رد أمي يبدو مقنعا، سعدية لا يمكن أن تسبح في البحر بدون «مايوه»، تصورت أن «المايوه» لا يشترى من السوق، شيء يهبه الله للأطفال الذين لهم أب وأم.
في الليل أنام في سريري تحت الأغطية، سعدية تنام فوق الأرض على الحصيرة أو سجادة قديمة، فتحت عيني رأيتها تبكي، كانت طفلة تكبرني ببضع سنوات قليلة ... لم يكن أحد يراها طفلة.
تصورت أنها ليست مثل الأطفال، ليس لها أب أو أم. - عاوزة أشوف أمي يا ست نوال. - عندك أم يا سعدية؟ - طبعا يا ست نوال. - وهي فين؟ - في بلدنا. - وبلدكم فين؟ - مش عارفة. - اسمها إيه ؟ - كفر الشيخ.
بدأت أفكر في سعدية، كيف يكون لها أم؟ كيف تتركها أمها تعيش في بيت مع الغرباء؟ سعدية تقف أمام الحوض لتغسل الصحون بعد أن نأكل، تلتهب أصابعها من الصابون والصودا الكاوية، في ركن المطبخ تجلس داخل جلبابها تحرس طعامنا، تتصلب عرقا، نحن في المياه الزرقاء نسبح ونلعب.
في يوم جلست إلى جوارها فوق الرمل وبدأنا نلعب معا، بنينا بيتا كبيرا من الرمل على شكل الهرم، كلما سقط البيت على ما فيه تضحك سعدية، تلمع عيناها بالفرح، تتلاشى اللمعة في لحظة، ترمق الشاطئ بنظرة تشبه نظرة جدتي آمنة: الناس قالوا لو مشيت على الشط ده على طول على طول، أكون وصلت كفر الشيخ على آخر النهار. - يا عبيطة يا سعدية، الشط ده يوديكي إيطاليا مش كفر الشيخ. سمعت أمي وأبي يقولان إن وراء هذا البحر بلدا اسمها إيطاليا، سعدية لم تكن تصدق شيئا مما يقوله أبي أو أمي، تؤكد لي أن بلدها كفر الشيخ توجد على امتداد الشاطئ على مسيرة نهار واحد.
صحونا في الصباح فلم نجد سعدية ... خرج أبي يبحث عنها ... قبل أن ينتهي النهار عثر عليها خفراء البحر سائرة على الشاطئ في طريقها إلى بلدها.
عادت سعدية إلينا مطرقة الرأس ... رفعت رأسها والتقت عيناها بعيني ... أدركت لأول مرة في حياتي معنى الحزن ... لم يكن في عينها دموع، الجفاف التام، اليأس التام.
أنظر في المرآة فأرى عيني سعدية تطلان علي، هما عيناي في لحظات الحزن أو اليأس ... لحظات الندم والإحساس بالإثم ... السؤال كان يدور في رأسي: كيف لم أنقذ سعدية؟
صحونا ذات صباح فلم نجدها، مرت الأشهر لم يعثر عليها البوليس ... تاهت على الشاطئ اللانهائي، أسرقتها واحدة من مثيلات ريا وسكينة؟ كان في أذنها حلق صغير له مسمار وقفل كالحلق في أذني، من الصفيح وليس من الذهب.
في السابعة من عمري رأيت أول مظاهرة وطنية في حياتي، كنت عائدة من المدرسة وحدي ... شارع محرم بك انقلب بحرا من الأجساد، آلاف السيقان الطويلة داخل السراويل ... كلهم رجال ... أصواتهم تدوي كالرعد ... يدبون بكعوب أحذيتهم الجلدية على الأسفلت ... سقطت وأنا أجري تحت الأقدام ... كيف نهضت؟ انتشلتني بعض الأيدي ... ضاعت حقيقة المدرسة ... دون أن التفت ورائي، كنت أجري حتى وصلت البيت.
صفحة غير معروفة