين مر علي عبد الله بن مسعود؛ لأني كنت أجد الأغنية تفارقني حين كنت أرى الرسول أو صاحبه الصديق مارين من هنا في طريقهما إلى حيث يستخفيان للصلاة. فكنت أهم بأن أستعيض عنها بقولي لهما: يا صابئين يا كفرة! أنا أعرف أين تختبئون؟ ولكني كنت أستحي من نفسي لهيبتهما ووقارهما فما قلتها بتاتا؛ لأني كنت أرى عليهما نورا وجلالا يتضع في جوارهما كل ما يعرض لي من حال أعداء الله الذين يغشون داري: عقبة بن أبي معيط وأبي سفيان وعتبة بن ربيعة والعاص بن وائل ... وعشرات من يردون على بيتي ويفخرون بأنهم سادة قريش. فأخذت أسائل نفسي وأقول: محال أن يكون هذان الرجلان على ضلال، وما عرفت عنهما إلا الخير والعفة والوفاء والكبر عن الدنايا، ويكون أولئك الغلاظ الأكباد الحمقى المغرمون بالخمر والفسوق على هدى، ولكني كتمت عجبي، وبقيت على حالتي متظاهرة بمشايعتهم؛ لئلا يوغروا علي صدر مولاي ابن جدعان، فإذا جاء إلي أحد أولئك السفهاء تظاهرت بوده وحييته بكلمة تهكم مفتعل من المؤمنين، وسألته متظاهرة بالزراية عليهم: كيف حال أبناء الله! فيقول: شر حال، إنهم قد اختفوا عن العيون والأبصار، وما لي وحقك رغبة في أن أسمع عنهم إلا الخير، ولقد روى لي عقبة بن ربيعة ما صنع بأبي بكر في المسجد الحرام؛ إذ قام يخطب الناس، والنبي جالس، وقريش تتسمع؛ فتواثبوا عليه، واختص عتبة نفسه بضربه بالنعل محرفا إلى وجهه حتى أدماه، واختلط به أنفه.
2
روى لي عتبة فعله هذا مزدهيا فغضبت لذلك غضبا شديدا، وأخذت أقبح فعله، وأذكر أبا بكر وصاحبه وأتباعه بكلام لا أدري أين كان معينه من نفسي؟ ثم رأيتني أبكي أن يهان الصديق وهو على ما أعلم تقي أسيف؛ إذ ينهض ليهدي الناس، وهو يقول: الله ربي وأنا أعبده، وأقسمت لأزورنه في بيته، وأعلن مقتي لشانئه بإعلان إسلامي بين يديه. ففعلت ذلك ليلة أمس فدعا لي، وذهبت اليوم في الصباح إلى سيدتي خديجة أم المؤمنين فاستنبت مما أنا فيه وإن كان عرفا في القوم لا يشعرون بعاره، وتاب الله علي، ولقد عدت الآن إلى داري فلم أطلق لفرحي بما أنا فيه من نعمة الإسلام أن أبقى بها ففتحت الباب لأكون في سعة الدنيا فإذا أنت أول من ألقى. ما أسعدني برؤيتك وفرحي بإسلامك! ألا تدخل! قال ورقة: لا، وإنما أدع جوادي في حراستك حتى أعود إليك فآخذه، وأمضي إلى هدى. إني ذاهب الآن إلى رسول الله في دار ابن الأرقم المخزومي؛ لأصلي معه صلاة الضحى. قالت: حبا وكرامة، ولكن هل تعرفها؟ قال: أجل دلني عليها زيد ليلة الأمس. قالت: إنها بجوار الصفا عن يسارك، ولعلك إذا سرت في هذا الدرب بلغتها بلا عناء. قال: كذلك. شكرا لك ها هو ذا جوادي فاربطيه إن شئت هنا أو فانظري في أمره. ثم ناولها عنانه فأخذته منه، وانصرف إلى دار ابن الأرقم منعطفا في الدرب الذي أشارت إليه.
وفيما هي تميل بالجواد لتدخله دارها رأت رسول الله قادما يسير نحو الدرب الذي مر منه ورقة وهو يمشي متقلعا في مشيته ومجدا في سيره على عادته كأنما ينحط عن منحدر، وكان
صلى الله عليه وسلم
متفضلا في ملبسه على عادته فما عليه إلا ثوب أبيض قصير مشقوق القبة إلى رأس الفؤاد قصير الذيل حتى ليعلو عن قدميه إلى ما دون الركبة بقبضة، وتحزم عليه بحزام من كتان، وفوق الثوب رداء واسع مسبل على كتفيه إلى ما فوق عقبيه، وعلى رأسه عمامة كثيرة الألفاف، وشعره مدلى على قذاله يستره من لفح الشمس، وفي رجليه نعل بقبالين.
2
وكان رسول الله إذ ذاك في السادسة والأربعين من عمره، «من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله، ولم يكن رسول الله بالطويل الممغط (المفرط في الطول) ولا بالقصير المتردد (المتناهي في القصر) وكان ربعة من القوم، ولم يكن بالجعد ولا السبط، ولم يكن بالمطهم (الكثير السمنة) ولا بالمكلثم (المدور الوجه في سمن) أبيض مشربا بحمرة، أدعج العينين (في سواد واتساع) أهدب الأشفار (طويل الهدب) جليل المشاش (عظيم رؤس العظام) والكتد أتلع العنق ذا لحية سوداء كثة، وشارب مقصوص شثن الكفين والقدمين»
2
فلما دنا من حيث كانت فتنة، وكان فيما أخال قد سمع بحديثهما، لم تمهله حتى يحييها؛ بل وقفت إلى جانب الجواد تقول بصوت جهير ممتلئ حبا له وإيمانا: يا رسول الله! أسمع الخافقين شهادتي أنه لا إله إلا الله الواحد الأحد الذي لا شريك له ولا والد ولا ولد، وأنك يا ابن عبد الله وآمنة عبده ونبيه ورسوله وشفيعنا يوم القيامة من النار! ثم غلبها البكاء فبكت رقة وحنانا وإيمانا. فدعا لها رسول الله وحمده على ما سمع، ثم انعطف في سبيله إلى دار الأرقم.
ولكنه ما كاد يخطو في الدرب خطوتين حتى كان أبو الحكم عمرو بن هشام المخزومي (أبو جهل) عدوه وحاسده وشانئه الألد قد أدركه؛ إذ كان آتيا من الجبل، ونظر إليه من ورائه نظرة استخفاف لم يأبه لها رسول الله، ولم يعرها التفاتا، ومضى في طريقه يدعو الله له بالهداية
3
ولكن الوغد أخذ يشتمه، ويسبه، وينعته شر النعوت، والنبي يسمع ولا يجيب. حتى إذا لم يعد يسمع صوته وغاظه من رسول الله أنه أعرض عن سفهه انحنى، وتناول قبضة من ثرى الأرض وحصبائها وروثها، وألقى بها على رسول الله. فسقطت على رأسه
صلى الله عليه وسلم
وعلى عاتقه، ولكنه مع ذلك لم يلتفت إليه فازداد غيظ أبي جهل، وصار يشتم بغير حساب ولا وعي، وكأنه استشعر قبح موقفه فتلفت فإذا هو يرى الجارية تتأمله، ورآها مغيظة منه محنقة عليه فقال لها متهكما: لا بأس عليك يا فتنة! ما لي أراك محنقة علي، وعهدي بك لطيفة ظريفة! وحقك ما خطر على بالي أن لك فيه هوى.
4
قالت: قبحت! وحق الله إنه لهو التقي النقي العفيف البار الذي لم يهمم بريبة. إنه لأطهر خلق الله جميعا، وأنزههم نفسا، وأعفهم عينا، وأكرمهم عند الله، ولتراب نعليه أشرف من هامتك، ولهو سيد أهل الجنة، ولأنت أحقر من في النار.
فلما سمع هذا الشتم المقذع كاد يتميز من الغيظ، وطار لها ينتقم منها، ولكنها وقفت له والشرر يتطاير من عينيها فيحرقه كما تقف اللبؤة تدفع عن نفسها. حتى إذا دنا منها دنت منه وهبشت وجهه فخمشته بأظافرها وصرخت في وجهه؛ فارتد مذعورا إلى حيث كان، ومضى في طريقه.
وفيما هي تلهث مضطربة من أثر العراك والغضب، وقد جلست على عتبة بابها مستعبرة سمعت وقع أقدام آتية من حيثما أتى أبو جهل من جبل أبي قبيس؛ فالتفتت فإذا هو رجل ربعة أسود العينين عريض ما بين المنكبين ذو هيبة ووقار، قد تقلد سيفا وتوشح قوسا واستظهر كنانتين، وقد اغبر وجهه كأنما هو آت من سفر؛ فأدركت على الفور أنه أسد قريش حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله، كان عائدا من الصيد، وذاهبا إلى البيت؛ ليطوف به على عادته أن يلتمس داره، وليحيي إخوانه من عظماء قريش في أنديتهم هناك، فلما دنا منها استوقفته تقول له: واضيعة النجدة فيكم اليوم يا أبا عمارة! قال وقد وقف: قبح القول وصاحبته! ما خطبك يا أمة ابن جدعان؟ قالت: أئذا خالفتم أخاكم فيما أراد من هدايتكم والاحتفاظ بكرامتكم أنكرتموه! ورضيتم له الأذى حتى من سفهاء بني مخزوم! قال: ويحك ماذا حدث؟ قالت: لو رأيت ما لقي محمد ابن أخيك من أبي الحكم بن هشام وهو مار من هنا ... آذاه وسبه وشتمه وهو ماض في هذا الدرب، ورمى عليه التراب والروث.
5
فقال لها حمزة: أنت رأيت هذا الذي تقولين؟ قالت: نعم، وسمعته، والله على ما أقول شهيد. فاحتمل حمزة الغضب
5
وسار حتى دخل المسجد يطوف على عادته، فرأى أبا الحكم جالسا في القوم فأقلع عن طوافه، وأقبل نحوه حتى إذا قام على رأسه رفع القوس وضربه بها فشجه شجة منكرة سالت على أثرها الدماء حتى خضبت وجهه، ثم قال له: أتشتم ابن أخي إذ يعف عنك لسانه، وتؤذيه إذ يرجو لك الخير!
5
قبحت من فدم دميم! قال أبو جهل وقد ملكته الجبانة: لقد سفه عقولنا، وسب آلهتنا، وخالف آباءنا، وحمل صبياننا وغلماننا وجوارينا على اتباعه. فقال حمزة: ومن أسفه منكم؛ إذ تعبدون الحجارة من دون الله! ألا بعدا لكم ولما تعبدون! ثم التفت إلى الكعبة، وصاح: أيها البيت الأقدس الذي نطوف به وندعو الله عنده اشهد أني من اليوم مع ابن أخي محمد! على دينه أحيا وعلى دينه أموت! فقام رجال من بني مخزوم - عشيرة أبي جهل - إلى حمزة؛ لينصروا أخاهم، ويلوموا حمزة على ما فعل من أذى أبي الحكم، وقالوا: ما نراك إلا قد صبأت. فقال حمزة: وما يمنعني وقد استبان لي منه الحق. أنا أشهد أنه رسول الله وأن الذي يقول حق، والله لا أنزع فامنعوني إن كنتم صادقين.
5
وكان حمزة مهيبا حتى لتخافه النطف إن غضب، وخشي أبو جهل وراء وعيده أن تندلع النار في مكة فتأتي عليه وعلى رهطه، فقال: دعوا حمزة كفاني أني أسمعت ابن أخيه شيئا قبيحا.
5
وعلى هذا انصرف حمزة، وقد انتقم لابن أخيه.
الفصل الخامس عشر
في دار ابن الأرقم1
بلغ ورقة باب دار ابن الأرقم، وكانت على يسار الصاعد إلى الصفا كما وصفت فتنة، ولكنه تهيب أن يقرعه، فوقف حائرا لا يدري ماذا يفعل؟ وإذا به يفتح ويطل منه بلال بن رباح وزيد بن حارثة، وكأنهما كانا في انتظار مقدم رسول الله ففتحاه لاستقباله، ولكنهما لم يجدا إلا ورقة بن العفيفة؛ فلما رآه زيد هلل وكبر، وتعانقا ودعاه إلى الدخول، وعرفه إلى بلال؛ فكبر وحمد الله، ومال على رأس ورقة يقبله ويعانقه، فعاقنه ورقة كذلك، وحمد الله على الإسلام.
مشى زيد بورقة في فسحة سماوية طولها نحو عشر خطوات في خمس على يسارها إيوان مسقوف بجذوع النخل على عرض أربع خطوات، وعلى يمينها حائط في وسطه باب يدخل منه إلى غرفة طولها طول الفسحة وعرضها عرضها مفروشة بحصير من سعف النخل.
دخلها فإذا هو يرى فيها من رأى في أمسه ممن كانوا يحيطون برسول الله في جنازة ابن نوفل؛ فسلم عليهم بتحية المسلمين، وتقدم من أبي بكر وكان في الحاضرين لصلاة الضحى، وقبل يده فهنأه بإسلامه ودعا له، وإذا برسول الله يشرق عليهم متهلل الوجه كأن لم يحدث له حادث؛ فنهض الجمع للقائه فحياهم بتحية الإسلام، وأسرع ابن حارثة فيما أخال فقدم إليه ورقة فقال: مرحبا بابن العفيفة.
2
قال الفتى: الحمد لله الذي هداني إلى الإسلام، ومتعني برضا الله! أشهد أن لا إله إلا الله الحي القيوم الواحد الأحد، وأنك يا محمد عبده ونبيه ورسوله. فدعا له النبي - فيما أخال - وقبله في جبينه.
وفيما هم في ذلك ويستعدون للصلاة فتح الباب ودخل عليهم حمزة يجأر بالشهادة، ويقول لرسول الله: هذا سيفي يا ابن أخي، ضعه حيث تريد. لقد أجرتك فأجرني من عذاب النار، وكن شفيعي يوم القيامة. فسر به رسول الله سرورا عظيما
3
لأنه كان أعز فتى في قريش وأشدهم شكيمة؛ فكبر لله وكبر المسلمون معه، وشعروا أنهم قد عزوا بعد ضعف، وأن الله شاء للإسلام أن يظهر على الشرك فيطمسه، وقد كان حدسهم صوابا، فقد كانت الأرض في تلك الساعة تهتز؛ لتلقي عنها ما كان يثقل كاهلها من أوزار العقول. تداعت إذ ذاك أركان الشرك في مكة، كما تداعت دعائم الاستبداد والجهل والظلم في ملك كسرى وهرقل، واستجاب الله دعاء نبيه على أثر ما رأى من إعزازه إياه بإسلام عبد الله حمزة قال
صلى الله عليه وسلم
وقد عفا قلبه عن أبي جهل أملا في هدايته: «اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك بعمر بن الخطاب أو بعمرو بن هشام (وهو أبو جهل)» فأمنوا على دعاء رسول الله، وبعد هذا بما شاء الله من الزمن
4
قرع الباب قرعا شديدا. فقيل من الطارق؟ قال: أن ابن الخطاب. فلما عرفوه ذكروا شدته على رسول الله، ولم يكونوا قد عرفوا بعد بإسلامه في بيت أخته؛ إذ كان قد دخل عليها، وضربها؛ لإيمانها بمحمد، ولمدافعتها إياه عن صحيفة كتبت عليها آيات من سورة طه كانت سببا في إسلامه، ذلك أنه وعدها ألا يتلفها فأعطته إياها فقرأها حتى بلغ قوله تعالى:
الرحمن على العرش استوى * له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى * وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى * الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى
فعظمت في صدره، وقال: من هذا فرت قريش! فلما بلغ
فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى
تشهد، وقال: لا ينبغي لمثل هذا أن يعبد معه غيره. دلوني على محمد! فدلوه عليه في بيت ابن الأرقم، وكان أن طرق بها كما سمعناه.
5
لم يجترئ أحد على أن يفتح الباب. فقال رسول الله: «افتحوا له فإن يرد الله به خيرا يهده»، وقال حمزة: وإن يرد غير ذلك كان قتله علينا هينا.
ونهض بلال ليفتح له الباب، وذهب حمزة والزبير وراءه ليأخذا بعضدي عمر حين يدخل، ودعا رسول الله ربه فقال: «اللهم أخرج ما في صدر عمر من غل وأبدله إيمانا. أطلقوا سراحه»
5
فأطلقوه، ودخل عمر خاشعا ليقلى رسول الله. فلما رآه قال له الرسول: «والله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة. فيم جئت يا ابن الخطاب»
5
فقال: جئت أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله؛ فلما سمع المسلمون هذه الشهادة من عمر، وكان عمر ما كان من الشدة والعداوة للنبي والمسلمين - كبروا على أثر ذلك تكبيرة واحدة ارتجت منها أركان الدار، وسمعت في طرقات مكة فأتبعها بقوله:
5
يا رسول الله، ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا.
5
قال: «بلى والذي نفسي بيده إنكم على الحق إن متم وإن حييتم» قال: ففيم الخفاء يا رسول الله؟ علام نخفي ديننا ونحن على الحق وهم على الباطل؟ فقال: «يا عمر، إنا قليل وقد رأيت ما لقينا» فقال عمر: والذي بعثك بالحق نبيا لا يبقى مجلس جلست فيه بالكفر إلا جلست فيه بالإيمان. فكان ذلك سببا في أن خرجوا
5
في صفين: في أحدهما عمر، وفي الآخر حمزة مخترقين طرقات مكة حتى بلغوا المسجد الحرام، وطرقوا حصباءه فكان لهم كديد ككديد الطحين
5
ورأتهم قريش فيما هم فيه من المنعة والعزة؛ فأصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها من قبل.
هناك صلوا لله، وجهروا في المسجد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
فكان هذا أذانا للدنيا بدينها الجديد.
الفصل السادس عشر
دار طويف
عاد ورقة إلى بيت فتنة بعد ارفضاض المسلمين من المسجد؛ ليأخذ جواده ويسير إلى هدى، ولكن فتنة لم تمكنه من ذلك؛ لأن الحر كان شديدا جدا، فالشمس تلفح الوجوه وتشويها ، وسموم شهر تموز على حالها كأنها نفثات الجحيم، وأقسمت عليه إلا أن يقضي ساعات الهجير عندها؛ ليتبلغ، ثم رحل على بركة الله إلى هدى في العصر.
أجاب ورقة دعوة فتنة، ودخل الدار، وفتنة تتقدمه فرحة به وصلفة أن يدخل دارها مسلم، وهي تقول: الحمد لله الذي طهر بيتي وطهرني، وجعل من فضله علي أن يدخل المسلمون بيتي، ويجعلني فيمن يشفع لهم النبي الأمين. قال ورقة: دعاء كريم يا فتنة، أرجو أن يتقبله الله منك، ولكني أخشى ألا يتقبله يا أختاه حتى تنزلي هذا عن مكانه: وأشار إلى نصب أغبر مشوه موضوع على ناصية الباب، كالتاج من الرءوس. فلما تبينت قصده قالت: صدقت يا ورقة، لا أدخلك غرفتي حتى أنزعه بيدي. انتظر قليلا، والله ما كان له عندي من قبل كرامة حتى يكون له اليوم، بل لعله كان أدعى إلى الشر منه إلى الخير. كم كنت أقسم به للناس فيما لم يكن من نيتي الوفاء به أو قصد الصدق فيه. فضحك ورقة لهذا الاعتراف، وأخذ يتأمل صنع النصب فلم يجده إلا قطعة من طين مجفف ومجصص، ذا رأس خليط فوق كتفين ويدين، لا تناسب بينها، ولا معنى لها. فابتسم وقال: مسكين هذا الإنسان: إنه يجب الله ويريد أن يلقاه، ويدفعه فرط الحب إلى تقريبه، ويرضيه لخالق الزهرة، والعين والإنسان والحيوان مثل هذه الصورة! إنه والله لكنود. قالت: لم يعد للكنود ولا لله من صورة عندنا إلا في جمال الحق، ثم أهوت على الصنم بهرواة أتت بها فتكسر وهوى، وقالت لورقة: ادخل. أمتقبل ربي الآن دعائي؟ قال: أجل فيما أعتقد، وقبله كذلك، ولكني شئت أن ألفتك إلى ما لم يخطر ببالك وجوده. قالت: شكرا لك. ادخل حتى أعود إليك.
وجد ورقة في الغرفة حصيرا من سعف النخل مفروشا بها، وبعض حشايا من جلد موضوعة إلى أحد أركانها، والغرفة على فرط الحر في الخارج رطبة طيبة، فانتعشت نفسه، وإذ جلس واتكأ أخذ يعرض حوادث يوميه، فإذا هي جسام جسام؛ ذكر لمياء وحبه إياها وعزمه على أن يقف به عند حد الأخوة الخالصة، وذكر الناعي في الصباح وهول ما نعى، وسيده وما لقي وألقى في قلبه من الحزن عليه، ثم ذكر حراء وسيدته خديجة وما كان له مع زيد من حديث انتهى بإسلامه؛ إذ كان بينه وبين الحق خطوة لم تستبن له حتى كشف له عنها زيد بن حارثة بما عرفه من رسول الله، ثم ما كان من إسلام حمزة وعمر، وخروجه في المسلمين أول يوم أعلن فيه الإسلام في مكة، ثم عاد فذكر لمياء وما تلقى الآن لفراقه، وما يجد لها من الشوق في قلبه، فاستوى قلقا، وحدثته النفس أن ينهض من فوره إلى هدى ليلقاها، ويتبرد بمرآها، وكاد يهم بذلك معتذرا بما يحضره لولا أن دخلت عليه فتنة وفي يمناها جرة ماء صغيرة، وفي يسراها جفنة فيها لبن، وخرقة من ثوب علقتها بخنصرها، وفوق رأسها أقراص رقيقة من الخبز؛ فتلقاها ورقة بالشكر، وعاونها على تخلية يديها منها.
فرشت فتنة الثوب سفرة وضعت عليها الطعام، وتناول ورقة جرة الماء فغسل أصابعه وجففها في الخرقة وفعلت فتنة مثله، وقالت: بسم الله. فانصرفا إلى الطعام وهي مغتبطة به سعيدة بأن تضيفه، وتذاكرا فيما كان من حوادث اليوم، وما جرى من عمرو المخزومي إذ لقي رسول الله، وما فعلت هي به، وسألته عما جرى بعدئذ فخبرها بما كان فانتعشت وسرت، وانتقل الحديث إلى شئونه الخاصة فأخبرها بأمره، وأنه بمثابة تلميذ للحارث بن كلدة، وأن الحارث يعيش بين أهله في هدى فرارا من حر مكة؛ إذ كانت زوجته رومية من أهل الإسكندرية، ولها ابنة جميلة ترعاه وتخصه بمحبتها. قالت: وهذا ما كان يدعوك أن تستهدف لنيران الهجير. قال: قد يكون ذلك حقا، ولكني غبت عنهم كثيرا وهم يأتنسون في وحدتهم بي، وأستاذي ابن كلدة رجل كثير المطالب وليس من يقضيها له سواي. قالت: لا تجمع على نفسك نارين: شوقك والهجير، وإذا رشدت فلا ترحل إلا في العشي. فضحك ورقة وقال : وإذا جاء العشي قلت الليل آذن فانهض في السحر. قالت: هو ما يجب وربي، ولكنك لا ترضى أن تبيت عندي. قال: لم يعد علي أن أبيت عندك جناح بعد إذ طهرك الله، ولكن لي بيتا، ولي أما في مكة كما تعلمين، ولن يقول الناس إلا سوءا. على أني عزمت على المسير في العصر. قالت: كذلك، لقد أطعمت جوادك وسقيته منذ ساعة، وأراه أصبح صديقا لعنزتي، فقد تركتهما الآن يتداعبان. فضحك ورقة لمزاحها وشكرها، ودعا الله أن يهيئ له رد مكارمها. وفيما هما كذلك سمعا الباب يقرع فتأذت لذلك وأجفلت؛ لأنها كانت تتوقع شرا من أبي الحكم المخزومي جزاء ما لقي منها، وحدثت ورقة في ذلك. قال: لا بأس عليك، ولكن خير لك ألا تفتحي ولا تردي. قالت: كذلك، واستمر القارع يقرع فلما تعب ناداها باسمها، فعرفته، إذ كان عبيد سيدها ابن جدعان، وأخبرت بذلك ورقة همسا. قال: لا تفتحي ولا تتكلمي ... فكرر العبد نداءه وقرعه، وإذ يئس قال: محال أن تكون في البيت ولو نائمة، ماذا علي لو عدت إليه أخبره بذلك؟ وانصرف فعلا.
أفرخ بال فتنة لانصرافه، ولكنها كانت تعرف ما وراء ذلك، كانت تعلم أن سيدها سيعذبها أسوأ العذاب؛ لجريمتها إذ أسلمت، وهو لا يريد أن يخرج عن القوم لا بنفسه ولا بأحد من أتباعه، ولجرئتها إذ سبت وشتمت كبير بني مخزوم وخمشته، وكانت قد علمت ما أصاب ياسرا وأباه وأمه؛ إذ شدوا وثاقهم ورموهم في الرمضاء حتى مات الوالد دنقا، وماتت أمه بطعنة في أحشائها من أبي الحكم المخزومي نفسه، وذكرت ذلك لورقة قائلة: سأستمرئ هذا العذب في سبيل الله. قال: هذا إذا لم يكن لك منه مهرب ولا مفر. قالت: وهل من ابن جدعان مهرب أو مفر والناس في مكة عبيده سادتهم وسراتهم! فصمت ورقة مفكرا، وخطر له أن يأخذها معه إلى سيده الحارث بن كلدة ليشفع لها، وقدر أنه لن يخيب رجاءه في هذا. فقال لها: نعم إن هناك مهربا وحمى في هدى، في كنف الحارث بن كلدة، وتذهبين معي. فاعتدلت المرأة في جلستها وأبرقت عيناها وصاحت من فرحها، ثم سجدت لله شكرا، وبكت بكاء مرا، وورقة يهدئها قائلا: إنك إن استمررت في هذا جمعت عليك أعدائك فلم تستطيعي الهرب. قالت: صدقت. هلم. قال: هلم. ثم ذهبت فجمعت حاجتها حين ذهب ورقة؛ ليحضر جواده، والتقت به عنذ المذود. فقال لها: وهذه العنزة. قالت: سأتركها في الطريق ترعى ما تجد على عادتها، فإذا دخل الليل عادت في العائدات مع معيز جاراتي. قال: إن لم يكن في ذلك بأس فيها. قالت: لا بأس في ذلك. ليست هذه أول مرة تضل فأجدها عندهن. اخرج بجوادك وانتظرني عند ثنية ذي المجاز،
1
وخذ هذا الجوالق معك على الجواد، ثم ناولته إياه فرحله عليه، وقالت: اخرج من باب الدار سأقفله من ورائك، أما أنا فسأعتلي جدار جارتي لأخرج من بيتها، ولن تشعر بي؛ لأنها بعيدة عنه. قال: افعلي ما بدا لك، ولكن القيني عند الثنية.
هناك في الثنية لقيته وركبت وراءه، وسار في غير ما اعتاد من الطرق إلى هدى، ولكن فتنة كانت تعرف الطريق حق العلم فما زالت به تقول من هنا ومن هناك حتى اعتدل في طريق هدى الذي يعرف.
كانت فتنة تظن أنه إنما اتخذ هذا الطريق فرارا من عيون أهل مكة، لو أنه عاد إلى المروة
2
مخترقا شعاب بني هاشم وتيم إلى منى، فلم تسأله في ذلك، ولكنها إذ كانت تشكره؛ لما يتجشم من أجلها من المشاق ذكرت أنه ارتضى السير على غير هدى. قال: بل أراد الله ما ذكرت ولم أرده. أرسل فضله على لسان سيدة المؤمنين خديجة حين أشفقت أن أعود إلى حراء أودع سيدي ابن نوفل فأمرت ألا آخذ طريق منى، ولم تكن تدري أنها تعمل للنجاة بك من عذاب ابن جدعان.
بلغا هدى قبل العصر، ولكنه لم يشأ أن يذهب بصاحبته على الفور إلى بيت الحارث حتى يلقى زوجته هرميون، ويعرض أمرها عليها فيها، فإن عطفت عليها فبها، وتكلم مع الحارث في شأنها ، وإلا تدبر في شأنها.
وكان ورقة يعرف بدالا ثقفيا في هدى يدعى طويف يجيء هدى كل عام في الربيع، ويبقى فيها إلى ما بعد الصيف؛ ليبيع المصطافين حاجتهم من مؤونة الحياة، وكان يسكن هو وأخت له أرملة تدعى سعدى في بيت لهما وراء ضفة النهر في طريق الهابط إلى مكة، وكان سبب معرفته بهما أنه كان يبيع لبيت الحارث ما قد يحتاجون إليه. كما أنه زاره ذات يوم هو والحارث إذ كانت أخته مريضة، وكان يتردد عليها بأمر الحارث؛ ليراقب حالتها، ويصنع لها الدواء وفاق أمره، ثم صار يقف على دكانته يحييه، ويستأنس به وهو في طريقه رائحا إلى مكة أو غاديا منها، وربما جلس معهم بعض الوقت؛ إذ كان الرجل وأخته يمين في حديثهما ولقائهما، ومن ثم توثقت بينهما مودة كانت سببا في رواج حاله؛ إذ علمت فتيان المعسل أن ورقة يتردد عليه، فكن يقصدن إلى دكانته؛ ليشترين منها ما يكن في حاجة إليه، ثم يقضين في بيته مع أخته بعضا من الوقت يتحادثن فيما يشغل نفوسهن من شئون حياتهن، ومنها ورقة الفتى السمح الذي يركب الجواد. فإذا وجدنه هناك، أو جاء وهن عندها، أخذت كل منهن من وجوده نهلة لنفسها بالحديث معه، وعدت نفسها أسعد من رفيقتها إذا هو اختصها بدقائق في الحديث أكثر من سواها، وإذا ظفرت إحداهن منه بابتسامة أو سمعت منه على إثر حديثها معه مزحة معها أو مع الثقفية أخت البدال عدت ذلك مزية، ولذلك لم يتردد البدال في أن يرجو منه الإكثار من زيارته وإن لم يبدله من علة هذا الرجاء إلا رغبته في الائتناس به، وشعوره بعظيم المحبة له، وكان أبين ما يجتمع الفتيات عند البدال عشي ليلة البدر وصباح يومه، وعشي الهلال وصباحه، وقد فعلن ذلك هذه المرة أيضا، ولكن ورقة ذهب عشي الهلال ورأينه وحادثنه، وملأن عيونهن الجميلة منه، ولم يعد في صباحه، فصببن فرحتهن حيث نهلن؛ وإذ علا النهار ولم يعد من مكة عدن إلى دورهن آسيات لذلك، ولم تخف هذه العاطفة على الثقفية؛ إذ انطفأ ما كان يعلو عذارى المعسل من نور الابتهاج، فلم تتردد لإنعاشهن في أن تذكر لهن ذلك مباسطة ومتألفة ومغرية لهن بالحديث عنه بلا تنكر، ولكنه لم يجئ صباح اليوم الثاني، وعلا النهار كذلك فعدن إلى دورهن كما عدن في ضحى الأمس.
جاء ورقة مبكرا قبل العصر، ولم يكن يرجى أن يخرج أحد من مكة في الهجير؛ ليبلغ هدى في مثل هذا الوقت، ولذلك كان بيت الثقفي خاليا من زواره.
هناك ترجل وترجلت فتنة، وأنزل جوالقها عن الجواد، ورآه الثقفي وأخته فخرجا للقائه مرحبين، وهما مشغولان باكتناه من معه، ورأيا على فتنة شيئا غير عادي فيمن يعرفن من النساء كان سببا في عجزهما عن الحكم من هي؟ لا يمكن أن تكون أمه؛ لأنها أصغر من أن تكون أمه، ولا يمكن أن تكون من جواري بيت الحارث في مكة؛ لأنهن يرتدين غير هذا الملبس، ولهن سحنة أخرى. هذه قوية النظرة كالصقر، عليها مسحة من قوة الاعتزاز بنفسها، وأولئك لا يكن كذلك. فتركا الأمر حتى يبين من نفسه.
دخلوا الدار بين ترحيب الثقفي وأخته. فقال ورقة للثقفي: هذه أخت لي يا طويف اسمها ناجية. أدعها عندك حتى أجيء فآخذها. لن يطول مقامها عندكم فيما أرجو، ولكني أرجو منكما ألا تذكرا من أمرها لأحد شيئا، حتى ولا بعد أن أجيء لآخذها، وها أنذا أقول لكما شيئا من حقيقتها؛ لتعرفا أنه إذا ظهر من أمرها شيء كان في ظهوره أذى لها ولي: هذه الأخت كانت في براثن الشر، فأنقذتها منه في غفلة من صاحبه، فإذا عرف أين هي الآن عرف من غلبه عليها، وما ترضيان لنا هذا. قولي إن شئت يا سعدى فلن يسألكما إلا النسوة، إنها ابنة خالتك جاءت في زيارة، ولا تزيدا على ذلك.
قال طويف: حبا وكرامة، وطمأنته الأرملة على ما أراد، وأظهرت استعدادها؛ لأن تكون معه على الدنيا إذا هو شاء، وقالت: ستكون ناجية في صون الله وستره ما دامت معنا، فاطمئن.
شكر ورقة لها برها وللثقفي فضله، واستأذن في الانصراف على أن يعود إليهما في العشية، وامتطى جواده؛ ليقطع بقية الطريق إلى بيت أستاذه.
الفصل السابع عشر
فراق الدار
صعد ورقة بقية المرتقى، واستقام في طريقه إلى بيت الحارث وهو يفكر في فتنة بعدما أسلمت وطهرت. لقد أنقذها من عذاب داهم، ولكن ماذا يكون من أمرها حتى ولو استطاع مولاه الحارث أن يحمل ابن جدعان على العفو عنها؟ أتعود إلى مكة؟ وماذا تصنع فيها؟ لا يمكن أن تعود حياتها الماضية التي أجبرها عليها ابن جدعان؛ لأنها أسلمت والإسلام عدو البغاء، ولكن ابن جدعان لن يدع الإسلام يحرمه حقه عليها؛ إذ هي جاريته وملك يمينه، وإذا أمكن ابتياعها منه فأين تنزل؟ وهل يستطيع أن يحمل والدته على قبولها لديها؟ نعم هذا يستطيعه، ولكن ماذا تفعل فتنة هناك؟ ليس أشق على الإنسان الحي المتنشط من أن يعيش بلا عمل، ولأهون عليه أن يقضي يومه ينقل كومة من الحجر من مكان إلى مكان بغير ما قصد، من أن يبقى بلا حراك. إنها لا تزال على شيء من الملاحة، فهي في الثلاثين من العمر أو أقل قليلا، وهي ذكية وقوية، وفيها شيء من سعة الحيلة، فهي صالحة للزواج، ولكن أين الكفء الذي ترتضيه بعلا؟ ويرضاها زوجة؟ إن حالتها لتحير اللب! من ذا يستشيره في أمرها! لو كان ابن نوفل حيا لكان قد ابتسم لورقة ابتسامة الحب وأجابه على الفور إلى ابتياعها من ابن جدعان، ولنظر في إصلاح حالها بما لا يدع مجالا لمطلب، ولكنه قضى وخلفه بلا معين، وحرمه تلك الابتسامة الحلوة التي تدل على معاني الخير الذي تنطوي عليه نفسه المباركة. يا لله! أي خير زال من الدنيا بفقد ابن نوفل، وأي فراغ تركه في حياة ورقة، وأي شقاء سيتشعره لموته، وأي يتم. ثم هلت دموع عينيه، وتساقطت على خديه، وامتلأت نفسه بالكآبة، حين وقف به الجواد عند باب الحارث.
رأته سودة قادما من بعيد وهي في البستان، فذهبت عجلة إلى سيدتها الصغيرة تنبئها بذلك، فانتعشت نفسها، وسرت في بدنها هزة السرور، ولكنها لم تشأ أن تنهض للقائه، على الرغم منها؛ لتشعره أنها مغضبة، وتعاتبه على غيابه عنها كل تلك المدة فإنه يعلم أو يجب أن يكون عالما بأنه يشق عليها فراقه: نعم، إنها لم تقل له إنها واجدة به، ولن تقول، ولكن ألم تخبره عيناها بهذا الوجد، أو يسمعه قلبها دقات شغفها به؟ إن كان قد رأى وقد سمع، ثم تركها تعاني البرح في غيبته فقد أساء؛ ومن حقها أن تجزيه غضبا وإن لم يكن قد رأى ولا سمع، فواخيبة أملها وواضيعة هواها، ولكنه قد رأى كل شيء، واطلع على كل شيء، فما من مرة نظرت إليه وهو يحادثها، أو نظر إليها وهو منصت لحديثها إلا وحملت إليه عيناها آيات من الحب البريء آمن بها، ورأت أناجيل من المحبة تتراءى بها عيناه، فتقرؤها صفحة تلو صفحة، وتقنعها أنه يحبها كما تحبه محبة خالصة، وما من مرة سمعت صوته إلا وسمعت من وراء حديثه حديثا آخر خفيا لا تدركه غير أذينات قلبها حديثا شبه المزامير يرتلها القلب في حضرتها. فما سر هذه الغيبة إذن إلا أن يكون قد صبأ ونسي هذا كله! أو أن يكون قد ذهب به هوى آخر احتواه في مكة، فإن في بيت ابن نوفل فتيات يحببنه كثيرا، وقد خطن له ثيابا وأهدينه إياها، وعلمت من سودة أن في الحي الذي تسكنه أمه أمهات يحببنه كثيرا، وقد عرضت إحداهن عليها أن تزوجه من ابنتها وتنزل لها عن المهر، ولكن العفيفة قالت: إن زواجه موكول إلى سيده ابن نوفل، ألم يكن هذا الرد مريبا؟ ألم يوح إليها به أنها تعتقد أن ابن نوفل سيزوجه من إحدى تلك ...
هنا دخل ورقة فقطع عليها سلسلة تلك الأوهام، فلما رأته شهقت شقهة صامتة تبينها ورقة، وانتفت كل تلك الأوهام كما تنتفي رقائق البخار في هبة الريح، وغمرت قوامه المعتدل، ووجهه الحسن، الذي يدل كل ما فيه على رجولة وكمال، بفيض حبها وحنوها وشوقها إليه، وابتسمت لمرآه، ولكنه لم يبتسم لمرآها على عادته، ولم يتجه إليها بقلبه، بل اتجه إلى هرميون ليحييها، ورأت لمياء ازوراره عنها، وضنه عليها ساعة اللقاء بكلمة من كلماته السعيدة التي يخصها بها في كل لقاء، ولم يكن ذلك ليمنعه عن أن يؤدي التحية لأمها قبلها، ورأت على وجهه قترة لا أثر فيها لمشرق الشوق أو الرعاية لها، فضاق صدرها، ولم تقو على احتمال الموقف فنهضت غاضبة، ودخلت إلى الغرفة المجاورة. أما الأم فرأت شحوبا في وجهه وغئورا في عينه، وكمدا يملك عليه نفسه، فهالها الأمر، وإذ كان ورقة ينحني ليقبل يدها أخذت تسائله معاتبة، وأرجأت السؤال عما رأته عليه إلى اللحظة التالية؛ إذ العتاب بر وتحية واجبة. قالت: ما هذا يا ورقة؟ ما هذه الغيبة الطويلة؟ إنك لم تعودنا أن نفتقدك، لا بد أن يكون قد شغلك عنا أمر ذو بال فعسى أن يكون خيرا ... ولكنا ولا نخفي عنك ... ثم قطع عليها الحديث أن رأت نبعا من الدمع في عينيه فنهضت إليه مذعورة، وتخيلت في صمته أخيلة متضاربة، كان أبينها أن يكون النضر بن الحارث آذاه على عادته، أو يكون باقوم قد قضى نحبه. فعاجلته بالسؤال: ما بك يا ورقة؟ ماذا يبكيك يا بني؟ لم يكن ورقة يستطيع الكلام حتى غاض دمعه، وهدأ قليلا فقال لها: معذرة يا سيدتي. لقد اضطررت أن أبقى في مكة لأودع سيدي ابن نوفل فقد قضى أمس في ذمة الله. ثم هل الدمع في عينيه وفاض، ولم تدر هرميون كيف تعزي الفتى، وهي نفسها قد أهلعها النبأ الفاجع في صديقهم الكبير، والرجل الذي يعلو عن جميع من رأت من الرجال في مكة علوا كبيرا، وتمثلت ورقة إذ كان ابن نوفل يعزه ويحبه حتى نزل عنه باختياره للحارث رغبة في أن يتعلم منه، وهو ما كان ليفارقه على أكبر عوض، فرثت لورقة، وحزنت لحزنه، ولم تجد لتعزيته على هذه الكارثة إلا أن تقبله على غير عادتها، في جبينه، ولكنها أشفقت عليه إشفاق الأم فقبلته قبلة الأم وقالت له: لا تحزن يا ورقة إنك لتعلم أن الله كان يعد لك في الحارث أبا كريما حين انتوى أن يقبض إليه ابن نوفل، وجعل إلى جواره لك أما تحبك كما تحب ولدها، وجعل لك فوق هذا أختا.
كانت لمياء قد سمعت حديثها فعادت لترى، وإذ رأت دموع عينيه وعرفت ما حدث سري عنها، ووقفت تنتظر دورها في تعزيته، حتى إذا لفتته أمها إليها وهو واقفة في الباب تتأمله راثية لحزنه، وإن كان شعورها بما زال من أوهامها جعل لسانها أسعى إلى الترفيه بنضج ما في قلبها من المسرة قالت: من في الدنيا مثلك يا ورقة؟ إنك لتجد الدنيا تواتيك بكل خير حتى في أحزانك. لك اليوم أبوان وأمان، بل ثلاث أمهات، أم تراني صغيرة.
ابتسم ورقة لحديثها، وتذكر أمره وما استقر عليه رأيه ليلة المبيت في مكة فأغمض عينيه حياء منها من نفسه، ثم تناول فضل كمها فقبله، وشكرها وشكر هرميون، وحمد الله عليهما، وقال: ليلطف بي الله، وليجعلني فداءكم جميعا من كل مكروه.
وكان ورقة في كل ذلك الوقت حتى مع امتلاء قلبه بحزنه، واشتغال نفسه بهمه، والاستماع لهرميون ولمياء - يفكر في أستاذه ويود أن يسألهما عنه، ولكنه ما ملك لذلك سانحة فما إن وجدها الآن حتى قال: أين سيدي؟ أهو مشغول؟ فلم تشأ هرميون أن تعاجله بنبأ مرضه، ولذلك اكتفت بأن قالت: كان في عزمه أن يهبط اليوم مكة ليرى ما بك، فقد خفنا أن تكون مريضا، ولكنه وجد نفسه لا يقوى على النهوض فلزم فراشه، وقد أرسلنا زيادا للسؤال عنك. قال: شكرا لكم. قالت: كيف! ألم تلق في الطريق زيادا؟ أجاب ورقة: إنه جاء هدى من غير طريقه المعتاد، ولكنه كان مشغول القلب بما حدثته هرميون من مرض سيده، وأخذه الوجد عليه، فمالت قدمه، وبه شيء من الذهول، حيث اعتاد سيده أن يرقد، وكان مباحا له أن يدخل عليه حيث كان بلا استئذان، بل كان هذا ما أمره به الحارث، واستشعرت السيدة قصده فنبهته إلى أنها تركته نائما، وربما كان من الخير أن يظل كذلك حتى يفيق. فعاد ورقة وجلس على مقعد في الغرفة يفكر في علة سيده، واعتورته الأوهام والأخيلة المقلقة، فقد كان الحارث رقيقا، وإذا كانت حمى فربما لم يقو عليها فيقضي كما قضى ابن نوفل، ولكنه أخفى وساوسه وسألها: أبه دفء يا سيدتي؟ قالت: كلا، ليس ما به! إلا فتور وألم في المفاصل، وقد بات ليلة أمس يقلب ساقيه، لا يكاد يقرهما في مكان من فراشه حتى ينقلهما إلى آخر، ويطلب إلي تدليك مفاصله، وهو لا ينقطع عن الشكوى كالطفل المدلل، ولكنه بخير إن شاء الله. هل لديك من دواء؟ قال: الأمر هين يا سيدتي، ودواؤه فيما اعتقد التزام الفراش، وقليل من الخمر ندفئه له قبل أن يتعاطاه. هكذا رأيته يفعل حين عاد ابن المغيرة في مكة، وكان مريضا بمثل ما تصفين فأبل على الفور.
وفيما هما في الحديث كان الحارث قد أفاق، وتنبه لما كانوا فيه، وسمع صوت ورقة فصفق وناداه باسمه. فنهض ورقة جاريا يقول: لبيك، ودخل الغرفة والسيدتان وراءه. فلما رآه في فراشه جثا على ركبتيه وأخذ يده يقبلها، ويقول: نفسي فداؤك يا سيدي من كل مكروه! وغلبه الوجد فبكى. قال الحارث: إنه بخير، وإن الأمر أهون من أن يشغل باله، ولكن ورقة لم يستطع أن يجمع شتيت قواه؛ لأنه إذ رأى الشيخ مريضا أسى لحاله وفرق، فانكشف ذلك الغشاء الرقيق الذي كان يغطي مرجل نفسه الآسية لوفاة ابن نوفل، فزايله الوقار حتى أنهضته هرميون ولمياء، وتعجلت هرميون فقالت لزوجها: إنه محزون يا حارث، وقد تجدد وجده إذ رآك في الفراش. قال الحارث وقد قعد: ما فاتني ذلك. فقد عرفت من حديثكم معه ما جرى، ولكن ليس في الأرض خالد، إنما نحن ضيوف في هذه الدنيا حتى تمجنا فتشردنا عنها بما لديها من وسائل التنكر لنا والأذى، وهي تبول الناس؛ فمن كان جامد الحس صادقته وأسعدته بجموده، ومن كان رقيقا مثلك أنت وورقة نافرته وأشقته برقته، وكنت أحب أن يكون ورقة ... قالت هرميون مقاطعة: جامد الحس! قال: أريد لحبي إياه لو كان كذلك. قالت: لو كان كذلك ما أحببته؛ لأنه يكون قاسي القلب، وهو ليس كذلك. قالت لمياء: بل قاسي القلب يا أماه، ألم يغب عنا يومين كاملين. فضحك الحارث وهرميون واشترك بالابتسامة معهما ورقة، وقالت هرميون لزوجها: ولماذا لا ترجو لنفسك السعادة التي تريدها لمن تحب؟ قال: لا يعرفها إلا المحروم. قال ورقة: مولاي، إنك لتعبث بفؤادي كما عبثت بكسرى
1
أما وربي لنظرة من عينيك بالعطف على سيدتي هرميون وسيدتي لمياء، ونظرة الحب منهما إليك لأرجح في لمحها على كل تلك السعادة المستمدة من جمود الحس، ولألم تستشعره نفسك في العطف على الناس، أملأ للقلب بالسعادة من استقلالك عن الناس وآلامهم، ولولا هذه اللذة القدسية لذة الألم ما سارعت إلى التضحية والهداية، والذود عن الناس، وتطبيب المرضى، والانتصاف لهم من نفسك ومن غيرك، وإحسانك إليهم، وأما وربي ما هو إلا ألمك لي قد حملك على أن تقول ما قلت لتروح عني. هذا بعض برك يا سيدي. جعلت فداءك من كل سوء. قال الحارث: شكرا لك يا ورقة. أنت ولدنا وعلينا أن نكون لك، والآن فاذهب وهات نبيذك الذي وصفت سخينا إنه لهو الدواء حقا، وإن كنت لا أجد بي الآن شيئا.
فنهض ورقة يحضر النبيذ سخينا لمولاه، وبقي الحارث مع السيدتين يذكر ورقة متعجبا لحاله. قال: يا هرميون، ما كنت أريد أن يأتي ذكر أبيك على لساني في حضرتك؛ لئلا يتيقظ فيك الشوق إليه، ولكني لا أحبس عنك الآن بعض ما علمت منه. قالت: وما ذاك؟ قال: لقد كان يقول: إن الهجين خير من الأبوين. قالت: ما معنى ذلك؟ قال: إنه يرى أن نتاج أبوين مختلفين جنسا يجمع خير ما في الجنسين. فهذا ورقة أبوه مصري وأمه عربية، فهو ينطوي على أحسن ما في المصري والعربي معا من صفات؛ أره أذكى وأكرم وأعف وأشجع، ولكأني وربك حين أحادثه أنظر إلى فتى من سادة بيزنطة إلا أنه أعف عينا وقلبا. قالت: صدقت يا حارث، ولكنه يقول: إن أباه عربي من الحيرة. قال: إن الصنوف تختلف: فعربي الحيرة غير عربي بني لحيان. لكل منهما صفات أحدثتها فيه البيئة والمناخ والحياة التي يحياها. قالت: كذلك، وأرى أنه أصبح من حقه علينا وقد مات موئله أن نكون له موئلا، ولا نكتفي من أمره بأن نعوله ويتعلم من علمك. فهل فكرت في ذلك؟ قال: نعم فكرت من يوم أن جئنا إلى هدى. قالت: وما ذاك؟ قال: فكرت في أن أجعل له عندي دينارين كل شهر لا يعطاهما حتى ينقضي العام؛ ليكون المال عدة له، وقد استودعني ابن نوفل عشرين أخرى أعطيه إياها عندما أرى أنه أصبح صالحا للاتجار في العقاقير، وأراه اليوم أصبح بصيرا لها كولدي النضر، ولكني لن أخبره بذلك؛ لئلا يرى الغلام أنه أصبح أجيرا فيتأذى ويلتزم حد الأجير وهذا ما لا أطيقه. بل إني وحقك لأخشى أن يحمله الأمر على تركنا. قالت: صدقت يا حارث. بورك لنا فيك. إنه لفتى نبيل. قال الحارث: فإذا أذنت لنا أن نرحل إلى اليمن شهرين كان في هذا كل ما ترجينه له من الخير. قالت: يسوءني أن أرفض، ولكني أخشى ألا أجد في اليمن مكانا كهذا. قال: لن يكون هذا المكان طيبا بعد شهر فسيدخل الشتاء، وسيكون هذا الجبل العالي أجمع لثلوج الشتاء من جبال لبنان، وما تطيقين فتح هذه النوافذ يومئذ، ويبقى الجبل قاعا باردا صفصفا. قالت: فلنبق إذن حتى نرى هذا، ويتنادى كل منا الرحيل. الرحيل. أما مكة فأقسم لن أسكنها. قالت لمياء: ولا أنا. إني لأوثر أن أتنقل في الجبال والوديان على أن نستقر حيث كنا. قال الحارث: نرحل إلى نجران. إنها كبعض هدى، لولا أن الثلوج لا تغشاها، ففيها شعاب وفيها وهاد، وفيها ظهور وفيها بطون، فلنسكن في الوادي. قالت: كذلك.
وكان ورقة قد عاد لسيده بكأس فيها نبيذ قليل. فقال الحارث: شكرا يا ورقة. إني وحقك أكره الخمر مهما بالغ السفهاء في امتداحها. أأنت تشربها يا ورقة. قال: والله ما ذقتها منذ رأيت سيدي ابن نوفل يحرمها على نفسه، ولكم سمعت مولاي محمد بن عبد الله يقول إنها «رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه»، ولكن هناك ما هو أشد منها في الرجس والأذى يأمر به الطب والدواء، فلا يكون إذ ذاك رجا بل دواء، على أن يكون ذلك طوعا لأمر طبيب كريم. قال الحارث ممازحا: وأنت اليوم طبيب كريم؟ قال: ما أعطيتك هذا الدواء فأكونه، وإنما أعطيتك ما وصفت أنت نفسك. ألم تعطها للوليد بن المغيرة في مثل حالتك؟ فضحك الحارث ازدهاء بكلام الفتى.
وفيما هو يشرب النبيذ كان زياد واقفا يتراءى في طرقة الغرفة، ولمحته هرميون من حيث كانت جالسة، فنادته، فدخل وفي يده شيء منبسط قد كسي بخرقة وربط بخيط. قالت: ما هذا؟ قال: رسالة من سيدي النضر. فتناولها، ثم استمر يقول: مررت بالدار قبل أن أعود لأراهم عسى أن تكون لهم حاجة عند مولاي، فاستمهلني مولاي النضر حتى يكتب هذه الرسالة.
فكت هرميون خيوطها وعرضتها، فإذا هي مكتوبة على رق من الجلد بالعربية، فقدمتها على الفور إلى الحارث حين قدم الكوب إلى لمياء؛ إذ كانت أقرب إليه من ورقة، ثم أخذ يقرؤها صامتا، ولاحت على وجهه سحابة لم يستطع أحد فهم سببها، ولكنه لم يتركهم في حيرتهم طويلا، فقد أعطى الرسالة إلى ورقة وهو يقول: الأمور متداركة يا هرميون، قالت: كيف ذلك؟ قال: إن الوليد بن المغيرة زار ولدي ليخبره بأن ولده خالدا ورفقته عائدون من ديار الشام قبل أن ينتصف الشهر، وأنه أرسل إليه ليرسل أهله إلى بيته هذا في هدى في انتظار مقدمه؛ لأنه سيقضي بقية الصيف في بيته.
قالت هرميون: لم يبق علينا إلا أن نستعد للرحيل. قالت لمياء: إلى أين نرحل؟ إني لا أعود إلى مكة، وخير لنا أن نرحل من الآن إلى نجران إن كنا فاعلين. قالت هرميون: مضى اليوم من الشهر ثلاثة أيام، ويجب أن نترك البيت لزوجة خالد قبل مقدمه بما يكفي لإعداده. قال الحارث: أمامنا إذن أربعة أيام أو مثل ذلك. إنا راحلون إلى اليمن يا ورقة فماذا ترى! لقد قررنا ذلك الآن قبل أن تأتينا رسالة النضر. قال: كل مكان أكون معكم فيه طيب، وإني لأشتهي أن أرى اليمن السعيدة فهي ديار الرخاء والعلم، ومرابع الأخيار. أليس أهل يثرب والحيرة والعراق والشام من اليمن؟ حمير وكندة وأزد والأوس والخزرج وغيرها؟ قال الحارث: إذن فاستعد لذلك. إني ذاهب في الغد إلى مكة؛ لتدبير أمر هذه السفرة فدبروا أنتم لها من هنا.
على هذا اتفقوا، ورأوا أني يتركوا الحارث؛ ليستريح، وينصرفوا هم للعشاء، وإعداد ما يليق أن يعطاه الحارث من الطعام لليلته.
الفصل الثامن عشر
من أجل عين
لم يشأ ورقة أن يتعجل الكلام مع مولاه في شأن فتنة تلك الليلة، وإنما اكتفى بأن انتهز فرصة اجتماعه بهرميون فذكر لها أمرها كله، ورجا منها أن تتلطف فتخبر الحارث في وقت آخر، فإن وجدته مستعدا للشفاعة لفتنة عند سيدها ابن جدعان - أذنت له أن يصحب سيده إلى دار طويف؛ ليجمعه بالفتاة التعسة عسى أن يكون من وراء رؤيته إياها ما يعطفه عليها، ويحمله على التفكير لها في وسيلة للنجاة. قالت هرميون: وأي وسيلة يا بني لإنقاذ فتاة في مثل سنها إلا أن تعيش في كنف رجل يتزوجها ويحميها. لا وسيلة سواها إلا أن تكون وسيلة عرجاء، ولقد أحزنني حالها يا بني، ولا أدري بم أشير على زوجي. لقد كان في نيتي أن أتكلم معه في شأن تزويج زياد من سودة، وأظن أن سودة عرفت ذلك من سيدتها لمياء، فلم يبق لنا ...
قال: لم يبق شيء، ولذلك أرى أن نكتفي من الأمر بشفاعة مولاي لها عند ابن جدعان، وعساه يعتقها وإلا باعها على أن يشتريها باقوم، وتبقى مع أمي حتى أعود، لعل الله يحدث بعد هذا الضيق فرجا. قالت هرميون: وهل لدى باقوم نقود؟ قال: أجل. إنه لم ينفق من ثمن ما كان معه في السفينة التي تكسرت في جدة منذ عشر سنين شيئا كثيرا. بل لقد زاد ماله يا سيدتي. فقد استودع العباس بن عبد المطلب أكثر ماله؛ ليقرضه للناس في مكة والطائف كما يفعل اليهود، وهو يعيش على هذا الربا، ولقد ذكر لي غير مرة أنه يدخر لي أصل هذا المال. فإن كان كذلك فلعله لا يبخل علي بشيء منه فيما يرى أنه من واجبه نحو فتاة غريبة عن مكة مثله أسلمت هي أيضا كما أسلم. قالت: كذلك، سأتكلم مع الحارث في هذا الشأن، ولعله مستطيع أن يحمل ابن جدعان على عتقها؛ ليبقي عليك مالك. لن يضير ابن جدعان وهو صاحب الجفنة التي يطعم منها مئة رجل كل ليلة
1 - أن يعتق لوجه الله فتاة لم يعد ينتفع بها في شيء. على أني أريد التعجيل بزواجها، وسأنظر في الأمر. لن أسمح أن تنتقل الفتاة إليكم فقد تغار أمك منها، أو تحملك الرأفة على زواجها.
انتبه ورقة لهذه الملاحظة المفاجئة وقال: أنا يا سيدتي أتزوج! قالت: ألا يمكن أن يحدث ذلك! قال: محال أن أتزوج لا بها ولا بغيرها. فضحكت هرميون لهذا، وقالت: هذا ما تستشعره الآن، ولكن تنكرك للزواج يدل على أنك لا تعرف قيمة للزواج، ومثلك، لهذا، يرى النساء سواء، ولذلك أخشى عليك الخطأ عندما يمتلئ قلبك بالرحمة.
قال ورقة: افعلي ما بدا لك يا سيدتي، ما كنت أعترضك في أمر كريم كالذي تتطوعين له بمحض إرادتك الطيبة، ولكني يا سيدتي أرجو أن تثقي أنني استخرت الله في أن أعيش في هذه الدنيا راهبا. قالت هرميون: إنما تهون حياة الرهبنة على الراهب؛ لأنه يحبس نفسه في صومعة فلا يرى شيئا من الدنيا، ولا يستشعر ما يستشعره من كانت الدنيا بين عينيه سوقا ينغمس فيها. كيف تملك أن تعيش راهبا؟ أيكون في فؤادك اليوم ما يؤلمك؟ مطمع ترى تحقيقه محالا، فأنت ليأسك منه تعيش في مثل رهبنة، وتظن أنك لن تتغلب على يأسك، أو أن يأسك لن يزايلك، فأنت مترهب؟
أوشكت هرميون أن تقرع باب السر الخفي من نفسه، بل قرعته فعلا وهي لا تدري، ولكنه لم يجرؤ أن يرد على الطارق. فأمسك ورقة لسانه ، ونظر إليها نظرة يستشف بها مصدر سؤالها ، وأدركت هي هذه النظرة، ورأت أنها تطرق حمى ليس من حقها طروقه. فقالت: ليس لي أن أسأل هذا السؤال، ولكنك حملتني عليه. عش ما شئت، ولكني سأحاول تدبير أمر هذه الفتاة من أجلك أولا، ومن أجلها ثانيا. هذا حقك على أمك يا ورقة.
كانت نفس ورقة قد تزعزعت في هذه اللحظات الأخيرة. تذكر حاله من لمياء، وأدرك أن ما ملكه من الرغبة في العيش مترهبا إنما هو أثر من آثار ما اعتزمه من أن يقطع تلك الخيوط الحريرية التي تختلط بما يربطه بلمياء من الخيوط الأخرى: خيوط المودة الأخوية، فمال على يد سيدته هرميون وقبلها شكرا، وأسقط عليها بغير اختياره دمعة حارة انتطلت من قلبه المحترق. فشدهت هرميون لذلك؛ ولكنها لم تشأ أن تتقصى الحقيقة، أو كأنها توهمتها فلم تشأ أن تتحقق منها؛ لأنها تواجه إن عرفتها أمرا عصيبا، ورضيت من الأمر بحاضره، فعزت تلك الدمعة إلى فرط بر الفتى بالجارية، وثبتها فيها ارتضت أنه استعطفها عليها من جديد. قالت: دع لي الأمر كله، وانصرف أنت الآن.
انصرف ورقة إلى غرفته مفكرا في حديث هرميون وفي نفسه - أي في لمياء، وكأنما أطارت لها هرميون طائرا كان في صدره، فلم يستقر في فراشه، فجلس في فراشه يفكر، ولكنه لم يهتد إلى شيء، وأحس أن غرفته تحبس عنه موارد السلوى، فنهض وانتعل ثانيا وارتدى، وخرج يستنشق نسيم الجبل سائرا على غير هدى، حتى وجد نفسه عند نهر المعسل، فوقف ينظر إلى مائه وهو ينحدر متموجا متألقا فيما أبقت ساعات العشاء من الهلال. ثم خطر له أنه لم يصل العصر، فخلع نعليه واقترب من الماء يتوضأ، حتى إذا أتم وضوءه نهض متجها نحو الكعبة قبلة إبراهيم يصلي لله كما علمه زيد، وكما رأى رسول الله في الحرم، ولكنه لم ينهض بعد ركعتيه بل استمر جاثيا يدعو الله أن يثبته، ويقويه على احتمال ما في قلبه، ولم يطاوعه هذا القلب فيدعو ربه أن يزيل ما فيه من الحب للمياء؛ لأنه كان يرى أن هذا الحب من حقها: هو جزاء حبها له. بل هي التي استودعت قلبه الحب فلا يملك أن يزيله منه، ولا من المروءة أن يطلب إلى الله إزالته، وإن هذا الألم الذي يعانيه هو ما بقي له من الصلة بها. فإذا هو إزاله - والفرض لا حد له - حرم نفسه الخيط الوحيد الذي يربطه بحياة روحه لمياء.
لو كان ورقة غير مشغول اللب لما هو فيه؛ لسمع من حيث جثا حديثا يجري بين رجل وامرأة في ظلام العشية بعد أن هبط الهلال قادمين نحوه على غير قصد. كانا يتكلمان عن ورقة وفتنة بالرومية، وهما لا يشعران أنهما على مقربة منه يسمعهما ويعرفهما وإن لم يكن يتبينهما. كان هذان بالطبع أستاذه الحارث وزوجته هرميون خرجا بعد العشاء ليستريضا، فقد شعر الحارث أنه عوفي، وأنه يود أن يستنشق الهواء، فخرج هو امرأته؛ ليسيرا قليلا ثم يعودا. لم يدر ورقة ماذا يفعل؟ أيترك المكان لهما منسلا في جهة أخرى؛ ليتما الحديث؟ وفي هذا الترك ما يلفتهما إليه، ويقطع عليهما الحديث! إذ يشتغلان بالنظر إلى الشبح والتفكير فيه؟ أم يتنكر ويبقى؛ ليتسمع ويعرف ما استقر عليه الرأي في شأن فتنة، ويكون في هذا مسترقا متجسسا فهو غير كريم؟ الواقع أنه كان في مأزق لم يدر كيف يكون خروجه منه. فظل في مكانه حائرا وهو خجل من نفسه مضطرب. وكلما تنبهت نفسه لما هو فيه تنبهت أذنه لما كان يجري بينهما من الحديث بالرغم منه، ولكن الله أخرجه من ذلك المأزق، فقد وقف الحارث وامرأته على بعد يتحادثان. فلما انتهيا مما كانا فيه مالا عن طريق النهر، وانحدرا نحو البيت. قال الحارث: أرى وجه الحق في إبعاد فتنة عنه. نعم إن حالها تغير، وقد لا تطمع أن تتزوج منه؛ لأنها أسن منه كما قلت بعشر سنين، ولكن لا أمان لها، ما في الدنيا امرأة ترى نفسها أكبر من أصغر رجل أو تتورع أن تشتهي الزواج ممن هو أعلى منها ولو كان ملكا، ولكن اليأس يحبس لسانها عن الكلام ، وقلبها عن الرجاء، في أن تسنح سانحة أو يمر بذهنها وهم، حتى يفك اللسان من عقاله، والقلب من إساره، وورقة في حالته هذه سانحة، وعمله معها مما يوقظ في نفسها الأمل قويا، ولا غرو أن تعمل على تحقيقه. كما أني لا أرى أن نزوجها من زياد. سترى زيادا دونها. لقد طالما اجتمعت بأعاظم رجال مكة، وسمعت كلمات الثناء والتغزل القبيح منهم فيها، فلن يكون زياد شيئا. كما أني اكره أن أراها في بيتي ولو كانت حياتها قد تغيرت، ستبقى سمعتها عليها ولو أصبحت قديسة.
قالت هرميون: أنا معك في هذا، ولكني وعدت الفتى - من أجله هو - أن أنظر في أمرها. أليس لك حيلة؟ قال: سألكم ابن جدعان في أمرها، ولعلي أستطيع أن أحمله على عتقها، فإن أبى فسأشتريها وأعتقها. أما الباقي فليس في مقدوري حله. قالت: نحن على وشك الرحيل عن هدى ومكة وفتنة، والواجب - إن كان ثمت واجب - أن نعجل برأي حاسم.
وكان الحارث وزوجته قد انعطفا نحو دارهما، فبعدا وبعد الصوت معهما، فلم يستطع ورقة أن يسمع شيئا. فلما أمن أن يرياه نهض في خفة، وسار نحو طويف؛ ليزوره كما وعد، ويطمئن على فتنة.
كانوا في انتظاره، فلما دخل عليهم نهضوا لاستقباله فرحين، ودنت منه الأرملة مرحة طروبا واحتضنته وقبلته على غير انتظار منه قبلات بعضها عن شوق وبعضها تقليد، وهي تقول: كل عذارى المعسل يشتهين هذه القبلات، ولكنهن لا يظفرن بها، فرأيت أن آخذها؛ لأفرقها عليهن عند ما يزرنني في الغد، وربما بعتها بثمن كبير. قال طويف: ويحك يا سعدى، إنك لجريئة، أو تفعلين هذا أمام أخيك؟ قالت: خل عنك هذا. ألم تقل لي أنت نفسك إنك تحب ورقة، فكيف بي؟ قال ورقة: بورك فيكم جميعا. كيف حالك يا ناجية؟ قالت: خير حال. ما رأيت سعادة كالتي أنا فيها الآن. إن طويفا وسعدى يملآن النسيم مسرة. قالت سعدى: بل أنت مصدر هذا، ولعمري لا أدري كيف يكون حالنا إذا أنت فارقتنا. قالت: وددت ألا أفارقكم أبدا، ولكن هل أملك ذلك؟ ثم نظرت إلى ورقة كأنما تستفسر. قال: الغد فصل الخطاب، وسأجيء إليك في مثل هذه الساعة أو قبلها إن استطعت. سيذهب أستاذي الحارث إلى صاحبك في الغد. قال طويف: ثم يكون من وراء ذلك أن تأخذها منا؟ قال: والله لا أدري بماذا أجيب، ولكن الأمور مرهونة بظروفها. قال طويف: اسمع يا ورقة، إنك لم تشأ أن تصارحنا عنها بشيء. ليست ناجية أختك إلا في الإسلام، وما تدعى ناجية بل فتنة. هكذا عرفنا منها، وهي فارة من ابن جدعان. إنها وثقت بنا وأخبرتنا. فإذا استطاع الحارث أن يحمل سيدها على عتقها فبها، وإلا فاعمل أنت على ذلك، وإليك هذا. ثم وضع يده في جيبه وأخرج منه كيسا فيه نقود ورماه إلى ورقة. هذا عتقها أو مهرها، أو ما شئت فسمه. إن يكن قد حملك إسلامك على البر بها، فإنما يحملني على ما أفعل ما نحس لها من الحب أنا وأختي. قالت سعدى: فإن لم يكف هذا فأقرضنا الباقي.
نظر ورقة إلى فتنة مبتسما ومستفهما. قالت: لا رأي لي في ذلك. لقد علقت رضاي على رضاك؛ فإن استحسنت الأمر فهو فيما أظن تدبير الله. قال: جل جلال الله؟ ليس وراء ذلك من رجاء يرجى إلا أن يهدي ابن جدعان إلى الخير، وسيكون ذلك إن شاء الله. إنه لن يرفض شفاعة الحارث بن كلدة. ثم التفت إلى طويف وأخته، وقال: لقد كنت عزمت أن أفك رقبتها بمالي، ثم أسألكم إيواءها حتى حين فإذا أنتم تسارعون إلى الخير. شكرا لك يا سعدى. شكرا جزيلا. قالت: تشكرني أنا! إن كان هناك شكر فهو لعينيها اللتين أيقظتا في هذا الفتى الأرمل المتشايخ قلبه النائم. قال: ومن حمله على التشايخ سواك؟ أما حرمت عليه أن يتزوج حتى تتزوجي؟ أما وقد أذنت فأنا أقبلك الآن عن نفسي لا عن عذارى المعسل ولا رجاله، ثم قبلها بين ضحك الجمع وسرورهم، وقال: أستميحكم الآن عذرا في الانصراف. عموا مساء جميعا ، حتى ألقاكم في العشية غدا أو قبلها إن استطعت.
فودعوه أحسن وداع وانصرف إلى داره خفيف القلب سعيدا.
الفصل التاسع عشر
سجية ابن جدعان
قصد الحارث إلى دار ابن جدعان؛ ليعالج معه أمر فتنة، وذهب ورقة إلى سيدته أم المؤمنين يستأذنها في السفر مع الحارث، فلم تمانع في ذلك؛ لأنها كانت قد اتفقت حين رضيت بلحوقه إلى أستاذه أن يذهب معه إلى اليمن إذا شاء؛ ليتم تعلم العقاقير - على أن يستقر بمكة بعد ذلك للتجارة فيها، ووصفها للمستوصف لمرضه إذا أذنه بذلك أستاذه كبير أطباء العرب، وكان ورقة يرجو أن يلقى رسول الله في داره؛ ليتزود الخير والرضا، ولكنه كان
صلى الله عليه وسلم
قد ذهب يعود سعد بن أبي وقاص في مرض أصابه، فقصد ورقة إلى دار سعد فرأى النبي
صلى الله عليه وسلم
وهو خارج منها هو والحارث بن كلدة، إذ كان الناس قد رأوه عند ابن جدعان، وعلم
صلى الله عليه وسلم
بذلك فأوصى باستدعائه؛ ليكشف عن علة سعد.
1
فلما انتهى الحارث خرجا معا، وأخال الحارث قد حدث رسول الله عما اعتزم من الرحلة بورقة إلى اليمن في طلب العلم، فارتاح إلى ذلك، كما أخاله ذكر له حديث فتنة؛ إذ أنقذها ورقة من عذاب الرمضاء وأحضرها إلى هدى، وأرسله في شفاعة إلى ابن جدعان؛ ليعتقها أو يبيعها ليشتريها باقوم، وأن ابن جدعان قبل شفاعته فأعتقها بالرغم من اعتراض أشقياء قريش، وأخاله
صلى الله عليه وسلم
قد ارتاح إلى الحديث، وأن ورقة لما وصل إليهما والتقى بهما، دعا له رسول الله بالسلامة والتوفيق. فقال الفتى وقد قبل يده
صلى الله عليه وسلم : اللهم وفقني لمرضاة رسولك فهي مرضاتك، وألهمني الصواب والهدى في كل طريق؛ فأمن رسول الله على دعائه، وأوصاه بأستاذه، وأوصى أستاذه به خيرا، وانصرف
2
إلى داره.
فلما خلا الحارث بورقة قال: والله يا ورقة لا يمنعني من أن أعلن إسلامي إلا ما يمنع أبا طالب والعباس. فأبو طالب بائع عطر، وبر أحيانا
3
رزقه فيما يبيع للمشركين والعباس: صيرفي،
3
مورده فيما يقرض أهل الطائف ومكة. وكرامتهما في مكة - إذ هما ابنا عبد المطلب حارس بيت الله - ما داما مع قريش وأوثانها ولو في الظاهر كما أرى، وإني لأخشى أن تقاطع قريش بني هاشم بما مالوا عنهم إلى أخيهم محمد بن عبد الله. إني سمعتهم يتحدثون الليلة في هذا، ولكنهم لم ينتهوا بعد إلى إقراره. فادع الله في صلاتك أن يصدهم عن هذا، والآن فخذ، ثم أخرج من جيبه رقا وناوله إياه. قال ورقة وهو يقرؤه: ما هذا؟ عتق فتنة! قال: أجل، كانت لنا في مجلسه مع ذئاب قريش جولة وصولة، قبحهم الله جميعا. ليس فيهم رجل رشيد حتى ولدي النضر، بل كان أشدهم معارضة لي ... وأنا أبوه! ولكن ابن جدعان مضى على سجيته من الكرم وأعتقها إكراما لي، وكان عمرو - الذي تسمونه أبا جهل - أشدهم كرها لما فعل ابن جدعان. نهاه أولا، ثم عرض أن يشتريها؛ ليعذبها ويقتلها كما عذب وقتل سمية. فلما رفض ابن جدعان هذا الطلب طلب إليه عقابها قبل عتقها. فقال ابن جدعان: لا تكن يا عمرو فيمن يستعدي على النساء، لو قتلتها أنت بالأمس ما عاتبتك. أما الآن فقد أعتقتها وإني مع العتق أحميها. قال: تركتها رعيا لك. قال: بل لجروح وجهك فيما أرى! وكان وجهه مخموشا خمشا ثقيلا، فغضب ونهض من مجلسه يزمجر. قال ورقة: ما لي على شكرك يدان يا سيدي. قال: لا شكر على ذلك. كان حقا علي أن أنقذ هذه الفتاة بعد ما علمت من أمرها من أم لمياء ومنك، والآن فانصرف إلى أهلك فودعهم وتلطف، ثم اذهب من فورك إلى هدى. إني مقيم هذه الليلة في مكة؛ لأستعد لهذه السفرة، وسترى دنيا غير هذه الدنيا يا ورقة. ليس في بلاد هذه الجزيرة ما هو أطيب منها ولا أسعد، وإذا جاء الصبح فأعدوا حملونا للرحيل والقني في مصعد هدى في الضحى على طريق اليمن. لا حاجة بنا للمقام بعد اليوم في هدى، ولكن حذار أن تمر بحراء. كن رجلا . سلم على القبر إذا بلغت طريقه. عدني بذلك. فانحنى ورقة وقبل يد أستاذه، وقال: عهد الله يا سيدي ما تريد. قال: كذلك، ثم انصرف في طريقه وانصرف ورقة إلى دار أبويه.
لقيهما وقت الغداء، وكان معهما بلال، فهللوا لرؤيته فرحا؛ إذ لم يكونوا في انتظاره، ودعوه للغداء فجلس، وكان أشدهم اغتباطا به بلال - رضي الله عنه - فقد علم حديثه. فلما أتى على ذكر عتق فتنة لم يتمالك بلال أن يكبر، على عادته عندما يرى للإسلام علامة نصر، تكبيرة سمعت في الطريق، ثم وقف وسجد لله شكرا، وأخذ يبكي لشدة قرحه، ويدعو لورقة وللحارث، وشكرته أمه وباقوم على بره، وانتهز ورقة هذا الظرف فقال: وقد رأى الحارث أن يبعدني الآن عن مكة وأبي جهل، فاعتزم سفرة قصيرة إلى اليمن ليقفني فيها على العقاقير اليمنية وما توصف له ثم نعود، على أن أتجر في مكة وأستقر. قال باقوم: حسن ما يفعل. أليس كذلك يا تماضر؟ فلم ترد، ولكنه رد عنها فقال: بلى. بلى. ادعي له بالسلامة، ثم نهض باقوم وسار إلى غرفة مجاورة حين كانت تماضر تقول: كتب الله له السلامة. في أي عير تذهبون؟ أم تذهبون عيرا بأنفسكم؟ لم يكن الحارث قد أفتاه في ذلك، ولكنه قال: إن مولاي الحارث كان يريد أن يرحل بعد ثلاثة أيام، ولكنه بعد لقاء أبي جهل في بيت ابن جدعان رأى أن نرحل في الغد، وأوصاني أن أذهب بعد رؤيتكم إلى هدى؛ لأعد الحمول، فلعله سمع في بيت ابن جدعان بقيام عير إلى اليمن. قالت: ليس في ذلك دليل. قال بلال: بل هناك عير راحلون في الغد. هكذا علمت؛ إذ كنت في السوق عند مولاي أبي بكر. قالت: على بركة الله يا بني، وكان باقوم قد عاد بعد مدة قصيرة فلما سمع دعاءها قال: إن دعاء الأم أبلغ الدعاء وأحقه بالإجابة. خذ يا بني هذه الدنانير. إذا احتجت إلى النفقة فأنفق منها، وإن لم تحتج إلى شيء فاشتر بها كلها عقاقير من اليمن تجعلها في متجرك يوم تعود. هي خمسة وعشرون دينارا ، ولا أوصيك في توديعك بشيء. حسبك من دينك أنه يعصمك من كل سوء. اجعل تقوى الله في عينك وفي قلبك، وقال بلال: الزم إقامة الصلاة؛ إنها كما قال رسول الله: تنهى عن الفحشاء والمنكر. قال ورقة: اللهم أوزعني أن أشكر نعمتك على كل من يحيطون بي، وفيما استودعت قلبي من النور والهدى.
وكان العصر قد آذن فنهضوا جميعا للوضوء والصلاة، واستعد ورقة للرحيل، ولكنه ما كاد يهم بتوديعهم حتى قرع عليهم الباب ففتحوه، وإذا زيد بن حارثة قادم بعشرين دينارا من سيدته أم المؤمنين هبة منها لورقة على أن يشتري بها عقاقير لتجارته. فلهجت ألسنة أهل الدار بالدعاء لها والشكر لله على نعمته، ولم يشأ زيد أن يترك ولده في الإسلام بغير تذكار فنزع عنه حسامه وحميلته وقلده ورقة، وقال: خذ هذا يا ورقة. هذا من سيوف رسول الله فهو أثمن من كل معدن. واعلم أن شرفك في حده، وكرامتك في ظباه، ما إن عرفت متى تجرده من قرابه. قال ورقة: إن لله عينا علينا نحن المؤمنين يا زيد وله في قلوبنا إلهاما إلى الرشد والخير معا، وإني والله لأرجو أن اعتصم بالدين من نفسي، وبنفسي من بغي الناس والأذى، فادعوا الله جميعا أن يفرغ علي هداه. فدعوا كلهم له بالسداد، وإذا باقوم ينادي: يا زيد، لقد كنت أشعر وأنا أعلمه المسايفة والرماية في شعاب الجبل أن الله يدفعني إلى ذلك دفعا، وما هون قطع قدمي علي شيء كاعتقادي أني أكملت تعليمه ضرب السيف ورمي القوس، وأنه لم يعد في حاجة أن أخرج معه إلى الجبل، وإنه والله ليعرف متى يجرد السيف من قرابه ومتى يغمده. بل لعمري إن له من خلقه وما يتبين الناس فيه من الشهامة والاعتزاز بالكرامة ما لا يطمعهم فيه. أستودعك الله يا ورقة. سر على بركة الرحمن. فودع ورقة عمه ووالدته وداع الابن البار، وودع بلالا، وخرج مع زيد متجلدا إلى حيث استودع جواده. •••
بلغ هدى، وبلغ دار طويف في مغرب الشمس فوجدهم في انتظاره خارج البيت، ووجد معهم بعضا من أهل هدى كانوا قد جاءوا؛ ليشتروا من دكانة طويف، أو يقضوا بجوارها بعض الوقت على عادة الناس؛ إذ يرون الدكاكين أجمع لشتيت الناس فيلتمسون الفرجة بالحديث معهم. فلما لمحت فتنة رأس جواده يطل من المرتقى صاحت: هاهو ذا ورقة. فاتجهت العيون صوبه كأنما تسائله. فحياهم من بعد بالإشارة تحية الفرح الظافر، وأخرج من جيبه الصرة التي كان قد أعطاه طويف إياها في العشية ثمنا لفتنة أو مهرا لها، وقال: خذي يا فتنة. أصبح الآن هذا المال مهرك. لقد أعتقها ابن جدعان فهي حرة تمهر، وهذه شهادة العتق! ثم أخرج الرق من جيبه، وناولها إياه، وترجل. فصاح الجمع مهللين مكبرين، وانهالت فتنة على يده تقبلها وتبكي، وتبعها طويف وسعدى في ذلك داعيين شاكرين. فقال لهما: لقد صح منكما العزم على الزواج وتراضيتما، فعلى دين من تتزوجان؟ على دين الجاهلية والأوثان أم على دين الرشد الحنيف؟ قال طويف: بعدا لدين الأوثان ومقتا للمشركين. إنما نتزوج على دين من أنقذ هذه الفتاة من الضلال، وجعل لها في الدنيا أهلا وإخوانا، دين الطهر والعفة والرأفة وسعادة الدارين. قالت فتنة: فأنا لك يا طويف الزوجة الشاكرة البارة، ولأختك الأخت الوفية المقرة بالجميل. فقالت سعدى: واشهدوا يا قوم أني خلعت دين اللات والعزى، واعتنقت منذ لقيت فتنة دين من يحمي العرض ويرعى النساء، ويحفظهن من غواية الشيطان. قال الجمع الحاضرون: دين من هذا؟ لقد شوقتمونا أيها السعداء. قالوا جميعا: هذا دين محمد بن عبد الله. اشهدوا معنا أيها الناس إن أردتم لأنفسكم النجاة، أو فاشهدوا علينا. قالوا: بل نشهد معكم وعليكم، واشهدوا علينا كذلك. قال ورقة: اشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله إلى الخلق أجمعين! فردد الجمع الشهادة صائحين، حتى كانت لصيحتهم رجة في أرجاء الجبل توارد عليها أهل هدى؛ ليروا هذا الحادث العظيم.
وسرعان ما دخلت سعدى إلى الدار فصبت في جفنة عسلا وماء وعطرا من الورد، وأتت به تسقي الحاضرين احتفاء بهذه الساعة المباركة . فلما شرب ورقة حمد الله وأثنى على رسوله، ثم سلم عليهم مودعا ومباركا على أمل اللقاء في صباح الغد، وتوارد الناس يهنئون طويفا وفتنة بالزواج، ويشربون ذوب العسل اللطيف المزاج.
الفصل العشرون
أراقم الثنية
في الساعة التي كان يجري فيها هذا الاحتفال الجبلي العظيم، كان الحارث يزور أندية قريش في الحجر عند الكعبة ليودعهم، ولكنه لم يعدهم يستحقون هذا الإكرام، فاكتفى من الأمر بالمرور محييا وكأنه لم يحتزم شيئا، ولا كان قد غاب عنهم. ذلك بأنه لم يسمع في مجلس من مجالسهم إلا لغوا، وإلا سبا وذما لرسول الله المبرأ من كل ذام. علم منهم أنهم يبعثون كل يوم بسفهائهم وصبيتهم وغلمانهم إلى رسول الله وأتباعه يسبونه في وجهه، ويلقون عليه وعلى المسلمين الأحجار والروث، ويوعزون إلى جواريهم أن يتغنين في الطرقات وفي المواخير التي كانوا يغشونها أراجيز مقذعة سافلة في حق أطهر خلق الله وأكرم عبيده عليه
1
بل رأى من أقرب الناس إلى رسول الله نفسه من يسبقون سائر قريش في أذاه. ففيما كان الحارث يزور أحد المجالس جاءه أبو لهب مستطبا من حشرجة في صدره أثر ما كان يلقي من القول المقذع في ذم ابن أخيه. فقال له الحارث: لو تركت هذا لرد إليك صوتك! قال: لا أتركه ولو أصبحت لا أطيق الكلام بتاتا. إن من يسب آلهتي ويسفه حلمي وحلم قريش - أسبه هو وإلهه حقا. قال: إنما إلهك إلهه، وإنما أنت تتوسل إليه بحجر مما تستبرئ بمثله. قال: قبحت. كيف تقول هذا؟ قال: اذهب لا طب لك عندي إلا ما ذكرت، وسمع الحارث من أحدهم أن عتيبة بن أبي لهب، قبل رحيله إلى الشام في تجارة لأبيه، وكان قد صاهر رسول الله في ابنته رقية - رضوان الله عليها - أتى إلى حميه في بعش مجالس، وقبض على لحيته، ورد عليه ابنته مطلقا، وبصق في وجهه
صلى الله عليه وسلم ، فدعا عليه النبي بما فعل. فقال: «اللهم سلط عليه كلبا من كلابك » فأكله الأسد بعد حين في الشام.
1
وسمع أن ولده النضر، وهو ابن خالته
صلى الله عليه وسلم
يرتاد أندية قريش؛ ليكذبه، ويسفه رأيه، ويغري به، وهو يقول: تعالوا إلي أنا أحدثكم عن أخبار الفرس والروم، وما يفعلون اليوم، فهذا أمس بكم من حديث محمد عن ذي النون وذي القرنين ممن لا تعرفون. إني أنا العالم البصير، وما هو إلا الأمي الجاهل؛ فحزن الحارث لهذا حزنا شديدا، وسار إلى منزله مغضبا؛ ليؤنب ولده على غروره وقبح حديثه، وسفاهته، وكان الليل قد اشتدت حلكته فما كان يتبين الإنسان فيه إلا الأشباح، وإلا ما تحمل الريح إلى الآذان من لغط اللاغطين. فسمع على مقربة من بيته رنين أعواد وطنين مزاهر ونقر دفوف ثم غناء يعقبه ضحك وسباب، ورأى نورا ينبعث من كوة بعيدة في بناء الدار، فدخل وقصد إلى الغرفة المضاءة فإذا هو يجد فيها جماعة من أصحاب الحول والسيادة في مكة ممن عرف الحارث عداوتهم للأمين، جالسين مع ولده النضر، وولده ممسك بينهم عودا يغني عليه، وبين أيدي الجمع أكواب مترعة من الخمر يتناولونها، منهم الوليد بن المغيرة أبو خالد وصاحب الدار التي يسكنها الحارث في هدى، ومنهم الأسود بن عبد المطلب بن هاشم والأسود بن عبد يغوث من خؤولة رسول الله، والعاص بن وائل أبو عمرو، وعقبة بن أبي معيط ... وغيرهم من مداره قريش. زعم الحارث أنهم في زيارة له أو لولده، فلما حياهم وجلس بينهم انقطعوا عن الدق وسكت النضر عن الغناء؛ إذ كان قد نظم أبياتا مقذعة في حق أطهر خلق الله نفسا وأعفهم لسانا. فقال لهم الحارث: لم سكتم يا صحاب؟ إني عواد مثلكم وأحب أن أستمع، قالوا: زعمنا أنك نسيت العود وألحانه. قال: إن العود في الذهن لا في اليد. قالوا: فأسمعنا إذن. قال: ما جئت لهذا، أما أنتم فكنتم في بحاره. فتناول النضر عوده وقال: ولكنها بحار مرة لا تستسيغها يا أبتي. قال: هات. قال: فاسمع. ثم انصرف المشرك يغني أبيات الذم في رسول الله. فأسكته الحارث على الفور، ووضع يدا على الأوتار وأخرى على فم ابنه، والكل يضحكون، وقال الحارث: على رسلكم يا سادة، أمحمد بن عبد الله عظيم الخطر في مكة حتى لتشغلون أنفسكم بأمره! قال ابن أبي معيط: إنه أفسد علينا هو وصاحبه أولادنا ونساءنا ببدعته. قال متجاهلا: لم أعرف من أمر ابن عبد الله شيئا فلقد كنت في أسفاري كما تعلمون، فهل لكم أن تذكروا لي شيئا مما يقول؟ قال الوليد بن المغيرة وكان أفصحهم مقولا وأقذعهم سبا: هذا المجنون يريدنا على أن نترك آلهتنا ونعبد ما لا نرى ولا نسمع، وجاءنا بأقوال من سجع الكهان يسميها قرآنا حفظه لغلمان قريش وسفهائها، فساروا به يسبون الناس، بل يسبون أهله، وإليك بعضه: حفظناه من كثرة ما سمعناه
تبت يدا أبي لهب وتب * ما أغنى عنه ماله وما كسب * سيصلى نارا ذات لهب * وامرأته حمالة الحطب * في جيدها حبل من مسد . أيرضيك هذا يا حارث؟ قال: عجبي لكم! وهل يرضيكم أن تذهب إليه امرأة عمه أبي لهب هذا بحجر تريد أن تشج به رأسه؛ لأنه يقول: الله ربي؟ ويسير زوجها في الطرقات يسب عرض ابن أخيه من أجل ما يقول؟ ويغري به الأطفال والإماء والغلمان يرمون عليه الحصى والرماد والفرث؟ ويتبع خطواته في كل مكان حتى إذا وجده يدعو بكلمة ربه سفهه وكذبه، وصرف الناس عنه؟ وأن يذهب أولاده إليه فيطلقوا له بناته إزراء به وإخناء عليه؟ ويشتموه ويسبوه بأعلى الأصوات؟ ويؤذوه؟ دعونا من هذا السباب، واذكروا لنا شيئا من دينه. قال العاص بن وائل وكان حكما في مكة: إنه يريد أن يكون خليفة زيد بن عمرة بن نفيل فيما يدعي من العلم بدين إبراهيم، فهو يقول: إن الله أمره أن يتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين. قال: وهذا ما تعيبونه عليه؟ قال: أجل، هذه صبأة يا حارث، كيف يعيب ديننا حسنا كان أو قبيحا. نحن على هذا منذ ألوف من السنين، ولنا بدين اللات والعزى ومناة أكرم منزلة في العرب، وما مكة وقريش إلا أثر من فضل هذه الآلهة علينا. ألا ترى الأعراب ينسلون إلينا من كل حدب ابتغاء الحج فلا نأذن لهم أن يطوفوا بالبيت إلا في ملابس من تجارتنا، وألا يأكلوا إلا من طعام مما نبيعه، ولا يشربوا إلا مما نجيء لهم به من الماء، ثم هم يشترون مما نتاجر فيه؟ قال الحارث: أنتم إذن تتجرون بالدين، وتحاربون محمدا وتسفهون رأيه؛ لأنه إذا ظهر عليكم دينه اختفى ربحكم وما تكسبون! تعيشون على جهالة الناس وتجهيلهم! دعونا من هذا وخبرونا ماذا جاء لكم به من الدين؟ قال عقبة بن أبي معيط، وكان قد ألقى على الرسول في أمسه فرث بعير أهل لنائلة: عجبي لهذا الأمي كيف يدعي النبوة، ولم يقدر أن يدعيها زيد بن نفيل نفسه. إنه يقول إن وحيا يجيئه من عند الله يحادثه ويكلمه، ويلقي عليه كلمات من عند ربه، وقال له ورقة بن نوفل الصابئ: «إن هذا هو الناموس الذي نزل على موسى وعيسى» وأخذته امرأته خديجة إلى عداس الراهب على أثر هذه الدعوى فقال لها: هذا هو النبي المذكور في التوراة والإنجيل. هذا نبي آخر الزمان. ففتن الرجل بما سمع وجن، وأخذ يهذي بكلمات يسميها قرآنا. قال الحارث: ألا تذكرون لي شيئا مما يهذي به في قرآنه! قال عقبة: لا أعرف ... الهذيان هذيان. من يستطيع أن يحفظ هذيانا! أتستطيع أنت؟ قال عتبة بن ربيعة: أنا أحفظ بعضه. سمعته يصلي ذات يوم وهو يقول:
قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد
قال الحارث: وتسمون هذا هذيانا! فما الرشد إذن يا مداره العرب! هل تحفظون شيئا غير هذا؟ خبرني أنت يا نضر. أنا أعلم أنك تتعقبه وتحول بينه وبين دعوة الناس إلى دينه، قال: لا تقل دينه بل قل سحره. إني أعتقد أنه يعرف شيئا من السحر. قال فما سمعت من سحره؟ قال سمعته يصلي في بعض الشعاب ويقول كلاما من سجع الكهان لا بأس به، ولا أدري من حفظه إياه، ولكنه الصبأة كلها عن ديننا. سمعته يتلو:
الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين
ثم يؤمن.
