وبعد أن أتم درسه، وأحكم وصفه وأجاد مدحه. قال: فنحن وهم في الحياة كجسم واحد، لنا روح واحدة، ولو أن أمة من هذه الأمم ضعف أمرها، أو قل علمها، أو نقصت صناعتها لحصل لمجموع جنسنا خلل وألم، ولأصبحنا كجسم نزل به الضر، فيعيش في أسقام وأوجاع وآلام.
واعلموا أيها الأبناء الأحباء أن من الأمم في الكواكب الأخرى من جهلوا مقدار أنفسهم، فأخذوا يتخبطون في النظام، ويظن كل منهم أن يعيش بالقوة والغلبة، فيفعل فعل المجنون يفقأ عينه، ويحيا حياة العميان، ولذلك ترونهم لا يغمدون سيوفهم، ولا ينامون ولا يدعون فرصة للسلاح إلا زادوه وأعدوا العدد للكفاح والسلاح.
ثم أبرز لهم صورة إنسان أعمى وإنسان آخر مقطوع اليد وإنسان مقطوع الرجل، وقال: يا أبنائي، إنهم تارة يكونون كهذا الأعمى لا قائد له، وتارة يكونون كهذا المقطوع اليد، فتقل صناعاتهم، وتارة يكونون كهذا المقطوع الرجل، فلا يجدون من يسهل لهم سبل النقل بين البلدان المتنائية المترامية الأطراف، المتباعدة الأكناف، وتراهم يجهلون فطرهم، ولا يعرفون قيمة ما أعطوا من أرضهم الواسعة، فيكبكبون ويزدحمون في بقعة، فإذا ضاقت بهم الحيل، وضاقت عليهم أنفسهم اقتتلوا بالعصا والسيف، وترى الأمة تحارب الأمة، والأرض واسعة فلا يعمرونها.
ومن عجب أن كثيرا من أراضي الممالك الظالمة قد تترك بلا زرع لتبقى بورا نزهة للمالكين، ومرتعا للوحوش والأنعام ليصطاد المالكون وينعم المترفون، وطورا تدعي الأمة القوية زورا وبهتانا على أخرى غافلة أو ضعيفة دعوى باطلة، فتقاتلها على أرضها جهلا وظلما، ثم تكذب وتقول: إني أرقيهم، إني أعلمهم، وهي لا تخجل من الكذب والزور.
فقال صبي من الصبيان: إذا علموهم فكيف يسيطرون عليهم؟ فقال الأستاذ: يدعون أنهم لا يصلحون لحكومة أنفسهم. فقطب الصبي وجهه وقال: إذن هؤلاء أقل إنسانية وعقلا من الحمير؛ لأنها لها جمعيات تعيش معا، وأقل عقلا وإدراكا من الزنابير، فإذن هؤلاء ليسوا من البشر، ولا من الحشرات، فمن أي العالم هم. فقال الأستاذ: هذه ليست دعوى صادقة، ولو صدقوا لعلموا ولم يسيطروا، ولكنهم كاذبون. فقال الصبي: يا سيدي، فأولئك الظالمون الطاغون ليسوا من نوع الإنسان أيضا؛ لأنهم لا شرف لهم، وهم كاذبون. فقال: إنهم إنسان جاهل.
ثم قال: فاحترسوا يا أبنائي من بغض عشيرتكم وبني جنسكم، ولقد وزعنا أممنا على كرتنا الكوكبية، وخصصنا كل طائفة بعملها، فليس تستغني أمة عن أمة، ولا فرد عن فرد، وإنما ضربت لكم هذا المثل لتعلموا نعمة الله عليكم، وما أوتيتم من نظام وسعادة، ولتعرفوا وتعلموا شرفكم إذا قارنتم نظامكم العالي الفاضل بنظامهم الفاسد الخالي من الخير، ولقد أصبحت أممنا الكوكبية متحابة متعاشقة متوادة، كل يحب أخاه، ويعلم أن سعادته بحياته وشقاءه بفقره، ولقد صرفنا قواتنا في استثمار وعمارة أرضنا، وصرفوا قواهم في إيذاء بعضهم، والاستحواذ على ما ملكوا ظلما وعدوانا وكسلا، وبعدا عن الفضيلة والشرف، وجهلا بحكم هذا الكون.
فقال صبي: أين عقولهم؟ فقال: يا بني، غلبتها الشهوات، وطمستها العداوات، وحجبتها أنواع المطامع، وغشتها ظلمات الهلع وأنواع البدع والضلالات، وأكثرهم لا يكادون يعقلون، صم بكم عمي فهم لا يبصرون، فاستعدوا أيها الأبناء لسعادتكم، واستبشروا بعزكم، واعلموا أن أكرم أمة على كوكبنا أمة كانت أكثر نفعا، وأعز نفسا، وأوفر عملا.
ثم دق الجرس فانصرفوا يبتسمون وهم من أهل الأرض يسخرون، فدلف إلي ذلك الشاب ودلفت معه إلى رحبة المدرسة وفنائها الواسع، فألفيت رياضا بديعة وبهجة وجمالا ونور الشمس يتلألأ في الطرقات، وعلى أوراق الأشجار، وفي ثنايا الأغصان، نور بهيج في خضرة وزرقة واصفرار، ورأيت بدائع الأزهار تتمايل طربا يمينا وشمالا وأماما وخلفا، وكأن الحشرات الطائفات في خلالها ذهب بهي مصنوع من نور الشمس، وبعضها أزرق، كأنه مصنوع من لون الزرقة السماوية وله عيون مستديرات محوطة بلون ذهبي بديع، وهناك ما لا يقدر الواصفون قدره، ولا يتناول العارفون سره، ولا يستطيعون أن يقصوا خبره، ولا يطمعوا في استكناه خبره.
هنالك نظرت نظام حديقة المدرسة فألفيتها خريطة جغرافية، ألفيتها طرقا رملية، ورياضا سندسية زبرجدية، فترى مسافات من الرمل خاليات من الأشجار، تمثل البحار الملحة، وتكاد الصنعة الهندسية في بطاحها تمثل المحيط، ومحيط المحيط وهيئة الأمواج، وزرقة الماء، وابيضاض حواشيه الفضية، وترى الدوحات تمثل الأمم أمة أمة، مقيسة قياس الدرجات العرضية والطولية، فترى الصبيان يلعبون الكرة في تلك الرحبات الرملية، حول تلك الرياض الدولية، والقارات الخضراوية، فترى الشابين يتسابقان ويقول أحدهما للآخر: سر معي شوطا من مملكة «الصين» مثلا إلى مملكة الروس.
ثم وقفوا بغتة وأنشدوا نشيدا لم افهمه، وموسيقاهم تصدح، فطربت طربا وأغشي علي، وغبت عن الشهادة إلى الأحلام، وقلت: هكذا يكون الجمال والسعادة والهناء، العين في مناظر بهجة، ومحاسن بديعة، والأذن في جو من الموسيقى الكوكبية البهية، والقلب في بحر العرفان والأنوار، فهل بعد هذا بهاء وجمال، وهل يبلغ الإنسان هذه السعادة، لمثل هذا فليعمل العاملون.
صفحة غير معروفة