قلنا: ولا ريب في خطئه إذا كان أراد ذلك، غير أن البيت يحتمل وجهين آخرين لا خطأ فيهما، أحدهما: أن يكون شبهه بالسكان نفسه، أي الذنب لا الدقل، وهو ما يؤخذ من معاجم اللغة وشروح المعلقات التي بأيدينا. والثاني: أن يكون شبهه بالسكان مريدا به شيئًا آخر غير الذنب، وهو المفهوم من شرح الأعلم الشنتمري لديوان طرفة، فقد فسر السكان في هذا البيت بعود المركب. والمتبادر أنه يريد بالعود شيئًا كالدقل، أي (الصاري) وهو تفسير كاد يتفرد به، ولم نقف على ما يماثله سوى في قول علي بن حمزة في التنبيهات: «شبه عنقها بسكان سفينة من سفن دجلة، وربما كان أطول من الدقل وشر أحواله أن يكون بطول الدقل» انتهى. فدل بقوله هذا على أنه شيء يشبه الدقل، ولكنه أطول منه، وقد يكون بطوله في أقل حالاته، ولا يخفى أن الذنب له طرف قائم، ولكنه لا يبلغ في حال من الأحوال مثل هذا الطول، فلا ريب في أن المراد بالسكان في هذا القول شيء غيره، ولعله العود الطويل الذي يمد عليه الشراع ثم يناط معترضنا بالدقل. وتسمية العامة بمصر: (القرية) فإنها تكون عادة أطول من (الصاري)، وهي محرفة عن (القرية) بفتح فكسر وتشديد الياء. وقد فسرت في اللغة بعود الشراع الذي في عرضه من أعلاه، غير أننا لم نر من نص على تسمية هذا العود بالسكان أيضًا فليحقق.
(ومنه) قول عنترة:
وخلا الذباب بها فليس يبارح ... غردًا كفعل الشارب المترنم
هزجًا يحك ذراعه بذراعه ... قدح المكب على الزناد الأجذم
أي أن الذباب يصوره حال حكه إحدى ذراعيه بالأخرى، مثل قدح رجل ناقص اليد قد أقبل على قدح الزناد. وجاء في مجلة البيان للعلامة اليازجي: أن صوت البعوض والذباب والنحل وأشباهها يحدث من اهتزاز أجنحتها في الهواء على حد ما يكون من أجنحة الحمام. وعلى هذا ففي قول عنترة تناقض ظاهر لأنه لا يمكن أن يحك الذباب إحدى ذراعيه بالأخرى إلا وهو واقع، ومتى كان واقعا تكون أجنحته ساكنة فلا يمكن أن يصوت، ولكن عنترة توهم أن صوته من حنجرته فلم يمتنع عنده الجمع بين هاتين الحاليتين. انتهى بمعناه وأكثر لفظه.
القسم الثالث
ومن أسباب الوهم في المعاني استهواء المبالغة للشاعر، وتجاوزها به حدًا إذا تعداه عكس عليه مقصده، كما فعل امرؤ القيس لما أراد المبالغة في وصف ذنب فرسه بالطول فقال:
لها ذنب مثل ذيل العروس ... تسد به فرجها من دبر
يريد بالفرج: الفضاء الذي بين الرجلين، وإذا كان الذنب كثيفًا طويلًا سد هذا الفضاء حتى لا يبين. وطول الذنب مستحب في الخيل، ومن دلائل عتقها وكرمها، ولكن إلى حد ألا يكون كذيل العروس يجر على الأرض لأنه إذا بلغ الأرض وطئه الفرس برجله، وربما عثر به، وهو عيب. وتبعه في ذلك من المولدين البحتري فقال:
ذنب كما سحب الرداء يذب عن ... عرف وعرف كالقناع المسبل
والجيد من ذلك قول امرئ القيس في المعلقة:
صليع إذا استدبرته سد فرجه ... بضاف فويق الأرض ليس بأعزل
1 / 10