فقطب رضوان قائلا: أبوك لا يراجع في أمر، وحال إدريس هذه لا شك ضاعفت من غضبه عليه ...
فغمغم أدهم في كآبة: ما كان أغنانا عن هذه الأحزان! - نعم، النساء يبكين في الحريم، عباس وجليل معتكفان من الكدر، وأبونا وحده في حجرته لا يجرؤ أحد على الاقتراب منه ...
فتساءل أدهم في قلق وهو يشعر بأن ملابسات الحديث تدفعه إلى مأزق: ألا ترى أنه ينبغي أن نعمل شيئا؟ - يبدو أن كل واحد منا يود أن يلوذ بالسلامة، ولا يهدد السلامة مثل طلبها بأي ثمن، غير أني لن أجازف بمركزي ولو انطبقت السماء على الأرض، أما كرامة أسرتنا فتتمرغ الساعة في التراب في ثوب إدريس!
لماذا قصدتني إذن؟! بين يوم وليلة انقلب أدهم غراب بين ينعق! وتنهد قائلا: إني بريء من كل هذا، ولكن لن تطيب لي الحياة إن سكت .. فقال رضوان وهو يهم بالذهاب: لديك من الأسباب ما يوجب عليك العمل!
ومضى راجعا. ولبث أدهم وحده وأذناه ترددان هذه العبارة: «لديك من الأسباب ...» نعم. إنه المتهم دون ذنب جناه، كالقلة التي تسقط على رأس؛ لأن الريح أطاحت بها. وكلما أسف أحد على إدريس لعن أدهم. واتجه أدهم نحو الباب ففتحه في رفق ومرق منه، رأى إدريس غير بعيد يترنح دائرا حول نفسه، يقلب عينين زائغتين، وقد تشعث رأسه وانحسر جيب جلبابه عن شعر صدره. ولما عثرت عيناه على أدهم توثب للانقضاض كأنه قطة لمحت فأرا، ولكن أعجزه السكر فمال نحو الأرض وملأ قبضته ترابا ورمى به أدهم، فأصاب صدره وانتثر على عباءته. وناداه أدهم برقة: أخي ...
فزمجر إدريس وهو يترنح: اخرس يا كلب يا ابن الكلب، لا أنت أخي ولا أبوك أبي، ولأدكن هذا البيت فوق رءوسكم!
فقال أدهم متوددا: بل أنت أكرم هذا البيت وأنبله ...
فقهقه إدريس من فيه دون قلبه وصاح: لماذا جئت يا ابن الجارية؟ عد إلى أمك وأنزلها إلى بدروم الخدم!
فقال أدهم دون أن تتغير مودته: لا تستسلم للغضب، ولا توصد الأبواب في وجه الساعين لخيرك.
فلوح إدريس بيده ثائرا وصاح: ملعون البيت الذي لا يطمئن فيه إلا الجبناء، الذين يغمسون اللقمة في ذل الخنوع، ويعبدون مذلهم. لن أعود إلى بيت أنت فيه رئيس، فقل لأبيك إنني أعيش في الخلاء الذي جاء منه، وإنني عدت قاطع طريق كما كان، وعربيدا أثيما عاتيا كما يكون، وسيشيرون إلي في كل مكان أعيث فيه فسادا ويقولون: «ابن الجبلاوي!» بذلك أمرغكم في التراب يا من تظنون أنفسكم سادة وأنتم لصوص!
صفحة غير معروفة