حضرت الليلة رواية تمثيلية غنائية في مسرح «زيجفلد» اسمها «قسمت» قائمة على الجو الساحر في ألف ليلة وليلة، وهي رواية من فصلين: كل فصل منها ذو سبعة مناظر؛ أما الفصل الأول فمناظره تتدرج من ساعة الفجر إلى سوق في الضحى إلى مناظر في حديقة قصر الوزير؛ وأما الفصل الثاني فتتدرج مناظره من الغروب إلى الفجر، أغلبه «حريم» ورقص وما يظن أنه حياة الوزراء والخلفاء في الإسلام ... المناظر كلها من الفتنة بحيث تنقلك إلى جو من الأحلام؛ إنني إذ أقول ذلك أخشى أن تحمل ألفاظي على المبالغة اللفظية التي لا تعني شيئا من واقع، ولا أدري ماذا أقول لأصف هذا الفن الذي أخرج المناظر واحدا في إثر آخر إخراجا يسلبك عقلك ووعيك ويتركك سابحا في حلم ...
لكن هل كان يمكن لهذا الجمال كله وهذه الفتنة كلها أن تغرقني في حلم لا أصحو منه حينا بعد حين محزون الفؤاد، مغموم النفس، ضيق الصدر؟! فكم مرة ذكر القرآن في سخرية ، وكم مرة ذكر الإسلام في ازدراء، وكم مرة ذكر محمد في استخفاف وتحقير؟ ... كيف جعلوا الوزير المسلم لا يتصرف إلا أن يكون في تصرفه كالأبله المجنون؟ وكيف جعلوا الخليفة لا يتكلم إلا كما يتكلم المجاذيب بغير عقل؟ ... كنت في وسط هذا الجمال كله من مناظر وغناء وموسيقى، ووسط هذا السحر كله من أضواء وظلال تتعاقب وتتغير في لطف وحسن ذوق ورفعة فن إلى درجة لم أكن أتصورها في الإخراج المسرحي؛ كنت وسط هذا كله يعاودني الألم الممض مما أرى وما أسمع، فأتصور نفسي وقد وقفت وسط المسرح صائحا: حرام عليكم أن تنظروا إلى الإسلام وإلى القرآن وإلى محمد هذا النظر بغير دراسة ولا قراءة؛ أمن أجل الإخراج الفني البديع تفتكون بأنفس ملايين من البشر؟! ... وتذكرت عندئذ ما رأيته في واشنطن: مسجد لم يكمل بناؤه لامتناع الدول العربية أن تمده بالعون، وله طابق تحت سطح الأرض، وفي هذا الطابق مركز للثقافة الإسلامية، فيه رجل واحد أو رجلان للدعوة للإسلام في أمريكا!
كم ألف ألف خطبة، وكم ألف ألف مقالة، وكم ألف ألف رجل نحتاجه ليزيل من أذهان الأمريكيين أثر هذه الرواية الواحدة؟! لقد خرج الناس من المسرح مأسورين مبهورين مفتونين، وتلكأت في السير بين جموعهم لأسمع تعليقاتهم، فلم أسمع إلا إعجابا وعجبا من هذا الفن كيف بلغ كل هذا المدى ... وبالطبع في قلب هذا الفن كله لباب سيظل عالقا بأذهانهم لن يزول عنها إلا مع آخر أنفاسهم، وهو أن الإسلام هو هذا الذي استخلصوه مما رأوه وما سمعوه: هو حماقة عقل، وشهوة للمرأة لا تنقضي ولا تنقطع ... فذلك هو شغل الوزير الشاغل وشغل الخليفة الشاغل، بل ذلك هو القرآن وهو محمد ... والمسلمون يصلون في حركات هستيرية تثير الضحك، والعبادة كلها يشار إليها بما يبعث على الاستخفاف.
وما زلت أفكر في الأمر مهموما، حتى جعلت من نفسي رجلين: رجل يعزي رجلا، فقال الأول للثاني: إذا كانت هذه الحياة التي يسخرون منها لا تعجبهم، فلماذا يتخذون منها معينا لا ينفد ولفنهم؟ فهم ما ينفكون يستمدون من حياة ألف ليلة وليلة النفائس تلو النفائس للسينما وللمسرح؛ إنها حياة لها سحرها رغم أنوفهم، ولولا ما فيها من سحرها لما أحبوها وعرضوها على هذا النحو البديع ... ماذا يغضبك؟ ليت حقيقة حياتنا كانت كل هذا الحرير وكل هذه البدور والحور وكل هذا الشعر والخيال.
الخميس 31 ديسمبر
ذهبت في الصباح إلى ما يسمى «بالمناسك» في الطرف الشمالي من نيويورك، وهو بناء فيه مجموعة أجزاء من أديرة قديمة من أديرة العصور الوسطى، نقلت أحجارها من أماكنها الأصلية في أوروبا، وأعيد بناؤها هنا على ما كانت عليه في إبانها، وأغلب هذه المناسك يرجع إلى الفترة الواقعة بين القرنين الثاني عشر والخامس عشر؛ أي قبل أن يسمع العالم بشيء اسمه أمريكا.
