أمي كانت واقفة عند الباب ... تلقفتني بين ذراعيها، كنت أبكي. - الشنطة راحت يا ماما. - الشنطة مش مهمة، المهم إنك سليمة.
تتطلع أمي إلى الشارع واقفة عند الباب، عيناها لا تكفان عن الحركة، تبحثان في وجوه الناس عن أبي. «ربنا يرجعه بالسلامة.»
تأخر أبي، نمت قبل أن يعود، في الحلم رأيته غارقا في بحر من الأجساد، تحمله الأمواج إلى السماء، يهتف: «تسقط الحكومة»، تهبط به أسفل، تدوسه الأقدام وتنطلق رصاصة في صدره، يحملونه إلى أمي ينزف دما، يموت بين يديها، فتشهق بالبكاء، تحمل طفلها الرضيع «أخي الأصغر» فوق صدرها، أختي الصغرى «ليلى» تحملها فوق كتف، أخي الأوسط تحمله فوق الكتف الأخرى، أنا وأخي الأكبر «طلعت» نمشي وراءها نمسك ذيل فستانها، ملابسنا ممزقة مثل الشحاذين.
أهب من النوم مذعورة، أبي مات، قتله الإنجليز أو الحكومة، أمي أيضا غرقت في بحر الأجساد، حاملة إخوتي وأخواتي، أصبحت وحدي أمشي على الشاطئ اللانهائي، أتوه كما تاهت سعدية.
من الإسكندرية إلى منوف
ذات يوم من عام 1938م استيقظت من النوم لأجد أبي وأمي يحزمان الحقائب، الحكومة أصدرت قرارا ضد أبي، النقل إلى مكان أخرى يسميه أبي «منفى»، أو «منوف»، قرية أو بلدة صغيرة مجهولة، لا تظهر فوق الخريطة، عشنا فيها عشر سنوات (من 1938م حتى 1948م)، لم يحصل فيها أبي على ترقية أو علاوة، اندرج اسمه تحت القائمة السوداء، تحت بند «الموظفون المنسيون» في وزارة المعارف العمومية.
من الإسكندرية عروس البحر إلى بلدة مظلمة صامتة، مدارسها الأولية الإلزامية يذهب إليها أطفال الفقراء بقوة القانون (الإلزام).
أصبح أبي مفتشا على هذه المدارس في محافظة المنوفية، يسير بقامته الفارعة في الشارع والناس تشير إليه: البيه المفتش!
في الإسكندرية لم يكن أحد في الشارع يشير إلى أبي، لم يكن يحمل إلا لقب «أفندي»، أهل منوف منحوه لقب «البيه»، أصبحت بنت البيه المفتش، زارتنا ستي الحاجة ثم عادت إلى كفر طحلة تحمل لقب «أم البيه».
أبي أصبح يردد هذا البيت من الشعر:
صفحة غير معروفة