هذه القواعد الأربع سارية في الماديات والمضويات، العقول الإنسانية جارية على هذه القاعدة، فهل يحق لأمة من أمم الأرض أن تدعي أنها مختصة بالعقول الذهبية، فتنطلق أمة أخرى، وتقول: ضعوا خشبي موضع حديدكم وحديدي مكان ذهبكم، واجعلوا حديدكم خشبا وذهبكم حديدا، وكونوا إلي سامعين مطيعين.
أولا تكون هذه الأمة كالرجل الأحمق الذي يصنع حجرات القطار من الحديد، ويدعمها بالخشب، ويأمر الناس بالتعامل بالحديد بدل الذهب والفضة، ألا ساء مثلا الطاغون الجاهلون، أولا يعلم الإنسان أنه إذا عطل بعض العقول الإنسانية، كان كمن حرم الناس من استخراج الذهب من معادنه الجبلية، فيقل الذهب في العالمين، ويكثر الشجار بين المتغاضين. حرص الناس على المعادن وفرطوا في العقول، جهلوا والله، إن الإنسان لظلوم كفار، تواطأ الناس على استخراج المعادن، وتحملوا المشاق ولما يألوا جهدا في تحصيلها، فهل دأبوا في استخراج العقول الإنسانية، كما دأبوا في تحصيل القطع المعدنية، أولا يعلمون أن الغنم بالغرم، وأن أشق الأشياء تحصيلا أنفعها. وهلا علموا أن العقول البشرية أعظم لهم نفعا، وأبقى سعادة، عرف الناس كل شيء إلا عقولهم، وفهموا كل شيء إلا نفوسهم، ألا إن الإنسان لجهول كفور، سيسوس الناس في مستقبل الزمان أممهم بما ساس الله به خلقه، فالله وضع الميزان وأحكم النظام، وقام بالعدل، وجعل هذه الخليقة المنظمة كتابا للسياسة يقرؤه الناس إن كانوا يعقلون، هذا ميزان الخليقة فزنوا به أعمالكم ولا تكونوا ظالمين.
المذكرة السابعة عشرة: جاموسة الناعورة
جلست مع أصدقاء في وسط روضة صغيرة وفيها ناعورة تديرها جاموسة، عيناها في غطاء لا تبصران، ولكن أذناها تسمعان، وما أدراك ما تسمعان، تسمعان صوت الهراوة ترن ضربا على جسمها، تسمعان صليل الجرس ليوهمها أن ضربة ستؤلمها، وبينما هي كذلك إذا غطاء عينيها انكشف قليلا، فأبصرت، فلما أبصرت وقفت، فأخذ السائق يضربها وظلت الجاموسة في موقفها، كبرت نفسا أن تسير، وظلت العصي على جنبها تسيل. فقال صاحب الجاموسة: ما العمل فيما ألم؟ فقلت: يا هذا، لا يصبر على الذل إلا الجاهلون، ولا يرضى بالهوان المبصرون.
الجاموسة كالأمم المغلوبة، وغطاء عينيها أشبه شيء بغطاء ظلام الجهل المسدول على عقول الأمم الضعيفة، والسائق كالأمم الغالبة، فغش عينيها بالغطاء، فإنها تسير بلا تناء، ففعل السائق فدارت.
الإنسان ظن جهلا أنه ليس نوعا واحدا، فقام قوم مقام السادة وقام آخرون مقام العبيد والحيوان، فغشوا أبصارهم وحرموهم من العلم، وقالوا لهم: كونوا عبيدا أذلاء، ألا إن الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، ألا ساء ما يفعل الجاهلون.
الفصل الرابع عشر
الجمع المحتشد وعالم الأرض والمريخ وتحليل المدنية العصرية
بينا أنا نائم ليلة العشرين من شهر يوليو إذا صاحبي مقبل إلي في حلل تلوح كأنما لونها ريش الطاووس بهجة وجمالا، فنرى سوادا يتخلله بريق، يغشاه لمعان يعلوه لون ذهبي، يحيط به بياض، منقش في دوائر شمسية بهيجة أشبه بألوان العقيق والمرجان والزمرذ، وعلى رأسه تاج يضيء سناه للناظرين مكلل بكل ما جمل وغلا من الياقوت والمرجان والماس منظم دوائر منظومة من الجوهر داخلها مربعات ومخمسات ياقوتية مرتبة ترتيبا بديعا، فسلم وحيا ودنا وتدلى.
وهنا أخذ لبي بحسن سلامه، وبديع كلامه، وجميل خطابه، وعذب مؤانسته، ومعه آخران واقفان خلفه، خاضعان لأمره، مطرقان إجلالا له، فسرنا والليل عاكف، حتى ركبنا المركب المعهود ووصلنا الكوكب الجديد، فلما أن توسطناه نظرت إذا قرى عالية الذرى، فرأيت المدرسين في مدارسهم، والمهندسين في أعمالهم، والصانعين في مصانعهم، وشاهدت قطارات البخار، وآنست رسل الكلام من المسرة «التلفون» والبرق «التلغراف»، ورأيت الناس يرغبون ولا يرهبون، وهم بالشوق والحب يعملون، وسمعت نغمات الآلات الدائرة وموسيقى العجلات في السكك الحديدية، وكلها ذوات نغمات موسيقية، فلو رأيت ثم رأيت فلاحا يحمل فأسا ونغمات الآلات الرافعة للماء تشنف سمعه، وهو في طرب وفرح وجذل وسعادة وحبور.
صفحة غير معروفة