لأول مرة في نيويورك - بل لأول مرة في الولايات المتحدة - أجد نفسي في مكان ينقلني قرونا إلى الوراء؛ فالنقلة الزمنية هنا بعيدة المدى، تقفزها قفزا بمجرد دخولك هذه المناسك التي قام بناؤها على نحو شبيه بالحصن، فوق قمة صخرية مرتفعة تطل على نهر هدسن؛ تدخل فترى نفسك في غرف ذوات جدران حجرية سميكة، ترن فيها أصداء الصوت؛ وتنتقل من غرفة إلى غرفة إلى معبد إلى محراب إلى حديقة مربعة صغيرة مكشوفة يحيط بها ممر ذو عمد فوقها أقواس قوطية ... نسقت الغرف والأبهاء بآثار قليلة لكنها تفوح بجلال التاريخ والزمن؛ فهي بأسرها من بقايا العهود الدينية في العصور الوسطى، هذا مذبح كان في كنيسة كذا بإيطاليا، وذلك تمثال لمريم العذراء مع وليدها المسيح كان في كنيسة كذا بفرنسا، وهذه الشخوص تمثل تدشين الملك الفلاني على يدي البابا، وهكذا ... المكان كله متحف من نوع فريد في بابه، لحسن اختيار موقعه، ولأنه دليل على القدرة والإرادة والذوق، وأي إرادة هذه التي تنقل أبنية بأسرها من قارة إلى قارة؟ الأمريكيون يحسون نقصهم في عراقة الزمن؛ لأنهم بلد جديد ناشئ، فراحوا «يشترون» بأموالهم قدم الزمن وجلال التاريخ وروعة الفن ... إنني لا أبالغ إذا قلت إن هذه المناسك هي أفضل ما يزوره الزائر في نيويورك، من حيث غزارة الشعور الذي يكتسبه هذا الزائر وهو واقف هنا أو جالس هناك أو سائر بين أجزائه.
خرجت من المناسك مصمما على أن أقطع نيويورك - أعني مانهاتن - من شمالها إلى جنوبها؛ إذ قررت أن أزور تمثال الحرية وهو في أقصى الجنوب، فركبت قطار ما تحت الأرض ابتغاء السرعة، فلما خرجت على وجه الأرض عند البحر حيث ميناء نيويورك وجدت الجو عاصفا شديد الريح والبرد، يتساقط الثلج خفيفا بحيث لا يتراكم على الأرض؛ لأنه يذوب فور وصوله.
ركبت «المعدية» البخارية إلى جزيرة «بدلو» التي ينهض عليها التمثال، وهي جزيرة صغيرة ليس عليها إلا التمثال ولواحقه ... إنه تمثال بلغ من الضخامة حدا يستحيل تصوره إلا إذا رأته العين ومارست القدمان صعوده؛ فيكفي أن أقول إنك تصعد بمصعد عدة طوابق هي القاعدة، ثم تصعد بعد ذلك سلما حلزونيا داخل التمثال نفسه، عدد درجاته 186 درجة ... فلما بلغنا القمة التي هي تجويف رأس التمثال من داخله، عددت الواقفين في ذلك التجويف وحده فوجدتهم سبعة وعشرين! وفي تجويف الرأس نوافذ من زجاج لتطل منها على ناطحات مانهاتن؛ لا ينبغي أن نطيل الوقوف هناك؛ لأن سيل الصاعدين يتزايد، ولا بد أن نخلي المكان فنبدأ بالنزول ليقف من جاءوا بعدنا؛ الصعود والنزول على هذا السلم الحلزوني فيه كثير من العسر؛ ولذلك تراهم قد أعدوا ثلاثة مخارج في وسط الطريق لمن لا يستطيعون المضي في الصعود، وكان كثيرون يأخذهم التعب فيهربون من هذه المنافذ، لكني مضيت إلى القمة مع من استطاعوا ... وأعجب ما عجبت له أني رأيت هناك أما تحمل رضيعا على ذراعيها، فلا أدري كيف استطاعت الصعود به، وكيف ستستطيع النزول؛ لأنني وجدت من الضروري أن أستخدم كلتا يدي لأطمئن إلى ثبات قدمي على درجات السلم الضيقة الزلقة ... في تجويف الرأس وعند إحدى نوافذ الزجاج وقف حبيبان ولهانان، كل حركة وكل لفظة وكل نظرة وكل لفتة منهما كانت صارخة بالحب الشديد؛ وقف العاشق الولهان محوطا حبيبته بذراعيه، ومال برأسه إلى أسفل كي يجعله في مستوى رأسها، كأنه يريد أن ينظر بعينيها لا بعينيه، يعز عليه ألا يرى ما تراه هي بالضبط والدقة، وأظنه ود لو استطاع أن يدخل معها في إهاب واحد، وبعد أن نظروا إلى البحر وإلى نيويورك وما يجاورهما ملء عيونهما، قبلها وبدءا ينزلان السلم؛ إنه لم يرد أن تفلت منه هذه الوقفة النادرة دون أن يخلدها في حياته الشعورية بقبلة.
تمثال الحرية - كما هو معروف - هدية أهداها الشعب الفرنسي إلى الشعب الأمريكي، وقد أقيم في مكانه عام 1886م، وقوامه امرأة تمثل الحرية عند مدخل القارة الجديدة، حطمت عن يدها قيدا تراه ملقى عند قدميها، ورفعت بيمناها شعلة الحرية، وخطت بإحدى قدميها خطوة إلى أمام، وحملت في يسراها قرصا كبيرا كتب عليه «4 يوليو 1776م» (وهو اليوم الذي أعلنت فيه الولايات المتحدة استقلالها).
صفحة غير معروفة