انحناءة خفيفة لكتفيه كأنما يحمل فوقهما العبء، لون البيجاما أبيض يميل إلى الزرقة قليلا بسبب الزهرة التي تضاف إلى ماء الغسيل، أزرارها من الصدف الأصفر حجم القرش، أحد الأزرار مفقود، والزر الأخير مكسور، سروال البيجاما متهدل قليلا.
لحظة محفورة في ذاكرتي بالتفاصيل ... حكيت لأبي ما حدث، بدت الحكاية خيالية من تأليفي، لم يصدقها حتى أخرجت المظروف من حقيبتي، فتحه بأصابع مرتعشة كأنما سيجده خاليا، حين وقعت عيناه على أوراق البنكنوت نهض واقفا، مد يده لي مصافحا: برافو يا نوال، برافو! جدعة والله! تعالي يا زينب شوفي بنتك عملت إيه!
يوم من أيام الفرح في بيتنا، ارتفعت مكانتي في عين أبي، أصبح يناديني بلقب دكتورة، حين تكون أمي متعبة ينهض في الصباح الباكر ليعد لي الشاي والفطور، أو يجهز لي علبة الغداء لآخذها معي إلى الكلية.
وأصبح في إمكاني أن أشتري بعض الكتب، وجمجمة كاملة باعها لي عم عثمان، وضعتها داخل حقيبتي الجلدية مع الكتب والكشاكيل، ما إن رأتها أمي حتى صرخت: «جايبة معاكي ميت ... يا نهار أسود.» وأغلقت علي غرفتي مع حقيبتي مع الميت، لم يكن لي أن أفتح الباب دون أن تخفي عينيها بيديها الاثنتين، كأنما عفريت الميت خرج إليها لحظة انفتاح الباب.
الحب والموت فوق منضدة واحدة
كانت أختي الصغرى ليلى تشاركني الغرفة، ما إن دخلت الجمجمة من فراش المشرحة حتى خرجت هي بسريرها ومكتبها الصغير.
لم يعد أحد من البيت يدخل غرفتي، أبيت طول الليل وحدي مع ذلك «الميت» المجهول، يطل رأسه من فوق المكتب بجوار سريري، عيناه حفرتان كبيرتان داخل عظام الجمجمة.
قبل أن تنام أمي تقرأ سورة يس، تطرد بها الروح الشريرة من البيت، لكن الحياة سرعان ما تغلبت، واكتسحت العادة الشيء غير العادي، أصبحت أمي تدخل غرفتي تنفض التراب عن كتبي وأوراقي، تمسح رأس الميت بالفوطة الصفراء، تدس طرف الفوطة داخل العين والأذنين والأنف والفم، تزيل عنها التراب، تنظر داخل البئرين العميقتين حيث كانت العينان، ثم تتنهد بصوت مسموع: «الدنيا فانية، والبني آدم آخرته التراب» ... سحابة شفافة من الحزن تكسو عينها، سرعان ما تنقشع وهي تنظر إلى عينيها السلبيتين يملؤهما ضوء الشمس تبدد سحب الصيف الرقيقة، أسمعها تضحك: «الدنيا ما تستاهلش إننا نزعل عليها أو نأخذها جد.» ضحكتها ترن في البيت، الضحكة الطفولية القديمة، كرنين الماء الرقراق داخل إناء من الفضة، تخلع جلباب البيت والشبشب، ترتدي فستانها الحريري الأصفر ذا الحمالات الرفيعة، يكشف عن كتفيها البيضاوين كالرخام، تجلس أمام المرآة «التواليت» تكحل عينيها، تمر بالفرشاة على خديها البارزتين، يصبح لهما لون الورد الأحمر، تضغط بإصبع الروج على شفتيها فتصبحان مثل ثمرتي الكريز وسط وجهها المستدير الأبيض بلون القمر، ترتدي في أذنيها الحلق الألماظ، طويل رفيع، فصوصه تلمع وتهتز مع اهتزازة رأسها، تطلق سراح شعرها الذهبي الناعم فوق كتفيها العاريتين، تحوط عنقها الرخامي الأبيض بالعقد لألماظ، تسميه «البانتانتيف»، ترتدي حول معصمها الأيمن الأسورة الذهبية ذات الفصوص الألماظ وتسميها «الشبكة» التي شبكها بها أبي في السنارة أو مصيدة الزواج، حول المعصم الأيسر ترتدي الساعة الرقيقة الحريمي ذات الفصوص الألماظ الصغيرة والأرقام الدقيقة غير المرئية بالعين المجردة، حول إصبعها الخاتم «السوليتير» له فص كبير من الماس، والخاتم الذهبي الرفيع منقوش عليه من الداخل اسم أبي.
قدماها الصغيرتان البضتان تتقوسان داخل الحذاء ذي الكعب العالي الرفيع، تتمشى فوقه من غرفة إلى غرفة، ثم تستقر في النهاية داخل المقعد في الفرندة وتطل على السماء وأطراف الأشجار من بعيد، تصنع لنفسها كوبا من عصير البرتقال أو الليمون، تعود إلى مقعدها في الفرندة، ترشف العصير على مهل، تتأجج عيناها بالنشوة كأنما هي ترشف الخمر، أذناها مرهفتان تنتظران صوت جرس الباب، تحفظ الطريقة التي يدق بها أبي الباب، تعرف موعد عودته إلى البيت بالدقة، كان مثل الساعة شديد الانضباط، لم يكن في حياته إلا وظيفة الحكومة، وزوجة واحدة هي أمي، وتسعة من العيال.
في الفرندة كنت أراهما «أبي وأمي» جالسين معا يرشفان عصير البرتقال أو الليمون ويسكران ... تنطلق ضحكاتهما في أنحاء البيت إلى حد القهقهة العالية. قد يلعبان معا الكوتشينة أو الطاولة، تنهزم أمي دائما وتنتفخ أوداج أبي مثل الديك الرومي أو الطاووس، يمد ساقيه ويسترجع ذكريات البطولة، ثورة 19 أول هذه الذكريات، ثم نجاحه بامتياز في كلية دار العلوم، وأخيرا انتصاره في الزواج من أمي رغم عراقيل أبيها شكري بيه. تضحك أمي وتلقي بشعرها الذهبي الناعم خلف عنقها الرخامي: «فاكر يا سيد لما المرحوم بابا قالك نجوزك فهيمة بدل زينب، وقلت له يا زينب يا بلاش.» تضحك أمي وتكركر، ضحكتها المتقطعة كالماء المقطر داخل قلة من الفخار الرقيق: «لكن اشمعنى يعني زينب، هو انت كنت شفت شكلي إيه؟!» تتأجج عينا أبي، تشتعلان بالبريق وهو يرمق استدارات الجسد الأنثوي الناعم إلى جواره: «يعني كنت حاشوفك فين يا زينب، لكن أمي الحاجة مبروكة وصفتك لي حتة حتة، والأذن تعشق قبل العين أحيانا.»
صفحة غير معروفة