قال الحارث: يا أولادي. لا أقول لكم اتبعوا محمدا، إن الهدى من الله، ولا تدخل في شئونكم، ولكني أرجو ألا يكون الرجل منكم مكابرا. فإن المكابرة لا تدحض رأيا، وإنما هي أعود على صاحبها بالذلة، وأشد في إظهار الحجة، وخير للرجل إذا لم يكن يهمه وجه الصواب من الأمر أن يسكت وينزوي، لا أن ينهض ويجأر بتكذيبه، فإنه إن يجأر أعلن صدق خصمه متطوعا، كالذي يرى نورا ثم ينهض ويستشهد بالناس على أنه لا نور. لن يلقى منهم إلا تكذيبا لقوله، وتعجبا له، وربما اتهموه في أنفسهم بالجنون هذا إذا كانت له كرامة عندهم؛ فإن لم تكن له كرامة، فسيكذبونه في وجهه وينضمون إلى خصمه. من أجل هذا أرى من الحكمة ألا تضاروا الرجل ولا تؤذوه ولا تعيبوه، فإن الأذى والعيب أعود عليكم، ولقد رأيت من طبيعة محمد ما يجعل هذا الأذى وهذا العيب أفعل في جمع القلوب حوله؛ إنه لا يرد سفاهة سفيه، ولا يستعدي عليه بل يدعو له الله أن يبصره ويهديه. فما أن يسمع بذلك سامع حتى يحب الرجل ويكره شانئه، ويؤمن به ويخلع أعاديه، ولكم في قصة فتنة مثل قريب. لقد سمعتموها في دار ابن جدعان.
قال النضر: إننا إن سكتنا عنه أصبح سيدنا وسيد العرب، ولم يصبح لنا في الدنيا شأن، وقال ابن أبي معيط: ومن هو في الناس؟ أليس هو اليتيم الذي عاش عالة على أهله، ولم يكن يمتلك شيئا حتى ملكته بنت خويلد بعيرين حين استأجرته كما تستاجر الغلمان، وقال العاص بن وائل: أتريد يا حارث أن يتملك الحكم في مكة وبلاد العربية رجل كهذا؟ قال: ما طلب الرجل هذا. على أنه إن فعل فمن بر الله أن يكون في يده هدايتكم. أليس محمد حفيد عبد المطلب بن هاشم الذي حمى الكعبة برأيه وكان سيد قريش. قال عقبة: وأين هذا من ذاك؟ قال: إنما أنتم في هذا مكابرون. أنتم ترون المجد في المكاثرة بالأموال وهذا غاية الضلال. لعمري إن في صنعاء زعانف أغنى منكم أجمعين. إني راحل في الغد إلى صنعاء، فقد سئمت المقام في جواركم، ولكني أريد أن أسألكم قبل الرحيل سؤالا، فإما رشدتم، وإما فإثمكم على أنفسكم. قالوا: سل ما تريد. قال ألستم يا قريش أبناء إبراهيم؟ قالوا: بلى. قال: ألستم لهذا أحق الناس باتباع ملة إبراهيم وإعلاء شأنها؟ قالوا: بلى، ولكن من يأتينا بملة إبراهيم؟ قال هي معكم ولكنكم تنكرون، وقد علمت أن محمدا لم يأتكم حتى اليوم بجديد. قالوا: فما خطبنا إذن؟ قال الحارث: كنتم عليها، ولكنكم صبأتم في الزمان مرة. ملتم عن طريقها خطوة واحدة، وسرتم فيما ملتم؛ فانفرج الطريقان أحدهما عن الآخر، فإذا نهاية هذا شرقا، وإذا نهاية ذاك غربا. ذلك يوم أتى لكم عمرو بن لحي
2
بصنم من الشام يستسقي به. يومئذ صبأتم عن ملة أبيكم الذي كسر الأصنام وألقي بها في النار، وإذا كان محمد بن عبد الله يريد أن يردكم إلى الصراط المستقيم الذي شرد عنه ابن لحي وشرد الناس معه؛ لتعبدوا الله موحدين، منزهين له عن الشرك، الواحد الأحد الذي كنتم تعبدون. فأي جرم لمحمد عندكم يستوجب أن تظهروا صغاركم للناس في معاداته؟ إن كان محمد يدعوكم أن تكونوا حنفاء، وأن تزيلوا هذه الأحجار الصماء التي أثقلتم بها كاهل البيت؛ بيت أبيكم إبراهيم، فقد والله صدق، وأنا به أول المؤمنين. أين هو يا نضر؟ إني أريد أن أعلن إيماني به قبل رحلتي إلى اليمن. أين هو؟ قال النضر: لماذا تسألني يا أبي؟ إني لا أعرف. أأنا من غلمانه؟ قال: لا، ولكني أعلم أنكم وضعتم عليه العيون والأرصاد، وشددتم عليه المراقبة هذه الأيام. قال: تريد أن تلقاه؟ قال: نعم. قال: أدركني إنه في أسفل ثنية الحجون، ثم نهض مغضبا حانقا وهو يقول: أما وحق إبراهيم، لأخلين الأرض منه الساعة . لقد كنا نأتمر به قبل أن تدخل علينا بحكمة لحيتك الشمطاء، وكنت مترددا في أن أكون أنا أول ضارب؛ لأنه ابن خالتي. أما الآن فلا. سآتيك برأسه قبل أن ينفض هذا المجلس ...
ثم مرق الأحمق من البيت كالسهم قاصدا ثنية الحجون.
3
لم يضطرب مجلس المشركين لهذا إلا بقدر ما رأوا من جزع الحارث، وقيامه ليدرك ولده، ويرده عن هذا المنكر، لولا أن النضر كان قد فر كالأفعوان، وأخفاه الظلام في الطرقات، ولكن الحارث لم تفتر همته، بل قصد إلى ثنية الحجون يجري في حلكة الليل متعثرا، يهديه سابق علمه بمكان الثنية عسى أن يلقى ولده هناك فيصرفه، أو يلقى رسول الله فيحميه، ويحول دون جريمة لا يعرف عاقبتها في قريش إلا علام الغيوب، ولكنه ما كاد يصل إلي الثنية حتى وجد ابنه عائدا يجري خائفا وهو يلهث؛ وإذ وقعت عينه على أبيه ألقى بنفسه عليه فزعا، وهو يقول من فرط ذعره: امسح بيدك على صدري يا أبي، إن بي ذعرا شديدا. قال الحارث وقد أخذه إلى صدره: إن كنت قتلت ابن خالتك فوالله لأسلمنك بيدي إلى أخوالك الآن في بني زهرة؛ ليمثلوا بك، قال: لم أقتله. لم أستطع يا أبتي. قال: أرني سيفك. فأعطاه إياه، فجرده الحارث من غمده، وتحسسه ليرى هل به من دماء؟ فلما وجده جافا أملس. قال: نبئني ماذا جرى؟ قال: دخلت الثنية، وسمعته يصلي ويتلو من قرآنه، وهو مختف في شق من الجبل، فقصدت إلى الشق ورأيته ساجدا، فما جردت سيفي ورفعته لأهوي على رقبته حتى رأيت على جانبي الشق أساود وأراقم ذات أذناب عقداء تضربني على وجهي وعنقي وعاتقي ضربا أشد وقعا من السياط على الأذن، ومع ذلك أقدمت فرأيت حياله شيطانا فاغرا فاه ليلتهمني، ولولا أن تراجعت لكان في الثنية حيني. أرأيت يا أبتي قدر سحره؟ حقا إنه لساحر. قال الرجل: خل عنك هذا الهذر يا بني واتعظ، واتق الله في نفسك وفي محمد، وإذا لم ترد أن تؤمن بدعوته وهي حق كما أرى ، ويكون لك ثواب مؤازرته - فدع الرجل يبلغ رسالته، ويهد العالمين. فوحق الله إنه لنبيه الذي ورد ذكره في التوراة والإنجيل. تعال. تعال. ارفق بابن خالتك وبنفسك، ولا تحسده على أن آثره الله بالرسالة. قال النضر: هذا الأمي يكون رسولا لله. لن أدعه وحقك حتى يدع باطله وكهانته وسحره. قال الحارث: إذن فوحق الله لا تبيتن بمكة بعد ليلتك ولا أبيت. إذا جاء الغد ففي العير إلى نجران.
عادا إلى الدار، ولم يكن النضر ليملك بعد هذا القسم من أبيه أن يخالفه وإلا لعنه عند البيت، وفضحه في قريش، ولذلك عادا إلى الدار صامتين لا يتكلمان، ولما جاء الغد كانا في عيرهما إلى أسفل هدى فالتقيا بهرميون ولمياء وورقة، وسارا في عير التجر إلى اليمن.
الفصل الحادي والعشرون
في كنف الأسقف
كان بين الحارث بن كلدة وبين أسقف نجران الشيخ البصير بالدنيا مودة قديمة، وثقها - فيما يقول الناس - العلم. فهذا عالم بدينه وذاك بطبه، ولكن طبيعتي العلمين مختلفتان كل الاختلاف فهما حريتان أن تفرقا بين صاحبيهما تفريقا جوهريا لا أن تسمحا بلقاء أو تحدثا مودة. علم الدين كان في ذلك الزمان رطازات وأساطير، وبعض حقائق هينة الأمر يتوارثها الخلف عن السلف ويذيعها، وأشكالا وصورا من العبادات يجرون عليها، ويجري غيرهم على غيرها. فما هو إذن بعلم، وإنما هو طقوس وحركات وأدعية وتراتيل وأوهام وأراجيف مادتها الجهل المطبق وإسقاط المنطق، وكلما أغرق الإنسان فيها وبالغ وأفتى في أمرها عن هوى وتشيع وتوفر على الجهل كان العالم العلامة والحبر الفهامة، ولا علم في ذاك ولا فهامة، وأما علم الطب فصناعة من الصناعات التي توارث الخلف فنونها عن السلف، وذاعت حقائقها بين الجمهور، وتنقلت في البيوت والمصانع وأعمال الناس كالزراعة والتجارة والحدادة، والناس لا يدرون أنها تنطوي على حقائق ثابتة اهتدت إليها القرون من غير سوء قصد ولا تعمل. حقائق لا تحتمل باطلا ولا وهما، وإلا لظهر عيبها فيما تنتج فماتت بدائها. صناعة أساسها المشاهدة والتجربة والمقارنة والقياس. كلما أوغلت فيه باحثا خلصت من إيغالك إلى حقيقة تلو حقيقة، ونفيت بما تصل إليه ما يكون قد تسرب إليه من خطأ المقارنة، لا سوء القصد ولا تعمد الإيهام. نعم كان أساسه السحر، ولكن هذا لم يكن إلا في عصور جهالة الإنسان العميقة. على أن هذا السحر كان أساسه العلم؛ أي: الحقائق الطبيعية التي اهتدى إليها الإنسان لنفسه، ولم يذعها إلا عرضا؛ فالبخور الذي كان يطلقه الساحر عندما كان يدعى ليطرد الشيطان عن مريض بالتشنج مثلا إنما كان دواء يهدئ العصب ويرد الإنسان إلى رخاوة، والرقى التي كان يشفى بها بعض المرضى إنما كانت نوعا من الإيعاز يتقوى به الموعز إليه على ضعفه، وليست التعاويذ التي كانوا يحملونها للدخول على الحاكم أو لخوض غمار الحروب إلا نوعا من الاستقواء الذاتي يوقظ في النفس شيئا من الطمأنينة والشجاعة ينفع إلى مدى. أما أنواع السحر الأخرى التي تواردت إلينا أنباؤها فيما بقي من تاريخ الأمم البائدة فكثير منها له تعليله اليوم فيما أعطانا العلم من أسراره. فإن بقي معظمها بلا تعليل، فما يعجز العلم عن تقديم سببه لأنه سحر، بل لأنه لم يحصل فعلا، وإنما هي أكاذيب رواها الناس وهما أو كذبا أو تدليسا ودعاية، وتناقلها الناس على التصديق حتى أصبحنا وفينا من يصدق مثلا أنهم فيما مضى كانوا يستطيعون نقل الجدار من مكان إلى مكان بالرقى والتعاويذ، وفينا من يستغل بقية جهالة الناس لنفسه حينا، ثم تتناوله المحاكم والسجون لتريح الدنيا منه أياما. على أن من أعمال السحر في الماضي ما هو سحر حقا؛ أي: أمر له علله وأسبابه، ولكنا لا نعرف له حتى الآن تعليلا علميا. كالسحر الذي كان يصنعه سحرة فرعون، فهذا صدق لا شك فيه له أساس علمي. بيد أن هذا الأساس غائب عنا لم نكشفه بعد، ولا يطعن في صدقه أننا نجهل تعليله مع كل ما لدينا من العلم؛ فالتحنيط مثلا كان صنعة عند سلفنا في وادي النيل، فهو حقيقة لا شك فيها لم يطعن فيها ولم يزيفها أننا نجهل طريقته العلمية، وكم من اختراعات اليوم ما كنا نسمع أكبر العلماء يقسم بكذب ما يروى عنها؛ لأنه كان يجهل أسبابها، فلما عرفها صدقها وعدها من بسائط الأمور، وكم بين أيدي تلاميذ المدارس اليوم فيما يدرسون من علمي الطبيعة والكيمياء وعلوم الحيل ما لا يزال يلعب به الأطفال في المجامع الأهلية وفي البيوت باسم سحر، تسمية له بما كان يسمى به في الماضي؛ إذ كان أساسا مبهما لبعض أعمال السحر التي وردت إلينا أخبارها.
فالخلاصة من هذا: أن القول بأن رابطة العلم بين الحارث والأسقف كانت هي الجامعة بينهما، قول كان يريح الناس لتعليل المودة التي بينهما، ولكن الواقع أن الحارث لم يكن يربطه بالأسقف هذا الرباط.
كان الأسقف، على خبرته بطقوس دينه، وعلى ما أعطي من بيان وطيب لسان وبصيرة بالطبائع، كأمثاله جاهلا تمام الجهل بكل علم، غفلا بعيدا عن كل صواب في العلم ولو أصاب، ولا يمكن أن يكون غير ذلك إلا إذا أراد أن يلحق بصفته الدينية الحقيقية صفة أخرى. أما الحارث فكان عالما بقدر ما وسعت صناعة الطب من الحقائق يومئذ.
ما الذي كان يربط عالما بجاهل إذن؟ الروابط كثيرة: كان الأسقف سيدا في نجران بفضل مركزه الديني، يعلو عن بني عبد المدان أمراء نجران بقدر صلته بالآب والابن والروح القدس ومريم العذراء أيضا واختصاصه نفسه بالعلم الأعلى بهذه الأسماء الرهيبة، والقدرة على حرمان الناس رضاها وجوارها. فالسيادة إذن هي إحدى الروابط التي وثقت بينهما؛ إذ هي الجاه والمنعة، وكان الأسقف على ما أكسبته الأيام من الحكمة وبعد النظر وإدراك العواقب - يمثل المبدأ العام الذي يحكم الدنيا، وبعبارة أخرى: المبدأ الذي يذل الدنيا ويخضعها لأصحابه؛ فالدنيا كانت في كل زمان نهبا لقويين: قوي بذراعيه، فهو يخضع الناس، وقوي بفكره يخيف الجهلاء ويستهوي العقلاء، وعاشت الدنيا تشهد حروبا بين القويين؛ يتباريان فيها ويتكاثران، ويتقاتلان بأتباعهما؛ فالأتباع إذن هم طعمة شجارهما، وكلما نشأ قوي جديد من هذا أو ذاك حاربه السابقون؛ لئلا يأخذ منهم الأتباع والأنصار وموارد الرزق والمنعة والنعيم، واستعدوا عليه الناس بكل وسيلة، ولذلك كان في الدنيا يومئذ حروب بين كسرى وهرقل كلاهما قوي بسيفه يريد أن يكون له متاع الدنيا، وكان بين بطريق الغرب في الروم وبين بطارقة الشرق في الشام ومصر وأرمينية - قتال بين قويين أيضا يريد كل فريق أن يقضي على الفريق الآخر؛ لتكون له المنعة والحياة الطيبة، وإنما يكرهها لغيره؛ لأنه معه في حقل واحد، وهو يخشى أن يتقوى خصمه ذات يوم فيحرمه ما هو فيه، ولذلك لم يكن أحد الفريقين ليقبل رأيا سديدا، ولا ينزل على حكم منطق، حتى يوم جمع بينهم الإمبراطور في خلقيدونية
1
وكسرى أبرويز في القدس بعدئذ،
2
وقال كل عاهل: اختصموا أمامي، وتناقشوا وتحاجوا. فلما فعلوا واستبان الرأي لم يقبله من كان على ضده، وانصرفوا أشد عداوة مما كانوا يوم اجتمعوا.
ومن طعمة هذه الحروب؟ من الذي دارت عليه رحاها الفارية؟ هم الناس. الأتباع المساكين. كانوا نهبا وطحنا لكل قوي، وهم لا يدركون ولا يشعرون، ولا ناهبوهم أو طاحنوهم يدركون أو يشعرون؛ لأن الأمر موروث من ألوف السنين، موقر في النفوس قبل أن تخلق لها أبدان. حتى إذا شعر الناس بالحقيقة هبوا على القويين فأدالوهما، وكان العرب بما أشعرهم دين الإسلام صاحب الراية؛ لأنه قضى على الملك بجعل الخلافة انتخابا، وقضى على الكاهن؛ لأنه لم يجعل في الإسلام أكليروس ولا بطريقا.
كان الأسقف أحد هؤلاء الذين لا يدركون ما يفعلون ولا يشعرون، بل يرون أنهم مصادر الخير الدائم بكلمات بركة يرسلونها، وصلوات يتلونها. فعلاقة الحارث به كانت؛ لأنه سيد منيع، ولأنه رجل طيب الخلق يصلي ويصوم، بعيدا عن رغبة الأذى وابتزاز الناس؛ لأنه في غير حاجة إلى ذلك، فليس هناك ما يوقظ طبيعة الشر فيه. فإن تيقظت بكل شرورها فعلى غير نجران وإخوانها من المسيحيين، أي على الروم؛ لأنهم مسيحيون من نوع يخشى على منزلته منه، ولذلك كان يتمنى أن ينتصر المجوس عليهم، ويفرحه خبر اندحار الروم في الشام، ولكن كانت هناك علة أخرى لهذه العلاقة. ذلك أن الحارث كان ممن عاشوا في الإسكندرية زمانا طويلا، واتصل بأهلها، وتزوج منهم وخلف، وسافر إلى فارس والعراق والشام واليمن، واتصل برجالها اتصالا وثيقا، فهو لهذا أعرف بأخبار الدنيا من كل من يدعي العرفان، وكان الأسقف على عربيته راهبا من رهبان مصر اليعقوبية، قبل ان يرسم أسقفا في نجران. فالحارث لهذا يستطيع أن يتحادث مع الأسقف عن مصر وأهلها، وعن شئون الكنيستين: اليعقوبية والرومية، وتنافرهما، ويتذاكر معه فيما أصابها وما يمكن أن يصيبها من الويل والثبور على يد الفرس؛ إذ كانوا قد غلبوا الروم على أرمينية والشام، وأجلوهم عن مواطن المسيحية الأصلية، ويوشكون أن يملكوا بيت المقدس، ويستولوا على الصليب المقدس، ثم يذهبوا من بعده إلى مصر، وكانت هناك علاقة أخرى: علاقة المريض بالطبيب، فالأسقف كان شيخا لا يفارق صومعته المظلمة إلا إلى الكنيسة، ولا يخرج لزيارة أحد إلا بني عبد المدان، وذلك مرة في العام؛ ليمنحهم البركة، ثم يعود إلى فراشه في صومعته، ومن ثم كان محتاجا إلى من يصحح له جسمه ودمه بالعقاقير ما دام أنه لا يسعى في مناكب الأرض ويأكل رزقه بالحق، ويعطي جسمه ورئتيه ما تحتاجان إليه من عمل وحركة يبعدان عنه السأم والمرض.
نزل الحارث عند الأسقف بأهله عندما ورد إلى نجران، فتلقاهم بالترحاب والمسرة، وأنزلهم ناحية من بيته الواسع المهجور، وأقسم عليه لا يفارقه ما دام في نجران، وأخذ عليه مواثيق بذلك، ولكي يزيد في طمأنينة الحارث وراحته أمر أن يزال التراب الذي تراكم على الباب الخلفي الخارجي الذي يخرج منه إلى ذروة الجبل وطريق منعطف إلى المدينة بغير حاجة إلى المرور بساحة الكنيسة، وأمر كذلك بتجديد كثير من فراش الدار بما وصل إليه من القباطي الكتانية من مصر، وما أهدي إلى الكنيسة من الأدم النجرانية والثياب اليمنية والعروض الحبشية. فشكر الحارث فضل الأسقف شكرا جزيلا، وقبل ذلك قبولا حسنا، وشكرته هرميون على هذا البر شكرا قلبيا؛ لأنه إنما بالغ في هذه المكارم رعيا لها، إذ هي بنت العلم والعز، وصار الحارث كل يوم يجتمع هو وولده بالأسقف ومن معه من القساوسة ويتذاكرون في أحداث الشام ما ينتظر منها وما لا ينتظر. حتى إذا فرغ ما كان عندهم من المشوقات إلى التلاقي، تراخت بينهم الزيارات، ودب السأم في فؤاد النضر والحارث كذلك، وأخذا يحنان إلى الرحيل إلى صنعاء؛ حيث الدنيا أملأ بالحياة، وأدعى إلى مرور الزمن في رخاء، وحيث يجدان في جوار أحبار اليهود متعة للنفس واستزادة من العلم، وحركة وحياة، وكان ورقة يميل إلى ذلك ولكنه لم يبده، وإن كان قد شغل فراغ أيامه بالاتصال في نجران برجل من يهود صنعاء كان يتجر في العقاقير ودعوى التطبيب؛ ذلك لأن ورقة وجد أن سوق العقاقير هي صنعاء فلا بد له من ارتيادها والوقوف على تجارتها ما دام قد اعتزم أن يفتح متجرا في مكة؛ لبيعها نزولا على إرادة مولاته أم المؤمنين.
على أن تغيبه هذا كان يؤلم لمياء كثيرا، ولكنها لم تكن تستطيع أن تبديه إلا في شيء من الازورار عنه إذا رأته. فلما كثر، خشي أن يكون قد أساء إليها من حيث لا يدري، فسألها عن سببه، فلم تبده له أول الأمر، ثم فاجأته ذات يوم بقولها: عجيب منك يا ورقة أن تترك أبي وتمضي إلى الأسواق تقضي بها طول يومك. قال: إني لا اتركه إلا بعد الفراغ من العمل معه في كتابه، بله إنه هو الذي سمح لي بذلك. قالت: ولكن أمي في حاجة إليك دائما. فصمت الفتى إذ أدرك حقيقة قصدها، ولكنه على عهده لنفسه لم يشأ أن يسايرها حتى تبين. فقال: ما حسبت أنني أسيء إليها بما أفعل. بأبي هي وأمي، يا لمياء: وددت لو ابتلعتني الأرض ولا أسيء إليها، ولكني رأيت هذا أدنى إلى بقائي معكم وأكرم. قالت: لا أفهم ما تعني. قال: إن أخاك النضر لا يحبني، ولا يرى لي ولا لكم أن أجتمع بكم. قالت: وما شأن النضر؟ قال: شأن الولد الكبير في بيت أبيه؛ ولقد سمعته غير مرة يكلم أباك في شأني ويغريه بي، وأنا وحقك يا لمياء ما أحب نور الصبح ولا خطرة النسيم كحبي إياك أنت وأمك؛ عرفانا بالجميل وحمدا لله عليكم.
كان ورقة يقول هذا وهرميون داخلة عليهما. فقالت: ما هذا يا ورقة أأنت تصلي لربك؟ قال: إني لأدعوه أن يطيل في حياتك يا سيدتي أنت ومولاي الحارث ولمياء. قالت لمياء: إنه يشكو أخي النضر. قالت: هل من جديد؟ قال: أنا ما شكوته يا سيدتي بل ذكرت بعض أمره في سياق عذري. قالت: كيف؟ قال: مولاتي لمياء أخذت علي تقصيري في خدمتكم وقضائي وقت الفراغ عند الصيدلاني. قالت هرميون: خدمتنا! هل أنت خادم لنا؟ أنت ضيف يا بني، ضيف مكرم وعزيز. لست في حاجة إلينا، بل الحاجة منا إليك، ولعل هذه الحاجة أشعرت لمياء بغيابك. أنت ولدنا وأخو لمياء. نعم إن النضر قد أغرق هذه الأيام فيما يعيبه علي ولكنه ظالم، وقد ذكرت للحارث ما كان منه فلم يعتد به، وأثنى عليك ودعا لك. فلا تأبه لما تسمع. قال: فديتكم يا سيدتي من كل سوء، ولكني أرجو ألا تأخذوا علي ما ترون من تغيبي، فإني وحق الله أشد منكم ألما لهذا الابتعاد. قالت: أعرف ذلك يا ورقة وربي فكن على هواك، وإن كنا نتمنى أن تكون معنا هنا كما كنت في هدى. فنظر ورقة إلى لمياء مستفسرا فوجدها غاضبة كأنها تقول: حتى بعدما جاءتك دعوتي ألا تفارقني تعود إلى ازورارك وتعلننا به؟ فأجابها وهو يرد على كلام هرميون: الشكر لك يا سيدتي على برك، ولكني سأعمل على أن أكون بين يديكم ما استطعت.
وفيما هم في هذا دخل الحارث فحيا وجلس، واستفسر من ورقة عما وجد في نجران من الأعاجيب. فانصرف ورقة يجيب أستاذه بما عرف أنه يحبه من الحديث، والحارث منصت إلى حسن وصفه ودقة نظره. على أن هرميون ضحكت إذ ذاك، وقالت: لعل أعجب عجيبة فيها أن هرميون الرومية بنت الإسكندرية ومصر والبحر الخضم والهواء العليل وماء النيل تعيش الآن في ذرى جبل من جبال نجران في صحراء العرب! فقهقه الحارث لهذه الملاحظة وقال: وهكذا الدنيا يا هرميون بنت الشرق للغرب، وبنت الغرب للشرق؛ وأكرم بالزواج حاديا، ومع ذلك فإنا راحلون في القريب العاجل إلى بلاد المتعة والرفاهية: بلاد صعدة وصنعاء.
فما سمعت هرميون هذا الكلام حتى صاحت: صنعاء! قال: نعم، صنعاء. ماذا بها؟ قالت وقد فار غضبها: بعدا لصنعاء وكل صنعاء! ما هذا؟ أنحن ممثلون من يتنقلون في الدنيا من بلد إلى بلد في طلب الرزق بألاعيبهم؟ ما هذه الحياة التي تحياها هرميون الشقية! وما عيب نجران يا إلهي حتى نغادرها ولما يمض شهران! رضينا بالعزلة في هدى، وبالعزلة في نجران، وكان لنا في كل منهما نعمة تنسينا حرور مكة وشرورها، وأنت تريد أن تحملني مرة أخرى على ركوب الجمال والبغال، وقطع القفار إلى صنعاء وغير صنعاء! ماذا لك في صنعاء! أم أن هذا من إيعاز ولدك النضر! لكي لا يقرني على حال أرتضيه. دعه يذهب حيث يشاء، أما أنت فلا حاجة بك إلى السفر إن ثروتك لا تفنى ... وإن شئت أن تسافر معه فارحل وكن على هواك. تزوج هناك ما شئت وعش هناك ما شئت، فوحق مريم ما أكره منك هذا. لقد بلغت حد اليأس فكرهت الدنيا، وكرهت نفسي، وكرهت أبي الذي لم يقدر أنك ناقلي ذات يوم إلى صحراء مقفرة، وكرهتك أيضا، وهذه ابنتك خذها وأبعد عني. رضيت بعيشة الضب في هذه القفار بين أقوام غلف القلوب سفهاء الأحلام، لا يعرفون من الدنيا إلا الثريد والعصيد، حتى إذا وفقت إلى شيء من راحة العيش على شظفه ونضوبه وقلة شأنه تريد أن تخرجني منه. أأنت موكل بشقائي؟ لا! لن أسافر من هذا البلد وحق ابن الله الواحد إلا إلى الإسكندرية ولو على قدمي! ولو تخطفني الفرس واللصوص أنا وابنتي.
سكت الجميع لدى ثورة الغضب من هرميون، وأطرقوا يفكرون، وكان ورقة قد انسل من هذا المجمع الخاص، لا يشعر به أحد، وإذا بالنضر قد دخل على عادته ينظر إلى هرميون ولمياء نظرة خالية من كل مودة أو رعاية، فتأملته العيون لحظة، ثم أغمضت على الفور كما كانت، ولما رأى ما هم فيه أدرك أن أباه أعلن زوجته بعزمه على النقلة إلى صنعاء، وأنها رفضت، وأنه لا يدري ماذا يفعل إزاء رفضها. فأراد أن يتكلم ولكنه وجد الباب مغلقا فسكت هو أيضا حتى يستبين وقت الكلام، والواقع أن هرميون لم تعارض في النقلة إلى صنعاء حبا في نجران؛ بل لأنها وجدت فيها إخوة في الدين تستأنس بهم، وإن كانوا على غير مذهب أهلها في المسيحية، وصحبة من نساء كريمات في بيت بني عبد المدان أصحاب نجران وسادتها كن يزرنها وتزورهن، وتجد بينهن حبا ومودة وإكراما. فأحبتهن وتعلقت بهن، ووجدت لابنتها لمياء صحبة في بناتهن. نعم كانت تعلم من صاحباتها وزوجها أن صنعاء مدينة عظيمة ذات مياه وبساتين، وقصور وميادين، ولكنها كانت تعلم أنها بلدة يهودية، وهي أشد كرها لليهود منها لأولئك السفهاء المساكين الذين رأتهم عاكفين على العزى واللات يتعبدون، وحول مئات من الأنصاب والأصنام في مكة يطوفون وينحرون ثم ينصرفون أشد سفها مما جاءوا. على أن هرميون قطعت هذا السكوت فقالت: اذهب إلى صنعاء كما تشاء، وغب فيها ما تشاء، ودعني هنا في انتظارك أنا وابنتي. قال الحارث: كيف تعيشان وحدكما؟ قالت: ماذا يصيبنا؟ نحن في حمى الأسقف وفي بركته. قال: ما قيمة هذا الحمى وهذه البركة وليس معكما رجل! فسارع النضر يقول: لعلها تزعم أنك تارك لها ورقة!
قالت: ما زعمت شيئا من هذا يا غلام، وخير لك ولكرامتك أن تحفظ لسانك، وإلا لطمتك على وجهك بنعلي هذا! وأما وحق الله ما يزيد كراهتي لصحبة أبيك إلا أنه يصحب فدما قليل الحياء مثلك. قال النضر: أنت امرأة وقحة، لا أدري كيف يعاشرك أبي، وخير لأبي أن يخلص إلينا منك وتذهبي أنى شئت. قال الحارث: أقصر يا نضر ما لك ولهذا. قال ولم يأبه لكلام أبيه: إنا راحلون في الغد إلى صنعاء رضيت أو لم ترضي، وآخذون ابنتنا معنا، فافعلي ما تريدين. قالت لمياء: لا أدري علام كل هذا اللجاج؟ إذا كان أبي في حاجة إلى السفر إلى صنعاء فليفعل. إنا سننتظره هنا. ليست هذه أول مرة فارقنا فيها، ولن أكون معك على أمي إلا أن أكون عاقة. قال النضر: إنك لحمقاء يا فتية، اسكتي. قالت: إنما الأحمق من يقول حمقا ولو كان ذا لحية! تريد لأمي أن تبقى هنا وحيدة، وأنا معك في صنعاء ولا ترى هذا سفها! حسبك هذا. أنا لا أرحل إلا مع أمي.
لم يدر الحارث ماذا يفعل إزاء هذه الثورة؟ ولا ماذا يقول في هذا الموقف؟ فنهض من مجلسه صامتا، وخرج يتبعه ولده، وفي نيته الرحيل على كل حال عن نجران.
الفصل الثاني والعشرون
وداع الأحباب
ضاقت الدنيا في وجه هرميون، فلم تدر ماذا تفعل إزاء ما بدا من رغبة الحارث في الرحيل إلى صنعاء، وما جرى بينها وبين النضر من المشادة والتنابذ بالألفاظ، وأحست كأنما حدثا عظيما يوشك أن يقع؛ لأنها كانت تعلم ما للنضر على والده من السلطان، وتعلم من ناحية أخرى أن الحارث لا بد راحل إلى صنعاء، وأن أهون ما يفعل إزاء ذلك هو تركها هي وابنتها في نجران حتى يعود، ولا تدري متى يعود، وأنه سيأخذ ورقة معه، بل إنها لا تستطيع أن تستبقيه بجوارها؛ لأنه إنما يسير معهم لأن الحارث معهم، وهو رفيق الحارث وتلميذه، يرافقه رغبة في التعلم على يديه نزولا على إرادة الخير من سيده ابن نوفل المتوفي، وطوعا لأمر مولاته خديجة سيدة قريش، وأحست كأنما النضر سيوغر صدر أبيه من جديد عليها، وربما حمله على أخذ ابنتها منها إذا هي أصرت على مخالفته فيما يريد من التنقل بها من بلد إلى بلد، وأحست كأنما أخطأت؛ إذ تمسكت بالمقام بنجران حتى أقسمت ألا تفارقها إلا إلى الإسكندرية، ثم ذكرت الإسكندرية وما فيها من شرور ومخاطر، وذكرت وادي النيل في مصر وما يملؤه اليوم من عصابات اللصوص، وما يحمل الناس في قلوبهم لكل رومي الأصل من الضغن والحقد، وذكرت ذلك وغيره مما لا بد أن يذكره الباحث في أمر نفسه، وما يحيط بها من احتمالات الشر، فنبا بها مجلسها ، وأقضها مضجعها. فرأت نفسها تهرول إلى صومعة الأسقف وتدخل عليه بغير استئذان، ثم تنفجر أمامه باكية مما هي فيه.
ذعر الأسقف لهذا، وأخذ يسائلها عن سبب بكائها، حتى استطاعت أن تجيب فشكت له بثها، وأنحت باللوم في ذلك على النضر بن الحارث، وعزت إليه كل ما هي فيه من الشر، وكادت وهي تذكر قصة وجدها أن تدع شكواها وتذهب من فورها؛ لتنفيذ فكرة شريرة خطرت لها بين الدموع والشجن، وهي أن تستعدي عليه ورقة، وتغريه بقتله جزاء ما يقتلها بما يفعل، ولكنها استفاقت ووجدت الأسقف يعزيها ويعدها خيرا ويطمئنها، وهي لا تزداد إلا نحيبا بين يديه؛ إذ ذكرت ما كانت فيه من العز والطمأنينة في بيت أبيها في الإسكندرية، حتى قضى سوء الطالع فتزوجت من الحارث.
كان الحارث قد دخل في هذه الأثناء، وسمع بعض شكايتها، ولا سيما عتبها على القدر، فأحزنه منها هذا القول، وقال: ما أردت لك إلا المتعة بالنقلة إلى بلدة فيها من الحضارة ما ليس في سواها، وأنا طبيب لا بد لي أن أرتزق ولو كنت غنيا، وأنا فار بولدي من مكان كان يحيط فيه الأذى به وبغيره منه، وقد سئم المقام هنا. فإذا أنا لم أسارع إلى تشريد السأم عنه حن إلى العود إلى صحبه فما أكون فعلت شيئا، وأنا ما أردت شرا لك. أما وقد رفضت وزدت الرفض تعقيدا فما لي إلا أن أتركك في حمى الأسقف، ولكني لا أدري متى أعود؟ وسأترك لك ابنتك فما بيني وبينك خلاف حتى اليوم يقضي بالانفصال، ولكن اعلمي أني قد حزنت لما سمعت منك من كرهي، ولما أبديت من أسفك على أن زوجك أبوك مني. لن أكون بعد اليوم مضاعفا حزنك، وها هي ذي نفقتك أنت وابنتك لعام كامل. فإذا عدت إليك في غضونه فبها، وإلا فسأرسل إليك نفقة عام آخر. فإما قضيته هنا أو سافرت بها إلى أهلك ولن تجدي هناك إلا اليسر بما ملكتك من ثروتي وعقاري في رقودة وأنت إذ ذاك حرة طليقة. أستودعك الله يا صديقي الأسقف، وأوصيك بها خيرا أنت البر كله والتقوى كلها.
قال الأسقف: ما أنت يا حارث من ينظر إلى ظاهر الأمر ويحكم على باطنه. فهذه زوجة غريبة عن هذه الديار، سئمت كثرة الأسفار، وهي قطع من العذاب، فإذا هي كرهت أن تهم بسفرة أخرى فلها لديك من إبائها عذر. إن تقبله كله وعفوت فأنت عادل، وإن قبلت بعضه وعفوت فأنت بار رحيم، ولكنها في الحالين غير ظالمة. هي زوجة آثرتك على نعمة الحياة في الإسكندرية، وسارت معك تشم ريح السعادة في جوارك. فإذا وجدت اليوم هذه الريح قد اختلطت بما يفسدها وكنت أنت الخالط فقد حملتها بملكك على إتلاف سعادتها وتنفيرها منك، وأنت على هذا إن عاتبتها أو لمتها أو هاجرت عنها لا تكون على معدلة معها ولا منصفة. قد يكون لك العذر فيما كان، ولكنها لا تكون هي الظالمة، وللزوجة على زوجها حقوق أخرى توجبها المودة وحسن الأمل والوفاء؛ حقوق تجعل شديدها هينا وهينها دلالا وثقة بمحبة الزوج ومكانتها لديه، وأنت يا حارث تريد أن تسقط هذا كله، ولعمري لهو من غيرك ظلم ومنك منكر؛ أنت الحكيم العليم، التقي البار، والبصير الذي لا يجعل كل لفظ ينطلق به اللسان في الغضب حجة على صاحبه، فالغضب يا حارث شيطان يركب الإنسان؛ ليتكلم بلسانه لا بجنانه، ليوقظ في السامع شيطانا يسمع بآذانه لا وجدانه، ومن ثم يحكم شيطانان عن إنسانين، ويقضيان بينهما وهما لا يدريان.
إني لأعرف وجه عذرك، وأدعو لك بالطمأنينة، ولكني لن أضع يدي في يدك حتى تعفو وتصلح وتسترضي هذه السيدة الوفية، وتبارك لبنتك قبل رحيلك.
كانت هرميون ولمياء تبكيان أثناء حديث الأسقف، وكان الحارث مطرقا. فلما سكت الأسقف عن الكلام قال: والله ما أردت سوءا ولا بيت شرا، ولكن الزوج إذا وجد نفسه في غير منزلة الكرامة نبت به الكرامة إلى مكان تستطيبه، والنفس كالنجم تنزل في أحوال رضاها وغضبها منازل وبروجا تتغير فيها آثارها وأعمالها، ولقد حملني شر ولدي وخشيتي عليه أن أكون اليوم على غير عادتي من تمام البر والرعاية لزوجتي ابنة صديقي وأخي قوزمان. بيد أني كنت أرجو أن تتئد وتصبر، وتساعدني على ما أنا فيه، ولكنها نفرت على الفور، ونفرتني قبل أن أستمسك، وأخذت كلامنا عزته في غير وعي؛ إذ كان شيطان كل منا يتكلم بلساننا كما قلت ويسمع بآذننا. فأنا الآن أعفو وأعتذر معا، وأمنح زوجتي وابنتي البركة والرضا، وأدعو الله لهما بالسلامة والتوفيق حتى ألقاهما في القريب؛ وأرجو أن تتبينا وجه عذري في متابعة ولدي، فإنه إن عاد إلى مكة حمله صحبه على ما خيب الله سعيه فيه ليلة الحجون التي ذكرت لك، وربما مكنه الشيطان من قتل أبر خلق الله محمد بن عبد الله، نقطة العطر المشتارة من ربيع بني هاشم، بل ربيع بني عدنان وإبراهيم، وإذا لم يرضني من أمره إلا أن أقتله بيدي وأنا أبوه وهو وحيدي، فماذا يرضي بني عبد المطلب منا أجمعين!
نهضت هرميون ولمياء إلى الحارث تقبلانه وتبكيان وتعتذران إليه، ثم تعرضان عليه أن تذهبا معه، على أن يغفر لهما الأسقف الحنث باليمين، ولكن الحارث أبى قائلا: إن العزم صح على سفره بولده وتلميذه حتى حين، وهو يرجو ألا يغيب عنهما طويلا، ورأى الأسقف وجاهة الرأي فأقره، وشكر لهرميون ولاءها، وللحارث عفوه، ودعا لهما بالرضا، وعلى هذا ودعهم الحارث ومضى يسقط من جفنيه دمعة.
ذهبت هرميون إلى غرفتها، وألقت نفسها على الفراش خائرة القوى تتحدر دموعها، وذهبت لمياء في وجدها إلى إحدى الكوى المطلة على رحبة الدار تراقب العير، وتتزود لقلبها بنظرة إلى من تحب وهو يغيب عنها، وقد استبان لها خطؤها في أنها لم تهون على والدتها النقلة حتى لا تحرم جوار ورقة؛ ورأت قلبها يندك تحت ذلك ويهلع، وهي تعنف نفسها على تسرعها، وكانت ترجو أن يلتفت ورقة صوب الكوة التي تطل منها؛ لتحادثه حديث الوجد بنظراتها، ولكنها لم تجده التفت، بل استمر بربط الحمول ويستعد للرحيل، كأنما ليس في الدار قلب يتمنى أن يتسع ويلتقطه من رحبة الدار في غفلة الناس ويخبئه بين ألفافه، وفيما هي على هذا الحال رأت ورقة مال إلى أستاذه الحارث يستأذنه في توديع السيدتين، فأشار له الحارث نحو الدار آذنا، ولكن النضر التفت واعترض على هذا قائلا: لا حاجة إلى التوديع! إن الوقت قصير. قال الحارث: دع الفتى يودع سيدته. من الإجرام أن تمنع أحدا أداء واجبه. قال النضر: أي واجب هذا؟ فلم يأبه ورقة لكلامه، وجرى نحو الدار والنضر يناديه من ورائه بصوت المنذر الناهي، ولكنه كان قد صعد. فلما رأى هرميون طريحة الفراش جثا على ركبتيه وتناول يديها يقلبهما ويبكي وهو يقول: برغمي يا سيدتي أن أفارقك، ولكن هذه مشيئة الله. ادعي الله يا سيدتي أن يجعل هذا الفراق إلى لقاء قريب. كان يقول هذا والنضر يناديه ويستعجله، ويقطع عليه الوداع بكلماته وهو مستمر في توديعه، ولكنه نهض يقول: أنا عند حسن ظنك بي يا سيدتي، ولدك وصديقك وأخو لمياء. فأخذت تبكي بكاء مرا لم يسع ورقة وقد انفطر له قلبه إلا أن يتناول رأسها ويقبل شعرها. فشهقت لمياء عند ذلك شهقة أذعرت أمها فأنهضتها من فراشها، وإذا هي ترى ابنتها متعلقة برقبة ورقة تقول له: لا تفارقنا. كل ذلك والنضر ينادي. فاستودعهما الله ونزل يمسح دموعه، ولكن النضر تلقاه بالشتائم المقذعة بين سمع الناس أجمعين، والحارث لا يملك أن يصون تلميذه؛ لئلا يتخذ ولده هذا عذرا له في العود إلى مكة، ولكنه قال له: حسبك يا نضر. إن هذا الفتى بار بسيدتيه. قال له النضر: إنهما لا تريانه خادما، بل كفؤا وضريبا، وسترى عاقبة مكارمك. قال الحارث: ولا أنا. إنه ولدي وتلميذي وصاحب الكرامة عندي. فشكر له ورقة بره بنظرة ملئت عرفانا بالجميل، وسار مثقل القلب إلى الحمول كظيما يفكر في نهاية استفزاز النضر إياه وإهانته التي لا تنقطع. لم يكن له من سبيل إلا أن يكظم، وإلا أن يتقبل الأذى إذا أراد أن يكون مع الحارث، ولم يكن له إلا أن يسكت؛ لأن الحارث نفسه يسكت، ولم يكن له إلا أن يشرد أسباب نفور النضر من أبيه، ما دام أبوه يتوخى قصدا من ذلك: هو إبعاد هذا الفتى الشرير عن أذى رسول الله، ولكن لماذا يحتمل هو والحارث وهرميون ولمياء كل هذا الأذى؟ لماذا لا يريح رسول الله من عدو مبين لا ترجى له الهداية؟ وفي استطاعته أن يضربه بسيفه ضربة غير ظالمة تقطع لسانه، وترد أوصال السعادة التي قطعها بيديه كما كانت. الجواب لأنه ابن أستاذه الحارث البار به الذي طالما نظر إليه نظرات الاستشفاع أن يعف ويعفو من أجله، ويعرض عن جهله من أجله. أجل سيبقى على هذا الخلق من أجل أستاذه فلن يعفو عنه أستاذه إذا هو قتله أو أهانه ردا لاعتداء أو دفاعا عن النفس، أو احتفاظا بكرامة. الوالد والد ومحال أن يعذر من يؤذي ابنه ولو كان الابن ظالما مفتريا. نعم يرى ولده أوغر صدر من أذاه، ولكنه لا يعذره في أذيته، وهو لا يطيق أن يجعل لنفسه في فؤاد الحارث شبحا مظلما يلعنه كلما تمخض به قلبه. إذن فليستمر على خطة الإعراض عن سفاهة النضر وأذاه، ويعمل على تألفه في كرامة عسى أن ينقلب ودودا، أو يبصره الله بما يجب.
الفصل الثالث والعشرون
يمين النضر
بلغوا صنعاء ونزلوا وقضوا فيها ثلاثة أشهر كانوا يجتمعون فيها كل يوم بولاتها وأحبارها وعلمائها، ويستمتعون بخيراتها، ولكن ورقة لم يبتسم في كل تلك الأيام مرة واحدة؛ لأنه كان حزينا لفراق لمياء، وكان يقضي أوقات فراغه يفكر فيها، ثم يغلبه الحنين واليأس فيسقط دمعتين كبيرتين يهدأ على أثرهما قلبه فينام مفكرا فيها، وهو في تلك الأثناء يؤدي فرض العتاب الذي أوجبه عقله على نفسه فيقول: أيتها النفس المغرية في أكثر أمورك بما لا يجمل. لماذا تضعفين مني وتؤملينني ما لا يؤمل؟ وما لا يصلح لي أن أرجوه؟ لا تخادعيني! لست كفؤا للمياء. ما أمي كهرميون، ولا أبي كالحارث، وإن من الكنود والجحود أن أرفع نفسي إلى حيث أبيح لها أن أؤمل لمياء عروسا لي وسكنا. هي فرحة أمها وفخر أبيها ، ولن يرضيا لي بها. إنهما لم يذكرا لي شيئا من هذا حتى فيما كان ينهمر به قلبهما من عواطف البر لي. نعم إنهما ينعتاني بالبنوة ويرياني كذلك، ولكنهما ينضحان عن طبيعة الخير، لا الجهل ونسيان ما في ذلك من الأذى لنفسهما. وإن من الخسران أن يجهل الإنسان قدر نفسه، أو يغالط قلبه فيحكم بأسباب شيء لشيء آخر، ولا يزال على هذا حتى يعلو الصبح، فيذهب إلى الماء؛ ليتوضأ ويصلي صلاة الضحى، ويدعو الله أن يلهمه الصبر فيلهمه على الأثر، ويذهب إلى أستاذه؛ ليكون في خدمته وصحبته. حتى إذا خلا إلى نفسه عاد إلى مثل ما كان فيه لا يفارقه حتى يتوضأ للعصر ويصلي ويدعو ويصرف الله عنه همه، ويعود إلى أستاذه وصحبته، ويرافقه في زياراته وسهراته وارتياداته الأسواق.
وكان كلما مر في السوق ورأى شيئا مما يحسن أن يهدى إلى النساء - لفت إليه نظر الحارث في خفية عن ولده؛ ليشتريه ويرسله إلى هرميون أو لمياء هدية منه، أو يحفظه لديه حتى يعود فيكون هدية القادم، وقصده من ذلك أن يرد إلى قلب الحارث ما يكون النضر قد سلبه من العطف على امرأته وابنته؛ لأنه كان كثير الذم لهما والإنكار لما يسميه عقوقهما، وكان الحارث يبتسم لورقة كأنه يقول له: إني أدرك قصدك النبيل يا بني؛ ويأمره على الفور أن يشتريه له، ويتصرف فيه؛ إما بأن يرسله على الفور، أو يبقيه لديه حتى يعود فيكون كما أراد ... وإنما كان يكلف ورقة شراءه عنه؛ لكيلا يلفت إليه نظر ولده، فيتدخل في شأنه، أو يجعله سببا لشجار جديد. بيد أن ورقة كان إذا اشتراه أعد كتابا رقيقا إلى هرميون بالرومية يمضيه الحارث، ويرسله مع الهدية مع برد الأحبار الذاهبين إلى بلاد القدس أو العراق مارة بنجران. فقد كانت هذه البرد تسير بغير انقطاع فيما بين مدائن كسرى وأتباعه من حكام اليمن.
هكذا ساروا في صنعاء، وكانت أسعد أوقات الحارث وورقة وقت خلوهما لنفسيهما في غيبة النضر ، ولم يكن الحارث ليخفي هذا، ولكن ورقة كان على عادته مؤدبا كريما، فلا يذكر النضر لا بخير ولا شر، وإنما كان يدعو الله له بالهدى.
وكان ورقة معروفا في صنعاء وجيرتها وفي كل مكان بأنه غلام الحارث أو ولد الحارث؛ لأنه كان منه بمنزلة مبهمة لا تدل عليه صراحة. تارة يرونه قائما في خدمته قيام العبد لسيده بحاجته، وأخرى يرونه جالسا معه يذاكره ويحادثه ويباسطه مجالسة الند للند والولد لأبيه، وهو على الحالين في عزة ووقار وتوقير.
كان بعضهم يراه غلاما للحارث فيناديه بذلك، أو يعرفه إلى الناس به وهو لا يتأذى ولا يعترض، بل يشعر في قرارة نفسه بشيء من الرضا إذ يجيء هذا التعريف أو ذاك النداء دليلا على أنه لم يقصر في خدمة أستاذه، وأنه لم تبطره منزلته فتجعله في غير مظهر الغلام من مولاه، ومنهم من لم يره معه إلا في مجالس الأعيان يتذاكرون، فإذا ناداه ناداه بابن الحارث، فيتقبل التسمية؛ لكيلا يشغل الناس بأمره، ثم يعتذر إلى الحارث من صنعه فيثني عليه أدبه مع الجلساء؛ بل كان الحارث نفسه يدعوه أمام الناس يا بني، وكأنه يفخر أن يكون مثله ولدا له؛ لأنه كان يسمع الثناء عاطرا عليه من جميع الأفواه. على أن ورقة كثيرا ما كان يصحح للناس خطأهم إذا وجد في السكوت أذى لكرامة أستاذه أو منزلته. فيقول لهم: إنه ليس إلا تلميذا من أتباع الحارث، وأنه يدعى ورقة بن صليح فيعرف الأمر من يسمعه، ومنهم نعيم الصيدلاني الذي كان الحارث قد جمعه به وعرفه إليه، وأوصاه أن يلزمه في أوقات فراغه؛ ليعرف منه تجارة العقاقير. ومع ذلك فقد كانت تغلب التسمية عليه، ويعود من عرف حقيقته إلى ندائه بالنسبة إلى الحارث، حتى إذا يئس منهم وبدا ذلك عليه قال له الحارث: أقصر عن دأبك وتقبل كل تسمية، فصار يتقبلها إلا في كبار المواقف.
ولكن حدث أن اجتمع الحارث وولده وورقة في مجلس كان فيه ورقة محل الإكرام الأبين من الناس، وكانوا ينادونه في الحديث بابن الحارث، ويخصونه بالرعاية؛ فحسده النضر على منزلته، وتملكه الغيظ في المجلس، ولكنه لم يجرؤ أن يفصح عنه، فما إن بلغوا دارهم حتى انفجر النضر في ورقة سابا وشاتما، وعد عليه جريمة، وأذى متعمدا أن يتقبل تسميتهم إياه بابن الحارث، وكلما هم الحارث يبين لولده وجه عذر الفتى، وأن الأمر أهون مما يجد له، أو هم ورقة يعتذر وينيب - زاد النضر في سبه وأذاه وتعييره، حتى بكى ورقة. فحزن الحارث لهذا حزنا شديدا، ودعا على ولده وشتمه ففار مرجل شره، وأقسم باللات والعزى لا يبقي ورقة مع أبيه بعد يومه، وجرد السيف وأنذر ورقة بالقتل إن لم يخرج على الفور، فوقف الحارث دون الفتى؛ ليحميه، والتفت إليه يقول: اذهب يا ورقة من فورك إلى نعيم الصيدلاني وخذ ثيابك معك. هكذا قدر الله لي أن أحرم الولد والحبيب.
الفصل الرابع والعشرون
عند الصيدلاني الفيلسوف
كانت دكانة نعيم الصيدلاني في سوق كبيرة تدعى سوق أزال
1
وكانت تمتد على ضفة نهر صغير ينحدر من جبال في شمالي صنعاء، ويخترق رقعتها، ثم ينصرف في طريقه حتى يصب في البحر الهندي، وهذا النهر يحد سفح تل عظيم قديم العهد يسمى تل غمدان، كان عليه قصر عظيم البنيان حتى عد من عجائب الدنيا، بناه أزال بن قحطان جد العرب اليمانيين
2
ثم جرت عليه أعاصير الزمان فتهدم، وسارعت الطبيعة فدفنته كما تدفن الإنسان، وموهت على الناس أمره بما أنبتت فوقه من أشجار، وما أسكنته فيه من حيوان، وكأنه ما كان.
وكانت الدكانة جزءا من دار نعيم أو بالأحرى من بستان داره، مستقيما مع السوق؛ إذ كان هذا البستان الصغير قطعة من طرف بستان القصر العظيم في سالف العصور، ومن ثم كانت على شاطئ النهر.
كانت دار نعيم شبيهة بأكثر دور التجار والأعيان والسراة في صنعاء، وما أكثر تجارها وسراتها، بيتا من الحجر ذا دورين يحيط به بستان فيه من أنواع الثمر اليمني الأصيل والمجلوب ما تستطيع أرضه إعالته، وفيه بئر أو آبار ينشل منها الماء؛ لسقي البستان في أيام الجفاف وهي قليلة، إذ كانت البلدة كثيرة الأمطار؛ لوقوعها في أطراف المنطقة الممطرة في منتصف المسافة بين خط الاستواء ومدار السرطان،
3
وكانت لعلوها شديدة البرودة في الشتاء لطيفة مستحبة، معتدلة المناخ في أكثر الصيف، فهي لهذا مقصد طالب العيش الرخي، وكانت أسواقها عامرة في كل وقت بأنواع ما يرد إليها من حاصلات اليمن من الغلات والمعادن، ومصنوعات الجلد والقطن والكتان والحرير والصوف والذهب والفضة والحديد والمعادن الأخرى، كما أنها كانت مصنعا للسيوف والرماح والأدوات المنزلية، وموردا لتجارة الهند وبلاد الحبشة والصين من البرد وسائر الثياب، ومن الأفاوية والعقاقير، وسوقا لما يرسل إليها من عمان وبلاد البحرين والفرس وعدن وحضرموت، وشجر من اللؤلؤ والمرجان والياقوت وعجيب الأحجار الكريمة، ومن العنبر والمسك والكافور والعود ... وأنواع التحف العجيبة.
ومن ثم كانت اليمن وكانت صنعاء بلادا تعاورتها الملوك وتنافست في امتلاكها الدهاقين، وكانت في هذه الأيام من ملحقات كسرى بن ساسان ملك الفرس، وعليها وال من قبله يدعى باذان.
ذهب ورقة إلى نعيم يحمل متاعه القليل على ظهر جواده، وهو مكروب محزون، فلما وقف ببابه ورآه نعيم على هذه الحال، أدرك أن هناك شرا أصاب الفتى، فترك مكانه من الدكانة، ونهض إليه نهوض الوالد إلى ولده، فقد كان نعيم يحبه حبا عظيما، ويبالغ في إكرامه حين زيارته إياه مع الحارث، حتى لقد حدثته نفسه أن يعرض عليه ابنته الوحيدة لو أمكن أن يتهود، ثم لا يعيبه الناس على تزويجه ابنته من فتى من مكة الوثنية، سيقال: إنه إنما تهود لرغبته في زواج يهودية جميلة أو يهودية غنية بأيها.
ترجل ورقة وهو يحاول أن يخفي همه العاصب في كلمات التحية والتسليم، ولكنها كانت تخرج خرساء مظلمة ليس فيها من نغم إقباله الجميل على الناس، ومشرق ابتسامته في الحديث ما كان يحببه إلى كل عين وكل أذن.
وكان نعيم رجلا علمته السنون وحياة الأسواق شيئا كثيرا من أحوال النفس، وكان يقول لورقة وكل من يستأنس به - وقلما ازور عن أحد أو استثقله - إنه يعيش في دنيا خاصة به، دنيا خلقها لنفسه؛ ليعيش فيها كما يحب لا كما تشاء المقادير. دنيا يطلع لنفسه فيها شمسا خاصة به بالنهار، وقمرا خاصا به بالليل، يغنيه فيها ويطربه بلابل لا تفارق بستان حياته لا صيفا ولا شتاء؛ ولذلك كانت له فلسفة خاصة يعجب لها الناس، ويستريبون من أجلها حجاه، وهو يعرف ذلك منهم ولا يأبه له، ولا يعتد به؛ لأنه كان من بعد هذا تاجرا ماهرا، ورجلا هماما، وشخصا يستوجب لنفسه المحبة من كل إنسان، كريما إذا وجب الكرم، حليما إذا وجب الحلم، ولكنه كان إذا غضب فالويل لمن يكون سببا في إغضابه.
رأى ورقة على هذا الحال، فعمل على صرف همه بشيء من أساليبه الخاصة، فلم يمهله حتى يسائله ويحييه، ويرتب على الجواب جوابا، بل ابتدره بحكاية وعرة الألفاظ مما كان يرويه الناس من الأحاديث المفتعلة عن لسان كواهين يسمين صاحبات مصاد بن مذعور، ويحملون الناس وضعفاء العقول من المتأدبين على تصديقها، وترتيب قضايا في التاريخ عليها، مع أنها تحمل تكذيبها في منطوقها. وإنما رواها نعيم، لا تهكما منها؛ بل ليصرف بها ذهنه، ويشغل باله عن الهم كما ذكرنا. فقال له: «يا صاحب الجواد النياف والبرد الكعاف، والجرم الخفاف. يا مضلا إذواد الملاكد، وكوما صلاخد، منهن ثلاث مقاحد، وأربع جدائد شسف صمارد». فلما سمع ورقة هذا الكلام لم يفهمه، ولم يدرك قصده منه، ولكنه رأى نعيما يتكلم كلام جد، فجمع عليه لبه ليفهمه، فلم يستطع، وزعم أنه بعض لغة حمير الذاهبة، أو العبرية الذائعة. فقال له: لم أفهم مما تقول شيئا فقال له: كيف لا تفهم وعهدي بك ذكيا «لقد رعين الفزع، ثم هبطن الكرع، بين العقدات والجرع» فتلفت ورقة يستمد معناها من الهواء والسماء، وهو يقول لنفسه: ما هذا اللسان؟ أراه عربيا وما هو بمفهوم، وفيما هو ملتفت عنه رنت وراء أذنه ضحكة من نعيم؛ إذ أدرك ما فيه ورقة من الحيرة، ثم تناوله، وسار به يحادثه حديث العقلاء، وقد بدت على وجه ورقة علامات الابتسام. قال له: يا ورقة وحق موسى لا تستحق الدنيا أن تفكر فيها، ولقد عودت نفسي أن أزيل شجونها بمثل هذا الهراء الذي يسمونه حكمة وكهانة. أتدري أن هذا ما يروونه عن أربع جوار قابلن رجلا في الطريق أضل بعرانه فجئنه يخبرنه أين هي؟ قال ورقة: وهل اهتدى إليها. قال: إنهم لا يتركونه في ضلاله كما يتركوننا، بل لا بد أن يجمعوه بها، وأقسم لك لو أنني كنت صاحب الجمال الضالة لأضلني هذا الكلام معها. دعنا من هذا، واسمع: إني قد أعددت لك عندي في بيتي غرفة جميلة مطلة على البستان، ولها باب على درب وآخر على الدار، وستقيم فيها عندي ما شئت حتى تعود إلى مكة، وإذا أنصفت فعش في صنعاء، ودع تلك البلاد، وأقسم لك يا ورقة، لولا أن قريشا ترتزق من جيرتها للبيت المحرم ما عاش في أرضها أحد. كيف يرضى الإنسان باختياره أن يعيش في وهدة كبيرة تحيط بها الجبال فهي أشبه بالقلنسوة المقلوبة؟ لا ماء فيها ولا أشجار؟ وما قيمة الحياة؟ وما لذتها؟ وما معنى الرضا بها إذا كنت لا تجد فيها إلا أحسن ما يجد الهارب في الصحراء؟ ابق معي في صنعاء أمتعك بالحياة وأرك الدنيا على حقيقتها بعيدا عما يشغل به الناس أنفسهم من أمور الناس. أعيشك حكيما سعيدا بعيدا عن الضلال، ومتمتعا بكل ما تشتهيه نفسك في حدود الكمال والفضائل. قال ورقة: ما أشد شكري لك، وما أشدني رغبة في أن أعيش كذلك، ولكن هناك نفوسا لها بي روابط كثيرة، ولا بد من تقطيع هذه الروابط حتى أتمتع بهذه الحياة السعيدة التي تزينها لي، والتي لا شك عندي في قدرتك على تحقيقها، ولكن من المحال أن تقدر على قطع هذه الروابط فهي روابط الرحمة. حبال قوية شدت إلى القلب، فهي تتجاذبه نحو الأم والأهل والأصدقاء والأحباب، ولكني لا أدري كيف أعددت لي لديك مكانا، والنضر لم يحملني على ترك أبيه إلا منذ قليل، أم كان هذا بتدبير سابق؟ قال: لا وربي، ولكني رأيت حزنك، وسمعت النضر غير مرة يتكلم هنا مع أبيه في شأنك بما ينم عن كرهه لك، والحارث يدفع عنك ويثني عليك، فأدركت أن أيامك قصيرة مع الحارث بن كلدة، ولما رأيتك أدركت أنك أتممت هذه الأيام، ولكي أدلك على أن الأمر أهون من أتفكر فيه بادرتك بما عرفت، وليس لك إلا القبول. فبدرت من عيني الغلام دمعتان كبيرتان ترددتا في السقوط حتى دفعتهما أخريان أكبر منهما فتحدرتا على خديه، ثم قال: إن الحارث أمرني أن أجيء إليك، وأنتظره هنا حتى يجيء؛ وإذ كنت لا أعرف مكانا آوي إليه فقد جئت بحمولي إلى دكانتك حتى أرى لي رأيا. ثم ذكر سبب غضب النضر، وما كان من يمينه، وما تهدده به من القتل. قال نعيم: لا رأي لك عندي. ستنزل في البيت الذي وصفت لك منزلا مكرما وستبقى معي معززا مشكورا.
فراق الصديقين.
وفيما هما في ذلك جاء الحارث وعلى وجهه قترة من الهم والكدر، فنهض ورقة للقائه، ثم انحنى فتناول يده وقبلها وغسلها بدموعه، فتناول الحارث رأسه وقبله قبلات حارة ضمنها كل معاني حبه وتقديره وعطفه وأسفه. ثم جلس يمسح دموعه حتى إذا هدأ قال الحارث: يا نعيم، إن هذا الفتى أشرف وأنقى من وقعت عليه عيني، أو لمسه قلبي، وما كانت لأفارقه لولا يمين غموس قطعها ولدي، وما كنت لأوثر ولدي عليه إلا لأمر واحد هو ما كان ورقة يؤثره به وإن لم يكن ولده؛ ذلك أني أردت أن أبعد ابني عن مكة، حيث نهض في تلك الوديان المقفرة نبي يدعو إلى دين إبراهيم، ويصرف قريش عن الأوثان. ذلك هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم الذي ورد ذكره في توراتكم، ولكن ابني يكرهه ويحسده ويريد قتله، وابني شرير لا يقبل رأيا ولا نصيحة، وسيلقى جزاء شروره وبغيه، وهو وحيدي، فبرا برسول الله وبأمتي وبولدي من بعدهم، لا يسعني إلا أن أتحمل كل أذاه لي، وأسير معه سير الطاعة؛ لأحول بينه وبين جريمته، وسأرحل به الليلة إلى العراق فقد سئم البقاء في اليمن ، وأنا تارك معك ولدا لي آخر، هو ورقة هذا. كن له كما أكون، وعلمه تجارة العقاقير وأنواعها وأصنافها وعرفه منافعها. على أني قد وضعت جزءا من كتاب عن العقاقير كتبه ورقة بيده، وجئت به هدية له، وها هو ذا، ثم قدم إليه حزمة كبيرة من الرقاق التي كتب عليها ورقة كتاب أستاذه.
وهنا لا بد لي أن أعلن أمرا أخفيته حتى عن ورقة ذاته. ذلك أن مولاه وصديقي ورقة بن نوفل حكيم العرب، وصهر الرسول الأمين، ابن عم زوجته الشريفة خديجة بنت خويلد - كان قد أودعني خمسين دينارا تكون لورقة يوم يتم علم العقاقير، على أن يشتري بما شاء منها تجرا يكون أساسا لتجارته في مكة، وأقسم أن هذا القول صحيح، وما أقسم إلا لأني أعلم حق العلم أن الغلام لا يقبل مني إحسانا ولا أجرا، وإن كان قد خدمني وأسعدني بما كان يجب أن أعطيه عليه أجرا، ولكني أريد أعلن أن سيده ورقة بن نوفل أبى أن أجعل له أجرا، ظنا منه أن الأجر يفسد علاقتي به، ويقضي على رابطة الأبوة التي تجمع بيني وبينه، وينزله من نفسه منزلة لا يرضاها، فقد كان ورقة عازما على أن يتبناه، ولكن القدر فاجأه قبل أن يتم مراده، بيد أنه قد أورثه خير ما يملك، أورثه الحنيفية السمحة فلم يعن لوثن، وعلمه القراءة والكتابة وهي كنز لا يقدر بثمن، ثم أعطاه خلقه وعفته ونبله، وأكرم بها عدة للزمن. فخذ يا نعيم مال الفتى وأسرع، بتعليمه تجارة العقاقير، وعرفه منابتها ومواردها، فإن هذا علم لا يؤخذ درسا بل ممارسة، وإلا ذهب رأس المال. حتى إذا أتممت تعليمه وشعر هو بذلك، فدعه يشتر منها ما يشاء بما يشاء من هذا المال، فإن أحسن الشراء فدعه يرحل، وإن أساء فأبقه عندك حتى يحسنه، وإذ إني عزمت على ترك صناعة الطب لغيري ولولدي بعد ما هيأ لي ربي من الثروة الواسعة، فاجعل ما لديك مما أوصيتك بمشتراه لي من حق ورقة، وخذ لنفسك ما بقي لديك من المال أجرا على تعليمه، وما هو بالكثير، وقبل أن أنهض من مجلسي أريد منكما شيئا واحدا، هو ألا تنهضا لتوديعي، ولا تمدا للسلام علي يدا. إني أريد ألا يشعر القلب أني أودع باخيتاري أحب الناس إلي.
فما كاد يتم هذه الكلمة حتى نهض ورقة، وجرى إلى أستاذه وجثا على قدميه على الأرض، وأخذ يبكي وينشج في بكاءه، وهو متعلق بأردانه، كأنه يمنعه من النهوض، وتنفيذ عزمه على الفراق، والحارث محزون تنحدر دموعه على لحيته، ونعيم مفجوع القلب، حتى استمسك فأخذ بيدي ورقة، وأفسح الطريق للحارث، فخرج وقد استنفد منه حزن الساعة صبره وجلده ووقاره.
الفصل الخامس والعشرون
لم الأطراف
بقي ورقة في صنعاء مع نعيم ينعم بجواره في بيته ودكانه، وينسى همومه في مجاهل اليمن ومعارفه، وسهوله ووديانه، وجباله وأحقافه، وقراه وحلله، ومرابعه ومشاتيه. فقد رأى نعيم والفرصة سانحة بوجود رفيق من أحسن الرفقاء نفسا أن يرتاد بلاد اليمن ومنابت العشب؛ ليستريض ويتعرف، ويعلم ورقة ويبصره، وإن لم يكن ورقة في حاجة إلى ذلك كله، بل ربما كان بقاؤه في الدكانة أعود عليه بالفائدة منه بالترحال، ولكن كان لا بد لورقة لكي ينسى الدنيا الجميلة التي أخرج منها، دنيا لمياء وهرميون - أن تمر عليه الحوادث والوجوه في تناقض واختلاف؛ ليشتغل بها فؤاده حتى لا تكون رتابة المكث في مكان واحد مذكرة إياه بالأحباب والإخوان؛ ولذلك أخذه نعيم في سفرات متقطعة كان قد انتواها من زمن بعيد إلى البلاد المحيطة باليمن على البحر الهندي وخليج فارس وبحر القلزم. فلما أتمها استقر بصنعاء مدة، ثم عاد إلى ارتياد بلاد اليمن نفسها شرقا وغربا وشمالا وجنوبا. كل ذلك باسم ارتياد منابت العشب، حين أن نعيما كان مغرما بالتنقل والاستراضة والسياحة، وكان في نيته يوم تتزوج ابنته أن يتركها بين يدي زوجها، ويذهب إلى العراق أولا ثم إلى الإسكندرية، أو إلى الإسكندرية ثم إلى العراق؛ لأنه كان يسمع المغريات عن الإسكندرية وما فيها من الأعاجيب، وعن مدائن كسرى وما فيها من مظاهر الملك والسلطان، وكان في كل حديث عنهما يغري ورقة ألا يفوت على نفسه زيارتهما.
سرت هذه الزيارات من هموم ورقة، فلم يبق من صلات قلبه بأحبابه إلا حبيس وجد بلمياء، وذكريات محبة خالصة، كانت تمر على مخيلته كل ليلة عندما يرقد لينام أو يفيق في الصباح، أو يخلو لنفسه في مكان، ولا يزال يتأمل وجه لمياء ونظراتها إليه المملوءة بالحب والرضا والعتاب الشديد، ثم يتذكر استحالة أن تكون له، حتى تتسرب الذكريات واحدة بعد أخرى. فإذا انطفأ نورها رقد ونام، أو أفاق لينهض، ولقد أغرم ورقة بالصلاة، فأوجب على نفسه منها ما لم يكن قد أوجبه الله بعد على المسلمين، تلك هي صلاة الصبح والعشاء. كان ورقة يفيق على عادته مبكرا، وإذ هو متوحد في غرفته - كان يذهب من فوره؛ ليتوضأ بماء البئر، ثم يعود إلى غرفته، ويتجه إلى الله ليصلي، فإذا انتهى منها ضاعفها؛ وكان يشعر أن هذه الصلاة الصباحية أفعل في القلب من صلاة الضحى؛ لأن النفس تكون إذ ذاك خالية من مشاغل الحياة. أما صلاة الضحى فكانت تقطع عليه يومه؛ وإذا انصرف لها لم يكن قلبه على سجيته النقية الخالية من مؤثرات الحياة.
وإذا عاد إلى غرفته في الليل؛ لينام، وأحس بالوحدة - استمد الأنس من جوار الله فذهب إلى البئر وتوضأ وصلى، واتجه إلى الله بقلبه، ودعا لأهله ولهرميون ولمياء وإخوانه في مكة بما يدعو به القلب المطهر؛ فرآهما في صلاته ودعائه رؤية رضا وطمأنينة، ثم ذهب إلى فراشه يفكر فيهما تفكيره المعتاد حتى يملكه النوم فينام.
كانت هاتان الصلاتان مما هداه إليه قلبه واحتياج نفسه، ولم يكن يجد في أن يصليهما خروجا، فقد صلى مع زيد صلاة ليلية تقربا إلى الله، وعلم أن الرسول
صلى الله عليه وسلم
كان يصلي كلما أحس حاجة إلى الصلاة، وكان ورقة يؤخر الضحى حتى يجيء وقت الطعام فينهض ويتوضأ ويستريح، فكانت صلاة الضحى في الحقيقة عنده هي صلاة الظهر، فلم يترك مما أمر الله بعدئذ
1
إلا صلاة المغرب، على أنه كان في كل صلواته مستهديا بوحي قلبه، ومن كان قلبه متصلا بالله فالصواب رائده، حتى فيما لم يأته به علم ولا أذان.
نترك ورقة إذن في ارتياداته وقفلاته يسلخ من حياة الدنيا عاما، وهو على ما هو عليه من هدوء النفس والارتياح إلى عشرة أستاذه الجديد: نعيم؛ يشتغل معه، ويعمل له حتى أصبح ينوب عنه في كل شيء: يبيع له، ويشتري من أعراب نجد، وخولان، وقوافل عدن وغير عدن بما علمه نعيم، ويعقد صفقات صغيرة وأخرى كبيرة مع المستبضعين من صغار تجار العشب ومستورديه، ونعيم فرح به مغتبط ومثن عليه. حتى إذا كان ذات يوم قائما في دكانة نعيم دخل عليه قس من قساوسة نجران كان يعرفه؛ لكثرة التقائه به في بيت الأسقف، جاء إلى صنعاء في شأن من شئون الكنيسة، وكان يعلم من الأسقف أن ورقة في صنعاء، ومن الحارث أنه عند نعيم فجاء يزوره.
رحب به ورقة أيما ترحيب، واستأذن من أستاذه في مرافقته، فأذن له وكلفه أن يدعوه للعشاء معهم، وقبل القس ذلك شاكرا رغبة منه في الائتناس بصاحبه في بلدة ليس له فيها صاحب، وإن كان معتادا أن يزورها في طلب حاجات الكنيسة.
على أنه كان يحمل من هرميون ولمياء سلاما ودعاء وأشواقا، وإن كان قد احتفظ له بها قرابة عام؛ ذلك أنهما كانتا تعلمان أنه رسول الكنيسة، وقاضي حاجاتها من صنعاء؛ فكلفتاه أن يلقى ورقة عند نعيم الصيدلاني يوم يصل إلى صنعاء، ويبلغه عواطف المحبة والرضا. أبلغه ذلك، وأبلغه أنهما سافرتا من نجران منذ عام، وأنه جاء صنعاء مرتين، وجاء إلى الدكانة، ولكنه لم يلقه؛ إذ كان ورقة مسافرا مع نعيم، وأنه اليوم سعيد بأن يلقاه ويبلغه رسالة السيدتين.
وعلم ورقة منه أنهما سافرتا مع الحارث وولده النضر إلى مكة عينا، وأنهما ستبقيان بها نزولا إلى إرادة النضر؛ إذ أبى أن يسافر إلى العراق، وأن الأسقف نصح لهرميون أن تطيع زوجها فيما رأى من العودة بها وبلمياء إلى مكة بعد مشهد عصيب كان الحارث فيه على وشك أن يطلق هرميون، ويأخذ ابنتها منها.
قال ورقة: مسكينة هذه المرأة! قال: حقا هي كذلك، ولكنها لم تكن على صواب. قال ورقة وقد أفاق بعد ذلك الحديث الذي أحزنه: فيم كان خطؤها؟ قال القس: كان في استطاعتها أن تبقى في نجران لو أرادت فقد طلب أحد بني عبد المدان من الحارث أن يزوجه لمياء، ورضي الرجل، بل رضي النضر الذي ما رأيته يقر شيئا يكون فيه خير أبدا، ولكنها رفضت واعتذرت كما قالت لي بربارة قهرمانة الأسقف معاذير عجيبة. قالت: إنها لا تزوجها من عربي أبدا. فلما تدخل النضر في الأمر قالت: إن بينها وبين زوجها صكا بذلك؛ أي: أن يكون زواجها بيدها لا بيده، قال نعيم وكان يسمع: والله إني لأراها على صواب. ما هؤلاء الأمراء يا مولانا إلا أسماء لأجلاف صحراويين يشقون الناس باسم الإمارة والسيادة. قال القس: وهل تستطيع هرميون أن تعود إلى الإسكندرية والطريق مزروعة فيها الأسنة والسيوف. لن تنتهي هذه الحرب بين الفرس والروم قبل عشرين سنة تكون فيها ابنتها قد عنست، وتكون هي قد آمت، ولم يصبح لهما ذكر في الدنيا. قال ورقة: ولمياء ألم يكن لها في هذه المعمعة رأي؟ قال: ثق أن رأيها رأي أمها. قال نعيم: محال أن يكون الأمر كذلك، ترفض العذراء زوجا من أهل الإمارة انتظارا لزوج يذهب بها القدر إليه في الإسكندرية بعد زمن لا تدري ذرعه! قال القس: بل أؤكد لك ذلك، فقد خبرتني القهرمانة أن الفتاة أعلنت والدها أنها نذرت لله أن تتعنس، وأنها لا تريد الزواج، فإن حملها عليه فهي تدري كيف تنجو بنفسها منه. فأدرك الحارث أن ابنته تنذره بالانتحار، وقبل أن يأتي الغد عليه ويعطي كلمة لبني عبد المدان رفضا أو قبولا - كان قد ارتحل عن نجران بأهله إلى مكة، وهون على امرأته يومئذ هذا الارتحال أنها لم تكن تستطيع أن تلقى نساء بني عبد المدان بعد هذا الرفض.
عرف ورقة سر ذلك فاشتغلت نفسه بما سمع، وبات ليلته سهران يفكر في لمياء، وكلما غالب نفسه على النسيان، وصرف الفكر عنها، ويذكر أنه عاهد نفسه أن يقطع صلته بها، وهدأ على ذلك - وجد قلبه ينازعه، وأخيرا وجد نفسه يعتزم الرحلة إلى مكة لغير قصد ظاهر، ولا أمل معين، ولكنه شعر أن وجوده في مكة بجوار من يحب هو المنى كل المنى، وهاج في نفسه الرحلة والإصرار عليها أنه كان في الشهر الأخير من الشتاء، وأن قافلة مكة عائدة إليها صبيحة الربيع.
أعلن ورقة الصيدلاني نعيما برغبته هذه، ولم يستطع نعيم ولا أهل بيته صده عن الرحيل، ولذلك قضيا قرابة الأسبوع في تجهيز ما يحتاج إليه ورقة من البضاعة التي كان يعد نفسه للإتجار فيها في مكة، وكان المال الذي تجمع لديه كثيرا، إذ جاوز مائة دينار؛ لأنه اضطر أن يبيع جواده لرسل جاءوا من بلاد الفرس في طلب الخيل للحرب، ولم يكن في استطاعته مخالفة رغبة الحكام، أو إخفاء الجواد عن العيون. كما أن ما تركه له أستاذه الحارث من العقاقير عند نعيم كان بقدر كبير؛ ولذلك رأى ورقة ألا يستهلك ماله كله في العقاقير، وإذ رأى من الحكمة أن يشتري بعرانا لنقل حموله، وكان قد عرف جمالا ممن يحملون البضاعة لنعيم؛ فقد اتفق معه على أن يذهب به إلى سوق الجمال ليشتري بخبرته ثلاثة بعران يحمل عليها بضاعته على أن يجعله على جماله في عير اليهود الذاهبين إلى القدس.
على أن الجمال خانه - كما علمنا - وفر بالمال، فاضطر إلى أن يشتري بما بقي معه جمالا أخرى، ويخرج بها من صنعاء بعد العير بيوم مجتازا بها مفاوز محفوفة بالأخطار؛ ليدرك قافلة مكة في نجران، فحدث له ما حدث من الالتقاء بالجمال وعير اليهود في حلة الأراك، ووقع له ما وقع مع الذئاب والقرضاب وإنقاذه الغلام رؤبة، ثم وصل إلى نجران في موهن الليل برسالة من إسحاق؛ ليعوق القافلة عن المسير يوما حتى يدركها، ويسير في حماها.
الفصل السادس والعشرون
الصحيفة
الآن وقد عرفنا ورقة من قبل أن يخلق، وعرفنا تاريخه مدى اثنتين وعشرين سنة، وعرفنا أهله وسادته وأساتذته، وبلده وجيرانه، والجو الذي عاش فيه، والعناصر التي كونت ذاتيته - فإن في مقدورنا اليوم أن نفهم ما يجري بينه وبين أسقف نجران من الحديث، ولكننا لم نعد في حاجة إلى أن نكون معهما؛ لنسمع ما جرى بينهما من أخبار الحارث وهرميون ولمياء والنضر، فقد أجمله القسيس لنا في دار الصيدلاني بصنعاء، ولذلك نطوي صفحته على عجل؛ لنتعرف ما لم نعرف، ويكفي لذلك أن نقول: إن الأسقف حذر ورقة من غدر النضر به؛ لأنه أنذر أباه بذلك إثر بادرة عطف بدرت منه، وكلمة خير أرسلتها هرميون، وحذره كذلك من محاولة لقاء سيده في مكة، وبالأحرى زوجته وابنته ضنا بهم من أذى النضر وبنفسه كذلك، ونزيد على ذلك أن اليهود جاءوا بحمولهم وحمول ورقة، وسافروا في صبيحة اليوم الثاني من أيام الربيع إلى مكة شاكرين للأسقف عظيم فضله عليهم في ذلك، وأنهم نزلوا لورقة عن الشملالة شكرا له على ما تجشم من أجلهم، فقبل هديتهم شاكرا مغتبطا.
وما زال سائرا مع القافلة ورؤبة معه حتى بلغ طريق خولان، فأنزله واكترى له راحلة تنقله، وأوصى به عيرا كانوا ذاهبين إليها، ونقده فوق هذا بضعة دنانير؛ ليدخل بها على أمه، وليتمكن من اللحاق به في مكة إذا شاء فإن اهتدى إليه فبها، وإلا فليسأل عنه في بيت رسول الله محمد بن عبد الله، وسارت القافلة في طريقها المعتدل حتى بلغت هدى في العصر بعد عشرين يوما من نهوضها من نجران.
وفيما هو يتأمل الجبل ومصعده الذي اعتاد أن يرقاه إلى دار خالد بن الوليد، ويتذكر طويفا وسعدى وفتنة، ويسائل نفسه ترى ماذا لقيت؟ وماذا جرى من الأحداث في غيبته؟ رأى رجلا يحث نحوه بعيرا هزيلا كان راكبا عليه. فتأمله فإذا هو طويف بعينه الذي كان يفكر فيه. كان ذاهبا إلى مكة؛ ليستبضع فتلقاه بعظيم الفرح، وسأله عن حاله وعن فتنة وأخته فقال الرجل: إنه خير حال، وأن الله قد رزقه منها منذ شهرين غلاما جميلا سماه ورقة ذكرى لذلك اليوم المبارك الذي جاءه فيه بفتنة، وأنه قد غير اسمها فعلا وسماها ناجية كما سماها له ساعة عرفهم إليها، ثم سارا يتذاكران حتى قطع عليهما الحديث دقدقة خيل ورادة من طريق مكة وعليها جماعة من سادة قريش: منهم أبو الحكم المخزومي، والنضر بن الحارث، والمطعم بن عدي، وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، وبغيض بن عامر ... وآخرون. فلما اتصلوا بالقافلة وقفوا ووقفوها، وقالوا لتجارها: أيها التجار! إنكم قادمون إلى مكة ببضاعة عبد العزى، وبطعام وكساء لأهلها. قالوا: نعم. قالوا: وقد علمنا أن مقدمكم اليوم، فأرسلتنا إليكم قريش تنذركم ألا تبيعوا بني عبد المطلب شيئا مما معكم من طعام أو كساء، فإن فعلتم قاطعناكم، وتناولكم منا من لا نرده عن أذاكم، وإن نزلتم على إرادتنا عوضناكم وأكرمناكم، وسيكون منا في الأسواق نفر يدلونكم على من تبيعون إليه ومن لا تبيعون، كي لا يكون لكم عذر من خطأ، فتنبهوا لأنفسكم، ولم يمهلوا التجار حتى يردوا بالقبول أو الرفض، وارتدوا على ظهور جيادهم إلى مكة مهطعين.
