الثلاثاء 29 ديسمبر
ذهبت عصر اليوم إلى متحف «وتني» للفنون، وهو متحف للفنانين المحدثين من الأمريكيين، وكنت في هذه الزيارة على موعد مع زميلتي الفنانة «إ» وصديق لها اسمه «ه» هو وزوجته، وكلهم من المشتغلين بالفن إنتاجا وتدريسا، أخذ كل منا يتفرج وحده، لكني سرعان ما التقيت بزميلتي الفنانة عند صورة عجبت والله كيف يمكن أن يكون فيها أي شيء من الفن لتعرض في معرض كهذا! فهي لا تزيد أبدا عن «شخبطة» يخطها طفل على ورق كما اتفق! وحتى المزيج اللوني لا جمال فيه؛ فالأرضية سوداء وخليط الخطوط عليها بيضاء؛ فقلت لزميلتي «إ»: ما رأيك في هذه الصورة؟ فقالت: هي من أبدع معروضات المتحف! قلت لها: أتوسل إليك أن تبصريني بمواضع الجمال فيها؛ فلا لون ولا حسن تقسيم ولا شكل، فما جمالها؟! فقالت في استخفاف: آه! جمال! أنت إذا تبحث في الصورة الفنية عن جمال؟! إذا فبينك وبين أن تفهم الفن الحديث مراحل ومراحل؛ فأقل ما ينبغي أن تعرفه هو ألا شأن للفن بالجمال! كون الفن يعرض جمالا هذه فكرة ذهبت وذهب زمانها، إلا إذا أردت أن تنبذ الفن الحديث وتتنكر له كله من تصوير ونحت وموسيقى! قلت لها: هذا شيء عجيب! ماذا إذا تريدين من الفن أن يعرضه إذا لم يعرض جمالا؟ فقالت: أريد شيئا واحدا، هو حرية التعبير، لا أكثر ولا أقل؛ فهذه الصورة التي تسألني عنها فيها حرية التعبير، انظر إلى البساطة التامة في الخطوط والدوائر ... قلت لها: لكن الطفل حين يخطط على الورق كما اتفق يفعل ذلك ببساطة وحرية! فقالت: عندئذ يكون عمل الطفل فنا وإن لم يكن ذا جمال!
هنا انقلب تصوري للأمر رأسا على عقب؛ فقد كنت حتى الآن مستريحا إلى مبدأ أتفرج به على الصور وأقدرها على أساسه، وهو أن أرى جمالا في البناء اللوني للصورة، وفي البناء التخطيطي، وها هي ذي زميلتي الفنانة «إ» تقول: لا، ليس هذا بالأساس الصالح ... أنا لا أقول إن «إ» قد أصابت حتما كل الصواب فيما قالت، لكنها على الأقل قد أفسحت عندي مجالا جديدا للشك والتفكير؛ فأقبح المخلوقات قد يكون موضوعا لصورة فنية أو لتمثال، دون أن يقال إنه ليس فنا بسبب قبحه؛ وإذا فالجمال والفن قد لا يلتقيان أبدا.
خرجنا من المتحف، وصحبنا الفنان الشاب «ه» إلى المبنى الجديد من جامعة نيويورك، وكنا عندئذ على مقربة منه؛ فنحن الآن في حي الجامعة الذي هو شديد الشبه بالحي اللاتيني في باريس ... أطلعنا «ه» في المبنى الجديد للجامعة على رسم حائطي رسمه على أعلى حائط المدخل ويمتد ما امتد الحائط، فعندئذ عرفت أنه - على حداثة سنه البادية - فنان معترف به ما دامت الجامعة قد وكلت إليه أن يزخرف بناءها الجديد بزخرف تشيع فيه روح الفن الحديث.
أخذت «إ» تبدي لصديقها الفنان بعض ملاحظاتها، وكان يتقبل قولها بصدر واسع رحب، وقد ورد في حديثهما تعليق عني؛ إذ قالت لصديقها: لا يزال الدكتور محمود ممن ينظرون إلى الصورة ويسألون: أين الجمال؟ فضحك الفنان الشاب ضحكة العطف على هذا الذي لم يدخل بعد دنيا الفن الحديث! فقلت له كأنما أعتذر عن فضيحة كبرى: اعتبرني في مرحلة التطهير التي وردت في جحيم دانتي؛ تلك المرحلة التي يجتازها المنتقل من الجحيم إلى الجنة.
