من عجب أن الغربان تساعد الغربان، فإذا آذيت خلية نحل قاومك النحل فآذاك، وهكذا الزنابير، وحيوان القيطس يفتك بمن يقتل إحداها.
ولقد علمت أن نوع الإنسان نعمة على بعضه كجسم واحد، فكان الأجدر به أن تحرص كل أمة على أختها ليظهر فضلها، ويعز شرفها، فقد وضح البرهان، وتجلى الحق، وسطع نور الهدى، وقام الدليل على أن بعضهم ظهير لبعض، فهم على سطح الكرة كوارة واحدة وقرية نمل واحدة لشدة حاجة بعضهم إلى بعض، فهلا منعت الأمم بعضها عن بعض بلا نظر إلى دين أو لغة.
ولئن اتحدت طائفة من أممكم على إصلاح جزيرة كريت لما بينهن من صلة لدين، فلماذا لم يتحدوا على إصلاح نوع الإنسان، وكلهم رجل واحد، وما أرضكم إلا جزيرة صغيرة في وسط البحر اللجي الذي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، ومن حولكم الحيوانات الكاسرة، والميكروب المميت، وحوادث الأيام، ومزعجات الأنام، وفتكات البراكين، الهادمة لمجدكم، البالعة لمدنكم.
إنكم أمة واحدة، فلم لم تتحد تلك الدول على رقي نوع الإنسان حتى تقاوموا جميعا ما تغشيكم به المياه في طغيانها من أنهارها، والبحار من أمواجها، والبراكين من هدمها وتخريبها، فما أسوأ حال الإنسان! مسكين، وأي مسكين! مسكين ضعيف! كثر وباؤه وأمراضه، وخانه صديقه، ولم يرحمه عدوه.
أما فيكم عقلاء؟ أما فيكم رحماء؟ عند ذلك بكى وبكيت، وضج الجمع المحتشد، ورمى كتاب الجرائد بأقلامهم وبكوا رحمة علينا، وسكن التأديب والتوبيخ والتقريع، ورفعوا طرفهم إلى السماء، وطلبوا من الله رحمة أهل الغبراء، وقالوا: اللهم ارحم هذا الإنسان المسكين.
الفصل السابع عشر
على أي قاعدة تبنى سياسة الأمم
قلت: إني مقتنع أن نظامنا فاسد، وجمعياتنا ناقصة، وسأقص هذا القصص على إخواني في مشارق الأرض ومغاربها، فأسألك بحق ما وهبك الله من العلم والحكمة أن توقفني على الأساس المتين، لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعقلون. فقال لي: ألم تقرأ كتاب «كنت» الألماني على التعليم؟ قلت: أنا لا أعرف اللغة الألمانية وإنما قرأته بالإنجليزية ترجمة السيدة «أنتي تشرتون». قال : ألا تذكر ما قاله في المقدمة العامة على التعليم إذ يقول: لم يعلم الإنسان إلا الإنسان، فهو المعلم والمتعلم، ولو أن عالما أعلى منه ألقى عليه دروس العلم لبرزت كوامن آرائه، وعواطفه وفواضله.
وقال في نفس المقدمة في موضع آخر: مسألتان لم تحلا للآن، ولم يبتدع لهما حل: الحكومات العادلة، والتعليم.
وقال في مقام آخر: إن الفضائل والعلوم كامنة في النفس، كما كمنت الألوان والأزهار والأوراق في البذرة، فاستخرجت بالحرث والسقي والتعهد، ولولا أن في البذرة اللون والثمر ما ظهرا للعيان، ولا ظفر بهما الإنسان.
صفحة غير معروفة