تعجب ورقة لهذا وسأل طويفا: هل جرت أحداث أقبح مما حدث منذ عام؟ قال: أحداث كثيرة، فقد اجتمع كفار قريش على قتل رسول الله،
1
وقالوا: قد أفسد علينا أبناءنا ونساءنا، وقالوا لقومه: خذوا منا دية مضاعفة ويقتله رجل من قريش، وتريحوننا وتريحون أنفسكم. فأبى قومه ذلك، وسفهوا رأيهم، واجتمع أهل رسول الله فنقلوه إلى شعب عمه
2
أبي طالب؛ ليأمنوا عليه غدر الغادرين. فعدت قريش عمل بني عبد المطلب وبني هاشم خروجا على الجماعة، وموالاة لولدهم الذي عق قريشا وآلهتها، وأجمعوا أمرهم على عقابهم بمقاطعتهم ومنابذتهم، وضيقوا عليهم بحصرهم في هذا الحصن، ومنعهم من حضور الأسواق، وقررت قريش فيما بينها إسقاط بني هاشم من عدادها، وعدهم أجانب عنهم بل أعداء لهم، وحرموا على أنفسهم أن يتزوجوا منهم أو يزوجوهم، وقرروا ألا يقبلوا منهم صلحا، أو تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا رسول الله إليهم ليقتلوه بأيديهم،
1
وكتبوا بذلك صحيفة فيما بينهم، وعلقوها في الكعبة توكيدا على أنفسهم
3
فدخل بنو هاشم وبنو عبد المطلب مؤمنهم وكافرهم في الشعب
3
ليمنعوا رسول الله، ويحموه من القتل؛ إلا عمه أبو لهب لعنه الله
3
فإنه ظاهر عليهم قريشا، والآن لا يدخل إلى بني هاشم من طعام إلا النزر اليسير، ومن ثياب إلا القليل، وترى المؤمنين يحتالون لإطعامهم كل محتال، ولكنهم يلقون في ذلك شدة وعذابا من الكفار، وأصبح كثيرون من بني هاشم لا يجدون من طعام إلا الخبط وورق الشجر
3
ولذلك فإنه؛ أي: طويف، لم يعلن إسلامه لأحد من أهل مكة، وكان في نيته أن يحتال لدخول الشعب بشيء من الطعام.
فلما سمع ورقة هذا الكلام تألم ألما شديدا، وتذكر ما كان الحارث قد ذكره منذ عام من ائتمار قريش ببني عبد المطلب ليلة عتق فتنة، وطلبه إليه أن يصلي لله ويدعوه أن يكف عنهم هذا الأذى، وصمت ورقة يفكر في حال سادته، وأهل بيت نبيه الذي يفتديه بروحه، وصح عزمه على ألا يدخل مكة إلا ومعه مقدار عظيم من الطعام الذي في القافلة، وأن يعمل كل حيلة في إيصاله إلى بيت رسول الله في الحصن المحصور؛ ليأكلوا منه عشية يومه، ثم اتجه ورقة إلى السماء رافعا يده إليها، وتمتم بكلمات عاهد فيها ربه على أن لا يذوق من ساعته زادا حتى يأكل رسول الله وأولاده.
وكانت له صحبة في القافلة بتجار من يهود نجران واليمن يحملون طعاما وكساء على أربعين جملا: تجار رحل كان كثيرا ما يلتقي بهم في أسواق صنعاء ونجران، بل لقد حمل ورقة أحدهم ذات مرة في سفرة له إلى مكة رسالة إلى باقوم، فتوثقت بينهم وبينه في الطريق مودة عظيمة. ذهب إليهم من فوره؛ ليتذاكر معهم فيما يحملون من بضاعة، كم يكون ثمنها؟ وكم يربحون من بيعها؟ وإذ لم يشكوا في مأربه؛ لأنه كما يعلمون تاجر مثلهم يسير ببضاعة معهم إلى مكة صدقوه القول، وقالوا: هي بضاعة يقدر ما فيها من الكساء بثلاثين ومائة دينار، وأن حملها عشرة جمال. أما الطعام فهو على ما يبهظ من ظهور الجمال لا يزيد ثمنه على ستين دينارا، وإن كان فيه سمن وسكر، ولذلك فإنا لا نتاجر في الطعام، وإنما هذا طعام كنا قد جئنا به من قرن المنازل إلى عكاظ
4
فلم يبع فيها وها نحن أولاء عائدون به إلى مكة، ولعلك قد رأيت جمالا تتصل بنا ساعة نزلناها. قال: لم أر شيئا، فقد كنت مشغولا بحمولي ساعة نهضتنا، ولكن ما قولكم في أن أشتري طعامكم هذا، وما تحملون من كساء، وأدفع لكم فيه ما طلبتم قبل أن تدخلوا به مكة؟ آخذها لنفسي لأتاجر فيها وأرتزق؟ وأريحكم من عناء تصريفها، وتضييق قريش عليكم في بيعها؟ قالوا: نشكرك إن فعلت. قال: وإني لراغب حقا، وإذ إني أريد أن أجازف فأبيعها لبني هاشم الليلة وقريش مشغولون بإنزال القافلة في الأبطح، فإني أرجو منكم أن تساعدوني على ذلك بأمر لا يكلفكم مشقة، بل يريحكم من الآن. قالوا: وما هذا؟ قال أن تتئدوا في سيركم مجانبين حتى تنحدروا إلى ذيل القافلة وأطراف ذيلها، ثم تنقطعوا عنها. فإذا سارت القافلة وتقدمتكم، واشتغلت قريش بأمرها عطفتم على طريق أجياد. قالوا: هذا شأنك وفيه راحة لنا. على أنا لا نكره أن يصل إلى الحنفاء الموحدين بالله مثلنا رزق كهذا برضانا. قال: شكرا لكم. على هذا اتفقوا، فتأخروا وانقطعوا ووقفوا الجمال، ودفع لهم ورقة ثمن ما يحملون، واتفقوا على أن يسير هو بجمالهم وجمالتهم؛ لينزل حموله حيث يشاء، ثم يردها إليهم، وعلى ذلك نزلوا في منعطف أجياد، وسار هو بالجمال حيث أراد.
اشتغلت قريش بالقافلة، فأنزلوها في أبطح بني كنانة، وأقاموا عليها الحراس بالليل؛ ليمنعوا بني هاشم أن يشتروا من أهلها، كما أقاموهم بالنهار لذلك، وهم يزعمون أنهم دبروا ما يجب لإجاعة أهل بيت النبي وعشيرته، وأنهم يوشكون لهذا أن يسلموا إليهم سيدهم ونبي الله؛ ليقتلوه لقاء لقيمات يسمحون لهم بشرائها من الأسواق.
ولكن الله كان يخيب فألهم حين يؤملون، ويرد كيدهم في نحورهم حين يبيتون؛ فقد كان ورقة يسير بجمال الطعام والكساء في تلك الساعة على مدرج جبال أبي قبيس قاصدا حصن أبي طالب من وراء البيوت، وإذ كان منزله وراء الحصن في طريقه إلى دار رسول الله فقد وقف بعرانه عنده، ودق على أمه الباب ففتحته، وقبلها وقبلته، وسألها عن مكان مولاتها سيدة المؤمنين من الشعب فدلته عليه حين دخل على باقوم فقبل يده واعتذر له من اضطراره إلى تركه قليلا، ثم استودع أبويه بضاعته وجمالته؛ ليدخلوا عقاقيره في الدار، وجماله في مربط جواده، وانصرف على الفور إلى بيت سيدة قريش، من حصن أبي طالب.
كان ورقة يعرف هذا الحصن معرفة تامة؛ لكثرة ما ذهب إليه في أيام طفولته ومراهقته، وكان يعلم أن له مدخلا عجيبا، شقا من شقوق أبي قبيس يفضي إلى رحبة واسعة تكاد تكون مربعة، وأن للحصن على هذه الرحبة بابا لا يستعملونه كثيرا؛ لأنه إن أدى إلى شيء فإلى ظهر جبل أبي قبيس، لا إلى سوق مكة وبيت الله، ولكن هذا الباب كان أقرب إلى البيت الذي نزل فيه رسول الله بأهله، ولذلك قصد إليه ورقة، وأدخل الجمال في تلك الحظيرة الموفقة، وكان صوت الجمال قد نبه الآذان، ففتح زيد بن حارثة باب الحصن محاذرا، وإذ رأى ورقة، ورأى الجمال تملأ الرحبة صاح مكبرا: الله أكبر. الله أكبر! وجاء أهل البيت؛ ليروا ماذا حدث ...
ثم لاحت سيدته سيدة المؤمنين خديجة وبنات رسول الله فهرع إليهن ورقة يقبل أيديهن جميعا، وهو يقول: بأبي أنتن وأمي وبنفسي من كل سوء. هذا رزق أرسلني الله به، اشتريته من القافلة عندما علمت بحصاركم. فرفعت أم المؤمنين وبناتها أيديهن شكرا لله على بره ودعون له، ثم أمرت بإدخال الحمول ساحة الحصن. فانصرف أهل البيت إلى معاونة الجمالة على ذلك، ولم تمض ساعة حتى كان رزق الله قد استوى في الساحة، وعاد الجمالة بالجمال إلى ما وراء مكة كما اتفق التجار مع ورقة مشكورين مكرمين.
وإذ علمت سيدة قريش بما كان من قدوم وفد الكفار على القافلة وإنذارهم التجار بالويل إذا هم باعوا بني عبد المطلب شيئا - أدركت ما يحيط بورقة من الشر، فأمرته أن يذهب إلى أمه لكيلا يرى، وأوصت كل من أرى وشهد أن يكتم أمر ورقة، وإذا سألهم سائل أن يقولوا له: جاءت جمالة فأنزلوا الحمول وانصرفوا ولا يعرفون من هم، وهذا صدق كله، ولكنه لا يبين عن المرسل. على أنه هو الله وحده الذي دبر هذا، ورد كيد المشركين والكفرة القساة القلب إلى نحورهم وأكبادهم.
ولم تر أم المؤمنين أن تلجأ إلى فراشها في تلك الليلة، حتى توزع فضل الله على عشيرة الرسول، مؤمنين وغير مؤمنين؛ ليطعموا عيالهم الذين يتضورون جوعا، ولكنها ما كانت تصدر عن أمر إلا بمشورة رسول الله، وكان
صلى الله عليه وسلم
عند عمه أبي طالب، فأرادت أن ترسل إليه؛ ليجيئها، ولكنه كان قد جاء فعلا، وتلقاه مولاه زيد بالخبر السار؛ فحمد الله - فيما أخال - ودعا لورقة وأثنى عليه، كما أخال أنه
صلى الله عليه وسلم
وافق زوجته على ما رأت من إسعاف أهله في نفس الليلة بما جاءها من الطعام. فأرسلت إلى كل بيت كيلا عاجلا من كل صنف ورد على أن تقسم بقية ما جاء بالعدل والرحمة في الغد. أما الثياب فتركت أمرها إلى الغد كذلك حتى ترى حاجة كل بيت منها فتوزعها عليهم تبعا لذلك.
مضى يومان بعد هذا، والقافلة يحرس سوقها حراس من المشركين، ولكنهم لم يروا أحدا من بني عبد المطلب دنا من السوق؛ ليشتري طعاما أو يلتمس خرقة. فتعجبوا لهذا أيما عجب، ولكن لم يطل عجبهم كثيرا فقد أخذوا يتبينون الحقيقة شيئا فشيئا من روايات بعض أهل القافلة. خبرهم بعض تجارها أنهم لا يرون عير اليهود الرحل، وأنهم يرجحون أنهم باعوا تجارتهم لبني عبد المطلب وانصرفوا، وقال بعضهم: إنهم رأوهم يتأخرون عن القافلة ساعة دخول مكة، ولا بد أن يكون هذا تدبيرا منهم للذهاب ببضاعتهم إلى شعب أبي طالب على الفور، وادعى بعضهم كذبا أنهم كانوا يعلمون أنهم قادمون بطعام وثياب خصيصا لعشيرة أبي طالب، وقال غيرهم بل لعشيرة محمد بن عبد الله عينا، وأتى على ذلك ببراهين وشواهد كاذبة ليدعم بها روايته. فسقط في يد أهل الصحيفة المشركين، وكادوا يتميزون من الغيظ؛ لحبوط ما دبروا، وودوا لو يستطيعون إدراك عير اليهود القافل، ولكنهم كانوا قد رحلوا عن مكة قبل أن تعرف قريش أمرهم بيومين، بل لو خرجوا وراءهم في حينه ما أدركوهم؛ لأنهم كانوا قد أخذوا طريقا آخر غير طريق البر إلى اليمن، وهو ما كانت قريش تسلكه؛ لتدركهم، وإنما فعل العير ذلك؛ ليستبضعوا لبني هاشم شعيرا وسمنا من أسواق جدة وجيرتها بعد ما علموا من سوء حالتهم، وإجماع المشركين على إجاعتهم وإذلالهم، وإمكان أن يستفيدوا من هذا الحادث ربحا مضاعفا. على أنهم كوفئوا على حسن النية خيرا معجلا؛ ذلك أنهم لم يرحلوا خفافا، بل رحلوا محملين، وكان لهم في الحالين أكرم أجر، وإليك ما جرى.
الفصل السابع والعشرون
الهجرة إلى الحبشة
أجمعت قريش رأيها على أن تقاطع كل مسلم كذلك، وتلحقه ببني عبد المطلب في الأذى. فلما جاع المسلمون وكادوا يعرون - أذن لهم رسول الله في الهجرة بأولادهم ونسائهم إلى الحبشة؛ إذ كان لهم فيها ملك كريم عرفوا من إخوانهم السابقين إليها أنه مال إلى الإسلام، فأكرمهم أيما إكرام، ولكنهم ما كانوا يجدون جمالا تنقلهم إلى حيث يركبون البحر إلى بلاد هذا الملك الذي وفقه الله إلى الخير، وانتظروا القافلة، ولكنهم أدركوا أنهم لن يستطيعوا أن يستأجروا شيئا منها؛ لأن قريشا قد أنذرت أهلها وضربت عليهم الحصار، ولذلك ظلوا يتحينون الفرص حتى حانت من حيث لا يعلمون. ذلك بأن ورقة لما ذهب إلى بيته وجد في انتظاره في البيت رجلين من المؤمنين لم يكن في الإمكان حبس الخير عنهما، ألا وهما عبد الله بن مسعود خادم رسول الله، وبلال بن رباح عتيق أبي بكر الصديق، وكانا كثيري التردد على أخيهما في الإسلام باقوم الرومي. فلما اجتمعا به قبلاه ودعوا له بالخير جزاء حسن صنيعه وجهاده في سبيل نبيه! وذكرا له ما يلقى المسلمون من الأذى من قريش، وأن منهم من استأذنوا رسول الله في الهجرة إلى الحبشة كما هاجر إخوانهم من قبل؛ ليحموا ذرية المسلمين من الفناء مرضا وجوعا، ولكنهم لا يجدون جمالا. قال ورقة: هذه جمالي فخذوها لمن يريد، وهناك أربعون جملا أخرى تعود إلى اليمن في صبيحة هذه الليلة، إن شئتم جعلتها لهم، على أن يرحل الراحلون في الصباح لا ينتظرون ولا يتلومون خشية أن تعرف قريش من أمرها ما تجهل حتى الساعة فتعاقب أصحابها على ما فعلوا من أجل بيت الرسول.
فلما سمع الرجلان هذا الكلام كبرا لله شكرا وحمدا، ونهضا إلى بيوت من كان في نيتهم الرحيل من المسلمين، وأكدا لورقة أنه إن ذهب إلى العير القافل، فاستقدم البعران في موهن الليل إلى داره، فسيلقيانه ليفرقاها على بيوت الراحلين. على هذا اتفقوا، ونهضوا لهذا الأمر، وذهب ورقة على حمار كان باقوم قد اشتراه ليحمله، حتى بلغ عير اليهود، وأخبرهم بما اتفقوا عليه، فشكروا له سعيه، وكان الجمالة أشد رغبة من سادتهم في ذلك لما علموا من فرط بر المسلمين، وإحسانهم لقاء ما يحسن الناس إليهم وإن كان ضئيلا.
جاء بهم ورقة فعلا، وكان الليل قد انتصف، وأهل مكة كلهم نياما إلا من اتفق معهم بلال وعبد الله، فقد شكروا لهما هذا السعي، ونهضوا من فراشهم يعدون أحمال الرحيل، وما أحمالهم إذ ذاك بالأمر الكبير، حتى إذا جاء الجمالة بالجمال رحلوها وركبوها، وساروا قبل السحر يلتمسون جدة؛ ليأخذوا طريق الشاطئ على أقرب مرفأ تحملهم مراكبه إلى بلاد الملك الطيب.
كان الذين رحلوا في تلك الليلة وما قبلها حوالي مائة من المسلمين،
1
منهم جعفر بن أبي طالب وزوجته أسماء، والمقداد بن الأسود، وعبد الله بن مسعود، إذ ركب بعيرا من بعران ورقة، وعبيد الله بن جحش ومعه امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان، وكان عيرا كبيرا لم تسمع قريش بنبئه إلا يوم تعجبت؛ لاختفاء الطلب من بني عبد المطلب على الأسواق، ولكنهم مع ذلك لم يصدقوه.
ولقد كان ورقة يريد أن يصحبهم في تلك السفرة، ولكنه كان يرى أن الرسول أصبح في حاجة إليه، بل وجد أن من واجبه أن يبقى؛ ليكون دريئة له
صلى الله عليه وسلم
من أذى الكفار، ولذلك بقي في مكة شهرا لا يدري كيف باع فيه كل ما جاء به من العقاقير، ولكن الواقع أن الحارث كان قد علم بمقدمه، فأغرى تجار العطارة والعقاقير بمشتراها منه، وكان قصده من ذلك متشعبا: بعضه أن يساعده على الربح من بضاعته، وبعضه أن يضمن له شاريا قبل أن يدخله ولده وسائر قريش فيمن تجب عليهم مقاطعته، وبعضه أن يغريه بالرحلة عن مكة في طلب عقاقير أخرى من اليمن؛ ليصونه من أذى ولده الذي أنذر للات دمه إذا هو رآه مارا بداره، أو سمع أنه اتصل بلمياء أو هرميون أو راسلهما. على أن هناك غرضا آخر وراء ذلك كله: ذلك أن ولده النضر حمله على الرضا بتزويج لمياء من فتى من فتيان بني عبد الدار، وكان الحارث يعلم في قرارة نفسه أن بين ابنته لمياء وورقة محبة شديدة وغراما قويا، ولكنهما لطهرهما ما كانا يفصحان عنه أو يتدانيان بسببه، بل كان ورقة على وجده يعمل عمل الكريم الطاهر النفس على إخماد نيران جواه، وتجنب كل مباح، وكان الحارث بصيرا بالقلوب فرأى من البر بالغلام أن يحمي أذنه أن تسمع خبر زواج لمياء، وقلبه أن يلتهب لانقطاع أمله منها، وإن لم يكن قد استشعر هذا الأمل من قبل.
اجتمع لدى ورقة من المال ما كان كثيرا، فقد أعطته سيدته خديجة ثمن ما حمل إليها وزادته عليه إكراما، وأعطاه المسلمون الراحلون ثمن بعرانه الثلاثة؛ لأنه لم يرض أن يفارق الشملالة ولو على ألف دينار، وتضاعف ما كان قد دفعه ثمنا في العقاقير، وزاد زيادة كبيرة فأصبح يملك نصف ألف من الدنانير لم يدر ماذا يفعل بها؟ فاستودعها أباه، وانصرف يفكر في الرحلة إلى اليمن في طلب العقاقير، ولكنه وجد نفسه كارها لهذه الرحلة؛ لما خطر له من ضرورة البقاء في جوار رسول الله، ولأنه كان يشعر أنه لقربه من حيث تسكن لمياء - كأنه مع لمياء، وكم مرة خطر له أن يمر بدارها؛ ليكون أدنى إليها أو تعسيا أن يراها، ولكنه ذكر أن الحارث على فرط بره، وعلى ما سمع عنه ممن اشتروا منه بضاعته، لم يزره، بل أغراه بالرحيل في طلب عقاقير أخرى فأدرك أنه لا يستطيع أنه لا يستطيع ذلك خوفا عليه من ولده، وأنه لا يحسن به أن يزوره، أو يبدو بجوار داره؛ لئلا يراه ولده أو أحد من أتباع ولده فيكون له منه أذى، وذكر نصيحة الأسقف فاستقر رأيه على البعد عن دار الحارث وقلبه يلتهب شوقا إلى لمياء.
وظل الفتى على حال دبره لنفسه؛ ذلك أنه كان إذا قضى سهرته مع أهله وبلال ومن يزوره من المؤمنين وانصرفوا، نهض هو فتقلد سيفه، واحتمل قوسه وكنانته، والتحف عباءته فوق ذلك، وسار حتى يبلغ شعب بني طالب، حيث يسكن رسول الله منذ قاطعتهم قريش فيجلس بالقرب من عتبة الحصن يحرس الباب، أو يطوف بالحصن خشية أن يعلوه أحد من أشقياء قريش الذين كانوا قد أعلنوا نية قتل الرسول مهما ترتب على ذلك من الأذى، وكان إذا لاح الفجر، وسمع رسول الله ناهضا ليتوضأ يعود هو إلى داره يتوضأ، ويصلي الصبح وينام، وإذا كان رسول الله في سهرة عند أحد من صحابته - رضي الله عنهم - وقف بباب الصحابي حتى يخرج فيسير أمامه حتى يطمئن عليه في داخل داره.
جرى على هذا مدة طويلة لا تفتر له همة، ولا يغض له جفن، ولا يعرف هذا أحد إلا زيد بن حارثة، ولكنه مع ذلك لم يخبر رسول الله إجابة لرجاء ورقة خشية أن يصرفه رسول الله عما يجد فيه نعمة لقلبه بالسهر عليه.
وطال سهر ورقة وزيد يراقبه متعجبا لبره. لقيه ذات يوم في داره فقال: إلى متى يا صاحبي تقضي الليل في العراء؟ إن رسول الله آمن في الحصن لا يمسه أذى. قال اسمع يا زيد إني إن أحببت رسول الله وقمت على حراسته فإنما أحب الله، وأجير الحق والخير الذي أرجوه للناس على لسانه. ما قيمة دنيا لا يكون فيها وما يصلح للناس حياة فيها؟ كل يقوم بواجبه. إنه يدعو إلى الحق، ويحتمل فيه كل أذى، وهو من هو من الناس ومن الله، وأنا أريد أن أقوم بواجبي لله ولدينه ولنبيه وللناس، وتدخل بلال في الأمر هو وباقوم فاستمر ورقة على حاله غير مكلف ولا مسئول.
وحدث ذات ليلة والظلام شديد في العتمة من الليل بينما كان ورقة يطوف بالشعب - أن رأى ثلاثة أشباح تروح وتجيء في الطرقات المؤدية إلى الحصن، فزعمها في أول الأمر أشباح أفراد من بني هاشم يسيرون إلى بيوتهم، ولكنه رآهم يذهبون ثم يعودون، وقد يقفون ليتلفتوا. فخطر له أن يخدعهم كما خدع القرضاب وتظاهر بالنوم على عتبة الدار، فتجمع الثلاثة بعد قليل، وسمعهم ورقة يقولون: نراه عاد إلى داره مبكرا. هذا ابنه زيد نائم على عتبة الدار. لو عاجلتموه! قال أحدهم: لا تفعلوا، وإلا أنذرتموهم بما نحن بصدده. دعوه، وانتظروا حتى يترك محمد داره في الفجر إلى مسجد ابن أبي قحافة.
2
أدرك ورقة أنهم يأتمرون بالنبي، وعرف من بين المتآمرين صوتا ما كان يظن أن يكون مع المشركين على هذا، ولكنه قدر أن يكون معهم اضطرارا. ذلك هو زياد عبد الحارث أو بالأحرى عبد النضر، وأدرك لوجوده أن المؤامرة دبرها النضر؛ ليقتل رسول الله، وخشي إن هو تركهم أن يكون النبي
صلى الله عليه وسلم
قد انتوى صلاة الفجر مع أبي بكر في بيته، وكان قريبا، وفي هذا ما يعرضه للأذى، وخطر له أن يوقظ زيد بن حارثة؛ ليلقي إليه خبر هؤلاء، ولكنه خشي أن يعاجلوه إذا نهض بالقتل فيموت في غرض يمكن تحقيقه بما أهو أهون عليه، وأعود بالخير على بني هاشم. فاستمر متظاهرا بالنوم فرآهم مروا به، ثم وقفوا عليه هنيهة وانصرفوا، فما كادوا ينعطفون حتى نهض وشد قوسه فرمى أحدهم بين كتفيه فسقط، ورمى زيادا في كفه فتقطعت، وأراد أن يدرك الثالث ولكنه جرى حتى أخفاه الظلام. فنهض بعض خدم الرسول على الصوت ، وفتحوا الباب؛ فوجدوا ورقة عائدا، وسألوه فأخبرهم الخبر، فشكروه وقبلوه، وذهبوا إلى الرجل الملقى على الأرض فوجدوه من عبيد بيت النضر عينا، فنقلوه إلى مكان أبين؛ ليراه الناس في غدهم، ويعلموا ما دبر النضر.
وكأن النضر قد علم بما لقي رجاله فأرسل من ينقل القتيل، ويتعرف القاتل، ولكنهم لم يجدوه. وجدوا بيت الرسول محروسا بغير واحد، فولوا الأدبار مهطعين، وكان الفجر قد أوشك أن يلوح، ورأى ابن حارثة أن يذهب ورقة؛ لينام ويتركهم لينوبوا عنه في حراسته، وأصروا على ذلك فلم يجد بدا من إطاعتهم، ولكنه ما كاد يصل إلى الدار حتى رأى على بابها رجلا مربوط اليد ينتظره وهو يئن أنين مكلوم، فلما دنا منه ورقة عرف أنه زياد بعينه الذي ضربه. قال: ما خطبك يا زياد؟ قال: أرسلني إليك مولاي الحارث؛ لتضمد جرحي بشيء من العقاقير، فإنه لا يجد في داره شيئا، وقد كتب لك اسم الدواء على هذا الرق، وكان ورقة قد تأمل زيادا فلم يجد عليه ما يريبه من أمره، فدق الباب ليفتح له، وأخذ الرق منه ودخل به إلى الدار ليقرأها. فإذا فيها: موه عليه، وانج بنفسك وإلا هلكت. فسكت ورقة وغرق في بحر من الفكر والعجب. كيف عرف النضر أنه هو الذي قتل؟ ولكن الأمر لم يكن عجيبا في الواقع؛ لأن النضر كان قد شغل نفسه بذلك، وكان له جواسيس وعيون من رجال ونساء، وكان من السهل عليه أن يعلم أن ورقة عاد، وأنه يحرس بيت رسول الله كل ليلة، ولكنه لم يشأ أن يعلن أحدا بذلك، ولاسيما زيادا؛ لأنه كان يعلم ما بينهما من مودة فأبقاه جاهلا أمره حتى تلك الليلة، ولكن ورقة لم يكن في حاجة إلى هذا الكتمان، ولا سيما بعد ما جاءه العلم من الحارث بظهور أمره. فقال له: حتى أنت يا زياد تأتي مع القتلة؛ لتقتل رسول الله. فشده زياد لما سمع، وقال: كيف علمت ذلك؟ قال: وماذا يهمك كيف علمت؟ ألست من موالي أم المؤمنين؟ وإن كنت حرا . قال: بلى، وإذا كنت لم تستطع أن تخالف لسيدتك الطيبة العفوة أمرا، فكيف أملك أن أخالف لسيدي الشرير السافل أمرا. لقد دفعني إلى ذلك دفعا، وأنذرني إن أنا ذكرت شيئا لأبيه أن يقتلني فكتمته، وهذا ما أصابني الليلة؛ إذ كنت في المؤتمرين، ولكن من أين لهم أني أنا أحدهم؟ قال ورقة: هذا ما دلني عليه جرحك البالغ. قال: أولا تكتم أمري؟ قال: لا والله، ولقد كنت أحب أن تكون أنت المقتول. أتخونني يا زياد في نبيي؟ وقد علمت قدر حبي له؟ قال: واسوأتاه!! هذا أقتل لنفسي من كل قتل. ليتني ألقى رسول الله وأنيب إليه بفيض دمعي وسيل قلبي. خذني بحقك إليه. إني أريد أن أطأطئ عنقي لسيفه ليضربني، فوحق الله وذلة الرق الذي أنا فيه لا يريح قلبي من إثم ما فعلت إلا أن أرى سيف رسول الله يهوي على رقبتي. لا أرى لعقابي إن أنا نجوت إلا أن أظل على شركي وكفري؛ ليعذبني الله عذابه الشديد لقاء ما همت نفسي بقتل رسول الله.
هنا تراءى باقوم ونادى: أسلم يا فتى. أسلم وأشهد الله على إيمانك، فإنك قد تبت وأنبت، وإني لأمنحك عن رسول الله عفوا وإحسانا. قال زياد وقد تحدر دمعه، واختنق صوته: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وأنني أجرمت وأسأت، ولا يسع جرمي إلا عفو الله ورسوله. فتناوله باقوم على الأثر، وعلمه الوضوء، وتوضأوا جميعا وصلوا صلاة الفجر معا.
ثم أخذه ورقة إلى غرفته وطمأنه بأنه لم يخبر أحدا أنه كان من المؤتمرين. ثم سأله عن حال هرميون ولمياء فقال: إنه أسوأ حال؛ لأن النضر يلح في أن يزوجها من فتى من بني عبد الدار، وهي وأمها ترفضان، ولكنه يخشى أن تحمل إليه حملا وإكراها، ولكني أعلم حق العلم أن لمياء عازمة على قتل نفسها ليلة الزفاف، وأمها لا تشك في ذلك فهي لا تفارقها، ولا تنقطع عن الشجار مع زوجها وابن زوجها بسبب ذلك .
والواقع أنه في اللحظة التي كان فيها زياد عند ورقة والنضر والحارث مشغولين بما جرى؛ إذ كان الحارث قد وقف على ما كان ابنه يدبره من السوء - كانت هرميون ولمياء على ظهر ناقتين من أهزل النوق تسيران في طريق جدة.
كانت هرميون تكره زواج ابنتها من عربي، وكانت لمياء تكره كل زواج بعدما خاب أمل قلبها، وكان النضر يوشك أن يضربهما الضربة القاضية، فلم تجد هرميون بدا من المجازفة، وأخذت تتحين الفرصة حتى وجدتها في تلك الساعة فانسلت بابنتها على الأقدام، حتى بلغتا بعض خيام كانت قد نزلت عندها هي والحارث يوم جاءت معه من مصر وأكرمهم أهلها أيما إكرام، وأكرمتهم هي من جانبها؛ إذ أعطت أهلها ثيابا ومالا.
هناك التقت بالعجوز ربة الدار وزوجها وابنة لهما، وكانتا متنكرتين كل تنكر، فلم يعرفوهما لأول وهلة، ولكن العرب كرام فلم يسائلوهما في شيء، إلى أن وجدت هرميون فرصة للحديث مع الزوجة فأخبرتها خبرها، وطلبت إليها رواحل؛ لتنقلها هي وابنتها إلى جدة، وحلفتها بكل مقدس لديها أن تكتم خبرها حتى لا يعرف أحد مكانها. فطمأنتها المرأة على ذلك، وخلت بزوجها فأجاب وأعد بعرانه، ونقدت هرميون المرأة أجرة البعران نقدا سخيا، ووعدت أن تكرم الزوج عند بلوغها سالمة إلى جدة، وتطوع الزوج إزاء هذه المكارم أن يسير بهما في غير الطريق المعتاد، مارا بمفازة سكانها أهله وأولاد له؛ ليبلغ جدة مسرعا وكذلك كان.
هناك وجدتا سفينة على وشك الرحيل إلى عيذاب كانت آتية من بلاد الحبشة تحمل من خيراتها شيئا كثيرا إلى مصر، ولكنها لم تكن لتحمل ركابا، ولذلك أبى صاحبها أن يأخذا أحدا معه، ولكن هرميون توسلت إليه وكلمته بالرومية، وخبرته أنه إن لم يأخذها معه فسيردها أعداؤها وهم من ولاة مكة، إلى حيث يعذبونها. فلم يسع الرجل إلا أن يبادر فينقلها، وينشر قلوع السفينة على الفور؛ ليرحل بها من بلاد كرهتها اليوم كرها شديدا. لم يفت هرميون أن تكرم العربي الذي نقلها أيما إكرام، وتحمله رسالة شكر وسلام إلى زوجته وابنته .
الفصل الثامن والعشرون
خمار ونقاب
تنبهت قريش في صبيحة اليوم الثاني لمقتل عبد النضر على أحداث عظيمة. علم بنو عبد المطلب بما كان من ائتمار النضر وصحبه على رسول الله؛ فذهب وفد منهم على رأسه حمزة والعباس - وإن لم يكن قد أسلم بعد - إلى الحارث بن كلدة في بيته يسألونه هل كان ما جرى بعلمه ورضاه؟ فأنكر علمه، واستعاذ بالله أن يرضيه قتل رسول الله. فقالوا: وهل يرضيك أن نرسل نحن غلماننا؛ ليقتلوا ولدك غدرا، كما أرسل ولدك غلمانه؛ ليقتلوا أخانا غدرا؟ قال: كلا. قالوا: فما جزاؤه إذن؟ قال: لا تسألوا والدا في جريمة ولد، فلن يكون رأيه معكم على ولده، وها أنتم أولاء على مثل حالي، فابنكم يسفه أحلام قريش، ويقول لهم بلسان ربه:
إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم
ومع ذلك تمنعونه ممن يؤذيهم بلسانه. قالوا: البادي بالشر أظلم، وابنك وصحبه لم يتركوا سافلا من القول حتى رموه عليه حتى في بيت الله، وكانوا في ذلك بادئين، على أنا ما منعناه إلا من الاغتيال، ولم نمنعه من سوء المقال قال: قد يكون القتل أهون من القول. قالوا: والاغتيال بيد العبيد والغلمان أهو شيمة الرجال؟ قال: هذا ما يحزنني ويخجلني، وددت لو كان ولدي رجلا فيطلب محمدا إلى قتال، فإما قتله وإما مات بسيفه، ولكنه جبان رعديد. قالوا: حسبنا أن تنعته أنت بذلك، وإلا فقد جئنا نطلب إليه مواجهتنا ليختار منا من ينازله؛ لأنه ليس ضريبا لمحمد بن عبد الله، ولا الدنيا في حاجة إليه كبعض حاجتها إلى بصيص من نور الله الذي استودعه رسوله، ولأنه إنما يبغي علينا أول ما يبغي؛ إذ نحن حماة رسول الله وعضادة دينه. ولكنا بعد هذا لا ننازل امرأة! وقد جئناه بخمار ونقاب وفاغية وحناء، فإن أبى أن يلبسهما ويتطيب ويختضب، وود أن يرد علينا شوار العروس - فنحن في انتظاره حيث يشاء، ثم نهضوا عائدين إلى شعبهم؛ ليرتبوا على مداخله ومخارجه حراسا وعسسا من أنفسهم كل ليلة، حتى يأمنوا على أخيهم شر ما بيته السفلة الجبناء.
كان النضر في تلك الأثناء في الدار يتسمع، ولكنه لم يجرؤ أن يبدو للحاضرين، وكره أن ينعته أبوه بما نعت، وأن يقول حمزة والعباس فيه ما قالا، ولكنه وجد في قولهم دليل اكتفائهم من الأمر بالإهانة، ولم يطق أن يعلم أحد بوجوده فذهب من فوره إلى صحبه يبلغهم ما جرى، ويستعديهم على بني عبد المطلب، ولكنهم أبوا عليه ذلك، ولامه بعضهم على ما فعل؛ إذ أذلهم في عين بني هاشم، وأحقرهم في عيون الناس، فعاد النضر يفكر فيما أصابه من الخذلان، ورأى أن ورقة سبب كل هذا. فاجتمع عليه الغلان، وثارت نفسه على ورقة، فعزم على تنفيذ ما كان قد انتواه من قتله حين جاءه العبد الثالث بخبر القتيل والقاتل، وانصرف لتدبير مقلته في تلك الليلة. فخرج إلى ظاهر مكة ليلقى جماعة من الصعاليك العرب كانت له بهم معرفة قديمة، واتفق معهم على اغتيال ورقة وهو خارج من داره أو عائد إليها، وجعل لكل منهم دينارا، وهناك علم منهم أن امرأة أبيه وابنتها شوهدتا تسيران في حمى أعرابي إلى جدة من درب غير دربها. فأنكر ذلك، ولكن القائل كان ممن يترددون على بيت الحارث، ويأتي إليهم بالماء من بئر في جوار خيشة فهو يعرفهما لذلك حق المعرفة، ولكن النضر لم ير أن يأخذ بقول الرجل فيرسل أحدا في طلبهما وقطع الطريق عليهما؛ لأنه كان مشغولا بهمه وتدبيراته، ورابه من الرجل قوله: إنهما سارتا في غير دربها؛ إذ كل درب غير دربها مفازة محفوفة بالخطر الأدهم، وما يجرؤ أحد أن يسير بامرأتين فيه. على أنه لم يعد بعد ذلك إلى الدار؛ ليستوثق بل ذهب ليلقى ابن معيط صديقه وشريكه الأشر، وقضى معه الهزيع الأول من الليل كراهة أن يلقى أباه. على أن أباه كان قد خرج في إثر حمزة والعباس يلتمس بيت رسول الله؛ ليلقي على أقدامه حزنه ومقته، ويستبرئ من جريمة ولده، ولم يعد إلى داره حتى كانت الشمس على وشك المغيب. هناك دخل بيت أهله وهو لم يدخله منذ جاءه زياد بخبر المؤامرة؛ إذ كان قد نزل لينظر في الأمر وعواقبه، ولم يفرغ منه إلا مغرب يومه. دخل البيت ولكنه لم يجد هرميون ولا لمياء، وسأل عنهما فلم تدر جواري البيت عنهما شيئا؛ لأنهن ما كن يدخلن عليهما إلا إذا طلبن فأرسل في طلب ولده، فقيل له إنه لم يعد منذ خرج في الصباح، فأرسل في طلب امرأته فلما جاءت قالت: إنها لا تدري من أمر هرميون إلا أنها كانت تود زيارة أهل بيت المطعم بن عدي
1
ولعلها ذهبت إليهن. فأرسل يسألهم، ولكن الرسول عاد بأنها لم تجئهم، فضاق صدر الرجل، وأخذ يفكر فيما تكون قد فعلت، ولكنه لم يهتد إلى رأي.
لم يخطر له أنها فرت بابنتها، وإنما خطر له أنها لما كان بينهما من المشادة آثرت أن تقضي يوما أو بعض يوم في أحد بيوت الأصحاب العظماء كالمطعم بن عدي هذا، وتستعين به عليه، ولكنه لم يدر من يكون هذا الصاحب؟ ولم يدر متى خرجت؟ حتى يوجه العتب إلى صاحبه على أنه لم يعلمه حتى الآن بأمرها، وآثر أن ينتظر، فانتظر، ومضى من الليل شطر كبير فلم تعد، ولم يبلغه أحد عنهما شيئا، ولم يقفه ولده على شيء.
أخذ الشك يساوره من كل جانب، ولكنه كان رجلا صبورا فآثر أن يتجلد حتى يطلع عليه الصبح، ويبصر في نوره له طريقا. فلما جاء الصبح نهض وخرج فوجد النضر في انتظاره؛ ليقول له إن امرأتك هربت بابنتها في طريق جدة، فقد شوهدتا في رفقة أعرابي يسير بهما صباح الأمس في طريق الغرب، وأنه أرسل وراءهما رسلا؛ ليتعرفوا أخبارهما، ويمنعوهما من نزول الماء إذا كان في قصدهما السفر إلى مصر، وليعملوا على إعادتهما إلى مكة، والواقع أنه لم يكن قد أرسل أحدا، وإنما تراءى له في الدار بعض من كان أرسلهم ليقتلوا ورقة، فخطر له أن يرسلهم وراءهما فقال ما قال. أما الحارث فقد سمع حديث ولده وجلس خائر القوى على مقعد كان بجواره، وسكت سكوتا طويلا، والنضر لا يسائله. ثم أفاق الحارث من صدمته فترك ولده، ودخل إلى غرفته الخاصة دون أن يكلمه؛ لأنه رأى أن كل ما أصابه حتى الآن من المتاعب والأحزان إنما كان بفعل ولده وجنوحه إلى الشر بفطرته، وأن من العبث أن يكلمه في ذلك.
على أن النضر سره من أبيه ألا يكلمه؛ إذ كان يعلم ما يجول في خاطره، ونزل إلى القاعة التي يلقى فيها الناس؛ ليلقى من دسهم على ورقة ليقتلوه، وما كان أشد دهشته وغضبه حين علم منهم أن ورقة رحل عن مكة في طريق يثرب، وأنه كان في رفقة من المسلمين يودعونه، وأنهم لم يجدوا في استطاعتهم قتله وهو على هذا الحال فعادوا يخبرونه، كاد يتميز النضر من الغيظ لا لأن تدبيره لقتل ورقة قد خاب كما خاب تدبيره السابق، وكان قد وعد أصحابه أن يجيئهم هو برأسه؛ بل لأنه قدر أن رحيل الفتى في يوم فرار هرميون ولمياء لا بد أن يكون بتدبير سابق بينهما على يد زياد عينا لما أرسله أبوه؛ ليضمد له جرحه بشيء من عقاقيره. فعزم على أن يعاقبه، وإلا فمن هذا الذي يجرؤ على دخول بيته آمنا؛ ليدبر ذلك إلا أن يكون من أهل الدار! وإن ذهاب هرميون غربا وذهاب ورقة شمالا لا يفيد افتراقهما إلا تمويها، فهما لا بد مجتمعان؛ إما في جدة أو وادي مر،
2
فأمر رجاله أن يقسموا أنفسهم فريقين؛ هذا يسير إلى جدة، وذاك إلى مر، فمن بلغ إحداهما قبل الآخر ولم يجدهما فيها يلحق بالفريق الآخر عسى أن يكون في حاجة إليه، وعلى هذا التدبير الحربي الخائب نهض أعوان السوء لا لينفذوه، بل ليجتمعوا خارج مكة حيث شاءوا؛ ليأكلوا ويشربوا، ويقضوا يوما سعيدا بأموال النضر هازئين به وبتدبيره؛ لأنهم كانوا يعلمون أن بعرانهم هزيلة، وأن ورقة خرج على شملالة تأكل الطريق أكلا، وأنه خرج من عش أمه، وأن امرأة الحارث خرجت قبله، وأن لا داعي إلى هذا التمويه، وإذا كانا متفقين على الهرب معا فقد كان من الميسور أن يسير وراءهما ككل سائر ، وإلا فلو كانوا يريدون تضليل الناس؛ لكان عليه أن يسبقهم في الخروج إذا أراد طريق عسفان لطوله لا أن تسبقه هرميون. لذلك رأوا ساعة خرجوا أن يوفروا على أنفسهم الجهد والمشقة، وغابوا عن مكة ثلاثة أيام، وعادوا يقولون: إنهم لم يتركوا شبرا من الأرض لم يفتشوا فيه عنهم، وأنهم تأكدوا في جدة أن هرميون ولمياء ركبتا سفينة مع أحد الرجال إلى مصر. فقدر النضر أنه ورقة حتما، ولم يجد ضرورة للاستفهام عن حلية الرجل وصفاته، وقد كان من الحتم أن يصفوه بما عرفوا ورقة.
والواقع أن ورقة لم يترك مكة عملا بنصيحة أستاذه فيما أرسله إليه مع زياد، بل نزولا على إرادة مولاته أم المؤمنين، فقد جاءها خبر صريح أن القوم ذكروه في مجالسهم بكل سوء فقالوا: إنه صاحب العير، الذي جاء بالطعام إلى شعب أبي طالب، ومدبر هجرة المسلمين إلى الحبشة، وأنه قاتل العبد النضري، وفاضح أمرهم، ولذلك أهدروا دمه، وعلمت أم المؤمنين بذلك فور قوله فدعته إليها لتعلنه بأمرهم، وتأمره بالرحيل على الفور عن مكة
3
قالت له: يا بني، إننا نضن بحياتك، وقد علمنا أن قريشا جعلت لرأسك ثمنا سيتهافت عبيدهم على نيله، ولقد أديت واجبك؛ إذ أيقظت بني عبد المطلب لإقامة الحراس على كل مدخل، وبقي علينا أن نؤدي واجبنا نحوك. ارحل عن مكة من فورك، واقصد إلى بني النجار في يثرب فهم خؤولة مولاك، وعش في كنفهم حتى أرسل في طلبك، أو عش كما شئت، وقد رحل اليوم إلى يثرب نفر من الأوس على رأسهم أبو الحيسر أنس بن رافع، وفيهم فتى من بني الأشهل يدعى إياس بن معاذ أسلم بدعوة مولاك وجهر،
4
واحتملها سائر العير حتى حين، فأدركهم في الطريق، وسر في أمن عيرهم. قال ورقة: إنك لتحرمينني نعمة الشهادة في سبيل رسول الله، ولقد جاءني العلم بما بيت لي النضر وصحبه من الشر بخط أبيه في هذا الرق، ولكني آثرت أن أموت على عتبة رسول الله؛ لتكون لي الجنة. قالت: الجنة لك بما دعا لك رسول الله، وما رضي عنك،
3
فأستودعك الله إنك لا تدري ماذا نجد لفراقك وما نكن من الحب لك، ولكنا نؤثر حياتك على مصلحتنا. فبكى ورقة بكاء غزيرا، وانحنى يقبل يدها، ودعت له، وانصرف إلى أهله؛ لينهي إليهم أمر مولاته، ويرتحل ببعض ماله وشملالته عن مكة. وإذا هو يلقى على باب رسول الله جماعة من إخوانه المسلمين علموا بما أعلنته قريش من إهدار دمه، وعلموا من زيد بن حارثة أن مولاته دعته إليها؛ لتأمره بالهجرة إلى يثرب، فجاءوا ليحيطوا به ويمنعوه، ويرافقوه إلى ما وراء التخوم.
ذهب ورقة بإخوانه إلى بيته، وأعلم أمه وأباه بما كان، فشكرا لأم المؤمنين فضلها، وودعا ولدهما وداعا كريما، وعلى هذا خرج ورقة بشملالته، وأكثر ما استودع أباه من المال، وخرج في طريق يثرب غربي مكة في سيفه وقوسين وكنانتين، يحيط به إخوانه من كل جانب. حتى إذا بلغوا به وادي مر الظهران، وأمنوا عليه عقبة عسفان
5
قبله كل منهم، ودعوا له جميعا فاستودعهم كلمات يبلغونها إلى مولاه رسول الله، يطلب منه الدعاء والرضا، وأخرى إلى مولاه الحارث بتحية وسلام وعتاب. ثم سار بعد العقبة وهم يشهدونه، وقد حنت الشملالة إلى الصحراء وقطع الفلوات، فطارت به مرفلة تبغي عير يثرب، حتى بلغهم في رابغ فحياهم تحية الإسلام، وأنذرهم بخبره ففرحوا به وساروا به إلى يثرب.
في الوقت الذي كان فيه ورقة يودع أصحابه عند عقبة عسفان - كان الحارث قد خرج من داره إلى دار ورقة؛ ليخرجه من مكة على الفور، إذ كان قد بلغه من زياد أنه أخذ البطاقة منه، وشرع يضع العقاقير على يده كما أمره، ولكنه سمعه يقول لأمه: إن مولاي الحارث ينصح لي أن أنجو بنفسي، ولكنني لا أرحل حتى يرحل رسول الله. لا أفارق ظله حتى أطمئن عليه أو أموت. فقدر الحارث أن الغلام لا يزال في مكة، ولذلك ذهب إليه؛ ليغريه بالخروج من مكة، ويكلفه البحث عن زوجته وابنته عسى أن يجدهما، ويحملهما على العودة إليه، أو البقاء بهما في جدة حتى يكتب إليه، وإنما خطر له ذلك؛ لأن النضر أخفى عنه ما روى رسله خشية أن يزيد وجده، ورآه خارجا من الدار فلم يكلمه.
بلغ الحارث دار ورقة، ولقي باقوم وتماضر، وعلم أن أم المؤمنين أمرته بالهجرة إلى يثرب فهاجر. فسقط في يد الحارث، وصمت لا يتكلم مدة اعتورته فيها الأوهام خيرها وسيئها، وخطر له فيما خطر أن سفر الفريقين في وقت متقارب إنما كان بتدبير، ولكنه نفى عن نفسه هذا الخاطر على الفور؛ إذ كانت الدلائل تناقضه. فنهض الرجل حزينا كسير القلب هاما بالخروج من دار باقوم وهو يقول: إن كنت أحمد الله على خروج ورقة من مكة ونجاته من أذى ولدي، فإني أدعوه تعالى أن يجزي ولدي بما فعل بي وبه.
وفيما هو يفتح الباب ليخرج وجد عند الباب أعرابيا شيخا على بعير هزيل يسأل عن ورقة. فلما رآه الحارث لم يعرفه، ولكن الرجل عرفه، فاستوقفه وأناخ، وذكره بنفسه فذكره، وقال: إنه آت له بكتاب من امرأته وآخر إلى ورقة، وناوله الكتاب. فإذا فيه بالرومية:
إلى ولدنا ورقة
رحلنا عن مكة فارين بأنفسنا من أذى النضر. فر بنفسك أنت أيضا، وثق أننا نواليك بدعواتنا، ونذكرك بالشكر والمحبة الخالصة، ونستودعك الله.
هرميون
قال الحارث وقد قرأه: ليس هذا الكتاب لي. هذا لورقة، وأعطى باقوم إياه، فأخرج الرجل الكتاب الثاني وقدمه إليه فإذا فيه:
سيدي وزوجي الكريم
تحية. لقد كنت أعتقد أني بمجيئي معك إلى مكة أفر من شقاء إلى رخاء، ولكني وجدت أن نيران الإسكندرية، وجيرة الشرور فيها - أخف من عداء ولدك لي ولابنتي، ونكرانك حقي عليك. أردت أن تقتلني وتقتل ابنتي هما وحزنا، وإذ كان علي أن أرضي ابنتي كما ترضي ابنك فقد فعلت ما فعلت، والبادي بالشر أظلم والسلام.
هرميون
مادت الأرض بالحارث؛ إذ أتم قراءة الخطاب، ولكنه طواه ووضعه في جيبه، وسار في طريقه كأن لم يكن أحد معه يودعه، أو أن في الأرض من ينظره، فلم يسلم ولم يكلم، وعاد إلى الدار؛ ليلقي بنفسه في الفراش مريضا.
الفصل التاسع والعشرون
في يثرب1
بلغ ورقة منازل بني النجار خئولة بني عبد المطلب بن هاشم، ونزل في كنف كبيرهم سعد بن زرارة أحد زعماء قبيلة الخزرج، وقد كان لمقدمه عليهم شأن كبير فقد علموا منه خبرا عظيما تجردت على إثره السيوف من أغمادها، وانتظرت كلمة النزال؛ لتسيل الدماء على إثرها في أودية يثرب، وتعلو أصوات العويل والبكاء في كل دار. بيد أن ورقة لم يعن هذا، ولم يكن يعرف ما وراءه، وإنما كان كلامه مرسلا على عواهنه وإن تشممت منه الخزرج ما كان يعد لهم الأوس
2
من الشر فثار ثائرهم، ذلك أنه روى فيما روى من حديث سفره أنه جاء في عير لأبي الحيسر الأوسي، وأن ابن أختهم
صلى الله عليه وسلم
التقى بهم في بعض الدور في مكة،
3
وكانوا سبعة نفر فدعاهم إلى الإسلام كما كان يدعو كل من يلقاه من قبائل العرب في منى وعرفات، وتلا عليهم بعض ما نزل عليه من كتاب الله القويم، فصدقه العير في قلوبهم ومالوا إليه، ولكنهم لم يروا أن يجهروا بإيمانهم ولا بإسلامهم، وقالوا إنما جاءوا مكة لغير ذلك، إلا واحد منهم يدعى إياس بن معاذ الأشهلي
3
فقد قال لهم وقد امتلأ قلبه بنور الحق: أي قومي، هذا والله خير مما جئنا له. فضرب وجهه أبو الحيسر بحفنة من حصباء البطحاء، وقال: دعنا منك فلقد جئنا لغير هذا ...
3
قال بنو سعد: زعمنا أنهم ذهبوا يعتمرون! ألم يعتمروا؟
4
قال: بلى. قالوا: ففيم إذن ملامة الغلام؟ وفيم وردوا مكة؟ فأجاب أحدهم: يلتمسون من قريش ما كانوا يلتمسونه منها ليوم معبس ومضرس
5
لتحالف قريشا علينا نحن الخزرج، وأظهروا أنهم يريديون العمرة، وعلقوا كرانيف النخل على بيوتهم؛ ليموهوا علينا قصدهم، ويحموا أنفسهم من أذانا
6
وقد فعلوا اليوم مثل ذلك. قال سعد: إن القوم يبيتوننا فأعدوا لهم ما تستطيعون من قوة ومن رباط الخيل، وأجمعوا واحشدوا في خفاء.
والواقع كذلك. فقد كانت الأوس تتجهز لحرب ضروس تريد أن تأتي بها على الخزرج، ولذلك جددوا الحلف مع أنصارهم من قبائل اليهود النازلين في يثرب، وهم: بنو قريظة وبنو النضير على المؤزارة والتناصر، وراسلت حلفاءها من مزينة. ثم جعلوا على رأسهم زعيمهم أبا أسيد حضير الركائب. وجددت الخزرج حلفها مع يهود بني قينقاع، وراسلت حلفاءها من القبائل المجاورة أشجع وجهينة، وجعلت على رأسها عمرو بن النعمان البياضي، وأخذ كل فريق يستعد للقتال في خفاء. على أنهم ما كانوا يأبهون؛ لظهور أمرهم، فقد كانوا قبل هذا وفي كل وقت أعداء صرحاء كل منهم مهدر الدم؛ لما بينهم جميعا من الثارات والعداوات المستحكمة من أيام حروب الفجار.
7
ولقد أحس ورقة في تلك الأيام بالوحشة فكان يخرج إلى أسواق يثرب؛ ليأتنس بالناس، ويتعرف شئونهم، وهناك التقى بصنوف متضاربة العقائد والمذاهب، من اليهود والنصارى والمجوس والصابئة والبوذيين الذين كانوا يأتون بمتاجرهم من الهند إلى يثرب، وبفئات من الروم والفرس والشاميين واليهود جاءوا فارين من ويلات القتال في بيت المقدس.
وسمع منهم أخبار اقتتال الفرس والروم في أدنى الأرض من بلاد العرب، وعلم أن الفرس قد تركوا أنطاكية وقيصرية، واتجهوا إلى بيت المقدس، وأن شاهين قائد جناحهم الجنوبي على وشك أن يدخل بيت المقدس، ويستولي على خشبة الصليب المقدس؛ ليرسله إلى مارية علامة على نصر المذهب اليعقوبي على المذهب الرومي الذي لا يقره البطارقة اليعاقبة، ولذلك فهو كفر.
هناك التقى بأخيه في الإسلام الفتى إياس بن معاذ الأشهلي الذي رافقه في العير القافل إلى يثرب فأنس به وسعد، وصار في رفقته في أكثر أوقاته، ومن ثم جمعه إياس برجل من الأوس عظيم القدر يسمونه الكامل
8
لأنه كان شاعرا وحكيما، وكان عالي الشرف والنسب فيهم قوي القلب جلدا صبورا اسمه سويد بن الصامت. كان هذا الرجل يفخر في قومه بأنه سبقهم إلى نعمة الله؛ إذ أسلم وآمن بمحمد بن عبد الله - عليه أفضل الصلاة وأزكى التحية - اجتمع به في بعض أيام الحج في مكة حين كان يخرج إلى الحجيج في منى وعرفات وعكاظ وغيرها من مجامع الحاج يدعوهم إلى التوحيد فيؤمن به من يؤمن، ويجمد على جهله من يجمد، وأنه
صلى الله عليه وسلم
دعاه إلى الله وإلى الإسلام، وتلا عليه بعضا مما أنزل الله عليه من القرآن، فصغرت في عينه حكمة لقمان التي كان يستهدي بها في رأيه وشعره، وطابت نفسه للقرآن، وآمن برسول الله، وعاد إلى موطنه يتحدث عن رسول الله، ويقول للأوس ولكل من كان يتصل به: يا قوم، إن الذي يخبرنا اليهود بمقدمه قد جاء. هذا الذي في يده خلاصنا من ذلة الإيمان بغير الواحد الأحد. هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم. نور الله الذي يرتقبه اليهود رجاء أن يعتزوا به علينا يوم تتم دعوته في قريش. فانهضوا إليه وآمنوا به، وبايعوه لا تسبقكم اليهود إليه.
والواقع أن لليهود فضلا غير مقصود في أن كان الأوس والخزرج على تمام الاستعداد لقبول دعوة الإسلام، وحمل أمانته. فقد كانوا في عهود جوارهم لليهود يرجون لو يتهودون كما تهودت حمير، ويدخلون في دين اليهود لا حبا في اليهود، بل فرارا من ذلة النفس بابتاع دين غير كريم هو دين الوثنية المكية التي كانوا عليها، ولكن أحبار اليهود كانوا يأبون عليهم هذا التهود
9
ويحولون دونه قائلين: «إن اليهودية وقف على بني إسرائيل من أولاد إبراهيم» حين أن المانع الأكبر كان في أن إدماج الأوس والخزرج فيهم معناه زوال شخصيتهم الإسرائيلية برجحان العربية عليها، وزوال اختصاصهم بالعز والسلطان، ولذلك أبى الأحبار أن يهودوهم، ومن ثم بقي الأوس والخزرج على وثنيتهم الكريهة التي كان اليهود مع ذلك يعيرونهم بها، ويسفهون أحلامهم للاستمساك بها.
9
من أجل هذا كان حديث سويد وإياس وورقة مع من يتصلون بهم من الأوس والخزرج حديثا مشتهى؛ لأن الرسول
صلى الله عليه وسلم
عربي وهم عرب فهم أحق به، وهو أحق بهم من كل إنسان، ودينه دين توحيد وإخاء ومساواة، فهو خير بديل من دين اليهودية المحتكر، ثم هو لا ينكر أحدا من الأنبياء كما يفعل اليهود مكابرة وأنانية ويعظم عيسى بن مريم تعظيما هم يعلمون أنه يستحقه وإن أنكره اليهود وكذبوه؛ ولهذا أكبر الأوس والخزرج هذا الدين، ولاسيما لأنه دين الحنيفية السمحة؛ دين أبيهم إبراهيم أبي إسماعيل وإسرائيل الذي هم عليه فعلا لولا ما دخل عليه من بدعة الأوثان.
وحنت نفوسهم إلى اعتناقه وإعلاء كلمته، ولكن الناس إذا حنت نفوسهم إلى أمر كان لا بد لهم أن يأتموا بزعيم منهم تجتمع في نفسه عواطفهم وأعراضهم؛ ليقودهم حيث يريدون. غير أن الزعماء كانوا مشغولين يومئذ بما يملأ نفوسهم من العداوات والأحقاد، والتوفر على الثأر والانتقام بعضهم من بعض. مقفلي الأعين عن النور الذي لو تأملوه؛ لاهتدوا به إلى السلام، وإلى المنعة وسعادة الدارين، ولذلك لم يستطيعوا أن يبصروا هذا النور، حتى أفرغوا في ميادين الحرب ما كان في قلوبهم من دماء الذئاب. يومئذ صفت النفوس وراق الجو للمبصرين، ومن ثم تأخرت بيعتهم الرسول على الإسلام، ودعوته إلى الهجرة إليهم ست سنين.
ولقد كان ورقة محل الرعاية والمودة من كل أوسي يتصل به وكل خزرجي. يدعونه إليهم ويسائلونه عن رسول الله فيجيب بما يعرف، وهل كان ورقة إلا لسان حالهم يتكلم ويشرح فيزيدهم هياما وحنينا إلى الإسلام! وما كان أشد اغتباطه حين كان يلتقي بالمهاجرين إلى يثرب فيسائلونه هم أيضا عما سمعوا من ظهور نبي في قريش يدعو إلى الله وتوحيده، والمؤاخاة بين الناس، وإزالة الفروق فيجيبهم بالإيجاب، ويخبرهم بشأنه وبدينه وغايته إخبار الطبيب البصير، وكان أهم ما يحاول ورقة تبصير هؤلاء المجوس والنصارى المثلثين الذين يتناحرون فيما يبدو، على كلمة واحدة: هل جسد المسيح يفنى أو لا يفنى؟ واليهود الذين لا يريدون لأحد غير بني إسرائيل شيئا مما وعدهم الله به في التوراة؛ خشية أن تنفد نعمة الله!!! أو لا يصيبهم من القسمة إلا رذاذ! نقول كان ورقة يقول لهم: إن الإسلام يمتاز عن سائر ما انقلبت فيه الأديان بالتسوية بين الناس في الحقوق والواجبات
10
وبالإخاء العام، ورعاية الحرية للفرد إلا ما آذت غيره، وهو ما لم تعرفه الدنيا يومئذ؛ إذ كان متاع الدنيا وكرامة الحياة قسمة بين أهل السلطة الزمنية، والسلطة الدينية. أما السوقة؛ أي: عامة الناس بعدهم، فأمرهم في المرتبة الثانية، هم الموالي والخدم والعبيد، وإنما يتفاضلون فيما يسمحون لهم به من الرزق بقدر وفائهم لهم، وتضحيتهم في سبيلهم، ولذلك كان أكثر هؤلاء المهاجرين يتمنون على أربابهم أن ينصروا هذا الدين وصاحبه على عجل في أصقاع الأرض عسى أن يبلغهم فيريحهم مما هم فيه من الاختلافات التي لا يدركون لها معنى، بل ولا يعرفون ما هي، وهي تتقاضاهم رقابهم ورقاب أولادهم وتستبيح أموالهم وأعراضهم.
واستمر ورقة على هذا الحال من الاجتماع بسويد وإياس بن الأشهل وغيرهم من رجال الأوس، كما كان يجتمع بالخزرج وغير الخزرج، ولكن حماته من بني النجار آخذوه على ذلك، وقالوا له: كيف تصادق الأوس! إن صديق أعدائنا عدو لنا. فانصرف عنهم أو فانصرف إليهم. إنا قادمون على حرب مع الأوس، ولا بد لنا أن نعرف اليوم عدونا من الصديق. قال الفتى: إنما المؤمنون إخوة، فأنا آنس بإياس؛ لأنه مسلم مثلي لا لأنه عدو لكم، وأما وربي ليس الأشهلي براغب في هذه الحرب ولا بمروج لها، وما يكره من الأشياء شيئا كأن يقتتل أخوان؛ لتظفر يهود من بعد تضعضعها بالمنعة والسلطان، ولقد أسلم إياس يوم ذهب الأوس يلتمسون الحلف عليكم من قريش فأبوه عليهم، وعد ظفره بالإسلام خيرا مما جاء فيه أهله، ولن يحارب إياس خئولة نبيه. هكذا قال لي. قال الأسعدي اللائم: ليس من الحرب مفر ففي أي جانب أنت؟ قال: في جانب خئولة مولاي رسول الله، ولكني لا أريق دما عامدا. أكون في الساقة أحمي متاعكم ومئونتكم، وأحمل الماء إليكم، وأضمد الجراح؛ فسكت ابن النجار على هذا.
على أن ورقة انقطع من يومه عن زيارة صاحبيه؛ لئلا يتهم بالتجسس على الأوس، وكان يخرج إلى أرباض يثرب وجبالها في نهاره، ويعود إلى يثرب في ليله، وهو يدعو الله أن يلهم الأخوين السلام.
الفصل الثلاثون
يوم بعاث
كان ورقة يخرج إلى الجبال المحيطة بيثرب أو إلى أوديتها مستريضا أو ملتمسا لناقته علفا في مراعي بني النجار، فكان يعجب لما كان يرى على سفوح الجبال وقممها من بيوت محصنة بنيت بالحجر الأصم، وصينت من أذى المقتحم بأساليب الوقاية والدفاع. تلك هي الآطام التي بناها اليهود؛ للاعتصام بها كالقلاع والحصون في بلاد الشام. هناك في وحدته كانت تسبح نفسه في عالم الخيال والتفكير، فيتأمل تكالب الناس على أعلاق الحياة، واحتيال غيرهم على صيانة ما في أيديهم من ذئاب العالم، ويتفحص أخلاق بني آدم وأفعالهم فلا يراهم في الحقيقة إلا ذئابا في مسالخ أناس. كان يعرض أحوالهم وأقوالهم وأفعالهم على مخيلته، ويتساءل فلا يأتيه إلا جواب مذعر مؤلم لا يجد لنفسه حيلة ولا وسيلة إلى دفع ألمه إلا بالاتجاه إلى الكعبة حيث يسكن سيده المرجي لخير الناس ودفع شرورهم، ويجثو داعيا ومصليا أن يعجل الله بنشر دينه؛ ليريح الناس من هذه الشرور. ثم يراجع نفسه فيقول: ما محمد إلا بشر وسيموت كما مات غيره. ترى أيبقى دينه حيا قويا كما يكون في حياته؟ أم تلويه ذئاب الناس بأنيابها الحديدية، وتوجهه وجهة أخرى ليعودوا فيقضموا الرقاب كما يفعلون الآن؟ وما كان ليرد عليه جواب هذا إلا بما يذعر، ولذلك كان يقول: ألا إنه يجب علينا نحن المسلمين أن نخصص من أنفسنا طائفة؛ لحماية دين الله، ورد الشارد إلى صراطه المستقيم، ودفع الناس عن الناس بالموعظة الحسنة وسيف الخير الذي لا يرحم إذا أردنا أن نعيش سعداء في الدنيا والآخرة. كان تفكيره إذ ذاك يجري على هذا الأسلوب من سؤال وجواب:
دعني حرا
لا. لأن حريتك تقيدني
اترك لي ما في يدي
لا. لأني محتاج إليه
ألا تحافظ على عهدك معي؟
لا. لأن هذا يضر بي
إذن دعني أعاملك كما تعاملني
لا. لأن هذا اعتداء علي
إذن دعني أمنع أذاك عني
لا. لأنه يحرمني القصد من أذاك
هذا بغي وعدوان
لا. هذا ما تصف به أنت حقي
فإن ناهضتك؟
إذن أقتلك
أتبعك إذن
لا بأس لتخدمني
وتعطيني الحرية؟
لا بأس بقدر ما تستبقي تبعيتك لي
أتبع دينك ليعصمني
لا بأس على أن تقرب لي قربانا في كل وقت
هذا يفقرني ويرهقني
لا بأس ما أغناني وقواني
ولكنك تذلني وتفنيني
لا بأس ما أعزني وأبقاني
من قال بهذا؟
الذئب
وأين الذئب؟
أنا وأنت
نحن أناس
نحن وحوش
ولو تهذبنا؟
لن تموت الفطرة
فما الفضائل؟
نعوت لشذوذ
وما الرذائل؟
نعوت سيئة لأفعال صائبة
وما الحق؟
ما نال البغي
فما الأخيار؟
الضعفاء لم يستطيعوا أن يستذئبوا فاستكلبوا
فما الحكماء؟
الذين يحاولون إتلاف فطرة الذئب في الإنسان
فما الأنبياء؟
فئة تناهض الطبيعة
ولكنهم ينجحون
نعم في تقوية الذئاب الضعيفة
ودين محمد؟
سيذيع وشيكا
لماذا؟
لأن الضعاف يريدون مخرجا
كيف؟
سيصير العبد حرا، والمنبوذ أصيلا، ويرى الفقير أن له حقا في الغنى، وأنه لن يقدم قرابين لا للسيف ولا للهيكل، وأن ستكون العقيدة بسيطة لا تخجل العقل
ويستمر كذلك؟
لا. إذا بلغ طالبوا الحرية حد التساوي نزعوا إلى الظلم كما كانوا، وعمد بعضهم إلى التسلط على بعض
لن يكون دين محمد معهم يومئذ
سيلحقونه بهم قسرا
باسم الدين؟
والديان
بالبهتان؟
بكلام كالبرهان
وحكم القرآن الصريح
يؤوله أنصارهم بكلام فصيح.
هل يكفي الكلام للإقناع؟
نعم ممن رفع عن نابيه القناع
ولكن الناس لن تصدقهم
سيحملهم السيف على التصديق والدينار على المشايعة
يأسا؟
نعم وبؤسا
فإذا صاروا لهم؟
صاروا كلابا، أو عادوا ذئابا
أهكذا الدنيا؟
أجل من قبل ومن بعد
هكذا كان ورقة يتخيل؛ لكثرة ما شاهد من الناس، وما سمع من الناس. فالعالم كانوا في نظره ذئابا صرحاء، لا يعرف الفضيلة منهم ولا يقول بها، ولا يميل إلى البر إلا من ضعف أو أضعف، فهو ذئب مستور ما إن يقوى حتى يتكشف، فإذا الفضيلة رياء، وإذا حب الخير احتيال.
ذكر أهل مكة كيف أنهم يناهضون رسول الله الذي أرسله الله بالحق والحكمة، والدواء لكل داء، ومع ذلك وجدهم يسفهون رأيه ويكذبونه، وهم يعلمون أن رأيه حكيم وأنه صادق، ولكنهم كانوا يقولون في أنفسهم: ماذا ينفعنا هذا الصدق إذا كان سيلزمنا العمل بالعدل والتساوي ، ويكون له الحق في الحكم على أفعالنا، والحد من حريتنا، وتقييد تصرفاتنا، والتسوية بين القوي منا والضعيف، والكبير من الناس والصغير، وحرمان الذئاب حق الفتك بالشياه! يجب علينا إذن أن نناهضه، وإذا استطعنا أن نقتله فلنقتله؛ لأننا إن تركناه يدعو إلى دينه فسيقوى ويقوي الضعفاء معه، ويسلب منا موارد الغنيمة، ولأننا إن سلمنا له بقوله فإنما نحن في الحقيقة ننضوي تحت لوائه، ونعطيه الزعامة علينا فيصبح ملكا حقيقيا، وإن لم يسم نفسه بذلك، وننقلب له رعايا وأتباعا. لا. لن نسلم بفقد مركزنا الأعلى باسم التسليم بأن الله واحد. الله واحد فعلا. كل القلوب تشعر بذلك، وليكن محمد رسوله، وليكن أن يترتب على ذلك تقليم أظافرنا وحت أنيابنا فلا، ثم لا، ثم لا ألف مرة، وعليه يجب أن نستمر ويستمر سائر العرب معنا على عبادة اللات والعزى ومناة ما أبقت هذه العبادة على أرزاقنا من ورائها، وعلى منزلتنا العالية في مكة والحجاز وبلاد الوثنية، ولو بقيت أمة العرب حطيطة الشأن في كل زمان. إنما الخير ما فاء علينا بخير، ونحن في بحبوحة من العيش ومتعة، فلماذا نعمل على تبديل الحال بما لا نعرف عاقبته علينا؟ بل العاقبة معروفة: زوال سلطتنا، وذهاب قوتنا. إذن فلنحتفظ بما نحن فيه، وندافع عنه، ونقتل من يحاول تغييره، وفيما هو يفكر كذلك وهو فوق الجبل سمع على بعد صياحا متداركا واردا مع الصبا، فالتفت صوب مورده، فإذا هو يرى طائفتين تقتتلان اقتتالا شديدا في مكان شمالي المدينة عند حلة تدعى بعاث، فأدرك من فوره أن الأوس وحلفاءها يقاتلون الخزرج وحلفاءها، على نحو ما كان سمع من استعدادهم، واعترته خجلة من أن ابن زرارة لم ينذره بشأنها، وقدر أنه كره أن يعلنه بيومها على أثر ما رأى منه من كره القتال عامدا في الصفوف، ولكنه مع ذلك لم يجد من المروءة ولا الشهامة أن يقعد عما كان وعد من معاونتهم بالقيام على الجرحى وحفظ الذخيرة فأبرك الشملالة، وركبها وجرى بها نحو بعاث فإذا هو يجد القتال شديدا ؛ هذا يكر ثم يفر، وذاك يصمد ثم يخترق الصفوف، والنقع فوق الرءوس كالضباب الكثيف لا يتبين فيه الحس إلا وميضا للسيوف حين تشرع وتوضع، وإلا أصوات الحقد والغل تعلو وتتضع، وإلا دماء تسيل على الرغام، ورءوسا تتدحرج بين الأقدام، وفيما هو يدنو من الموقعة رأى ثلاثة من الأوس يتعاورون رجلا بالسيوف، وكأنه كان قد جرح فهو يدافع عن نفسه دفاع اليائس، فلم يملك إلا أن ينيخ على عجل، ويهرع إلى صوت الجريح يحميه من الأذى، وامتشق حسام زيد بن حارثة، ونادى بأعلى صوته: يا رسول الله! وفيما كان أحد الثلاثة يهوي بذراعه على الجريح ليقتله كان ورقة قد أهوى ذراعه فقطعها، ثم اتجه إلى الثاني فإذا هو عملاق من بني قريظة كان كثيرا ما يراه في السوق يتحدث ويفاخر، فهابه ورقة وكاد يفر منه، لولا أنه وجد الرجل على ظاهر قوته لا يحسن المسايفة، وذكر باقوم إذ كان يقول له: لا عليك من طول الرجل وعرضه. أحسن المسايفة تجده أمامك صريعا. فسايف ورقة على نحو ما علمه باقوم، وداور الرجل وحاوره، ويامنه وياسره، وغته بالسيف غتة أحنقت عليه العملاق فأراد أن يرديه معه ورفع سيفه؛ ليطيح رأس ورقة، ولكنه عاجله من حسامه بضربة فصلت كفه عن معصمه، وطارت هي والسيف في الهواء، وخر الرجل على أثرها صريعا. هناك سمع الجريح من ورائه يدعو له ويثني عليه. فالتفت فإذا هو يرى مضيفه أسعد بن زرارة نفسه، وإذ هم بحمله والبعد به عن الحومة رأى فارسا يدنو منه، والشرر يتطاير من عينيه؛ لأنه كان قد سمع بما لقي العملاق، فجاء يثأر له، ولكن ورقة لم يمهله حتى يدوسه بسنابك جواده، ويعمل فيه سيفه بل تناول قبضة تلو قبضة من تراب الأرض وحصبائها، ورمى بها على الرجل فأعماه، ثم أهوى بالسيف على فخذه فهشم ركبته تهشيما، وكأنما كانت هذه الضربة فصل الخطاب. فقد اشتد الخزرج وبنو قينقاع على الأوس وقريظة وبني النضير؛ فولوا منهزمين نحو العريض من نجد، ولكنهم كانوا في فرارهم قد رموا بسهام على المتعقبين؛ ليردوهم عن اللحاق بهم، وأصاب أحد هذه السهام زعيم الخزرج في هذه الملحمة عمر بن النعمان البياضي فقتله لساعته، والأوس لا تعلم بذلك، وتعمد الخزرج إخفاء الحادث حتى يطمئنوا إلى النصر.
1
لم يكن بد بعد انتصار الخزرج من القضاء على الأوس وقريظة والنضير وتخريب دورهم، وسبي نسائهم على عادتهم في هذه الحروب، ولكنهم لم يمهلوا حتى يفعلوا ذلك، فقد كبر الأمر على حضير الركائب زعيم الأوس المنهزمين، وأراد أن يحمل قومه على معاودة القتال؛ فتناول رمحه وطعن نفسه وصاح: واعقراه! والله لا أبرح حتى أموت
1
فرجعت الأوس تحمي قائدها وهم في يأس من النصر، ولكن حدث حادث من رجل عرف في التاريخ بنفاقه، هو عبد الله بن سلول الخزرجي
2
كان من القاعدين عن الحرب نفاقا وخيانة لقومه، ولكنه مع ذلك خرج يتجسس ليرى وسيلة مغنم، وفيما هو يتجول رأى أربعة من الخزرج يحملون قائدهم القتيل في عباءة فشمت به، وقال له: ذق عاقبة البغي. ثم تناثر منه الخبر إلى الأوس فشدوا على الخزرج
2
وهزموهم ووضعت فيهم الأوس السلاح، ونادى حضير من مرقد موته أن ايتوا الخزرج قصرا قصرا، ودارا دارا، واهدموا حتى لا يبقى منهم أحد. فأخذوا في ذلك وأمعنوا،
1
واندلع اللهب في بيوت الخزرج ونخيلهم وزرعهم، وعلا الصياح والعويل من كل جانب، ولكن عز ذلك على بني الأشهل،
3
فما أن أودى صاحب الأمر فيهم وهو حضير حتى نهضوا يجيرون بني الخزرج، وصاح صائح منهم بصوت جهير يكفهم عند الأذى فقال: يا معشر الأوس! أحسنوا! لا تهلكوا إخوانكم فجوارهم خير من جوار الثعالب.
4
يعني اليهود حلفاءهم من بني قريظة وبني النضير، فانتهى الأوس عنهم ولم يسلبوهم، ولكن اليهود أخذوا في السلب والنهب، وأمعنوا في قتل المستضعفين، وطالبوا برقاب بعض من اشتدوا عليهم في القتال من الخزرج، أو رأوا أنهم قتلوا لهم في المعمعة أحدا ممن كانوا يعزونه ويكرمونه، وإذ كان ورقة قد قتل لهم عملاقهم وفارسهم المعلم وهو يدافع عن زعيم بيت بني النجار أسعد بن زرارة طلبوه في كل مكان حتى اقتحموا عليه بيت أسعد نفسه وهو جريح في فراشه؛ ليطلبوا القود منه، ولكن أخاه في الإسلام إياس بن معاذ كان قد علم من قبل بما بيتوا، فأرسل في العشية غلاما له ينذره ويأتي به في الحمى من أطمه، وإذ كان قد أجاره ولم يجز اليهود إجارته بل أقسموا ليقتلنه ولو حمته السماء، فقد أمر غلامه أن يخرج به إلى ما وراء يثرب، ثم خرج وراءهما من ناحية أخرى، والتقوا في طريق الشام، وساروا حتى بلغوا ساحة بعاث.
هناك وقفوا وصلوا على قبر صاحبهم الكامل سويد بن الصامت فقد كان قتل في تلك الملحمة، وهناك ودع ورقة وداع الأخ أخاه، ودعا له بالسلامة، وأوصى غلامه أن يكون في خدمته حتى يبلغ به أيلة
5
أو ما يشاء، فشكره ورقة على بره به، وقبله وحمله تحية وسلاما إلى بني النجار، وأوصاه أن يحذر اليهود، ويحذر كذلك عبد الله بن أبي بن سلول، وألا يركن إليه؛ لأنه إذا كان قد خان الخزرج وهم قومه، فحري به أن يخون الأوس، ونصحه أن يمضي في نشر دين الله في يثرب، فما يرأب الصدع الذي بين الأخوين - الأوس والخزرج - إلا اجتماعهما على الإسلام، وأوصاه كذلك أن يحبب إلى الفريقين مبايعة رسول الله على الهجرة إليهم وتولي أمورهم، فوعده إياس بذلك، ودعا ورقة له بالتوفيق.
عاد إياس إلى يثرب، وانصرف ورقة والعبد الأشهلي من فورهما يضربان في طريق الشام، ولكنهما لم يلتزما طريق القافلة تفاديا من أن يتعقبهما متعقب من قريظة فذهبا إلى حرة خيبر، وهي واد خصيب لبطن من قريظة والنضير تخترقه الأنهار، وتزينه الزروع والنخيل والبساتين الجماء، وتحرسه على جوانبه حصون لهم وآطام،
6
ولكنهما لم ينزلا بها بل عطفا على وادي القرى
7
وهو مثله في الخصب والنماء قاصدين إلى فدك ثم إلى تيماء، حيث كان للسموءل بن عاديا حصن يسمى الأبلق نزل به امرؤ القيس ذات يوم واستودع صاحبه قوسه وسلاحه، وما زالا سائرين في بلاد ذبيان وثمود البائدة حتى بلغا تبوك
8
في ختام ثمانية أيام كانت الشملالة فيها مزدهية بنفسها صلفة بأن تدوس بأخفافها قبور ثمود العاتين الذين عقروا أختها ناقة نبي الله صالح التي أخرجها الله لهم من الصخر؛ ليؤمنوا فلم يؤمنوا فأبادهم بضلالهم وجرائمهم، وصارت بيوتهم المنحوتة في الصخر دليلا على ما نزل بهم من البوار والنكال.
الفصل الحادي والثلاثون
الأمير الجريح
كان إياس قد نصح لصديقه ورقة أن يلجأ إلى أيلة، ولذلك لم يكن في نيته أن يطيل مقامه في تبوك. على أنها لم تكن يومئذ مما يصلح لإقامة أحد بها. فقد كانت خرابا أو تكاد تكون كذلك، إلا من بعض مضارب لأعراب من جذام، ومنازل لهم في بقية من حصن ثمودي قديم فيه بئر منحوتة في الصخر يتهافت عليها أهلها في كل حين ليستقوا. هناك نزل حمى هؤلاء الأعراب هو والأشهلي غلام إياس بن معاذ؛ إذ كان قد بلغ بهما الجهد والجوع غايتهما، ورأيا أن يقضيا الليل في جوارهم.
ولكن هؤلاء الأعراب لم يكونوا ممن يؤمن جانبهم ولو حموا. فقد فكر بعضهم حين رأوا الشملالة أن يغلبوهما عليها ويأخذوها استراقا، فإن عجزوا فقتلا، ولذلك انتظروا حتى يدخل الليل.
على أن غلام إياس كان قد أردك غايتهم؛ إذ كان ورقة قد أرسله إليهم يشتري شيئا من اللبن، فقصد إليهم وسمعهم يتحدثون في دارهم فيما انتووا، ولكنه تظاهر بأنه لم يسمع شيئا، وتقدم يطلب اللبن ونقدهم ثمنه شاكرا مثنيا، وعاد يخبر ورقة بما سمع. فلم يكن لهما بعد هذا من رأي إلا أن يرحلا على الفور، ولكنهما خادعا القوم حتى دخل الليل، فأشعلا النار؛ ليوهماهم أنهما هناك، ولكنهما تركاها تشتعل، وانتحيا وامتطيا ضاربين إلى أرض مدين بلاد نبي الله شعيب موسى الكليم، حتى بلغا معانا وكانت بلدة على قدمها وتهدم قصورها الرومانية - واسعة العمران كثيرة البساتين والمروج كيثرب إلا أنها صغيرة. هناك التقى ورقة بجموع كثيرة من أهل الشام والقدس؛ روم وسوريين وغسانيين، تركوا ديارهم ومتاعهم، وفروا بأنفسهم ونسائهم وأولادهم إلى قرى الصحراء يلتمسون موئلا من الفرس واليهود معا؛ ذلك أن الفرس كانوا في ذلك الوقت قد تمكنوا بقيادة السلار شاهين من اقتحام أسوار مدينة القدس فدخلوها، وأعملوا السيوف في حماتها من جنود هرقل، حين كان أهلها من اليهود يقتلون سكانها تنفيسا لحقدهم القديم، ويعملون المعاول في البيع والأديار؛ ليهدموها، ويسلبوها، ويفضحوا أعراض الروم والمسيحيين فيها.
امتلأت بالمهاجرين ساحات معان، وخرائب قصروها ومعابدها، حتى أصبحت وكأنها سوق لا ممر فيها لسائر، ولا مستقر فها لقدم. فاضطر ورقة أن يلتمس لنفسه مناخا في حاجر جبل قريب، وما زال يتأمل البقاع حتى لاح لعينه مكان طيب ومسطح قريب على سفح الجبل فارتضاه مضربا لخيمة رقيقة كان يحملها فوق جوالقه لمثل هذه الظروف.
هناك أناخا الشملالة وزميلها بعير الغلام الأشهلي، وعقلاهما وصعدا إلى المسطح يفحصانه، فوجد ورقة أنه منبسط سوت أرضه يد الإنسان؛ إذ كان في الحقيقة عرصة مغارة في الجبل غير غائرة ولا كبيرة، ولكنها كانت على كل حال مشغولة بركام من صخرات ملقات فيها، وإذ لم يكن في قصد ورقة أن يطيل مقامه في معان، فقد صرف عنها نظره، وضرب خيمته على عرصتها، بيد أنه تعجب لدقة صنعها واستقامة زواياها، وما رأى عليها من أسطر بالخط الآرامي. فوقف يتأملها وهو غارق إذ ذاك في تذكر أستاذه ورقة بن نوفل حين كان يريه أنواع الخطوط التي كان العرب يكتبون بها، وإذ كان يعرف منه أن الأنباط سكنوا هذه الجهات، وأنهم كانوا يكتبون بهذا الخط قدر أن تكون هذه المغارة من صنع الأنباط
1
ولعلها كانت محرسا أو مخفرا أو قبرا من قبور السادة، نهب اللصوص ما كان فيه مما كان يدفن مع المدفون، وتركوه كذلك. على أنه رأى به أثرا من دخان المواقد فقدر أنه استعمل ذات يوم لسكنى طابخ أو مستدفئ.
وفيما هما شارعان في حل حمولهما رأيا رجلين من العرب يدنوان منهما، وهما يقودان بعيرين ركب على ظهر أحدهما شبه سرير مغطى بأردية على شبه قبة مستطيلة؛ لحماية من فيه من أعاصير الصحراء. فلما بلغا مكانهما وقفا وتطلعا ، ثم التفت أحدهما يكلم ورقة يسأله أن يسمح لهما بمكانه لينزلا به الأمير.
أخذت ورقة عزة النفس فقال: أليس في هذه الصحراء مكان غير مكاني ينزل به الأمير؟ قال مخاطبه في شيء من الوادعة: بلى، ولكنه جريح ومريض، ونخشى أن يدركه الأجل قبل أن نعثر له على مكان طيب! إن هي إلا مكرمة نلتمسها، فإن شئت أن تظل فيه فذاك ونذهب للبحث عن مكان سواه، وإن كنا لم نجد منذ دخلنا معانا بقعة كهذه قال ورقة: بل حبا وكرامة. ثم نهض هو والغلام يساعدان الرجلين على حمل الأمير في سريره، وأنزلوه في مكان أمين، ثم خطر لورقة أن الغار أصون للأمير في مرضه، وذكره لهما فارتاحا إلى ذلك، وصعدا مع ورقة ليرياه. فلما أمعنا فيه النظر وافقا على أن يخلياه مما فيه من الأحجار، وشرعوا جميعا في ذلك على الفور محاذرين من أن تكون الأحجار مأوى صلال أو أفاعي تخرج عليهم من ورائها وهم ينقلونها، ولكنهم لحسن الحظ لم يجدوا بها من ذلك شيئا.
ولقد رأوا مع ذلك أن ينظفوا المكان فانصرفوا لذلك. في تلك الهنيهات فهم ورقة من الرجلين ما أفهمهما الجندي وهو أن الأمير رومي من القدس، وأنه من أقرباء نيقتاس والي مصر، وأن أباه قتل في موقعة بيت المقدس التي دارت فيها الدائرة على الروم في ظاهرها وباطنها، وأنه جرح في المنزل وهو يدافع عن إخوته الصغار - الذين قتلهم اليهود - جرحا بالغا هو وجندي كان أبوه قد تركه في الدار لحمايتها، ولكن هذا الجندي الوفي حمله على عاتقه والدم يقطر منه حتى خرج به بعيدا عن القدس في غير طريق الفارين إلى غزة؛ إذ كان المجوس واليهود يتعقبونهم في تلك الناحية، حتى إذا لم يعد الجندي الوفي يقوى على حمله، والسير به أكثر مما سار؛ لكثرة ما سال منه من الدماء، سقط به على الأرض إعياء أمام مضرب خيام هذين العربيين، فأوصاهما به خيرا، ثم لفظ النفس الأخير وقضى ، وقال أحد الرجلين متمما حديث زميله: ولقد بكى الأمير عليه بكاء شديدا، وكان لا يزال الآن يبكي، ولكنه لا يستطيع حراكا؛ لأن به جراحا بالغة أبى أن يكشف لنا عنها لما رجونا منه ذلك عسانا نعرف له دواء أو ضمادا، ولكنه رجا منا أن نحمله إلى أمير أيلة؛ لأنه من أقربائه، وأعطانا خاتما كان في يده أجرا لنا على نقله؛ لأنه لا يملك نقودا. سرقها اليهود كلها!
