وجدت جسدي يندفع نحو الباب بقوة الغضب والخوف والأمل واليأس ومشاعر أخرى متناقضة، تفاعلت معا داخل العضلة المنقبضة في صدري، وراء هذا الباب يقبع الموت أو الحياة سيان، لم يعد يهمني ما الذي يمكن أن يحدث ... مجانية التفوق أو الفصل النهائي من الكلية، كلاهما واحد، أصبح هدفي الوحيد هو فتح هذا الباب المسدود في وجهي بصرف النظر عن العواقب، تبدد الخوف والأمل واليأس والغضب وغيرها من المشاعر، لم أكن أشعر بشيء، نوع من التخدير الكامل لحواسي الخمس يسبق أي عمل شجاع وإن كان الارتماء تحت عجلات القطار أو الانتحار.
رأيت نفسي داخل غرفة كبيرة مهيبة كأنما دخلت قصر عابدين يوم المظاهرة الكبيرة عام 1946م؛ النجفة الضخمة والسجاجيد السميكة، الصور المذهبة فوق الجدران، المكتب الضخم من خشب الأبنوس الأسود تعلوه النقوش، من وراء المكتب يطل طربوش أحمر فاقع اللون، النصف الأعلى لبدلة سوداء وربطة عنق، عينان واسعتان سوداوان تحملقان في وجهي وتتسعان، فوق رأسه كانت صورة الملك فاروق داخل إطار ذهبي يرتدي ملابس الجيش والنياشين.
كان وحده في الغرفة، لا اجتماع مهما ولا أرى شيئا آخر، رمقت مدير مكتبه المرتجف أمامه، منعني من الدخول، لكن الموضوع مهم جدا. «دكتور»، كنت أظن أن لقب «دكتور» يناسب عميد كلية الطب، إلا أن مدير مكتبه همس في أذني قائلا: اسمه سعادة الباشا العميد، لم يكن في مقدوري أن أنطق هذه العبارة «سعادة الباشا»، كأنما في حروفها تكمن الإهانة أو العبودية، وما إن ينطقها لساني حتى يصاب بالشلل وأتحول من إنسان ناطق إلى حيوان أعجم.
وقفت أحملق في وجه العميد لا أعرف كيف أبدأ، جاءني صوته من وراء المكتب منخفضا مبحوحا، يشبه صوتي بعد الهتاف الطويل في المظاهرات: إيه الحكاية يا بنتي؟! كلمة «بنتي» مع لهجته الهادئة أضاف عليه لمسة من الأبوية.
تشجعت وقلت دفعة واحدة: «أنا أستحق مجانية التفوق يا دكتور، فيه طلبة أقل مني أخذوا المجانية علشان لهم واسطة»، رنت كلمة «واسطة» في الجو، فانتفض مدير المكتب وقال: سعادة الباشا العميد معاندوش حاجة اسمها واسطة، أرجوكي انتي دخلتي بدون إذن وسعادة الباشا العميد مشغول!
لم أتحرك من مكاني، لقد دخلت بقدمي وانتهى الأمر، علي أن أدافع عن نفسي حتى آخر رمق، اسمك إيه يا بنتي؟ صوته مليء بالطيبة، فلماذا يضع أمامه بابه ذلك المدير الشبيه بالضبع؟ تشجعت أكثر وقلت له اسمي واسم أبي.
أضفت بلهجة لا تخلو من الزهو أن أبي شارك في ثورة 19 وأنه من رجال التعليم في مصر، له تسعة من الأولاد والبنات كلهم في المدارس والجامعات، لا يفرق بين تعليم الولد والبنت، كأنما كنت أقف فوق منصة وألقي خطبة، رأيت العميد يبتسم: «وانتي نمرة كام في التسعة يا بنتي؟» «أنا نمرة اثنين، فيه أخ أكبر مني بسنة واحدة وأنا الثانية، لكن كنت دايما الأولى في المدرسة.»
لم يستغرق لقائي بالعميد أكثر من خمس دقائق، جعلني أكتب طلبا بالمجانية، أو أملأ إحدى استماراته، ثم أمسك قلمه الأحمر وكتب التأشيرة أسفل الورقة: «تمنح الطالبة المجانية الكاملة طوال سنين الدراسة بالكلية»، التوقيع: العميد د. مصطفى عمر.
لا أعرف كيف خرجت من مكتبه، أو كيف عدت إلى البيت، ربما خف جسمي فلم تعد قدماي تلامسان الأرض، كأنما أطير وأحلق في الجو، رغم التحليق ظلت حقيبتي تحت إبطي داخل المظروف، أحرك ذراعي وساقي في الهواء، أتعجل اللحظة وأنا أصل إلى البيت، أرسم وجه أبي أمامي، عيناه السوداوان تتسعان وتتسعان ويملؤها البريق، ويشتد ليغرق الكون كضوء الشمس.
كان أبي جالسا فوق الكنبة في الفرندا مرتديا البيجاما، عاد لتوه من الخارج، أمي في المطبخ تعد له فنجان شاي مع قطعة من فطيرة الذرة التي خبزتها في الفرن، رائحة فطيرة الذرة في أنفي حتى اليوم رغم مرور خمسة وأربعين عاما، صورة أبي محفورة في خيالي، عضلات وجهه متهدلة قليلا من الإرهاق، شحوب قليل ينم عن التعب أو القلق.
صفحة غير معروفة