ووقف أدهم يوما ينظر إلى ظله الملقى على الممشى بين الورود، فإذا بظل جديد يمتد من ظله واشيا بقدوم شخص من المنعطف خلفه. بدا الظل الجديد كأنما يخرج من موضع ضلوعه. والتفت وراءه فرأى فتاة سمراء وهي تهم بالتراجع عندما اكتشفت وجوده، فأشار إليها بالوقوف فوقفت، وتفحصها مليا، ثم سألها برقة: من أنت؟
فأجابت بصوت ملعثم: أميمة.
إنه يذكر الاسم، فهو لجارية قريبة لأمه، وكما كانت أمه قبل أن يتزوج منها أبوه.
ومال إلى محادثتها أكثر، فسألها: ماذا جاء بك إلى الحديقة؟
فأجابت مسبلة الجفنين: حسبتها خالية ... - لكن ذلك محرم عليكن!
فقالت بصوت لم يكد يسمع: أخطأت يا سيدي ...
وتراجعت حتى توارت وراء المنعطف، ثم ترامى إلى أذنيه وقع أقدامها المسرعة، وإذا به يغمغم متأثرا: «ما أملحك !» وشعر بأنه لم يكن قط أدخل في خلائق الحديقة منه في هذه اللحظة، وإن الورد والياسمين والقرنفل والعصافير واليمام ونفسه نغمة واحدة. وقال لنفسه: «أميمة مليحة، حتى شفتاها الغليظتان مليحتان، وجميع إخوتي متزوجون عدا إدريس المتكبر، وما أشبه لونها بلوني! وما أجمل منظر ظلها وهو مفروش في ظلي كأنه جزء من جسدي المضطرب بالرغبات! ولن يسخر أبي من اختياري، وإلا فكيف جاز له أن يتزوج من أمي؟!»
3
رجع أدهم إلى إدارة الوقف بقلب مفعم بجمال غامض كالعبير. وحاول كثيرا أن يراجع حساب اليوم، ولكنه لم ير في صفحة عقله إلا السمراء. ولم يكن عجيبا أن يرى أميمة اليوم لأول مرة، فالحريم في هذا البيت كالأعضاء الباطنية يعرفها صاحبها على نحو ويعيش بفضلها ولكنه لا يراها، واستسلم أدهم إلى تيار أفكاره الوردية حتى انتزع منه على صوت مرعد قريب كأنما انفجر في المنظرة نفسها وهو يصيح: «أنا هنا، في الخلاء يا جبلاوي، ألعن الكل، اللعنة على رءوسكم نساء ورجالا، وأتحدى من لم تعجبه كلماتي، سامعني يا جبلاوي؟!» وهتف أدهم: «إدريس!» وغادر المنظرة إلى الحديقة فرأى أخاه رضوان متجها نحوه في اضطراب ظاهر، وبادره قائلا: إدريس سكران، رأيته من النافذة مختل التوازن من السكر، أي فضائح تخبئ الأقدار لأسرتنا؟
فقال أدهم وهو يغضي ألما: قلبي يتقطع أسفا يا أخي! - وما العمل؟! إن كارثة تتهددنا! - ألا ترى يا أخي أنه يجب علينا أن نحدث أبانا في الأمر؟
صفحة غير معروفة