ولكنا ولا نكذبك لا نعرف لهذا الخاتم قيمة وإن كان فيما يلوح كريما، ولو عرفنا فما نعرف كيف نبيعه، ولقد كنا رأينا أن نعطيه إلى أمير أيلة حينما نصل به إليها، ونأخذ منه أجرنا، بيد أنا أصبحنا نشتهي أن نرد إليه خاتمه ولا نأخذ منه شيئا؛ لأنا نشعر أن تكسب المرء من وراء كوارث الناس مضيع للمروءة، ومؤلم للنفس. قال الآخر: أما وربي إني لأرى ذلك، أجل، لا بد أن نرد إليه خاتمه، وحسبنا مما فعلنا وما نحن في صدده أننا نفعله، ونحس بالخير فيما نفعل. على أننا لسنا جمالة يا صاحبي، بل نحن من أهل يثرب، جئنا نستبضع فرأينا القتل والهدم والتخريب، فاعتزمنا العودة، وجئنا بالأمير معنا.
ما كاد الرجل يذكر أنه من يثرب حتى تنبهت نفس ورقة إليهما فقال لهما: من أي الأحياء أنتما؟ قالا: من موالي أبي أيوب النجاري
2
نسكن في شرقي يثرب عند البقيع. أأنتما من يثرب؟ قال ورقة: إن رفيقي يثربي، أما أنا فمن مكة، وإن كنت أعرف أبا أيوب فقد كنت من ضيوف ابن عمه أسعد بن زرارة. فلما سمع الرجلان ذلك أكبراه، وزادهما منظر الشملالة إكبارا، ولكن وداعته وفرط كرمه وتبسطه معهما ومع غلامه ألزمتهما ما أراد من أن يكونا معه كما هو معهما عديلا ومثيلا، وكانوا قد انتهوا من تنظيف الغار فنزلوا جميعا؛ ليحملوا الأمير إليه فلما بلغاه كلمه أحد الرجلين قائلا: لقد وجدنا لك أيها الأمير غرفة طيبة ترتاح فيها. نظفناها لك وأعددناها وسنحملك الآن إليها. كيف حالك الآن؟ لم يكن الأمير يجهل العربية ، ولكنه كان ضعيفا فلم يزد على قوله: شكرا لكم. ثم حمله الرجلان وغلام إياس يساعدهما، حتى أدخلوه المغارة.
لم يكن في قصد الأمير أن يبقى في معان، ولكنه كان من الضعف بحيث لم ير اليثربيان بدا من أن يبقيا به في معان حتى يسترد شيئا من العافية؛ ليقوى على احتمال مشقة النقلة إلى أيلة التي رجا منهما الجندي الرومي أن ينقلاه إلى أميرها فلم يكن له بد من الموافقة، ولذلك لم يعترض بشيء حين جاءا به إلى معان، وأخذا يبحثان له عن مكان ينزلان به فيه. فلما استقر في المغارة رفعا الغطاء عنه فلاح الأمير من تحته في ثياب جندي عظيم، ولكنها كانت فضفاضة بدا فيها الأمير كأنه صبي يرتدي ثوب أبيه، وبدت كفاه من كميه صغيرتين كأنهما كفا عذراء لا كفا رجل عرك السيف، ولاح وجهه تحت عصابته ولثامه كأنما هو وجه وليد في لفائفه، وما كاد ورقة يتشكك حتى بادره أحد الرجلين يقول: انظر ماذا فعلت به الجراح ومشقة السفر والهم! ولكنا نرجو الله أن يرد عليه عافيته فتلتئم جراحه، ويقوى على النقلة إلى أيلة! فتقدم ورقة نحو مرقد الأمير يتفحصه وهو مؤمن على دعاء الجمالة، وكان في صوت ورقة نغمة عطف كصدى الموسيقى تنبه لها الأمير وفتح عينيه ليرى صاحبها، فإذا هو يرى وجه ورقة السمح يطالعه بعينين تفرغان عليه شآبيب من الرحمة، ثم يحييه بكلمات تشجيع كريم أدركها الأمير كلها وإن لم يكن يحسن فهم العربية؛ ذلك بأنها كانت من ثقة القلوب الصافية التي لا تحتاج إلى لسان. فأدرك الأمير أنه في حضرة إنسان كريم، وإن لم يكن قد عرف من هو ولا من يكون، وكأنه أراد أن يدله على حسن حكمه عليه، وارتياحه إليه، فشرع جفنيه مرة أخرى وأرسل إليه في شعاعهما الضعيف رسالة شكر وارتياح وتودد وثقة، ثم أغمضهما وقد لاح على وجنتيه أثر ذلك فيما كساهما من إشراق الرضا، وإذ كان ورقة يعتقد أن للجوع أثرا شديدا فيما يلقى الأمير من الإعياء فقد شرع يعنى به فتركه حيث هو وخرج بالرجال إلى خيمته ليدبر الأمر، وهناك أمر غلامه أن يذهب إلى سوق المدينة ويشتري لبنا وخبزا ليعد لهم طعاما. فانصرف الغلام في ذلك، وجلس ورقة بصاحبيه في خيمته على باب الغار يتحدث معهما. فذكر لهما ما جرى من الأحداث في غيبتهما عن يثرب، وما لحق بالخزرج من الشدة يوم بعاث، وما فعل اليهود والأوس أثر انتصارهم، بديار الخزرج إذ خربوها وأحرقوا نخيلها، حتى منعهم عنها بنو الأشهل سادة الغلام الذي معه، وكيف أن اليهود لم يرعووا بل أمعنوا في السلب والنهب والمطالبة برءوس من قتلوا لهم في الملحمة عزيزا أو قائدا كبيرا، وأنه إذ قتل لهم في الدفاع عن أسعد بن زرارة عملاقهم ثم فارسهم المعلم طلبوه في كل مكان، وأنذروا ابن زرارة بالويل ما لم يسلمهم إياه، ولكنه كان في ذلك الوقت في حمى بني معاذ زعماء الأوس، وإذ لم يقبل اليهود إجارة سادة الأوس، لم ير هؤلاء بدا من ترحيله، فرحل، وأنه اليوم في معان هاربا لا يدري أين ينزل؟
كان ورقة يذكر ذلك والخزرجيان صامتان يتميزان من الغيظ وجدا على اليهود، وأخذ كل منهما يذكر لبني قريظة والنضير سيئة إثر سيئة، ويعجبان للخزرج والأوس وهما إخوة كيف لا يصطلحان ويعملان على إخراج اليهود من أرض لا يريدون أن يندمجوا في أهلها أو يدمجوهم فيهم؛ ليعيشوا في الدنيا إخوانا مطمئنين! قال ورقة: هذا ما لا يكون. إن اليهود لا يريدون أن تضيق أرض المعاد بهم، فهم يرجون أن يقيموا مملكة أورشليم التي هدمها عليهم بختنصر. قال أحد الرجلين: ها هي ذي أرض المعاد قد أخلاها لهم الفرس من الروم فليعودوا إليها ويريحونا منهم. إنهم لم يتركوا في القدس دارا لرومي، ولا بيعة ولا ديرا إلا خربوها فقتلوا من فيها؛ ليخلوا الديار لهم، ولإخوانهم المشتتين في الصحراء.
قال ورقة: لا. إن يغلب الروم اليوم فسيغلبون غدا. قالا: كيف تعرف ذلك والفرس، فيما روى الركبان، على أبواب مدينة هرقل؟ قال ورقة: لقد بلغت هزيمتهم مسمع المشركين في مكة فطربوا وفرحوا لانتصار الفرس عبدة النيران على عبدة الله؛ لأن المشركين حمقى كالفرس، وشمتوا بالمسلمين الذين هداهم نبي الله محمد بن عبد الله إلى عبادة الواحد الأحد القهار. فأوحى الله إليه قوله تعالى:
غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين
فلينتظر الفرس قليلا، ولينتظر اليهود. بل ستكون هذه البلاد من بعد ذلك للعرب يوم يسلمون. إنها بلادهم وسيملكهم الله بلادهم يحكمونها، ويقيمون فيها العدل، وينزلون الرحمة ويحكمون فيها العقل، ويمحون الفروق، وسيكون للموالي ما لسادتهم من الحقوق، وللمرأة في الدنيا ما يصونها من عبث الرجال. فالمرأة أم الدنيا يصونها الإسلام ويحميها.
قال أحد الرجلين: لقد سمعنا عن محمد شيئا كثيرا من اليهود، يقولون: إنه سيأتي إليهم بقريش كلها مسلمة موحدة مثلهم لينصرهم ويعطيهم يثرب ملكا، والأوس والخزرج موالي. قال ورقة: كذبوا. بل آمن بعض الأوس وبعض الخزرج، وقد أخذوا يفكرون في دعوته إليهم؛ ليجعلوه سيدا فيهم، يرأب صدعهم، ويجمعهم تحت لوائه: لواء التوحيد، والمحبة، والإخاء، وهنيئا لمن يسارع إلى الإيمان به، والانضواء تحت علمه، ويكون فيمن يلقاه داخلا إلى يثرب؛ لينشر منها دين الله، ويهدي الخلق إلى الصواب.
قال أحد الرجلين: اللهم إني مؤمن بدعوة ابن عبد الله، راغب في دينه، وحقك يا ورقة لن أعبد مناة
3
بعد هذا إني وحقك لأستحي من نفسي كلما أخرجتها من رحلي، وأخذت أدعو لها وأصلي. وقال الثاني: وأنا والله يا مسعد، لا أدري لماذا نعبد مناة إذ كنا لا ندعو إلا الله ولا نقسم إلا بالله! ألا ترى هذا عجبا! لا والله، ما عدت أعبدها! ثم هب الرجل من مجلسه، وذهب إلى رحله وأخرج منه قطعة من الخشب على شكل عرائس الأطفال،
4
وأخرج مثلها من رحل صاحبه مسعد، وأتى بهما إلى ورقة يقول: هذا يا سيدي ما يحملوننا على عبادته. أرأيت أشد جهلا من هذا؟ أنا راميها عن يميني. ألا ترى ذلك يا مسعد؟ قال: بلى. قال ورقة: أعطوي إياهما فأخذهما، وكان الغلام قد أتى براوية كبيرة من اللبن، فناداه ورقة، وقال: خذ هذين الإلهين القبيحين واجعلهما في النار، سخن بهما اللبن. هذا كل فائدتهما! أحرقهما كما سيحترق من يعبدونهما بالنار في الآخرة، ولنار الآخرة أشد وأنكى.
تردد الغلام في أخذ الخشبتين منه، وقال له ورقة: ويحك يا غلام إياس! ألم يأتك نبأ إسلام مولاك؟ وأنه خلع اللات والعزى ومناة؟ قال: بلى. قال ورقة: ثم ألم تؤمن بمحمد بن عبد الله الذي صدق به اليهود قبل أن يدعوهم؛ لأنه مذكور في توراتهم، ومذكور في الإنجيل؟ قال: بلى. قال: فما هذا إذن؟ قال: لا أدري وحقك. أشعر برهبة. قال: لا بأس عليك. أشعل النار. ستزول رهبتك عما قريب، وضحك! ولكن مسعدا وصاحبه لم يضحكا؛ إذ كان بهما في الحقيقة شيء مما امتلك الفتى، ولكنهما لم يبدياه. ذلك بأنهما عاشا حياتهما يريان في هذه الخشبة من القوة والاقتدار على الأذى والشر ما لم يكن من السهل أن يقتلع بكلمة، ويمحى أثره فور تسليم بصواب، ولذلك أخذا يتساءلان عمن أسلم من يثرب فأخذ ورقة يذكرهم واحدا بعد واحد، حتى إذا ذكر اسم سويد بن الصامت، وكان معروفا في يثرب كلها بأنه الحكيم الرشيد الكامل - أقسما بالله لن يضع مناة في النار أحد غيرهما، وكانت النار قد أوقدت، فنهض كل منهما بإلهه الذي كان منذ ساعة عزيزا ومكرما فرماه محقرا في الرقيد، وأخذا ينظران إليهما وهما يشتعلان، ويسخنان اللبن في وعائه فوق الأثافي، وورقة يراقبهما ويضحك لما يبديان من آثار التشفي، وما يلوح على غلام إياس من الذعر. حتى رآه بعض أحوال تعجبه يدفع النار بمحراك في يده؛ ليقلب الإلهين في النار، فضحك ضحكة عالية لفتت إليه ثالوثهم، فنهض الرجلان عائدين إليه يقولان بعدا لمناة وعبادة مناة! خبرنا كيف نفعل لنكون مسلمين؟ قال: اشهدا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فشهدا. فقال: وأن محمدا عبده ورسوله، فنطقا بأن محمدا عبده ورسوله. عند ذلك نهض ورقة ونهضا معه فقبلهما واحدا بعد آخر وقبلاه كذلك ، ثم أمرهما أن ينصرفا ليملأا سقائيهما من ماء بئر عينها لهما كان قد رأى الناس عندها، وأعطاهما سقاءه ليملأاه له، وقال لهما: لا بد لكما من الوضوء والصلاة لله شكرا على الإيمان فارتاحا إلى ذلك، وذهبا ليحضرا الماء.
في تلك الأثناء كان الغلام الأشهلي قد جاء بماعون اللبن فوضعه بين يدي ورقة، ثم عاد ليأتي بجفنة من جوالقه، وكان ورقة قد شاهد في رحل الأمير طاسا من الخزف الجميل فنهض يستأذنه أن يأخذها؛ ليأتي له فيها بطعام، ولكنه وجده نائما فجاء بالطاس بغير استئذان، وجاء بسقائه كذلك، وغسل الطاس، وصب فيها شيئا من اللبن، وأخرج كسرة مما زوده به صديقه الأشهلي، ودخل على الأمير فوجده مغمض العين على حاله، ولكنه كان يتمتم بصلاة بالرومية، وينادي مريم أن تصونه في غربته من الأذى حتى تواريه التراب، ويشكرها على أن هيأت لها في سفرتها الطويلة كل هذه العناية وهذا الصون من قوم أغراب ليسوا من جنسها ولا دينها. ثم شرع جفنه فإذا هو يجد ورقة أمامه واللبن في يده فسره أن يراه، وامتلأ قلبه بالشكر لمريم على أن أجابت دعاءه. ثم استمر فيما كان فيه فشكر ورقة بالرومية، ودعا له، فرد ورقة شكره ودعاءه بالرومية كذلك، وطلب إليه أن يسمح له بإطعامه هذا اللبن.
وكأنما تنبه الأمير إلى أن ورقة يكمله بالرومية فسأله بها: أكنت تكلمني بالرومية يا فتى؟ قال: نعم. أعرفها من صغري. إن لي في الروم أهلا وأحبابا، وكان يتذكر لمياء وقتئذ وأمها، فعلا الوجد وجهه وشفتيه، ولكن الأمير لم يدرك من ذلك شيئا ولم يهمه، ولكنه رأى وسامة ورقة وما فيها من صباحة الخير وطيب القلب فعاد يشكر مريم على أنها أرسلت إليه من يأنس به، وينزل شيئا من الطمأنينة في قلبه، وإن لم يجد في مسلك اليثربيين إلا ما يستوجب الحمد لله طول الدهر على ما أنعم عليه بتوفيقه الجندي إلى مضربهما. قال ورقة: أتستطيع أن تنهض أيها الأمير؟ فابتسم الأمير وقال: أستطيع بألم شديد. قال ورقة: فاسمح لي أن أنهضك، ثم مد يده اليسرى وأنهضه ، فكان كمن ينهض طفلا؛ لأنه وجده صغير الجسم هزيلا، ثم قدم له طاس اللبن فتناولهما بين يديه، ووضع ورقة كسرة الخبز في حجره، وأخذ الأمير يشرب ويأكل قطعة الخبز وهو ملفف في ردائه، وورقة يتعجب من دقة يديه وصغر أصابعه، حتى إذا فرغت الطاس وأخذها ورقة عرض أن يأتيه بقدر آخر من اللبن، فأبى الأمير وقال: إن هذا اللبن أول ما أكل منذ غادر بيته في القدس، ولكنه لم يشته الطعام حتى نزل بهذا المكان، وكان هذا الآن لا قبله. فقال ورقة: علامة طيبة بإذن الله. قال الأمير: لقد رد الله إلي شيئا من العافية لمرآك، وإني لأرى العافية تسري في بدني كله؛ إذ وجدت أنك تعرف الرومية، وأن لك من أهلها أهلا وأحبابا. ثم طلب إليه أن يرقده فأرقده، وكان الرجلان قد عادا بالماء فاستأذن وخرج للقائهما، وسار بهما؛ ليعلمهما الوضوء، وتوضأ الأشهلي معهما، ثم أمهم ورقة، واتجه إلى بيت المقدس؛ إذ كانت قبلة المسلمين يومئذ، وطلب إليهم أن يقلدوه في لفظه وعمله؛ فنوى، واتجه وركع وسجد، وصلى ركعتي الشكر، وصنعوا مثله ونهضوا جميعا يحمدون الله على الهدى، والرجلان يشكران لورقة صنيعه، ويحمدان الله على اجتماعهما به. قال: هكذا تفعلون في كل ضحى وكل عصر وأنتم متوضئون، لا أسألكما على ذلك أجرا إلا أن تهدوا إخوانكم من موالي المدينة - خزرج وأوس - إلى ما اهتديتم إليه، وكان الرجلان قد اشتريا من سوق معان قطعة كبيرة من اللحم، فطرحاها في النار فوق قطع من حجر؛ لتنضج وفاحت رائحتها فجرى إليها أحدهما وقلبها، وجاء بها يقول: لقد سئمنا أكل اللبن في يومينا الماضيين، فجئنا بهذا. دعوا اللبن للأمير، ولنأكل نحن هذا. قال ورقة: لا بأس، وانصرفوا يأكلون جميعا باسم الله وهم يتحدثون بنعم الله عليهم، ويعدون ورقة أن ينشروا دين ابن عبد الله بين الموالي جميعا.
ولقد رأى الرجلان إذ طعما أن يذهبا لإطعام المطايا فيما حول معان من المروج، واقترح غلامه الأشهلي أن يفعل فعلهما، فأذن لهم في ذلك على ألا يعتدو على ملك أحد، فإن اعترضهم معترض فليدفعوا له حقه، وأمر الغلام أن يبادر بذلك عنه وعن رفيقيه، ويدفع لصاحب الغيضة مما بقي معه من الدراهم. فأجاب الغلام بالطاعة، وذهبوا جميعا في طلب الكلأ والماء للجمال.
الفصل الثاني والثلاثون
حديث الغار
جلس ورقة على أثر انصراف الجمالة متكئا على جوالقه في الخيمة يتأمل الدنيا، ويذكر ما مر بالبقاع التي هو فيها من أحداث الزمان، ويعجب لصنع الإنسان وتكالب الأمم. نظر إلى ما خلفته الحوادث من الآثار في معابد معان فذكر النبطيين الذين جعلوا من صحرائها جنة، ومن مضارب خيامها قصورا، وامتلكوا ما بين العراق وخليج القلزم (السويس) ودمشق، ويثرب كيف دالوا واختفوا حتى لم يعد يذكرهم أحد أو يعرف عنهم شيئا، حين أنهم كانوا سادة الأرض أبد قرون، وإليهم يرجع الفضل فيما نال الإسكندر الذي يسمى بالكبير من المجد الواسع والملك العظيم؛ إذ حالفهم واستعداهم ففتحوا له بجنودهم العراق وفارس والهند ومصر، وأقاموا بسيوفهم ملك ذلك الغلام المقدوني الذي لم يكن بلغ السابعة عشرة من العمر حين كان على رأس هذه الجيوش العربية وهي تغزو تلك الأقطار، ثم كان جزاؤهم بعد ذلك أن حاول خلفاؤه كسر شوكتهم، وتبديد دولتهم، فلما عجزوا عن تحقيق ذلك بالسيف حاولوا بالخديعة؛ فإذا دولتهم الزاهرة في الصحراء تعود في القرن الثاني من المسيح كما وجدوها، خرابا يبابا، فيما قبل المسيح ببضعة قرون.
ضحك ورقة في نفسه ضحكة عجيبة صامتة، قال في نفسه: أيمكن أن يكون لهذه الأمة العربية التي تقيم لغيرها ممالك وعزا - عزا خاصا بها؟ ومجدا مؤثلا لا يأتي عيه غير الدهر؟ صمت وإذا هو يعود به الفكر إلى مكة وإلى رسول الله يتأمل وجهه كأنما ينتظر أن يسمع منه جوابا، وإذا هو يرى وجه الرسول تفتر شفتاه عن ابتسامته الحلوة الخلابة، وإذا هو يتخيل كأنه يقول له: نعم يا ورقة، لم يرسلني الله في هذه الأمة إلا لهدايتها إلى الرشد، وتوحيد كلمتها، ولجمعها على الحق ، وإعدادها للمجد، وإبعادها عن الخنا والرذيلة، فهي على وثنيتها وفساد معتقدها الآن أشرف أمة وأنبل شعب. ستؤمن بما أنزل علي، وسيكون لها فوق ذلك منعة في الأرض حتى تأتي في الشرق إلى جبال البامير عند الصين فتعلوها، وفي الغرب إلى بحر الظلمات فتنيره، وتنتشر إلى الشمال وتنحدر إلى الجنوب، ولن يكونوا ظلمة ولا قساة. سيكونون رحمة للناس وأخوة للناس، وسيرى الناس أن الله أراد بهم الخير، وسيبقى هذا الملك لهم، ولكل من لف لفهم، واتبع دينهم ما بقوا على أمر الله، وعملوا بما هداهم في قرءانه، وأعدوا لكل عدو عدة التنكيل والتدمير، وما عرف كل مسلم أن الأمر فرض عليه لا يتعلق بسواه، ولا يقلل منه قعود غيره عنه. فإن غضوا الطرف عنه، أو فرطوا في شيء منه - انحل ملكهم وذهبت دولتهم.
وفيما هو في هذا البحران قال ورقة في نفسه: واحسرتاه لنفسي كيف حرمتني المقادير أن أكون مع رسول الله وله فيما هو فيه! ثم حرمتني أن أبقى في يثرب؛ لأكون مع خئولته وأبناء أعمامهم أعمل على تعجيل يوم هداهم إلى الله! ثم حرمتني أن أكون في جوار أحبائي الذين أشم ريح السعادة في أردانهم! أعيش متنقلا في الصحراء من جوز إلى جوز، ولا أدري أين مستقري، ولا كيف يكون حالي! أمقدر علي أن أعيش في الدنيا مبعدا عن كل أمل! حرمت آباء لي ما كان لأحد في الناس مثلهم برا ومحبة ونعمة؛ أبي وباقوم وابن نوفل والحارث وسيدي وملاذي محمد رسول الله، وحرمت نعمة الأمومة المباركة من خديجة أم المؤمنين، وأمي تماضر وهرميون! وحرمت الأخوة زيد بن حارثة وبلالا وإياسا، ومنهم كنت أستمد القوة والأمل، وحرمت الأخت لا أخت سواها: لمياء، التي تحبني وأحبها، وكان جوارها النعمة والمسرة، والقلب السعيد، ولكن واحسرتاه، لقد افترقنا وهي تحسبني صلب القلب خشن النفس، جامد الحس، فهي إلى اليوم في مكة لا تذكرني إلا وهي منقبضة النفس عني، تود لو ترسل إلي كلمة الغضب في طيات ما يهب علينا من النسائم لولا ما تكون قد أدركته من سري المكنون.
ثم أخذ يتذكر جمال وجهها وإشراقها ببسمات المحبة حين كانت تلقاه وما يعروها من نشاط السعادة لمرآه، وتمنى لو كانت إلى جواره كعهده بهدى، وتمنى لو يتناولها بين ذراعيه ويدنيها من قلبه المحترق بالشوق إليها، ويقبلها ويعتذر إليها، ويفيض على ترائبها نبع حبه المطهر المكتوم. فلما لم يجدها ألقى رأسه على جوالقه، وخبأه في طياته، وأخذ يذرف الدمع مدرارا، ويتأوه ملتاعا، وإذا هو يحس على كتفه أنامل رقيقة تلمسه، وصوتا حنونا يكلمه. فالتفت في غشيته فإذا هو يرى في سحاب ما ألقاه على الدنيا من فيض دمعه وجها مجللا بالغيوم، نسي أنه وجه الأمير الصغير الراقد في فراشه جريحا في الغار، ويزعمه لفرط ملاحته ودعته حين ارتدت العافية إليه، وجه لمياء قد توارد إليه شبحه حقيقة ماثلة فمد ذراعيه إليها يقول في ضراعة القلب المتفطر: لمياء! تعالي! لمياء! إلي! ولشد ما كان ذعر الأمير وحزنه؛ إذ رأى الفتى فيما هو فيه، وأدرك أنه وجد قد دلهه، وتمعن في محياه فوجد فيه مع الملاحة معالم قلب كريم، وطلعة شاغف مشغوف. فرق للفتى، وقال له: لا بأس عليك يا صاحبي! وكانت عينا ورقة قد خلتا آخر ما كان فيهما من قطرات الدمع فاستطاع أن يرى وجه الأمير عيانا، ويدرك أنه في بحران، وسرعان ما رد ذراعيه إلى عطفيه، واستوى في مجلسه يعتذر إلى الأمير في ذلة المريض، ولكن الأمير لم يدعه يتم اعتذاره فأعاد عليه القول: لا بأس عليك يا صاحبي. سمعت نحيبك فأخذتني عليك رقة، ورأيتني أنهض بقوة الله لأرى ما بك عسى أن أخفف عنك، ولكني أشعر ... أشعر ... ثم لم يستطع أن يتم جملته بل سقط على ورقة، وهو مطرق، من أثر دوار أصابه؛ لما أنفق من الجهد في النهوض، وفي الوقوف حياله، وأدرك ورقة ذلك من صفرة علت وجه الأمير فنهض وأرقده مكانه. ثم أخذ يحل أربطة لفاعته من أعلى؛ ليرد عليه الهواء فينعشه، وما كان أشد دهشته؛ إذ لاح له من وراء الأزرار نحر عليه عقد من اللؤلؤ الكبير متدل فوق قميص من الزرد يعلو قميصا من الحرير الأبيض برز منه فوق الترائب نتوءان أيقظا في نفسه أن تحتهما ثديين، وأن الأمير أميرة، وثبت عنده ذلك عندما اتجهت عينه إلى وجهها فبدا له منه وجه أنثى في الثلاثين من عمرها، أذناها قد خرمت شحمتاهما؛ لتحملا قرطا لم يكن إذ ذاك موجودا. أيقن أنه كما أوجس، وأنها إنما تنكرت؛ لتصرف عنها من الأذى، وهي فارة ما لا يقع للرجال. على أن دهشة ورقة لم تعقه لحظة عن أن يبحث عن سقاء الماء؛ ليرش منه على وجهها نطلا ينبهها، ثم يحملها وهي على هذه الحالة؛ ليرقدها في فراشها في الغار، ويبعدها عن عيون من معه من الرجال إذا هم جاءوا وهو مشغول بأمرها، وكانت الأمير قد تنبهت إذ ذاك، ورأت صدرها مكشوفا ومبللا بالماء، فنظرت إليه وإلى نفسها وهو واقف أمامها، نظرة ذعر وتفحص آملة أن لا يكون قد كشف عن أمرها فقال لها: لا بأس عليك يا سيدتي. اطمئني. ستظلين على ما كنت عليه من التنكر، وسأكون لك على الدنيا.
بكت المرأة إذ ذاك بكاء صامتا، وأرادت أن تتكلم، ولكنه قال لها: ثقي بالله يا سيدتي وبأخيك الذي جمعته بك الغربة، وجعلت لك عليه حقا؟ كلانا شقي محزون، ولنعم المؤاخي الحزن والشقاء. ثم استأذنها في أن يمسح لها نحرها مما نطل عليه من الماء، ويربط لها لفاعتها، فسمحت وفي نظراتها لمعات الشكر والحمد لله على أن أرسل إليها مؤاسيا في ساعات حزنها وفرقها من أن تصاب في كرامتها بمكروه. ثم قالت والعين شكرى بدموعها: ما اسمك أيها الفتى الكريم لأصلي لك وأدعو؟ قال: شكرا لك يا سيدتي. اسمي ورقة بن صليح وأنا من مكة. قالت: ليثبك القديسون على مروءتك، ثم أخذت تتمتم بالصلاة والدعاء، وهو مشغول بتجفيف الماء عن نحرها.
وفيما ورقة يسبل لفاعتها على بدنها تألمت ألما مفاجئا تقلص له وجهها وصاحت: الجرح! الجرح! فرفع يده على الفور، ووقف هنيهة حتى زال أثر ألمها، وقال: معذرة إليك يا سيدتي . قالت: لا بأس. قال: ألا تسمحين لي يا سيدتي أن أرى جرحك؟ إني أعرف شيئا من طب الجروح. قالت: بلى يا ورقة، لم يعد يريبني منك شيء، ولكن ماذا تستطيع الآن فعله للجرح ونحن كما ترى بعيدون عن الدنيا وعن الدواء. قال: لا تعجز حيلة الطبيب وإن لم أكن واسع العلم. قالت: لا بأس. اكشف وانظر إني واثقة بمروءتك، والله لا أدري عن جرحي شيئا. فقد أغمي علي ساعة ضربني اليهودي بسيفه، ورأيتني في هذه الثياب محمولة على كتف خادم زوجي الوفي، ولا أدري من ألبسني إياها، وإن كنت أظن أنه هو الذي فعل هذا.
أخذ ورقة يزيح اللفافة والدراعة الفضفاضة عن بدنها، وإذا هو يرى الزرد والقميص الذي تحته مقدودين قدا طويلا بادئا من جانب الثدي الأيسر، ومنتهيا في أسفر الخاصرة، ويرى على استطالة هذا جرحا لاصقا بالزرد نفسه من أثر ما علقه به من الدماء، ورأى بعض حلقات الزرد مشتبكا في الجلد أو غائرا، وبعضها مكسورا بأهداب من اللحم، والجرح كله قائحا تخالطه دماء ومصول. فهاله ما رأى، ولكنه دارى عواطفه، ثم أخذ يرد كل شيء إلى ما كان عليه، وهو يقول: احمدي الله يا سيدتي، وصلي له صلاة الشكر مضاعفة كل يوم، لقد أنقذ حياتك الزرد الذي لبسته. قالت ألف حمد لله على كل حال - كيف ذلك؟ قال لقد عاق الزرد السلاح عن أن يغير عليك. قطع السيف حلقات الحديد فلم يبلغ إلى ما وراء الجلد بكثير، والجرح على كبره يسير في طريف الشفاء، ولكنه يحتاج إلى تنظيف. لقد وهبك الله قوة في البدن ستعجل لك العافية. قالت: ليتني مت يا صاحبي، ولم أعش بعد زوجي وولدي. ثم خنقتها العبرات فسكتت، وتحدرت الدموع على خديها متداركة كقطرات السقاء المخلخل، ولم يستطع ورقة أن يحبس دمعه لدن هذا المنظر المؤلم فبكى لبكائها، ثم تمالك نفسه يقول: هوني عيك يا سيدتي، لا تضعفي نفسك بهذا الوجد. أنت شابة وسرية كما أرى ، وستشرق عليك شمس حياة طيبة جديدة يوم تعودين إلى الإسكندرية، وسيكون لك أولاد وزوج تحبينه. إن الله واسع الرحمة. ما أرجو منك إن كنت تأخذين بالرشد، أو كنت ممن يقرون الحق إلا أن تضعي أمور الدنيا أمامك كما تضعين الكتاب وتقرئي. فستجدين في هذا الكتاب مخطوطا بقلم عريض كبير: لا تنظري إلى الوراء: انظري إلى الأمام. إذا ورد عليك فكر مؤلم فرديه بيدك وسيري إلى الأمام؛ لتبلغي ما تعده الدنيا لشبابك وجمالك من النعمة والمتعة التي تنسين بهما كل ما مضى. أما وأنت تبكين الآن فذاك؛ لأنك شاكة في المستقبل، وفي رحمة الله. لا يا سيدتي، شبابك وجمالك وجاهك ضمين لك برد سعادتك. إني سأحملك إلى أهلك في الإسكندرية؛ لتقربي من هذه السعادة. نعم إني كنت ذاهبا إلى القدس وإن كان صديق لي قد أوصاني أن أقصد إلى يوحنا أمير أيلة، ولكني أكره المكث في الدنيا بلا عمل، وكذلك كنت في طريقي إلى الرقيم التي تسمونها بطرة،
1
ولكن لم يكن لي غاية خاصة من ذلك، فلأعد معك إلى أيلة، وأسلك بك أقرب الطرق إلى القلزم، طريق الشعوى، وهو مملوء على قصره بالعشب والماء.
2
بيد أن القوافل لا تطرقه كثيرا؛ لأنه ليس طريق تجارة بعدما دالت عمان وبطرة.
سأصرف الرجلين من هنا، وسأدفع لهما أجرهما، وإن كانا لا يريدان أجرا، فقد أعطياني الخاتم الذي أعطيتهما إياه لأرده إليك، إنهما ليسا من جمالة النقل، بل هما من موالي سادة كرام أعرفهم في يثرب، وقد ملكتهما عليك شفقة. ها هو ذا. ثم أخرج الخاتم من جيبه، وتناول يدها ووضعه في الإصبع التي بدا عليها أثر نزعه، والمرأة غارفة في دموعها، لا تتكلم فقد كانت هذه المروءة فوق كل ما علمت أو وهمت، أو تجد له لفظا يفيه شكرا، ولكنه استمر يكلمها فقال: أما جرحك يا سيدتي فسأعالجه بعد قليل عندما يعود غلامي، ولا بد من نزع الزرد عنك، ونزع القميص كذلك، وسأتولى أنا هذا الأمر وحدي حتى لا يعرف أحد خفي أمرك، بيد أني أريد ماء ساخنا، ولا بأس أن يعده الغلام. هل معك ثياب؟ فابتسمت ابتسامة محزون ولم ترد. قال: لا بأس، عندي أنا شيء من ذلك للطريق، والسوق على كل حال قريبة.
وفيما هو يكلمها استطاعت أن تسأله: ممن تنتظر جزاءك على هذا الجميل يا صاحبي؟ قال: لا أنا أنتظر جزاء ولا أنا أريده. قالت: ولا من الله؟ قال: من يفعل ما يراه الناس خيرا ارتقابا لجزاء من الله يتلف الخير نفسه. على أن الله أعطاني جزاء هذا العمل سلفا بما أنا فيه من السعادة، وذلك أنك قبلت أن أتولى أمرك، ولكني ولا أكذبك إنما أرد جميلا لم يكن لي قبل برده؛ لقد أكرمتني سيدة من بني جنسك إكراما ليس وراءه إكرام، وأنا اليوم أعيش في نعمة من برها، وأحيا في ذكراها، وأشعر الآن إذ أنا معك أني معها بجوار ابنتها التي أحبها وتحبني، ثم فرق الدهر بيننا فهي اليوم في مكة تطوي فؤادها على وجد يأكل جسمانها، وأنا هنا في حرق تأكل حياتي، وما كان بكائي الذي أيقظك وحملك على النهوض إلي إلا لأن وجدي كان قد غلبني، وساعدته الوحدة والعزلة على الفتك بي فأطلق القلب مكنون سره. أشعر الآن أني أراهما إذ أراك، وأحادثهما كعهدي بهما في الأمس إذ أحادثك، وأني سعيد، وأن الدنيا بين يدي، وإذا قمت لك بما ترينه خيرا فكأنما أقوم به لهما؛ بل أرى بينك يا سيدتي وبين منى النفس شبها قريبا جدا. فتذكرت المرأة حاله عندما كان يبكي، وتذكرت أنه نطق باسم فتاة وهو في هواجس وجده ساعة أغمي عليها، وخيل إليها أنه كان يقول لها لمياء. فنهضت قليلا من مرقدها، وقالت: لمياء؟ قال ورقة: نعم. قالت وقد تذكرت أنه قال أنه يرد جميلا إلى سيدة من بني جنسها: بنت هرميون؟ فارتد ورقة إلى الوراء يتأمل وجهها متعجبا، وقدر أنها تعرفها من الإسكندرية، وقال: أجل يا سيدتي، بنت العالم قوزمان، وزوجة الحارث بن كلدة الطبيب، أتعرفينها؟ فعادت السيدة إلى فراشها منهوكة القوى من أثر هذه المفاجأة ولم تتكلم. فقال ورقة: أراك تعرفينها يا سيدتي! فأشارت بجفنيها وهزة من رأسها إيجابا، وصمتت وأخذت تتمتم صلاة بالرومية، ثم تكلمت أخيرا فقالت: هي أختي، ولمياء ابنتها تشبهني حقيقة. أهما في مكة الآن؟ قال نعم يا سيدتي. قالت: ألم تذكر هرميون لك أن لها أختا اسمها هيلانة؟ قال: بلى. قالت: أنا هي هيلانة. قال: يا رحمة الله، لقد كانوا جميعا يذكرونك، ويسائلون الله عنك، ولقد أحببتك يا سيدتي؛ لكثرة ما ذكروا عنك، يا لله! أي نعمة هذه التي ألقاها! ثم جثا وتناول يدها وأخذ يقبلها ويغمرها بفيض دمعه، وهيلانة غارقة كذلك في دموعها، ولكنها لم تر من المروءة أن تحرمه تلك القبلات البريئة التي كان يروي في دمعها بعض وجده، وإذا هو في ذلك الوجد يقول: واحسرتاه! لقد كسرت قلب لمياء بجمودي، وها هو ذا اليوم قلبي يتفتت، ولكني لم أجد من المروءة ولا الوفاء ولا من حقي أن أفصح لها عن هيامي بها. إن أباها أستاذي وسيدي، وهو رجل عظيم في الدنيا؛ بل لعله أعظم العرب من غير بني عبد المطلب، وما أنا إلا فتى قليل الشأن في مكة؛ كانت أمي سبية، وكان أبي نجارا من الإسكندرية، ولذلك كتمت عنها هيامي بها، وعملت على أن تكرهني لتنساني، وزادني إصرارا على دأبي هذا ما رأيت من سيدتي هرميون، فلقد كان أغلى أمانيها أن لا تزوجها إلا من أهلها في الإسكندرية، ومن بيت الأمير نيقتاس نفسه. فليلطف بي الله وبها، وليهبها كل ما ترجو لها وأرجو من النعمة والسعادة. فلما انتهى حديثه سمعها تقول: بل نذهب إلى مكة، خذني إلى مكة. لعلي أستطيع أن أجمع بينك وبين لمياء. فابتسم ورقة ابتسامة مكلوم يائس، ولكنها استمرت تقول: هل كبرت لمياء وصارت عروسا، وصار لها قلب يحب ويهوى! لقد تركتها طفلة في السابعة من عمرها. قال: صارت ملكا يا سيدتي. قالت: وأراها اختارت لهواها ملكا كذلك يا أخي. فتراجع الفتى قليلا، وأخذ ينظر إليها وحاول الكلام فقاطعته وقالت: وحق ابن الله ، لو كنت أمها ما زففتها إلا إليك أنت يا ورقة، إني لأراك آية من آيات الخير الذي يحدثنا عنه القديسون. قال وقد أخذه الحياء من كلامها: سيدتي! إنما ترينني كذلك؛ لأني في أحسن حالاتي: فتى ذليل النفس شريدا طريدا مقطوع الأمل في الحياة، واجدا هائما، يجد في ظلمة اليأس والحزن نورا وسعادة. قالت: خذني إلى مكة لأرد إليك جميلك، ولأهدي ابنة أختي نعمة. قال لا أستطيع يا سيدتي. إن أخاها لأبيها أهدر دمي؛ لأنه كره أن أكون ولدا لأختك. قطع بيني وبينها في اليمن، وأهدر دمي في مكة هو والمشركون جميعا؛ لأني قتلت عبدا لهم كانوا قد أرسلوه في السحر ليقتل سيدي وملاذي رسول الله محمد بن عبد الله. فأنا شاكر لك فضلك يا سيدتي، وأرى ما أنا فيه اليوم أكبر عوض، وسأذهب بك إلى الإسكندرية، إن لي في حي رقودة أبناء أعمام أعرفهم بأسمائهم سأبحث عنهم، وسأشتغل هناك بما يشتغلون به. قالت هيلانة: لا بأس بذلك، ولكني سأدخلك خدمة نيقتاس والي الإسكندرية، وسيعرف لك جميلك. إني زوجة أخ له اسمه تيودور كان في الإسكندرية قبل أن يجيئها نيقتاس من أفريقية (تونس) بجيوش هرقل بعشرة أعوام، وتزوجني قبل فتحها على يديه بخمسة، ثم قضى لنا سوء الطالع أن نرحل إلى أذاسا؛ لنلقى جيوش الفرس، ولكن الروم دحروا؛ لأن الفرس استعانوا بألوف مؤلفة من العرب واليهود على الشام وتملكوها، ومنذ ثلاثة أشهر حاصروا القدس ودكوا حصونها، وانحدروا علينا كالسيل يقتلون ويحرقون، وكان زوجي على رأس بعض الجيش فقتل واحسرتاه وهو يدافع عن كنيسة القيامة، وكنت يومئذ في الدار فجاءني بعض جنده يخبرونني خبره، وليحملوني على الرحيل بولدي فرارا من القتل، وألبسني أحدهم زردا تحت ثوبي المسبل من قبيل الحيطة وهو هذا الذي رأيت، ولكن اليهود أدركوهم فحاربوهم في بيتي وقتلوهم جميعا إلا واحدا فقد ظل يدافع عني وعن ولدي حتى ضربه أحدهم ضربة ألقته على الأرض مقطوع الساعد، وهجم بعضهم علي ليسبوني أنا وولدي حين كان أحدهم يضربني ليقتلني، ثم خنقتها العبرات واستمرت تقول: حتى رأيت ولدي قتيلا بجواري ، ولم أشعر بعد ذلك بشيء إلا أن الجندي الأبتر يحملني، ويسير بي مجدا في الجبال والأودية وراء بيت المقدس، والدم يقطر من ساعده، وضعني على كتفه كما تضع الأمر طفلها، حتى وجد مضربا لهذين العربيين فألقاني بين أيديهما، وكلمهم في شأني بالعربية كلاما لم أفهمه كله، ولكني أدركت القصد منه. ثم أخبرني بالجهد أنهم سينقلونني إلى أيلة عند أميرها، وأنه خبرهما أني أمير، ثم أسلم الروح وقضى وهو شاخص إلي، وأنا كذلك شاخصة إليه هلعة لا أدري ماذا يجري في الدنيا؟ فقد زايلني أكثر صوابي، حتى تنبهت لنفسي بعد مسيرة يوم، فرأيتني في هذه الملابس فأدركت أنه هو الذي ألبسني إياها عندما عزم أن ينقلني. أراد أن يخفي حقيقتي عن الناس. فبكيت طول الطريق، وصليت لله أن يأخذني إليه. كل هذا وأنا لا أشعر أني جريحة، ولكني رأيت الدماء على ما ألبسني الجندي، وشعرت بالألم وتحسست بيدي فعرفت ما رأيت، ولقد كنت أتمنى أن أموت كما مات زوجي وولدي، ولكني واحسرتاه لم أمت، بل عشت لما هو شر من ذلك؛ للحزن والثكل، ولقد أحسن إلي هذان العربيان بما لا أدري كيف أشكرهما عليه، وحملاني على بعيرهما كما رأيت. فلما أنزلاني ليلة أمس للمبيت، ولم أكن حملت نقودا لم يسعني إلا أن أشكرهما من كل قلبي، وأعتذر إليهما من عجزي عن مكافأتهما، ثم قدمت لهما خاتم الزمرد الذي رداه إليك. قل لي: كيف أشكرهما؟ ولكنك ستتولى عني ذلك. أجزل بحقك عطاءهما ما استطعت، وعسى أن أتمكن من رده إليك في الإسكندرية، وإلا فالخاتم لك وعقد اللؤلؤ لك. قال ورقة: أمسكي عليك القول يا سيدتي، لا أريد مالا قبح المال والراغبون فيه. أسقطي المال فيما بيننا يا سيدتي، فما يفسد علي نعمة الله إلا ذكر المال. إن معي ما يكفينا ويزيد.
فصمتت هيلانة فترة طويلة ذرفت فيها ذوب قلبها كله، ثم قالت: الحمد لله الذي وهبني على اليأس أخا وصديقا.
الفصل الثالث والثلاثون
إلى أثريب
عاد الجمالة بالجمال بطانا من خيرات الله في مرابض معان، ريا من مياهها العذبة الجيدة، فأناخوها في مدرأ من هواء الخريف، ثم ضربوا لأنفسهم مخيما يقضون فيه الليل في جوارها لحراستها، ولكنهم صعدوا إلى ورقة؛ ليقضوا معه ما بقي من اليوم، وقد بدا الآن في نظر اليثربيين مثل الشجاعة والمروءة والعقل الراجح فقد ذكر لهما غلام إياس ما كان منه من قتل عملاق بني قريظة وفارس بني النضير في الدفاع عن سيدهما ابن زرارة في يوم بعاث الذي انقلب في النهاية على الخزرج، وأن سيده إياسا اضطر أن ينقذه من أيدي اليهود بترحيله عن يثرب في قطع من الليل كما اضطر المسلمون في مكة إلى إنقاذه بترحيله عن مكة إثر ما تآمر المشركون على قتله جزاء إفساده عليهم كل ما كانوا يعدون من الأذى للمسلمين ولرسول رب العالمين، وانبرى موليا بني أيوب يدعوان له ويثنيان عليه؛ لإنقاذه سيد الخزرج، ويأسفان على أنهما لم يكونا في يثرب في ذلك اليوم.
وكان العصر قد آذن فنهضوا للوضوء والصلاة، وتعاهدوا جميعا على الأمانة والصدق والعفة والتقوى، ونصر الله. ثم انصرف اليثربيان إلى مضربهما بجوار المطايا حامدين شاكرين تاركين الأمير في عناية ورقة واثقين بفضله ومروءته.
أما ورقة فجلس يفكر طويلا في أحداث هذا اليوم حتى إذا ذكر هيلانة، تنبه إلى أنه وعد أن ينظف جرحها ويكسوها غير كسوتها؛ فنادى غلامه، وأمره أن يغسل ماعونا مما لديه، ويغلي فيه ماء، ويغلي اللبن كذلك ليطعم الأمير، وكان قد عزم في نفسه على الرحلة إلى أيلة فالإسكندرية، فأعد كتابين أحدهما إلى إياس، والآخر إلى أسعد يشكرهما فيه على ما لقي من البر والخير، وحدثته نفسه أن يكتب رسالة إلى باقوم وأمه؛ ليخبرهما بما اعتزم من السفر إلى الإسكندرية، ويرجو من إياس أن يرسلها إليهما مع من يكون ذاهبا إلى مكة من رجاله فكتبها كذلك.
فلما انتهى الغلام من مهمته، وجاء بالماء الساخن واللبن، أمره ورقة أن يدخل به غار الأمير، فلما عاد خطر له أن يبعده عن المكان، فأرسله إلى سوق عمان؛ ليشتري خبزا ونسيجا لعمامته. فانصرف الغلام في ذلك. أما هو فأخرج من جوالقه قميصا من الكتاب وخرقا كالمنديل وعصابة من عصائب عمامته، وفتح جوالق الغلام فاستخرج منه قدرا كبيرا من ملح الطعام، ودخل بذلك على الأميرة. فلما رأته بدت عليها علامات المسرة بمرآه، وابتسمت ابتسامة المحبة الخالصة، فقال لها: أعددت لك الغسول يا سيدتي، وجئتك بقميص مما ألبس، فلا تعيبيه، إنه ليس كقميصك الذي من الحرير، ولكنه خير منه الآن. بيد أني أرسلت غلامي إلى سوق عمان؛ ليأتي لنا بنسيج، قالت: ليس لي معك رأي، افعل ما ترى. قال: شكرا. ثم أنهضها برفق وحل اللفاعة ونزعها، ثم وضعها تحت خاصرتها؛ ليقي بها الماء عن الفراش ساعة الغسيل، وحل أزرار الدراعة، وأتى بالماء فوضع فيه ما أتى به من الملح، ووضع الخرق فيه، وأخذ يبلل الجرح بالماء المملح، ويزيل الدماء والمدة عن الجرح شيئا فشيئا، وعندما لان اللحم والجلد الجافان تلطف فأخذ ينزع حلقات الزرد المشتبكة فيهما من أثر سيف اليهودي، والأميرة تتألم ولا تجرؤ أن تتأوه، حتى أخلى الزرد كله عنها، واستمر ورقة يغسل الجرح حتى نظف، جففه بخرقة مما أعد، ولف خصرها بعصابة عمامته، وجعل منها نطاقا، ثم غطاها بغاشيتها التي كانت تتغطى بها في فراشها، وعندئذ أغمض عينيه؛ لكي لا تتأذى الأميرة بوقوع بصره على بدنها، وتناول كمي الزرد واحدا بعد آخر؛ ليخلعه عنها، وكذلك فعل بالقميص الحريري الذي كان تحته وهو في إغماضه لا يرى. ثم التفت عنها مظاهرا، وقدم لها بيده ممتدة إلى الوراء قميصه لتلبسه؛ فأخذته منه ولبسته، حين كان قد انحنى يأخذ ماعون الماء والخرق الملوثة؛ ليخرج بهما من الغار مظاهرا، وعاد ورقة بعد ذلك يأخذ الدرع وقميصها الملوثتين بالدماء فلما تناولهما رأى في عينها علامة التردد فأدرك أنها لا تريد أن يبدو قميصها للعين فيراه الجمالة ويعجبوا. فابتسم ورقة وقال: لولا أني أخشى أن نحتاج إليه في الطريق؛ لتركته على حاله، ولكني سأغسله بيدي على الفور قبل أن يعود غلامي، وأدع له اللفاعة ليغسلها هو، وسيجفان ولا شك قبل الصباح، قالت وقد ابتسمت: افعل ما بدا لك بيد أن لا حاجة بنا إلى القميص، أما نستطيع أن نشتري من هنا نسيجا أو من أيلة، إني أستطيع أن أخيط ما نشاء. قال: كذلك ولكن لا بأس بغسله، إنه لا يكلفني شيئا. ثم خرج فغسله مما عليه من الدماء وعاد به بعد قليل فنشره على حجرين في غرفتها على صورة لا يبدو منها حقيقته، ولاحظت الأميرة ذلك وابتسمت، وقالت أراك تحسن التمويه يا ورقة، قال: إلا في الخير يا سيدتي. قالت: قصدت ذلك بالطبع، معذرة إليك وفيما هما في ذلك عاد الغلام بالخبز والنسيج فتناوله منه وشكره، ورجا منه أن يغسل لفاعة الأميرة فقد تركها له عند السقاء، وانصرف ورقة يطعم السيدة شيئا من اللبن والخبز، حتى إذا طعمت لففها في النسيج وهو لا ينقطع عن مؤانستها بأدبه وأحاديثه وتأميلاته، فذكر لها أنه سيقضي في معان يوما واحدا؛ لتقوى على الرحلة إلى أيلة، ولا يقيم بعدها فيها إلا ريثما يستعد للرحلة إلى القلزم.
وكانت الشمس قد غربت في ذلك الحين، وكاد الغار يظلم فخرج بها ورقة إلى خيمته؛ ليقضيا بعض الليل في ضياء النجوم حتى إذا غلبها نوم العافية المؤاتية حملها إلى مرقدها فنامت، وانصرف هو؛ ليسهر عليها وعلى لمياء. •••
في صبيحة اليوم الموعود كان ورقة يسير بهيلانة إلى أيلة بعد أن ودع اليثربيين الثلاثة وأكرمهم جميعا، وحملهم الرسائل التي أعدها لأصحابه وأهله، ونقل إليهم جميعا فرط شكر الأميرة - وقد ظلت في اعتقادهم أميرا جريحا - ودعواتها الخالصة لهم.
وفي صبيحة اليوم الرابع كان يسير بها في قافلة عظيمة اتخذت درب الشعوى طريقها إلى القلزم (السويس).
كانت القافلة مؤلفة من أخلاط من الناس على مثل ما شهد في بطاح يثرب ومعان، جاءوا من أدنى الشام وأعلاها، ومن شرقيها وغربيها، بين روم وشاميين، فارين بأنفسهم وبأولادهم من ويلات الحرب في تلك البقاع منهم الثاكل والمحزون، ومنهم المحروب والمغلوب. جاءوا في الصحراء من القدس وقيصرية وبصرى وغزة إلى أيلة وغير أيلة قاصدين مصر من غير طريقها القريب منهم - طريق رفح والعريش والفرمة - لعلمهم أن الفرس كانوا قد استعدوا لفتح مصر، ويوشكون أن يسيروا إليها من ذلك الدرب فتركوه، وصعدوا في الصحراء، وعطفوا على بطرة، ومنها إلى أيلة؛ ليخترقوا صحراء سيناء إلى القلزم من طريقها هذا القصير.
اخترقت القافلة درب الشعوى في اتجاه الغرب لم تمل عنه يمنة ولا يسرة إلا فيما كانت مضطرة إليه من تفادي جبل أو التماس بطحة على أنها لم تلق في هذا الدرب ما اعتادت أن تلقاه مثلها من الوعث والمشقة؛ إذ كان طريقها معشبا كثير المياه والأودية، كثير المباءات والمنازل، ولذا عد الركب أيامهم في سيناء نزهة مباركة، وعلامة طيبة على رضا الله الذي أنقذهم من أذى الفرس واليهود ومسترزقة العرب.
بلغوا القلزم على الهوينا في ستة أيام، وبلغوا بلبيس في يومين، ونهضوا في اليوم التاسع قاصدين أثريب.
ولشد ما كانت دهشة ورقة حين كان يخترق حقول مصر ومزارعها فلا يرى على جانبي الطريق إلا خضرة، ومياها وماشية وأنعاما، ورزقا غير منقوص، وكان الجو في أوائل كيهك (نوفمبر-ديسمبر) قرا جميلا منعشا، والشمس دفيئة كريمة، تسطع على البقاع فتجلو جمالها وتمنحها رونقا، وتكشف للعين دقائق فضل الله على هذا البلد الذي جعلت الأمم القوية حيازته علامة استكمال مجدها، وبلوغها سدرة المنتهى في الحياة الدنيا، وهيلانة في أثناء ذلك مغتبطة بما تسمع من ورقة من أحاديث عجبه، معقبة عليه بما لديها من أخبار ما يمران به من البقاع في عهدها القريب، وكان الجرح قد أمعن في الالتئام، فارتدت إليها العافية، وزها وجهها بنور الصحة، فلاحت بين تلك الخضرة كالزهرة الحالية الأنيقة تلقي عليها من جمالها الفتان جمالا تبدو فيه كأنما هو بعض نضرتها؛ ذلك حينما كانت تنسى همها في جوار صديقها ورقة، وفيما كانت تجده من اللذاذة بالحديث معه عن مصر وفتنتها، وما تستشعره من نشاط نفسها لدن تقديرها أنها ستتمكن في القريب العاجل من رد جميله إليه، واستخلاصها لنفسها بعد ذلك أخا وصديقا.
قربا من أثريب (بنها) فإذا هما يريان أشرعة سفن كثيرة تمخر من الشرق متجهة إلى أثريب، كأنما هي سرب متواصل من حمائم بيضاء، فزعم أنه النيل وتاقت نفسه مشتهية أن ترى على الفور ذلك النهر الذي طالما حدثه عنه باقوم والحارث أعجب الأحاديث، ولكن هيلانة عجلت فأنبأته أن الذي يرى إنما هو فرع من النيل يخرج من أثريب وينتهى عند تنيس، وقدرت أن هذه السفن التي تمخره إنما تحمل اللاجئين من بلاد الشام والموت الزؤام إلى بلاد مصر والإسكندرية، وكان الواقع كذلك فقد كانت تحمل جموعا من أروام الشام الفارين منها من كل ملة، حتى من اليعاقبة الذين أملوا الخير كله من اندحار الروم وانتصار المجوس، فلما لم يعرهم المجوس اهتماما، ولم يشغلوا أنفسهم بالسفاسف، ولم يتدخلوا في عقيدة أحد، وإنما تدخلوا فيما يملكه الناس، وعملوا على أخذه منهم - فروا هم أيضا مع الفارين.
بلغا بعد قليل ميناء أثريب العظيمة، وكان ورقة في أثناء قدومه يرسل ببصره إلى صفحة النيل ممتدا على الأفق من الجنوب إلى الشمال، فيرى أمامه أعجب ما وقعت عليه عينه منذ خلقه الله - يرى النيل! يرى السلسبيل - يرى فيض الخير الذي ترسله السماء إلى الخلق كل عام بالري والخصب والنماء، ويرى الفلك تجري هادئة على صدره، فما إن يغفل الطرف عنها حتى يراها قد أوغلت وانحدرت إلى مستقرها، فهي تحكي نعمة الله التي يرسلها إلى الموعود بها فتأتي إليه سلسة هادئة، حتى إذا استبطأ سيرها وجدها قد غمرته من حيث لا يدري، ولقد ازدحمت الميناء بالفلك الصادرة عن أثريب والواردة إليها على صدر الفرع التنيسي؛ لتقطع النيل، وتنحدر منه إلى الترعة الفرعونية التي شقها أحد ملوك مصر السابقين؛ ليصل بها ما بين الفرعين الشرقي والغربي مارة بحصن منوف القوي، وصاعدة في مرورها إلى أرباض نيقيوس حتى تفيض منها في النيل من الجانب الآخر.
وفيما ورقة غارق في تأمله وتفكيره، انتبه على حديث هيلانة إذ تقول: ماذا نفعل بالجمال؟ لم تعد لنا بها حاجة، فالطريق إلى الإسكندرية طريق النيل. لم يكن ورقة قد أعد لهذا السؤال جوابا، ولا هو يستطيع الآن جوابا. أما البعير الذي تركبه فكان هينا عليه أن يبيعه إذا وجدا شاريا، أما الشملالة التي يحبها وتحبه والتي أصبحت جزءا منه، ففراقها عنده كفراق لمياء، ولكنه اضطر إلى فراق لمياء رعيا لها ولأهلها ولأنه لم يكن يملك غير ذلك، وأما الشملالة فماذا يجبره على فراقها؟ سكت ورقة على الجواب فقالت هيلانة: أنا أعرف قدرها عندك وإن لم تعد لك بها حاجة، ولن يكون لها عمل في الإسكندرية. قال: وفي الصحراء وسيناء وبلاد آدوم وثمود، وفيما بين يثرب ومكة. قالت: لن تعود إليها، لن أسمح لك. فابتسم ورقة وقال: أليس هناك من سبيل إلى أخذها معنا إلى الإسكندرية في سفينة؟ إنها آخر ما بقي لي من بلادي. قالت: إنك تجهل ما تتكلف من النفقة في نقلها وعولها، ولكنك لا تقيم لذلك وزنا. ثم تذكرت أنه يحب ناقته حبا تهون إلى جانبه النفقة فقالت: هي المحبوبة المعززة، لا بأس سأدبر الأمر. خير لك وأرخص أن يأخذها لك أجير إلى الإسكندرية. قال: وهل يؤمن عليها الأجير؟ هبي أنه ذهب بها قالت وقد ابتسمت: إنك يا صاحبي تنسى من أنا من نيقتاس حاكم هذه الأرض، وإني إن شئت أن أحملها إلى الإسكندرية على أعناق الرجال حملوها شاكرين، ولكني لا أريد أن ألقى منهم أحدا، إلا إذا عجزت.
وفيما هما يتحادثان سمعا صوتا من ورائهما ينتهرهما قائلا: إلى متى تقفان تتكلمان وتزحمان الطريق! قبح العرب والقبط جميعا! انصرفا من هنا على الفور وإلا ضربت راحلتيكما فألقيتكما في النيل طعاما لسمكه.
التفت ورقة وهيلانة إلى القائل فإذا هو جندي رومي مميز ممن أعدتهم الحكومة لمراقبة الواردين من الشرق إلى أثريب والطالبين الإسكندرية في سفن الترعة الفرعونية، على رأسه خوذة، وفي يده درع من النحاس، وفي منطقته سيف سميك، وقد ترك شواربه تتدلى على جانبي فكيه، وتملأ وجهه وحشية تنفعه في القتال.
تأملاه فشد ورقة خطام ناقته استعدادا للسير، والتفت إلى هيلانة كأنه يلفتها إلى ضرورة الابتعاد عن المكان الذي يتحكم فيه هذا الجندي، ولكنه رآها تتمعن في وجه الرجل ورأى شفتيها تسايران نجوى نفسها في النظر إليه، ثم انطلقت كلمة منها في مواجهته تقول: كوسموس!
فالتفت الجندي إليها إذ كانت هذا اسمه فعلا، ولكنه لم يعرف مناديه؛ لأنها كانت قد تزيت بزي العرب في مرافقة ورقة منذ خرجت من معان وتلثمت، فلاحت في صورة لا تدل على شيء، ولأن العهد بينهما بعيد، والصلة بينهما مقطوعة من زمن طويل، وأدركت هيلانة أنه لم يعرفها؛ لتنكرها، أما هي فلم يخف الرجل عنها، وإن كان قد كبر قليلا عنه يوم كان من حراس زوجها في منوف، وإذ التفت إلى القائل كأنما يسائله من المنادي، لم تشأ أن تعرفه من هي إذا أمكن أن يتذكرها ويعرفها هو بالنظر إليها، ولكنه لم يعرفها، فقال وهو ينظر إليها: من يناديني؟ فأزاحت هيلانة شيئا من لثامها؛ ليلوح له شيء من أنوثتها لعله يتذكرها، وقالت: ألا تزال تنكرني؟ فتمعن الرجل في وجهها، وقال متسائلا في شك عظيم: سيدتي هيلانة! قالت: نعم. قال: مرحبا بسيدتي العالية، مرحبا! كيف حالك يا سيدتي، وحال مولاي؟ قالت: وقد جهدت نفسها على التجلد: نحمد الله، وأنت يا كوسموس وأولادك؟ قال: نحن لا ننساك يا سيدتي، ولا ننسى سيدي، ثم تناول كوسموس خطام بعيرها، وأشعرها أنه يريد إناخته فأذنت، ولما بلغت قدماها الأرض تناول الجندي يدها فقبلها، ووقف في خضوع يحادثها وفي نفسه ألف سؤال وسؤال، ولا سيما لأنه رآها وحيدة ورأى معها فتى عربيا، ولكنه آثر ألا يحرجها بأسئلته فلعله يستطيع أن يعرف من حديثها معه ما يريد أن يعرفه، وكان ورقة قد أناخ هو أيضا، وجاء ليكون معها ساعة الحديث. فلما رأته قالت لكوسموس: هذا فتى نبيل يا كوسموس. أمكن إخوانك أن يخرجوا بي من القدس؛ ليوقوني شرور الفرس، وجئت هنا في حمايته. فالتفت كوسموس ينظر على الفتى نظرة ثناء وتحية ردها ورقة بمثلها حين كانت هيلانة تتم كلامها، وهذه الناقة العظيمة عزيزة عنده ، وهي كذلك عندي؛ لأنها تسابق النعام، فهل لديك حيلة هينة؛ لتكون معه في الإسكندرية؟ قال: والله إن لدي شاريا لها يريد أن يبلغ القدس في أقصر زمن، ولو طلبت فيها مائة دينار ما تردد. قال ورقة: لا أبيعها بألف. قال: إذن فلنجعلها في إحدى سفائن الجماهير والبضاعة الذاهبة إلى الإسكندرية وما أكثرها. قالت: بل أرى أن تستأجر لها راكبا يلحق بنا في بيت أبي الذي تعرفه. قال كوسموس: حبا وكرامة. قالت: وأما البعير فأرجو منك أن تبيعه. قال كما ترين يا سيدتي. أما الناقة فإن لدي صديقا من أكبر تجار الغلال في الإسكندرية ونوابها في المجلس اسمه أورست يريد العودة إلى الإسكندرية مسرعا، وسيكون سعيدا بأن أعرض عليه ركوبها؛ لأنه يستطيع أن يبلغ بها الإسكندرية في ضحى الغد، ولكني أخشى أن سيبقى في مريوط أسبوعا. قالت: لا بأس. هذا أصلح. قال: حسن جدا وسيدفع الراكب أجر ذلك لصاحبك دينارا. إن الأجور اليوم عالية جدا، والرواحل عزيزة جدا قال ورقة: شكرا لك، ولكني لا أريد أجرا. حسبي من أجره أن يعنى بها ويوصلها إلي سالمة. قال: ليكن ما تريد. سأبيع هذا البعير قبل أن تركبا السفينة. إن لدينا من سفن القصر واحدة خالية. هل أعدها يا سيدتي؟ قالت: إذا لم يكن في ذلك بأس فافعل قال: أي بأس يا سيدتي! هي سفينتكم، وهل يملك التصرف فيها أحد أكرم منك! قالت: أعدها إذن، ولكني أرجو منك أن لا تخبر أحدا بأمري إن شئت حتى أرحل عن أثريب. قال: لك الأمر يا سيدتي، ثم دعاها للاستراحة في جوسق له على النيل ريثما يعد السفينة، ونادى بعض رجاله؛ ليحملوا الجوالق إلى الجوسق، ويبقى أحدهم لحراسة الجمال.
الفصل الرابع والثلاثون
في الإسكندرية
يخيل إلينا وورقة تسير به هيلانة في سفينتها الأميرية ناشرة قلوعها في النيل عند أثريب، ثم منسابة في الترعة الفرعونية فقاطعة جزيرة منوف على خط مستقيم حتى تصل إلى فرع رشيد بجوار نيقيوس
1
ثم هابطة مع النيل قليلا؛ لتنحدر هناك مغربة في جوف الفرع الكانوبي
2
وتسير حتى تصل إلى تيمنهورس (دمنهور) وبعدها إلى الكريون
3
على مدى ثلاثين كيلو مترا منها؛ لتدخل هناك في خليج كليوباترا
4
السائر بمائه إلى الإسكندرية، فيدخلها من جنوبها، ويخترقها حتى يصب في البحر عند ما يسمى الآن مينا البصل - يخيل إلينا أن ورقة كان لفرط تعجبه مما رأى في شبه ذهول. ما أعظم الفرق بين ما كان فيه في بلاد العرب وما هو فيه الآن. هناك صحراوات قاحلة ماحلة، وهنا مزارع ناضرة زاهرة. هناك جبال وأحقاف، وهنا سهول ومروج. هناك آبار وعيون ضئيلة أو أفلاج وخيران جافة، وهنا النيل والترع والخلجان والسواقي المترعة. هناك الخيام والمضارب، وهنا الدور والقصور. أعظم ما رأته العين هناك من الحصون بيوت منيعة لسادة اليهود والعرب مبنية من الحجر فوق الجبال حول يثرب، وأهون ما ترى العين هنا صروح عالية، وثكنات كالجبال قائمة على جبوانب الطريق هنا وهناك. حتى إذا وقعت عينه على منوف ونيقيوس والكريون، ورأى كلا منها مجموعة من الحصون الشاهقة الكبيرة الأحجار والأبواب يعمرها جند الروم مدججين بالسلاح في كل وقت استعدادا للطوارئ قال في نفسه: لا! هذه دنيا أخرى وعالم آخر غير دنياي التي كنت فيها، ولكنه كان قد سمع من باقوم ما سمع عنها أبد سبع سنوات متوالية، وعززته هرميون والحارث ولمياء فيما روي له فصدق القول ووعاه، ولذلك لم تكن دهشته لتذهله الذهول المنتظر. على أنه لما رأى بعض حصون تراجان في منوف ونيقيوس مهدمة من أثر ما فعل بها بونوسوس أمير الشرق قائد قواد فوقاس، والجيوش المصرية مجدة في إعادة بنائها - تعجب كيف استطاع هذا الرجل الجبار أن يهدمها؟ ويغلب عليها من كان في جيش هرقل الأخضر:
5
وكانت هيلانة في أثناء ذلك تروي له ما فعل بونوسوس هذا منذ سبع سنوات في مصر من القتل والهدم والتدمير انتقاما للإمبراطور المكروه فوقاس. روت له أنه قتل كل حكام أثريب وسمنود ومنوف والكريون، وكل ضباطها العظام، ونهب وسلب حتى إذا بلغ الإسكندرية واستعصى عليه دكها لمناعة أسوارها عاد يخرب ويقتل متراجعا إلى تنيس، ونشر مناسر اللصوص في كل مكان، ثم هرب إلى أنطاكية قصر إمارته، ومنها إلى القسطنطينية.
6
هناك أراد قتله أنصار القائد هرقل فرمى نفسه في البسفور وغرق
6
وأعقبوه بإمبراطوره فقتلوه وأحرقوه
6
وولوا هرقل بدله. ثم استمرت هيلانة تقول: ولكن هذا الإمبراطور السيء الحظ هرقل لم يهدأ يوما واحدا. فقد استمر كسرى أبرويز في الحرب مع أنه إنما جاء؛ لينتقم من فوقاس جزاء قتله حماه لإمبراطور الطيب موريقوس أبي زوجته مارية. أوغل في أرمينية، ووصلت طلائعه إلى خليج القسطنطينية. ثم علقت هيلانة على ذلك بقولها: وكان المرجو إذ أن الشعب ثار على فوقاس قاتل حمى كسرى، وأن هرقل قبض عليه وقتله اقتصاصا منه لجنايته أن يكف كسرى عن القتال ويعود إلى بلاده، ولكنه لم يفعل بل استمر يحاربنا حتى أجلى جيوش الروم عن أرمينية والشام معا، وها هو ذا قد ملك القدس، واستولى على الصليب المقدس، وأكبر الظن أنه آت بجيوشه إلى مصر ليفتحها، ولكن هيهات أن يدخل الإسكندرية! إذا كانت قد استعصت على بونوسوس وهو شيطان الشياطين فهل تسهل على قائده شاهين! إن أسوارها سميكة جدا لا تفعل فيها قذائف المجانيق، نعم إن في الإسكندرية يهودا يبلغون أربعين ألفا يتربصون بنا الدوائر، وفيها يعاقبة يدفعهم القساوسة إلى العبث، ولكن سلفي نيقتاس لن يفوته أمره.
وكانت السفينة منذ دخلت بهما الترعة الفرعونية تمر مسرعة بقوة الريح ومجاديف النوتية الأشداء الذين كانوا في خدمة السفن الأميرية، ولذلك استطاعت أن تبلغ الإسكندرية في أيام قليلة، وتيسر لمن كان فيها أن يروا أعاجيب ما كان يجري في تلك الأيام: رأوا مئات من السفن بين صغيرة وكبيرة تحمل أخلاطا من أهل الشام وجنودها وقساوستها، بل ويهودها فارين بما معهم من الذرية والأزواج وما أمكنهم أن ينقذوه من المتاع قاصدين الإسكندرية أو غيرها من البلاد الحصينة فرارا من ويلات الحرب في تلك البقاع الشقية، وكانوا كلما مروا بمرفأ من مرافئ القرى على جانبي هذه الترعة العظيمة، أو على شواطئ النيل في فرع رشيد والفرع الكانوبي وخليج كليوباترا غربيه يلتقون بسفن تحمل غلالا وحيوانا وبيضا وسمنا بعضها سائر في طريقه إلى الإسكندرية، وبعضها يوسق من من أجلها، وكانت هذه السفن في غالبها يحرسها جند من الروم لهم سمة خاصة تدل على أنهم من جنود يوحنا الرحوم بطريق الروم في الإسكندرية، وبعضها في حراسة شمامسة من أتباع بطريق اليعاقبة الوطنيين، والواقع أن الكنيسة الرومية كان لها بحكم النظام العام في القطر أملاك واسعة مستقلة عن أملاك الأمير، وكانت تزرعها وتأخذ غلتها للكنيسة، وتنفق منها في سبيل الإحسان وإطعام الناس الذين لو تركت لهم هذه الأراضي لم يكونوا في حاجة إلى إحسانها. بل كانت لها في الغلال تجارة واسعة
7
وكان للبطريق اليعقوبي أملاك وأوقاف كثيرة، تأتي له في مواسم الزراعة بغلالها؛ لتنفق على سكنة الأديار، وفي الإحسان إلى الجياع، وإذ كان ولاة أمر الناس يتوقعون غزو الفرس مصر، فقد أمر كل بطريق أن تنزح البلاد في الصعيد والدلتا وبلاد القطر من غلاتها وخيرات زرعها وضرعها؛ لتخزن في الإسكندرية استعدادا لويلات الحصار العصيبة، ولكنها نزحت كذلك لغاية أخرى. فقد بلغ يوحنا الرحوم ما وصل غليه حال أبناء كنيسته في القدس، ولاسيما على أثر أسر الفرس زخرياس عديله في البطرقة هناك، وحملهم إياه إلى مدائن كسرى، وبلغه أن الفرس شبعوا من القتل والهدم بل بدأوا يرون أن اليهود انتهزوا فرصة الحرب فأعملوا سيوف الغل والحفيظة في الآمنين، وهدموا وقوضوا باسمهم، واستعملوا كل المغريات في سبيل حمل الجنود الفرس على هدم البيع والدور المسيحية العظيمة بدعوى البحث فيها عن كنوز الذهب والفضة، فارتدوا عليهم ببعض الأذى، وسمحوا للمسيحيين بإعادة بناء بيعهم وأديارهم، والعودة إلى ديارهم.
7
بلغ يوحنا الرحوم ذلك فأمر فأعد لإسعاف أهل القدس وللمساعدة في إعادة الكنائس
8
إلى ما كانت عليه ألف أردب من القمح والخضر وألف بغل وألف سفينة من السمك المملح وألف دن من الخمر وألف رطل من الحديد وألف صانع وألف قطعة من الذهب، ولذلك كانت هذه السفن عائدة من الإسكندرية في سبيلها إلى أثريب وتنيس
8
لتنقلها ألوف الجمال في البر أو السفن في البحر إلى العريش وغزة؛ لتصل إلى القدس.
بلغت السفينة الأميرية براكبيها ضواحي الإسكندرية، تلوح على مدى منها عشرات من أديارها الحصينة صوب البحر في الشمال وبحيرة مريوط في الجنوب، وتتوسطها مدينة الإسكندرية في سورها القاتم تعلوه شهبة ناصعة كأنها قطعة من أحقاف اليمن العالية تجللها ثلوج، ذلك بأنها كانت في أسفلها محوطة بسور عظيم عالي الجدران قاتم اللون لقدمه، ولما يتسلق عليه من نباتات الصحراء البحرية في ذلك الجو الرطب الذي تشتهيه الأعشاب وتمرع فيه. ثم تعلو الجدران من ورائها بروج مشرقة وقباب لامعة من الرخام والمرمر والحجر الأبيض هي صوى الكنائس الكثيرة والمعاهد العظيمة، والآثار الباقية في الإسكندرية عروس البحر الأبيض المتوسط، وأجمل مدائنه وأغناها وأطيبها.
لاح السور العظيم محيطا بالإسكندرية أمام عينه إحاطة السوار بالمعصم حتى على شاطئ البحر فقد رآه ينعطف انعطاف مجد في سيره، وكانت هيلانة قد خبرته بعض أمره فكان يتبين البعيد كأنه قريب، ويرى بعين فكره ما لا تطلعه العين الناظرة على تفاصيله؛ رأى إذ ذاك أحجارا صماء كبيرة بني بها السور العظيم، تعلوها على فترات قصيرة أبراج مستديرة وصروح مربعة ازدحمت بالمقاتلة من أنواع الجند الرومي والزنجي وبالمسترزقة من العرب وأهل برقة وطرابلس وإفريقية (تونس) ولاح باب الإسكندرية الشرقي، باب عون (المطرية) أو باب الشمس، داخلا في السور إلى مدى تلوح على جانبيه عضادتان مقوستان من البناء الأصم، وكأنما الباب صدر كمي هازئ، أو صنديد لا يبالي بمن يواجهه. قد درع وكفت بصفائح من الحديد والنحاس ثبتت بمسامير ذات رءوس كبيرة، وجعلت له فيما روى له مزاليج من قضب الحديد لا يهزها وقع قذائف المجانيق عليها فهي لا تئن لها، ولا ترن إلا رنين الضاحك الهازئ، ولا يؤثر فيها لهب النيران المدمرة، فهي هي لا تتزحزح ولا تتجانف، والويل لمن يقرب من الباب أو يقف يقرعه، إن كان له أن يقرع، فهناك تنصب عليه من ناصية الباب ميازيب من نفط وكبريت ونيران تشعل لهبا لا ينطفئ حتى ينقله إلى من أرسلوه فيحرقهم ويحرقه معا.
وكانت كنيسة مرقس الرسول
9
تتبدى عالية بقبابها إلى الجانب الشرقي البحري من الجدار، وتلوح وراءها صوب الباب مسلتان عظيمتان
10
عرف ورقة يومئذ أنهما قائمتان أمام هيكل يسمى القيصريون
11
أنشأته كليوباترا تكريما لزوجها أنطونيوس، وجعلت فيه معبدا لعبادة القياصرة، ومدرسة ومكتبة لرواد العلم، ومطعما للطلبة، ثم أتمه وزاد فيه القيصر أوغسطوس حين استولى على مصر وجعلها من أتباع رومة. من ذلك الحين نسب إليه، وظل كذلك حتى انقلب المعبد في المسيحية كنيسة للصلاة والترتيل، ولاح له إلى الجانب الجنوبي في قرية رقودة عمود السواري
12
الذي وقف يندب السرابيوم
13
ودار الحكمة المدمرة ومكتبتها التي كانت عامرة
14
ثم أتت عليها فيما دمرت، نيران المسيحية في أوائل عهد المصريين بها؛ لتقيم مكانها كنائس الإنجيلون وغير الأنجليون من البيوت المعظمة للدين وحده.
ولاحت لعينه كذلك قبل عمود السواري إلى الجانب الشرقي الجنوبي مشرفة (جبلاية) الپانيوم العالية مجللة بالأزهار وأوراق المتسلقات من النبات بين أشجار باسقة تظل مروجا هناك
15
كانت مسرح الظباء من أوانس مدينة الإسكندرية اللاتي لم ترعين سائح في الأرض أجمل منهن، ولا أعرق في الحضارة منهن
16
ومستراد المزهوين بفتوتهم، وثرائهم من شاب الإسكندرية وأولي النعمة المؤاتية من سراتها.
وقفت بهما السفينة عند مفترع ترعة البراكيوم
17
الآخذة من الخليج؛ لتروي تلك البساتين العامة من يمينها وشمالها وبساتين قصور الإمارة والحكومة على شاطئ البحر حيث تصب فيما بين رأس لوكياس
18
والهپتستاد
19
ليملأوا منها الصهاريج الكثيرة التي كانوا يدخرون فيها المياه لأيام الجفاف والحصار في حي البراكيوم العظيم وما يجاوره.
وقفها النوتية كأنما يستأذنون في أن يسيروا في هذه الترعة؛ إذ هي أقرب إلى قصر الإمارة، واعتادت سفن القصر أن تخترقها، ولكن هيلانة كانت منذ دنت بها السفينة من الإسكندرية في عراك نفساني كبير: أتقصد إلى دارها التي كانت فيها من قصور الإمارة وزوجها - أخو نيقتاس أمير الإسكندرية والديار المصرية - حي، أم تعود إلى البيت الذي يردها القدر بقتل زوجها في القدس إلى مثل ما كانت عليه فيه من الوحدة؟ ورأت في أن تلجأ إلى قصر نيقتاس دعوى لم يعد لها محل، ولا سيما بعد أن انقطعت صلتها بنيقتاس بقتل ولدها من أخيه. لم يبق لها إذن إلا أن تسير إلى بيت أبيها، ولذلك أشارت أن تسير بها السفينة إلى مدخل الخليج في الجانب الغربي الجنوبي من المدينة في حي رقودة؛ إذ كان بيت أبيها غربي السرابيوم.
ازدحم الخليج هناك عند باب فيلاق
20
بالسفن الواردة إلى المدينة فكست بأجرامها لبة الماء كما تكسو أسراب الأوز العظمية صفحات البحيرات البعيدة عن أذى الإنسان، ولكنهم لم يكونوا يسمحون إلا للسفن الأميرية وشباهها بالدخول والسير إلى مرفأ شارع كانوب
21
الذي يتوسط المدينة مارا من الشرق إلى الغرب. أما سائر السفن فكانت تنعطف إلى اليسار، وتدخل بحيرة واسعة هناك؛ لتنزل حمولها.
وإذ كانت السفينة التي تركبها هيلانة وورقة تحمل شارات القصر فقد سمح لها بالدخول، وسار في رفقتها على الشاطئ بعض الجند؛ ليكونوا في حراستها حتى تقف عند مرساها بالقرب من جسر شارع كانوب.
ولشد ما كان اضطراب نفس هيلانة ووجدها عندما وقعت عينها على مكان عزها: على المدينة التي كانت فيها ثانية اثنتين في المجد والعز والمتعة بل أولى نساء مصر؛ إذ كانت سلفتها زوجة نيقتاس قد قضت نحبها قبل مقدمه، وأصبحت اليوم كأية امرأة، بل دونهن جميعا. فما عز المرأة إلا شعاع من شمس أبيها، فإذا تزوجت كان عزها من شمس زوجها، فإن ترملت انطفأ عنها هذا الشعاع وذاك. شعرت هيلانة في قرارة نفسها بهذه الحقيقة المؤلمة فبكت وسح دمعها سخينا؛ لأنها كانت تفجر دمعها من أعماق قلبها المحترق بالحزن والترمل، وشهد ورقة هذا المنظر المؤلم، وأدرك سره فتألم، ولم يجد من حقه أن يحاول تعزيتها بشيء من القول. فقد كان يعلم حق العلم أن هذا الحزن أبعد من أن تصل إلى الأذن فيه كلمة تعزية. بل كان يرى - وبحق ما يرى - أن كلمة التعزية التي يتعجل بها المجامل في مثل هذا الظرف أدعى إلى إيلام نفس المرجو عزاؤه، بل من شأنها أن تطلعه على خلو نفس المعزي من الحس أو صواب التقدير؛ لأنه لو كان صادق الحس لبكى معه، وندب معه. أما وهو يرى الأمر من الهوان بحيث يملك المعزي عقله ولسانه فيتكلم، ففيه الدليل على أنه غفل القلب أناني جامد الحس يبتغي أن يعود المحزون إلى سابق حالته التي كان للمعزي مصلحة فيها وفائدة. كان ورقة يعرف ذلك بفطرته المخلصة، ويدرك قدر ما تلقى هذه المرأة من الشقوة، ويعرف سر بكائها الآن، وتمثله لنفسه، فاغرورقت عيناه بالدموع أسفا لحالة صديقته الثاكلة الأيمة وحزنا عليها، وإذ نظرت إليه وهو يراقبها في حزنها وجواها ولا يتكلم إلا بهذه القطرات المترددة - أدركت قدر نبل الفتى وصدقه فرقأت عبراتها في تأملها جلال روحه، واستطاعت أن تنهض من مجلسها قائلة: هلم بنا. لقد وصلنا أيها الصديق الوفي. هلم نذهب إلى البيت الذي ولدت فيه لمياء، وكانت بذكر لمياء تحاول مخادعة نفسها، وتتظاهر بالتشجع؛ لكي لا تقصر في حقه عليها من مشاركته فيما لا بد أن يكون فكر فيه من أمر لمياء، ولكنه كان بصيرا بخلجات القلوب فلم يأبه لذلك، واستمر في العناية بصديقته الثاكلة. فقال وكأنما ذكر لمياء لم يوقظه: هلم يا سيدتي، ولكنك نسيت أن تأمري بإكرام غلمان السفينة. قالت: سأكرمهم في بيت أبي. مرهم يحملوا متاعنا. إن البيت قريب من هنا، والأمر لا يحتاج إلى عربة. قال: بل الخير أن يكون إكرامهم قبل أن نغادر السفينة. فابتسمت وقالت: إذن فأعطهم ما تشاء. قال: بل تأمرين يا سيدتي، فما ركبت قبل اليوم سفينة، ولا نقدت نوتيا في حياتي شيئا. فقالت: أعط كلا منهم إذن نصف دينار. ففعل ورقة كما أشارت، وتقبل النوتية عطاءها بفرط الشكر، وانصرفوا يحملون متاع ورقة القليل إلى الشاطئ في أثرهما، ولم تجد هيلانة بدا وقد أعد لهما حارس السفينة عربة إلا أن يركبا، ولاسيما لأن هيلانة لم تكن في ملبس يليق بكرامتها، وإن لم يعرف أحد من هي .
سارت بهما العربة شرقا في شارع كانوب الواسع العظيم مارة فوق أرض مرصوفة بالحجر اللامع بين صفين من القصور والمباني العظيمة ذات الأعمدة الإغريقية والقباب الشاهقة والحدائق تتخللها تماثيل العظماء الغابرين وأعيان الناس، وكان أبين تلك القصور قصر المحكمة تحرسه جنود من الروم والزنج في ملابسهم البهيجة.
ولشدة ما شده ورقة لما رأى وتعجب، ولكنه لم يكن في دهشته هذه أرعن فضاحا لعواطفه بما يبدي من القول والإشارة، بل كان على عادته متزنا ينظر ويتأمل، ويقارن ويعجب، ويتذكر باقوم وما كان يروي، ولعل أعظم ما لفت نظره في تلك الجولة أنه كان يرى الشارع الأعظم تقطعه دروب جانبية
22
كأنما خطت هي والشارع الأعظم يوم مهد على مثل رقعة الشطرنج الذي رأى أهل اليمن يتسلون بلعبه في مجالسهم، وكان في دكانة نعيم رقعة منه يقدمها لأصحابه الذين كانوا يأتون إليه؛ ليقضوا بعض الوقت في متجره. أدهشه النظام والعناية، وشعور حكام المدينة أن حياة المدن تتطلب حسن التدبير حتى تتوافر فيها السعادة والراحة، وكان في ذلك مقارنا بين الإسكندرية ويثرب ومكة بل وصنعاء، حيث الدروب رسوم أفاعي منسابة، أو مجازات للراجل ذات حفر ونقر، ولشد ما كان إعجابه عندما انعطفت بهما العرفة في حي رقودة حي المصريين والجند والأعراب
23
مارة في أسواق الخضر والفاكهة تتخللها دكاكين القصابين والجدالين باعة الدجاج والطير، والبدالين، مخترقة أحياء الصناعة والتجارة التي كانت تصدر إلى جميع بلاد الشرق القريب والحبشة وبلاد الروم والرومان: صناعة الثياب الكتانية والحريرية المزخرفة بالألوان، وبأسماط الذهب والفضة التي امتازت بها الإسكندرية أبد قرون، وصناعة البسط المصورة والأستار والنمارق، وأواني الزجاج المزخرف والملون، والخزف المتقن، والنجارة والحدادة، والنحت والحفر، وصياغة الذهب والفضة والنحاس، وتقليد الجواهر من الزجاج والبلور. كل ذلك كانت عامرة به أسواق رقودة. بعضها مما يصنع في ذلك الحي العظيم الذي يشغل نصف المدينة العامرة، وبعضه وارد إليه من بلاد القطر في شمالي مصر أو صعيدها، ومن ثم كانت الإسكندرية أعظم بلاد العالم وأغناها وأروعها. بل كانت المثل الأعلى في النظام والمدنية والحضارة.
23
لم يطل سير العربة بين ميناء الخليج والدرب الذي سمته هيلانة لسائقها، فقد كان في غربي السرابيوم بجوار كنيسة الأنجيلون على غير بعد كبير من الجسر، ولكنها اخترقت بهما حي رقودة، فكانت نظرات ورقة على جانبي الشوارع وتأمله ما فيها، وما تعرضه المتاجر من مبيعاتها كافيا؛ لتبصيره بما هنالك. على أنها ما انعطفت بهما في شارع الإنجيلون حتى قالت هيلانة: ها هو ذا بيت أبي، وأشارت إلى حديقة مسورة ذات أشجار مختلفة الطول تزين فيما بعدها صدر بيت ذي طبقتين، ضخم البناء على صغره، مزين النواصي بالنقوش والحلي، وبدرج من الرخام الأبيض يصعد عليه إلى باب جميل الصنع، كأنه بعض أبواب الكنائس إلا أنه صغير. هناك وقف السائق وترجل؛ ليقرع باب الحديقة، فقد كان على غير عادته مقفلا، وكان منظر كل شيء يدل على خلو المكان من الناس.
ولشد ما كانت دهشة هيلانة إذ لم يجب قرع الباب أحد فلا حارس البستان أجاب، ولا تنبه أحد من خدم البيت إلى القادمين. على أن الوقت كان بعد الظهر من كيهك أي في شتاء مصر الحقيقي، فلا حر ولا فتور حتى يكون الخدم نائمين، وفيما هي في حيرتها أقبل عليها بعض أهل الحي يخبرنها أن والدها سافر منذ شهرين إلى منف إجابة لدعوة جرجيس واليها؛ ليعوده في مرض انتابه، وأنه أرسل منذ أيام مجاوره بطرس البحريني فأخذ حملا من أضابيره ومجلداته وعاد إليه.
