هذا من التقارب حتى ينال سعف بعضه سعف بعض، وذلك هو الحصر، أي التضايق ورد عليهم علي بن حمزة البصري في التنبيهات بكلام طويل خلاصته: أن الحصر تقارب ما بين الأصول وهو مذموم، وخطأهم في زعمهم أن النخل يتناصى من الحصر لأن سبيله أن يباعد بين غرسه، ولكن من جيد نعته أن يمتد جريده ويكثر خوصه ويتصل بعضه ببعض حتى لا ترى منه الشمس، ويمنع الطير من أن تشقه، وإن ما روى عن الأصمعي على لسان النخلة نقله عنه أبو حنيفة، وهو مخالف لما نقله عنه أبو حاتم فقال: «قال الأصمعي: في مثل للفرس والنبط: تقول النخلة لأختها: تباعدي عني، وأنا أحمل حملك وحملي» أي فلم يذكر فيه تباعد الظل. ثم صوب قول المرار وقال: لا شيء أحسن من هذا الوصف للنخل، واستشهد على صحة كلامه بقول ذكوان العجلي:
نواضر غلبًا قد تدانت رءوسها ... من النبت حتى ما يطير غرابها
ترى الباسقات العم منها كأنها ... ظعائن مضروب عليها قبابها
بعيدة بين الزرع لا ذات حشوة ... قصار ولا صعل سريع ذهابها
(ومنه) قول أوس بن حجر:
كأن ريقتها بعد الكرى اعتبقت ... من ماء أدكن في الحانوت نضاح
ومن مشعشة كالمسك تشربها ... أو من أنابيب رمان وتفاح
قال أبو هلال في الصناعتين: «ظن أن الرمان والتفاح في أنابيب.
وقيل: إن الأنابيب: الطرائق التي في الرمان، وإذا حمل على هذا الوجه صح المعنى» .
(ومنه) قول بعضهم في وصف سيف:
وأبيض أخلص من ماء اليلب
قال ابن منقذ في كتاب البديع: «والسيوف لا تعمل من ماء اليلب لأن اليلب جلود تتخذ منها دروع منسوجة، فتوهم الشاعر أنها حديد» . ورواه القاضي الجرجاني في الوساطة: (ومحور) بدل وأبيض، ولعل المراد الحديدة التي تدور عليها البكرة، وقد خطأه فيه أيضًا فقال: «جعل اليلب حديدًا وهي سيور» .
قلنا: هما تابعان في ذلك لابن دريد لأن اليلب ليس عنده الحديد. وذهب غيره إلى أنه الحديد، وفسره به في قول عمرو بن كلثوم:
علينا البيض واليلب اليماني ... وأسياف يقمن وينحنينا
وعلى هذا فلا خطأ، ولكن ابن السكيت خطأ الراجز من وجه آخر فقال بعد ذكره لبيت ابن كلثوم: سمعه بعض الأعراب فظن أن اليلب أجود الحديد فقال: (ومحور أخلص من ماء اليلب) وهو خطأ إنما قاله على التوهم. انتهى.
(ومنه) قول زهير:
يحيل في جدول تحبو ضفادعه ... حبو الجواري ترى في مائه نطقا
يخرجن من شربات ماؤها طحل ... على الجذوع يخفن الغم والغرقا
ففي العقد والوساطة والوشح وسر الفصاحة والموازنة والصناعتين وطبقات الشعراء لابن قتيبة: أنه أخطأ في ظنه أن الضفادع تخرج من الماء مخافة الغم والغرق، وإنما تخرج لتبيض وتفرخ في الشطوط. وقال الأعلم في شرحه لديوان زهير: «قوله: يخفن الغم والغرقا توهم أن خروج الضفادع مخافة الغرق فغلط، ويقال: إنما قال ذلك ليخبر بكثرة الماء وانتهائه، فأشار إلى ذلك بذكره الغرق وإن كانت لا تخاف ذلك»، ونحوه في العمدة لابن رشيق، وخلاصة ما قال: إنه لم يرد أن تخاف الغرق على الحقيقة، وإنما أراد المبالغة في كثرة ماء هذه الشربات، واقتدى فيه بقول أوس بن حجر:
فباكرن جونًا للعلاجيم فوقه ... مجالس غرق لا يحلا ناهله
(ومما أخذوه) على طرفة قوله في وصف ناقته:
وأتلع نهاض إذا صعدت به ... كسكان بوصي بدجلة مصعد
أراد لها عنق أتلع: أي طويل يرتفع إذا أشخصته في سيرها، فهو كسكان سفينة مصعدة في دجلة، والسكان (بضم الأول وتشديد الكاف): ذنب السفينة الذي يقوم به سيرها ويعدل، ويقال له أيضًا: الخيزرانة والكوثل، وتسمية العامة بمصر الآن (الدفة) فذهب القاضي الجرجاني في الوساطة إلى أنه أخطأ، لأنه أراد تشبيه عنقها بالدقل: أي خشية الشراع، فذكر بدله السكان.
1 / 9