فقلت: مع أفراد الإنسان. فقال: وماذا تشترون؟ فقلت: الأغذية النافعة، والملابس الدافعة، وغيرها مما له الحاجة داعية. فقال: ومن يصنع ذلك؟ فقلت: الإنسان، بالعلوم والعرفان. فقال: إذن المحبوب في الحقيقة نوع الإنسان. ما أجهلكم! لو لم تكن العلوم والصناعات العامة في الإنسان، فممن تبتاعون، لولا الإنسان ما كان للنقدين معنى معقول، ولا لقضائهما حاجاتكم سبيل مسلوك.
يا هذا، أحببتم الذهب، أحببتم منافعه، أحببتم ما ينفعكم، أحببتم عمل الإنسان، أحببتم الإنسان، من كره الإنسان فقد كره عمله، كره ما ينفعه، كره نفسه، ومن أجهل ممن أبغض نفسه.
ألا إن ذلك نقص شائن، وجهل فاضح، وعذاب أليم، وتناقض غريب، أين المناطقة، أين الفلاسفة، أين الحكماء، أين العلماء، أين العقول، قد ثبت بالبرهان أن الأمة من أممكم تحب نفسها وتكرهها، وهذا التناقض أمره عجيب، نظركم قصير وعقلكم ضئيل.
الذهب والفضة سحاب حال دونكم ودون شمس الإنسانية، فالإنسان معشوق الإنسان، الإنسانية شمس أضاء نورها في الخافقين، فحجبتها سحب الطمع، وكسفتها بدور الفضة، وغطاها النضار. المحبوب من الشمس ضوءها، ومن الإنسان علمه وعمله، فإن رأيتم أن تكونوا أحرارا، فلا تعبدوا درهما ولا دينارا، ولتعلم أمة أمة العلم والحكمة والصناعة إعلانا وإسرارا.
حبكم الذهب والفضة رمز عجيب لسر غريب، رمز لكم كي تحبوا من تعاملون، كما أن حب الزوجين رمز لما سيكون بينهما من ولد محبوب، ونسل مرغوب. فما أحبت الفتاة الفتى، ولا هام الفتى بالفتاة، إلا لمعنى مستور عنهما، ونور واضح في جباههما، ألا وهو الولد، الذي خبأه القدر هناك، وطواه الغيب وأسدل عليه الستار. فإذا قبل الوجنتين فإنما يستخرج بفيه ما كنزته الحكمة في الجثمان، من الإناث والذكران، ثم يبقى بين الزوجين صافيا لا شية فيه، وحقا لا باطل يعتريه، ونورا لا شهوة تخالطه، إذا داما أزمانا، وأنجبا أولادا.
هكذا فليكن حب النقدين. فالمحبوب بالتحقيق ما وراءهما من نوع الإنسان، وتحليه بالعلوم والعرفان، أفليس من العجب أن تجمعوا بين الضدين، وتسلكوا سبيل النقيضين، تحاب الزوجان، فولدا الغلمان وعمرا البلدان، فلتتحاب الأمم الإنسانية، ليلدن سعادة الإنسان.
فلما فرغ من مقالته أجبت: إن نوع الإنسان متحابون، وإذا تجاذبت الكواكب بأجرامها، وعشقت السيارات الشمس، والأحجار وكل ما فوق الأرض عشقتها وانجذبت إليها، فإن عشق الإنسان للإنسان روحي معنوي، ولا جرم أن عشق الروح أرقى من عشق الجثمان. فقال: هذه أقوالكم المعروفة، ولكن أين الأعمال؟ إنما تحاب الأفراد يعطي الأمم وتحاب الأمم يمنح السعادة.
فقلت: وما الحكمة العالية؟
الحكمة العالية
فقال: «النحلية»، انظر يعسوب النحل، كيف يدبر النحل في بيوته الشمعية، وقصوره العسلية، لذريته الكامنة في البيض المفرق على البيوت، وما يصنعه من اصطفاء ألذ العسل وأنقاه، وأخلصه وأشهاه، وأحسنه وأبهاه، للذي سيكون ملكا للذرية، وكيف خصص له خدما وحشما، وجعل له من العناية والرعاية ما ليس لسواه من السوقة والرعايا، من الخناثي والذكور النحلية، التي لكل بيت من بيوتها نحلة واحدة تخدمها، وعسل معد لحياتها.
صفحة غير معروفة