لم تجد هيلانة بدا بعد هذا من أن تقصد إلى القصر، فأمرت سائق العربة أن يذهب إلى البروكيوم وينزلها عند الباب الخلفي الجنوبي من القصر، فعادت بها العربة إلى شارع كانوب، وانحدرت بها إلى حي الإمارة، ومنه إلى القصر مشرفة في سيرها على البحر من وراء السور القائم على الشاطئ، ومسمعة ورقة هدير أمواجه وزمجرتها في مناطحة اليابسة وارتدادها عنه خائبة خاسرة، وهي مع ذلك لا تفقد الأمل في الغلبة فهي ترتد؛ لتجتمع بأتي من أخواتها وتعاود الكر عليه في أمل لا يفنى حتى تفنى اليابسة وتردها إلى القاع كما كانت.
لم يجد ورقة للبحر من شبيه في روعته وجلاله إلا ما رأى في بلاده من مهامه البيداء. هي بحر من رمال وهو صحراء من أمواه. ما إن يحاول الإنسان اكتناه ما وراء ملقى النظر حتى تحجبه عن العين قبة تنزل خاصة من السماء؛ لتحد بصره، وتقول له بلسان التعجيز: حسبك من أمر البحر ما ترى؛ سفائن كالبيوت المشيدة لن تكون أثبت من الخيام في الصحراء يعمرها من أهل البر عتاة يكونون من رهبة البحر كالحملان.
ثم دار بصره مع الأفق فإذا هو يرى جسر الهبتستاد الذي وصل به البطالسة بين أرض رقودة وجزيرة فاروس، ثم طرح البحر من سديمة على جانبيه فقسم الميناء جفنتين شرقية وغربية، وقامت المنارة على ناصية الجزيرة تهدي السفائن الحائرة إلى بر السلام.
هناك أمكنه أن يرى المنارة، إذ كانت العربة مجدة بهما نحو القصر ومنعطفة قليلا في مواجهتها. فإذا هي بناء عظيم جدا مؤلف من ثلاث طبقات؛ الأولى
24
مربعة، والثانية مسدسة، والثالثة أسطوانية، وكان بابها عاليا يصعد إليه بمدرج من السلالم من الجهة الجنوبية، وكانت جدران جميع الطبقات مخرمة بنوافذ للنور والهواء
24 - وبدا لعين ورقة أن في زوايا سطح الطبقتين الأولى والثانية تماثيل من النحاس الأصفر لمردة بحرية تزين هذه الأركان.
أما الطبقة الثالثة: فبعضها بناء أسطواني أقيمت عليه أعمدة علم ورقة أنها ثمانية جعلوا بينها المرايا الشهيرة والمصباح الكبير الذي يشعل ليل نهار؛ ليلقي من ضوئه على المرايا ما يرد على البحر فيهدي الطرف البعيد، وفوق الأعمدة قبة، وفوق القبة تمثال من البرونز.
وعلم ورقة من هيلانة أن في هذا البرج العظيم صهريجا عظيما مملوءا بالمياه العذبة للشرب، وفيه روافع يرفع بها الماء إلى الأدوار العليا والوقود للموقد أو المصباح الذي يواجه لهبه، وهناك مصعد للدواب من الطبقة الأولى إلى الطبقة الثانية إذا احتاجوا إلى إصعاد الوقود على ظهورها، وفي الطبقة الثالثة درج في داخل الجدار يصعد عليه إلى الموقد والمصباح، وأن سمك الجدار متران.
أما الوقود فكان من نوع الخشب المعروف بالشراق، وأما المرايا التي كانت تستعمل لعكس نور اللهب فكانت محدبة؛ ليكون ما تعكسه من الأضواء أبعد مدى.
الفصل الخامس والثلاثون
بطرس البحريني
لم تكن هيلانة تعرف بطرس البحريني الذي ذكره أهل الحي ونعتوه بأنه كاتب أبيها؛ لأنها سافرت من الإسكندرية - كما علمنا - قبل اتصاله به بسنوات.
ولكن هيلانة لم تهتم بخبر بطرس هذا؛ لأنها كانت تعلم أن أباها مقصد الطلاب والمتعلمين والنساخ والمطالعين، فهو إذن من هؤلاء، إلا أنه مقرب إلى أبيها، ولكن الحوذي رأى أن يسلي الراكبين بالحديث فذكر لهما أنه رأى بطرس وهو يحمل الصندوق الذي تكلم عنه الجار، على إحدى عجلات النقل عند مرفأ فيلاق، وأراد أن ينفث رأيه في بطرس، فروى لها أن الشرطة استرابوه، فأخرج لهم برهان أستاذه، فتركوه ينزل السفينة، ومع ذلك فقد كانوا يريدون حجزه انتقاما منه؛ لما كان يقع بينه وبينهم من المشاحنات التي كان يبلغ فيها صوت الجدل أجواز الفضاء، ويجمع عليهم الناس؛ ليعرض عليهم حكايته فيما لا يترك للناس مجالا لسماع قصة الجندي، وإبداء سبب القبض عليه. كان في كل مرة يقول للناس: إن هذا الجندي الرومي يضطهدني؛ لأني يعقوبي ومصري، لا لأني أجرمت أو أسأت إلى أحد. فإن كان يرضيكم أن أظلم فأحبس؛ لأني لست على دينه فأمري للرب ينصفني، ولكن لا تستنصروا بعد هذا بإخوانكم يوم يسيئون إليكم؛ لأنكم مصريون ويعاقبة. بهذا وبمثله كان الشرطي الرومي يتركه بالرضا أو بالكره، وكم مرة نشبت موقعة بينه وبين الشرطة فضربهم وضربوه، وحبسوه، وكان سيدي قوزمان يخرجه بأمر المقوقس حتى أصبح الشرطة يهابونه، وأصبح يسير في رقودة كأنه الثور المقدس.
جاء بطرس البحريني من جزيرة منوف، على أثر ما أنزل بونوسوس سنة 610 بمطرانها وقساوستها من الويل. فقد كان الفتى تلميذا أو شماسا في الكنيسة التي قتل المطران في رحابها، وخشي أن يلحقه السيف هو أيضا ففر إلى دير في وادي النطرون. حتى إذا اطمأن باله بجلاء بونوسوس عن الديار - خرج من مخبئه فارا إلى الإسكندرية، حيث الحياة أقرب إلى مطاليب الشباب، وكان قد تعلم في الدير صناعة النسخ والتذهيب وتزيين الكتب، فعول على أن يرتزق من صناعة النسخ في الإسكندرية مدينة الكنائس والأديار، وأخبار القديسين ومعجزاتهم، وما بقي من علوم اليونان في الكتب، وقد وفق الفتى في عمله الجديد توفقا ملأ قلبه أملا وحياة، وأنعشه إنعاشا مضاعفا، وقد أغرم بالطب على أثر اتصاله بالعالم قوزمان فيما كان يعهد إليه به من النسخ، لاعتقاده أن الطب أعود عليه بالكسب؛ لأن في العلم به ما يشبع نفسه التواقة إلى التمكن من الناس؛ فالطب فيه شفاء، وفيه قتل، وفيه امتلاك لقوة الكيمياء وتمكن من حيل الطبيعة، وفيه خفاء وفيه حماية، ولذلك أقبل يلتهم ما كان في مكتبة الأستاذ الكبير؛ ليشبع هذه الخلة من ناحية، ولينسخ ما يرى في نسخه وبيعه مغنما كبيرا.
كان الفتى ضليعا شديد النشاط قوي الذكاء. له رأي في كل شيء عن وثوق بعلمه أو بحدسه، ولذلك كان شديد الاستهزاء بالناس إذا خالفوه. فإذا اشتد أحدهم معه فالويل كل له من لسانه البذيء، ومن ثم كان لا يستطيب مجلسه أحد، ولا يطيل الحديث معه إلا أمثاله في خلقه من الحمالين، وعمال الأسواق، ومع ذلك فقد كان عريض الدعوى، يقول: إن أباه كان من أهل الثراء في منوف، وإن له أملاكا ورثها عنه في جزيرة أبشادي، وأنه إنما جاء إلى الإسكندرية ليتعلم الطب، وكان ما يكسبه من النسخ وتزيين الكتب والنقش المموه بالذهب معينا له على هذه الدعوى الكاذبة. فهو لم يكن إلا ابن خادم من خدام الكنيسة في منوف فلما مات أبوه ضمه المطران إلى الكنيسة، وهناك تعلم القراءة والكتابة، وطمع أن يكون شماسا، لولا ما جرى من قتل المطران وهروبه به هو إلى الدير.
على أنه كان فوق هذا كثير الارتياد لأماكن اللهو السافل في الإسكندرية، يتظاهر فيها بالثراء فيما كان ينفق في الخمر وفي الميسر حين أنه كان في الواقع ينفق مما يبتزه ابتزازا من خليلة كانت له في بعض المواخير، وإذا كان العالم من أخيار الناس بعيدا عن أن يتسمع أو يسمح لأحد بالوشاية فيه، بل ولا أن يصدق ما كان يرويه له ضباط الشرطة من سيئاته؛ لأنه كان يراه هادئ الطبع مكبا على العمل لا يتكلم معه إلا بصوت خافت، ولا إن حادثه؛ لينظر إليه معاينة - فقد احتضنه، وعمل بطرس من ناحيته على دوام هذه الثقة؛ لينتفع بجواره، ونسخ ما لديه من نفائس التأليف فكان يسعى في خدمته، ويرعى مصلحته.
وإذ كان الأستاذ مترملا من زمن بعيد، ثم زادت وحشته بعد سفر الحارث بهرميون ولمياء فقد خطر له أن يستأنس بالمجاور في داره فعرض عليه أن يخصص له في جانب البستان غرفة مما ألحق بمكتبته ينزل فيها ويقيم، وأن يكون أمين مكتبته بأجر مقدر فتفضل بطرس بالقبول! ولكنه التمس، أو بالأحرى اشترط، أن يسمح له بارتياد كنائس الرب؛ لكي لا ينقطع عن موارد الهدى والتقى! ومن ثم أصبح من قوزمان بمثابة «سكرتيره» الخاص، إلا أنه كان قد اقتطع لنفسه كل ما يحتاج إليه من الزمن لارتياد مباءات الخنى لا لالتماس موارد الهدى.
الفصل السادس والثلاثون
حارس الأمير
كان للقائد تيودور شقيق نيقتاس أمير الديار المصرية من قبل هرقل جانب من القصر الكبير في الإسكندرية يشغله من يوم أن فتحها أخوه في سنة 610 ولكنه كان على اتصاله بالقصر مستقلا عنه، وكان له باب كبير لم يفتح منذ سافر تيودور على رأس الجيش الذي أرسله نيقتاس مددا لجيوش هرقل في الشام، وآخر صغير في خلفه يحرسه جندي مسن اسمه لوكاس كان في خدمة القصر منذ كان يسكنه والي مصر تيودور بن ميناس في عهد الإمبراطور موريقوس المقتول حتى أصبح الباب يعرف بسم الحارس نفسه، فيقال: باب لوكاس، لا القصر الصغير ولا منزل تيودور، وإنما بقي لوكاس هناك حتى في أيام فوقاس رعيا من الوالي لرجل خدم القصر مدة طويلة بأمانة وإخلاص، ولما جاء نيقتاس أقره من جديد في عمله بعد ما كبر وشاخ، ولكنه أمر أن يعزز بواحد من حرس القصر، وسمح للوكاس أن يقيم في الغرف المجاورة للباب بعد وفاة زوجته وقتل أولاده في الحروب والثورات، وإن كان قد بقي له حفدة كانوا يزورونه من آن لآن.
بلغت العربة بهيلانة وورقة عند هذا الباب فترجلت وترجل، وكان لوكاس جالسا على كرسي هناك يحادث حفيدا جاءه زائرا على العادة فمستنزفا ما يكون معه من النقود؛ لأنه كان من الممثلين الذين يعملون في دار التمثيل، وهي إذ ذاك معطلة بسبب الحرب وأخبارها السيئة، وركود الحياة في المدينة، وكان الجد يحبه؛ لظرفه ومبالغة الفتى في رعايته وتعمد تألفه، ولذلك كان في ذلك الوقت يعطيه معه؛ ليسعده جزاء إسعاده وزيارته إياه، ولذلك لم يلتفت إلى العربة ولا إلى من نزل منها، حتى إنه لما لفت إليها استمر ينظر إليهما، وإلى ملابسهما الغريبة وهو على حاله من انشغال القلب بحفيده المحبوب فلم يتبين هيلانة، ولم يعرفها حتى نادته باسمه فتنبه، ولكنه مع ذلك استمر جالسا، وقال: كأني بمولاتي هيلانة تناديني! قالت: نعم يا لوكاس، قال وقد نهض: يا رحمة الله! أنت هنا! قالت: نعم. قال: معذرة إليك يا مولاتي ما ترقبت حضورك، والواقع أنه كان قد سمع بقتل زوجها وبلغه مقتلها هي وولدها، ولكنه لم يشأ أن يثير هذه الذكرى المؤلمة ساعة اللقاء فتظاهر بجهله، وعمل على مداراة عواطفه التي ثارت لدن رؤية سيدته، وقال لحفيده: اذهب يا أنطونيوس ونبه الخصي الذي في خدمة القهرمانة إلى مقدم مولاتك فانصرف أنطونيوس مسرعا، ونهض لوكاس إلى سيدته يدلف نحوها متجلدا، ويقول: مرحبا بسيدتي، ولكن ما هذه الثياب التي أنت فيها؟ قالت مجارية الرجل في مظاهره: ثياب الصحراء! تركت كل متاعي من الدنيا في بيت القدس، وجئت فارة بنفسي من القتل في حماية هذا السيد العربي إنه يعرف الرومية كأهلها. فحياه لوكاس بإكرام، ورد ورقة التحية بمثلها، وقالت هيلانة: أنزله عندك أكرم مكان، واجعله في رفقته أحد أولادك. أليس هذا أنطونيوس حفيدك؟ قال: بلى يا سيدتي. قالت: لقد كبر! ليكن في رفقة السيد ورقة يريه المدينة ويعنى به. قال: سيكون كولدي يا سيدتي . مرحبا بك في دارك.
أدركت هيلانة من دموع تترقرق في عيني الرجل أنه عالم بما وقع لها، وأدركت كذلك سر سكوته عن السؤال عن زوجها وابنها، واقتضابه القول في الحديث معها، وكانت هي تتجلد كذلك تفاديا من موقف لا يجمل بها، فأمعنت في الاهتمام بشأن صديقها، والتفتت إلى الحوذي وهو حامل جوالقه، وأفسحت له الطريق ليدخل، وأشارت له بذلك، وتقدمه لوكاس فدخلت وراءهما؛ لتطمئن على منزل ورقة، وأشارت إليه ليدخل معها، وإذ رأت غرفة مفروشة وسريرا ومقعدا واستحبتها قالت: لا بأس بهذه الغرفة مؤقتا. ثم سألت الحارس عن رفيقه في الحراسة فقال: إن أهل القصر لم يعودوا يستطيعون تعزيزه بآخر كعهدهم قبل سفرها؛ لشدة الحاجة إلى الجند في الشام. قالت: لتكن هذه الغرفة غرفة السيد ورقة حتى حين.
وكان أنطونيوس قد عاد يخبر جده بأنه فعل كما أراد. فقالت هيلانة: فلنصعد إذن. ثم التفتت إلى أنطونيوس وقالت وهي تحاول كتمان عواطف قلبها المحترق: لقد كبرت يا أنطونيوس وصرت رجلا هماما كجدك كيف حالك؟ فانحنى أنطونيوس وقبل يدها وشكرها، والتفتت إلى ورقة تودعه وبها من الشعور المتضارب ما لا يستطاع تحليله، ولكنها كان على فرط ما يلذع قلبها من لهب الوجد والحسرة؛ لعودتها إلى دار لا تجد فيها من كانت الدار به جنة ودارا، تستشعر نوعا من الفجيعة؛ لاضطرارها إلى ترك ورقة الذي أصبحت ترى أن مرآه، وحديثها معه، واجتماعها به - هو الخيط الذي يربطها بالدنيا، ولذلك كانت عندما همت بالصعود إلى غرفتها يتقدمها الحارس لوكاس الشيخ، كأنما هي تقاد بالرغم منها إلى حكم ينفذ عليها، وبودها لو بقيت مع ورقة عند الحارس، أو أنها أصعدته معها، ولكن هذه الأمنية الأخيرة كانت أبعد الأمنيتين عن نفسها، لا لأنها لا تملك ذلك أو أنه لا يليق بها، بل لأنها تكره أن يكون وعاء ما تستشعره لورقة من العواطف المبهمة - هذه الغرف. عواطفها كانت تجنح إلى جو من الصحراء والوحدة والجبال، والشدة والمغارات؛ لتنعم بعطف هذا الفتى الذي لم تجد له شبيها فيمن رأت من الناس أو سمعت أو وهمت، وهي تصعد الآن باختيارها لتحبس وتدفن، وتحرم نور الشمس التي كانت تغمرها من ورقة بأشعتها المدفئة المسعدة: أستودعك الله يا ورقة إلى حين قريب جدا، ولكن حياة القصور غير حياة الصحاري، ومع ذلك فلن يطول فراقنا، ولا احتجابي عنك ولا مكثك هنا، ولكن قبل أن أصعد إلى غرفتي التي ما جئتها إلا لأسارع إلى أمر انتويته، وإلا لكسرت الأبواب ودخلت بيت أبي، أرجو أن تتقبل شكري. قال ورقة: سيدتي! إنك لتؤلمينني بهذا المقال. قالت: لن أطيل الكلام في هذا. لست مدينة لك بحياتي التي عملت على إنقاذها فهي أبخس شيء عندي، بل أنا مدينة لك بما لا أعرف ما هو، ولكني أعرف من أثره أني لا أطيق الغيبة عنك، أشعر أنك أصبحت لي في شقوتي التي تعرف كالنسيم للصدر، وكالنور للعين. أستودعك الله إلى لقاء قريب.
بكى الحارس عند ذلك بكاء غمر وجهه ولحيته، ولكنه لم يفصح عن حزنه؛ لكيلا يفجر في قلب سيدته مرجل حزنها الذي كان باديا له من وراء حديثها، ولذلك تقدمها في سكوت، وصعد درج السلم معها إلى مستقر عزها الراحل، وشقائها المقيم. •••
لا نطيل فيما لقيت هيلانة من الوجد في دارها، ولا كيف لقيت من جئنها من نساء القصر للتعزية، ولا ما حدث حين وقف الأمير الخير نيقتاس يذكر سماحة أخيه، وما يلقى من الفجيعة فيه، وكيف أنه بالغ في إكرامها كما بالغ في عتابها على ما أبدت من الرغبة في الانتقال إلى بيت أبيها، ولا أنه أمر القهرمانة بإعداد بطانة لها من خير جواريها فهذا ما جرى.
ولشد ما كان إعجاب الأمير بورقة ونبله؛ إذ كانت تروي هيلانة له قصته معها حين كان يغسل جرحها وينزع عنها ملابسها، وأكبره الإكبار كله حينما روت له ما كان منه في الغار، ورده الخاتم، واحتفاظه بتنكرها حتى بعد أن لم يعد في الكتمان من مصلحة، وكيف كان يبيت في مواهن الليل في الصحراء يقظا؛ ليحرسها من أذى أشرار القافلة، ولا ينام إلا وهو سائر بها في الضحى أو في المقيل، وذكرت له من أخباره ما علمت من سبب هجرته من مكة ويثرب، وما كان يبدو منه في معاملته لصوص القافلة من الحزم والشدة التي تبينوها منه فهابوه، وهو فتى لا تزيد سنه عن الثانية والعشرين.
وكان نيقتاس في أيامه الأخيرة قد بدأ يشعر أن هناك ازورارا عنه من الناس، كأنما أوجسوا أن الدنيا توشك أن ينقلب حالها، فلم يعودوا في حاجة إلى دوام التظاهر بالولاء له، وكان قد علم بأن الفرس أعدوا عدتهم لغزو مصر
1
ولا بد أن تتجه نفوس اللؤماء إلى التقرب إلى الغزاة، ويفكر بعضهم في أن يعجل لهم برهان ولائه، ولا غرو أن يعملوا على أذاه كما عملوا مع كل من تقدموه من الولاة؛ إذ كانوا يأتمرون بالحكام ليقدموا رقابهم إلى الأعداء عربونا على الطاعة والولاء، وزاده شعورا بذلك ما رآه في المدينة من قيام الثورات في حي اليهود في الشرق، وفي حي رقودة المصري الصراح على من بقي من جند الروم في الإسكندرية بل وعلى كل رومي تسلفا لليوم الذي لا يرون فيه ظلا لمذهب الروم. فما إن ذكرت هيلانة له ما ذكرت عن ورقة حتى خطر له أن يجعله حارسه الخاص، وعززه في هذه الرغبة أن ورقة غريب عن الجانبين المصري والرومي. نعم إن المصريين كلهم عرب قدامى جاءوا في إثر عرب أقدم، ولكن الدين قطع صلتهم بأرومتهم حتى جهلوها، فلا ضير إذن من استخلاصه لنفسه، ولذلك أعلن هيلانة برغبته في رؤيته. فلما جاء رأى فتى أقل مظاهره ما ذكرت هيلانة، بل بدا لعينه منه صورة الفتى المقدوني الذي أعطاهم ملك مصر، إلا أنه في ثياب عربية، فتلقاه الأمير بتحية خالصة أملاها عليه إعجابه بالفتى؛ إذ وقف أمامه يحادثه بكلام متزن، ووقار ليس فيه أثر من آثار الادعاء أو الغرور، أو الجهل بالفروق، أو الشعور بما كان له من الفضل، ولا فيه مظهر من مظاهر الرهبة التي تعتري صغار الناس لدن لقاء الأمراء، وإن يكن يلقى الآن أميرا يملك مصر، وتدين له الدنيا من ربوع الشام إلى برقة إلى بلاد النوبة، فهو أعز من كل ملك، وأدعى أن تهتز النفس بحضرته، وحادثة نيقتاس يقول له: علمت يا فتى بما كان منك من البر بالأميرة والعناية بها، فلا أملك لقاء هذا إلا شكرك. قال شكرا للأمير، إن من نعم الله على الإنسان أن يمكنه من أداء حق الناس عليه. قال الأمير: وهل كان للأميرة عليك حق في شيء؟ قال: إن للناس في مروءة الناس حقا مشاعا من يقصر عن أدائه وهو قادر عليه سقطت مروءته وهزل. قال الأمير: ولكن من المجزي عن التقصير؟ قال: الله. قال الأمير: في الآخرة. قال ورقة: في الدنيا قبل الآخرة قال: كيف ذلك؟ قال: تتضع نفسه لدن كل حادثة قدرا، حتى إذا تلفت يرى نفسه لم يجد شيئا. جزاء الإنسان من مروءته النبل، ومن كان للناس، غير مسئول ولا متدخل فقد بلغ غاية المجد وإن لم يكن أميرا. قال الأمير: ولكن هذا قد يقتضيه دمه وحياته. قال: من يمت في مكرمة فقد عاش.
لم يملك الأمير من إعجابه بورقة وفرحه بأن يجد فيه أمنية نفسه إلا أن يلتفت إلى هيلانة، وكانت إذ ذاك تلتمع عينيها ببريق الزهو بصاحبها، والإعجاب كذلك به، ويقول لها: أتقولين إنه فتى كريم! ما أعجزك يا أختي عن تقدير الرجال! إنه للفتى النبيل. قال ورقة: شكرا للأمير وحمدا لله على حسن ظنه بي. قال: إن شئت فإني جاعلك حارسي ورفيقي. قال ورقة: هذا بعض برك أيها الأمير، أرجو أن أحسن اقتباله، وأجزيك عنه بمثله. قال الأمير: أنت اليوم في خاصتي برتبة أمير مائة، وسيكون لك في مرقدي من القصر مرقب مهيأ. إني في حاجة إلى بطل نبيل مثلك، ولكي تبدأ حياتك في القصر كرصفائك سآمر لك بمائتي هرقلي لا ردا لما أنفقت، فإني لا أريد أن أفسد مروءتك، بل تحقيقا لما قصدت، وسيجيئك الآن خائط القصر وخازن سلاحه؛ ليعدا لك ما يحتاج إليه شأنك في خدمتي من اللباس والسلاح، وأنت أيتها الأخت هيلانة، أكرمي فتاي فلم يعد فتاك، حتى تعد له غرفة بجواري. قالت: شكرا لأخي، حمدا لله. هذا ما أملته من فضلك لمن غمرني فضله، وسيرى الأمير من أمره أكثر مما رأى. قال نرجو الله أن يوفقه إلى الخير، والآن أستودعك الله يا أختاه إلى لقاء قريب، ثم التفت إلى ورقة فرأى في عينيه مقالة يريد أن يزجيها فقال له: هل من شيء تريد قوله يا ورقة؟ قال: رجاء يا مولاي الأمير. قال: ما هذا؟ قال: أن أتقلد سيفي العربي الذي صحبني منذ عركت مقابض السيوف، ففيه سر النصر، وأن أحتمل قوسي التي وهبني الله إياها إثر ما أنقذت الدنيا من شرور قرضاب، ولي فيها ذكريات أخرى. قال: لا بأس بما ترى، بل لعمري إن فيهما لعلما على فتاي النبيل، هل لك من أمنية أخرى؟ قال اثنتين ما أهونهما: ألا يؤبى علي زيارة مولاتي هيلانة؛ لأنها صلتي بالصحراء التي أستمد منها الحياة والسعادة، وذكرى الأهل والأحباب. قال الأمير: وهذا لك يا ورقة، بل هذا خير لنا وأعود بالخير، فما الثانية؟ قال: الثانية ألا تحملني على مشاركتك إذ أنا من جندك، في حضور صلاتكم في الكنائس؛ لأني أومن بغير دينها، وإن أكن أومن بالمسيح
صلى الله عليه وسلم
وبأمه مريم العذراء البتول. إني مسلم يا سيدي، أومن بواحد أحد لا شريك له. قال: هنيئا لك دينك ولي. ثم ضحك، وقال: لا أريد أن يشتغل حارسي وقت صلاتي في الناس بصلاة. أليس كذلك يا هيلانة؟ قالت: بلى وربي. أنت على حق. قال الأمير: هل من أمنية أخرى يا ورقة؟ قل فهذا وقت لا أملك فيه رد سؤال. فضحكت هيلانة ضحكة كريمة وقالت: ما أشد شكري للأمير، ولكني لا أظن أن قد بقي لديه شيء. قال الأمير: إذن فعلى هذا، ثم انصرف مودعا من هيلانة بأكرم مجالي الشكر والامتنان، وعادت إلى ورقة تهنئه وتشكره على تقاضيه من الأمير حق زيارتها، وكادت لفرحتها تتناول الفتى تقبله، ولكنها تنبهت فانحدرت إلى مجلسها، وفي فمها بقية من كلماتها التي كانت تسير بها عائدة من حيث ودعت نيقتاس.
الفصل السابع والثلاثون
هرميون ولمياء
أين هما؟ ماذا جرى لهما في الطريق؟ وماذا فعل الحارث إثر ما وصل إليه من القول المر في بطاقة امرأته؟ أما أين هما، فهما في منف
1
في قصر حاكم مصر عند نيفرت أخت قوزمان زوجة الحاكم. رأت هرميون وهي سائرة في سفينتها من قفط أن تنزل بمنف؛ لزيارة عمتها وقضاء بعض الوقت معها، ثم تستأنف الرحلة إلى دار أبيها في الإسكنردية، ولكنها وجدت زوج عمتها مريضا واشتدت علته، فلم تستطع أن تفارق عمتها، ولم تجد كبير داع إلى التعجيل، فكتبت إلى والدها تنبئه بعودتها من مكة، وأنها اضطرت إلى البقاء مع عمتها؛ لتعينها على شئون التمريض، وأشارت عليه أن يعجل بحضوره؛ لتطبيب زوج أخته، فجاء قوزمان، وأخذ يعالجه حتى نجا من مرضه، وكان الشتاء على الأبواب، وأخته راغبة في بقائه لديها حتى ينتهي البرد، فرجت منه أن يقضي الشتاء في جو منف الدافئ، ولم يجد في ذلك بأسا فبقي، وأرسل مجاوره بطرس البحريني في طلب بعض كتبه؛ ليعيش في جوه الذي يستمد منه الحياة والرغد.
أما الحارث المسكين فلازمته العلة مدة ما، فلما أبل انقطع عن لقاء النضر، وإذ لقيه هذا لم يقع له لسان على لسان، وكان النضر يعلم أن أباه يتهمه بأنه سبب ما وقع كله، وأنه قطع بينه وبين أحبابه جميعا، وأسلمه إلى الوحدة والشقوة والآلام، فعمل من ناحيته على ألا يلقى أباه، وكان يقضي يومه بين شياطينه أعداء رسول الله؛ ليدبروا للمسلمين كيدا بعد كيد، وأخيرا رأى الحارث أن بقاءه في مكة مضن له، فأرسل غلامه زيادا؛ ليعد له مسكنا في جدة، وانتقل إليها بما بقي له من الدنيا: كتبه وأضابيره، وأخذ يشتغل بوضع كتاب عن العلل ودوائها، وقلما كان يخرج من داره إلا للاستراضة أو لرد زيارة؛ على أنه كان كلما ذهب إلى شاطئ البحر ورأى الماء يخط أمامه من الجنوب إلى الشمال طريقا واسعا ، ويرى السفن قادمة من مصر أو ذاهبة إليها - حدثته النفس أن يستقل إحداها على الفور إلى برنيس
2
أو عيذاب؛ ليلحق بامرأته وابنته في الإسكندرية لينعم بجوارهما حيا وميتا، ولكن عزة نفسه كانت تتغلب على هواه فيدير ظهره إلى البحر؛ لكيلا تستمر السفن في إغوائه، ويعود إلى بيته حزينا يردد زفرات الهم والأسى على أنه كان كثيرا ما يسائل نفسه كيف تعود هرميون باختيارها إلى الإسكندرية بلد الثورات والمذابح والحصار والنار، وهي تعلم أن الفرس قد يجيئون مصر، وأنهم لا يرحمون صغيرا، ولا يرعون امرأة ولا شيخا؟ بل كيف تجرؤ هرميون أن تركب البحر وتخترق الصحراء بابنتها، والبحر محفوف بالمكاره، والصحراء غاصة بالأشرار؟ ولم يكن الحارث ليجد في قلبه بالرغم مما أودعت خطابها إليه عن المعاذير، أثارة من عفو؛ لأنه كان يرى في عملها هذا الجريء تعريضا بكرامتها وشرفها وحياتها هي وابنته، ولكم مرة هم أن يدعو عليها بما فعلت، ولكنه لم يكن يجد على لسانه قولا ولا في فؤاده معنى؛ لأنه كان في قرارة عقله يجد أنها صدرت في ذلك عن يأس وإيثار منها لشر أهون من شر، ولذلك كان يعود إلى داره وقلبه محزون، ولسانه يتمتم بألفاظ يدعو بها على النضر لا عليها، ثم يتمثل لمياء بهجة قلبه التي كانت تقبله كل صباح ويقبلها، ويشم في جوارها عبق السعادة، فيحن إليها حنينا يقض مضجعه، ولا يجد له تنفيسا إلا بلومها على مطاوعتها أمها في الفرار بها، وعد ذلك عقوقا له. ثم يتبين حقيقة حالها فيقصر، وهكذا كان يقضي أوقات خلوته في ذلك يغالب نفسه جاءته رسالة من هرميون احتال أهل القصر في منف على إيصالها إليه. ذلك أنهم أرسلوها إلى حاكم عيذاب مع أحد رجالهم الكثيرين الذين يسيرون في أعمال الحكومة بين مصر وعيذاب، وهناك تولى حاكم المرفأ إرسال الرسالة مع أحد أرباب السفن الماخرة بخيرات مصر ومصنوعاتها إلى مواني الحجاز والحبشة واليمن، وكلفه أن يتدبر في إرسالها إلى الحارث بن كلدة في مكة. فلما وصل الربان إلى جدة ، وأخذ يبحث عن راحل إلى مكة؛ ليسلم الحارث الرسالة - علم أنه مقيم في جده، فذهب بنفسه إليه وأسلمه إياها بيده.
كانت الرسالة طيبة العبارة في مطلعها، ضمنتها هرميون أشواقها والمحبة منها ومن لمياء، والاعتذار إليه مما فعلت، وأنها لم تلق في الطريق إلا الإكرام، وأن الدنيا في مصر هادئة، ودعته إليها، وكانت الرسالة طويلة فكان سرور قلبه بتلاوة صدورها ظاهرا على وجهه، ولكنه ما توسطها حتى اربد وجهه، وبدا على فمه الهلع؛ لأن هرميون تخبره خبرا لم يرتح إليه ذلك أن عمتها خطبت لمياء لابنها الأصغر دميان أحد ضباط حصن بابليون، نعم إنه يعقوبي وهي رومية، ولكنها ستجري مراسم الزواج كما جرت في زواج عمتها من الحاكم. فقد كانت رومية المذهب وهو يعقوبي، ولكن أهل الكنيسة لم يعجزوا عن التوفيق وتحقيق القصد، ولاسيما لأن فيه اكتسابا للمذهب، وأضافت إلى ذلك أنها مع ذلك أرجأت تنفيذ رغبة عمتها حتى يرد منه جواب الرضا. نعم إنها تملك تزويجها بغير استشارته الاضطراب والعراك، حتى إذا انقضى عليه ثلاثة أشهر في جده، وهو عملا بما اتفقا عليه منذ مولدها، ولكنها لم تجد أن تغمط حق الأبوة في زواج ابنتها كما أنكر حق الأمومة حين ود ولده أن ينزلها منزلة العجماوات بتزويجها من ذلك المكي المتبربر الذي شاء أن يجعلها إحدى زوجاته.
دارت الأرض بالحارث دورتها لدن هذا النبأ؛ لأنه أوضح له سوء حاله إيضاحا جمع عليه كل هم. رأى أنه مقطوع عن دنياه وعن ولده وزوجه، وأنه قد أصبح يقضي في أموره كأنه من سقط الأشياء. نعم، إنها تستشيره، وتعلق تحقيق رجاء العمة على قبوله، ولكنه شعر أن الأمر مجاملة واستشارة لا تعليق صحيح، وأنها لن تتردد في زف ابنتها إلى قريبها حتى ولو رفض، وشعر أنه أصبح محروما حتى من أن يحسن إلى ابنته. نعم، إن له أملاكا في الإسكندرية ومريوط بعضها مما أقطعه إياه الوالي تيودور بن ميناس حاكم الإسكندرية جزاء أن شفاه من علته التي أعجزت فطاحل أطباء الروم في الإسكندرية الأسبق، وكان إقطاعه إياها تدبيرا منه؛ لإبقائه في مصر، وحقا إنه كان له في ذمة دير الهانطون
3
أموال أقرضهم إياها عندما احتاجوا إلى المال؛ لترميمه إثر ما أنزل به بونوسوس ذات مرة من الهدم والتدمير، وأنهم لهذا قد نزلوا له عن قطعة من السوق بجوار كنيسة الإنجيلون اليعقوبية يستغل إيرادها لنفسه، وإن كان قوزمان وكيله عليها وعلى غيرها بل وكيل ابنته؛ لأنهم اشترطوا عند تزويجه من هرميون أن يكون ريع أملاكه في بلاد مصر وقفا عليها وعلى أولاده منها في غيبته أو وفاته، ولكن بر الوالد وعطفه ونظرة الحب منه كانت في نظره البر والإكرام، لا بر مثله ولا كرام سواه.
على أنه ما كان يستحب السيد دميان زوجا لابنته لمياء؛ لأنه رآه في الإسكندرية في بعض زياراته لخاله قوزمان فلم يعجبه حاله، وعرف من بطرس البحريني التقي الورع، المكتب على الدرس والنسخ والعلم شيئا عاما من تصرفاته لم تكن مما يشرف فتى نبيلا؛ رآه في ذلك الأيام مغرى بالخمر مولعا بما لا يولع به إلا السفهاء من حب الميسر والمراهنة، وإدمان حضوره ليالي التمثيل ودور الملاهي والمراقص، وكان لا يتورع أن يقيم الولائم في غياض مريوط للفسقة والجواري والراقصات حتى لقد تغيب عن المنزل ثلاث ليال قضاها على تلك الحال في بعض خبايا أصحابه في الإسكندرية، وأشفقوا أن يقضي نحبه بينهم فحملوه إلى بيت خاله وهو على شفا جرف الموت تسمما بما شرب وتهدما من أثر ما بغى، وعجب لامرأته الرشيدة كيف ترضى لابنتها المطهرة بعلا كهذا، ولو كان ابن عمتها وابن حاكم مصر! ولذلك تناول رقعة فكتب عليها رسالة الرفض والتأنيب لامرأته وهو على أشد ما يكون الوالد من الألم والحسرة والحزن على ابنته. فما أن خط فيها بضعة أسطر حتى شعر بانقطاع قدرته على الاسترسال في الكتابة، فترك الرقعة بجواره وأخذ يفكر، وتغلب على نفسه، واعتزم أن يسافر إلى منف ويعمل بنفسه على إحباط الزواج، ولكنه كان قد ركبه مرض شديد ألزمه الفراش فلما عاد صاحب السفينة ، حين انتوى العودة إلى مصر؛ ليأخذ منه رد الرسالة، وجده محموما لا يعي، ووجد عنده رجالا كثيرين لم يعرف أن منهم ولده النضر، ووجد كذلك بعض النسوة من أهله، فأدرك أن الأمر خطير، ولما لقيه النضر لم يدله على مكانه من الحارث، وإنما اكتفى بأن قال له: ها أنت ذا ترى الحارث مريضا بحمى الدماغ، فهو لا يعي الآن حديثا، ولعل رسالتك سبب ما هو فيه فعد إلى من أرسلك بما ترى. هذا أوضح جواب على أني وجدت حين دعيت إليه رقعة كان يكتبها فيما أظن لامرأته يؤنبها فيها على شيء لم تدل عليه الأسطر القليلة التي استطاع أن يكتبها قبل أن يغشى عليه، فهو يؤنبها ويسفه عملها بل أرى أنه يلعنها إذا هي نفذت عزمها، وفي اعتقادي أن الزوج لا يلعن زوجته إلا إذا كانت قد أساءت إليه إساءة لا تحتمل عفوا، أو يكون قد جن بفعلها، وكلا الأمرين عصيب. فخذ هذه الرسالة المقتضبة معك فهي كل إرادة الرجل فيما أظن. قال الرسول: ألم تطلع أنت يا سيد على الرسالة التي جئت بها إليه؟ قال النضر - وإن كان قد اطلع عليها فعلا وعرف ما فيها -: لا. ليس من حق طبيب مثلي غريب عنه أن يفتش، وإنما وجدت هذه الرقعة التي أعطيتك إياها بجوار فراشه. قال الرسول: أظن أنه زواج إحدى بناته من دميان ابن حاكم منف. هكذا خبرني الغلام الذي جاء بالرسالة إلى عيذاب. أهو صهر العالم قوزمان يا سيد؟ قال: نعم. قال: علمت من رسول القيصر أن قوزمان غير مرتاح إلى هذا الزواج؛ لأن هذا الفتى من فساق منف المشهورين قال النضر: قد يكون ذلك، فقد سمعت الحارث يهذي في بحران حماه شاتما دميان هذا، ولاعنا امرأته أيضا. قال الرسول: سأكتب رسالة بما رأيت وسمعت منك، وأضع معها هذه الرقعة، وأرسل الاثنتين في لفة واحدة إلى قوزمان؛ لتقع في آمن يد. فهو في منف كما علمت من غلام القصر؛ ليداوي سيده. قال: تحسن صنعا.
نهض النضر إذ نهض الرسول للخروج من البيت، واستمر في تنكره المقصود يقول: إن لهذا الرجل العظيم ولدا طبيبا في مكة سأرسل في طلبه؛ لأني لا أريد أن أتحمل التبعة وحدي في مرضه. قال الرسول: تحسن صنعا أيها السيد. إني أراه في شدة، وانصرف الرسول على هذا، وعلى أن محدثه من أطباء مكة، لا أنه النضر عدو هرميون العامل على أذاها وإن كان الخير فيما دبر الآن. على أن كل قصده إنما كان أن يؤلمها، ويقاوم مشيئتها حسنة كانت أو سيئة.
الفصل الثامن والثلاثون
ترهب القلب
أبل حاكم منف، وتهيأت النفوس لإتمام الزواج بالرغم من أن هرميون كانت تستمهل عمتها حتى يجيء جواب الحارث، وترى رضاه ضروريا، وبالرغم من أن لمياء آذنت أمها أنها لا تجد في نفسها ارتياحا إلى الزواج من ابن عمتها هذا، وإن لم تستطع أن تبدي سببا لهذه الكراهية تقتنع بها أمها، وخيل إلى أمها في ذلك الوقت أنه نشور هواها الدفين، أو هو ما بقي من أثر مقارنة كمال خلق ورقة وأدبه إلى جراءة دميان وصلفه. نعم، إنها لم تر من لمياء هياما بورقة، ولكنها كانت تشعر أن تعلقها به ليس إلا عرضا من أعراض حب قد لا تكون تعرف يومئذ أنه الهوى، ولكنه الهوى على كل حال عرفت أو لم تعرف. فهي إذا لم تجد في ابن عمتها ما كانت تجده في ورقة؛ فذلك لأنها لم تحب ابن عمتها بعد، ولكنها ستحبه بعد الزواج فلا خوف من هذا، ولكن الحقيقة أنها بالرغم من دوام تفكيرها في ورقة ومناجاة قلبها له في كل خلوة وفي كل ليلة كانت تعتقد أن الدهر قد قطع بينهما وفرق، ثم لا وصل بعد هذا ولا اجتماع، وأصبحت ترى أن لمياء الماضي قد ماتت كما تموت الراهبة، وأصبح سواء في الدنيا أن تتزوج دميان أو سعفان ما دام أهلها يريدون زواجها، ويرون هذا حدثا عظيما حين أن لم تعد تهمها نفسها. سوى أنها رأت دميان ذات يوم في بستان القصر، وكان فريدا وكانت فريدة فحيته ورد التحية كأنما هي ابنة البستاني الهينة عليه، ولم يبتسم أو ينهض للقائها والحديث معها على عادة الخاطبين أو الأصدقاء، فتنبهت نفسها على ألم مهانة نالتها؛ إذ شعرت كأنه يريد أن يقول لها: إن زواجي منك برغم إرادتي، وإذا أنا رضيت بأن أتزوج منك فذاك نزولا على حكم أمي، لا لرغبة مني فيك أو لمزية لك. فاحتملت آلامها وصعدت حتى إذا لقيت أمها أبدت لها عدم ارتياحها إلى هذا الزوج، وذكرت بعض ما لقيت منه من مظاهر الاستهانة بها، ولكن أمها استنتجت لها من ذلك الجفاف معاني التحشم والأدب الذي فطر عليه الفتى، وغير ذلك من القول الزائف. فعادت الفتاة إلى سابق سكوتها وارتقابها يوم ينتهي أمرها بزفافها إلى دميان، وانتحارها بالزواج.
على أن والدتها كانت قد بدأت ترى عود ابنتها يذبل، وجنحت نفسها إلى العدول عن زواجها، ولاسيما بعد ما سمعت قصة فتور دميان من ناحيتها وإهماله شأنها، وبعد ما كانت تسمع من أخبار مبهمة عنه، ولكنها كانت قد قبلت هذا الزواج، وإن كانت قد علقته على رضا الحارث، وكانت العمة قد عدت هذا القبول منها نهاية القبول، وأخذت تعد للحفلة عدتها من التفكير والتدبير، وشايعها زوجها في ذلك إلى أبعد مدى؛ إذ كانت صاحبة الرأي الأعلى في بيتها، بل وفي كل شيء حتى في حكم مصر نفسها، ولم ينفع هرميون جوار أبيها؛ لأنه على ما كان يعرف من فساد خلق ابن أخته امتنع عن أن يبدي لها رأيا فيما عرضته أخته، قولا بأنه أقل الناس خبرة بالناس. على أنه لم يشأ أن يعترض مشيئة أخته ثقة منه بأن نصيحته لابنته لن تنتهي إلى خير، ولا سيما لأن أخته كانت قد أرسلت منذ مدة خطابا إلى البطريق أنستاسيوس اليعقوبي تلتمس منه أن يباركها بزيارته إياها في منف، وتنازله بقضاء أشهر الشتاء في ضيافتها؛ ليتولى في غضونها مراسيم إكليل ابنها دميان على لمياء ابنة الحارث حفيدة قوزمان، ورد عليها البطريق المحترم قابلا دعوتها ومجيبا هذا الرجاء إكراما لها ولزوجها وأخيها قوزمان وللحارث زوج ابنة أخيها، وأنه ينوي أن يعجل بالقدوم عليها بعد انصراف أثناسيوس بطريق أنطاكية الحبيب الذي جشم نفسه مشقة الأسفار؛ ليقيم اتحادا بين كنيستي أنطاكية والإسكندرية
1
اليعقوبية، وأنه لهذه المناسبة السعيدة قد أرسل إلى أسقف كنيسة المعلقة
2
يعلمه بأنه سيقيم عيد ربه ومخلصه يسوع هذا العام في كنيسته.
رأت هرميون أن الأمر أصبح أعقد من كل معقد، وأن ما أملت من رفض الحارث هذا الزواج الذي أصبحت تكرهه كما تكرهه لمياء لفرط ما أثر فيها وجدها بورقة وامتهان دميان إياها، ويأسها من كل فرج - لم يعد يفيدها شيئا. فعلمت على تنشيط ابنتها بالتأميل الفارغ، وافتراء صفات المحاسن في دميان على أمل أن ينصلح حاله بعد الزواج، ولكنها كانت تؤنب نفسها على هذه الأكاذيب، وتلوم نفسها على تعجلها بإبداء القبول من ناحيتها، حين أنها كانت، لو لم تتأثر بجو اللقاء الذي غمرها حين وردت بالسفينة على عمتها، قادرة على الرفض الصريح. زادت شقوتها حينما دخل عليها أبوها وفي يده طومار الرسالة التي كتبها ربان السفينة ينبئ قوزمان بما رأى وما سمع من حزن الحارث ومرضه ورفضه، وأنه يرى دميان أسوأ زوج لابنته، وقد أقره قوزمان على هذا الرأي، واعتذر إلى ابنته من كتمانه أمره؛ لأنها قبلت زواجه من ابنتها قبل مجيئه من الإسكندرية، وما إن قدم لها الرقعة التي كان يكتبها الحارث قبل أن يصاب بحمى الدماغ، ورأت فيها ذمها وتأنيبها ولعنها إذا هي أقرت هذا الزواج - حتى هلعت المسكينة، وشعرت بلعنة الزوج تنتابها فبكت بكاء مرا حتى لم يدر أبوها كيف يعزيها، بل ولا كيف يستره عن عمتها وابنتها. فاكتفى من الأمر بأن أوصد باب الغرفة من الداخل، وعاد إليها يشهد بكاءها حتى تفرغ ما في قلبها، وهو يحاول تهدئتها بوعود منه لا يملك تنفيذها، ولكنها وعود رأى أن يشغلها بها عن البكاء. بيد أنها لم تهدأ حتى رأت لمياء؛ فقد دخلت عليها من باب آخر هو باب الطرقة المؤدية إلى الغرف التي خصصت لجدها قوزمان: هدأت لأنها لم تكن تريد لابنتها أن تعرف سببا بكائها فهي لا تريد أن تقف معهما تستمع وتعلم بأن أمها أضحت أشد رغبة منها في إلغاء خطبتها، ولكنها تجد أنها أصبحت مغلولة إلى عنقها بما تعجلت به عمتها نيفرت من التدبيرات قبل أن يجيء جواب الحارث، بل قبل أن تمكنها من فحص الأمر ومعرفة عواقبه؛ ولذلك طلبت إلى لمياء في لطف الأم الحزينة أن تنتظر في غرفة جدها حتى تدعوها. فلم تأبه لمياء لهذا الطلب، وقالت بلسان لم تتعوده أمها: لم أعد أملك أن أجيب هذا الرجاء يا أماه. إن كان بكاؤك لأمر خاص بك فيجب علي أن أعرفه لأحمل معك ألمه، وإن كان بكاؤك لأمر خاص بي فيجب علي أن أعرفه؛ لأني أحق بألمه. قالت هرميون: في الأمور ما لا يكون من الخير للأم أن تطلع ابنتها عليه. قالت: إن كان من حقك على أبيك أن تفاتحيه في شأنك وتحزنيه لحزنك، فمن حقي عليك مثل ذلك؛ إذ أنت أمي، قالت هرميون وقد أدركت أن الفتاة لقيت على الأقل برهانا جديدا على شقوتها من زواجها بدميان ولا ترى أن تسمعه الآن: ولكني بلغت رشدي يا بنيتي، ولي بأمور الحياة خبرة لا تكون لمن هي في مثل سنك، ولي أن أتولى أمر نفسي بنفسي وأمرك كذلك. أما أنت فلم تبلغي سن الرشد بعد. قالت لمياء: إذا لم أكن بلغت رشدي فكيف رضيت أن تلقي بي في دنيا لا بد لي من تمام الرشد فيها؛ دنيا الزوجية التي تتطلب العقل والصبر والأناة، وتتطلب فوق هذا - لمثل حالتي - القدرة على التضحية. قالت هرميون وقد أدركت ما وراء ذلك: أتوسل إليك بحق محبتي لك أن تتركينا؛ لنتدبر مخرجا مما يحيط بنا من الضائقة قالت لمياء: المخرج في يدي يا أماه لا في يدك، فقد أفلت الأمر من يدك أنا أعلم أنك تريدين أن تتحللي من عقد ارتبطت به مع عمتك في شأني؛ لأنك علمت أنك تورطت، ولأن أبي رفض، كما يبدو لي من وصول هذه الرسالة إليك، وأشارت إلى الرسالة وكانت لا تزال ملقاة على كرسي بجوارها من يراها من ينظر، وإذ لم تجدي المخرج فأنت تبكين. المخرج في يدي يا أماه كما قلت لك، سأخرجك من ورطتك التي أوقعك فيها مكر عمتك وجبروتها، قال قوزمان: كيف يكون هذا يا لمياء؟ قالت: ألقي بنفسي في النيل، إنه أحن منكم صدرا وأوسع رحمة. فنهضت أمها مزعورة، وأمسكت بيد لمياء كأنما رأتها قد هرعت إلى جسر بابليون، وتوشك أن تلقي بنفسها في التيار فهي تمنعها من ذلك، وقالت بصوت مذعور: النيل! لم هذا يا ابنتي؟ قالت: لأنك لا تريدين أن تفعلي ما يجب فعله، وهو أن تذهبي من فورك؛ لتقولي كلمة واحدة من أجلي. تقولين هكذا! إني آسفة جدا؛ لأن ابنتي لا تريد هذا الزواج ولأن والدها لا يريده، وأنك لا تملكين بعد هذا تنفيذ وعدك لها! فسكتت هرميون ونكست رأسها. فقالت لها لمياء: أتستطيعين هذا يا أماه؟ فنظرت هرميون إلى ابنتها؛ لتكشف عن سر هذا السؤال، ولكن لمياء وقفت أمامها كالخشبة لا يبدو من أسرارها شيء. ثم قالت: إذا كنت لا تملكين ذلك فحملي جدي رسالتي هذه ورسالتك إليها. قال قوزمان: هذا ما كنت أخشاه؛ ألا تدخران لي إلا السيئة؟ ستثور نيفرت ثورة الضبع، لا لخيبة رجائها؛ بل لأنها دعت البطريق الأكبر من الإسكندرية ليتولى الإكليل، وقد وعد بالحضور قريبا، ولا بد أن يرافقه في قدومه طائفة من أساقفة الكنائس ورجال الكهنوت للخدمة، فكيف يكون موقفها يوم يحضرون للإكليل ولا إكليل. قالت: وتريد أن يجتمع الناس؛ ليشهدوا إكليلي كما يشهد المعيدون ذبح حمل يعدونه لمائدتهم! لا. لن أكون حملهم في ذلك اليوم! لا تحزني يا أماه! دعوا كل بطارقة المسيحية تأتي لتزوجني فسأجهر أمامهم حين يجيئون بي لأعلن كلمة الرضا أني رافضة، وسأعلن في حضرتهم المقدسة ما أخفيته عنك وعن أبي وعن ورقة نفسه: وهو أني خلعت دين المسيحية ومذاهبها جميعا، واتبعت ملة الحنيفية الموحدة بالله. ملة آبائي الأكرمين. ليس أكرم من أن أجهر في حضرة الإكليروس جميعا أن لا إله إلا الله وحده وأن محمدا رسول الله. فسأكون أول مسلمة هبطت وادي النيل، وأول من جهر بالإسلام فيه، وأكرم بذلك حالا.
كانت هرميون وقوزمان يسمعان هذا الكلام من لمياء، وبهما من هول ما تنذرهما هول شديد من الفضيحة الكبرى التي سيذيع أمرها في ربوع مصر وبواديها، ولكنهما كانا يريان على لمياء شيئا من مظاهر جنون اليأس فأشفقا عليها، وخشيا أن يستولي عليها، فانبرت أمها تقول لها لتريح فؤادها من عوامله: لا بأس عليك يا لمياء، سأنقض هذا الزواج، وسأذهب الآن إلى عمتي. تعالي أنت معي إلى مخدعك فاستريحي ريثما أذهب إلى عمتي. قال قوزمان: لن يتم هذا الزواج فاطمئني يا لمياء، وسأعود بك إلى الإسكندرية قريبا، وألقى البطريق وأعلنه بالواقع قبل أن يتهيأ للمجيء. إنك أكرم عندي من كل إنسان. ثم تناولها في صدره وأخذ يقبلها عن حنان حقيقي وشفقة. فخارت قوى لمياء المسكينة وبكت على كتف جدها بكاء يفتت الصخر، وهلعت أمها لذلك فتناولتها وأجلستها على فخذها، وأخذت ترفه عنها وهي لا تنقطع عن البكاء. فتاة في مقتبل الحياة، بريئة طاهرة نبيلة تعبث بها المقادير من أول يوم، ويجتمع كل من لهم بها علاقة على أن يجمعوا عليها الهم واليأس والضنى، وهم لو تركوا الدنيا تسير معها فيما أرادت لها من الخير؛ لكانت أسعد خلق الله، ولكنهم كانوا يعترضون مشيئة القدر الصالح في كل خطوة من خطواتها، وكل خفقة من خفقات قلبها، وهي صابرة وراضية ومستسلمة، حتى كادوا يسلمونها إلى الجنون. اجتمع العرف والرياء والجبن والسفالة على العبث بقلبها النبيل، وقتلها في روعة الصبا! قبح العرف وقبح الحياء وقبحت المجاملة! تقضي على الجمال والحق والسعادة! ومع ذلك فقد كان منهم يقول إنه يعمل للخير! كانت لمياء بينهم كالزهرة الناضرة ادعوا أنهم يريدون أن يسقوها ماء النبع الصافي فرووها ماء النار.
حملها جدها على كتفه، وسار بها إلى مخدعها حتى أرقدها في فراشها، وجلسا بجوارها يعتذران إليها مما جرى، ويؤكدان لها أنهما لن يسمحا بأن يتم هذا الزواج.
وكانت أمها تعجب لتغيرها وتشددها اليوم في الرفض، وكانت تظن أن لمياء لقيت دميان في البستان كما لقيته منذ أيام وجرى منه مثل ما جرى أو أكثر، فثارت كرامتها لذلك، وجاءت مصممة على إحباط كل مشروع من هرميون، ولكن هرميون لم تشأ أن تتأكد من حدسها خشية ما تهيج الرواية من نفسها. غير أن الحقيقة غير ذلك.
فالحقيقة أن لمياء لقيت في القصر إنسانا ملأ قلبها قوة، وأفعم نفسها حياة وردها إلى يقظتها التي كان الوجد بورقة قد ذهب بها، حتى عدت نفسها جثة لم يعد يهمها في أي أرض تلقى. ذلك هو المجاور بطرس البحريني شيطان الإسكندرية الذي يلبس في بيت أستاذه قوزمان مسوح القديسين. لحق هذا الفتى إلى أستاذه قبل أن يرحل الحارث بزوجته وابنته لمياء بسنة، وكان لمياء تعرفه حق المعرفة؛ لكثرة ما كانت تلقاه في رحبة البيت أو في بستانه، وتتعجب لفرط أدبه معها وشدة ورعه حين أن نظراته كانت تذعرها لما ترى فيها من بريق خاص يميزها عن سائر العيون التي تراها، وتعجب لوسامته وحسن بشرته حين أنها كانت تستشف من ورائها قوة خفية كقوة الثعبان، ولذلك كانت تخشاه من غير ما سبب وتزور عنه. على أنها يومئذ لم تكن تهمه في شيء لصغرها، فلم يأبه لمظاهر خشيتها واسترابتها إلا بمقدار ما يخشى من أثر ذلك بتغير أهلها عليه، واستمر معها على تأدبه وتكمله وعظيم الرعاية لها في بيت أستاذه، حتى يجمع أهل البيت على وصفه بأنه القديس الشاب المسكين الذي يدعوه طلب العلم إلى التماسه منهم في كل هذه الذلة. أما اليوم وقد غابت لمياء عنه ما غابت، وعادت على غير انتظار فتنة لكل عين، ومتعة لكل قلب، فقد تنبهت شياطين نفسه، وهام بها هياما لم يستطع أن يطفئ أواره، وإن استطاع أن يخفي لهيبه، واشتهى وتمنى لو تكون له، وهو يعلم أن دون نيلها خرط القتاد، ولكن ذلك لم يكن لينزل في قلبه اليأس، فقد كان يحدث نفسه بقوله: نعم ، إنني لا أعرف اليوم لي حيلة تتحقق بها أمنيتي، ولكني قد أوفق إلى حيلة في الغد، فلماذا اليأس؟ ولماذا لا أمهد للمستقبل؟ وعلى هذا عمد إلى التحبب إليها، ولفت نظرها إليه. فكان يبالغ في رعايتها في أدب خالص كانت شغلة الوجد تصبغه صبغة الإخلاص، وزاد هيامه ووجده ما عرف من أنها توشك أن تزف إلى دميان. إذن فلتكن خطوته الثانية أن يحول دون هذا الزفاف بكل وسيلة حتى يردها خالصة للطامع فيها، ولن يعدم بعد ذلك حيلة في حمل أمها على تزويجها منه رغبة منه أو رهبة، ولكن كيف يكون هذا؟ وبأي عمل يبدأ في تنفيذ خطته؟ لم يكن له إلا أن يستعين بلمياء نفسها على ذلك. يجب أن يملأ قلب لمياء بغضا لدميان، وذعرا من دميان؛ ليقطع بذلك ثلاثة أرباع الطريق المرسوم، وكان هذا من أهون الأمور عليه؛ لأن دميان كان مهلهل العرض لولا أنه ابن مقوقس منف.
أخذ يحتال للقائها والانفراد بها؛ للتحدث إليها بوشايته، ولكن القصر كان غاصا بالعيون في كل مكان، وأهون مظاهر الاستهانة يودي به وبمشروعه، ولذاك أسقط فرصة لقائها في الردهات والبستان من عداد وسائله. كما أنه رأى أنه لا يستطيع أن يدخل عليها غرفتها القريبة من غرف أستاذه الذي يعمل معه فيها؛ لما في ذلك من الريب التي يجب أن يتجنبها، وإلا طرد من القصر شر طردة. إذن فلينتظر ويرقب الفرص.
جاءت له الفرصة المشتهاة ذات يوم. ذلك أن إحدى الجواري تسلمت رسالة قيل لها إنها للأستاذ قوزمان، وإذ إنها لا تملك أن تذهب بها إليه في غرفه فقد جاءت إلى هرميون؛ لتتدبر في تسليمها إليه، وذكرت لها أنها جاءت مع بريد عيذاب. فقدرت هرميون أنها رسالة الحارث، ولذلك لم تشأ أن ترسلها إلى أبيها، بل أرسلت لمياء في طلبه؛ لتقرأها عندها أو تقرأها في حضوره ما دامت خاصة بها، وكان بطرس معه على عادته في خلوته مع جدها يقرأ له ويتذاكر معه. فما أن تهيأ قوزمان للسير إلى ابنته حتى تبدى بطرس من وراء ظهر قوزان يستمهل لمياء بالإشارة، ويشفع الإشارة بمظاهر الرجاء والإلحاح، وهال لمياء أن يستوقفها هذا الكاتب، وهو لم يجرؤ فيما مضى من أيامه قبل سفرها إلى مكة أو بعده أن يكلمها بله أن يختال جدها ويستوقفها، فهذا ما لا يبيحه عرف الماضي في الإسكندرية ولا عرف الحاضر في قصر الحاكم، ولكنها لم تجد بدا أن تتمهل في وقار لترى ما وراء ذلك. فقد يكون الأمر جللا، ولذلك تلكأت في الخروج مع جدها، واتجهت إلى بطرس تقول له: أراك تريد أن تحادثني في أمر ذي بال! قال: نعم يا مولاتي، ما كنت لأجرؤ على أن ألتمس منك التمهل إلا لأمر جلل. إن أباك رجل جليل وأمك سيدة نبيله، وأنت أشرف العذارى، ولقد عشت في بيتكم عيشا كريما، فمن حقكم علي أن أخلص لكم النصيحة، لا أرجو عليها جزاء ولا شكورا فقد أسلفتموه. قالت: هلا قلت ما لديك لجدي؟ قال: لقد قلته وهو يعرف بعضه من قبل، ولكنه لم يشأ أن يتدخل، وأرى الأمر عصيا، ولذلك رأيت أن أقوله لك أنت؛ لأنه خاص بك، ولو لقيت الشر بعد ذلك. هذا أقل ما يجب لك علي. قالت: وما هذا؟ قال: لا تقبلي الزواج من دميان ولو ألقيت في النار فهي أبرد منه وأحن. قالت: ويحك؟ أتقول هذا عن دميان؟ قال: إني لك صديق، ولا يهمني سواك، وإذ إنك لا تعرفين ما في دنيانا هذه من الشرور فعلي أن أدلك على ما أنت قادمة عليه من الشر؛ لتتقيه ولو نالني الشر. ليس الرجل عدوي ولا أنا ذو مأرب. قالت: ألا تخبرني السبب؟ قال: ألا تشعرين بما يقبض نفسك يا مولاتي. قالت: بلى، ولكني لا أدري له سببا، ومن الظلم أن تجزي أحدا بغير سبب تستبينه فقال: السبب عندي يا مولاتي. لقد نظرت بعيني روحك إلى روحه فعرفت أنها روح شريرة. قالت: خبرني لماذا كانت في نظرك كذلك؟ قال: أقسمي لي ألا تبوحي به عني. قالت: أقسم ألا أبوح، قال: هو فتى الخمر والفسق والبغايا، واعلمي يا سيدتي أن معه الآن واحدة منهن جاء بها من الإسكندرية، وأنزلها بجوار حصن بابليون الذي يعمل فيه؛ ليكون قريبا منها في كل وقت، ولا يعرف بأمرها سواي وسوى أمه؛ ولذلك تريد أن تزوجه منك أملا أن ينصرف بك عنها، ولكن هيهات! إنه يحبها حبا شديدا، وأزيد على ذلك أن له منها بنتا تسمى هرميون باسم أمك، وولدا من أخرى هجرها في الإسكندرية اسمه قوزمان باسم جدك. أما سمعته ليلة اجتمعتم كلكم في البستان يقول: إن أحب الأسماء إليه اسم هرميون وقوزمان؟ قالت: بلى، فمن أخبرك بذلك؟ أنت لم تكن معنا، قال: هو الذي أخبرني هازئا بكم وبجهلكم، وإنما قال لي ذلك لأني مطلع على أمره. إذن فقد ثبت لك قولي. قالت: نعم، ولقد كنت أرى مظاهر ذلك على وجهه، ولكني لا أملك أن أدفع هذا السوء عني إلا إذا استهدفت لغضب أمي وعمتي وزوجها، وكل نساء القصر، وكل من فيه من الأبناء والبنات، وسيقولون عني ما لا يجمل. قال: لن يكون قولهم أشقى لك من حياة تشبه الدعارة، ولا آلم لنفسك من آلامك يوم يتركك هنا؛ ليجتمع بصديقته وبنته. حافظي على كرامتك ودينك يا ابنة أشرف الرجال، ولا تخشي لومة لائم في الحق. تؤثرين أن تتزوجي رجلا فاسقا لا شرف عنده ولا قلب يجيء إليك كل يوم بيد دنسة، وفم ملوث، وقلب مع غيرك إرضاء لمن يهمهم أمرك! هذه عمتك أقرب الناس إليك تضحي بك من أجل ولدها. فلماذا لا تضحين برغبتها الشريرة السافلة من أجل حياتك أنت. اعلمي يا لمياء أني أحب لك الخير، وأسدي إليك النصح الخالص، وقد أمرنا القديسون أن نسارع إلى إنقاذ الناس ما استطعنا، ولست أستطيع إلا أن أخبرك بما أعلم، وما كنت لأعلم لولا أنني كنت في السوق في الإسكندرية يوم أرادت رفيقته فيها أن تحرق البيت عليه فأنقذته من النار ومن الشرطة والسجن محافظة على شرف سيدي قوزمان، وأنا الذي أتلوى عنه وربي كتم أنفاس هذه المرأة فأدفع إليها نفقة ابنه قوزمان كل شهر؛ لأني بحمد الله غني بمالي من الأملاك الواسعة في جزيرة منوف، وإن كنت أكره أن أقول ذلك.
كل ما ذكره بطرس صحيح إلا فيما يختص بالأملاك فما كان يملك شيئا، وإلا ما روى عن رفيقة الإسكندرية فإنها خدينته هو، والطفل قوزمان ولده هو، ولكنه عزاه يوم ولد إلى دميان بهتانا، وحكاية حرق البيت صحيحة كذلك، ولكن المرأة أرادت إحراقه هو لا دميان، وإنما فعلت ذلك؛ لأنه جاء به إليها وحملها نفقات كثيرة أبد ثلاث ليال متوالية تقاضاها من دميان أضعافا مضاعفة، ثم لم يعطها منها شيئا، وكانت هي الليالي التي تذكر الحارث أنهم جاءوا بدميان على أثرها إلى بيت خاله مخمورا مهدما، وكان بطرس هذا رفيقه في فجوره بل دليله في كل فجوره، وأستاذه المحنك. ثم لما وضعت خدينة الإسكندرية ولدها من بطرس جاء إلى منف؛ ليقنعه بالبهتان أنه ولده، وأنذره بفضيحة أمره لدى أبويه إذا هو لم يسترض المرأة بنفقة للولد. فرضي دميان بذلك، وصار بطرس يتقاضى للمرأة مرتبا للنفقة على الطفل، ولا تدري المرأة من ذلك شيئا بتاتا، ولكي يبقى احتياله مستورا أقنع السيد دميان بأن من الخير له ألا يبدو للمرأة ولا للولد، ويكتفي من الأمر بأن يرسل إليه النفقة باستمرار، وهو يتولى عنه تسليمها إليها، وما دامت ساكتة فهذا غاية المنى. على أنه لما جاء إلى منف مع قوزمان واجتمع به في بعض خلواته، وعرف ما يدبرون من زواجه أخبره أن الطفل كبر وأصبح مرتبه القديم ضيئلا، وأن أمه طلبت زيادته، ونصح له أن يجيبها إلى ذلك، وإذ إنه عائد إلى الإسكندرية؛ ليأتي لخاله بكتب وأدوات من منزله، إذ عزم أن يقضي الشتاء كله في منف، ولا بد له أن يلازمه فيها فقد نصحه أن يعطيه نفقة هذه المدة؛ ليسلمها إياها، وأبان له أن أوجب ما يجب عليه، في الوقت الذي يفكر فيه في الزواج من لمياء، أن يبقى جو علاقته بالخدينة الإسكندرية جو وئام ورضا تام، وإلا كانت المصيبة كبيرة ، وزيادة في تدليسه نصحه لهذا أن يكتب إليها رسالة رقيقة تتضمن المحبة والوعد بقرب اللقاء ويحملها قبلات الشوق إلى ولده العزيز. ففعل دميان كما نصح له الشيطان، وأعطاه قدرا صالحا من المال، وكتب له الرسالة المطلوبة بإملاء بطرس نفسه، فأخذهما بطرس، وسافر إلى الإسكندرية؛ لينفق المال في أهوائه، وليستفيد بالرسالة فيما يرى.
وقد جاء الوقت المناسب للاستفادة من الرسالة، فقدمها إلى لمياء على أثر حديثه معها قائلا إنه لم يتمكن من إيصالها إلى صاحبتها، وأبقاها الرب معه لهذا اليوم. فتناولتها لمياء وقرأتها، ورأت توقيع دميان عليها وردتها إليه في سكوت وانصرفت بغير تعليق، ولكنه كان سكوتا لم يغب عن بطرس معناه فقد رأى لمياء يمتقع لونها وتضطرب، فأدرك أن سمه سرى إلى القلب، ومن ثم ذهبت لتلقى والدتها، وتعلنها بما أعلنت، وكان ما كان من هلع والدتها عليها لما رأت عليها من مظاهر الجنون الذي كاد يستولي عليها لولا أن سارعت أمها وجدها إلى استرضائها بالوعد الصريح الذي قطعته على نفسها.
الفصل التاسع والثلاثون
تدبير الله
غلب النوم على لمياء في تلك الساعة مما هد قواها من الهم؛ فحمدت أمها وجدها لله هذا الفضل، ونهضا؛ ليعاودا الحديث في شأنها، ويدبرا الخطة لإعلان نيفرت بما استقر عليه رأيهما في أمر لمياء، وكانت عمدتهما في ذلك أن الحارث لم يقر هذا الزواج، وأن هرميون اشترطت لإنفاذه أن ينال موافقته. نعم، إن عمتها دعت البطريق، وأعدت كل شيء، ولكنها تصرفت في ذلك من تلقاء نفسها، وإذا ثارت عمتها وزمجرت وغضب زوجها لهذا، واستاء فلا يصح أن تأبه هرميون لذلك، بل يجب أن تجابهها إذا اقتضى الحال بأنها لا تغضب زوجها في مرضاتها، وإذا أمعنت نيفرت في تأنيبها لم يعد أمامها إلا أن تعلنها بما عرف أبوها من أهل الإسكندرية، وهو أن ولدها ذو خدينة وذو ولد، وأن العمة تعلم ذلك، وأرادت أن تضحي بابنتها من أجل ولدها، وما كان يليق بها هذا.
على هذا اتفقا وتركا للظروف تدبير التفاصيل، وما كانت هرميون في حاجة إلى من يقويها أو يشد أزرها؛ لأنها ستتكلم بلسان الأم التي رأت ابنتها الوحيدة منذ دقائق على وشك الجنون، وهي الآن نائمة كالملك المطهر على وعد من أمها وجدها أن ينقذاها من الهاوية البعيدة الغور التي كانت على وشك أن تتردى فيها، ولكنها رأت أن يسبقها أبوها إلى غرف عمتها؛ ليحضر هذا المشهد، ويحول دون عوارض الأمور، وأقرها قوزمان على هذا الرأي.
نهض الجد يلتمس غرف أخته، وقد استعد هو أيضا للنضال معها، وكان يعلم ما هي عليه من الشدة، حتى لقد تلجأ إلى التواقح والإساءة البالغة لأهون سبب، ولكنه ما دخل عليها حتى رآها مكتئبة اكتئابا شديدا، وخشي أن تكون قد سمعت بما جرى قبل أن تسمعه من هرميون، وأنها توشك أن تنفجر فأخذته الشفقة على ابنته، وقال: خير أن أتلقى أنا أول صدماتها من أن تتلقاها هرميون المسكينة، وعزم أن يتولى النضال عنها. فلما حياها ليفتح الحديث، ولم ترد عليه التحية؛ لأنها كانت مشغولة بالتفكير في أمل جلل، وجد في ذلك الفرصة الصالحة فقال: ما بالك يا أختاه لا تريدين تحية أخيك! هل هانت كرامتي لديك بعد أن شفي زوجك ولم يعد في حاجة إلي؟ قالت وقد تنبهت: معاذ الله يا أخي. فقاطعها: عذت بمعاذ يا أختاه! ولكني وحقك، وحق أبي وأمي لا أبقى في بيتك بعد يومي لا أنا ولا ابنتي! أكذا تعامليني وأنا ضيفك؟ أم ترين أني بعض من يلتمسون برك. ثم دار على أعقابه يريد الرجوع إلى غرفه ليعد حموله. فنهضت أخته هلعة فزعة مما سمعت وأمسكت بأردانه تقول له: وحق القديسين جميعا ما سمعتك ولا رأيتك، قال: أيمكن أن يكون ذلك؟ قالت: هذا هو الواقع وربي، ولو تمهلت لعذرتني وأيقنت أني صادقة. اجلس بربك، فلم يجلس. قالت: قدر حالتي يا أخي، لقد أعددت كل شيء لحفلة العرس، فأرسلت أدعو جميع الحكام ووكلاءهم، وأرسلت في طلب الذبائح، وفي طلب الطحين، والفاكهة وكل شيء على أثر ما رضي مولانا البطريق أن يتولى الإكليل لدميان ولمياء ، ولكني علمت الآن قبل مقدمك بدقائق أن البطريق مات أول أمس في دير الهانطون؛ فانظر أي هم وقع علي وأي خسارة، ولقد اعتراني دوار شديد وضيق حازب؛ لأنه لا بد لنا أن نلتزم الحداد عليه هنا ثلاثة أشهر وعشرة أيام، فهو كما تعلم من أدنى أقارب زوجي. قال قوزمان: هذا حادث كبير حقا، فلا تؤاخذيني بما بدا مني، ولكن لعله من الخير أن وقع. قالت: لماذا؟ قال: لأن الحارث أبا لمياء لم يوافق على هذا الزواج، ولا يصح أن يجري أمر هكذا بغير رضاه. قالت متهكمة: الحارث! من هو ذا الحارث؟ قال قوزمان: هو زوج ابنتي وأبو لمياء! صاحب الحق عليهما ولو كان اليوم بعيدا! ولقد كنت أؤمل أن يجيء رده بالقبول، ولذلك لم أتدخل، ولا سيما حين علقت هرميون إنفاذ الأمر على مشيئته. أما الآن فلم يعد لها أن تجيزه ولا لي أن أغضي الطرف عنه. قالت: وهرميون ما رأيها؟ قال: لا رأي لها عندي بعد ما جاء رأي الرجل الذي يثق بي وبمروءتي، ولذلك فإني راحل على كل حال في الغد، وسأرسل في طلب الحارث، وأجيء به إليك لعلك تقنعينه بصواب رأيك، فإن أمامك الآن متسعا من الوقت. فصمتت العمة هنيهة، ثم قالت: لا بأس، ولكن هرميون، أهي مرتاحة إلى رفض زوجها؟ لا أظن ذلك. قال قوزمان: كانت بالطبع تتمنى أن يوافق، ولذلك قبلت ما عرضت عليها على الفور، قالت: عدني أن تكون معنا قال: لا أعدك بشيء يا أختاه. إني أكره أن يذكرني الناس بالشر في شرهم، وبالنكران في خيرهم. لن أتردد في إبداء رأيي في المصلحة. قالت: وأنت ترى المصلحة في هذا الزواج على ما أعتقد. قال قوزمان مراوغا: إن فتى نبيلا عفيفا من صلب جرجيس هو خير زوج للمياء الوديعة الجميلة. زعمت الأم أنه يعني ابنها فشكرته على ذلك.
ذهب قوزمان إلى ابنته وهو يعتقد أن الله الذي يحب لمياء هو المدبر لذلك، ويعتقد كذلك أنه لولا خطؤه، وما بدا منه من الشدة في مقابلة أخته؛ لعدت عليه رأيه الذي أبداه في نصرة الحارث جريمة يستحق عليها أن تفرغ على رأسه غضبها لكلامه، وما كان في قلبها من الهم لحادث موت البطريق الذي أفسد كل شيء.
ألفى قوزمان ابنته في غرفة لمياء، وخبرها بما جرى بالحرف تلو الحرف وهو سعيد بهذه الرواية. فرأى ابنته تجثو على ركبتيها شكرا لله، ورأى لمياء قد أفاقت من نومها ونهضت تقبله وتشكره وتبكي من شدة فرحها، وهي تقول له: كنت أعلم يا جدي أنك منقذي، وإن لم يبد لي منك إلا وجه متألم لما يعدون لي. فأخذتها هرميون من صدر أبيها وضمتها إلى صدرها، وأخذت تبكي وتحاول الاعتذار إليها فلم تستطع أن تبين ... وكان على لمياء عند هذا أن تطلق شمس السعادة في الغرفة وفي الدنيا برمتها. فنهضت مرحة تقول لهما: إن علينا أن نعد الحمول للرحيل، وسأعين جدي على ذلك على أن يعينني هو أيضا قبل أن يذهب إلى غرفه. قال وهو يبتسم: ما هذا يا لمياء؟ ما أراك فعلت شيئا. قالت: بل فعلت كل شيء. أبقيتك في جواري هنا وهناك. لن أفارقك بعد الآن. فأخذها وقبلها وقال: ولا أنا، ولكن علينا أن نكتب رسالة إلى أبيك نطمئنه فيها عليك، ونعلنه بأننا نزلنا على رأيه، ونسلم الرسالة إلى رسول حاكم عيذاب. انهضي أنت يا هرميون، فابدئي بخطابك. قالت: لقد أعددته وأنت مع عمتي، ودعوته إلينا فادعه أنت أيضا، وادعيه يا لمياء. قالت: هذا ما كنت عازمة عليه. •••
بعد أربعة أيام من ذلك اليوم المبارك كانت لمياء وأمها وجدها في البيت الذي قضت فيه طفولتها، وما كان أسعدها أن تروح وتجيء فيه، وتنزل البستان تشارك حارسه في تجميله، وبلابله في الغناء على أغصانه، ولكنها كانت حريصة ألا تغشاه في وقت يكون فيه بطرس في البيت، وإن كان مقامه منه في ناحية غير ناحية البستان، ولكنها مع ذلك كانت تراه واقفا في ظل شجرة هناك، أو مختبئا عند عطفة من البيت، أو عند أحد التماثيل. تجد في عينيه ذلك البريق الذي كان يخيفها، فيتمثل لها بعض النمور التي شاهدتها فيما مضى في أقفاصها في حديقة قصر الوالي أيام كانت تزور خالتها وهي طفلة، ولكنها ترى أحدها الآن سائبا طليقا يوشك أن ينقض عليها، ولذلك كانت تعجل إذا رأته بصعود درج السلم والدخول إلى البيت ممتقعة اللون، وفيما هي تصعد السلم ذات يوم رأت بطرس قد تبعها، ثم انفتل على حين بغتة خارجا من باب البيت إلى الشارع، وذلك لأنه أحس خطوات آتية من الداخل فانصرف عما كان في نيته فعله وخرج معاجلا، وكان القادم إذ ذاك هرميون أم لمياء. فلما رأتها كذلك هلعت، وسألتها عن سبب هلعها فقالت: لا أدري يا أماه، لماذا أخشى هذا الرجل الذي يكتب لجدي؟ إن في عينيه بريقا يذعرني، كما أني لا أدري لماذا يقف تحت الأشجار ووراء التماثيل ينظر إلي. يخيل إلي حين تلمحه عيني وأنا غافلة عن وجوده معي أنه لص يريد أن يغافلني ليقتلني. لا أظن أن به حاجة للوقوف مني هذا الموقف إلا أن يكون في نفسه شر يريد أن يلحقه بي، وأقسم لك يا أمي أني كنت أرى كل الشر في عينيه حين كان يروي لي أخبار دميان في غرفة جدي حتى خيل إلي أنه كاذب، وأنه يريد أن يوقعني في شر لولا ذلك الخطاب الذي رأيته، ولما استحلفني ألا أبوح لأحد بأنه هو الذي أعلمني بكل خبره، خيل إلي أنه بعض تدبيره لأذاي. بل كنت ساعة يمن عليكما في السفينة بأنه هو الذي أطلعني على أخبار دميان حتى أنقذتموني منه - ويحلني من ذلك القسم الذي أقسمته - أرى في اعترافه هذا شرا يبيت لي، هو ما يدل عليه اختباؤه وراء الأشجار والتماثيل والعطف. ألا يمكن يا والدتي أن يستغني عنه جدي ليفارقنا؟ قالت هرميون: لا أظن ذلك يا ابنتي، إنه منه كما كان ورقة من أبيك. فصمتت لمياء، وغابت في مكة وهدى ونجران هنيهة تمثل لها ورقة فيها وأدبه وظرفه وخلوص طويته، وقالت لأمها: أين هذا النمر المفترس من ورقة النبيل العفيف؟ أين يا أماه، ليته معنا هنا ! إذن لكنا أسعد خلق الله! خيل إلي يا أماه حين وصلنا إلى ميناء فيلاق أني رأيته بباب أحد الحوانيت، ولولا أنه كان في لباس عسكري وقبعة رومية ما اعتورني في أمره شك. ألا يجوز يا أماه! أن تكون رسالة الوداع التي أرسلتها إليه قد جاءت به إلى الإسكندرية؟ إنه يحبنا يا أماه حبا خالصا، ويعلم أننا نحبه ونعرف قدره. منذ تلك الساعة لم يفارق شبحه عيني، بل إني وحقك أرى شبحه الآن يتردد أمام عيني وكأنه يلوح من وراء السور، ولكن العجب أني أراه في لباس الجند. ها هو ذا: انظري معي يا أماه. عجلي قبل أن تخفيه أغصان الياسمين، وي! لقد اختفى ومضى في طريقه. ذهب يا أمي. ليته يعود!
هلعت هرميون لهذا الحديث، وظنت أن ابنتها أصيبت لوجدها بعارض من الجنون، فالتفتت إليها وتمعنت في عينيها، فوجدت فيهما دمعتين تترددان في السقوط، فأخذتها إلى صدرها، وهي تقول: ماذا يا لمياء؟ أين ورقة منا الآن يا بنيتي!: قالت: خيل إلي يا أمي، أني رأيته من وراء السور، وأنه كان ينظر إلي ... ثم نظرت مرة أخرى إلى السور فرأت ورقة قد عاد ينظر من بين القضبان، وإذ وقعت عينه عليها ابتسم لها فلم تشك لمياء في أنه هو، وأفلتت من ذراعي أمها، وصاحت: إلينا يا ورقة! إلينا! فازداد هلع هرميون، ولاسيما حين خلتها ابنتها وجرت نحو الباب فاتحة ذراعيها وليس هناك أحد.
خيل إلى هرميون أن ابنتها جنت فعلا، وأنها الآن شاردة في الطرقات شرود المجنون، ولكنها رأت الباب يفتح ويدخل منه فتى في لباس الجند، ورأت ابنتها تعانقه وتقبله، وهو يعانقها كذلك ويقبلها قبلة المحب الشيق، ثم يرى هرميون فيذهب إليها ويعانقها هي أيضا ويبكي على كتفها بكاء الطفل المشوق.
كان هو ورقة بالطبع جاء يتنسم الأخبار، ويستمد قطرات السلوى من معالم الدار فإذا به يجد الأحباب بين الأشجار والأزهار، فدخل، ولم تقو نفوسهم على هذه المفاجأة السعيدة بعد كل ما لقوا من الشقاء، فأسقطوا كل عرف وأزاحوا كل ستار، وتركوا للقلوب هنيهة من الزمان تسعد فيها بالحق، وتؤدي أمانتها من غير تحفظ ولا رياء ما دامت مطهرة لا تلوثها لوثة من نفس سافلة.
كان هذا المنظر يجري تحت أعين رجلين يختلفان كل مختلف: أحدهما: قوزمان، وكان يطل من شرفة بيته على بستان داره بعد ما تناول طعام صباحه، ويعجب لبنتيه كيف تلقيان أجنبيا عنهما هذا اللقاء الرائع، وإن كان قد أحس عند رؤيته كأنما شع في قلبه نور يملؤه متعة ونعمة؛ لأنه لم يستطع أن يسعدهما بشيء منذ جاءاه، فلم يتمهل حتى يعلماه من القادم، بل نادى لمياء يسائلها: من هذا الذي أسعدتك رؤيته يا لمياء وأسعدتني معك! فالتفتت إليه في شرفته تقول: جدي. أنت ترى! هذا ورقة يا جدي! كأنما يجب أن يعرف الناس كلهم ورقة ولو لم يروه أو يسمعوا به، ويعلموا كذلك أنها تحبه، والحقيقة أنه يعرف عنه شيئا كثيرا من ابنته، فقد خبرته عنه في ليالي مقامهم الطويلة في منف ما جعل الفتى في عينه قديسا مباركا. فقال: مرحبا بولدنا الكريم اصعدوا إلي جميعا. فأخذته لمياء من يده وصعدت به درجات السلم الرخامية هي وأمها.
أما الرجل الثاني: فكان بطرس البحريني. كان قد دار حول البيت دورة، ودخل البستان من الباب الخلفي المعد للمكتبة ساعة دخل ورقة، وعاد فوقف تحت شجرة التين الكبيرة تستره أوراقها المهدلة، وما كان في طريق الناظر إليها من أغصان شجرة ليمون فتية. هناك وقف يتسمع ويرى ويتميز من الغيظ: شاهد كل شيء وسمع كل شيء، ورأى القبلات والمعانقات وقطرات دموع المحبة الخالصة، وسمع الجد يحيي ويرحب فثبت له أن الغاية التي كان يؤمل تحقيقها والتي حفزته في منف إلى الوشاية بدميان قد عادت فبعدت الآن بعدا سحيقا. فهذا فتى اجتمعت لمياء وأمها وجدها على محبته والاحتفاء به، فتى متزن القسمات، حسن التقويم، نبيل الطلعة خلاب البسمات، عظيم القدر في الجندية؛ إذ هو أمير مائة وهو لم يعد العشرين بكثير، وليس في حركاته ولا إشارته ولا نظراته ما يدل على أنها مران تعمل، أو اعتياد مراء، وإذ أدرك من بعض عباراته معهما أنه عربي، فقد استنتج بغير ما حاجة إلى ذكاء أنه هو الفتى الذي قيل جاء به الأمير نيقتاس من مكة؛ ليكون حارسه الخاص. حارسه الذي قيل كذلك لا يطيش له سهم، ولا يفلت من سيفه مسايف. إذن فقد انقطع الأمل، ولكن الشيطان لم يرض أن يسلم بالخيبة حتى يعرف من هذا. فقد يكون أخاها أو يكون ممن لا مطمع لهم في زواجها، أو يكون من عشاق أمها، أو صاحب زوجة وأولاد. فمن الواجب أن ينتظر ليرى ويعرف، ولعله - حتى ولو خاب ما حدثته به نفسه - يستطيع أن يعاود المسير في الطريق المؤدي إلى لمياء. إن الحيل لا تنفد ما دامت كل الحيل عنده مشروعة حسنها وسيئها، بل الوشاية جائزة، وسجن ورقة جائز، وقتله كذلك جائز، ولكن يجب أن يعرف من هو؟ ويتفحصه من جميع جهاته، ولماذا هو في لباس عسكري رومي؟ ولماذا يتقلد سيفا عربيا؟ أما هذا فقد جاءه به العلم عرضا من عشرائه وأصحابه في حي رقودة ليلة أمس فقد بلغهم أن الوالي استقدم من بلاد العرب فتى من رماة النبل الذي لا يخطئون، والمسايفين الذين لا يغلبون، وجعله حارسا له في الليل، وأن هذا الحارس لم يشأ أن يتقلد سيوفهم الرومية، واستأذن من سيده في حمل سلاحه الخاص فسمح له بذلك، وأن الوالي علم بأنه يعشق امرأة أخيه الذي قتل في القدس، وأنها هي أيضا تحبه، ولذلك لزمت القصر ولم تعد إلى بيت أبيها. ثم حاكوا حول هيلانة المسكينة أقاصيص نشرها الأوغاد والسفلة فقالوا: إنه يقصد إليها في موهن الليل وهم يظنونه قائما على حراسة الوالي، متسللا إليها من باب إلى باب، بل إن الحارس لوكاس الشيخ هو الذي يمهد هذا اللقاء ... وغير ذلك مما يفتريه السفلة الأنذال في كل زمان، ويلقونه زورا وبهتانا على من يخصهم الله بفضله في الحكم أو الرياسة أو الثروة، وكان بطرس أحد هؤلاء المتخرصين، وإن لم يمض على عودته إلى الإسكندرية أيام كثيرة يكون قد عرف فيها كل هذه الخبايا، ولم يتورع أن يفتري كل هذا الفرى على أيم سيئة الحظ هي هيلانة ابنة أستاذه الذي يؤويه، وكان أقل ما يجب عليه ألا يسمح لأحد بتناول عرضها بمثل ذلك، بله أن يمتنع هو ويعف عن الافتراء، ومع أنه سمع هذا الخبر فعلم بأن هناك على الأقل إشاعة بعودة بنت سيده من القدس، وهو لا يعلم بعودتها، لم يطلع أستاذه على ما سمع؛ لأنه لم يكن يهمه من أستاذه هذا إلا ما يستفيد هو منه. فأما أن يفيده بشيء ولو كان تافها أو كان مما لا يضيره بشيء بتاتا فلا. لا لأنه يتعمد ألا يفيده، بل لأنه لا يفكر فيه بتاتا. حسبه أن يأخذ منه مرتبه ويأكل من طعامه، ويكتب له ما يريد كتابته، أو ينسخ لنفسه من مكتبته ما يبيعه لطلاب العلم، ثم يغادر بيته في العصر؛ ليقضي بقية اليوم في الحانات بعد أن يغير لباسه، الذي ارتضاه لنفسه مع قوزمان ذلك الملبس الخليط بين جبة القساوسة، ودراعة الناس؛ ليكون في بيت قوزمان قريب الشبه بالكرام، بملبسه الآخر ليكون في المدينة على حقيقته مع الناس في الحانات والمواخير، وأندية المقامرين والصعاليك، فلينتظر بطرس إذن ما تهيئه له الظروف من الوسائل، ولننتظر نحن كذلك لنرى ماذا يريد هذا الشماس المنوفي الآبق أن يفعل بالأبرياء.