الأربعاء 30 ديسمبر
دخلت كنيسة القديس باترك في «الطريق الخامس»؛ إن الروعة لتصادف الداخل حتى لتنحبس منه الأنفاس ويهتز القلب ... النوافذ الملونة غاية في الجمال، والعمد القوطية والأضرحة المرمية البديعة! على كل عمود في الممشى الرئيسي علق إكليل من الصنوبر مزخرفا بشريط حريري أحمر ليرمز إلى شجرة عيد الميلاد، وفي المربع المسور وسط الكنيسة طاقات وطاقات من الزهر الأحمر الجميل، وهنالك في محراب الكنيسة مسرح أقيم من طين على هيئة البيت المتواضع حيث ولد المسيح؛ فيه شخوص تمثل ساعة مولده، وعلى طول المماشي صفوف من الشمع الموقد، كل شمعة في كوب من الصيني ... مئات الناس يدخلون ويخرجون؛ فنيويورك في أزحم أيامها في العام كله بسبب عيد الميلاد ...
جلست هناك على مقعد أنظر: هذه امرأة وطفلاها، ركعت هي وركع معها طفلاها في خشوع أمام أحد الأضرحة المرمية؛ إنني لا أعرف ماذا يدور في رأس المرأة، لكنني أتصور في وضوح نوع الشعور الملغز الغامض الذي يدور في نفس هذين الطفلين، والذي هو أقرب إلى الخوف منه إلى التقديس ... كيف يمكن بعد هذا لمثل هذين الطفلين أن يقبلا أو يتسامحا في أية عقيدة أخرى؟ إذا كان قد بدءا يركعان منذ الآن أمام ضريح من الحجر!
وهذه فتاة راكعة وهي في كامل زخرفها وزينتها من تظليل للجفون إلى تلوين للأظافر، وإنه ليبدو على وجهها أنها جاءت تستغفر زلة أو زلات؛ وهذه امرأة عجوز وقفت في خشوع تضيء الشموع التي انطفأت، وهي بذلك تعبد الله ... هذا رجل غاية في الوقار وحسن الهندام، ركع أمام مقعده وأخرج من جيبه إنجيلا صغيرا وراح يقرأ لنفسه ... على كل حال، يستحيل لآدمي أن يجلس ها هنا، في هذا الجو الفني من عمارة ونوافذ وتماثيل وأضرحة وأنغام للأرغن خافتة تتردد أصداؤها ، دون أن يخشع لمن هو أكبر منه، دون أن يشعر بأنه صغير؛ صغير على الأقل بالنسبة لهذه العمد الرفيعة وهذه القباب العالية ... إنه إذا كانت العقيدة الدينية أكذوبة ضرورية، فيحسن أن تساق الأكذوبة في فن جميل.
خرجت من الكنيسة وقصدت إلى «طريق البستان» ومشيت فيه الهوينا، أنظر إلى الحديقة التي امتدت في وسطه - وهو فيما أظن الشارع الوحيد في نيويورك الذي تمتد في وسطه حديقة - وأنظر إلى أشجار عيد الميلاد العالية المزخرفة التي غرست في وسطه صفا يمتد بامتداده ... وصلت في سيري إلى فندق «والدورف آستوريا» المشهور، فدخلت وجلست في بهوه لأستريح أولا، ولأرى الناس يدخلون ويخرجون ... سجاد وزينة وفخامة وضخامة! قلت في نفسي: أفي هذه الأبهة كلها كان مندوبو مصر دائما ينزلون على حساب الفلاح الذي يأكل الخبز الخشن مغموسا في المش، وهو سعيد لو وجد منهما ما يكفيه؟ إي والله، كانوا ينزلون هنا يخبون خبا في هذا العز الذي كان ينبغي أن يترك لأبناء أمة فلاحها يأكل ويكتسي ويسكن إلى بيت!
صفحة غير معروفة