96

أين الإنسان

تصانيف

ولا جرم أن الأمم لا تبلغ رشدها إلا إذا رفعت الأيدي الضاغطة، وأرشد الحاكمون المحكومين، وصرفت القوى في المنافع والصناعات.

إذا كان الحيوان استخدم قواه كلها في صلاحه، أفليس من العار على الإنسان، أن تعطل بعض قواه، تارة بالاستعباد، وطورا بالوثوب، وآونة بإخماد القوى.

أليس من الخزي هذه الأخلاق الشائنة، أين عقل الإنسان؟ أفليس بما قدمنا يزول الجدب ويقل الخوف وتضاعف الثروة، وليس على الأمم في مثل تلك اللجنة العلمية الفلسفية السياسية التي افترضناها من ضرر، وليست تصرف أكثر من عشر سنين في إحضار أساس المدنية وعرضها على سائر الأمم الرشيدة.

فلتدع أمة من الأمم لهذا المبحث سائر الأمم ليرسلوا أكابر علمائهم المحبين لنوع الإنسان ليبحثوا هذا الموضوع بحثا مدققا، ثم ليؤلف كل عالم من أولئك عند الإمكان كتابا في هذه المباحث يري فيه الأمم كيف يكون الحب العام، فإذا ما وافقت اللجنة العامة على كتاب ترجم إلى سائر اللغات، ويوكل لكل عالم الصورة التي بها يعممه في أنحاء بلاده، بحيث يلقن التلاميذ في سائر الممالك ما يحببهم في نوع الإنسان إجمالا وتفصيلا، ويزدري أمامهم بالتشخيص أو غيره الحرب والخداع السياسي، وتمنع كل أمة من ذم غيرها، والطعن في دينهم، حتى لا يكون بين الأمم، أحقاد في صدور أبنائها.

ومتى تكرر ذلك صار طبعا وعادة لازمة للأجيال المقبلة، وإذ ذاك تبقى كل أمة على عاداتها ودياناتها وأخلاقها، ولكل من الملاك فيها أن يتصرف في ملكه، ولكن يجب أن تكون لهم مراقبة دولية، وعلى كل أمة أن تراقب عمران البلاد واستثمار الأرض وإنماء العقول، وهذه اللجنة تراقب الأمم وتراقب الأمم أفرادها.

ها أنا أدعو ملوك الأمم، ونوابها العامة ومجالس نوابها، وحكماءها وعلماءها، فهل من ملك رشيد أو ناد ذي فضيلة يدعو لما دعوت إليه حتى يكون أول مصلح للنوع الإنساني فلا يضره ولا أمته شيء في الحال والاستقبال، ولئن لم يتم الأمر على مراد سائر الدول بقي له ذكر المصلحين أمد الدهر، وكان له أثر خالد في الأمم المستقبلة، وفي ظني أن ملوك وعلماء هذا العصر يقدرون هذا العمل حق قدره، فقد آن أوانه حتى تبطل القاعدة الحيوانية العتيقة التي وضعها «أبيقور» اليوناني في القرون الخالية قبل الميلاد بثلاثة قرون القائل: «يبيد الأقوى الأضعف.» وشيد على أنقاضها داروين الإنجليزي مذهبه، وطبقه السواس على الإنسان، فقلد السباع والوحوش، ولو أنهم فطنوا لغلبوا هذه القاعدة الإنسانية، على تلك القاعدة البائدة السبعية، ولحكموا بالعدل والسلام العام حتى يمتاز الإنسان على الدواب والأنعام، وهذه القاعدة نهاية بحث العلماء، وثمرة حكمة الحكماء، وطلبة الأنبياء، وإني لموقن بصحة النتائج لصدق المقدمات .

فلما فرغ من مقالته عجبت من حكمته، وقلت: كيف نطق الأستاذ بما وعيت، وأظهر ما أضمرت؟ وهل هو غيري وهل أنا غيره؟ فتذكرت قول الشاعر:

أنا من أهوى ومن أهوى أنا

نحن روحان حللنا بدنا

فإذا أبصرتنا أبصرته

صفحة غير معروفة