أما ورقة فقد تلقاه قوزمان بذراعين مفتوحين، فلما دنا منه أخذه بينهما وقبله قبلات الأب يلقى ولده الغائب، وهو يقول له: لقد وصفت لي ابنتاي أعشارك يا بني، وأطلعتاني على كل حجرة من حجرات قلبك، فلما رأيتك عرفتك على الفور، ولو أني ما كنت أقدر أن أرك، ولا كانتا تقدران ذلك. فأنت في مكة حبيس بين عربيتك وصحرائك، ونحن هنا طليقون على البحر، وإن كنا سنحتبس وشيكا إذ جاءنا الفرس.
وأخذ الثلاثة يتعاورون الفتى بالأسئلة: كيف ترك مكة وكيف جاء؟ وكيف اتصل بخدمة القصر حتى لبس لباس الحرس؟ وكان يجيب على كل سؤال بجوابه، وهم دهشون لتوالي الأحداث في زمن قصير كالذي مر على افتراقهما عنه، وكان هرميون تزعم أنه تسلم رسالة وداعها مكة، وأنه لذلك علم بأنهما قصدتا الإسكندرية فجاء إليها يحدوه حبه ووفاؤه فقالت: لقد كنت أخشى حين كتبت لك رسالة الوداع أن يحملك حبك لنا على متابعتنا، ولكني ما كنت أستطيع أن أتركها قبل أن أودعك فلما علمت منه أنه غادر مكة قبل أن يعلم برحيلها عنها، وأنه لم يتسلم رسالتها، وأنه كان يظن أنهما باقيتان بمكة حين كانتا في مصر، كما زعمتا أنه كان لا يزال في مكة حين أنه كان في يثرب ومعان والإسكندرية عادت تسائله في غضون ترحيبهم به وهم داخلون به الدار. فأخذ ورقة يذكرهم ما مر به من الأحداث أثر ما فضح من تدبير النضر لقتل رسول الله، وإهدار المشركين دمه؛ لقتله دسيستهم في تلك الليلة، وما جرى من إهدار اليهود دمه كذلك؛ لقتله عملاقهم وفارسهم، وكان على وشك أن يذكر حادثة التقائه بهيلانة في معان، ولكن لمياء قاطعته لحسن حظه سائلة: كيف عرفت بيت جدي؟ أم أنك رأيتنا مصادفة؟ قال وقد ارتاح إلى هذه المقاطعة: أما اللقاء فمصادفة من تدبير الله؛ لكيلا تطول وحشتي كنت أسير مع أنطونيوس بن لوكاس الحارس في المدينة لأتنظرها وأعرفها ومر بي في هذا الشارع، فما حاذينا هذا البيت، وكنت قد رأيته يوم جئت ونسيت موقعه، تذكرته فقلت لأنطونيوس: أليس هذا بيت العالم قوزمان قال: بلى. فوقفت أتأمله وبي حنين إلى رؤية سيدي، ولكني كنت أعلم أنه في مصر فمضيت متأسفا، ولكني شعرت للبيت بحب عظيم أخذ يزداد عندي كل يوم حتى صار كعبتي في الإسكندرية، لا تهدأ نفسي في يومها إلا إذا زرته وملأت من منظره قلبي، وأنا على هذا الحال منذ عرفت الطريق إليه أجيء إليه كل يوم وأنظر من خلال السور إلى بابه وبستانه، ثم أمضي ملآن القلب بالذكريات، وها قد أثابني الله على هذا الحج: لقاء الأحباب والأصدقاء، وإنها وربي لأجمل نعمة. فارتاح قوزمان إلى حديث الفتى ونزل في قلبه منزلا كريما. قالت لمياء: سمعتك تقول إنك رأيت هذا البيت يوم جئت ثم نسيت موقعه، وأنك علمت يومئذ بغيبة جدي؟ قال وقد ابتسم وأغمض عينيه كأنه يريد أن يخفي شيئا: نعم، قالت كيف كان ذلك؟ هل جاء بك أحد إليه؟ قالت هرميون وقد رأت خجل الفتى في ابتسامته وإغماضه: لم هذا السؤال يا لمياء؟ أنت تعلمين أن ورقة أتى الإسكندرية فيمن يأتون من الغرباء؛ ولا بد أن يبحث الغريب عن أقرب الناس إليه فيها. فهل عجب أن يطلب إلى دليله أن يسير به إلى بيت جدك؟ قالت لمياء؟ صدقت يا أماه. معذرة إليك يا ورقة. لعلي أسأت في هذا السؤال. معذرة. قال: لا وربي لم تسيئي، ولو كنت وحيدا حين جئت الإسكندرية غريبا عنها ما ترددت في التماس بيت جدك الكريم. إني أراه كمولاي الحارث سواء بسواء، وإن كان لي فيها فيما روى لي أبي - رحمه الله - أبناء أعمام. نعم، إني بحثت عنهم فعلمت أنهم رحلوا إلى الصعيد، ولكني جئت الإسكندرية منذ شهر تقريبا صحبة إنسان من أقرب الناس إليكم، وأحبهم لكم وإليكم. هو أو هي التي عرفتني إلى المقوقس فأخذني في حراسه مرفوع الدرجة بين رجال قصره. فنهضت هرميون تقول: من هي هذه القريبة المحبة التي جاءت بك هنا، والتي عرفتك إلى الوالي، أختي هيلانة؟ وكان ورقة يحاذر أن يلم بحديث هيلانة اتقاء لما وراء ذلك من ذكر مقتل زوجها وولدها، وانقلاب مجتمع المسرة محزنة، وإن كان قد شعر أنه كالذي لا يهمه من الناس إلا مصلحته منهم، ولذلك أجل الكلام عنها - وقصتها في المنتصف - حتى يهديه الله إلى مخرج لطيف المسلك، ولكن سؤال لمياء أحرجه فكان جوابه مترددا بين الإفصاح والإبهام، وكان عليه أن يجيب الآن سؤال هرميون فاكتفى بأن قال: نعم. السيدة هيلانة. قالوا: جاءت؟ متى؟ فاستعد يتكلم بما يملك، ولكن القدر أسعده فقد رأى هيلانة نفسها قادمة نحو الغرفة التي كان فيها فقال: أدع لها هي أن تتكلم وتحدثكم حديثها. إني أراها قادمة.
وكانت هيلانة آتية نحوهم لم يرها سواه؛ إذ كان وجهه إلى الباب، جاءت لأن الحارث لوكاس خبرها أن ولده رأى نورا في البيت ليلة أمس، وخيل إليه أنه رأى الأستاذ نفسه وسيدته هرميون، وأنه أرسله مرة أخرى؛ ليستوثق فعاد يؤكد له عودة أهل البيت وسيدتيه هرميون وابنتها، ولذلك استأذنت هيلانة في الحضور لزيارة أبيها وأختها، وجاءت مع إحدى قهرمانات القصر لذلك.
التفت الجمع فرأوها ونهضوا للقائها، وعرف ورقة ما وراء ذلك، فانسحب إلى الردهة وهم مشغولون ونزل يلتمس الحديقة، ولشد ما كانت حرارة هذا اللقاء. فقد رأوها في ثياب الحداد السوداء على غير علم منهم بما حدث، ولم يروا معها ابنها فقدروا أنه سبب ذلك، ولكنهم ما عتموا أن علموا بالداهية المزدوجة فهلعوا وبكوا وأعولوا، وانتحى كل واحد منهم في الغرفة ناحية يذرف فيها دمعه، وبقيت هيلانة بين يدي أبيها تبكي وهو يساقط دموعه على رأس ابنته المسكينة حزنا على زوجها وولدها، وأسى لها وإشفاقا عليها، وهو في أثناء ذلك يحاول تعزيتها فلا يجد لفظا يؤاتيه، فتركها وانصرف إلى الشرفة يطل على الحديقة؛ لعله يصرف بالنظر إليها وقع البلية عن نفسه. فما استقر بها لحظة حتى رأى المجاور بطرس البحريني يأتي من منعطف الدار مسرعا ويصعد السلم الخارجية في حالة مريبة نبهته إليه. فنهض ليطل عليه، ثم لم تمر لحظة حتى سمع ورأى مشهدا لم يخطر بباله أن يراه. ذلك أن ورقة كان قد رأى مقامه إذ ذاك نابيا؛ إذ الحزن في بعض أمره عورة، وخطر له أن يترك الدار حتى يملكوا لقاءه فنزل يلتمس الطريق إلى القصر على أن يعود في وقت آخر.
فتح باب البيت ليخرج فإذا هو يلقى بطرس البطريني أمامه. رأى أمامه فتى في الثلاثين من العمر في ملبس عجيب لا هو إلى ملبس أهل الدين ولا هو إلى ملبس عامة لاناس، ورأى وجها حسن التقاطيع، كل ما فيه جميل حقيقة: بشرة سمراء صافية، وأنف مستدق العرنين، فوقه عينان نجلاوان كحيلتان، ودونه فم رقيق الشفتين ألعثهما، وذقن حسن الاستدارة يعلوه عارضان عليهما لحية لامعة الشعر في قصر فهي جميلة، ورأى في الرجل تأدبا، ولكنه شعر أنه تأدب فيه شيء من الافتعال والاتضاع. كل ذلك رآه ورقة، ولكنه مع ذلك لم يستملح الفتى، ولم يمل إليه قلبه. بل الواقع أنه شعر حين وقعت عيناه على عينه برعدة مفاجئة، وذلك لأنه رأى بريق عينيه أكثر مما يجب للإنسان. بريقا عزاه ورقة إلى ما انطوت عليه نفس المرئي من وفرة الحياة والقوة المضاعفة والجراءة مع الذكاء الشديد، وكان هذا في حكم ورقة أخطر أنواع البشر. فهو لهذه المواهب الخارقة يكون مفرطا في الخبث والجراءة، وإن لم يخل لذكائه من الجبانة التي تزيد في حرصه ومكره. يرى جميع الناس صغارا مهما كبروا، ضعافا مهما قووا، حمقى مهما رشدوا، وأنه أحق منهم بكل ما في أيديهم من المتاع فإن لم ينزلوا عنه بالرضا وبالتسليم له بحقه فيجب أن يأخذه منهم غلابا. نعم، إن القوانين تحمي الضعاف، وكل الناس في عينه ضعاف، ولكن لا شأن له بالقوانين، فقد وضعها الضعاف أنفسهم؛ لحماية أنفسهم من أمثاله أصحاب الحق الفطري على كل متاع، ومن الحمق أن يسلم لهم بها إلا رياء ريثما يجد الوسيلة إلى الحصول عليه بما يسميه الضعفاء والقوانين إجراما، ولا يسميه هو إلا احتيالا ألجأه إليه إنكار الضعفاء حقه.
لم يحيه ورقة تعمدا، ولا ترك الباب الذي فتحه مفتوحا لدخوله؛ لأنه رآه واقفا ليس عليه أثر قدوم، فلا بأس عليه أن يستمر في وقوفه، ولذلك أقفل ورقة الباب وهو خارج. فغاظ هذا العمل بطرس غيظا كبيرا؛ لأنه كان يود أن يدخل البيت في غفلة أهله ليرى ويسمع، ولاح له وقد دخل ورقة ولمياء وأمها، ودخلت بعدهم خالتها والقهرمانة ما يدعو إلى التساؤل.وكان يمني نفسه أن يفتح أحدهم الباب ويتركه كذلك حين يراه فذهب ووقف على الصدفة التي أمام الباب في انتظار هذه الفرصة. فلما خرج ورقة وأقفل الباب وراءه غاظه هذا جدا، وكان مغيظا منه من قبل غيرة وحسدا فقال له: حسبت القصر يعلم الناس الأدب فإذا أنا مخطئ فيما حسبت. فنظر إليه ورقة هنيهة صامتا، ثم قال وقد رأى سوء أدب الرجل، وثبت له بعض ما توجس من أنه شرير شديد الاحتقار للناس، وأن خير ما يعالج به أمثاله دقهم على الناصية لأول حادث: أخطأت حقا يا سيدي كما أخطأت أنا له فإني ما كنت أحسب هذه العيون البراقة تعمى عن رؤية البديهيات؛ فذعر بطرس لهذا الجواب الصارم، ووقف يتأمل قائله فرآه على ما يبدو عليه من جنوح إلى الخير على شيء بعيد الغور من رباطة الجأش والمسارعة إلى القراع. فخشيه، ولكن غيظه منه كان متغلبا عليه فرد يقول: إنكم معشر الحراس لا ترون في الناس إلا ما ترون في أنفسكم. قال ورقة: هنيئا لك ذكاؤك الذي دلك على أني أراك سافلا قليل الحياء. فاضطرب بطرس، ولكنه تمالك نفسه وقال: لقد تساوينا في السفالة إذن. قال ورقة: صدقت، ولكني لا أسمح أن تفوقني فيها! ولطمه على وجهه لطمة قاسية ردته إلى الدرج، وهوت قدمه فوقع على ظهره مدلى الرأس حتى بلغ أرض الحديقة، وخانته رجولته عند ذلك فظل على هذه الحال مدة، وأخذ يصرخ ويستعدي حتى نبه إليه الثكالى فنهضن ينظرن ما جرى، ورآهن في الشرفة فنهض يريد أن ينتقم من ورقة، ولكن ورقة ركله فارتد حيث كان.
على أن قوزمان كان قد سمع الحديث كله، ورأى ما حدث من ساعة استراب صعود كاتبه على الدرج معاجلا، وهو لا شأن له ببيت أستاذه؛ إذ كان شأنه بالمكتبة، ولهذه باب مستقل خلف الحديقة. فترك الشرفة ونزل ليلقى الرجلين، ويحول دون ما قد يكون وراء ذلك. فلما فتح الباب ورآه بطرس جدد الصياح والشجار، وسأله الأستاذ متعجبا لأمره قائلا: لم هذا الصياح يا بطرس؟ قال: سل هذا الوحش يا سيدي، ماذا فعلت له حتى يشتمني ويلطمني ويلقيني على السلم كما رأيت؟ إنه رآني في هذا الثوب المتواضع، وهو في هذا اللباس الزاهي فظن أن الثوب يعطيه الحق في استخدام الناس، وتوجيههم في أغراضه السالفة، ويجيز له لطمهم إذا هم لم يجيبوه إلى أغراضه الدنيئة. أنا لا أتردد عن خدمة الناس في الأمر الكريم، ولكن لا يليق بكرامتي يا سيدي، وأنا بعد شماس في خدمة الكنيسة، وخدمة العلم والعلماء - أن أقف مع فاسق يسألني عن حي الراقصات والعواهر؟ إنه يريد مني أن أصحبه إليهن، وأدله على مكانهن أهذا ما وصلت إليه حالتي أنا المجاور المسكين؟ لا. لم يعد لي في هذه المدينة مقام. لا بد لي من العودة إلى صومعتي في الدير. ثم انفجر يبكي وينتحب!
فدهش قوزمان لجراءة الرجل في الافتراء، وقال في نفسه: غير بعيد أن تكون رواياته الماضية عمن كان يتشاجر معهم افتراءات كهذه، وأني أخطأت في الانتصار له واستصدار العفو عنه من نيقتاس غير مرة، واشتدت به دهشته حتى لم يجد ما يرد به على هذا البكاء. أما ورقة فوقف يتأمل الرجل بابتسامة الساخر؛ لأنه رأى منظرا عجبا شعر له بشيء من الارتياح في صدره، ذلك أن فراسته لم تخطئ حين وقعت عينه على الرجل أول وهلة، وعجب قوزمان لهدوء نفس ورقة في هذا الموقف، وابتسامته الساخرة حتى من الفضيحة، وشغل قوزمان عن سؤاله فيما جرى - لا ليعلم بل ليستوثق - بتفحصه والإعجاب به. فلما هم ورقة يبدي شيئا من تعجبه؛ لقدرة الرجل على الافتراء بمنتهى الطلاقة والذلاقة - خشي بطرس أن يؤثر كلام ورقة في قوزمان، فأخذ يقطع عليه كلماته بالصراخ والزئاط والذهاب والمجيء، ويكرر التهمة بالصوت العالي؛ ليسمع النساء على نحو ما اعتاد النجاح به في حوادث شجاره الكثيرة في حي المومسات، وقد نسي أنه لم يبد يوما لأستاذه في خلق الصخابين المقاطعين المعتادين مثل هذه المآزق، ولذلك نبهه قوزمان أن يخفض صوته، وأن يخرج من بيته من فوره ولا يعود إليه، وأنذره أنه إذا عاد أو رئي في البيت بعد حينه فسيسلمه إلى الشرطة الذين أنقذه منهم غير مرة.
صعق بطرس لهذا الحكم القاتل، وأدرك أن ما جرى بينه وبين ورقة قد سمعه الأستاذ وشهده على حال ما، وإلا فما كان يقضي هذا القضاء الجازم الشديد. فلم يعقب على كلامه، والتفت نحو الباب وهو يتمتم بكلمات وعيد لم يأبه لها ورقة، وما كاد ورقة يلتفت إلى الأستاذ؛ ليعتذر إليه مما جرى حتى قاطعه هذا قائلا: لقد رأيت قبل أن ترى ما رابني منه، وسمعت ما بدأ به كلامه معك وما رددت عليه، ولا وزر عليك، وأنا أولى أن أعتذر إليك من فرية هذا الرجل الذي خدعني ثلاث سنوات متوالية.
الفصل الأربعون
المؤامرة
بلغت الشملالة بأورست حظيرة متجره الواسع العظيم في يوم واحد، وكان من أغنياء الإسكندرية المعدودين، وكبار تجار القمح والغلال فيها، وإذ كان كثير الصلات بأصحاب مزارع القمح في الصعيد ومصر السفلى فضلا عما كان يمتلك من الضياع - فقد كان كثير الأسفار عالما بالطرق عارفا بقيمة الزمن، وإذ رأى الشملالة كالعقاب في سيرها عرف قيمتها في عمله، وانتوى أن يستولي عليها بالرغم من أنه علم من كوسموس شدة تمسك الفتى العربي بها، وذلك إما بشرائها منه أو باغتصابها، وكان يعتمد في ذلك على أنه رومي من أساطين الحزب الأزرق حزب الإمبراطور الذي لا تجرؤ الشرطة أن تمسه بأذى، وأنه من ذوي الجاه بماله وعلاقته بالكنيسة الرومية العالية. على أنه انتوى ألا يستفيد من مركزه هذا الممتاز في تحقيق أمنيته إلا إذا عجز أن ينالها برضا من الفتى العربي وقبول كأن يدفع له فيها أغلى ثمن وأدعاه إلى التفريط فيها. غير أنه أبقى خطته النهائية حتى يرى وجه صاحبها ويحادثه، ويحكم أي نوع هو من الرجال؛ ليقيس عليه تدبيره.
على أن ورقة لم يستطع أن يلقاه في الزيارات القليلة التي جاء فيها إلى رقودة مع أنطونيوس أو وهو يزور بيت قوزمان على عادته كل ضحى؛ ليتزود لقلبه بالنظر إلى مكان ولدت فيه منى النفس لمياء، وعاشت ثلاثة عشر عاما غذاها فيها وغذته: هو بما فيه من الكمال وهي بما عليه من الجمال. كان يقال له في كل زيارة: إن التاجر لم يأت بعد من بيته، أو أنه أرسل ينبئ بمرضه، أو أنه ذهب إلى مريوط أو كانوب. حتى إذا كان اليوم الذي التقى فيه بلمياء وأمها، وحدث ما حدث من مجيء هيلانة إلى بيت أبيها واصطدامه ببطرس البحريني، واستأذن من قوزمان في الانصراف على أن يعود في وقت آخر - خطر له أن يمر مرة أخرى على متجر أورست عسى أن يكون قد جاء.
والواقع أن ورقة أخذ يتشمم ريح الغدر من الرجل، ولكنه لم يرد أن يقطع بذلك، فقد كان الرجل تاجرا محترما، وكان من نواب المدينة في المجلس، وكان الضابط الذي أخذها منه في يثرب يثني عليه، كما أن معه صكا يفيد أن الضابط أخذها له عينا، والضابط يعرف السيدة هيلانة ومنزلتها في قصر الحاكم، وإذ إنه لم يرسل ما يفيد أنه تصرف في أمرها بغير ما أعلنهما به فلا شك في أنه ركبها ولا شك في عودته فقد روى له أهل المتجر ما يفيد ذلك، ولذلك لم يذعره ما تشمم من ريح غدر الرجل، ولا سيما لأنه يستطيع أن يشكوه إلى مولاه نيقتاس.
لم يدخل المتجر هذه المرة من حيث اعتاد أن يدخل. فقد رأى له بابا شرقيا غير مطروق إلا لبعض مستخدميه، وعمد إلى الدخول منه؛ ليتجنب لقاء ذلك البواب الذي اعتاد أن يعطيه أجوبة غير مؤدية إلى لقائه. قصد إلى ذلك الباب، وسأل الحارس عن أورست فأشار إليه وكان جالسا في غرفته وظهره إلى الداخل. فأسرع خطوه حتى وقف بالباب ونظر إليه يسائله: السيد أورست؟ فدهش الرجل أن يدخل عليه ضابط من حراس القصر دون أن يعلنه أحد من مستخدميه بقدومه؛ لينهض لاستقباله عند البا، ولذلك نهض من مجلسه عجلا، وفي احترام كبير، وهو يقول زاعما أنه موفد إليه من الأمير: نعم يا سيد، أنا أورست. مرحبا بك. تفضل بالجلوس. فلم يجلس ورقة، واستمر الرجل يقول: كيف قصر أولئك الكلاب فلم يعلنوني بمقدمك لأنهض للقائك. قال: لا بأس بما جرى. هذا خير. جئت عرضا من الباب الشرقي . إني أنا حارس الأمير نيقتاس، ورقة العربي. لي عندك أمانة. قال: أي أمانة يا سيدي؟ قال: الناقة التي تفضلت بأن تأتي بها راكبا إلى الإسكندرية. فصمت الرجل ونكس رأسه مدة لا يعرف بم يجيب، وانتظر أن يسأله ورقة سؤالا آخر عسى أن يجد فيه ناحية أو عاطفة أو معنى ينتفع به في إنكارها أو تيئيسه منها، كأن يقول له: لماذا لا تجيب؟ أو هل نفقت؟ أو ضلت؟ أو سرقت؟ فيجيبه بقوله: نعم، أو غير ذلك، ولكن ورقة لم يزد على سؤاله حرفا وحرمه هذه الأمنية التي تمناها، وطال سكوت الرجل، وطال انتظار ورقة لجوابه وهو واقف أمامه وقفة عرف الرجل معناها، وأدرك أنه أمام فتى مصمم ومستيئس فإذا هو أنكرها فلا بد أن يستعدي عليه الأمير ويأخذها قسرا، وإذا هو ادعى أنها نفقت، فربما كان له من هذا مخرج أهون. فقال: يحزنني يا سيدي أن أخبرك أنها نفقت أو بالأحرى زلت عن الشاطئ بعد الكريون بقليل فوقعت وكسرت ذراعها، فرأيت أن أذبحها على الفور وأتركها للفقراء. هي غلطتي يا سيدي، ولكنه قضاء الله. كم ثمنها أيها الضابط؟ إني على استعداد أن أدفع ثمنها مضاعفا ولو بلغ مائة دينار. فنظر إليه ورقة نظرة مكذب لما سمع، وأراد أن يبلغه ذلك فقال له: ثمنها مائة دينار ورأسك معه. قال أورست فزعا: ماذا تقول يا سيدي؟! قال: أقول ما سمعت، ثم تراجع فأقفل الباب الذي دخل منه في انتظار جواب الرجل. فقال الرجل: إنك تجهل من أنا. قال: لص سافل. هذا ما أرى، وإذا كان لك إذ أنت رومي أن تعبث بيعقوبي أو غير يعقوبي من أهل هذه البلاد الكثيرة الكلام - فليس لك أن تعبث بعربي لا يعرف مينا ولا يداور! فعاد الرجل إلى ملجسه يفكر في الخروج من المأزق الجديد الذي أدخل نفسه فيه، وهو أكذوبة زلة الشملالة وذبحه إياها عند الكريون، ولكنه تشجع وقال: إنك تظلمني يا سيد، وتظلم نفسك. هل يجمل بعاقل أن يسلم رقبته للجلاد من أجل ناقة؟ قال : لا عليك مني، ولكن هل يجمل بك أنت أن تعرض رأسك لسيفي على الفور من أجل ناقة تريد اغتصابها! قال أورست: إذن فاستمع يا صاحبي، الشملالة عندي. سليمة مكرمة، ولكني لم أجد مثلها مركبا، وأنا تاجر كثير الأسفار، وللزمن عند التاجر قيمة عظيمة ولا سيما في هذه الأيام، ولقد خطر لي أن أشتريها منك، ولكني كنت علمت من كوسوس شدة تعلقك بها فلم أجد لذلك من حيلة إلا ما رويت، وأنا مستعد الآن أن أردها إليك، ولكني أرى أنه لم يعد لك بها حاجة قريبة. أنت في القصر كما أرى، ولن تحتاج إلى العودة بها إلى بلادك، ولدى القصر من وسائل النقل ما لا يخفى عنك. فأنا ألتمس منك فضلا: أن تطلب فيها ما تشاء فإني دافعه عن رضا، أو تتركها أمانة عندي برهن أتركه عندك. أطعمها وأقوم لها بما يجب من الرعاية على أن يكون لي حق استخدامها في أسفاري بحيث إذا كنت في الإسكندرية، وكنت في حاجة إليها رددت إلي رهني وأخذتها، وبحيث لا أملك أن أردها إليك، وأسترد مالي.
فكر ورقة في الأمر فوجد من مصلحته أن يفعل ذلك إذ كان حفظها غير ميسور له إلا بأجر كبير، ولكنه خشي أن يعود الرجل إلى إنكارها فتردد، ثم قال: وما هذا الرهن؟ قال ضعفا ما عرضت عليك: مائتا هرقلي. على أن يكون المال لك إذا أنت رغبت في النزول عنها، ولا يكون لي حق رد الناقة إليك وأسترد مالي. فصمت هنيهة جاهد نفسه فيها مجاهدة كبيرة، ثم قال: رضيت بذلك على أن يكون لي الحق في زيارتها ومعاينة حالها كلما عن لي ذلك. قال الرجل: وإليك المال. ثم أخرج من خزانته قبضة إثر قبضة وعدها ودفعها فتناولها ورقة، ثم تناول قرطاسا فكتب على نفسه صكا بما اتفقا عليه حين كتب ورقة صكا بمثله. ثم تراضيا ونهضا لزيارة الشملالة فوجدها في حظيرة يشتهي كثير من الناس أن تكون مرقدا لهم. فلما شمت ريح ورقة التفتت إليه وعرفته فأرزمت، فدنا منها وتناول رأسها في كفيه وقبلها في ناصيتها ، وهو يقول مذكرا إياها بما مضى من أمرها: «إيه يا شملالة! عرفت صاحبك؟ أتذكرين ما قلت لك في حلة الأراك؟ نضو أسفار مثلك، وحليف قفار. بيد أني أحمي الذمار، وأنبو عن مظنة العار، ولقد عركت الدهر فما وجدت أعدل من الرمح ولا أمضى من الحسام البتار. لست أفارقك يا أخية، وإنما أستودعك صاحبي حتى حين. هو في حاجة إلى قائم ساقك وغيره إلى قائم سيفي، ولكنا بعد هذا عروسان. ثم قبلها مرة أخرى في جبينها، وانصرف مغرورق العين.
شهد أورست هذا الوداع فتأثر هو أيضا، وزال كل ما كان في نفسه من أثر عراكه معه عندما لقيه، بل وقعت محبته في قلبه حتى لم يطق أن يفارقه، وإذ رأى ورقة تميل به قدمه نحو باب الخروج أقسم عليه ألا يتعجل في الانصراف، وصارحه بما أصبح له من المنزلة عنده، والتمس منه أن يقبل دعوته إلى الغداء معه عربونا على رضاه ومودته، وكان عباراته في ذلك تنساب في ثوب الصدق الصراح الذي لا تشوبه شائبة من مكر أو مجاملة، وكان على ورقة هينا أن يرى ذلك، وإذ لم يكن في حاجة إلى الإسراع في العودة إلى القصر؛ لأنه ما كان مطلوبا إليه أن يكون في خدمة الأمير إلا في الليل، أجاب دعوة أورست شاكرا ومعتذرا إليه مما بدا منه من الشدة معه، غير أنه استمهله حتى يقضي زيارة كان قد ارتبط بها، وإذ علم أورست أنه قاصد بيت قوزمان استأذن منه في مرافقته قائلا: إن منزله يكاد يكون ملاصقا لولا ما يفصل بين حديقتيهما من زقاق، وأنه يحسن في هذه الحالة أن يعرف المنزل ليجيء إليه مباشرة.
سارا، وكان أورست معتادا أن يسلك إلى داره طريقا في بستان قديم لقصر قديم كان ملكا لحاكم مريوط السابق، ولكن الثورات الماضية خربته؛ لانضمام صاحبه إلى أعداء الإمبراطور القائم، ولم يبق منه إلا بعض حجراته السفلى وبعض حوائط عليا تحمل بقية سقوف هنا وهناك لم تأت عليها معاول الثوار فبقيت علما على ما كان عليه هذا القصر من الفخامة وكمال الزينة.
فلما دنا الرجلان منه، وقف ورقة يتأمل جمال نقوشه وصوره، وأخذ يتطلع ويعجب، وأورست معه يتحدث عن صاحبه وتذبذبه بين الفريقين، وورقة دهش لما يرى، وفيما هما كذلك شعرا كأنما الجو الذي كان يحيط بهما قد صفا، وكأنما كان فيه دوي بعيد ثم خفت، فنبههما السكون المفاجئ كما لو أنه لم يكن سكونا بل كان ضوضاء - إلى أن بالقصر شيئا، ولكنهما لم يريا أن يدخلاه ولا أن يقفا ليتفحصاه، بل استمرا في طريقهما. حتى إذا لاح للعين شباك في طبقته السفلى مخبوء وراء فروع بعض نبات مهمل في الحديقة عرج ورقة؛ لينظر من بين قضبانه إلى داخل البيت المهجور، ولشد ما كان عجبه؛ إذ رأى جماعة من الناس عليهم سيما السراوة قد اجتمعوا في هذا القبو أو السرب يتحدثون، وقد بدت عليهم علائم الاهتمام الشديد بما هم فيه. كانوا أخلاطا عجيبين من يعاقبة ويهود: بعضهم فيما يبدو من رجال الدين، وكثرتهم من رجال الدنيا، ولشد ما كانت دهشته إذ تبين فيهم اثنين من أصحابه في حلة الأراك باليمن، هما: إسحاق بن مرداس والحبر. كانا جالسين مع أمثالهما من يهود لم يعرف ممن هم، وإن عرف من ثيابهم وسحناتهم أنهم يهود، كما تبين في الفريق الآخر صاحبه بطرس البحريني وبعض رجال من قساوسة اليعاقبة خيل إليه أنه رآهم في القصر في عيد الميلاد حينما جاءوا يهنئون الأمير المقوقس نيقتاس بالعيد.
كانوا يتكلمون بلغة خليط بين الرومية والقبطية فلم يفهم منهم شيئا كثيرا، ولكنه رأى صررا من المال ملقاة على الأرض بين المجتمعين، ورأى في جانب المكان أكواما من السيوف، فأدرك ورقة على الفور أنه تآمر على الحكومة القائمة؛ إذ لو لم يكن كذلك ما كانوا في حاجة إلى الاختفاء، وكان يعلم نجوى اليهود في جميع بقاع الإمبراطورية الرومانية مما علم من أفعالهم في ديار القدس والشام، وما سمع من كل من اتصل بهم ولا سيما من هيلانة، ويعرف كذلك مقدار فرح اليعاقبة بانتصار كسرى وشماتتهم بأهل المذهب الرومي، واعتقادهم أن كسرى قد تنصر، وأنه يريد أن يتولى بطريق اليعاقبة في مصر مراسم التنصير له.
أدرك هذا وما كان أهون عليه أن يدرك، ولكنه تنحى لصاحبه عن مكانه؛ ليرى هو أيضا ويثبته في رأيه إن كان محتاجا إلى ذلك. فتقدم أورست من حيث كان ورقة ينظر، وسمع ما سمع ورأى ما رأى، وعاد يقر ورقة فيما خطر له، وزاد عليه أنه فهم من حديثهم أنهم يدبرون تدبيرا؛ لفتح أبواب المدينة لجيوش الفرس. ما إن يرموا أول حجر عليها من مجانيقهم حتى يدخلوا المدينة بلا حصار طويل، وسمع إسحاق يقول ويترجم له أنه اتفق مع السلار على ذلك، وعلى ما يكون لكل ذي يد في هذا العمل العظيم من كبير الأجر، وأن المال الذي جاءوا به هو في أكثره من مال السلار، أما السلاح فهو كما يعلمون من سلاح إخوانهم في الإسكندرية جيء به؛ ليوزع على الدهماء في محاولتها قتل حراس الأبواب.
لم يكن لورقة بعد هذا إلا أن يؤجل اللقاء إلى يوم آخر؛ لينصرف إلى أداء واجبه إذ هو جندي، وإذ هو حارس الأمير الخاص، ورافقه أورست إلى الطريق المؤدي إلى البراكيوم على أن يلقاه في أقرب فرصة.
ولكن ورقة لم يذهب إلى القصر بل ذهب إلى أقرب مخفر للشرطة وأنهى إلى ضابطه ما رأى وما سمع، وطلب إليه أن يحاصر المكان، ويقبض على من فيه، واعتذر إليه من انصرافه إلى القصر ليبلغ الأمير، وسرعان ما نهض ضابط المخفر لهذه المهمة، وسار بجنده لحصار المكان حين كان ورقة يغذ في سيره إلى الأمير؛ لينهي إليه خبر ما رأى وما فعل. لقيه في قاعة الاستقبال الكبرى، ووجد معه شيخا مهيبا في لباسه الكهنوتية العليا. أدرك من فوره أنه البطريق الرومي الخالد الذكر حنا الرحوم صاحب البر والإحسان الذي ضرب به المثل، والذي كان وجوده في الإسكندرية نعمة لأهلها. لم يفرق بين رومي ويعقوبي ويهودي، فالكل كانوا لديه أبناء الله الذي أسعده بولاية أمورهم، وكان الأمير مشغولا مع الرحوم في حديث خطير كانا فيه يدبران وسائل المقاومة؛ إذ بلغهما قدوم السلار شاهين الفارسي إلى الإسكندرية، وكان الأمير قد أمر ألا يدخل عليه أحد ما دام مع البطريق، ولكن ورقة لم يتردد في الدخول عليه وهو معه؛ لأنه كان مفوضا له أن يدخل متى شاء؟ وأين شاء؟ ولأن لديه فوق هذا خبرا خطيرا - دخل فاستاء الأمير لدخوله، ولكنه كاد يتبينه حتى انبسطت أساريره، وناداه حين كان يعتذر إلى البطريق بقوله: هذا حارسي العربي الأمين. إن وراءه خبرا عظيما! أؤكد لك. ما وراءك يا بني؟ قال: مؤامرة! فذعر العاهلان، ونهضا من مجلسهما فزعين يقولان بصوت واحد: مؤامرة! قال ورقة: أجل من اليهود واليعاقبة في حي رقودة. رأيتهم مجتمعين في سرب قصر ليونوتوس المتهدم، ومعهم أكوام من السلاح، وصرر من المال؛ ليفرقوها في الدهماء يوم يصل الفرس على أن يقتلوا حراس أبواب المدينة كي يدخلوا بلا عناء. ثم سرد لهما الحادث تفصيلا، وأنه ذهب من فوره إلى ضابط المخفر وأبلغه ما رأى، وأنه تركه يستعد لحصار القصر القديم بجنوده؛ ليقبض على المتآمرين، وجاء ينهي الخبر إلى مولاه.
شكر العاهلان ورقة، وأثنيا عليه، ودعا له البطريق دعاء كريما، وبعد قليل طلب إليه الأمير أن يعود؛ ليأتيه بخبر ما جرى بعد ذلك، ولكن كان ضابط المخفر قد حضر إلى القصر على جواده واستؤذن له فدخل يقول: إنه ذهب إلى القصر القديم، وحاصره مع جميع جهاته، ودخل ببعض جنده من باب كان مقفلا بل مسدودا من الداخل، ولم يترك فيه مكانا لم يطرقه ولكنه لم يجد أحدا. فدهش ورقة وقال: عجبا! وأخذ الشك يساور الأمير ويوحنا كذلك فقال له: كيف ذلك؟ إن ورقة رأى فيه جماعة من أعيان اليهود واليعاقبة، ورأى أكواما من السلاح وصررا من المال. قال الضابط: أما إنهم كانوا هناك فلا شك عندي في ذلك، فقد سمعت لفظهم حين حاصرتهم كل ما وجدته هو السلاح وبعض دنانير فارسية مبعثرة في أرض الغرفة ، هي هذه، ثم قدم له منديلا صر فيه الدنانير فتناولها الأمير ولم يفضه، واستمر الضابط يقول: وأكبر الظن أن وعاءها انحل منهم ساعة الجري، ولم يستطيعوا في عجلتهم أن يجمعوا كل ما تناثر.
كاد نيقتاس يتميز من غيظه لإفلات المتآمرين من يده، وزاد غيظه أن حسن سياسته مع قساوسة اليعاقبة والرفق بهم والعدل معهم ثم إكرامهم بترك بطريقهم في كنيسة الإنجيلون في الإسكندرية حين أنه كان محرما عليه ذلك في العهد السابق احتقارا له وامتهانا لشعبه، لم تفد معهم شيئا، وأن حمايته اليهود طول مدة ولايته، وتسويتهم بالروم في الحقوق المدنية لم تذهب حفيظتهم، فتنفخ كدرا ولم يدر ماذا يفعل فصمت، وكان بوده لو يلقي نار غضبه على الضابط، ولكنه لم يجد عليه ذنبا قريبا. على أن ورقة كان يعجب أين ذهب المتآمرون؟ وخطر له أن يسأل الضابط: هل فتشتم صهريج القصر؟ فكان سؤاله هذا وهو بريء المصدر منفذا ينفس فيه نيقتاس العادل - إذ كان الرجل عادلا حقا - مرجل غضبه، واشتهت نفسه أن يقول الضابط: لقد فاتني هذا - ليودي به ويعبث، ولكن الضابط قال: نعم. نزلته بنفسي أنا وعشرون من رجالي، وما زلنا سائرين حتى خرجنا منه إلى خندق مهجور، وأكبر الظن أنهم خرجوا منه كما أتوا منه. فلم يجد نيقتاس بعد ذلك ما يؤاخذه عليه، ولكنه استمر في حنقه، ولحظ البطريق ذلك فتدخل يقول: لقد فعل الضابط واجبه فما عليه أن يعرف مآخذ الصهاريج التي تملأ بيوتنا جميعا، ولكن نيقتاس لم يهتم بذلك، وسأل الضابط: كم لك في خدمة المدينة؟ قال: منذ فتحها مولاي المقوقس. قال: ولا تدري أن الصهاريج كانت في كل عهد مخبأ وملاذا ومفرا. قال: الصهاريج للماء لا للهرب يا مولاي. قال: حتى ولو كانت في قصر خرب منذ ثماني سنوات. فصمت الرجل ولم يتكلم. قال: يحسن بك أن تتعرف الخرائب التي في اختصاصك وتقيم عليها العيون. اذهب وكن أرعى لوظيفتك بعد يومك.
حيا الضابط وانصرف، ولكنه ما كاد يصل إلى الباب حتى استوقفه الأمير فعاد حين كان ورقة يقول لمولاه: إنه عرف من المتآمرين ثلاثة رجال؛ أحدهم يدعى بطرس البحريني، وهو كاتب كان حتى صباح اليوم في خدمة السيد قوزمان العالم، ثم طرده من خدمته؛ لما تبين عليه من الريب. فقال الوالي: إني أعرفه حق المعرفة. إذن فقد كان شيطانا كما خبروني، والآخران؟ قال ورقة: الآخران أجنبيان عن الإسكندرية، يهوديان؛ أحدهما: من ولاة الحكم في صنعاء اسمه إسحاق بن مرداس، والآخر: حبر من أحبارهم. لقيتهما في الطريق إلى مكة وكانت لي بهما علاقة، حين كانا ذاهبين إلى أرض المعاد للقاء السلار شاهين في القدس ومعهما هدايا لكسرى، وهما اللذان جاءا بمال الفرس الذي منه هذه الدنانير، ولعلك يا مولاي إذا قبضت عليهم قبضت على سائر المتآمرين. فسر نيقتاس ويوحنا لذلك سرورا عظيما، وأمر الوالي ضابط المخفر أن يبحث عنهم ويأتي إليه بهم. فانصرف الضابط راجيا أن يوفق إلى مرضاة الوالي، واتجه إلى القبض على بطرس البحريني؛ لأنه كان في نظره أهون الثلاثة عليه مشقة، وإن كان أعظمهم خطرا.
الفصل الحادي والأربعون
تفسير الشرط
كان بطرس البحريني خبيرا بطبائع الناس، ولم يكن الحبر اليهودي أقل منه في هذا ولا إسحاق بن مرداس، ولذلك قدر كل منهم - وقد فشلوا في مؤامرتهم - أن لا بد أن يحاول بعض الفاشلين فضح أمرهم والوشاية بهم؛ ليتقربوا إلى من في يديهم الأمر حتى اليوم، ولا بأس عليهم أن يتقربوا في الغد إلى أعدائهم، ولذلك استقر رأى بطرس البحريني من ناحيته، واليهوديان من ناحية أخرى ألا يبقيا في المدينة بعد ساعتهم تلك ساعة واحدة، ولذلك قصد هذا إلى بيت خليلته فجمع حاجاته وأعلن جميع الجيران أنه يغادر المدينة إلى حيث تلقي به السفينة الذاهبة إلى نيقيوس ثم لا يعود، وخرج مودعا بكل مظاهر الأسف الجاف من جيرانه ومعارفه، وهو يجمل حقيبته على كتفه بشكل يلفت النظر، وكان كلما سأله سائل ما بك يا بطرس؟ أين ترحل؟ يقول: إلى منوف: إلى الدير الذي خرجت منه فلقيت الهوان في بعدي عنه. لقد غضب علي الرجل الذي أحسنت إليه، وصدق في وشاية كاذبة فلم أعد أطيق البقاء في الدنيا التي يجزى المحسن فيها شر جزاء، ولكن هذا عقاب الرب لي على خدمة رومي كافر. على أنه لم يركب السفينة إلى منوف بل خرج من باب القمر؛ ليعود من باب الشمس، وقد غير زيه وحلق لحيته وشاربه وقفل إلى كنيسة الأنجليون حيث يلقى شريكا له في المؤامرة الفاشلة ويستضيفه. أما اليهوديان: فذهبا من فورهما إلى حي اليهود، واستودعا المال حبر الحي، وكان الرجل عليما بما جاءا في صدده ومشتركا معهما في التدبير واستأذنا، ثم سافرا فعلا قاصدين إلى السلار؛ ليبلغاه ما وقع، ويخبراه بما فعلا بالمال، ولذلك لم تؤد مباحث الضابط إلى شيء مما أراد، فقد أخبره أهل الحي الذي فيه خليلة بطرس أنهم رأوه راحلا، وأنهم علموا أنه ذاهب إلى منوف، وعلم الضابط من حراس باب الشمس أن اليهوديين خرجا قبل السؤال بزمن ليس بقليل على الراحل على بغلين إلى حيث لا تصل إليهما يد أحد الآن حتى ولا نيقتاس نفسه؛ إذ كان الفرس قد انتشروا فيما وراء الأرباض الشرقية، ويوشكون أن يحاصروا الإسكندرية، ولم يجرؤ الضابط أن يرفع نتيجة جهده إلى القصر فأرسل إلى ورقة خطابا مع أحد جنوده يذكر فيه خيبته، ويرجو منه أن يتلطف فينهي ذلك إلى الأمير ويفيده.
كان الليل قد أرخى سدوله على الإسكندرية، وأخذت هواجس الأمير تعبث بفؤاده، فتمثل المتآمرين مجتمعين، وتمثلهم قائمين بثورة، وأنهم يقتلون الحراس ويفتحون الأبواب، وأن الجيوش الفارسية تدفقوا في المدينة، وهرعوا إلى القصر؛ ليقبضوا عليه ويقتلوه. فاضطرب، وأخذ يسير في غرفه مسرعا كالنمر المحبوس لا يدري ماذا يفعل؟ ولكنه علق على القبض على البحريني واليهوديين آماله حين أن القبض على المتآمرين كلهم لو تم ما أمنه إلا من شرهم وحدهم، وخطر له أن يستأنس في ضيقه بورقة حارسه المحبوب، وأنيسه الذي أصبح يراه كالهواء لصدره فناداه، وكان ورقة إذ ذاك آتيا إليه؛ ليخبره بفرار بطرس وإسحاق. فلما رآه قال: ألم يرد خبر من أوربيداس ؟ قال: بلى يا مولاي، الآن، ولو لم تدعني لكنت أنهيته قبل أن تسألني. إنهم فروا من المدينة وهذا أكبر دليل على حبوط المؤامرة. قال: ولكني كنت أشتهي أن أصل بهم إلى بقيتهم، وكان إخلاص ورقة لنيقتاس وحب نيقتاس له قد رفع حد الكلفة بينهما. بل كان نيقتاس نفسه هو العامل على رفعها؛ لكي لا يحرم الأنيس والنصيح، وليجد في جواره محدثا يستبين الصواب من محادثته، فقال له: لتنتقم منهم يا سيدي، أم لتكفى نفسك شرهم؟ قال: لهذا وذاك يا ورقة. قال: أما أن شرهم قد زال فهذا ما لا شك فيه. إنهم لا يعملون إلا بالمال، وقد ذهب اليهوديان بالمال، وأما أن تنتقم منهم فليس هذا وقته. إن لهم أهلا وأقارب وزعماء وأحزابا، وأنت اليوم في حاجة إلى هدوء الناس؛ لئلا يتخذ بعضهم هذا الحادث عذرا من الخيانة بدعوى الانتقام لأهلهم، أو دافعا إلى الثورة وقت الحصار، وإنا لنحمد الله الذي أفسد مؤامرتهم قبل أن تفرخ بيضتها. قال نيقتاس بعد شيء من التفكير: صدقت يا ورقة. هذا كله بفضلك. قال: بل بفضل الله الذي يحبك يا مولاي. لقد عثرت بهم غرضا! إذ كنت أسير إلى بيت الأستاذ قوزمان. فقال: أبي هيلانة. قال: نعم أبي هرميون امرأة أستاذي الحارث بن كلدة. قال نيقتاس ضاحكا: أليس الرجل أبا السيدتين يا ورقة؟ قال ورقة متعمدا تسرية الهم عن مولاه لما رآه كثير التفكير في غير طائل: بلى يا مولاي، ولكني عرفته على أنه أبو امرأة أستاذي وجد ابنته لمياء، وسيبقى كذلك في ذاكرتي وعلى لساني، ولو غضبت سيدتي هيلانة. فضحك الأمير ضحكة سرت عن نفسه كل هم، وقال: لا أدري والله على أي الأمرين أشكرك؛ على إحباطك المؤامرة؟ أم على تسرية الهم عني؟ وكانت القهرمانة قد عادت بسيدتها هيلانة إلى القصر، وعاد معهما قوزمان؛ ليهنئ الأمير على سلامته. فلما رآهم نيقتاس هلل لمرآهم ورحب بهم، وإذ كان يعرف علاقتهم جميعا بورقة مما سبق لهيلانة أخباره به من تاريخ ورقة بمكة انبرى فيما هو فيه من الانشراح يفضح ورقة لدى هيلانة بما قال. فقالت مازحة: أهذا جزائي لديك يا ورقة؟ قال: ما زعمت الأمير فاضحي لديك بهذه السرعة، قالت هيلانة للأمير: أنا أعرف سبب نسيانه إياي يا سمو الأمير، ولكني لكي أنتقم منه لا أبدي لك السبب أمامه ولا أمتعه بذكره قال: بل اذكريه بحقي لديك، لعل فيه فضيحة أخرى. قالت: إنه يحب لمياء بنت هرميون حب عبادة وهيام فهو لا يعرف من أبناء قوزمان سوى أم لمياء، ولو تركت له العنان ليعرف لك أبي لأنكر هرميون وقال: جد لمياء. فضحك الأمير، وقال: لقد قالها وربي وأوجست ما ذكرت. ما أشد وفاءك للمياء يا صاحبي! ولكن ترى هل تحبه لمياء كما يحبها؟ قال قوزمان: لقد أبت أن تتزوج ابن أختي رعيا لذكراه فيما أعتقد؛ على أنها كانت إذ ذاك يائسة منه. قال: وهو! لماذا لم يخطبها إليكم وقد اجتمعتم؟ قالت هيلانة: إنه يزعم أن أمها تأباها عليه، وأقسم لك يا سمو الأمير أنها لا تتردد في قبوله بعلا لابنتها. هكذا علمت منها اليوم، لولا أنه يزعم أن أستاذه يكره أن يزوج ابنته من غير قرشي من أعيان مكة. على أن هرميون كانت قد اشترطت على زوجها أن يكون أمر زواج ابنتها بيدها، وأقسمت إلا أن تزوجها في الإسكندرية وفي بيت الأمير نيقتاس نفسه.
قال نيقتاس: ويجب أن يستمر شرطها، وها نحن أولاء في الإسكندرية وورقة في بيتي بل هو ابني، فأصبح من حقه بمقتضى هذا الشرط أن يأخذها رضيت أم لم ترض. أليس كذلك يا ورقة؟
كان ورقة يستمع إلى هذا الحديث وهو مضطرب؛ لأن هيلانة قد طارت به من الأرض إلى جو لم يكن قد استعد له بجناح، فرفرف ورفرف وأسف، ثم ركع على ركبتيه، وتناول يد الأمير وقبلها وهو يقول له: مولاي الحبيب المبجل، أعفني بحق الله عليك.
فتعجب الأمير لكلام ورقة، والتفت إلى هيلانة يسألها عن سر هذا الرفض؟ فقالت: ما سمعت حديث حب أصفى من حديث ورقة ولمياء، ولكنه وفي لأستاذه جد الوفاء، ويكره أن يقول عنه إذا هو تزوج ابنته بغير رضا إنه اغتصبها، وقد عرفت قدر ما عليه ورقة من النبل. قال نيقتاس: وأين منه أستاذه الآن؟ إنه في صحراء العرب، وإذا جاز لعربي لم يهمنا نسبه أن يتزوج رومية خالصة لعلمه وفضله - فأحر أن يتزوج عربي مثله فتاة نصفها رومي، ونصف عربي، وهذا العربي فيما يعرف الناس وأعرف لا يقل عنه فضلا ونبلا. أليس كذلك يا قوزمان؟ فأجاب قوزمان حين كان ورقة واقفا في حيرة لا يدري بما يقابل كلمات بر سيده: لقد سمعت يا مولاي عن ورقة من ابنتي هرميون ولمياء، ثم من هيلانة اليوم ما لم يكن يخطر لي على بال. إنه وحقك لقديس، ولو كانت لي بنت ثالثة لعددت زواجها منه نعمة من الله علي. قال نيقتاس: ولمياء؛ أليست ابنتك؟ قال: بلى، وإني لأملك بفضلك أن أزوجها منه؛ لأننا كلنا رضوان، وها أنت ذا ترى رأينا، ولكن ما حيلتنا فيه؟ فقد أقر لابنتي هيلانة وهو في الصحراء أنه يحب لمياء، بل هي التي استكشفت ذلك، ولكنه يأبى أن يلقى أستاذه وفي نفسه ما قد يكون علامة أسى. قال نيقتاس: غدا يعقد عقده على لمياء هنا! احضروا بها إلي غدا هي وأمها. إن لهؤلاء القديسين أعمالا وآراء لا نفهمها نحن أهل الدنيا الفانية، وضحك ضحكا متواصلا. ثم قال: سأراها، فإن رأيت أنها من الجمال والكمال بحيث تصلح لك أقطعتك في الإسكندرية مرتزقا، ورقيتك وزوجتك إياها على يد أخيك في القداسة يوحنا الرحوم نفسه وإلا ... ثم التفت بابتسامة صوب ورقة، ولكن ورقة لم يكن موجودا حين كان يتكلم. فقد انسل من المجتمع ساعة ذكر قوزمان ما ذكر عنه. فقال الأمير: أين ورقة؟ وإذ لم يجده أدرك سر هروبه فضحك، ثم نهض يبحث عنه فوجده عند غرفه فعاد إليهم ضاحكا حين كانت هيلانة تقول: إنه يحول كالظل لا يشعر به أحد. ما أشد حياءه يا سمو الأمير! قال: رأيته واقفا على غلوة من هنا، وضحك. قالت هيلانة : امض فيما اعتزمت فلن ينهي هذه المسألة أحد سواك، وليبارك لنا الله في مروءتك. إنا لا نجد لإثابة ورقة على ما فعل لنا من الطيبات إلا أن نعطيه منى نفسه لمياء، وإنا في هذا الزواج لرابحون. قال: ليكن هذا في الغد.
انصرف قوزمان وهيلانة من مجلس الأمير مودعين منه بأطيب التمنيات، حينما كانا يدعوان له بالرغد وطول البقاء، ورآهما ورقة خارجين فلما يشأ أن يلقاهما تفاديا من موقف أمثل بما فر منه، واختفى في غرفه حتى مرا به في طريقهما إلى سكن هيلانة.
أما ورقة فقضى الليل على عادته ساهرا في حراسة الأمير، وكان قمينا أن يدركه النعاس بعد ما لقي من الجهد في يومه، ولكن حديث هيلانة والأمير وما عرفه من جنوحهم إلى تحقيق أمنيته الغالية زاد في يقظته فلقد فرح قلبه بما صرحت به هيلانة من أن لمياء تحبه، وما فاه به قوزمان من أنها أبت ابن حاكم مصر رعيا لذكراه، وتمنى لو يراها الآن، ويأخذها بين يديه ويقبلها شكرا على حبها إياه ووفائها له، ويحمد الله أمام عينيها على أنها عرفت فرط هيامه بها. ثم تمثل الليلة السعيدة التي يقدر له فيها أن يلقاها على انفراد؛ ليروي لها قصة وجده بها، ويذكر لها أنه كان في خلوته ووحدته، في الليل وفي النهار، وفي الصحراء والدار، وفي الحل والترحال يتمثلها ويراها عيانا بيانا، كأنما رسمت صورتها على حدقة العين، فكل ضوء يمر بها يعكس على فؤاده صورتها الجميلة فتزيد أوار قلبه، ولكن، يا لله! ماذا يقول عنه أستاذه إذا جاء فوجد لمياء حليلة له بغير إذنه! نعم إن الحارث لا يأبى زواج ابنته منه لو كان حرا، ولكنه لن يكون كذلك حتى ولو جاء إلى الإسكندرية وبعد عن مكة والنضر. سيرعى سلطة النضر عليه، وسيأبى على كره منه إعلان رضاه عن زواجه من لمياء. أليس من الخير إذن أن يترك الأمور تجري فيما يشاء لها ولا يعترض؟ ولكن كيف يملك أن ينظر إلى أستاذه نظرة البراءة التي اعتادها ؛ ليظفر منه بنظرة الحب التي كان يغمره بها . هذا ما لا يطيقه.
استمر ورقة يفكر على هذا الأسلوب حتى السحر، والقصر صامت ساكن، لا يسمع فيه إلا أقدام الديدبانات تروح وتجيء، والليل طارح عليه ملاءات من أديمه، لا ترى فيه إلا أشباح الجند، وظلال أقتم من الليل للتماثيل القائمة في جوانب المماشي والطرقات، والبحر من وراء الأسوار يزمجر ويضطرب منذرا أهل اليابسة بويلاته إذا هم شمخوا بأنوف سفنهم وقلوعهم أكثر مما يجب، وضوء المنارة يكتسح الظلمة عن البحر؛ ليكشف ما عليه من السفن الضالة ويدلها على مرفأ السلامة. حتى إذا أوشك الديك أن يصيح معلنا بقدوم الفجر، صمت الديك وأغرقت الطبيعة فيما كانت فيه، وإذا هي تحيا بنقر أمثل بالطبيعة وأليق بزمجرة البحر. دقات تلو دقات على دف ليس كمثله في الدفوف: رق من خشب صلب وحديد مثبت في إطار من حجارة، فكان لها دوي رهيب. ذلك أن الفرس كانوا قد بلغوا الإسكندرية بخيلهم ورجلهم، ونصبوا دباباتهم ومجانيقهم حول الأسوار، وأخذوا يضربون باب الشمس بالجلامد، وينيرون الظلام بنيرانهم الأغريقية؛ لينبهو الحراس فيفتحوا لهم، ولكن الحراس كانوا غلاظ الأكباد فلم يجيبو سؤلهم، ولم يردوا عليهم إلا بنبرات من حجارة وحديد تخبرهم أن للأبواب طلاسم لا تفتح إلا عليها.
لم يكن لورقة بعد ما سمع إلا أن يوقظ الأمير؛ ليخبره بقدوم الفرس، وكان جماعة من كبار ضباط الحامية قد وردوا إلى القصر؛ ليعلنوا الأمير بوقوع الحصار الذي كان منتظرا لعل لدى الأمير أوامر جديدة في هذا. فما إن ارتدى حتى نزل إليهم، وكان أهل القصر قد تنبهوا على دوي القذائف فهبوا من مراقدهم مذعورين إلا الذين اعتادوا الحصار من قبل فلم يأبهوا لما وقع؛ لأنهم كانوا يعلمون أن الأسوار لم تبن؛ لتتهدم بل لترد العوادي، وأن هذه الأسوار لم تقتحم فيما مضى حتى تقتحم اليوم،
1
وأن الإسكندرية ذات مرفأ عظيم على البحر يصل بينها وبين الدنيا برمتها فلا خوف عليها من المجاعة. نعم إن هرقل استنزف ذخيرتها من القمح والغلال، ومن جنود الروم الأبطال، ولكن كان فيها من هذه وتلك ما يقيمها على العز أعواما لو أحسن الدفاع عنها.
2
كل ما كانوا يخشونه أن ينفد الماء العذب الذي في الصهاريج، ولكنهم كانوا في الشتاء، وفي استطاعة كل بيت أن يجمع من فضل الله حاجة حياته بلا كبير عناء، ويدخرها في الصهاريج لأيام الصيف إذا منع الفرس عنهم ماء الخليج، ولذلك لم يضطرب أهل الإسكندرية إلا بمقدار ما شعروا من أنهم أصبحوا حبيسين وراء أسوارها المنيعة، منقطعين عن إخوانهم في الدلتا والصعيد انقطاعا تاما، وإن لم يكن يفيدهم اتصالهم بهم شيئا كثيرا؛ لوقوع تلك الجهات في يد الفرس من قبل.
أما نيقتاس فكان على غير حالهم. نعم، إنه لم يكن يخشى حصار الفرس؛ لاطمئنانه إلى أسوارها، وكفاءة المرابطين عليها، وقدرة مجانيقها، ولكنه كان يخشى خيانة اليعاقبة واليهود. فهؤلاء في اقتدارهم مهما ضعفوا أن يشغلوا حماة الأسوار عن حمايتها بما يجب لها من التوفر، وكانت مؤامرة الأمس سببا في إيقاظ نفسه إلى التعجيل بالعمل على وقاية المدينة من هذه الثورات الداخلية، وتذكر ما نصح به ورقة من ضرورة مضاعفة الجند في حيي رقودة واليهود فقال للقواد: إني أعلم أن ما تحت يدكم من الجند قليلون، ولكنكم لا تجهلون أن اليعاقبة كالبراغيث إن لم يؤلم البدن قرصها كبير الإيلام فهو يشغله عن الانصراف إلى غير الحكة، واليهود شر من هؤلاء، فهم كالبق تكفي بقة واحدة؛ لتشغل البدن عن كل شيء. فاقتطعوا إذن من رجالكم من تستطيعون؛ ليكونوا في مخفري رقودة ومعسكر قيصر تحت إمرة ضباط من الشبان يعملون بأمر ضابطي المخفرين. قالوا: كل هذا حق وإنا نازلون عيه من فورنا، ولكنا نرى أن ندعو إليك بطريق اليعاقبة وحبر اليهود تعلنهما بجزاء من يثور، وتطلب إليهما تحذير أتباعها من العبث. قال: هذا ما كنت عازما عليه، ولكني سأكتفي بأن أرسل إليهما رسولا يحسن القول.
ثم التفت إلى ورقة وكان واقفا وراءه في المجلس فقال له: خد جوادا وانصرف به إلى بطريق كنيسة الأنجليون، وإلى الحبر في الكنيس، وأبلغ إلى كل منهما ما سمعت ولا حاجة إلى توصيتك بما يقال. ثم انصرف إلى مخدعك فنم. لقد تعبت طول يوم أمسك وسهرت طول ليلك، وها نحن أولاء نكلفك عبئا. قال ورقة: إن سعيي في خدمة مولاي يفعمني قوة، وتكليفه إياي بمهمة للدولة مكرمة ومفخرة لي تزهيني وتنشطني. قال له الجمع: أحسنت الجواب يا فتى! بورك فيك! وكان نيقتاس ينظر إليه وهو يسمع إعجاب قادة الجيش بحارسه مزدهيا ممتلئ القلب حبا له، كأنه ابنه لا أنه عربي لا يجمعه به من صلات الدنيا إلا حبه للمياء ابنة هرميون الرومية التي عزم أن يزوجه إياها في عشية يومه.
الفصل الثاني والأربعون
غرام مفاجئ
ذهب ورقة إلى كنيس اليهود في حيهم شرقا فيما وراء كنيسة المار مرقص، وأنهى إلى الحبر رسالة المقوقس فتلقاها الحبر باستياء عظيم، ولكنه كان في الواقع استياء متكلفا. فقد كان اليهود يبيتون الشر للروم فعلا، واجتمع أحبارهم بمن جاءوا من بلاد القدس؛ للعمل على الإسراع في القضاء على حكمهم في مصر، ولكن الحبر لم يكن له إلا أن يتظاهر بأن سوء الظن باليهود في غير محله بعد ما ثبت للأمير ولاؤهم. قال ورقة: إن الأمير يعد السيد الحبر الكبير مسئولا بالذات عن كل حركة من شأنها تعطيل الجند عن مدافعة المحاصرين، ولا يريد أن يتهمه بأنه اجتمع بإسحاق بن مرداس والحبر اليمني، ولا أنه هو الذي دبر لهما الاجتماع ببعض قساوسة اليعاقبة في سرب قصر ليونوتس المتهدم. فلما سمع الحبر هذه التهمة اضطرب وهلع، وأخذ يقسم أغلظ الأقسام على أنه لم يرهما ولم يجتمع بهما، وخانه حجاه فجعل كل إنكاره منصرفا إلى أنه لم يشترك في شيء، ونسي أنه إنما كان يقر بأنهما وجدا، وبأن كان هناك اشتراك في مؤامرة. فنهض ورقة يقول: لقد بلغت رسالة الأمير وهو لا يرجو إلا أن تعوها. ثم خرج بين التحية والإجلال من الحبر ورفقائه، وامتطى جواده إلى كنيسة الأنجيليون للقاء أندرونيكوس بطريق اليعاقبة.
هناك تلقاه قسيس مهيب الطلعة برتبة مطران عرف أنه وكيل البطريق فلما لقيه أحس ورقة كأنما قد رآه في سرب القصر مع المتآمرين، وتنبه إلى ذلك لما رأى الرجل الذي كان معه. فلما واجهه قال: إنه آت برسالة من عند المقوقس يبلغها إلى البطريق نفسه، ولذلك يرجو منه أن يستأذن له في الدخول عليه. فاعتذر الوكيل بعدم استطاعته ذلك؛ لأن البطريق مريض لا يقوى على مقابلة أحد، وأنه إذا تفضل فأنهى إليه رسالة الأمير فهو ضمين له بتنفيذ مشيئته فيها، وكان الرجل يتكلم وفي صوته رعدة لم تخف على ورقة فقال: لمن أوجه القول من رؤساء هذه الكنيسة الموقرة؟ قال مخاطبه: لوكيلها تيوناس أيها الضابط الشريف قال: ومن هذا الذي يشهد معك الحديث، ويسمع معك رسالة الأمير؟ وكان داعيه إلى هذا السؤال أنه اشتبه في الرجل الثاني أيضا فقد أحس أنه بطرس البحريني بعينه إلا أنه حلق لحيته وشاربه وحواجبه كذلك، وأحنى ظهره ولبس لباس الكنيسة، ولكنه لم يشأ أن يفاجئه وانتظر جواب الوكيل. قال: هذا كاتبي. قال: منذ متى؟ قال: منذ ... جاءنا من كنيسة منوف قال ورقة: عرفت مخاطبي إذن. اسمعا. فاضطرب الرجلان، وبدا الذعر على أعينهما، ولكنهما تماسكا فانصرف ورقة يقول: إن مولاي يحذركما من أن تعودا إلى مثل ما كنتما فيه بالأمس مع إسحاق بن مرداس والحبر اليمني في سرب قصر الحاكم ليونوتوس، وهو ينذركما، وينذر البطريق، وسائر رجال الكنيسة معكما أنه إذا قامت في هذا الحي اليعقوبي حركة أو شغب من شأنه أن يشغل الجند عن مدافعة الفرس فدمكم على رءوسكم ... ثم نهض لينصرف، وقد حاول الرجلان أن يردا تهمة التآمر التي ألقاها ورقة عليهما، وانبرى بطرس على عادته من الزئاط يفند التهمة، ويستعدي الرب على الظالم، واستقام عوده منه على غير وعي فكان صوته وعمله أدل عليه مما بقي من صورته، ولكن ورقة لم يلتفت إليهما، وخرج ولم يرد بكلمة حينما كان يسايرانه إلى الباب، وركب جواده وانصرف.
عجب بطرس ووكيل الكنيسة كيف عرف أنهما كانا في ذلك السرب بالأمس، وثبت لبطرس ما سمعه من أن ضابط المخفر في رقودة كان يبحث عنه فلم يصدقه ولم يصدقه المطران، ولذلك عادا إلى الغرفة صامتين من فزعهما. فلما استقرا عادا إلى التساؤل والرجم بالغيب، وهما يكادان يحسان شفرة السيف فوق رقبتهما، وأخذ كل منهما يفكر في طريقة للهرب من الإسكندرية على الفور واتفقا على ذلك، ولكن الأبواب كانت في ذلك الوقت مقفلة لا يدخل أحد منها ولا يخرج بسبب الحصار إلا ما كان على البحر فقد كان هنك اثنان: أحدهما باب ميناء لوكياس، ميناء قصر الإمارة التي لا يدخلها إلا سفن الأمير أو الإمبراطور وتحميها الغلايين الحربية الخاصة، وباب الخليج عند اتصاله بالبحر في الميناء الغربية. كان هذا الباب مباحا للجمهور والصيادين، غير أنه كان كسائر أبواب المدينة قد أقفل، وإن ظل في صون بطس الحرب والحراقات التي كان الميناء الغربية مخصصة لها
1
ولا بد أن يلقيا مشقة في الخروج منه، ولكنهما استهانا بهذه المشقة، وقررا الخروج على الفور قبل أن يجيء ضابط المخفر برجاله؛ ليقبض عليهما. بيد أن هذين الرجلين كانا لا يملكان أن يطيلا مكثهما خارج الإسكندرية، وإذا سهل خروج الإنسان من باب البحر فلم يكن من السهل العودة منه إلا بجواز، أو أن يكون الطارق عالما بكلمة السر التي يتقاضاها الحراس من راغبي الدخول وهي تتغير كل يوم، ومن أين لهما أن يعرفاها يومئذ؟ على أنه لم يكن هذا بالمهم في ذلك اليوم، ولذلك عمدا إلى تنفيذ أهم الجانبين على أن ينظرا في الجانب الآخر عند سنوح الحاجة إليه. فاستأذن الوكيل من البطريق في الخروج من الإسكندرية والاستقرار بدير الهانطون حتى حين، وأبدى له ما كشف من أمره فأذن له، وأوصاه أن يعد موكبا عظيم الشأن من أساقفة الدير وقساوسته ورهبانه، ومعهم أندر نسخ الإنجيل والتراتيل، وأغلى الصلبان للقاء السلار شاهين الفارسي في معسكره والاحتفاء به، وتقديم ولاء اليعقوبية كلها إليه؛ إذ هو يمثل ملك الملوك كسرى أبرويز حامي اليعقوبية. ففرح المطران الجليل لهذه المهمة العالية، وخرج من فوره تحدوه الرغبتان ، وأما بطرس فلم يكن في حاجة إلى استئذان أحد؛ لأنه لم يكن إلا صديقا كنسيا لا أكثر ولا أقل، ولذلك عمد إلى مرافقة الوكيل حيث أراد، وهو في تلك المدة متعجب كيف عرفه ورقة حتى بعد أن أزال كل شعر وجهه وعوج قامته، ولكنه سر في النهاية؛ إذ يخرج من بلد يلقى فيها شيطانا أشد منه مكرا وأنفذ حيلا.
خرج الرجلان من باب البحر، وذهبا من فورهما إلى دير الهانطون فبلغاه بعد ثلاث ساعات قضياها غيظا من حبوط المؤامرة، وكشف رسول القصر ما كان لكل منهما فيها من اليد الطويلة، ولكنهما حمدا الرب على أنهما أصبحا بعيدين عن يد الأمير التي كانت لولا حصار الفرس أطول من كل يد.
على أن ورقة لم يكن في نيته أن يستحث الأمير على الرجلين. كان يعلم أن التهمة لا تثبت عليهما في شيء، وأن لن يكون من ورائها إلا اضطراب الحال في رقودة، وادعاء اليعاقبة أنه بهتان مما اعتاده الروم، وظلم يريدون توقيعه عليهم جزاء ما ظهر لكسرى في بلاد القدس من أن دينهم الرومي كفر في كفر، وأن دين اليعاقبة هو الدين الصحيح، وإذ مر ورقة على صديقه حارس المخفر؛ ليبلغه ما كان من انصراف كل ما كان في قلب الأمير من ناحية المؤامرة - ذكر له ما وقف عليه كذلك وما يرى، فأقره ضابط المخفر على رأيه، وعده كل السداد، وكذلك ارتآه الأمير عند ما لقيه في العشية وشكر لورقة حسن رأيه.
كان التعب قد أخذ من ورقة كل مأخذ، ولكنه كان إذ ترك المخفر قد وجد نفسه في طريق لمياء، بل الواقع أنه لوى عنان جواده نحو بيت قوزمان باختياره. فما إن عطف داخلا الطريق المؤدي إليه حتى شاهد لمياء في الشرفة مطلة على البستان متجة البصر نحو البحر تستنشق نسيم البحر والقصر معا، وتفتش فيه عن أنفاس ورقة؛ لتنعشها حتى تلقاه في الضحى. فقد علمت منه أن الصباح له والنهار لولا أنه مضطر إلى الرقاد في بعض ساعاته؛ ليسترد عافيته للسهر على الأمير، ولكنها سمعت وقع سنابك الجواد من الخلف فالتفتت فإذا هي تراه فشهقت شهقة الفرح بمرآه، وبقيت في مكانها لا تدري ماذا تفعل؟ كانت تلقاه قبل يومها على أنه صديق يحبه كل إنسان، سوى أن حبها إياه غرام تخفيه، أما اليوم وقد عرفت ما عرفت من خالتها وحديثها مع أمها بالأمس في شأنه، ووقفت على خبيئة نفسه في الصحراء، وما قال لها في الطريق من معان إلى مصر من حديث هواه النقي الذي كتمه في قلبه وعمل على إخماده في قلب لمياء، وسمعت جدها يقول: إنه يجب عليهم أن يسارعوا بتزويجه من لمياء اغتناما لنعمة الله السانحة قبل أن يعرفه سادة الإسكندرية وأغنياؤها فيتألفوه، وتتهافت بناتهم عليه ويزوجوه منهم، وعرفت أن خالتها وجدها ذهبا إلى القصر؛ ليستقويا بجاه الأمير على تردد أمها أو بالأحرى ليقويها على تزويجها من ورقة، ويعطيها عذرا تتقدم به لأبيها يوم تلقاه؛ لتزويجها ابنته من فتى غير قرشي ولا ثقفي ولا من أعيان الجزيرة، وإن كان أحق في نظرهم ونظر الحارث نفسه أن يكون على رأس أولئك السادة في السيادة، وأجدر أن تفخر به العرب في عكاظ - فقد أصبح ذا معنى آخر لا يقوى حياؤها على مواجهته. هذا ما كانت تعرفه وتستنج منه، وكان سببا في اضطراب قلبها لدن رؤية ورقة اضطرابا من نوع جديد. أما ما جرى بعد ذلك بعد ما عادت هيلانة وقوزمان من القصر؛ لينهيا إلى هرميون رسالة الأمير، وحكمه بتزويج ورقة ولمياء اليوم - فلم تعرف من تفصيله شيئا؛ لأنها كانت في فراشها عند ما جاءوا، وإن كانت القهرمانة قد أسرت إليها في الصباح شيئا من هذا في صورة مبهمة؛ لأن أهلها كانوا في تلك الساعة نياما أثر ما سهروا. نعم، باتت ليلتها قلقة تفكر في ورقة وفيما سمعت، وتؤمل الآمال، وتيقظت مبكرة. بيد أنها ذهبت إلى الشرفة تنظر صوب البحر؛ لتكون مع ورقة حتى يفيق، ولتستقبله حين يجيء في الضحى، ولم تكن تدري أن ورقة بات ليله سهران يفكر فيها ، ثم جرى ما جرى من اجتماع المجلس، وأنه أتم مهمتين كبيرتين قبل أن تلتمس هي أرض الشرفة؛ لأنه شرع فيهما بعد الفجر بقليل، فأحر به أن يكون في بيت قوزمان ولما يمض على شروق الشمس غير قليل.
وكان أصعب شيء على ورقة أن يلقى لمياء، وتفع عينه على عينها بعد ما جرى ليلة أمس في غرفة الأمير، لأمرين؛ أولهما: ما أعلنت هيلانة من حبه للمياء، وكان يرجو أن يظل دفينا، وثانيهما: التماسه من مولاه أن يعفيه من الزواج بها؛ لنفس السبب الذي يمنع هرميون على فرط حبها له وثقتها به، وهو واجب الحصول على رضا الحارث. على أن ورقة كان يشعر أن رضا الحارث لا يكفي في جعل هذا الزواج مبارك القسمات. فلن يمحو رضا الحارث أنه ليس من قريش ولا من ثقيف ولا من كرام العرب. كل ما يترتب على رضا الحارث أن يتم الزواج، ومعنى رضا الحارث رضاه بالمعرة بين العرب في مكة وبلاد العرب؛ لأنه يزوج ابنته من فتى كانت أمه سبية وجارية، وكان أبوه نجارا يرتزق من خدمة الكرام، وهو - أي ورقة - لا يطاوعه قلبه أن يحمل أستاذه الذي يحبه ويرعاه كل هذا من أجله. نعم إن رسول الله وهو ابن عبد المطلب عظيم العرب وعنوان شرفها قد زوج زينب ابنة عمته من زيد بن حارثة: وهو - وإن تبناه - سبي ومشترى، ولكن العرب يعدون رسول الله قد خرج عليهم في دينهم، فإذا هو خرج عليهم فيما تعارفوا عليه في المصاهرات فالأمر أهون مائة مرة، بل لا يستحق أن يذكر. أما الحارث فلم يخرج عليهم في شيء. إنه لا يزال مستمسكا بمكيته وطائفيته على كرهه الوثنية، وعلى أنه حنيفي، وعلى أنه يعرف صدق الرسول ويقره، فهو إذن ممن يستمسكون بعرف قريش وثقيف، وحقا أن ورقة مسلم، والإسلام يرفع الحدود، ويسوي بين الناس، ويبدأ بهم حياة جديدة يستبقون فيها إلى ذروة الشرف بالتقوى والجهاد في سبيل الله، ولكن الحارث لم يشأ أن يسلم بهذا، وإن كان يقول به . ثم كان ورقة يقول في بعض سوانحه: أراني مبالغا كثيرا في توسيع مسافة الخلف بيني وبين الحارث. إن كانت أمي سبية من بني لحيان فما من ذنبها أن سبيت، وما من ذنب أهلها أنهم لم يعرفوا أين ذهب بها؟ بيد أن أنها ما همت بالخنى، بل فرت منه إلى بيت النبوة وضرب بها المثل في العفة، وما أنا بنتاج الخنى بل نتاج الطهر على يد الحنيفي الأعلى - من قبل رسول الله - فلماذا لا أفخر بهذا حين لا يستحيي أمثال عمرو بن العاص من أنه ابن إحدى تلك الجواري البغيات اللائي كن يساعين بالفحشاء في مكة، ولا يزال أعيان المشركين يستولدونهن وهم لا يرون في ذلك معرة، وهي المعرة العليا، وأبي! من هو؟ نجار، لولاه لبقي بيت الله عاريا ... عربي أزكى منهم محتدا؛ لأنه من الحيرة وبلاد الرخاء، وما هم؟ رعاة أغنام، وإن علوا فتجار في مكة يأكلون مما يبتزون من الجاهل بالأسعار، ويرتزقون ارتزاق الكهنة من أغبياء الأرض؛ إذ يبيعونهم البزة مما يأتي به الأغبياء أنفسهم من الغلال قربانا للأصنام، بالشيء الكثير، قولا بأنه فيها سر البركة والحياة السرمدية ... وغير ذلك من الأباطيل والكلام الفارغ الذي لا يزال مقدسا في هذه الأرض المسكينة. أبي كان عالما بصناعته، وما يقتضي لها من علم الأولين والآخرين، وكانوا جهلاء بكل شيء. أبي كان يعرف الجمال ويحبه وكان يتصوره ويصوغه، وهم لا يتصورونه ولا يشتهونه ولا يخطر لهم على بال. أبي كان ينفع الناس بالحق، وما نفعوا الناس في شيء. هم يعيشون في مكة ليتصيدوا الحجاج كما يعيش الذئاب في مراتع الأغنام ليأخذوها من آذانها، ولو خرجوا إلى الدنيا لماتوا جوعا، ولو كان الحارث غير عالم أو غير طبيب؛ لكان في الأكثر مثل أبي جهل أو ابن أبي معيط في السفاهة، وأنا لست عالما مثله ولا طبيبا، ولكني في طريقه، ولي من العلم بالعقاقير ما لا يبذني فيه إلا قليل. نعم أخذت ذلك عنه وعن نعيم، ولكنه أخذها هو أيضا عمن سبقه في الدنيا . كما أني فوق هذا رجل يغالي الأمراء بي ، ويحكمون بأني موضع الثقة العالية الجديرة بالسفارة بين العواهل. فماذا يخسر الحارث بمصاهرتي؟ لا شيء، إذن فما يكون على صواب في أن يأبى علي لمياء التي غذيتها بروحي وغذتني بروحها فكنت لها أبا وكانت لي أما. نحن أولى بأنفسنا لأننا ولدنا أنفسنا، ولم يلد هو إلا بدنها. أيأباني حين يرضى لها بفتى غلف من بني عبد الدار يعد نفسه؛ ليرث أهله في ابتزاز الأعراب من خدمة أحجار الكعبة؟ لمياء لي، ولو كره أبوها ما دام على كل ذلك الباطل.
كانت هذه هواجس ورقة وهو ينعطف في الزقاق الذي فيه بيت قوزمان، فما إن رأى لمياء في الشرفة حتى فارقته كل تلك الهواجس، وخيل إليه أنه يرى أباها إلى جانبها، وأنه يقول له: ما فاتني ما ذكرت يا ورقة، ولكنا نعيش في دنيا لا بد لمن يريد أن يتعرف طريقه في رقعتها المتدخلة الطرق المتوشجة المسالك من أن يسير برأي الناس وعرفهم، وإلا أبوا عليه أن يسلك ويسير. أنت عندي كريم ومحبوب، ويجب عليك أن ترعى حرمتي فيما بقي لي في الحياة من الأيام، وإلا أتلف العرب أيامي، ولولا أني أعرف فيك النبل وأرجوه ما رضيت أن تعاشرني منذ جئت بك لأعلمك. لا تخني يا ورقة. لا تخني! ولا تختم أيامك معي بنكران لجميلي عليك.
لم يطق ورقة أن يستمر في الاستماع إلى صوت ضميره فأسقط من عينه دمعة، ثم اتجه إلى الله بقلبه يقول: رباه! أنت أعلم بسري ونجواي، وأنت أبصر بالحق فاهدني واعصمني من الزلل - اهدني الصراط المستقيم، ولا تؤاخذني بما هجست به نفسي. فإنك أعلم بتواضعي ورضاي بما قسمت لي، ولكنه كان في ذلك الوقت الذي يناجي فيه ربه يرعى حق الفتاة التي كان واثقا أنها إنما نهضت مبكرة ووقفت في الشرفة تتسلف قدومه. فتقاها بإشارة المودة والحب في تحية القادم. فلم يكن لها بد من أن تتلقاه كذلك، وإن لم يفارقها ما كانت فيه من الحياء والاضطراب. ثم نزلت إلى الطابق الأول من البيت؛ لتفتح له الباب ، وتدخله حين كان يترجل. فلما فتحت لمياء باب البيت كان ورقة يفتح باب الحديقة فلما وقعت عليه عينها وقفت وقفة حائر لا تدري أتستمر واقفة لتحدثه أم تذهب لتعلن أهلها بمقدمه؟ كان الرأي الثاني أقرب إليها، ولذلك تركت الباب، وعادت تنبه خالتها دون أن تنتظر لحظة ليحييها ورقة بالكلام كما حياها وحيته بالابتسام المفعم بكل معاني السعادة لمرآها وكل معاني ما كان فيه بالأمس. على أنه وجد فيما فعلت لمياء مخرجا له من موقف كل ما كان يمكن أن يحدث فيه خطأ، حتى الكلمة العارضة، حتى التحية. على أنه قد قال كل شيء وفعل كل شيء، ولم يعد هناك حاجة إلى الكلام، ولأن لمياء قد عرفت من نظراته وابتساماته اليوم كل خفي كما عرف من ابتسامتها ونظرتها كل شيء كذلك.
وفيما هو يدخل جواده في الحديقة، وهو متجه إلى الدرج الرخامي في جره الجواد من لجامه - كان صاحبه أورست مارا بالزقاق في طريقه إلى متجره، وكانت هيلانة قد نهضت وجاءت إلى الشرفة، ووقفت تحيي ورقة بابتسامة كمشرق الشمس ملئت محبة ونعمة، وكلمات كنغم الموسيقى ابتعثه الفرح والأمل، واشتغل ورقة بالحديث معها والتسليم عليها عن رؤية صاحبه، واشتغل صاحبه عن تنبيهه إليه بما فتنه من جمال هيلانة، وسحر ابتسامتها، وبنور السعادة التي كانت تلقيها على ورقة، وعلى الحديقة كأنما هي شمس أخرى يطلع بها الصباح على أزهارها خاصة. على أنه لم يكن يستطيع أن يستمر في استراقه هذه النظرات من هيلانة؛ لأنها لمحته، ورأت على وجهه معالم المسرة لرؤيتها فطربت نفسها أن يكون لها من فضل الله مزية أن تسعد قلوب الرجال بحسن طلعتها، وزادها الطرب رواء وسحرا وحلاوة نغم. فلفت أورست نظر صاحبه إليه بتحية جهر بها فلما لمحه ورقة ارتد مسرعا للقائه حيث سمع صوته وسلم عليه، ووقفا يتحادثان، وألح أورست عليه أن يزوره اليوم، ويتغدى معه كما وعد، ولكن ورقة كان في حاجة إلى النوم فقال له: لم تغف عيني لحظة واحدة وحقك يا أورست من قبل أن ألقاك أمس، ولا أدري كيف أجيب هذا الرجاء؟ ألا تعفيني؟ قال: تعال فنم عندي. إني أعزب ولن تضايق أحدا. فصمت ورقة ولم يرد؛ إذ كان عليه وعلى أهل بيت قوزمان كلهم أن يكونوا في القصر في العشي. فقال أورست: أراك مشغولا. قال ورقة: أعفني بحقك من هذا اليوم. سأجيء إليك في الغد. ليس هذا اليوم ملكي. فرضي أورست بهذا الوعد وحيا ورقة تحية حارة بعثها في نفسه ما لقي في قلبه من الحرارة لدى مرأى هيلانة مشرقة في شرفة البيت في جمال الأنوثة الناضجة التي تعبث بفؤاد رجل في مثل سن أورست منيفا على الأربعين، وله مثل بصره بدقائق الجمال وتفاصيله، وانصرف وهو على هذا الحال مشغول القلب بمن رأى بعد ما استرق لنفسه لمحة من صاحبة الشرفة يتغذى بها في الطريق إلى متجره، ولكنها كانت إذ ذاك تنظر إليه مرتاحة إلى قسامته وجمال هندامه. فلما غاب أرادت أن تعرف من الرجل قبل أن تشتغل بالحديث مع ورقة في شئونه على ألا يبدو منها كبير اهتمام بمن شغلها مرآه في الحقيقة فقالت لورقة: من هذا الذي حرمنا بعض حرية لقائك بما لك عندنا من المحبة والحنو؟ قال: شكرا لسيدتي على هذا اللقاء الأوفى. هذا صاحبي أورست الذي جاء بناقتي من أثريب بفضلك. قالت: التاجر الذي ذكره كوسموس. قال: نعم بل أكبر تجار الغلال في الإسكندرية، وأحد نوابها في المجلس، وكانت هرميون قد جاءت هي أيضا وجاء قوزمان هو ولمياء فقالوا له: ألا تصعد؟ اربط جوادك حيث شئت واصعد. قال أريد أن أنام. هذا وقت نومي قال قوزمان مبتسما: اصعد فنم في فراشي. إنه دفئ الآن جدا. ثم ضحك وقال: اصعد. اصعد. إني أريدك. انزلي فهاتيه يا لمياء. فاختفت لمياء لتنزل وتأتي به، وخشي ورقة بعد ما اعتذر بأنه راغب في النوم أن يقال له: لم جئت إن كنت تريد النوم؟ فقال لهم ستقولون: فيم جئت إن كان هذا وقت رقادك؟ ولكن الحقيقة أني كنت موفدا إلى حبر اليهود برسالة من الأمير وأخرى إلى أندرونيكوس، ولم أطق أن أعود حتى أراكم. قالوا: مرحبا.
وكانت لمياء قد بلغت مكانه فأخذته من يده وصعدت به درج الحديقة، ثم درج السلم في فسحة
2
البيت، وهي تحادثه في غير ما في نفسها إلا أنها قالت: أرى هذه الملابس أليق بك من ذلك الثوب الأسود الذي كنت تلبسه في الصحراء. قال ورقة مبتسما: كنت ألبسه حدادا على نفسي كما يفعل أهل هذه البلاد. أما الآن ... فأغضت لمياء طرفها مبتسمة في خفر ود لو يلتهمه بالتهامها، وكان في تلك الأثناء ينظر إليها بعين السعادة التي في الدنيا كلها لولا لمحة كانت وراء تلك السعادة لم تخف عنها، ولكنها كانت قد لقيت أهلها عند السلم فتركته لهم. هناك فتح الشيخ ذراعيه فتلقاه بينهما وقبله، وهو يقول له بصوت الأب الشاكر لله فضله عليه: مرحبا بزوج لمياء! وكانت كلمة منتزعة من قلب مفعم بالحنو والرضا والإعزاز، فانحنى ورقة مغرورق العين يقبل يده حين كانت هيلانة وهرميون واقفتين والدموع في عيونهما فرحا به وسعادة بأنه أصبح لهم جميعا. ثم سلمتا عليه فانحنى على يد هرميون يقبلها فقبلته في عارضه قبلة الأم. أما هيلانة فجالت في المجلس مرحبة ومتكلمة بما جعل الموقف هينا، وأما لمياء فاختفت إذ ذاك؛ لتخفي بعض عبرات لم تقو على كبحها، وظلت بعيدة عنهم حتى حين.
الفصل الثالث والأربعون
القديس الأناني
ذهب أهل بيت قوزمان بلمياء إلى القصر؛ ليلقوا الأمير طوعا لمشيئته، واستعدادا للنزول على إرادته، وكانت هيلانة أشد الذاهبين فرحا بما هم في صدده. أما هرميون فكانت على ما ترى من أن ورقة أليق الشباب بابنتها وأحبهم إليها، تشعر بأن سعادتها ينقصها شيء؛ لتوصف بالسعادة التامة من غير مبالغة. كانت تذكر الحارث زوجها الطيب المفعم القلب بالمحبة لها، والذي دل على صفاء معين نفسه بما ذكر في صومعة الأسقف من عواطف بر كان ينضج بها قلبه، وما بدا منه من تمام الرعاية لها، والعناية بها حيث تنقل، وبما رضي أن ينزل عن أملاكه كلها في الإسكندرية ومريوط إكراما لها ومغالاة بها، فتأسف في نفسها؛ لأنها ذاهبة باختيارها إلى قصر الأمير لتشهد بعينها، وتقر بلسانها زواجا تعلم حق العلم أن الحارث لا يرتاح إليه تمام الارتياح، وإن كان في ذاته صوابا كل الصواب، ومغنما لها ولابنتها كل مغنم؛ لأن الحارث كان على فرط حبه لورقة وثقته به، وقوله لها إنه المثل الأكمل في الرجولة والفضيلة - يتحسر على أنه لا يملك أن يزوجه ابنته؛ لأنه ليس ثقفيا ولا قرشيا، ولا من بيت من بيوت السيادة في العرب. نعم، إن هذا السبب غير وجيه إذا ووجه بالحق من أمر ورقة الذي لم يبالغ أبوها فيما وصفه به لنيقتاس من أنه قديس وفيما تعلم هي وهيلانة ونيقتاس، بله لمياء وكل من اتصل به من أنه الفتى النقي الذي لا يستطيع القلب مهما كان غفلا أو كان مريضا إلا أن يتلقاه بالترحاب والحنو والإعجاب والإجلال، ولكن المسألة عرف، والحارث يعيش من عربيته في جو له كغيره من عرف الشعوب الأخرى خصائص وأعاجيب؛ كأن يزوجوا لمياء الزهرة الهيلنية الموطنة بجلف من أجلاف بني عبد الدار، ويأبوها على ورقة الكامل المهذب؛ لكيلا يقال زوج الحارث بن كلدة الثقفي ابنته من ابن النجار الذي كان يعيش على فضل أبناء عبد الدار وأمثالهم من بيوتات مكة. على أن هرميون لا ترى من حقها أن تقول له: لكل قاعدة استثناء، وورقة ممن يجب أن يوضع لهم عرف خاص. فهي إذا جاءت اليوم إلى قصر الأمير؛ لتزويج ابنتها فلن تكون فرحتها على شدتها كاملة خالصة. إن لزوجها عليها حقوقا حتى ولو كانت بعيدة عنه كل هذا البعد، مقطوعة عنه هذا الانقطاع. بل لو كانت مطلقة منه ما نقصته هذه الحقوق.
بلغوا القصر في المساء، ونزلوا بيت هيلانة، وسألوا عن ورقة فقيل مع الأمير، وإن الأمير مع يوحنا الرحوم بطريق الروم الجليل، وإن هناك اجتماعا حربيا عظيما؛ للتذاكر فيما هم فيه من شئون الدفاع عن الإسكندرية مع الاستمرار على معونة هرقل، وإمداده بالغلال؛ لإطعام الجيوش المدافعة عن القسطنطينية . فقد كان جل اعتماد هرقل ورجال الإمبراطورية على ما يرد إليهم من مصر
1
ولذلك انتظر قوزمان حتى ينفض المجلس.
انتهى المجلس إلى أنه لا خوف على الإسكندرية من ناحية الفرس، فهي تقوى على الحصار ما شاء الله، وإنما الخوف من ناحية أهلها أنفسهم والروم معهم إذا نفدت المئونة أو شعروا بقلتها؛ لأن ما فيها من الغلال إنما يكفي أهلها بضعة أشهر بشرط أن ينقطعوا عما كان عليهم إرساله كل شهر إلى القسطنطينية فإذا أراد الإمبراطور أن يستمروا في الدفاع عنها بعد ذلك فيجب أن يبحث في لمبارديا
2
وبلاد داسيا وولاخيا
3
عن مورد من القمح يرسل تباعا إلى الإسكندرية ردا لما أخذت القسطنطينية منها، وأنه يجب عليهم أن يبادروا فيرسلوا إلى الإمبراطور رسالة بالواقع فإن أبى إلا أن يستنزف غلال مصر على العادة فقد أعذروا.
من الذي يرسلونه في هذه المهمة الخطيرة؟ أورست أكبر تجار الغلال في الإسكندرية، وأعرف الناس بإحصائيات المخزون والمدخر، وعضو مجلس المدينة الذي يستطيع أن يتكلم باسمها كما تكلم من قبل، على أن يرافقه الحارس الأول للأمير: ورقة، وعذرهم من هذا الجمع أن نيقتاس لم يكن حسن الظن بأورست، وقد سبق له أن اتهمه بالتشيع للإمبراطور فوقاس، ولم ينج من الاضطهاد إلا بشفاعة يوحنا الرحوم نفسه، فقرنوا به ورقة؛ لأنهم يعلمون أنه موضع ثقته، ولن يقيم اعتراضا على سفره، كما أنهم قدروا أن الإمبراطور سيسأل عن دخائل الأمور في عاصمة إمبراطوريته الثانية، ولا بد أن يتذاكر في شئونها مع الرسول، وإذ كان ورقة مطلعا على كل شيء في الإسكندرية؛ لعلاقته الدائمة بالأمير، وحضوره مجلس العسكر معه، واطلاعه على أسرار الدولة، ولوقوفه على ما كان يدبره اليعاقبة واليهود من المؤامرات، ولأنه حسن المدخل لا يتهيب أن يلقى البراطرة بما عودته الصحراء كما يتهيب الرومي الذي نشأ وعاش بين الواجبات والتزامات أهل القصور، فهو أفضل من يرسل في هذه المهمة، ورأوا أنه يحسن أن يرسل في طلب أورست الليلة؛ ليستعد للسفر ، وليتعرف إلى رفيقه، قال ورقة: إنه من أصدقائي وأشد الناس ولاء للأمير وللإمبراطور. قال البطريق وقد فرح لهذه الشهادة المفاجئة التي جاءت مؤيدة لحسن ظنه في أورست: نعمت الشهادة يا ورقة، إن الله يرسل برهان الحق المجهول على ألسنة من ليس لهم مصلحة في ترويجه. هذا أيها الأمير نيقتاس الذي وشوا لك في حقه فأبعدته عنك من غير أن تتبين. قال نيقتاس رادا لهذه الشماتة: سيذهب له ورقة برضاي ويستدعيه إلي. إن خطأ ورقة - إن أخطأ - أصدق عندي من برهان سواه! وكان ورقة يعرف سبب هذا الرد المؤلم للبطريق في مجلس الجيش فقد كان الأمير يرى أنه يعطي لنفسه من الحقوق ما ليس له، ويتدخل في شئون الحاكم في حين أن مهمته في الدنيا الصلاة والصوم وما يلحق بهما. فكان هذا الموقف معبرا عما في نفس الأمير من استرابة البطريق ومقته. فسارع ورقة إلى تغيير الجو بقوله: فداء الأمير دمي وحياتي.
على أن الأمير كان يشتهى ألا يفكر المجلس في حارسه الخاص، ولكنه لم يكن له بعد هذا الإيضاح إلا أن يوافق. غير أنه قبل أن يقول لا بأس بذهاب ورقة مع أورست - أخذ ينظر إليه مدة طويلة ذكر فيها أن سيحرم رؤيته، وقد أصبح يحبه كما لو كان ولده، وتذكر أنه وعد أن يلقى اليوم لمياء ليعقد عليها، وفى السفر تأجيل لذلك، وهو ما كان يشتهي أن يذاكر فيه ورقة على الفور، ولكنه لم يستطع فاكتفى بحديث العين، وكان ورقة في تلك الأثناء يفكر في بعده عن لمياء ووقع هذا النبأ عليها، ولكنه وجده أخف من أن تعلم أنه على شدة هيامه بها، ورغبته في أن تكون له - كان سيبدي للأمير إذا اجتمعا أنه يرى إرجاء العقد حتى تستأذن هرميون زوجها، ووجد في غيبته في القسطنطينية فرصة لذهاب الرسول إلى الحارث وعودته، أو ما كان سيبدي له من أن الحارث إذا قبل فمعنى قبوله أنه سيتحمل تعيير الناس من أجله، وهو ما لا يجمل به قبوله، ثم طار به الفكر في أجواز الأرض فانتقل إلى بلاد العرب والنضر وقريش، وغاب وراء أجواء وادي النيل، ثم عاد إلى الإسكندرية فرأى الأمير يبتسم في مواجهته كأنما يقول له ما رأيك في هذا الذي لم يكن في الحسبان؟ فقال له: نعم أذهب يا مولاي، لا أجد خيرا من ذلك مخرجا.
لم يكن ورقة يريد بقوله «مخرجا» ما فهم القواد منه، فقد زعموا أنه يريد المخرج مما كانوا فيه، ولذلك أثنوا عليه، وانبرى بعضهم يهونون عليه المشقة؛ فذكروا القسطنطينية وجمالها، والإمبراطور وأبهته، وغبطوه على رؤية الدنيا وجلال الملك، وإذ استقر الأمر على ذلك نهض الأمير فنهضوا، وودعوا بأطيب الدعاء.
خلا المكان إلا من الأمير والبطريق وورقة، وإذا بأحد الخصيان يتقدم فيبلغ ورقة أن العالم قوزمان وأولاده ينتظرون دعوة الأمير للقائهم كما أمر. فالتفت نيقتاس يسأل ورقة: فيم جاء الخصي؟ فقال له ورقة مبتسما وموعزا برأيه: الأستاذ قوزمان لم يعلم أنى مسافر إلى القسطنطينية، وأنه يحسن قبل أن يمضي شيء أن يرسل إلى الحارث بطلب إذنه في زواج لمياء، فهو يعلن مولاي بقدومه طوعا لأمره ليلة أمس. قال نيقتاس: ماذا؟ أأنت تريد إرجاء العقد على ابنة الحارث حتى تعود؟ قال: قد يرى مولاي ذلك. قال: بل لا أراه، وسيتم العقد اليوم على أن تتزوج بعد عودتك. سيكون ذلك أدعى إلى تعجيلك بالعودة، ولقد دعوت السيد البطريق ليبارك زواجك. ثم التفت نيقتاس إلى يوحنا؛ ليكلمه في هذا الصدد. فلم يكن لورقة بعد هذا التضييق إلا أن ينظر في مخرج آخر، فألهمه، ولذلك رد يقول: فضل من مولاي ونعمته، ولكنا نحن العرب لا نتزوج كما يتزوج الروم يا مولاي. قال البطريق: كيف ذلك يا بني؟ فقال: إني كما يعلم مولاي مسلم أدين بدين محمد بن عبد الله. قال البطريق وقد شغله اسم الرسول
صلى الله عليه وسلم
عما هم في صدده: أجل سمعت بقيام رجل في بني إبراهيم يدعو إلى إله إسرائيل. أهو هذا الذي أنت على دينه؟ قال ورقة: نعم يا مولاي البطريق، إنه يدعو العالمين كافة على توحيد الله لا ينكر أحدا من أنبيائه، ولكنه رسول الله على الخلق أجمعين؛ ليوحدوا الله، ويسقطوا الشرك. قال البطريق: أهو يؤمن بالمسيح؟ فقال: أجل على أنه
صلى الله عليه وسلم
نفخة من روح الله، وأنه عبده ورسوله بعثه رحمة للعالمين. أما أنه ابن الله أو أنه إله فلا. فغاظه هذا الكلام، وسأل ورقة: وأنت تدين بهذا؟ قال: وأدعو إليه يا سيدى، قال: أنت كافر يا بني بديننا فكيف نزوجك منا! قال نيقتاس: ليست العروس منا أيها السيد البطريق، إن أباها مثله عربي: الحارث بن كلدة الطبيب الذي تعرفه، قال: حقا، فما دخل الكنيسة إذن في هذا الزواج؟ لا هو من ديننا ولا هما من قومنا. خير له أن يتزوج على ملة أهله! قال ورقة: هذا ما أردت يا مولاي، ولكن مولاي الأمير أراد أن يخصني بفضله في أن أظفر بدعاء مولاي البطريق وبركته. قال: أعفني يا بني، إني لا أدرى كيف أدعو لكافر بربوبية المسيح أو أبارك له زواجا. قال: ادع لي كما تدعو لجوادك. قال: ولا هذا يا بني. ثم نهض على نية الخروج وورقة يقول: شكرا لمولاي البطريق إن الإنجيل يأمر أهله أن يحبوا أعداءهم، وكنت أولى بمحبتك؛ لأني لست عدوا لك. قال: أنا أحبك حبا عظيما جدا، ولكن الحب شيء، والدعاء لك شيء آخر. ثم مضى يحاول ستر غضبه المزدوج من نيقتاس؛ لإيوائه كافرا، وما كان من رغبته في أن يعقد له على حفيدة قوزمان، وخرج بعد أن ودع وداعا صوريا جافا.
عاد الأمير إلى مقره يقول لورقة: تعال خبرني ما سر هذه المداورة. أما إنك أغضبت الرجل فلا يهمني. أنت تعرف أنى أكرهه، وأكره كل البطارقة والقساوسة الذين في العالم، وكذلك كل من يجعل له بالدين سلطانا على الناس بالمنح والمنع والحرمان. أريد دينا لا إكليروس فيه، ولا دخل لكاهن في أمور أهله. قال ورقة: هذا دين الإسلام يا مولاي، دين يقول: إن الله واحد. يسوي بين الناس، ويجعل الملك في الأصلح المختار من أعيان أهله، ويصل بين الناس وبين الله مباشرة بلا واسطة من قسيس أو كاهن أو بطريق، فليس له من هؤلاء أحد. ثم هو يحرم الرهبنة، ويلغي الإكليروس. قال: هذا نعمة يا بني. إنه فيما أرى يزيل كل ما نشكو منه في هذه الأرض من البغي والعدوان باسم الدين. إن العالم في حروب رهيبة بسبب اختلاف الدين، والإكليروس هم الذين يدفعون الملوك إليها، والملوك يدفعون الشعوب المسكينة , فإذا خلصت الدنيا من سلطان المتزعمين بالدين حقنت دماء الشعوب. اسمع يا ورقة: سينتشر هذا الدين الذي ذكرت لي أؤكد لك، وسيكتسح كل ما سبقه من العقائد؛ لأني أراه بغية كل قلب، وإذا هيئ لك أن تجتمع بالإمبراطور
4
فخبره عنه كما خبرتني فسيسر له. إنه كما رويت لك مثلي: له مذهب خاص؛ فهو يكره هذه الفروق بين اليعاقبة والملكانيين، ويكره الإكليروس، ولو تهيأت له الفرصة؛ لنسخهما، وأتى بمذهب جديد.
5
ليته يأخذ بمذهب ابن عبد الله، ولكنك لم تفدني عن سر رغبتك أمس في إعفائي إياك من الزواج بلمياء، ومن فرحك بالرحيل إلى القسطنطينية، وما فعلت من إغضاب الرجل عليك. إذا أقنعتني ساعدتك، وإلا فلا بد لي من إتمام ما استحضرت قوزمان وبناته من أجله. قال ورقة: إن الحارث بن كلدة أستاذي يحبني حبا يقل في وصفه حب الوالد ولده، وحبي إياه حب الابن العارف بالجميل الذي يفتديه من أهون سوء بروحه، ولو ملك الحارث أن يزوجني من لمياء ما تردد؛ بل لسعى إليه، ولكنه من سراة العرب، ويخشى المعرة أن يقال: زوج الحارث بن كلدة ابنته من فتى لا نسب له. فأبي كان نجارا من أهل هذه البلدة كما علمت يا مولاي، وأمي كانت سبية، وإن وفائي لأستاذي وتقديري لحاله ليمنعني من أن أستغل حب لمياء وأهلها لي، وأستعين بعظيم جاه مولاي في تحقيق أمنيتي. قال نيقتاس: فإذا رضي الحارث مثلا. قال: إن رضاه يقرب مسافة الخلف، ولكنه لا يجمع بيننا. قال نيقتاس: كيف ذلك؟ قال: سيكون مضحيا من أجلي، وهل يجمل بى أن أقبل تضحية من أستاذي. إني إن فعلت كنت كمن يضحي بأبيه، وما أشد هذا على نفسي! قال نيقتاس: أما إنك قديس يا ورقة فمما لاشك فيه، ولكنك قديس أناني. فشده ورقة وقال: أناني يا مولاي! قال أجل. إنك تخشى أن تتهم نفسك أو يتهمك الناس بقبول ما تسميه تضحية من غيرك لك، وما هو كذلك لأن لها عوضا عظيما من جانب آخر، وتنسى أنك تضحي بغيرك وتقتله بلا أقل رحمة ولا أقل عوض. فقال ورقة: ما هذا يا سيدي؟ قال: أنت نسيت حق لمياء في هذه الملحمة. لقد حملتها على حبك. قال: كلا وربى يا مولاي. قال: بلى. قد يكون حسن الأدب وكمال الخلق، ولطف المعاملة، ووسامة الخلقة، والرجولة، وكل ما يجب أن يتصف به الرجل - ذنبا للرجل من حيث لا يدري.
6
أنت عشقتها فيك بهذا، وما هي بقديسة مثلك. هي امرأة، والمرأة هي الإنسان المعقول تصرفه في هذه الحياة، الذي لا ينظر إلا إلى جانب الحق الصراح من الأمر لا الخيال ولا الوهم. هي الصواب، وهى ترى أن تكون لها وتشتهيه ولا تهمها أراجيف العادات السخيفة التي روجها الأنانيون لأنفسهم كبرا وادعاء وإنك لمتناقض في دينك. ألم تقل لي: إن نبيك سوى بين الناس! ماذا بك من عيب؟ من أنا؟ ومن هرقل؟ ومن أكثر ملوك الأرض؟ قطاع طريق في أصلهم ونسبهم وجميع أفعالهم، ولا يزالون كذلك: لصوصا وقطاع طريق. أما أنت فمن أبوين شريفين، بل من أشرف أبوين. لقد ذكرت لي هيلانة قصة أبويك، ولمياء أحق منك برعاية والدها. إنما يرعى الوالد ما ذكرت من أجل أولاده، وهاهي ذي ابنته تنزل عن هذا الحق من أجلك - إن كان هناك نزول- لتكون لها، وأنت تأبى إلا أن تخجلها من نفسها، وتكسر قلبها؛ لتحيي قلبك وقلب الحارث. يا للأنانية والجور، وإقرار المظالم! لا. لن أقر جريمة كهذي، سيكون زواجك الآن! وإن كنت مسافرا. أريد أن أحفظ على لمياء قلبها، وأكافئها على حبها، وأمانتها وشجاعتها وعقلها.
ثم صفق نيقتاس، وأمر الحارس أن يرجو من السيد قوزمان وأهل بيته القدوم . فلما انصرف قال: وسأكتب أنا للحارث في ذلك، وأنا الضمين لك برضاه. إنه في مكة أليس كذلك؟ قال: بل في جدة يا مولاي، قال: هذا أهون، بل لماذا لا يأتي! سأرجو منه الحضور. فقال ورقة: ألا تنتظر يا مولاي حتى يجيء الحارث من مكة وتحادثه. قال: لا أنتظر. لماذا أنتظر؟ إن من عادتي أن أنفذ الأمر على الفور ما إن تبينت وجه الحق فيه. ثم أرى ما يجد بعد ذلك. أما الانتظار الذي يسميه بعض الناس حكمة وحسن نظر، ويأتون على صوابه بألف دليل من سيئات العجلة، فاعلم أن هذه الأدلة هي عقاب التلكؤ. زواجكما واجب، واجتماع قلبيكما حق، فمن العدل والحزم عقده على الفور. بل التعجيل به أوجب؛ لأنه أمر غير عادي يتطلب معالجته بعمل حاسم. أما إذا أنا رضيت أن أؤجل تنفيذه إلى ما بعد ورود رأي الحارث، فقد نزلت عن يقيني بصواب رأيي فيه، وأسلمت الأمر إلى ذي هوى أو متورط لا يملك فضيلة الحكم متجردا. إن حكم كما حكمت أكون قد أنفقت زمنا في غير طائل، وإن حكم بغير ما حكمت أكون قد امتهنت العدل بالتماسه من المتهم، وهو الحمق كله. لم يبق إذن إلا أن أعقد العقد.
فانحنى ورقة يقبل يد الأمير من فرط فرحه لولا ما كان يتجاذبه من عواطف الخجل من أستاذه؛ لأنه كنا يشعر كأن يأخذ شيئا من وراء صاحبه، ولكنه في الواقع كان يرى في سفره إلى القسطنطينية فرصة؛ لمعرفة رأي الحارث قبل أن يعود منها، فهو إذا عقد له على لمياء كان سفره وسيلة لتأجيل يوم الدخول بها حتى يرجع، فإن كان جواب الحارث بالرضا - وهو ما يرجوه - لم يعر ما وراءه شيئا من همه، وإلا فما العقد بشيء عصيب وإن قطع نياط قلبه وأسلمه الأمر إلى الوجد والجنون. ثم تذكر ما قاله نيقتاس من حب لمياء إياه، وأنها تؤثره على الدنيا وعلى أبيها، وتؤمل فيه أن يؤثرها على نفسه وعرف قريش ، وأنه بما انتوى إنما يخون ما تؤمله فيه من رعايتها ولو أدى الأمر إلى شيء من التضحية، وهو شيء جديد لم يكن قد خطر له على بال، فوجف قلبه وخجل منها، وأحس أنه لم يعر أمنيتها تلك شيئا من تقديره، ورأى قدر ما تفعل بإيثاره حتى على رضا أبيها، وتذكر فتى نجران من بني عبد المدان، وفتى مكة من بني عبد الدار، وفتى مناف ابن حاكمها، وأنها تركتهم كلهم رعيا لذكراه، فعلاه الخجل من نفسه، وصاح قلبه: بأبي أنت وأمي يا لمياء، سأكون لك على الدنيا كلها. إن الحق فيما قال نيقتاس وفيما قلت بما فعلت. إلي. إلي. سيبارك زواجنا سيد قريش وسيد الخلق أجمعين. فماذا يهمني من بني عبد الدار وبني جمح الذين لا يزالون لحمقهم وفساد رأيهم يعبدون الأصنام! ويريدون أن ينحروا أمثالنا على قدمي وثن من عرفهم الممقوت، كما ينحرون البدن على الأنصاب الصماء.إلي. إلي. إن الله يبارك لنا، والراشدون شهود على الحق فيما نحن في صدده، فماذا يهمنا من السفهاء!
مرت هذه الأخيلة كلها حين كان ورقة يلمس أصابع سيده الحكيم يقبلها شكرا له على براهين بره الشديد وحبه إياه، فقبلها مرة أخرى، وكانت قبلته في الثانية طويلة، وذلك حين كان قوزمان وهرميون وهيلانة ولمياء داخلين، وأدرك نيقتاس سر هذه القبلة الثانية الطويلة، وكانت عينه قد لمحت لمياء فيما لمح، ورأى زهرة أنضر من زهرات الربيع تخطر على بساط القاعة خطرة مائسة، فملكته هزة الحبور بأنه أنفق جهدا في محله، وأن عمله كان صوابا من جميع النواحي؛ لأن ورقة كان على كمال رجولته حسن الخلقة فمزج نيقتاس تحيته للقادمين بما كان فيه من الحديث، وقال يحادث لمياء: انظري يا لمياء، لقد جعلت من هذا القديس رجلا مثلنا؛ ليعرف كيف يقدر هذا الحسن، وهذه الرقة. ثم تقدم إليهم وسلم عليهم، وانبرى أهل لمياء يشكرون الوالي بالدعاء، وكانت هيلانة أفصحهم في ذلك قولا، ولما جاء دور لمياء ومدت يدها للسلام وانحنت لم يترك نيقتاس يدها، بل قال للجميع مازحا: لم يشأ ورقة أن يعقد له أبونا البطريق يوحنا الرحوم نفسه، الذي يتصرف وهو في الإسكندرية في ملكوت السموات والأرض، وبالأحرى لم يشأ البطريق نفسه أن يتولى هذا العقد؛ لأنه علم أن ورقة يؤمن بإله واحد لم يلد ولم يولد! ولذلك عزمت على أن أزوجهما أنا بما لي من حق الولاية على الناس، والزواج مسالة دنيوية خالصة، لا يصح أن يتدخل فيها الإكليروس بتاتا. هي أمر يترتب عليه حقوق والتزامات وواجبات ومواريث. فما شأن أهل الكنيسة في ذلك! ألا ترى ذلك يا قوزمان؟ قال: ما عجبت لشيء عجبي أن يتدخل أهل الآخرة في شئون أهل الدنيا، وسكوتنا نحن أهل الدنيا عن ذلك. كان يجب أن يكون أمر الزواج في يد الشرطة لا الكنيسة. هذا افتئات على الحقوق، وتفريط من ولاة أمر الناس في حقوق الناس، وقالت هرميون: إنهم في بلادهم يعقدون الزواج بأهون من هذا: بالقبول وحده، ولكنهم يعلنونه بما لديهم من وسائل الإعلان: بالدعوة إلى وليمة، أو الاحتفال بالزفاف. قال نيقتاس: وأنتم راضون بذلك؟ قالوا: كل الرضا. قال: وأمها؟ قال قوزمان: إن لها وحدها حق الولاية عليها في الزواج؛ هذا شرط شرطناه على زوجها يوم زوجناه منها، وإليك صك ذلك، فتناوله الأمير وقرأه، ثم التفت إلى ورقة، وقال: ففيم إذن ما كنت فيه؟ قال: إن مولاتي لتعلم سري، وهي على ما ترى ما كانت تريد أن تصدر إلا عن البر بزوجها قال: هذا من أمرها، أما اليوم وهذا الصك معنا فقد عدونا ذلك. أأنت راضية عن هذا الزواج يا هرميون؟ قالت: أما عن نفسي فكل الرضا، وأما ... قال نيقتاس مقاطعا: لا يهمني ما وراء ذلك؛ لأن في يدي صكا بحقك، فلم يبق إلا لمياء، ثم ابتسم وقال: هل هي راضية؟ فأجابوا: نعم. قال: أريد أن أسمع صوتها فلا بد أن يكون جميلا كوجهها، فابتسمت لمياء حياء، وحرضتها هيلانة وقوزمان أن تقول نعم. فقالتها في النهاية. فقال نيقتاس: صدق حدسي، ثم التفت إلى ورقة وقال: وأنت أيها القديس ؟ قال: نزلت عن قداستي يا مولاي، إنى كما تشاء لي. قال: أشاء لك أن تكون زوجا للمياء وأخا وصديقا ووليا أمينا. هات يدك. فلما تناولها جمعها إلى يد لمياء، وقال: لقد تحاببتما زمانا طويلا حب نقاء وتقى، ورجولة صحيحة وأنوثة مطهرة، وتمنى كل منكما أن يكون زوجا لصاحبه، ورفيقا في الحياة الدنيا على سنة الولاء والتعاون والرعاية الخالصة. فليكن ما أردتما برضاكما ورضا من لهم الولاية في أمركما، وأنتما من هذه اللحظة زوجان. فركع العروسان يقبلان يده فقبلهما معا وبارك عليهما، ثم قال: سأكتب لكل منكما وثيقة تختم بخاتم القصر، وتمهر بإمضائي، ويشهد عليها الحاضرون، وسأكتب لك يا ورقة وثيقة أخرى أرفع بها رتبتك درجة حتى تلقى الإمبراطور في القسطنطينية برتبة أعلى، وأخرى بتمليكك عقارا في الإسكندرية هدية منى إليك لعرسك بعد عودتك، وأنت منذ اليوم إلى حين سفرك في إجازة تقضيها بجوار لمياء. فركع ورقة ولمياء شكرا للأمير، وتناولا يده يقبلانها فقبلهما نيقتاس وبارك عليهما. حين كانت تبكي هرميون وهيلانة بل وقوزمان؛ لفرط مسرتهم، وتأثرهم بفضل الأمير، وشكروه على هذا البر، وتأثر الأمير لهذا المشهد، وخطا متراجعا وهو يقول: لو كانت معركة من معاركنا مع الفرس ما أجهدت نفسي هذا الإجهاد. أف للقديسين والقديسات!
فضحك قوزمان لهذه الملاحظة، وضحك ورقة والأختان معه؛ لأنه كان يعلم أنه يشير بها إلى تردد ورقة في إنفاذ مشيئته. كما أنه كان يعلم أن نيقتاس رجل له مذهب خاص في الدين لولا تملكه منه ما تم زواج ورقة بلمياء.
على أن الأمير كان يشير أيضا إلى رفض البطريق أن تكون له يد في هذا الزواج ما دام ورقة كافرا بربوبية المسيح، ولذلك تساءل: خبروني بربكم أليس هذا التزويج أكرم وأصح؟ فقال ورقة: هو ما يفعله العرب يا مولاي، ويكفي في الإسلام قبول الطرفين، والشهود للإعلان، والكتابة للإثبات. قال: سأزيد على الوثائق أن زواجكما على سنة الإسلام إذن، ثم توجه إلى لمياء مسائلا في غير حاجة إلى علم: هل أنت مسلمة يا لمياء؟ قالت ولم تتردد: أجل، والحمد لله يا مولاي. فشده الحاضرون لذلك، وقالت أمها: متى كان ذلك يا بنية؟ قالت: منذ أحببت ورقة. فقال ورقة: ولا أدري! فضحك نيقتاس وضحك الحاضرون معه، وقال نيقتاس: واشهدوا يا شهود العرس أنني أنا أيضا اليوم على يد ورقة من حيث لا يدري. إنه قديس حقيقة. ثم نهض الأمير وانصرف؛ ليترك للأهل والعروسين فرصة النعيم بعشية العرس.
الفصل الرابع والأربعون
على هامش الحوادث
خلا ورقة بأهله فهنئوه وقبلوه جميعا وقبلهم، وكان أول ما تساءلوا عنه حكاية سفره إلى القسطنطينية فذكر سببها بقدر ما يجمل به ذكره من أسرار الدولة لغير أهلها. فأسفوا لفراقه هذا القريب، ولكن هيلانة تدخلت في الأمر تهون فراقه فقالت: إن السعادة التي نلناها الليلة أكثر من حقنا فلنجعل الزيادة عوضا من ألمنا لغيبة ورقة، ولنحتفل الليلة بما نلنا من السعادة التي لم نكن ننتظرها، لقد تغلبنا على هرميون وورقة معا، وهذا أكبر شيء. هلموا بنا إلى داري. قال قوزمان: بل إلى دارنا. نحن هناك أكثر حرية، وانصرفوا على ذلك.
وفيما هم في الطريق تذكر ورقة أن مجلس الجيش كلفه أن يلقى أورست في ليلته وينهي إليه قرار سفره، ولا بد من تنفيذ ذلك، ولكنه لم يقو على فراق لمياء في هذه الساعة السعيدة؛ لتأدية هذه المهمة، وخطر له أن يؤجلها إلى غده، ولكنه كذلك لم يقو على مخالفة الأمر، ورأى أن يستفتي قوزمان حينما وصلوا إلى دارهم، فأشار عليه أن يدعوه إليه، وأقرته هيلانة على هذا الرأي مشددة. فأرسل ورقة إليه رسالة رقيقة مع حارس البستان، ولم يكن هذا يجهل بيته؛ إذ كان في حدود بيت قوزمان فذهب إليه.
قضى الجمع ساعة من أطيب ساعات حياتهم كان ورقة في غضونها يكلم لمياء بنظراته وابتساماته التي كان يتلو فيها قصة حبه لها، ويذكر ما لقي من أجلها من أخيها النضر حتى صاحت هرميون: لعل من أسباب رضاي بتعجيل العقد رغبتي في أن يبلغ الخبر أذنيه فيصمهما، ولكن هيهات! كيف ترسل إليه الخبر؟ لم يعد هذا ممكنا والفرس يحاصروننا، ويسدون علينا الوادي. قال : بل هو ما سيحدث غدا يا مولاتي، فاعترض الجمع على هذه التسمية، وقالوا: أحب النداء إليها الآن أن تقول لها: يا أمي. فابتسم ورقة وقال: لقد كان القلب يحدثني أني منها كذلك حتى حين قطعت الأمل، وعملت من ناحيتي على سد كل سبيل. لقد كنت على حق يومئذ، ولكني لم أكن على حق هنا. ألا ليبارك الله في مولاي الأمير وليجعلني فداه؛ لقد بصرني بما أعماني عنه اطراد الأمر. إنه سيرسل رسولا خاصا إلى مولاي الحارث في جدة أو في مكة، ولن يعدم الرسول وسيلة لبلوغ تلك الديار العزيزة، وسأحمله رسائل إلى باقوم وأمي، وإلى مولاي رسول الله؛ ليبارك زواجنا ويدعو لنا. فتأوهت هرميون وقالت: كنت أحب أن أرسل إلى الحارث رسالة، ولكنى لا أدري كيف أجرؤ على ذلك بعد أن كتبنا له كلنا رسائل نستعطفه فيها ونرجو دعاءه، ونلتمس منه الحضور إلينا، فلم يرد علينا، واستمر في غضبه علي؛ لتركي إياه في مكة عندما فررت بلمياء من أذى النضر. قال ورقة: وهل جاءنا خبر أنه تسلم الرسائل؟ قالت: لم يصلني شيء، ولكن الرسول الذي حملها كان من البر بنا في أول مرة بحيث لا أشك في أنه سلمها إليه كما سلم الأولى، ولو أنه استعصى عليه تسليمه إياها ما فاته أن يكتب إلي كما فعل أول مرة. قال قوزمان: إنما كتبت الرسائل يوم تركنا منف فهو إذا كان قد سافر بها فما كان يملك أن يعود برد أو خبر؛ لأن حال الطريق اليوم غيرها بالأمس، أو لعله أرسلها إلى منف فبقيت هناك، ولم تهتم نيفرت بها انتقاما منا جميعا. لا، ليس هذا برهانا. إن الرسائل في أيام الحروب والحصار لا يسهل وصولها إلى أربابها. ترى كيف يرحل إليه رسول الأمير؟ قال ورقة: لعله سيسير بالبحر إلى كانوب، ثم ينحدر في النيل أو في الصحراء كيفما شاء. إن هؤلاء الرسل أدرى بوسائل تأدية الرسائل. سيخبره الأمير في رسالته بما فعل، ثم ابتسم وقال: وسيحمل الوزر كله عنى وعن لمياء وسيدتي الأم! فضحكت هيلانة قائلة: الحمد لله على أنه لن يلقي شيئا من الوزر علي. فقال أبوها: بل الوزر وحقك وزرك فيما كان. قالت هيلانة: إن كان وزرا. قال: بلى. بلى. زعمت ذكاءك يعرف قصدي يا بنيتي، فقالت: لقد كان ذكائي مشغولا عن هذا التفسير بأن لك في هذا الوزر نصيبا كبيرا يا أبتي، فضحك الجمع لهذا، واستمرت هيلانة في كلامها: لقد قلت للأمير إنه قديس. قال وهو يمزح مغالطا هيلانة كما غالطته: أجل، ولكن ليس معنى هذا أن أعطي القديس حفيدتي، فالقديسون لا يتزوجون، قال الجمع: وي يا أبي، أأنت غير راض عن زواج ورقة. قال: من قال هذا؟ قالوا: أنت تقول هذا، قال: لا. ما كان ورقة ليتزوج لو ظل على قداسته. أما وقد نزل قليلا، وأصبح مثلنا نحن الناس فقد أصبحت لمياء صالحة له؛ فضحك الجمع لهذه المغالطة الإغريقية التي اعتاد العلماء أن يمزحوا بها مع الناس، وقالت هيلانة: صلحا يا أبي، لست من أهل الجدل مثلك، ونهضت هيلانة تقبله، وإذا بحارس البستان يؤذنهم بمجيء أورست، وهم ورقة بالنزول إليه، ولكن هيلانة تساءلت: ألا يصح أن ندعو رجلا عظيما كهذا إلى الطابق الأعلى؟ إنه من رجال المجلس فيما علمت من ورقة، والواقع أن ورقة لم يخبرها إلا بأنه أكبر تجار الغلال في المدينة ومن كبار أغنيائها، ولكنها شغلت به منذ كان مارا بباب دار أبيها ساعة لقيت ورقة، وأردات أن تعرف ظاهره وباطنه، فلما لقيت أباها قبل أن يصعد ورقة إليها روت له أن ورقة جاء، وأنه مع رجل يدعى أورست، وسألته في غضون الحديث عمن يكون أورست هذا؟ لتعرف عنه شيئا أكثر، فأخبرها أنه من أعضاء المجلس، واليوم نسيت من القائل لها ذلك منهما، وعزت القول إلى ورقة، ثم تنبهت إلى خطئها فعلاها شيء خفيف من الخجل؛ لأنها لم تكن تريد أن يفتضح لها سر، ولحظه ورقة حين كان ينظر إليها. على أن أباها أنقذ الموقف بقوله: إني أعرف الرجل حق المعرفة، ولا أرى بأسا من صعوده إلا أن يكون ورقة ... فقال ورقة وقد رأى رغبة هيلانة في الالتقاء بالرجل الوسيم الذي شاهدته من شرفة المنزل، حين اقترحت دعوته، وحين اقترحت صعوده: لا أرى في ذلك بأسا. إنه رجل عظيم، وأنا أحبه وإن كانت صداقتنا وليدة السيف.
جيء بأورست، وكان إذ ذاك في لباس فاخر كأنه شعر أن سيلقى هيلانة التي رآها في شرفة البيت وهام بها فؤاده، فاستعد لهذا اللقاء بما يجب له؛ وقابله الجميع بالترحاب العظيم، وكانوا جميعا في ذلك الملبس الكريم الذي استعدوا فيه للقاء الأمير بمناسبة زواج ابنتهم، ولما يمض عليه وقت يذكر، وورقة في لباسه العسكري الجميل. فكان الحفل بالغا حد الكمال والروعة، واتخذت هيلانة لنفسها صفة الزعامة في المنزل، وساعدها هذا على الحركة والكلام، وتحية الضيف بالقدر الواجب، وتمكنت من إبداء قدرتها الساحرة الكمينة فيها حتى كادت الأربعون من سني حياة الرجل تزول، ولا يبقى إلا سبع سنوات يتكلم أورست بلسانها، ويرجو بقلبها، وكادت هذه السنوات السبع تزول منها أربع أيضا عندما طلبت إليه هيلانة أن يهنئ صاحبه؛ إذ عقد له الأمير على لمياء. فنهض أورست يهنئ ورقة، وتجاوز التهنئة بالسلام والقول إلى العناق والتقبيل، ولم يفت هيلانة معنى هذا، فقد كانت تتأمل كل همزة من همزات نفسه في صوته أو في يديه أو في بدنه، وهى مجدة في توجيه عيني الرجل وقلبه وحسه كله إلى حيث تريد. فلما انصرف إلى لمياء يهنئها بدرت منه كلمة عرفت منها هيلانة أنها بلغت مرادها فألقت عصاها واستقرت. قال أورست: أما إنك يا ورقة موفق فهذا ما لا شك فيه. إن من يظفر بكريمة من بيت قوزمان أشرف رجل في الإسكندرية وأحبهم إلى أهلها جدير ألا يعد أيامه من هذه الدنيا؛ بل من حياة السعادة الأبدية الخالدة أسلفت إليه. هنيئا لك يا ورقة ما وفقت إليه، فشكره ورقة على تهنئته، وشكره قوزمان على تحيته وحمد الله، وعملت هيلانة على ترك المجلس للرجلين فكان ما أرادت؛ فذكر ورقة لأورست مهمته، وما كلف به من السفر معه إلى القسطنطينية؛ للقاء الإمبراطور. فقال أورست وقد فوجئ: كنت أريد أن أقول لك إنه لولا أني أسافر معك ما رضيت. قال ورقة: والآن؟ قال: أريد أن أقول لا أسافر ولو كنت معي، ثم ضحك. قال ورقة: ويحي! لماذا؟ قال أورست: هل لي أن ألقاك غدا؟ بل أنت قبلت دعوتي يا صاحبي فأنا في انتظارك. قال ورقة: لم يعد لي أن أثبت على وعدي حتى تقول لي لماذا تريد أن تلقاني غدا ولا تلقاني الليلة؟ والله يا أورست ما هون علي فراق زوجتي إلا أنك مرافقي. فقال أورست: إما إن نتساوى في ذلك أو فلا؟ أنا أيضا أريد أن تكون لي زوجة؛ لأقول لك عنا كما قلت لي: «والله ما هون علي فراق زوجتي إلا أنك مرافقي» قال ورقة: ألست متزوجا يا أورست في هذه السن! قال: كانت لي زوجة منذ عشر سنين، ثم غلبني عليها الغلاب، فإن شئت أن أرافقك فسر بأمنيتي إلى قوزمان وحققها لي: إنى أحببت هيلانة منذ ما وقعت عيني عليها هذا الصباح، ورأيتها الليلة فتنة للعين والقلب معا، وقد علمت أنها أيم فلا محظور من زواجنا. قال ورقة: لا بد من رضا الأمير فوق رضاها ورضا أبيها. قال أورست: كل هذا عليك. هذا شرط لسفري، وإلا فاذهب أنت وحدك. قال ورقة: سأمضي في ذلك وسأجيئك غدا بالجواب، وأرجو أن أوفق؛ فارتاح أورست إلى ذلك وشكره وقبله، وكانت هيلانة قد عادت هي وأبوها، وسمعت هرميون ولمياء جمل التوديع فحضرتا؛ لتوديع الضيف الصديق ورقة.
فلما زايل المنزل، واجتمع ورقة بهرميون خبرها بأمنية أورست فارتاحت إليها وسرت، وكلمت أختها في ذلك على الفور، وما كانت في حاجة إلى السؤال في أمر دبرته هي. على أنها تظاهرت بأنها تترك كلمتها لأبيها، ورأى أبوها الخير فيما كان ... وكان نبأ ورقة لأورست ثاني يوم عظيما، وذهب قوزمان يستأذن نيقتاس في الأمر فأذن، وكانت ليلة أخرى سعيدة إلا أنهما أجلا يوم الزفاف إلى حين عودتهما من القسطنطينية.
نتركهما إذن يسافران إلى القسطنطينية ، ويشهدان سوء حالها في الباطن والظاهر؛ بما كان بين سراتها وقادتها من التنازع، وشاه وزر الفارسي رابض قبالتهم بجحافله في انتظار الساعة الصالحة للانقضاض عليهم - ثم يلقيان الإمبراطور بعد قضائهما شهر في انتظار الإذن، ويلقيان إليه مهمتهما، ويتحادثان في شئون مصر والإسكندرية فيزداد الإمبراطور غما وحزنا، ولكن ورقة يملأ نفسه نشاطا وأملا بقوله: يا مولاي، إن رسول الله محمد بن عبد الله أوحي إليه أن الروم سيعودون فيغلبون. قال الله تعالى على لسان نبيه
غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين
فلم يبق لمولاي الإمبراطور إلا أن يؤمل الخير، ويرجو ذلك اليوم القريب. فقال هرقل: أما والله يا ورقة لو تمت نبوءة نبيك لأعلنن إيماني به، وليكونن لي معه شأن جميل، ولقد أراد الرجلان أن يعودا إلى الإسكندرية على إثر أداء مهمتهما، ولكن الإمبراطور كان قد أنس بهما فاستمهلهما إلى لقاء آخر. غير أن الإمبراطور شغل عنهما، وكانا كلما أرسلا يلتمسان لقاءه لم تبلغه خاصته ملتمسهما استهانة بهما من ناحية وبالأمير نيقتاس من ناحية أخرى. حتى مضى عليهما في المدينة ثلاثة أشهر، وقدر ورقة أن هذا المنع مقصود به النكاية من رجال القصر في نيقتاس، فاضطر إلى أن يتصدى لموكب الإمبراطور وهو ذاهب للصلاة يوم الأحد، وكاد الحرس يقتلونه ظنا أنه أحد من جاءهم الخبر بتآمرهم على الإمبراطور، ولكن ورقة دافع عن نفسه حتى لمحه الإمبراطور ومنعهم عنه، وتعجب كيف لم يرجع إلى مصر حتى ذلك اليوم، وإذ قال له إنه انتظر طوعا لأمره، وأنه التمس لقاءه غير مرة - علم أن حاشيته كذبته حين قالت: إنه عاد هو وأورست إلى مصر، فاعتذر إلى ورقة بما وسعه، وترضاه بأن عينه حارس شرف في فرقته، وعين أورست عضو شرف في المجلس الخاص بهما، ثم حملهما رسائل سرية إلى نيقتاس، وودعهما أكرم وداع.
الفصل الخامس والأربعون
شفاعة الحب
جاءت رسالة قوزمان وبنتيه إلى بيت الحارث مع نفس صاحب السفينة الذي جاء بالرسالة الأولى. فقد استطاع في تلك المدة أن يعد وسقا جديدا من خيرات مصر؛ ليبيعه في بلاد العرب، وكان الحارث قد زايلته الحمى، واسترد شيئا من العافية والقدرة على مقابلة الناس، ولكنه لم يتسلم الرسالة، بل تسلمها ولده النضر على غير علم من أبيه، وفضها وأعادها إلى صاحب السفينة؛ ليقرأها له ليعرف ما فيها إذ كانت كلها بالرومية حتى رسالة لمياء، وإذ وجد أن هرميون تعلنه بعدولها عما كانت قد رضيت بإنفاذه من زواج لمياء بدميان، وتعتذر إليه من خطئها حتى مع تعليقها الأمر على شرط قبوله، ثم تترضى زوجها، وتطلب إليه العفو عنها؛ لما سببت له من الحزن الذي برح به، وتبدي له تمنيها لو كانت معه في جدة؛ لتقوم على خدمته، ووجد أن لمياء تغمر والدها بفيض من المحبة والدموع، وقوزمان يدعوه إلى الإسكندرية ويهون عليه الأمر، إذ يذكر أنه لا خوف عليهم من الفرس؛ لأن في مقدروهم أن يركبوا البحر إلى ما وراءها إلى قيرين (برقة) أو غيرها، خشي النضر أن يتأثر أبوه برجائهم فيرحل إليهم في الإسكندرية، وتكون هرميون قد انتصرت عليه، فعزم على ألا يطلع أباه على الرسالة، ولا أن يعلمه على الأقل بعدول هرميون عن تزويج ابنته؛ مقتا منه لهرميون، واستبقاء لوجد أبيه عليها ولو آذاه هذا الوجد، وكاشف أخته قتيلة بذلك - وكانت قد حضرت من الطائف للقيام بشئون أبيها في مرضه - معتذرا بأن حالة أبيها لا تسمح أن تهزه عواطف عنيفة تبعثها عواطف شوق الابنة وعبارات ترضي الزوجة، وحذر أخته أن تفاتح أباها في شيء من ذلك؛ لئلا يطلب إليه الرسالة، وهو لا يريد أن يطلعه عليها، ولكن قتيلة كانت أرق قلبا من أخيها، وأرعى لأبيها، فإنها رأته كثير التفكير كثير الزفرات فأدركت أنه يفكر في امرأته وابنته، وأنه في ضيق لما قدر من أن يكون السهم نفذ فتزوجت لمياء من دميان، وثبت لها هذا من هذيانه في نومه، وخشيت أن تعاوده الحمى، أو يصيبه الجنون وهو قريب ممن يكون في مثل حاله، فلم تعد ترى رأي أخيها النضر من صلاحية كتمان الأمر عن أبيها، وإن كانت تعلم أن النضر لم يرد هذا وحده؛ بل أراد أن يمنع عودة الصلة القلبية بين أبيه وامرأته الرومية وابنته منها، وعزمت قتيلة على تسرية همه بإفضائها إليه بما يسره، ولكن لم تجد الوقت المناسب للحديث معه في ذلك، حتى أفاق والدها ذات صباح، وجلس يستقبل الشمس تملأ غرفته وتنعش النفس - وقال لها: يا ليتني تخذت جدة مقاما لهرميون! إذن لم يكن حدث ما حدث! فوجدت قتيلة في ذلك الوقت المناسب، وقالت: الحمد لله يا أبي على أن امرأتك نزلت على إرادتك فلم تزوج لمياء من ابن عمتها.
فالتفت الحارث إليها يسائلها بنظارته في شيء من الدهشة، وقال: أنا لم أتمكن من أن أرسل إليها رد رسالتها حتى يكون لي لديها إرادة تنزل عليها أو تعلو. قالت قتيلة: بلى يا أبي، كان ما خططته في مطلع رسالتك كافيا للدلالة على رفضك، فأرسله أخي مع صاحب السفينة الذي جاءك برسالتها، وأبدى له أخي أن من أسباب مرضك ما أصابك من الحزن لما علمت. قال: لقد أحسن صنعا. قالت: ولقد عاد صاحب السفينة منذ أيام بما يفيد انتهاء الأمر إلى القطع، وسافرت لمياء وهرميون وجدها إلى الإسكندرية. هكذا علم صاحب السفينة من رسول القصر الذي كان أتى له بالرسالة من عيذاب، ولكن أخي لم يشأ أن يفاجئك بهذا الخبر السار، حتى تقوى على احتماله، ولقد رأيت العافية في وجهك هذا الصباح فأنهيته إليك. قال الحارث وقد أشرق شيء من النور في وجهه الحسن: الحمد لله يا بنيتي، ليس لي على شكره يدان. لم أجد وحقك فيمن رأيت من الشباب في بلاد الله فتى تحتقره العين وتمجه النفس كهذا الفتى دميان الذي كانوا يريدون تزويج لمياء منه؛ مخنث مغرم بالنساء! تأملي في هذا. هذا أسوا صنف في الرجال. ألم يرسلوا معه رسالة؟ فحارت قتيلة بم تجيب، وأخوها قد حذرها، ولكنها لم تجد غير الصدق وسيلة قائلة لنفسها: أأرعى أخي على باطل ولا أرعى أبي على حق ؟ ولكنها مع ذلك تلطفت فقالت: بلى، ولكنك كنت ضعيفا لما جاء بها صاحب السفينة، ولم تكن تملك أن تقرأ، ولا كان من المستحسن أن تشغل بها، فأبقاها أخي معه حتى تقوى. عسى أن يعود اليوم من مكة! على أن النضر لم يعد إلى جدة قبل أيام. فلما جاء تلقته أخته بما جرى ليتدبر فغضب عليها وأنبها، وكان النضر قد مزق الرسالة في بعض أحوال نزقة وألقاها. فلما سأله أبوه عنها ادعى أنه لا يدري أين هي؟ وأنه يرجح أنها سقطت منه في الطريق إلى مكة، وأراد أن يلهي أباه عنها فقال: إنها رسالة صغيرة كتبت فيما أظن على عجلة. فقال الحارث: ليتك تركتها مع أختك، أو تركتها بجوار فراشي. فما كنت قارئها حتى أقوى. قال: تالله تفتأ تذكر تلك الباغية حتى تهلك أسى. قال: الله المستعان على ما تفعل معي يا بني، قال: عدت إلى شكوكك القديمة يا أبي! قال: شكوكي! ليتك قلت يقيني! قال: أنت وما ترى! ولكني أعدك أن ستأتي إليك هرميون ولمياء عما قريب على نفس السفينة التي سافرتا عليها! قال الحارث: من أين لك هذا؟ قال: مما وقع، فقد علمت الآن؛ إذ مررت بالسوق فالتقيت ببعض بحارة عيذاب أن الفرس نزلوا بلاد مصر، وتلقاهم قساوسة المصريين بالترحيب، وأنهم استولوا من الروم على منف وبابليون وأتريب ونيقيوس، ويوشكون أن يحاصروا الإسكندرية. فإذا لم يكن قوزمان قد رحل بابنتيه إلى الغرب صوب قيرين (برقة) لينجو وهو ما كنت أفعله لو كنت في مكانه فهو لا بد حاضر هنا ما دام طريق الصحراء والصعيد خاليا. فلم يرد الحارث على كلام ولده، وانحنى يفكر في امرأته وابنته، ثم التفت عنه، واستلقى في فراشه؛ لكيلا يرى وجه ولده.
كان زياد في ذلك الوقت واقفا بالباب على عادة الخدم استعدادا لإجابة نداء سادته إذا هم احتاجوا إليه، وكان لا بد له في هذا الموقف أن يسمع ما جرى بين النضر ووالده من الحديث. فلما سمع ما قاله النضر من أنه فقد الرسالة ، ولا يدري أين فقدها؟ وكان زياد يعلم أنه مزقها في مكة، أدرك أنه تعمد إخفاء الرسالة عن أبيه نكاية بسيدتيه هرميون ولمياء، وإنما أدرك ذلك؛ لأنه تذكر حديثا جرى بينه وبين زوجته سودة خاصا بهذه الرسالة من ناحية عرضية. ذلك أنه كان قد ذهب إلى مكة في بعض حاجة السيدة وشم في أردائها رائحة طيبة فلما سألها عن مصدرها، روت له من أمرها أن سيدها النضر لما عاد من جدة وأخرج ما كان في جوالقه كان من بين ما فيه لفافات مخطوطة عرضها لعين زوجته حينما تناولها، وقال لها شامتا: هذه من هرميون اللعينة وابنتها وأبيها إلى أبي يتزلفون فيها إليه. ثم مزقها طولا وعرضا وهو يسب هرميون ويشتمها، وأعطى سودة إياها، وقال لها: خذيها فأشعلي بها كانونك، وأن سودة لم تحرقها بل احتفظت بها؛ لأنها وجدت بها عطرا جميلا، فدستها في ثيابها لتعطرها بها. تذكر زياد هذه الحادثة حينما كان النضر يتكلم، وعزم على أن يأتي باللفافات من عند سودة ممزقة كما هي، عندما يعود إلى مكة عسى أن يكون فيها خير لسيدتيه المحبوبتين. على أنه كتم الأمر عن سيده حتى أرسلوه إلى مكة في حاجة لهم فأحضرها، ولم يقدمها إلى الحارث ويذكر له قصتها حتى خلا البيت برحيل النضر وقتيلة عن جدة، وسأل مولاه بحق لمياء أن يكتم الخبر عن سيده النضر؛ لئلا يؤذي سودة ويؤذيه معها. فطمأنه سيده وأثنى عليه وأثابه، وتناول الرسائل الممزقة يقرؤها ما استطاع أن يقرأ.
هل كان في استطاعة الحارث أن يجيب دعوة أحبابه؟ بل هل يجمل به أن ينزل على حكم امرأته، وقد سافرت بغير علمه، وأرسلت إليه كلاما مرا؟ الجواب: نعم، لا مستحيل مع الحب فإنه يحب امرأته ويحب ابنته، والحب يقول: إنها لم تخطئ في الفرار، وأنه لا فائدة من استمرار تظاهره بالكدر منها، وهو لو رآها لاعتذر إليها، والواقع أن جوهر كدره كان لأنها لم تمكنه من التظاهر بالغضب عليها هنيهة تتلوها كلمة منها في شبه نغمة اعتذار فيعفو عنها، ثم يتكرم بأن يسير وراءها طائعا أو يتقدمها مختارا. إذن فليرحل إلى الإسكندرية ما دامت تدعوه وترجوه، ويرجوه كذلك حموه وابنته العزيزة لمياء التي كانوا قد أوشكوا أن يؤذوها من حيث لا يعلمون، ويجب لكي لا تتكرر هذه الحادثة أن يكون بجوارها، ولكن كيف يرحل والفرس منتشرون في البلاد، ولا بد أن تكون أبواب الإسكندرية مقفلة؟ الحب يقول: هذا لا شيء مطلقا فإن هناك ألف وسيلة ووسيلة للقاء هرميون ولمياء. ليرحل إلى عيذاب إذن في الغد. لا داعي إلى قضاء يوم آخر في جدة، وليأخذ معه زيادا. فقال له: ما رأيك يا زياد في أن نرحل في سفرة إلى الإسكندرية تشاهد فيها الدنيا وسيدتيك لمياء وهرميون، ونأتي بهما إلى جدة؟ قال زياد: لا رأي لي معك يا سيدي، وإن كنت أشتهي ذلك. قال: أشعر أني استعدت قوتي ونشاطي عندما خطر لي أن أذهب إلى مصر. إن سيدتك ترجو أن أجيئها لأعود بها هي ولمياء إلى جدة؛ لأنها تشعر الآن بالخطر المحيق. قال زياد: أصبح السفر إليها فرضا يا مولاي، فقال الحارث: هيئ للرحلة في الغد إذن، وانظر هل من سفينة شاخصة إلى عيذاب. •••
بلغا عيذاب، ولكنهما لم يستطيعا أن يقطعا الصحراء إلى قفط؛ إذ انتفى الأمن منها على أثر انتشار أخبار اندحار الروم في كل مكان، ولكن المقادير هيأت لهما صحبة بزعيم أحد مناسر اللصوص جاء إلى عيذاب يلتمس صيدا فمرض، وعاده الحارث وشفاه؛ فحفظ له جميله، وتعهد بنقله إلى قفط سالما، ولكن الحارث لم يستطع أن يبحر من قفط إلى سيوط لا في البحر ولا في البر؛ لأن جنود الفرس كانوا قد انتشروا في الصعيد، وانتشرت أمامهم ووراءهم مناسر اللصوص من المصريين أنفسهم حتى أصبحت النقلة باختيار صاحبها حمقا صريحا. فانتظر الحارث في قفط حتى تهيأت الفرصة لذلك. كان لا بد لحاكمها الرومي من أن يرحل عنها قبل مقدم الفرس وإلا قتل، وإذ كان الحارث قد اتصل به من قبل وتألفه، والحاكم يعرف غايته، أعلنه بذلك سرا، وواعده في ظاهر المدينة من جنوب؛ ليعبر النيل إلى الشاطئ الغربي، وهناك ينتظران حتى يوافيهم جنده بحموله، ويسافروا جميعا في طريق الواحة المقابلة، على أن ينعطفوا إلى الشمال في طريق الشاطئ بعيدين عن طريق الجند والمناسر معا. على هذه الخطة عملوا ورحلوا عن قفط بعد أن قضى الحارث فيها قرابة شهرين، قاصدين إلى ما وراء الفيوم.
ولشد ما كانت شماتة الحاكم الرومي بقساوسة القبط؛ إذ كان يعلم أنهم على فرط ما أبدوا من الفرح، وما قدموا من براهين الترحيب القلبي بالفرس لم يلقوا من الفرس إلا رعاية متورط لا يدري سر فرح المأكول بآكله. فما لبثوا أن انقلبوا عليهم بالأذى والابتزاز وإن لم يعترضوا لصلواتهم في كنائسهم وترهبهم في أديارهم
1
بل تركوهم يصلون ما شاءوا، ويدعون ما شاءوا، وانصرفوا إلى ما جاءوا من أجله؛ فقد كان الفرس قوما دنيويين يفتحون البلاد ليملكوها، ولا تهمهم الأديان ولا المذاهب، ولا يحملون أحدا على قبول دينهم، ولذلك ما كانوا يتعرضون لأديان أهلها. جاءوا ليطردوا الروم، ويحلوا محلهم في استغلال مصر واستعباد أهل مصر، فإجلاؤهم إذا سر القبط لم يكن مقصودا منه أن يفرح القبط؛ بل أن يتمكنوا من بلادهم، ويستولوا على خيراتها
2
فإن كان في الكنائس شيء من هذه الخيرات دخلوها للاستيلاء عليها لا ليمنعوا صلاة الناس فيها لمن يحبون من الآلهة! أما قساوسة القبط فكان كل ما يشغلهم من أمور الدنيا أن يقول لهم الحاكم إن دينهم هو الحق ودين غيرهم باطل؛ ولذلك يجب أن يفرحوا لدخول المجوس بينهم، ويجب عليهم أن يحملوا الناس على أن يعطوهم أموالهم وأنفسهم ووطنهم من أوله إلى آخره من أجل أن يقول لهم الحاكم: إنه هو الحق لا حق سواه، وأنكم أولاد الله الحقيقيون. أما غيركم فأولاد حرام! وكانوا على هذا الحال المزري منذ ما كان في هذا البلد السيئ الحظ بأهله أديان. غير الكهنة دين هذا البلد ألف مرة، وكان كل دين قائم هو الحق، الذي يجب من أجل الاعتراف بحلاوته أن يعودوا فيحملوا المصريين على التفريط في وطنهم وأنفسهم، وينسون أنهم كانوا يفعلون مثل ذلك في عهد الدين السابق. •••
لم تكن الفيوم قد وقعت بعد في يد الفرس، ولذلك بقي بها الحارث مدة في جوار صاحبه حاكم قفط الذي جاء معه، في انتظار أن يقوم منها عير إلى الإسكندرية، حتى علم هذا الحاكم أن هناك جماعة من جند الروم القدماء عازمين على السفر إلى الإسكندرية؛ ليعززوا حاميتها فتكلم معهم في شأنه، وسمحوا أن يلقاهم في مكان معين خارج الفيوم؛ ليرافقهم على أن يكتم يوم سفره حتى لا يتنبه اللصوص إليهم.
جاء يوم السفر فودع الحارث صديقه حاكم قفط، وشكره على فضله شكرا جزيلا، وأكرم جنوده بما أوجب عليه البر في ذلك المقام، وخرج هو وزياد إلى حيث يجتمع بعير الروم الراحل إلى الإسكندرية به، وانحدر معهم إلى البحر.
ولشد ما كانت دهشته؛ إذ رأى في العير بعد مسيرة ساعة صديقه الفيلسوف اليمني - نعيما الصيدلاني - الذي كان استودعه ورقة. أما كونه في مصر فلم يدهشه؛ لأنه كان يعلم شدة رغبته في رؤية مصر، وأما كيف أتى إلى مصر فكان هذا محل دهشته وعجبه؛ لأن الطريق فيها في هذه الأيام لم يكن مما يجوز لمثله أن يستسهله، وهو لا يطلب زوجة مثله يحبها أو ابنة شاقته الوحدة والشفقة إليها، ولذلك سأله في ذلك: فقال نعيم: قد يكون الصديق أحب إلى الإنسان من امرأته، ويكون للإنسان ولد من غير صلبه أحب إليه من ابن دمه، ولقد جئت إلى مكة؛ لأراك وأرى ولدي ورقة هناك، وعلمت أنك في جدة فجئت جدة، فقيل: رحلت إلى مصر، فأدركت أنك قصدت إلى بيت قوزمان؛ لترى امرأتك وابنتك؛ وإذ كنت عازما من قبل على السفر إلى مصر فقد وجدت الدافع إلى ذلك مزدوجا، ولم أتهيب الطريق؛ لأنك لم تتهيبه، ولكن العجب أنك لم تصل بعد إلى الإسكندرية حين أني جئت في أثرك بعد شهرين. قال قضيتهما في الطريق. قال: ولكني لا أرى ورقة فأين ذهب ! ألم يعد إليك؟ قال: لا: وا حسرتاه! لقد أهدر ولدي النضر دمه فرحله بنو هاشم إلى يثرب فهو هناك الآن. فلما سمع نعيم هذا الخبر حزن حزنا عميقا؛ لأنه كان يشتهي أن يرى ورقة، ولعله ما اشتد به العزم على السفر إلى مصر إلا أملا في لقائه؛ إذ قدر أن يكون الحارث قد عمل على إرجاعه، ولكنه سرى عن نفسه الهم على عادته بأن أسقط الأمر من قلبه؛ لينعم بلقاء الحارث.
قضت القافلة عشرة أيام حتى بلغت ديرا قائما على مدى خمسة عشر ميلا من الإسكندرية. هناك وقف بهم الضابط الرومي صاحب العير؛ ليردهم عن متابعته قائلا: هنا مكان الافتراق أيها السادة الأغراب. لقد التمستم أن تسيروا في حمانا حتى تبلغوا الشاطئ، وها نحن أولاء قد بلغناه، وسنركب البحر من هذا المكان قاصدين إلى الإسكندرية، وهي لن تفتح اليوم بابها البحري لغير الروم؛ إنها في حصار كما تعلمون. نستودعكم الله. فتقدم الحارث ونعيم يودعانه ويشكرانه. على أن الحارث رجا منه أن يعمل على لقاء العالم قوزمان أكبر أطباء الإسكندرية وأشهر علماء معهدها فيخبره بمجيئه، وأنه سينزل في دير الهانطون في انتظار ما يفعله؛ للسماح له بدخول المدينة.
رحل الروم في سفينة صيد استأجروها إلى الإسكندرية، وقصد الحارث بنعيم وزياد على الأقدام إلى الدير القريب فقضوا في ضيافة أهله بقية يومهم، ثم خرجوا إلى طريق الإسكندرية قاصدين إلى دير كان للحارث بوكيله صحبة ومودة كان سببا في إقراضه إياهم قدرا من المال رمموا به الدير إثر من أنزل به أعوان بونوسوس من التهديم، وأعطوه في مقابل قرضه قطعة من السوق المجاورة للكنيسة، وإنما اضطر أهل الدير إلى الاستقراض؛ لأن بونوسوس ورجاله كانوا قد استولوا على جميع أملاكهم في مصر العليا والسفلى، وقطعوا عنهم المدد، واستولوا كذلك على كل ما كان في خزائن الدير، وسائر الأديار اليعقوبية من الأموال.
فرح الوكيل به فرحا عظيما، وأنزله هو وصاحبه مكانا مكرما، ولكن الحارث لم يرض أن يظل عالة على أهله بلا عمل حتى يرى نتيجة ما كلف به الضابط الرومي؛ بل أخذ في ثاني يوم يتولى هو ونعيم تطبيب مرضى الدير، وكذلك كل من كان يجيء من الجيرة يستطب برقى رهبانه وتعاويذهم، وظل على هذه الحال مدة طويلة لم يرد إليه في غضونها ما كان يؤمله، ولا عرف كيف يدخل إلى الإسكندرية؛ إذ كان جند الفرس معسكرين حول أسوارها، ومنتشرين في أرباضها، ومحاولة الخروج للنظر واستكشاف الحال ضرب من المجازفة بالحياة والكرامة معا. فاستمر في الدير في انتظار وسيلة يأتي بها القدر.
ولكن هذه الوسيلة لم تتهيأ له على عجل كما كان يؤمل؛ إذ كانت أبواب الإسكندرية مقفلة بسبب الحصار فاضطر المسكين أن يقضي شهرا آخر في ضيافة الوكيل.
هناك علم الحارث من وكيل الدير وحلقته أن الجيوش التي تحاصر الإسكندرية هي نفس الجيوش التي فتحوا بها القدس، وأن الكثرة فيها من عرب شمالي الجزيرة العربية
3
والقلة من الفرس، وأن السلار شاهين قائدهم الأعظم أحاط الإسكندرية بمجانيق عظيمة تلقي جلامد الصخر على الأسوار، ولكنها لا تفعل بها شيئا يذكر، بل ترتد عنها مهشمة كما ترتد كرات الصبية على ملقيها، وأن بعضها وقع في بعض أبراج كنيسة القديس مرقس القائمة بالقرب من السور الشرقي، ولكنها لم تبلغ منها مبلغ الأذى الكبير، وعلم أنهم أتوا بقواذف للنيران تحمل كتلا مغمورة في النفط والكبريت، وتلقيها فيما وراء الأسوار، ولكنها لا تقع إلا على فضاء معد في الإسكندرية لمثل ذلك، وأتوا بدباباتهم العجيبة بل الصروح العالية المتحركة على عجل ملأى بالمقاتلة والسلاح أملا أن يستطيعوا تقريبها من الأسوار ويركبوها، ولكنهم ما فعلوا بها شيئا فقد كانت تزمجر بآلاتها وتخور؛ فتجيبها من أسوار الإسكندرية المنيعة الهازئة رعود وبروق وصواعق من صخور ونيران تفتك بهم فتكا ذريعا فيضطرون إلى الارتداد عنها والعودة إلى مضاربهم؛ ليحاولوا الأمر بجهد أشد في يوم آخر، ولكنهم ما كانوا يظفرون في اليوم الآخر بأكثر مما ظفروا في الأول.
كانوا شجعانا أشداء معودين النصر والغلب، وقد هدموا جميع أسوار الحصون في الشام وأرمينية، وكان آخر ما فعلوا هدمهم أسوار أورشليم وامتلاكها، ولذلك كانت خيبتهم في كل محاولة، شديدة عليهم محنقة لهم، ولكن جيوشهم في الشام والقدس كانوا في أكثرهم من عرب الجزيرة الأشداء يقاتلون روما فتت الحروب والهزائم في أعضادهم. أما هنا فيحاربون أقلية رومية تعتز بأكثرية عربية جمعوها من بلاد لوبيا في الغرب وسينا في الشرق وزنوج لا يعرفون هوادة ولا يفترون. كان هرقل قد استنفد غالبية العنصر الرومي الإسكندري في حروب هجومه على القسطنطينية أيام حارب فوقاس، وفي دفاعه في أرمينية؛ ليستردها من كسرى أبرويز، فالحرب في جوهرها حرب بين عرب وعرب تعززهم في الإسكندرية أقلية من الروم وفي خارجها أقلية من الفرس.
من أجل هذا الفشل الذي منيت به جيوش الفرس أمام أسوار مدينة الإسكندرية المنيعة أبد ثمانية أشهر زعم صغار الأحلام من السكان واللاجئين إلى عشرات الأديار القائمة في أرباض الإسكندرية من يعقوبية ورومية أنه يحق لهم أن يتمتعوا بالسخرية بجند السلار شاهين، وهم مارون بأديارهم أو جالسون يستريحون في ظل جدرانهم، ولذلك لم يترددوا أن يسقطوا عليهم من الكوى المقفلة كلمات السخرية بهم وبإلههم ميترا. فانصرف الجنود عن أسوار الإسكندرية السميكة الراسخة إلى جدران الأديار الرقيقة المتزعزعة؛ ليهدموها، ويؤدبوا الساخرين منهم بما لدى الفرس من وسائل التأديب والانتقام مع فرط الاحتقار.
هذا ما علمه الحارث، وما رآه يوم أن فاض به الوجد؛ فاستقر به الرأي على أن يحاول الوصول إلى الإسكندرية بطريق البحر، فخرج قاصدا إلى ميناء لوكياس - ميناء القصر - عسى أن يلقى فيها ضابطا من ضباط الأسطول سمح الخلق يرضى أن يسير بكلمة منه إلى الأمير؛ ليسمح له بالدخول، وما كان يشك في قبول الأمير رجاءه؛ لأنه كان معروفا لديه بأنه عديل أخيه تيودور زوج هيلانة ابنة قوزمان، وكثيرا ما اجتمع به حينما كان يرافق قوزمان في زياراته له؛ إذ هو نسيب، وإذ هو عميد معهد العلم الإسكندري، وقد كان الحارث يفكر في هذه الوسيلة من قبل، ولكنه امتنع لسببين؛ أولهما: أنه كلف الضابط الفيومي لقاء قوزمان، وثانيهما: أن الطريق ملآن بجنود الفرس، ولن يرعى الجند أيام الحرب حق أحد أو كرامته، والطريق في البحر كالطريق في البر مصون بكشافة الأسطول الرومي، ولا بد أن يظنوا أنه دسيسة أو جاسوس، فيؤذوه، وربما قتلوه قبل أن يستبين لهم أمره.
فلما لم يظهر أثر لسفارة الضابط الرومي - إذ كان في الواقع قد قضى نحبه ثاني يوم دخوله الإسكندرية في هجمة كانت للفرس على أسوارها - وطال الانتظار قصر حبل الصبر من الحارث، وعزم أن يجازف، ولكن وكيل الدير لم يرض له هذا حتى يدبره على وجهه أنفي لشرور في الطاقة تجاوزها؛ ذلك بأن يركب الحارث وصحبه إحدى السفن الشبيهة بسفن الصيد، وينضم باسمه إلى الصيادين إذا خرجوا في العصر إلى البحر الأعظم، وينزلج إلى ميناء لوكياس. نعم، إنه لن يلقى هناك من رجال الأسطول برا سريعا، ولكنه يتفادى بعمله هذا إحدى العقبتين بل العقبة الكبرى، أي نواظير الميناء الغربية، الذين يتعاملون مع الجمهور فهم لهذا شديدو الحرص، شديدو الارتياب في كل إنسان، ومحال أن يأذنوا بمرور أحد لا يكون ممن يسمح لهم بارتياد البحر، وهيهات أن ينجو الحارث من سوء ظنهم وعقابهم العاجل مهما كان بريئا.
التمسوا الوسيلة إلى ذلك، وكتب وكيل الدير بخطه وخاتم الدير شهادة بأن الحارث غريب جاء يلتمس أهله في الإسكندرية، وأنه من ذوي الصلة والقرابة بسمو الأمير، ورجا ممن يطلع على كتابه من اليعاقبة أن يساعده على بلوغ ميناء لوكياس، وخرج الحارث ونعيم وزياد في السفينة على نحو ما دبر الوكيل، وكانت الرقعة التي كتبها قمينة بتحقيق تدبيره على وجه أكمل.
بلغ الحارث وصاحباه ميناء لوكياس، ويا هول ما لقي: ما كاد رجال الأسطول يلمحونه حتى خرجت إليه حراقة عليها نفر من شياطين البحر جمعوا سفينته إليهم، ونزل بها ثلاثة رجال شاهرين السيوف يسائلونه من هو؟ ولم جاء؟ وكيف جاء؟ ولم ينتظروا حتى يجيبهم، بل تعاوروه ونقلوه هو وصاحباه إلى سفينتهم، وأنزلوهم في غرفة مما يعد لسجن الجنود حتى ينظروا في أمره.
كانت أوامر ضابط الميناء الأميري شديدة جدا، ولذلك كان في استطاعة الحارث أن يدنو بسفينة من الإسكندرية حتى يبلغ الأرض، دليل على تقصير كشافة الأسطول في أداء واجب الرقابة، ولذلك أرادوا أن يخفوا أمره عن ولاة الأمر بل فكر بعضهم في إغراقه هو ومن معه إخفاء لتقصيرهم، ومال الرقباء إلى الأخذ بهذا الرأي وتنفيذه، ولكنهم أجلوه حتى يدخل الليل فينفذوه في خفاء، ولكن حدث ما لم يكن في حسبان أحد؛ ذلك أن هؤلاء الرقباء خطر لهم أن يفتشوا حقائب الحارث وزميله؛ ليأخذوا ما فيها، فلما جاء الليل نزلوا الزورق الذي جاء فيه الحارث، وتعجل أحدهم في الانتقال إليه، وزلت قدمه وهوى في البحر، وإذ كان يحاول النجاة أمسك بجانب الزورق فقلبه بمن فيه ممن سبقوه، وغرقوا أجمعين قبل أن يتنبه إليهم أحد.
ولكن الحارث بقي في سجنه هو وصاحباه يومين كاملين منسيين لا يذوقون طعاما ولا شرابا، وكادوا يقضون جوعا، حتى إذا رأوا سفينة كريمة داخلة الميناء عليها علم القسطنطينية، خطر لهم أن ينبهوا إليهم من فيها فنادوا بأعلى أصواتهم: أيها الأمراء، انظروا إلينا وأنقذونا إننا محبوسون هنا منذ يومين وسنموت جوعا! هذا ما قالوه، ولكن لم يسمع كلامهم أحد، فقد كان رجال الأسطول يحيون القادمين ساعة دخولهم فلم يلتفت إليهم أحد؛ إذ زعموا أنهم كانوا مثلهم يحيون.
فلما مرقت السفينة الإمبراطورية القادمة، وهدأت الأصوات عادوا إلى الصياح فالتفت إليهم بعض رجال الأسطول، وإذ رأوا أشباحا غريبة السنحة عنهم والزي دنوا منهم، وساءلوهم؛ فانبرى الحارث يروي قصته على النحو الذي رآه أمثل به، وسرعان ما انتقل إليهم بعض ضباط السفينة وأخرجوهم، وساروا بهم إلى أمير الميناء.
كان أمير الميناء رجلا مهذبا، ولذلك ما سمع نبأهم حتى اعتذر إليهم مما لقوا، وأكرمهم بما وجب، وأمر لهم بحساء ساخن، ثم بطعام، وسمح للحارث أن يكتب ما يشاء للمقوقس؛ ليرسله إليه.
الفصل السادس والأربعون
نقض الصحيفة
لم يجد رسول نيقتاس أبا لمياء في جدة، وخبره أهل الميناء أنهم شاهدوه يركب سفينة مصرية إلى عيذاب منذ أربعة أشهر، وإذ كان الرسول معروفا لهم بأنه بريد، فقد أشاروا عليه أن يسلم الرسالة إلى ولده النضر، ويفرغ من أمرها ما دام راحلا إلى مكة؛ لتسليم رسائل أخرى إلى بعض أهلها، وقالوا له: لعل النضر يستطيع أن يجيب عليها بما يرتاح إليه فؤاد المرسل، أو يدله على مكانه، أو يفيده بما ينتفع به المرسل من الأخبار.
على هذا رحل البريد إلى مكة، وقصد إلى بيت النضر، فلما استأذن عليه ودخل وجده في جماعة من أعيان مكة تبدو عليهم سيماء الكآبة والغيظ، وكأنهم كانوا يتحدثون في أمر جلل قطعه عليهم البريد بدخوله، فنظروا إليه جامدين وهو يحييهم، ثم رد النضر تحيته مقتضبا ولم يدعه إلى الجلوس. فجثا الرجل على ركبتيه وأخذ يقول: إني رسول سمو حاكم مصر، جئت إلى السيد الحارث بن كلدة برسالة من عنده، ولكني لم أجده في جدة كما قيل لي. قال النضر: هات الرسالة فأعطاه الرجل إياها واستمر جاثيا ينتظر جوابا: فلما نشرها النضر ليقرأها وجدها بالرومية فطواها، ونظر إلى البريد مغضبا، وقال: أنا لا أعرف الرومية. تتركها الآن حتى نجد من يقرؤها لنا ويترجمها. قال أحد الجلوس: لعله يعرف القراءة بالرومية أتعرفها يا فتى؟ قال: لا. إني عربي الأصل وإن كنت أتكلم الرومية، قال: فهل تدري فيم كتبت؟ قال: خبر سار؛ إن مولاي الأمير نيقتاس يخبر سيدي الحارث بزواج ابنته حفيدة العالم قوزمان من كبير حراس قصره، وهو فتى من أصل عربي شريف، عظيم الهمة، أصبح لفضله وأمانته وبره بمولاه صاحب الكلمة العليا في قصره، قال: ما اسمه يا ترى؟ قال: اسمه ورقة بن صليح، قال النضر مشدوها ونهض من مجلسه قليلا: ما اسمه؟! قال البريد: ورقة بن صليح! قال: ابن الجارية والنجار القبطي! أهذا هو الخبر السار الذي جئت به. إنه لأسوأ خبر. فأخذ الرجل بما رأى من استيائهم ولم يجب، وأخذ يقلب وجهه من الجالسين من طرف إلى طرف، فرأى النضر قد استطال وجهه وفمه، وجمدت أصابعه على الطومار، وحاول أن يتكلم فانعقد لسانه، وخشي أحد الحاضرين أن يخرج الوجد بالنضر؛ لما رأى من فرط ما دهاه لدن سماع هذا النبأ، فيؤذي الرسول.
فأشار إلى الرسول بعينه أن يتراجع ويحاذر، ثم مال على النضر ومد يده؛ ليأخذ منه الطومار الذي كتبت عليه الرسالة، ولكن يد النضر كانت قد شلت فلم يقو صاحبه على استلال الرسالة من قبضته إلا بعلاج طويل كاد يتلفها. كان هذا حليفه في الشر والفساد وأذى المسلمين: عقبة بن أبي معيط. جاءه منذ هنيهة يبلغه خبر سوء عظيم، فاجتمع السوءان على النضر في وقت معا، ولذلك أصبت بشيء من الفالج.
1
أدرك ابن معيط ذلك فأرسل من فوره إلى حجام؛ ليحجم النضر، وجاء وحجمه، وحملوه إلى داره.
أما المصري فخرج يبحث عن بيت باقوم؛ ليسلم إليه رسالة ورقة، وكان منذ دخل مكة يرى على قرب منه غلاما فرها يسايره وهو يتطلع إليه، فلم يهمه أمره، وحسبه فضوليا يتعجب لملبسه، فابتسم وسأله عن بيت الحارث بن كلدة فتطوع الغلام ليدله عليه، وسار أمامه حتى إذا بلغه، ودخله الرسول - وقف الغلام بالقرب من الباب ينتظر خروجه. فلما خرج عاد يسايره. فقال الرسول: ألا تزال هنا؟ قال: أنا في انتظارك يا سيد، هل لك في مروءة؟ قال فيم؟ قال: تأخذ هذه الدراهم، وتشتري لي لحما وخبزا؛ إن أبي جائع، وأمي تكاد تموت من المسغبة. قال: وما يمنعك من أن تشتري أنت بمالك ما تشاء! قال: إني من موالي بيت رسول الله. قال: وهل لا يليق بموالي بيت الرسول أن يشتروا كما يشتري موالي غيرهم؟ أم إنهم يتنزلون للشراء بأيديهم! قال الغلام: ليتهم كموالي أخس الناس في مكة. إنه محظور عليهم أن يشتروا لسادتهم شيئا من أسواقها. إن النضر بن الحارث وصحبه الذين رأيتهم معه وسائر قريش قد أجمعوا على مقاطعتهم، وهم يعرفوننا نحن موالي بيت بني هاشم جميعا فلا يبيعوننا شيئا ولا يعاملوننا، ولذلك فإني أخرج كل يوم إلى باب العمرة
2
في انتظار الأجانب عن المدينة فأساعدهم فيما يلتمسون، وأرجو منهم في مقابل صنيعي أن يشتروا لي بنقودي طعاما لسادتي من سوق حزورة هذه فآخذه إليهم ، قال المصري: إذا لم يكن في ذلك بأس فهيا. هات دراهمك. ماذا تريد؟ قال الغلام: لحما وخبزا وسمنا، ولكني لا أستطيع أن أقف بجانبك؛ لئلا يعرفوا أنك تشتري لي. سأنتظرك عند باب الصفا الذي يرى في آخر هذا الدرب فإذا اشتريت وعدت فسر في الدرب حتى تلقاني أو ألقاك، وهناك سأسير أمامك فتتبعني حتى آخذ منك ما تشتري. قال المصري: هذه مهمة شاقة. فقال الفتى: إلا على مروءتك. إني أراك كريم النفس. قال: شكرا لك، ولكني أريدك لأمر آخر. قال: ما هو؟ قال: أتعرف بيت رجل رومي اسمه باقوم. قال الغلام: نعم، بل أنا من أهل بيته عينا فماذا تريد منه؟ قال: عندي له رسالة من ولده. قال الغلام: ورقة؟ قال نعم. قال: أهو حي يا سيدي؟ قال: حي يرزق، وهو اليوم أمير كبير، وهو الذي كتب هذه الرسالة. قال: هو سيدي ومولاي. أهو عائد إلى مكة؟ قال: يعود إلى مكة! لا لن يترك ما هو فيه من العز والنعيم في الإسكندرية ويأتي هنا إلى بلد ليس فيها طعام ولا شراب. قال الغلام: سأركض يا سيدي أخبر والده وأمه بقدومك ريثما تشتري الطعام، وأعود إليك، قال: افعل. سأنتظرك حتى تجيء. قال: بل سأنتظرك.
كان هذا الغلام رؤبة غلام القرضاب الذي أنقذه ورقة، أغرى أمه بالحج؛ ليأتي معها إلى مكة، ويرى سيده وصديقه الذي تعلق به قلبه، فجاءا ونزلا في بيت باقوم، ثم أغراها بالبقاء في مكة فقبلت، ورأت العفيفة في وجودهما في بيتها شيئا من السلوى، فعرضت عليها أن يبقيا معها فقبلا ذلك شاكرين، وعاشا معها منذ ذلك الحين يعملان في خدمتها، وفي خدمة مولاتها أم المؤمنين.
عاد رؤبة إلى دار باقوم؛ ليخبره خبر مجيء رسول من عند ورقة بكتاب، وأبلغه ما سمعه من الرسول من أمر ورقة، وأنه صار أميرا في قصر الملك في الإسكندرية فزغردت تماضر وأم رؤبة فرحا بما سمعتا ونهضتا لإعداد مكان للضيف البشير، وخرج رؤبة للقائه كما اتفق معه، وإذا به يسمع زئاطا كبيرا وجلبة واردة من أندية المشركين حول الكعبة، ورأى قوما يتراكضون نحو شعب أبي طالب وهم يهللون فرحين، فاستوقف اللطيم منهم قائلا: مهلا! مهلا! لن تكون الأسبق بعد ما فاتتك الكرائم فكن الأول في إخباري بما لديك. فضحك المحادث، وكان يعرف أنه من أهل الشعب مثله، وقال له: إن المشركين اختلفوا فيما بينهم على أمر المقاطعة، وذلك على أثر الآية العظيمة التي أظهرت صدق رسول الله. قال: ما هذا؟ قال: إن أبا طالب خرج من الشعب إلى الحرم فاجتمع الملأ من قريش، وقال لهم: إن ابن أخي أخبرني أن الله أرسل الأرضة على صحيفتكم التي كتبتموها فيما بينكم لمقاطعتنا، فأكلت ما فيها من قطيعة رحم وظلم
3
وتركت اسم الله تعالى لم يمس فأحضروها، فإن كان ابن أخي صادقا علمتم أنكم ظالمون لنا قاطعون لأرحامنا، وإن كان كاذبا علمنا أنكم على حق وأنا على باطل. فقاموا سراعا وأحضروها من جوف الكعبة حيث كانوا علقوها؛ لتكون حجة على المشركين فيما بينهم، فوجدوا الأمر كله كما قال رسول الله. فقويت نفس أبي طالب واشتد صوته، وقال: قد تبين لكم أنكم أولى بالظلم والقطيعة. فنكسوا رءوسهم، ثم قالوا: إنما تأتوننا بالسحر والبهتان، وأرادوا أن يتملصوا من هذا البرهان العظيم، ولكن قام من بين المشركين نفر من أجوادهم منهم هشام بن عمرو، وزهير بن أمية، والمطعم بن عدي، وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، وأعلنوا نقض الصحيفة
4
ونادوا في مكة يقولون: يا أهل مكة، أنأكل الطعام ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى لا يبتاعون ولا يبتاع منهم؟ ألا لتفتح الأسواق لهم، ويكن لهم فيها ما لنا، وكنا ذاهبين لنخبر مولاتنا أم المؤمنين بهذا الخبر، وكنت أرجو أن أكون أسبقهم إلى ذلك فإذا أنت تمنعني، قال رؤبة: يجب علينا أن نحمد الله على برهانه، وعلى انتهاء ضائقة المسلمين، ثم ودعه وانصرف في طريق صاحبه.
وكان قد سبق لمن نقضوا الصحيفة أن اجتمعوا في بيت النضر بإخوانهم من المشركين، وتذاكروا في شأن نقضها مع أبي جهل والنضر وابن أبي معيط عندما علموا بقدوم أبي طالب، وما لقي إخوانهم بنو هاشم من الأذى طوال السنوات الثلاث التي قضوها في الشعب، وأعلنوهم بعزمهم على نقض الصحيفة. فرماهم هؤلاء بالنكوص والخيانة، وحدث بينهم في بيت النضر ما حدث من التشاتم والتنابذ قبل مقدم رسول نيقتاس. فلما خبره خبر زواج لمياء من ورقة كان في خبره الصدمة الكبرى لفؤاده فأصابه ما أصابه.
علت الزغاريد في حي بني هاشم، وتوارد الموالي على الأسواق يشترون ويستبضعون وهم آمنون، وشهد رسول نيقتاس هذا فسره الأمر، ولكنه كان قد اشترى حاجة الغلام وخرج بها فلقيه قادما عليه وهو مطمئن فهنأه بما كان، وشكره رؤبة على فضله، وأبلغه أن باقوم في انتظاره.
قضى المصري يومين في مكة كان فيهما محل الرعاية من باقوم وتماضر وبلال وزيد بن حارثة، وذكر فيهما زواج ورقة من لمياء بنت الحارث بفضل الأمير، فزغردوا فرحا وسرورا، وذكر ما يلقى من رعاية الأمير، وما بلغ إليه من العزة والمكانة، وخبرهم أن في نية ورقة أن يأتي بأهله إليه عندما تستقر الأمور في الإسكندرية، وطمأنهم عليه قولا بأن الفرس يوشكون أن يتركوا المدينة يأسا من حصارها، وأيده باقوم في هذا الرأي، وكان بلال يسائله: هل رآه يصلي؟ قال: إنه لم يره يصلي، ولكنه علم من الجنود الذين تحت أمره أنه يصلي مرتين في اليوم بعد أن يغتسل اغتسالا خاصا لهذه الصلاة، والأمير يحبه لهذا حتى لقد قيل إن الأمير يصلي معه.
لم يكن هذا صدقا فيما يختص بالأمير، ولكن حب الجنود لورقة، وتأثرهم بما يروى عنه، وما يعلمون من تمام صلاحه، وارتياح الوالي إليه - جعلهم يتقولون أشياء مما ينسجم فيما يعلمون، وعند ذلك عن لبلال - رضي الله عنه - أن يهدى القبطي رسول نيقتاس إلى الإسلام؛ لأنه عربي من مواليد الإسكندرية اليعقوبيين، ولذلك لم يغادر رسول نيقتاس مكة حتى كان قد أسلم وصلى، وأخاله لقي رسول الله مبايعا ومتمليا من نوره، ومعاهدا له على التوحيد والأمانة لله.
وكان رؤبة قد هامت نفسه شوقا إلى صديقه وسيده ورقة، واشتهى أن يراه، وألح على أمه في ذلك، ولكنها لم تكن تستطيع أن تجيب هذا الرجاء على الفور حتى ترى رأي من معها، وكان الجمع قد سمعوا قصته فوافقوا على سفره مع الرسول تحقيقا لرغبة الغلام الوفي، وليكون في خدمة ورقة في وحشته.
ولذلك زودوه بما يجب للطريق من المال، وحمله كل منهم رسالة إلى سيده ورقة، وخرج به الرسول عائدا إلى الإسكندرية من طريق الصحراء فالبحر فميناء لوكياس، ومنها دخل إلى القصر بفضل ما معه من جواز المرور، وبأنه من برد القصر المعروفين.
الفصل السابع والأربعون
باب القمر
طال وقوف الجيوش الفارسية وراء أسوار الإسكندرية يحاولون تهديمها بالمجانيق ومدافع النار الإغريقية فلا يستطيعون أن يزعزعوا منها حجرا، وكلما دنوا من الأسوار بدباباتهم المصفحة بالحديد يحاولون اعتلاء الأسوار بما يلقون عليها من غلالات من النار؛ ليزحزحوا عنها حماتها انصب عليهم من أبراجها شواظ نيران مثلها تفني راكبي تلك الدبابات من جنود الفرس والعرب الذين اقتحموا أسوار القدس منذ عهد قريب، وجيء بهم لينالوا مجدا آخر على الروم بفتح الإسكندرية، ووقف السلار شاهين أما فسطاطه القائم على تبة في تلال نيكر وبوليس
1
ينظر إلى بابها الغربي - باب القمر - نظرة الغيظ والحنق بأن هذا الباب شهد هزيمة جنوده وفناء جموعه، ويعجب كيف تقوى الأخشاب - ولو كان مصفحة - على مقاومة الألوف من الجنود، والألوف من الأحجار التي كانت مجانيقه ترميه بها؛ لتكسر مصاريعه أبد الأشهر الثمانية التي قضاها حتى الآن في محاولته فتحه، وأخذ يتخيل في عجزه وضيقه أخيلة لفتح الباب ليس تحقيقها في مقدور إنسان، ولكنها أخيلة مما يزيد به العقل يأس اليائس؛ فيقول: لو كان في الطاقة أن يكون في قدرة المجانيق رمي قذائفها فوق الباب والسور، وتنعطف هذه القذائف وتلتوي في سيرها، ثم تجري بعد ذلك راجعة في خط مستقيم؛ لتضرب الباب من الداخل حين تضربه قذائف أخرى من الخارج لأمكن دقه وتهشيمه، ولكنه كان لا يقف عند هذه الأمنية ليتأملها ؛ بل ينتقل إلى أمنية أخرى فيقول: لو كانت الزلازل تأتي فتهز الأرض هزة تتشقق على أثرها جدران السور أو تندك؛ لوجد الإنسان إلى الإسكندرية ألف باب يدخل منها، ولكنه كان يقف عند هذه الأمنية مدة أطول من وقوفه عند الأولى فقد قال له بعض القساوسة اليعقوبيين الذين بكروا إليه يرفعون آيات ولاء اليعقوبية لممثل ناصرها الأعظم كسرى أبرويز زوج مارية التقية النقية التي عرفت دين الحق فأعلنته، وأخذوا يتبارون عنده بالعلم بتاريخ البطارقة والأديار: إن جزيرة أنتررود
2
وأخواتها من الجزيرات التي كانت عليها قصور البطالسة قد هبطت في البحر هي وبعض الشاطئ القريب بفعل الزلازل. فقال السلار في نفسه: لماذا لا تهبط الأسوار كذلك بفعل زلزال شديد، أو غير شديد ما دام يشقق السور ولو قليلا، حتى إذا ضرب الشقوق بالمجانيق تناثرت أحجارها، وهيأت له طريقا؛ بل طرقا ينصب منها ألوف الجنود في المدينة، ويغرقون حاميتها القليلة العدد!
والواقع أن هرقل كان منذ سنوات قد استنفد جل من كان في الإسكندرية من جيوش الروم التي كانت تحميها؛ طلبها لتساعده على حماية القسطنطينية من شاه ورز قائد الفرس هناك فأرسلت إليه، وكان يظن أنه إذا قدر أن تتغلب الفرس على أسوار القدس وينصرفوا إلى الإسكندرية، وهذا ما لم يكن يظن هرقل إمكانه - فقد يكون لديه متسع من الوقت؛ لإعادة جنودها إليها ليحموها، وإرسال نجدات من عنده تلو نجدات، ولكن سوء حظه لم يمكنه من تنفيذ هذا التدبير؛ لأن قائد الفرس شاه ورز الذي اكتسح الروم عن الأناضول برمتها يحاول العبور
3
إليها، فلم يكن في طاقة هرقل أن يرد جنديا واحدا إلى الإسكندرية، بل إنه على العكس من ذلك أرسل إلى نيقتاس يستنجده ويستقيته، ويطلب إليه أن يرسل إليه بعض المسترزقة الذين جمعهم من صحراء لوبيا وسينا للدفاع عن الإسكندرية، ما دامت الإسكندرية آمنة وراء حصونها التي أعجزت بونوسوس نفسه، وأعجزت حتى الآن السلار شاهين نفسه، وهو الذي دك حصون أورشليم، ولكن نيقتاس لم يستطيع إجابة سؤل مولاه ورد معتذرا
4
بأن سبيل التطوع قد قطع عليه، ولم يبق لحماية قصره إلا حرسه من الزنوج
5
وأرسل ورقة وأورست برسالة وبيانات فذهبا إليه - كما قد رأينا - وعادا بوعود لم يتحقق منها شيء، أو بالأحرى لم ينفذ منها إلا ما أباح الإمبراطور لنيقتاس عمله إذا أخذ اليأس يتولاه.
ذهبت تلك الأخيلة مع الريح، ولكنها زادت في غيظ السلار وضيقه ساعة كان جماعة كبيرة من قساوسة أديار اليعقوبية على رأسهم تيوناس وكيل البطريق يسيرون إليه في جبابهم الكهنوتية الفضفاضة يرفع بعضهم صلبانا من الفضة وأخرى من الذهب، ويحمل بعضهم نسخا غالية من الكتاب المقدس مما بذل الرهبان وقتا طويلا في تزيينه بماء الذهب المشرق الجميل، وبالرسوم الملونة التي تشرح الصدر. جاءوا إليه ليدعوا الرب عنده أن يفتح عليه ويعطيه النصر الذي طال انتظاره، وهم يقدمون لهذه الصلاة في الطريق إلى السلار بإنشاد الأناشيد وترتيل التراتيل ليثبتوا له ولاءهم باستعجال الثالوث المقدس؛ لتحقيق ما يجب عليه تحقيقه من أجل عيونهم لاكتساح دين الكفر الرومي الذي يقول بأن جسد المسيح عليه السلام لا يفنى! ويرون أن هذا القول كبير جدا وكفر جدا، ويجب لتطهير البلاد منه، أن يعطوا الفرس - الذين لا يعترفون بشيء من دينهم حتى ولا بأن المسيح وجد - بلادهم كلها وأعناقهم حتى التراقي أملا أن يتمكنوا في ظلال نارهم من نشر الدين الحق الذي لا يمكن إلا أن يكون دينهم، ويرى غيرهم أنهم إنما يقدمون المثل من حيث لا يشعرون على أن الدنيا ما شقيت بشيء شقوتها بأمثال حضراتهم؛ إذ يبيعون أوطان الشعوب، ويسلمون للفاتحين رقاب الناس وأعراضهم من أجل أن يحتفظوا هم بأوطانهم الخاصة - الأديار والمعابد والضياع والمزارع - وتتحمل الشعوب بعد ذلك وزر عملهم وسوء آرائهم، وفضيحة التاريخ لهم ظلما وتعجلا من الكاتبين في الحكم. فالواقع أن كهنوت كل أمة كان هو المسيطر على شعبها المتصرف في شئونها يسوقهم في كل سبيل، ويقضي في حاضرها ومستقبلها بما لا يتفق إلا مع مصلحة القساوسة الخاصة، ولا تملك الشعوب أن تعصي لهم أمرا، أو تعرف وجها لدفع آذاهم عنها؛ لأن طاعتهم فيما وقر في قلوب الشعب، من طاعة الرب الذي أسلمهم أسواط الحرمان والطرد، وأعطاهم باسم كل ما اختلقوا من القوانين والشرائع حق الحيلولة بين الرجل وامرأته والوالد وأولاده. على أن الشعب المصري لم يشترك مع هؤلاء القساوسة في شيء اللهم إلا خدم الأديار ومن كانوا يحيطون بهم من جيرة الحي. أما الفلاحون والصناع فلن يكونوا يرون معنى لهذه الوفود، ولا هذه الصلوات والتراتيل، وإذا كانوا قد تراءوا باغتباطهم فهو تراء لدفع الأذى الناتج عن أنفسهم أو هو مشايعة منهم لقساوستهم الذين يدعون لأنفسهم في كل زمان الرشد والإخلاص، وحق الولاية على الناس، ويتبجحون بأنهم أعرف بالواجب.
على أن هذا الوفد المقدس لم يجئ هذه المرة باختيار أعضائه كلهم بل نزولا على إرادة زائر كريم، وأسقف من أكبر أساقفة اليعقوبية هو أسقف نجران الهرم المريض. علم من الركبان بدخول الفرس مصر فوجد الهمة والصحة والشباب؛ لتحمل مشقة السفر في البيداء والجبال على ظهور الجمال، ثم في السفن؛ ليأتي من أقصى الأرض ليلقى أمير الفرس، ويقيم عنده أحر صلاة. كان وصوله إلى دير الهانطون على إثر خروج الحارث منه بقليل، وكان لمقدمه هو وقساوسته ضجة فرح عظيمة في الدير بلغ صداها مسامع الرهبان في الأديار المجاورة فجاءوا يسلمون على زميلهم القديم، وممثلهم الأعظم في بلاد العرب، ويصلون معه صلاة شكر حارة للرب على وصوله سالما، واجتماعهم به في يوم سعيد جدا هو يوم الأمل القريب بزوال مذهب الكفر الرومي الذي استولى على أكثر ما كان يجب أن يكون لهم وحدهم من الأرزاق والطيبات؛ ولذلك دعاهم الأسقف المحترم إلى تنظيم موكب كبير يسير إلى السلار في معسكره، ويقيم الصلاة أمامه، ويدعو بأدعيته الطيبة؛ لتعجيل يوم انتصاره على الروم، ويمهدوا لذلك بإنشاد أعذب التراتيل على مسمع من البحر والسماء.
صوت الغناء في أذن المحنق المغيظ يزيد في ألمه وغيظه، ولمع الذهب والفضة وإشراق الملابس الزاهية بألوانها يؤلم المحزون إيلاما شديدا؛ ولذلك كانت أصوات ذلك الوفد التقي، وألوان أرديته الرسمية، وبريق المعدنين الكريمين - مؤلمة لنفس السلار الأعظم، حتى لم يجد بدا حين عرف من القادمون، وعرف غايتهم أن يعاجلهم برسول يقول لهم: اسكتوا! إن السلار لا يطيق سماع هذه الأصوات. فسكتوا وقطعوا بقية الطريق إليه كقطيع من التيوس المنعمة في زرائب الأغنياء.
وكان السلار قد اشتد به وجده إذ يجيء هؤلاء السادة؛ ليشكروا الرب على مجيئه، ويدعوه أن يفتح عليه بفتح الإسكندرية وقت أن كان قد استقر رأيه على تركها كما تركها بونوسوس، ولكنه كتم ما في نفسه، حتى إذا بلغ وفد الرهبان حظيرته وحيوه بأكرم الدعوات وأغلاها لم يرد عليهم؛ بل وقف صامتا وهم صامتون، ولم يسمح لأحد منهم بالجلوس، وظل ينظر إليهم مفكرا شارد الفكر يريد أن يجبههم بالحقيقة التي في نفسه ولكنه امتنع، وخيل إليه أنه كان يقول لهم: أيها القوم الذين بليت بأمثالهم كل الشعوب في كل أرض، إني ما جئت أنصر دينا على دين، وإنه لا يهم الفارسي الذي يدين بدين ميترا - وإن كنت لا أومن بميترا ولا بغيره - أن يعلو في مصر غير دين ميترا، ولن يكون منا يوم يتم لنا النصر إلا التسامح مع أرباب كل دين. فأما أن يكون لكم ميزة خاصة فلا؛ إننا جئنا هنا لنتملك البلاد، وندخلها في سلطة ملك الملوك كسرى أبرويز، لا ليكون لنا بأدياركم وكنائسكم علاقة ما دمتم لا تحدثون ما يعرقل أعمال الملك. كل ما نطلبه إليكم أن تقبعوا فيها كما قبعتم حتى الآن. لا يكون لكم بأهل هذا البلد ومصالحه الدنيوية شأن بتاتا. ما شأنكم أنتم بالملك وتدبيره! والحكومة وتصرفاتها! وأنتم بعيدون عن الدنيا بأدياركم، ثم طال سكوت السلار وسكوت الوفد في انتظار كلامه، وقد أخذ الذعر يعتريهم حتى نطق فقال: شكرا لكم أيها الوفد الذي جاء لولائه لكسرى يصلي لربه ويدعو بنصر سيوفه على الروم. هذا يدل على كرهكم الروم، وبحق ما تكرهون؛ لأنهم ظلمة يتدخلون في أديان الناس، ويريدون حملهم على دينهم فإن لم يستطيعوا اضطهدوهم كما اضطهدوكم، وحرموا عليهم العيش مثلهم، وليس هذا من العدل، ولا من واجب الحكومة والسداد. فصاح الوفد مهللين لهذا الكلام الجميل، واستمر شاهين يقول: أما ملك الملوك كسرى العظيم العادل فإنه لا يميز دينا على دين، بل الناس عنده سواء؛ لأنه لم يأت لذلك بل ليجلي الروم عن هذه البلاد، ويحكمها بما فيه الخير للناس جميعا، وستزول بطرقتهم بزوالهم، ولو بقيت ما مسها بسوء، ولكنها ستزول فافرحوا إذن. والآن، اذهبوا إلى أدياركم، وصلوا ما شئتم هناك، ورتلوا ما شئتم فأنتم في أمن، ولكن حذار أن يهزأ رهبانكم، ومن لجأوا من الشعب إلى الأديار مرة أخرى بجنودي، ويلقوا عليهم الأحجار والأوضار، وإلا رددت إلى الدنيا الأرض التي تقوم عليها أدياركم؛ ليزرعها الناس، ويأتوا للدنيا بالخيرات.
فانبرى بعض القساوسة يعتذرون مما فعل السفهاء، ويلتمسون منه الصفح، ولكن كلام السلار لم يعجب أسقف نجران بل خيب أمله الذي من أجله جاء من أقصى الأرض، فقال للسلار: ولكن مولانا كسرى أبرويز قد عقد مجمعا
6
معجلا منذ أيام في القدس؛ ليعرف أي مذاهب المسيحية هو الحق فوجد أن دين اليعقوبية هو الصحيح، ولذلك أعلن الناس بضرورة اعتناقه؛ ليكون دين الدولة لا دين سواه، وكلام السلار الأعظم ينافي رأي ملك الملوك.
فأدرك السلار ما في طي هذا الرد من الامتعاض والجراءة، ولكنه كظم غيظه، وقال: لقد أخطأ من بلغك أنه أمر في ذلك بشيء. قد يكون اتضح له أن دين اليعقوبية أقرب إلى العقل من سواه، ولكنه لم يأمر أن يكون دين الدولة، فإنه لا يريد أن يشغل نفسه بما لا يهمه، ولذلك أذن لمودسنوس وهو من بطارقة الروم أن يعود إلى القدس، ويعيد بناء الكنائس الرومية التي هدمتها الحرب وأعمال اليهود المزرية، ومد حمايته لكل دين
7
وسيحميكم أنتم أيضا، ويكون لكم من الشأن بقدر ما لغيركم لا أكثر بذرة ولا أقل بذرة. أم تريدون يا حضرات القساوسة والرهبان أن يجعل كسرى جيوشه تحت أمركم توجهونها في مصلحتكم إكراما لذواتكم الطيبة. انصرفوا في إكرام وتحية.
انصرفت ذواتهم الطيبة حزانى لخيبة أملهم البالغة، ولكن أحدهم قال لهم: بل أنتم قد نلتم منه الأمان لأنفسكم ولدينكم؛ وإذ لن يبقى في مصر من أتباع مذهب الروم إلا نفر قليل فسيكون دينكم هو الأعلى، ومن الواجب أن تعودوا إلى الدير مغتبطين، وتتظاهروا بالمسرة والحبور حين تعودون إلى الدور؛ لئلا يشمت بكم من لم يروا رأي أسقف نجران في الخروج إلى السلار.
فوافق الجمع على هذا الرأي، ولكنهم لم يشرعوا في الترتيل والإنشاد حتى دنوا من الدير الأعظم، غير أنهم كانوا ينشزون «تنشيزا» قبيحا؟ من فرط ما كانوا فيه من الغم، ولذلك أقلعوا عن الترتيل قبل أن يصلوا إلى حظيرة الدير، وضاعت عليهم التقفيلة البديعة التي كانوا قد نظموا خطواتهم عليها؛ ليدخلوا بها الدير العظيم دخول الفاتح المنتصر!
أما السلار شاهين فأخذ يحاسب نفسه على تلك الكلمات المرة، ويقول: تراني أسأت في هذا اللقاء، وقلت لهم ما كان يجب أن أقول سواه؟ ولكن هل كان يجمل بي أن أكرمهم، وأنا أمقت هؤلاء الناس وأمثالهم في كل أمة، وأعتقد أنهم أفسدوا العقائد الطيبة وأفسدوا الشعوب، وأسلموهم للأذى المستمر! ثم هل كان لي أن أقول ما ليس في نية كسرى السير عليه في حكم هذه البلاد! إنه تسامح مع جميع الأديان، وأذن لأهلها أن يعيدوا كنائسهم وبيعهم، وضرب على أيدي اليهود ضربة ردت كيدهم في معاهم.
8
هذه هي السياسة الحكيمة، وسأجري عليها في مصر إذا قدر لي فتح هذا الباب المستعصي، وبقيت واليا عليها، وإذا قدر لي أن أستقل بملك مصر - وهو ما أؤمله - فأول ما يجب علي أن أريح هذا الشعب المهيأ لكل عظيم من سلطة رجال الدين عليه، وثاني أمر أفعله أن أدله على أن الكرامة الصحيحة هي كرامة العقل. فما دام العقل حرا يفكر تفكير الراشدين، ويحكم حكم المنطق ويلتزمه ولا يقبل سواه من أحد - فلن يغلب، ولن يفرط في أوطانه كما رأيت، ولن يفرحه أن يجيء ظالم جديد محل ظالم قديم. كل ما في هذه البلاد من ضعف الهمة، وقلة الشعور بالكرامة الوطنية - مرجعه أولئك المرتلون، وما يوقرون في عقول الناس من ساعة أن يولدوا ، بل من قبل أن يولدوا: وهم في أصلاب آبائهم، وأرحام أمهاتهم إلى حين يوارون القبور؛ من عقائد تنبو بهم عن الدنيا، وتهون عليهم ذلة الحياة وظلم الحكام، ويوقرونها في نفوسهم في كل ظرف، ويوقرون معها الذعر من تحكيم العقل والمنطق والتفكير الصحيح فيها، ولذلك ينشأون أبعد ما يكونون عن الكرامتين؛ كرامة العقل، وكرامة الفعل.
إذا أصبحت ملكا على مصر فسأعيد دار الحكمة التي أوصى ببنائها أستاذنا أستاذ الراشدين أرسطو، وكان لمصر بفضلها فضل أعظم على العالمين؛ فإن إسقاطه نظرية الروح أم الشرور والأراجيف لم يترك مجالا لفلسفة ما وراء الطبيعة الكاذبة المدلسة، ولم يمكن الذئاب من أن يدعوا العلم بها، ويقيموا أنفسهم ولاة وكهنوتا وقساوسة، ولكن وا حسرتاه جرى عليها ما جرى على كل شعب يترك كرامة العقل ليعلق بالأراجيف والأوهام فهدمها الذئاب ليقيموا بدلها حظائر للشياه. سأعيدها وأصونها، وأمنع أيدي العبث عنها وعن ديار مصر بلا أقل تسامح. سأعمل على نشر عقيدته الراشدة؛ لأرد إلى هذا الشعب كرامة الأرومة العربية التي أفسدتها القساوسة والكهنة في هذه الأرض.
ثم التفت إلى أسور الإسكندرية وإلى مجانيقه تدقها وترتد عنها. فقال: هيهات أن يتحقق هذا الحلم، وهذه الأسوار تهزأ بقواي منذ حاصرتها، وهم لا يشعرون بحبس الطعام عنهم والخبز ما دام البحر معهم يأتيهم بخيرات ما وراءهم من بلاد الروم، وفيه غذاء لا يفنى، وها هي ذي سفائن الصيادين مجدة في اصطياد خيرات البحر بالشباك فتمونها، وتلك تأتي إليها بما تريد من غلال. أما الخضر ففي كل بيت بستان، وتحت كل بيت صهريج قدر البيت نفسه، بيد أن مطر هذه البقاع غزير فهي في غير حاجة قصوى إلى مياه النيل؛ سيطول الحصار إذن وستطول آلامي. ثم تأوه ودار على عقبه يلتمس خيمته، والهم يملكه من كل جانب، وإذا هو يرى على مدى غير بعيد منه رجلا في زي الصيادين يتسلق الصخرة التي كان فسطاط السلار منصوبا على ساحتها ويعلوها.
ولمحه الحارس فجرى نحوه رافعا سيفه وهو يقول: مكانك يا رجل! من أنت ؟ فأجاب الرجل صديق للسلار، ثم رفع يديه برهانا على أنه لا يريد أذى، وكان السلار قد رآه فوقف ليتفحص حاله، ولما رآه مأمون الجانب قال للحارس: أطلقه، ثم كلمه بالرومية إذ كان السلار يعرفها، يسائله عن نفسه وفيم جاء؟ فرد عليه الرجل: إنه جاء ليسدي إليه خيرا، قال: لا خير تسديه إلا أن يفتح لي هذا الباب. قال: وأنا جئت لذلك. قال شاهين: لخدمة دينك؟ قال: لخدمة دنياي. ما لي وللدين. أنا رجل يا سيدي مثلك ومثل كل ذي مطمع في الحياة. قال حسبتك قسيسا فإن هذه الملابس ملابس الذين كانوا عندي الآن يرتلون وينشدون، يريدون أن يقنعوني أن الترتيل يفتح الأسوار. لا. لا يفتحها إلا تراتيل المجانيق بأصواتها المنكرة، أو همس الهامسين بأنفاسهم المخبرة، فبأي هذه الآلات تؤمن؟ قال: لكل عهد إيمان، وأنا أومن اليوم بالثانية، هي أفعل وأسرع وأنجع. قال: هات. هات، واطلب ما تشاء. ما اسمك يا صاحبي أولا؟ قال: اسمي بطرس البحريني؛ كنت شماسا، وتركت هذه الحرفة، ولكني رجل أخدم العلم، ولقد كنت أعمل من قبل أن تجيئوا على تهوين الفتح عليكم، فقد لقيت إسحاق بن مرداس اليمني حين جاء هو والحبر لتدبير ثورة في الداخل تعينكم على فتح الأبواب من الخارج، ولكن تدبيرنا لم يكلل بالنجاح. قال السلار: أعرف كل شيء فكيف تخدمني؟ قال: أفتح لك «باب القمر». قال السلار مشدوها وبه نهزة الفرح: تفتحه! قال بطرس: أفتحه بلا كبير عناء. قال: لعمري لو فعلت لأملأن زورقك مالا. كيف يكون ذلك؟ قال: أما المال وإن كان عصب الحياة فلا يهمني. أمر آخر لا يكلفك شيئا مطلقا وهو كل شيء عندي. قال السلار: امرأة وربي. قال بطرس: أجل وربي امرأة، تعطى لي سبية؛ لتكون لي زوجة بالحلال. أنا لا أريد أن أسيء إلى من أحب. قال السلار: ليكن ذلك يا بطرس، ومعها ملء جيوبك وقلنسوتك دنانير. هذا عهد السلار شاهين يقطعه على نفسه باسمه واسم كسرى ملك الملوك ، وإذا فتحت الباب فخذ من تشاء من جندي ؛ ليكونوا تحت أمرك، وليستولوا لك على بيتها وعليها، وعلى من تشاء فيه. قال: شكرا لمولاي السلار، وهاك المفتاح: أنت تعلم أن للإسكندرية غير أبوابها أبوابا على البحر، منها باب ميناء قصر الحاكم الرومي، ومنها باب ميناء الخليج الذي يأتي من النيل ويدخل الإسكندرية من جنوبيها. قال: نعم، قال بطرس: هذا الباب يخرج منه الصيادون، ويعودون بالسمك؛ لبيعه في حلقة عند ملتقى الخليج بشارع كانوب الذي يقطعه آتيا من باب القمر هذا إلى باب الشمس ذاك في شرقي المدينة. قال السلار: علمت ذلك، قال بطرس: وهذه الحلقة قريبة من باب القمر لا تبعد عنه إلا مرمى السهم أو أكثر قليلا. قال السلار: أعرف ذلك. قال بطرس: ولكن الصيادين إذا خرجوا بمراكبهم لا يملكون أن يعودوا في الفحر إلا إذا أعطوا الحراس هذا الباب كلمة السر، وكلمة السر هذه كما يعلم مولاي السلار تجدد كل ليلة. قال السلار: هل عرفتها؟ قال بطرس: أعرفها اليوم يا سيدي، وبها تستطيع أن تدخل الميناء الليلة عينا إذا شئت أن تنتهز فرصة مرض صاحب المركب، فإني لا أضمن أن يظل على مرضه في الغد، ولا أضمن أن أتمكن من المجيء إليك كما جئت اليوم. قال السلار: وماذا تريد مني أن أفعل؟ قال بطرس: تعد أربعين رجلا من رجالك الأشداء في زي صيادين يحلون محل رجالي الذين صرفتهم الليلة عن الصيد بدعوى مرض رئيسهم، حتى أدخلهم الميناء وأمر بهم إلى الحلقة. من هناك يذهبون أشتاتا إلى باب القمر فيقتلون حراسه ويفتحونه، وتكون قد أعددت جيوشك للدخول فيدخلون بلا أقل عناء.
9
كان فرحة السلار بهذا التدبير عظيمة جدا، ولكنه صمت يفكر ويتأمل بطرس متفحصا ومقلبا الأمر على ألف وجه، ورأى أنه أمام رجل كل ما فيه يدل على الخيانة، وخشي أن تكون روايته إحدى مكائد الحروب قصد بها أذاه فأخذ يسائله؛ ليتبين أمره، فقال له: وما كلمة السر الليلة؟ قال بطرس: «الأمانة». هي كلمة رهيبة يا مولاي، ولكن انظر هل لي حق في خيانة أمانة هؤلاء الناس، أم لا؟ على أثر وصولي الإسكندرية في طلب العلم ودخولي معهدها رأيت أحد أساتذته الروم يتألفني تألفا لم يكن له في نظري مبرر يومئذ، ولكني عرفت أن السبب في ذلك ما نمى إليه من أني من أسرة غنية في منوف، وأن أبي يرسل إلي كل شهر مقدارا كبيرا من المال. فخطر له أن يرتزق من ورائي، وكذلك كان يبدي اهتماما بدراستي، ويدعوني إلى منزله، وقدمني إلى زوجته وابنته، وكان يسمح لي بالاختلاء إلى ابنته؛ لكي يثير فينا أمنية الشباب، والواقع أنه تمكن بهذه الواسطة من إيقاظ حب شديد في قلبي لهذه الفتاة حتى أوشكت أن أجن بها فعرضت عليها أن أتزوجها فقبلت، وذكرت الأمر لأبويها فقبلا، ولكنهما أجلا التنفيذ إلى مدى. ثم أعلنني أبوها بأنه يخشى أن أترك ابنته وأعود إلى بلدي في جزيرة منوف، وأنه لكي يضمن بقائي في الإسكندرية يجب علي أن أبيع أرضي وعقاري هناك، وأشتري بدلهما من أرض مريوط وأملاك الإسكندرية، وأن أكتب العقد باسمها ففعلت لفرط حبي لها، ولكنه أخذ يماطلني، ورأيت منه عين الغدر ومن الفتاة عين الرغبة في الخلاص مني؛ لأنها اشتهت أن تتزوج بمالي رجلا من كبار رجال القصر، وعبثا ما حاولته لإتمام الزواج، وفي يوم من الأيام دعاني إليه ضابط المخفر، وقال لي: إنه محرم علي أن أطرق بيت الرومي؛ لأنه لا يريدني، ولأن ابنته مخطوبة لضابط مثله، وأنه إذا رآني في الحي الذي تسكن فيه خطيبتي فهو لا يكتفي من الأمر بحبسي، وعبثا ما حاولته لإقناعه بهذا الظلم فقد أغرى الضابط بي جنوده فتعاوروني وضربوني، وساقوني إلى منزلي لآخذ منها ملابسي، وأخرجوني بها من الإسكندرية، وأنذروني بالقتل إذا هم رأوني فيها بعد ذلك اليوم.
خرجت، ولكني لم أطق البقاء خارج الإسكندرية، بل أخذت أفكر في طريقة للانتقام، وأخذ خطيبتي، التي أعلم حق العلم أنها تحبني لولا سلطان أبيها عليها، ولذلك احتلت حتى عدت، ولا أطيل عليك القول - فقد كان اضطراري للاختفاء سببا في الالتقاء بجماعة من أهل كنيسة الإنجيليون اليعقوبية وفئة من اليهود، والاشتراك معهم في العمل؛ لإقامة ثورة في المدينة تساعدك على الدخول، واجتمعنا في بيت قديم.
فلما جاء ذكر هذه القصة التي يعرفها السلار تنبه، وأخذ الشك يزايله من ناحية الرجل، وقال له: قل. قل؛ فقال بطرس: اجتمعنا كلنا، ومعنا أحد ولاة اليمن اسمه إسحاق بن مرداس. قال السلار: نعم، ومن؟ وحبر من أحبار اليمن أيضا. قال: صدقت، وكان معهما أموال وسلاح. قال: صدقت. قال: إذن لا أطيل عليك القول. علم بعضهم باجتماعنا وعرفني المبلغ فأهدر الوالي دمي، وطلبوني في كل مكان فخرجت من المدينة هاربا. ثم عدت واحتلت في الدخول لأنتقم ... اشتغلت حمالا، ثم صيادا أملا في أن أعرف كلمة السر لأستفيد منها، وأحسنت ثقة الرئيس بي؛ لكي أتمكن من أن أنوب عنه عند الحاجة، ولكن هذه الحاجة لم تبد على عجل. فقد بقيت في انتظارها خمسة أشهر، ومنذ أيام دعاني أستاذي صاحب مراكب الصيد الذي أشتغل معه، وعهد إلي رياسة الصيد والإمرة؛ لأنه مريض، ولأني محل ثقته دون سائر الصيادين، وعرفني إلى ضابط المرفأ والجند الموكلين بحراسة باب البحر وملأهم بي ثقة، وأبلغهم أني وكيله وصهره المنتظر، وإلي تعطى كلمة السر كل ليلة وتقبل مني لذلك. فهل تراني على حق في خيانة أمانة أولئك اللصوص الكفرة؟ قال السلار: على الحق الأعلى، وأنا واثق بك الآن كل الثقة، وسأعطيك عشرة من رجالي توجههم في مصلحتك على هواك. قال بطرس: شكرا لمولاي. هذا ما قدرته؛ ولذلك لم أتردد في أن أستعد للأمر من قبل أن أجيء إليك فاشتريت لك باسم أستاذي المريض قمصانا وقلانس مما يلبسه الصيادون، وجئتك بخمس سفن من سفنه، وهي الآن على مدى مائتي خطوة منك مربوطة إلى الشاطئ في حراسة رجلين من أخلص رجالي وأشدهم رغبة في نوالك. فهل أنت مستعد لتنفيذ ذلك؟
قال السلار وكان يلهث من شدة سروره: مستعد! وددت لو أجعل هذه الضياء ظلاما، وأشرع في العمل على الفور. سأعد العدة لذلك لتوي، وعلامة على شكري لك وللرجلين خذ هذا الكيس نصفه للرجلين ونصفه ثمن الملابس التي جئت بها. إن فيه مائتي دينار، وسيكون أجرك بعد هذا مضاعفا عشرين مرة أو خمسين، وسيكون لك ما أردت؛ لتظفر بالفتاة على أي صورة شئت. ماذا أنت فاعل الان؟ قال: أعود إلى الإسكندرية؛ لأخرج ببقية رجالي إلى الصيد، وأتركهم يصطادون، ثم أجيء إليك في السحر في سفينة صغيرة؛ لأدخل جندك إلى الخليج.
هل أعدم حيلة وأنا في البحر على هواي؟ قال السلار وقد ضحك طربا: لا وربي. من دبر كل هذا لا يعدم الحيلة. قال: إلى الملتقى إذن يا سيدي. قبل الفجر بساعة. ثم ودعه بتجلة، وشيعه السلار بفرط الإكرام والشكر.
الفصل الثامن والأربعون
اجتماع الشمل
في الوقت الذي كان فيه بطرس البحريني يحادث السلار شاهين، ويشترط عليه أجره في إدخاله المدينة، والحارث بن كلدة حبيسا هو وصاحباه في مرفأ لوكياس في غرفة السفينة - كان ورقة وأورست قد عادا إلى الإسكندرية، ولقيا الأمير بما كان معهما من رسائل الإمبراطور السيء الحظ، وإذ عرف الأمير ما فيها من استحالة إمداد الإسكندرية بشيء من المئونة أو الجنود - أمر من فوره بدعوة جميع أعضاء المجلس الحربي؛ ليبلغهم رد الإمبراطور، ويتذاكر معهم فيما يجب عليهم فعله؛ لتموين المدينة، وزيادة حاميها، وإلا سقطت في يد الفرس، وطلب إلى أورست أن ينتظر؛ ليحضر المجلس، ولأنه يريده هو ورقة بعد انصراف الأعضاء؛ للتكلم معهما في أمر خاص جاء إليه في الرسائل. فانصرف أورست وورقة مثقلي القلب بما بدا على وجه الأمير من الهم، وشعرا أن هناك أمرا يشغل باله غير أمر المؤنة والجنود، وقدرأنه توقع سقوط المدينة في يد الفرس، وإذ إن أمور الحياة مرتبطة فقد اتجه فكرهما إلى ما هما قادمان عليه من أمر الزواج حين أن المدينة ساءت حالها، وملك اليأس القلوب فيها، والزواج أمر يجب له انشراح القلب، وطمأنينة النفس، وامتلاؤها بالأمل المشرق. فقال أورست: لقد فكرت في أن أنتقل بهيلانة إلى الغرب يا ورقة، وأقضي في قيرين ما يشاء الله لي من الزمن، ثم أعود إلى الإسكندرية بعد ركود العاصفة. إن لي سفنا في كانوب، ومن السهل أن أرسل في طلبها إلى مرفأ القصر لو سمح الأمير لي بذلك؛ لأرحل عليها، وليتك يا ورقة تكون معنا! قيرين آمن مكان، ولكنك لا تستطيع فراق مولاك، ولا هو يستطيع فراقك حتى ولو رحل عن الإسكندرية. من يكتب عنه نيقتاس إلى مولاه بمثل ما كتب عنك لا يتركه بل ولا يجمل بك أن تتركه. قال: لن أتركه حتى نموت معا. قال أورست: ولمياء وأمها؟ قال: سأجيء بهما إلى بيت هيلانة هي وقوزمان؛ لكيلا أضطر إلى تركه لحظة. هكذا اقترح الأمير يوم سافرنا. كما أنه قال لي إنه إذا رحل عن الإسكندرية - وهو ما أكاد أراه الآن - رحلت معه، ولقد ذكرت الأمر لهما ولقوزمان في حينه فأقروه، وأقرته السيدة هيلانة أيضا، وهي تؤثر الرحلة إلى إحدى جزائر البحر الرومي على أن تتجه إلى الغرب كما كان أبوها يرى. قال أورست: إذن فإلى جزائر البحر أنتقل بها ما دامت تؤثرها. ليس لي حاجة خاصة في قيرين على أني أرى في هذه الحالة أن أكون معكم. ترى هل يأبى الأمير ذلك؟ قال ورقة: لا أظنه يأبى. هذا أمر لا تعب عليه فيه، ولكننا نرجو الله ألا يلجئنا إلى فراق الإسكندرية، وفيما هما يتذاكران دخل عليهما حارس الباب يقول لورقة: إن بالباب غلاما عربيا لا يعرف من الرومية كلمتين يريد لقاءك. فضحك ورقة، وقال: فكيف عرفت قصده إذن؟ قال: إنه يكرر اسمك، ورقة، ورقة، ويحمل رسائل أبى أن يسلمها إلا إليك يدا بيد. قال: هاته هو والرسائل، وأخذ ورقة يسائل نفسه: ترى من يكون هذا الغلام؟ ولكنه لم يهتد إلى جواب حتى رأى الغلام قادما في عباءة وعقال وسيف كأنه بطل صغير.
ولشد ما كان فرحهما باللقاء، فقد تعلق رؤبة برقبة ورقة، وأخذ يقبله ويقبله، وورقة محتضن له يقبله كذلك، وأورست يتأمل هذا المشهد ويعجب، وقد خطر له أنه أخوه أو أحد أقربائه، ولكنه علم بعد ذلك نبأه، ونبأ الشملالة، ولما هدأ الحال تناول ورقة الرسائل، وأخذ يقرؤها واحدة بعد أخرى، والغلام لا يغمض له عنه جفن لشدة سروره وإعجابه، وورقة يسائله عن أخبار بيت رسول الله، وما فعل المشركون بالمسلمين في هذه الأيام، والغلام يجيب بالقول الفصيح والبيان الذي عرفه منه ورقة، ولشد ما كان فرح ورقة عندما علم أن أجواد قريش لم يسعهم بعد ما أكلت الأرضة صيحفة الأذى إلا أن ينقضوا ما كانوا تعاهدوا عليه من مقاطعة بني هاشم جزاء حمايتهم رسول الله، ويعيدوا المياه بينهم إلى مجاريها.
أما قصة رؤبة فهي أنه جاء مع البريد منذ أشهر، ولكنه علم أن ورقة لم يكن قد عاد بعد من بلاد الروم، فوجد من الخير أن يبحث عن بيت سيدته لمياء؛ ليستضيفها فقد علم من الرسول أنه تزوجها - فذهب إليها، وبقى كل يوم يتردد على القصر؛ ليسأل الحارس عن ورقة حتى علم الآن أنه عاد، فرجع إلى لمياء يخبرها وعاد إليه بالرسائل؛ فسر ورقة بتصرف الغلام، وأطلع أورست على ما فعل، وأخذ يسائله عن أحوال آل بيت لمياء؛ فطمأنه، وذكر له أشواقهم وتحياتهم.
وإذ شعر ورقة أن أعضاء المجلس أخذوا يتوافدون أشار إليه أن يعود إلى بيت قوزمان حتى يوافيه هناك، وأخرجه من غير طريق الوافدين مشيعا بكل محبة وكل ثناء.
اجتمع المجلس وأنهى إليهم الأمير رسالة الإمبراطور، وأخذ يتذاكر معهم فيما يجب عليهم فعله إزاء استحالة تموين البلد بشيء من القسطنطينية فلم يهتدوا إلى رأي سريع، ولكنهم اتفقوا على أن يرسلوا سفنا إلى والي إفريقية (تونس) ليشتري لهم برا وغلالا، ويلتمسوا منه أن يجمع لهم من يستطيع جمعه من متطوعة البربر؛ لتعزيز الحامية، وخطر لأحدهم أن يجندوا من في الإسكندرية من اليعاقبة واليهود، ويجعلوا عليهم ضباطا من الروم، ولكن المجلس لم يستحسن ذلك قائلا: إنه لا أمان لهم فقد يتركون أمكنتهم على الأسوار، ويخلون للدبابات الفارسية مكانا هادئا يدخل الجنود منه. خير لنا ألا نفكر فيهم، أو نذيع أننا فكرنا فيهم خشية أن يتخذوا من ذلك دليلا على ضعفنا؛ فينشطوا للمؤامرات والثورات، وهي شر ما نخشى في هذا الوقت، أو يعلم به السلار فيقوي قلبه ويزداد عنفه، ولكنا نرجو من سمو الوالي أن يتجاوز لنا عن بعض زنوجه؛ لنعزز بهم الأبراج. قال نيقتاس بعد تفكير: خذوا كل حرسي منهم ومن غيرهم، ولكن اتركوا لي عشرة لحراسة باب الميناء، ومثلهم لحراسة الباب الشرقي من القصر لا يسعني غير هذا. سيكون هؤلاء تحت إمرة ورقة فخذوا ضباطهم كذلك، وسأكتب إلى والي تونس يجمع لنا متطوعة من البربر.
فشكر القواد للأمير فضله، ونهضوا ليدبروا ذلك، ويدبروا معه السفن الذاهبة إلى أفريقية، إلا أن الأمير استبقى أكبرهم، واختلى به، ثم عاد به يتحادثان، وفي يد هذا الضابط الكبير طومار لاح إنه ذو خطر؛ إذ كان مما يمنح عادة في التولية أو الترقية. حتى إذا انصرف الضابط وخلا المكان إلى من نيقتاس وورقة وأورست - رؤي نيقتاس يروح ويجيء في القاعة مفكرا، ثم وقف والتفت إليهما يسألهما: ألم يكلفكما الإمبراطور بشيء تبلغاني إياه غير ما في الرسائل؟ قال أورست: لم يطلب إلينا يا مولاي شيئا معينا، ولكنه أطلعنا على ما هو فيه من الضيق، وأبدى لنا استحالة إمداد الإسكندرية بشيء، وقال: إذا لم يساعدنا الله هنا فالقسطنطينية واقعة لا محالة في أيدي الفرس، ويحزنني يا مولاي أن أقول إن عينه اغرورقت بالدموع، وهو يقول: من لي بمثل نيقتاس يكون إلى جواري، إني لا أجد معي صديقا لي آتمنه أو أستشيره، ولكن ماذا أفعل وعاصمتي الثانية توشك أن تقع في يدي أعدائي. فلما سمع نيقتاس هذه الرواية أغرورقت عيناه بالدموع، وقال: اسمع يا ورقة، وأنت يا أورست. أنا أعرف أنكما متلهفان الآن على رؤية عروسيكما. هذا أمر فطري، ولكن ما قيمة التقائكما بالعروسين إذا كانت المدينة على وشك أن تقع في يد الفرس، أجلا ليلة زفافكما إلى يوم تطمئنان فيه. لم يبق عندنا من الجند ما يكفي للدفاع، ولو عرف السلار ذلك؛ لأقلع عن هذه الأحجار التي يرميها بغير طائل، ولهجم بجنوده على الأسوار مرة أخرى وعلاها. نعم، سيذهب نصفهم قتلى في الهجوم، ولكنه سيدخل الإسكندرية بالنصف الباقي بعد أن يفني الحامية كلها، وهذا ما لا بد أن ينتهي إليه أمره، ولذلك عولت على السفر خفية. إن الإمبراطور يبيح لي ذلك، بل إنه يأمرني به في صورة نصيحة؛ لأنه يريدني، وأنا أرى الخير فيما نصح، وهو يرى ليوحنا الرحوم هذا الرأي، ويلح فيه اتقاء لأذى أهل كنيسة الإنجيليون، فهؤلاء لا يهمهم من هذه الحرب إلا أن يروا بطريق الروم قتيلا أو مطرودا، وأنا لا أشك في أنهم يقتلونه وإن كان قد أحسن إليه. ألم يقتلوا سلفه! فقال ورقة: ومن يتولى أمر المدينة من بعدك يا مولاي؟ قال: رئيس الجند، وقد أسلمته الآن أمرا بذلك وتفويضا. اسمع يا أورست، إنك رومي فإذا بقيت في الإسكندرية فأنت قتيل وامرأتك سبية، وكذلك أنت يا ورقة وإن لم تكو روميا فأنت حارسي الأمين، وامرأتك وأهلك كلهم روم؛ وأخشى أن يقتلوا أو تفضح أعراضهم، وإذ أن أيام الزواج الأولى أسعد أيام المرأة فقد رأيت ألا أحرمهما هذه النعمة. قال أورست: أنرحل معك يا مولاي إن سمحت؟ قال نيقتاس: هذا ما أردت: والآن فاذهب إلى دارك هات كل مالك، وكل ما ترى نقله، ودع وكيلك فيما فيه من انتظار عودتك، أو فافعل ما ترى، ولكن اذهب إلى يوحنا الرحوم إنه صديقك، وبلغه عني دعوة الإمبراطور له، وقل له ينقل ما يحتاج إلى نقله معه الآن، ويأت به إلينا هذا إذا شاء، وسيشاء حتما. لقد خبرني برغبته في النقلة منذ أيام، ولا بد أن نرحل فجر هذه الليلة جميعا. إني إذا بقيت في الإسكندرية ليلة استعصى علي الخروج منها. لست من المتطيرين، ولكن النفس إذا انطلقت من إسارها كرهت أن تبقى في سجنها لحظة ولو كانت تملك الفكاك، وأنت يا ورقة، حذار أن تذهب إلى لمياء حتى آذن لك إني أريدك الآن. كل دقيقة غالية، ثم يكون لك ما شئت بعد ذلك. إن البحر هادئ هذه الأيام. أليس كذلك ؟ قال: لقد تعودته. قال: حسن لتكن ليلة زفافك في البحر إذن أنت وأورست. كل منكما في سفينة خاصة. أيرضيكما ذلك؟ قالا: ما أشد حمدنا لله عليك، قال الوالي: سأعد حمولي الخاصة وما يهم نقله، لا بد أن تكون معي، وإذا جاء أورست وحنا الرحوم فانقل كل متاعنا إلى السفن، وإذا سئلت فقل بضاعة للإمبراطور ستعود بها أنت وأورست. قال ورقة: ألا يحسن أن يجيء قوزمان بأولاده كذلك يا مولاي إلى بيت سيدتي هيلانة؛ ليكون قريبا؟ قال: عجبا. ألم أقل ذلك يا ورقة؟ فظهر على ورقة الإنكار فقال الأمير. زعمت أنني قلت لأورست شيئا من هذا؟ وإلا فكيف يرحل بدونها؟ قال ورقة: فليذهب أورست إذن إليهم وينقل حمولهم كذلك قال: نعم. نعم. على أن يجري الأمر سرا وإلا أثار بفعله الغوغاء. قال أورست: كن مطمئنا يا مولاي، سأكون عند حسن ظنك، إن منزلي يجاور منزل قوزمان فلن يلتفت الناس إلى شيء كثير، وسأنقل متاعنا في جوالق القمح فلا يلتفت إلي أحد. قال: إذن فاذهب من فورك.
ذهب أورست ودبر ما اتفق عليه بحذافيره، وفيما نيقتاس يهم بالصعود بورقة؛ لتنفيذ ما عزم عليه من جمع حمول السفر بدت على ورقة أمارات الأسف أن يضطر الأمر مولاه إلى ترك الإسكندرية. فسأله نيقتاس: فيم تفكر يا ورقة؟ قال: في سفرك يا مولاي، وترك عروس الدنيا لغير زوج كريم. قال نيقتاس: أجل، هذا ما يؤلمني، ولكنه أخف الضررين، إن العاصمة في خطر كما تعلم، والإمبراطور في ذهول، ويحتاج إلى مشير ونصير، ولاسيما على الأحزاب السافلة المنشقة عليه، والعاملة على ترك الحرب والاتفاق مع الفرس، ولكن الإمبراطور عزم على أن يجدد الحلف مع الترك كما فعل موريقس؛ ليغيروا على الفرس من وراء، ويردوهم إلى ديارهم. قال ورقة: هذا رأي حسن يا سيدي، ولعله يريدك لهذا قال: أجل. لذلك، وفيما هما يتكلمان لاح الحارس في آخر القاعة برقعة صغيرة في يده. فلما أذن له، وتناولها نيقتاس وقرأها تفتحت عينه دهشة، وقال لورقة: خذ. هذا لك. فيما أعتقد ، وإن لم يكن باسمك. فإذا هو كتاب من الحارث بن كلدة إلى الأمير نيقتاس يقول له فيه:
سيدي الأمير
حاولت مدى بضعة أشهر أن أدخل الإسكندرية؛ لأرى زوجتي هرميون بنت العالم قوزمان أخت امرأة أخيك هيلانة، وأرى ابنتي، وأكون معهما في هذه الضائقة فلم أوفق. حتى هداني الله إلى مينائك بعد جهد جهيد، ورجائي من الأمير أن يأذن لي بالدخول، وله جزيل شكري وعظيم ولائي.
الحارث بن كلدة
فدهش ورقة لهذا وقال: بضعة أشهر. إذن فرسول مولاي لم يلقه في جدة قال: ولا في مكة، وإنما التقى بولده الأكبر فأسلمه الرسالة، فما وقف على ما فيها حتى جمدت أصابع يده عليها ولم يقو على تركها، فأخذوها منه فإذا هو قد انشل، أهذا الذي أهدر دمك يا ورقة؟ قال: نعم يا مولاي، قال: لقد نال جزاءه العادل. قال ورقة: ألا ليلطف به الله، وليحسن إليه ويهده إلى الحق. إنه رجل شرير يا مولاي. كان يريد قتل رسول الله غيلة. فلما فضحت أمره بقتل القاتل أهدر دمي، فشردني عن بلادي وعن نبيي. قال نيقتاس: ولكنه هو الذي شرد لمياء وأمها كذلك، وجمع بينكما في الإسكندرية. لماذا لا تذكر فضل ربك في ذلك. قال: ما قمت للصلاة مرة إلا وذكرت فضل الله علي في ذلك وفضلك، وفي أني وجدت فيك أبا وسيدا، فكانت صلاتي كلها بقلبي وروحي. قال: أنت مني كولدي يا ورقة. ثم ابتسم، وقال: أتأذن لحميك بالدخول؟ قال ورقة: لا أدري أين يذهب؟ إن ذهابه إلى بيت قوزمان يشغلهم عن التحميل، وأرى أن يبقى حيث هو حتى نلقاه ويرحل معنا. قال: بل يأتي ويدخل بيت هيلانة حتى إذا انتهينا من تحميل الحمول دعوناه أو ذهبنا إليه، وستأتي إليه هرميون وابنته، وتكون إذ ذاك مفاجأة طيبة، وسأتولى الكلام معه فيما كان من تزويجي إياك ابنته، وأنا الضمين بموافقته ورضاه، بل وبالحمد لله على ما تم. أقلع عما أنت فيه الآن من الاضطراب فإني أكاد أسمع وجيف قلبك. قال ورقة باسما: شكرا لمولاي ، قال: خل عنك الشكر، واكتب لضابط المرفأ يأذن للحارث بن كلدة بالدخول بنفسه دون حموله. سيرحل معنا هو أيضا إلى القسطنطينية إذا شاء، وإلا فرحلتي جزيرة رودس، وهي أقرب إلى بلاد العرب من القسطنطينية. ثم نادى نيقتاس جندي الحراسة، وأمره أن يرسل إلى لوكاس حارس بيت السيدة هيلانة من ينبه إلى مقدم ضيف كريم، ويوصيه بإعداد الدار، والتفت إلى ورقة يقول: إذا أتممت الرسالة فأدركني في غرفي. ذهب الأمير، وجلس ورقة يكتب بطاقة الإذن للضابط بإدخال أستاذه، وأعطاها إلى الجندي الحارس، وهو لا يدري كيف كتبها؟ ولا ماذا كتب؟ فقد اجتمعت عليه كل هواجس الدنيا، وغاب عن وعيه بما ملأ فؤاده من الوساوس، وعاد إلى ما كان فيه من قبل من تصوير الحال لنفسه في صورته التي أصغرته في عيني نفسه، وقدر أن الحارث سيرضى تسليما بالأمر الواقع، ولكن عينه ستنم عن أسفه، واقتضاب كلماته سينم عن عتبه على ورقة كيف لم يساعده - وهو الابن البار - على الاحتفاظ بكرامته بين بني عبد الدار وجمح وبني مخزوم وغيرهم من بطون قريش الذين يعيشون على عرف بينهم من لم يرعه أسقطوه، ولم يذكر ورقة حق لمياء عليه في هذا، ولا ما قال من أن خير الخلق وسيد قريش سيبارك على زواجه، ومضى مطرق الرأس إلى غرف مولاه؛ ليكون في خدمته من إعداد حقائب الرحيل وصناديقه، وقد رأى ورقة أن يقول لأستاذه عند البادرة الأولى منه: يا مولاي، ما كان زواج ابنتك كله باختياري. إني أحبها حبا مقدسا ومطهرا، ولقد أراد الله الذي يعرف نجوى نفسي أن يمكنني من أن أقف منك موقف الولاء والرعاية، وها هي ذي ابنتك كما كانت معك في هدى ومكة ونجران، إن ضاعت حياتي على أثر تسريحها فما يهمني إلا أن تحسن الظن بي. ليس عندي للبرهان على عرفاني حقك إلا هذا. هذا ما فكر أن يقوله للحارس. أما ما قاله لنفسه فهو أن لا قيمة للحياة بعد لمياء، ولن يأبى عليه مولاه بعد هذا أن يتركه في الإسكندرية؛ ليدافع عنها بقدر ما يستطيع، ويموت مرتاح القلب. •••
جمعت قهرمانات القصر وخصيانه ما رأى الأمير حمله من الأموال والتحف والملابس والكتب القيمة وأضابير مراسلات الإمبراطور، ونقلت بإشراف ورقة وتدبيره إلى السفن الإمبراطورية بدعوى إبعادها عن الخطر، وكان أورست ويوحنا الرحوم قد فعلا مثل ذلك، كل من ناحية لم يلفتوا إلى عملهما أحدا، وهون الأمر على أورست أنه كان يملك عربات كثيرة لنقل غلاله، وكان له عمال كثيرون أخبرهم أنه يريد أن ينقل متاعه ومتاع نسيبه العالم قوزمان إلى مكان أمين غربي الإسكندرية تفاديا من ثورات القساوسة واليهود.
أما قوزمان وأهل بيته فقد جاءوا إلى المنزل الذي كان لهيلانة في القصر ومعهم ضيفهم الصغير رؤبة، وقابلهم لوكاس بتحية الولاء، وقد زعم أنهم هم الذين عناهم رسول الجندي الحارس حين طلب إليه أن يستعد للقاء ضيف كريم، فقال قوزمان: عجبي يا سيدي، لقد أرسل إلي سيدي الضابط ورقة يأمرني أن أعد الدار لضيف عظيم، وهل أنت ضيف يا سيدي؟ وظن قوزمان أن القول تمويه من ورقة فابتسم وقال: كيف لا يا أخي لوكاس! ألا تدري أن صلتنا بهذا القصر قد انقطعت منذ أصبحت سيدتك هيلانة زوجة للسيد أورست نائب المدينة وكبير تجار الغلال فيها! فبهت لوكاس، وقال بعد صمت قليل: مبارك يا سيدي. مبارك. إنه والله لرجل عظيم كثير الخيرات. نعم يا سيدي هو يستحقها. إيذن لي أن أذهب لأهنئها. نعم، لم يكن في الدنيا أطيب قلبا، ولا أكرم نفسا من سيدي تيودور، ولكن ما حيلتنا في إرادة الله. ليس علينا إلا أن نتقبل المقدر بالصبر وبالرضا كذلك إن أردنا أن نكون مسيحيين حقيقيين، ودخل لوكاس يقدم تهنئته الحمية إلى هيلانة.
وفيما هم في ذلك جيء بالشريف العربي - الحارث بن كلدة - ينتظر مقدم الأمير، ولم يكن من صعد به السلم يعلم أن في الدار أحدا؛ لأنه جاء من الميناء حين كان لوكاس مشغولا بتهنئة سيدته هيلانة.
وكان الحارث يزعم أنه سيدخل مكانا معدا لضيافة الرجال، ولذلك دهش إذ رأى في صدر القاعة أشباح سيدات تخالط أشباح رجال فتراجع يسائل صاحبه عمن يرى، وخطر على باله أن مصاحبه أخطأ، ولكن فؤاده كان قد ترجم ما حملت إليه عيناه من صور زوجته وابنته وقوزمان فتردد، وكانت هرميون قد تنبهت لشبح زوجها فنهضت صائحة تقول: الحارث! الحارث! في الوقت الذي كانت لمياء قد رأت فجرت نحوه: أبي! أبي! وسمع الحارث صوتهما فعاد إلى القاعة عجلا؛ ليرى القائل، وإذا هو يجد لمياء تتعلق بأكتافه، فتناولها وتناولته بالعناق والتقبيل والبكاء، ثم أتت زوجته فعانقته طويلا، وبكت على كتفه بكاء مرا، وبكى الحارث معها حتى لم يعودا يستطيعان الفراق لولا أن قوزمان تقدم إليه هو وهيلانة فسلما عليه متعجبين لمقدمه، وعادوا به جميعا إلى حيث كانوا، وهم يسائلونه كيف جاء! ومن أرسله إليهم! قال: ما عجبكم بأشد من عجبي. تمهلوا قليلا. ثم أخرج من جيبه البطاقة التي كتبها ورقة وأمضاها، وقال: من ورقة الذي أمضى هذا الإذن بدخولي الميناء؟ قالت هرميون: ابن العفيفة يا حارث، وانبرت هيلانة تتكلم عنه بما وسع قلبها من الحب لورقة، وقوزمان بما وسع فؤاده من الإكبار والإجلال. فقال قوزمان: هيلانة ردت إليه بعض فضله عليها فعرفته على حقيقته إلى الأمير نيقتاس ساعة كان الأمير في أشد الحاجة إلى القوي الأمين، فأدخله في خدمته، ومنحه من أجلها رتبة على الفور عالية، وهو الآن حارسه الخاص، وصاحب الكلمة العليا في القصر وفي الإسكندرية برمتها؛ لوفائه للأمير ونزاهته في كل عمل، ورشده النادر في كل حادث، وكبره عن دنايا الدنيا وغوايات الشباب. قالت: والله ما استطعت أن أرد له جميلا، وإنما أحسنت إلى نيقتاس. فضل هذا الفتى علي أعلى من أن يبلغه شكر أو تصل إليه يد بيد. إنه قديس. قال الحارث: هذا ما أعرفه فيه. قال قوزمان: وقد منحه الإمبراطور هرقل فيما علمت منذ ساعة لقب حارس خاص عندما أرسله نيقتاس في مهمة عليا لمجلس الجيش. على أنه لم يعد من القسطنطينية إلا ظهر اليوم ولم نره بعد. قال الحارث: لقد رأيت سفينة بيزنطية عائدة من القسطنطينية، وأهل الميناء يحيون من فيها . كان فيها اثنان ظاهران، ولكني ما قدرت أنه أحدهما.
ولكن كيف جاء هنا؟ إني علمت أنه في يثرب عند خئولة رسول الله؛ فانبرت هيلانة وقوزمان يخبرانه بما كان من أمره في يثرب ومعان وفي الصحراء، والحارث يقول معجبا طربا: هذا ولدي. هذا تلميذي. هذا مثال الفتى المسلم الذي سيكونه كل عربي عند ما تتم دعوة سيد العرب محمد بن عبد الله. قالت لمياء، وكانت وكل هذه الأثناء تحت جناح والدها: وكل فتاة عربية يا أبي. قال: أحسنت يا بنية، ولكن لماذا لا أراه هنا. قال قوزمان: إنه مع الأمير يعد عدة الرحيل عن الإسكندرية، وقد أمره ألا يرى لمياء ولا تراه حتى يفرغ من إعداد حموله، ونحن راحلون معه، وأدركت لمياء أنه سيذكر حكاية زواجه فتركت المجلس تفاديا من موقفها الحرج، وقال الحارث دهشا: لماذا يحرم عليه لقاء لمياء خاصة وعليها لقاءه خاصة ولا يحرم ذلك على من عداهما؟ قال قوزمان مغالطا: لأننا مسافرون جميعا. قال عجبى لك يا سيدي، من ذا الذي تعنيه بالجمع في قولك؟ ألا ترى أنك تتكلم بالأحاجي. قال: لا أحاجي في ذلك، ولكن الأمير رأى الإسكندرية توشك أن تقع في أيدي الفرس؛ إذ لم يبق من حاميتها من يكفون لمداومة القتال، وقد أرسل الإمبراطور يقول: إنه لا يستطيع أن يرد إليها من كان قد أخذه من حاميتها، ولا أن يمونها بشيء من الغلال، وأباح لنيقتاس ويوحنا الرحوم أن يجيئا إليه، وقد رأى نيقتاس صواب الرحيل، وإذ كنا أقرب الناس إليه وإلى حارسه الخاص ولده ورقة الذي لا بد أن يصاحبه، وهو يعلم ما سيلقى كل رومي من سيوف الفرس عند دخولهم - فقد أرسل إلي صهري وعديلك الجديد أورست؛ ليحمل حمولنا، ويأتي بنا إليه هنا؛ لنسافر الليلة في غفلة من المدينة. قال: ولكني سمعتك تذكر وتستثني هرميون وحدها. قال قوزمان مستمرا في تجهيله وإبهامه: ذلك لأن أمرها أصبح موكولا إلى زوجها بعد ما جاء. قال الحارث وابنتي أليس لي عليها ما لي على امرأتي؟ وكانت لمياء في هذه الأثناء واقفة تتسمع بجوار عضادة الباب من الغرفة التي انسحبت إليها وهي هلعة من هذا الحديث خاشية ألا ينتهي إلى خير، وزاد هلعها أن رأت رؤبة يدخل القاعة مستبشرا، ويتقدم نحوها ليخبرها بمقدم ورقة، فاضطرب قلبها لذلك، ولما لاح ورقة في المدخل لم تقو على الوقوف فارتمت على مقعد كان وراءها. دخل ورقة في لباسه العسكري الجميل تراه ولا يراها. فاتجهت إليه العيون معجبة ومزدهية، والقلوب تحييه بمحبتها وإجلالها، والأفواه تعجل له آيات الرضا والحمد لله عليه ببسمات، إلا الحارث فإنه غضب أن يكون الحال في هذا البيت بحيث يدخل ضابط من ضباط القصر على النساء بلا استئذان، وتنهض إحداهن للقائه بتحية شوق، وهو لا يدري من هو، وكان على قوزمان أن يرد على كلام الحارث، فلما رأى ورقة داخلا قال للحارث: ليس في الأمر أحاجي، ولكنك لا تريد أن تفهم القول الذي ليس فيه خفاء. سل إذن هذا الضابط فلعله يستطيع أن يعطي لك جوابا. فاضطر الحارث أن ينظر إلى القادم فإذا هو يرى فتى أروع يتقدم نحوه بخطى كريمة، وإلى جانبه سيفه العربي الملتوي الذي كان الحارث يعلم أن زيد بن حارثة أهداه إياه وقال: هذا من سيوف رسول الله. فلما تبينه نهض هو أيضا للقائه وهو يصيح: ولدي ورقة! وسمعت لمياء هذا النداء فخارت قواها، وبكت حيث هي، ولكنها نهضت بقوة الحب لترى، وإذا الحارث يضمه بين ذراعيه ويقبله ثم يقبله وهو يقول له: أنت ورقة! ما أسعدني برؤيتك، وأخذ كل منهما يذرف الدمع من سروره بهذا الاجتماع، وانحنى ورقة يقبل يده فلم يمنعه الحارث أن يقبلها؛ لأنه كان يشعر أنه ولده الذي يخصه بكل حب وكل رعاية، وجلس حيث كان آملا أنه يجلس بجانبه، ولكن ورقة انتحى في مجلس أمامهم، وكان في نيته أن يفتح الحديث في أمر لمياء على الفور. فما إنه سأله الحارث عن حاله حتى انبرى له في الرد عليه يقول: يا سيدي وأستاذي وأبي. أنا على ما تعهد في ، وكما تركتني، ولدك وتلميذك وخادمك، فباركني. قال الحارث: ليبارك عليك الله ورسوله، قال: فاعف عني. قال: علام أعفو. ما أسأت إلي في حياتك قط. قال: استمع لي يا أبي، إني ما جهلت منزلتي منك لا بيني وبينك خاصة، فهي منزلة البنوة، ولا بيني وبين الناس، فما أنا إلا ابن نجار من أهل هذه البلاد، وأنت من أنت في الدنيا وبلاد العرب.
ولكن سيدتي هيلانة اطلعت على نجوى نفسي وأنا وحيد في الصحراء قبل أن أعرف من هي، وعلمت بفرط حبي للمياء، وفرط حبها لي قبل أن تعلم أنها هنا. فلما وجدتها هنا رأت أن الخير في زواجنا في هذه الغربة الدائمة فأبلغت الأمير قصتنا على غير رجاء مني، والتمست منه أن يسقط كل حقك علي وعلى ابنتك وامرأتك ويعمل على الجمع بيننا. فدعانا الأمير إليه، وطلب إلي أن أبدي سبب رفضي أن يعقد لنا، فأبديت له أنك لا تملك بين قومك أن يقال زوج الحارث بن كلدة الثقفي ابنته من ابن سبية ونجار، وأنك إن رضيت بهذا الزواج كنت مضحيا بكرامتك في قومك من أجلي، وأنا لا أرضى أن تضحي لي بشيء فأنعم أنا وتشقى أنت، ولكن مولاي الأمير قال: إني قديس أناني؛ لأني رعيت كرامتي لديك وحقك علي في غيبتك ورضيت أن أضحي بلمياء وحب لمياء، وألزمني أن أقبل العقد، بل عقده يقينا برضاك، وكان ذلك في حضرة سادتي هؤلاء، وأرسل إليك في مكة بخطه كتابا مع رسول خاص يسترضيك ويطلب بركتك، ولكنك كنت هنا قبل سفر الرسول ولا نعلم. على أن الله أنقذني من حيرتي فقد جاء سفري إلى القسطنطينية على أثر العقد، وجاءت عودتي للقاء لمياء بعد لقائك، وها أنا ذا وربي طوع أمرك، فما إن تقلها كلمة حتى أقولها كلمة، وكأن لم يكن شيء. إن مولاي يرحل بكم الليلة تفاديا من وقوعكم في الأسر، ولن يطول شقائي من بعدكم؛ سأبقى في الإسكندرية أدافع عن بلد أبي وأهلي. بلد آواني ، ولقيت فيه نفحة من نفحات السعادة بقرب لمياء مني. حتى إذا حم القضاء قتلت نفسي بسيف رسول الله هذا إذا أيقنت بالهلاك داعيا لكم بطول الحياة وللمياء بالسعادة في جوار سواي.
فلما سمع الجمع هذا الكلام بكوا، وسمعت لمياء تنشج في بكائها في الغرفة المجاورة، وإذا الحارث ينهض من مجلسه ويرفع يديه في غيبوبة من تأثره، ويتناول ورقة متأثرا من كلامه، ويصيح: إلي يا ولدي، إلي يا نعمة الله. بعدا لبني عبد الدار وثقيف، بعدا للأكاذيب والأراجيف! لتراب نعليك أشرف من هاماتهم جميعا. تعالي يا لمياء، خذي زوجك وعيشي معه في بركة مني وسلام من الله، واذكراني دائما بالدعوات، فإن نفسيكما أطهر النفوس. فأتت بها خالتها بين يديه فتناولها وقبلها وقبل ورقة بين بكاء الحاضرين من فرط السرور، وجمعهما بين يديه يقول: خذ زوجتك، وإذا بالأمير قادم فلما رأى هذا المشهد أدرك ما جرى فقال على عادته من السماحة: حسبت أن الأمر يحتاج إلى مقالي ودفاعي عما فعلت، قال الحارث وهو يتقدم لتحيته: لقد كان الحق الذي رأيته وفعلته أبلغ مقال يا مولاي. تقبل شكري ودعائي لك بطول البقاء. ثم تقدم إلى الأمير وانحنى وقبل يده، فبارك له الأمير بزواج ابنته، وقال: أنت إذن معنا. قال: نعم، قال: فانصرفوا من فوركم إلى السفائن. ستجدون هناك يوحنا الرحوم وأورست. فقال الحارث: إن معي يا مولاي رجلين: أحدهما خادمي زياد، والآخر صديق لي من اليهود ولكنه بغير عقيدة. قال مرحى! من هذا؟ فالتفت الحارث إلى ورقة يقول: من تظن يا ورقة؟ قال: نعيم الصيدلاني وربي. لقد كان مشوقا إلى الإسكندرية. قال الحارث: إنه يا مولاي صيدلاني من يهود صنعاء مغرم بالأسفار، وله في الحياة فلسفة خاصة أسلم من كل فلسفة، ولشد ما كانت فرحتي وعجبي إذ وجدته في قافلة رومية كانت خارجة من الفيوم تلتمس الشاطئ مجانبة معسكر الفرس. قال نيقتاس: ليكن هذا الفيلسوف النادر المثال معي أنا؛ لأني أحب أهل الآراء الخاصة متى كانوا راشدين، وليجيء خادمك معك. إنا سننزل رودس . فمن شاء العودة إلى بلاده فهي قريبة من الشاطئ. مرحبا بالأضياف. قال الحارث: شكرا للأمير وحمدا لله عليه. فالتفت الأمير إلى لمياء وتناول يدها وقال: هلم يا لمياء معي أنا. ستكونين في صوني حتى نبلغ السفائن، حين نكون جميعا في صون زوجك ورقة. قال ورقة: كلنا فداء للأمير، واستمر الأمير يحادث لمياء وهي تسير بجانبه يقول لها: وسيكون زفافك إليه في السفينة، وكذلك خالتك هيلانة إلى أورست. ثم اتجه إليها يقول: إنه الآن هناك ينتظرك يا هيلانة وبه من نار الشوق إليك ما لا يبرد أواره ماء البحر كله، وضحك وضحك الجمع، وساروا وراء الأمير نحو القصر الكبير من الطريق الذي جاء منه يتقدمهم ورقة، ويتعقبهم رؤبة في ملبسه العربي الجميل، وسيفه الملتوي القصير.
فما فتح الباب الذي يؤدي إلى قصر الأمير حتى توارت على الآذان في سكون الليل وظلمته الحالكة أصوات عويل وصياح وجلبة بعيدة، وهتافات بالفارسية وأخرى بالعربية. فأدرك الجمع أن الفرس قد فتحوا أحد الأبواب ودخلوا. أما كيف دخلوا فهذا ما لم يكن أحد من أهل القصر يعرفه؛ لأنهم ما كانوا يظنون أن في إمكان أحد اقتحام الأسوار التي استعصت على كل قائد قبل السلار إلا أن يكون الأمر بخيانة من أهلها، ولذلك التفت المقوقس إلى الجمع وقال: خيانة وحق آلهة روما وأوليمبيا معا! لا يفتح في الإسكندرية باب من خارجها، ولو اجتمعت عليه جيوش الفرس والروم معا! أسرعوا إلى مراكب البحر، وانجوا بالنساء أولا.
والواقع كذلك، فقد تمكن بطرس البحريني في شرذمة من جنود الفرس الذين ألبسهم ثياب الصيادين وأركبهم سفن السمك وبكلمة «الأمانة» التي حفظهم إياها أن يدخلوا من باب البحر على فم خليج كليوباترا، ويبلغوا جسر شارع كانوب، ويصعدوا إلى البر، ويسيروا تحت ستار الليل في السحر يحملون تحت أثوابهم سيوفا أعدت لهذه الليلة الرهيبة إلى باب القمر. هناك وجدوا الحراس نياما على عادتهم إلا من أعدوه للسهر عليهم، فقتلوه قبل أن يتيقظ سائر إخوانه، وينهضوا إلى سلاحهم. ثم أعملوا السيوف فيهم على الفور ، وفتحوا الباب للألوف التي كانت واقفة في الخارج تنتظر فتحه. فدخلت وتدفقت في المدينة وهي بعد نائمة، واعتلت الأسوار من الداخل والخارج، وجرت بينا وبين الجنود على الأسوار ملاحم كانت تتساقط فيها الجنود على الجدران على جانبي السور، وانصرف سائر الجند إلى المدينة يضربون هنا وهناك، ويقتلون كل من يلقونه رجالا ونساء وأطفالا، وينهبون ويسلبون، ويفضحون العرض ويبغون. حتى إذا انتبهت جيوش الحامية التي على الأسوار الشرقية خلتها، وجاءت لتلقى الفرس في الطرقات مستيئسة مستمية في الدفاع عن القصر والكنيسة.
كانت موقعة دامية فاصلة دالت على أثرها دولة الروم في مصر، كما دالت من الشام وأرمينية. دالت بسقوط الإسكندرية عاصمة مصر وعروس البحر الأبيض المتوسط كما سقط من قبلها سائر القطر من شماليه إلى جنوبيه، وقضي في ذمتها بقية الجيش الرومي وقواده إلا من استطاع النجاة بركوب البحر فيما كانوا أعدوه لأولادهم ومتاعهم من السفائن ضنا بهم وبه، أو يقعوا في أيدي جنود الفرس، أو في أيدي الغوغاء من اليعاقبة واليهود إذا دفعتهم أيدي القساوسة والأحبار للثورة والشغب.
جرى ذلك والأمير في بيت هيلانة لا يسمع؛ لأن القصر بعيد. هو في الشرق من الإسكندرية عند رأس لوكياس (رأس السلسلة) والملحمة عند باب القمر في الغرب منها. على أن الأبواب والنوافذ كانت مقفلة إذ الوقت شتاء
1
فلما فتح باب الرواق، واتصل بالجو تواردت الأصوات مع ريح الغرب بما في طياتها من صراخ مذعر، وعويل فاجع، وهتاف مخيف، وقعقعة أسلحة تتلاطم. فأدركوا الحقيقة المؤلمة، ونزلوا مهرولين يلتمسون طريق المرفأ الإمبراطوري.
فما كاد النساء يبلغن الشاطئ حتى رئي جماعة من جنود الفرس يجرون وراء الجمع، وحراس القصر يتساقطون تحت سيوفهم؛ إذ فاجأهم جنودب الفرس، وهم مشغولون بتعجبهم؛ لما يرون من نهوض الأمير مبكرا هو وحارسه والبطريق الأعظم يوحنا الرحوم، وأتباع له من القساوسة ونساء ورجال لم يشهدوهم من قبل.
كان الفرس ممن دخلوا مع بطرس في مراكب الصيادين. جعلهم السلار شاهين تحت إمرته، وأمرهم أن يكونوا طوع أمره فيما يرى، ولذلك لم يذهب بهم إلى باب القمر مع سائر إخوانهم، بل سار بهم إلى بيت قوزمان؛ ليستعين بهم على سبي لمياء، وهناك اقتحموا باب الحديقة، وقتلوا الحارس؛ ليأمنوا استغاثته، وصعدوا الدرج الذي شهد منه النساء إذلال ورقة لبطرس، واقتحم باب الدار أيضا، وصعد يبحث عن أهلها وهو متنكر ملثم الوجه. فلما لم يجد بالدار أحدا، ووجد أثر التحميل والرحيل سقط في يده، وأدرك أن الفريسة فرت من بين أصابعه، ولكنه على عادته لم ييأس فنزل بالجند مسرعا وهو في أشد الأسف؛ لقتله الحارس المسكين، إذ كان يستطيع أن يدله أين ذهبوا؛ ليقتفي آثارهم، وفي نيته أن يبحث عنهم في كل مظنة، ولذلك لم ينقطع جهده عند ذلك الحد.
ذهب بهم إلى بيت أورست مارا من باب المكتبة الذي كان له منذ عهد غير بعيد، واقتحم بهم بيت الغائب، وإنما ذهب هناك؛ لأنه كان وهو متنكر بحرفة الصيادين لا ينقطع عن بيت خليلته بعد أن نقلها إلى مكان آخر، وعرف ممن يتصلون به في صورته الجديدة أن هيلانة تزوجت من أورست، ولمياء من ورقة، ولكنهما سافرا إلى القسطنطينية في مهمة للأمير. فقدر بطرس أن الرجلين عادا، أو أن هيلانة انتقلت إلى بيتها الجديد، وأن أهلها ذهبوا إليها في زيارة، وقدر غير ذلك. فسار إلى بيت أورست؛ ليرى أي وجوه حدسه أصدق.
لم يجد بغيته في بيت أورست كذلك، ورأى أثر تحميل لرحيل فكاد يصعق لخيبته، ولكنه كان يقول: إذا مات الأمل جد أمل. بقي لي أن أذهب إلى القصر فقد يكونون في البيت الذي كان لهيلانة، وهو في معزل عن الجند والحراس. لم لا يكون كذلك! إن كان الرجلان قد عادا وليس لهما أثر في بيت أورست ولا قوزمان فلعلهما في القصر. لعل المقوقس قد أذن لحارسه أن يدخل بلمياء في بيت هيلانة. لعل ... لعل ... هلم بنا يا رجال إلى القصر الصغير.
ذهبو إلى باب لوكاس مسرعين، وكان لوكاس حارسه قد سمع صوت صياح وعويل ففتح الباب، وخرج إلى العراء يتسمع ليطمئن، وإذا هو يجد أعوان بطرس قادمين نحوه فدلف نحو الباب ؛ ليقفله، ولكنه ما كاد يلمس المزلاج؛ ليوثقه حتى دفعه بطرس ومن معه فسقط تحت أقدامهم بلا حراك.
صعدوا فلم يجدوا أحدا في الدار، ولكنهم رأوا باب الرواق مفتوحا فأموه، ووقفوا ينظرون إلى ساحة القصر فيما كان قد ظهر من نور الفجر، وهناك رأى بطرس أشباح قوزمان والحارث يسيران مع الأمير ولمياء وأمها وخالتها، ورأى ورقة يتقدمهم ورؤبة في أثرهم، ولكنه لم يعرف من هو؟ فهبطوا مسرعين نحوهم، ولكن الأمير كان في ذلك الوقت قد أدرك ما جرى عند باب القمر فأمر قوزمان والحارث أن يعجلا بإدراك المراكب بالنساء فبلغوها، وسار هو يحادث ورقة أنه يحسن - وقد حم القضاء - أن ينظر فيمن يبلغ القهرمانة الأمر عسى أن تتمكن من النزول هي ومن ترى فيما تجد في الميناء من السفائن الإمبراطورية. لم يكن ورقة يستطيع أن يفعل الآن شيئا فلم يجد غير رؤبة فأدناه، وأمره أن يذهب إلى القهرمانة - وكان قد جاءت إلى بيت هيلانة؛ لتحييها وتودعها - ويقول لها كلمتين بالرومية معناهما: «انجي بنفسك» فحفظهما رؤبة، وعاد ليصعد إلى بيت هيلانة، ولكنه ما كاد ينعطف؛ ليصعد السلم إلى البيت حتى رأى جنود الفرس في قتال مع حراس الرواق فعاد أدراجه يخبر ورقة بما وجد، والفرس في أثره، وقد أصبحوا الآن خمسة؛ إذ سقط نصفهم في العراك مع الحراس، وإن كانوا قد تركوا الحراس بين قتيل وجريح، وكان النسوة قد نزلن المراكب، واشتغل قوزمان والحارث بأمرهن، فلم يبق إلا الأمير وورقة؛ ليقاتلاهم قتال المهارة والشجاعة.
كان نيقتاس علما من أعلام المسايفة المشهورين بمقاتلة الجموع، ولذلك لم يهتم برجحان عددهم، والتفت إلى ورقة ينشطه، فقال له بروح المرح المستهين بالمخاطر: مرحى لورقة وأمير ورقة! هذا يومنا! أرني كيف تدافع عن لمياء! قال ورقة: وعن أميري. ثم هجم على منازله، وهو يصيح على عادته: يا رسول الله! والتحموا؛ فإذا الأمير يطيح برأسا وراء رأس كأنما هو يبري قلما، حين كان ورقة يتأمل عينا براقة في ظلام السحر كانت تصب عليه نيران ألف من صغار الحباحب . فأدرك على الفور أنه غريمه بطرس البحريني، وزاد يقينه بذلك حينما سمعه يقول: اقتلوا لي هذا. إنه غريمي، وما هي إلا لحظة حتى كان السيد البحريني مقطوع اليد مشطور الفك، وملقى على الأرض جاحظ العين واللسان معا. ضربه ورقة كما ضرب العملاق، وهي الضربة التي تعلمها من باقوم: ضربة من أدنى إلى أعلى تطيح باليد فإن قطعها السيف استقر صدره تحت الفك؛ فإما هشمه أو انحدر إلى الرقبة فقطعها، وهذا ما لقيه السيد بطرس، وكان الأمير قد لمح ورقة وهو في مواجهة خصمه، فلما رأى هذه الضربة النادرة المثال قال له في سماحته معجبا: مرحى! ستعلمني هذه الضربة عندما نركب السفن! اضرب ضربة أخرى مثلها؛ لأرى ثانيا كيف تكون! ولكنه لم ينتظر حتى يرى؛ بل سار إلى الميناء مطمئنا إلى العاقبة.
لم يبق من الخمسة إلا اثنان حاولا الهرب من حيث أتيا، ولكنهما لم ينجوا؛ فقد سقط أحدهما بضربة صرعته قبل أن يدري من أين جاءته؟ ولا من الضارب لها؟ على أنها جاءته من رؤبة. زعم أن في الحراس أحياء يكفون للمعونة فانسل كالصل إلى القهرمانة يخبرها، ولما عاد تلقى الرجل فقتله حين كان ورقة يجري وراء الخامس في هروبه، ولكن الرجل ألقى سلاحه، والتفت صائحا: الأمان يا ورقة! ثم جثا على الأرض، ورفع يديه ضارعا.
لم يعرفه ورقة أول الأمر، ولكنه تأمله ورأى أنه مسعد اليثربي الذي لقيه في معان. فقال ورقة: مسعد! قال: معذرة يا ورقة وغفرانا، جئت لك برسالة من سيدي أسعد بن زرارة، ولكن الفرس أخذوها مني، وضموني بالرغم مني إلى جيوشهم، وحملني إخواني من أهل مدين وتبوك على ذلك - وكانوا في جيش الفرس - وكان نصيبي أن أقاتلك وأنا لا أدري. اعف عني. قال: انهض عفا الله عنك، ولكن ماذا كان في الرسالة؟ قال: إن سيدي ابن زرارة لم ينس فضلك عليه، وإذ إن الخزرج والأوس اتحدوا واتفقوا فيما بينهم على الإسلام، ودعوة رسول الله إلى الهجرة إليهم ؛ ليعزوه وينصروا دينه ... فقد أرسلني لأستدعيك. قال: ارجع إلى بلادك بسلام مني إلى ابن زرارة وشكر، وخبره بما رأيت. قال: لا أستطيع العودة الآن. ليس لي راحلة. قال ابحث عن متجر التاجر أورست في حي رقودة، وخذ منه شملالتي فعد بها هدية مني إلى إياس بن معاذ، وخذ هذه الأمارة إلى رئيس المتجر وانصرف على عجل. ثم أعطاه الورقة التي كانت بينه وبين أورست، وقال له: إني راحل إلى القسطنطينية فأستودعك الله.
وكانت القهرمانة قد تمكنت من إعداد الحمول، وجاءت بالخصيان والجواري فساروا جميعا إلى السفائن، ونزلوها حين كان الحارث وهرميون ولمياء في سفينة ذات شطرين؛ ليكون أحدهما لورقة وعروسه، وكانت هيلانة وأورست في أخرى بجوارهم، وكان الأمير والبطريق، والصيدلاني نعيم معهما، في سفينة إمبراطورية واقفين إذ ذاك يرقبون مقدم ورقة؛ ليرحلوا.
وكان البحارة قد علموا بما جرى، فلما رأوا ورقة صاحوا مع الجمع مرحى! مرحى! وخطا ورقة يتبعه رؤبة إلى سفينة الحارث فتلقاه أهله بالقبلات والتهنئة على سلامته، والإعجاب بشجاعته التي أذاعها الأمير وهو منصرف إلى سفينته، وإذا بالأمير عن ظهر سفينته يناديه. فتركهم ورقة وذهب يحادثه من فوق حيزومها. فقال له الأمير: ماذا خبرتني عما أوحي إلى نبيك الكريم؟ قال: عزاء يا مولاي وتأميل، لا بد أن يتحقق. قال: قله للبطريق لعله يتعزى. فقال ورقة: إن الله يقول:
غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين .
أملوا الخير يا سادة بيزنطة، وارقبوا يوم النصر على بني ساسان، وصلوا لله الذي يجزي كل نفس بما تعمل. فرفع البطريق يديه إلى السماء داعيا ومصليا، ورفعت السفائن قلوعها مثله مؤمنة، وهي خارجة من ميناء لوكياس؛ لكي تعود إليها بعد تسع سنين - 627 ميلادية.
صفحة غير معروفة