وكما أن طول الذنب غير ممدوح في الإبل فإن كثرة شعره غير ممدوح أيضًا في نجائبها، وقد جمعهما طرفة لناقته فقال:
كأن جناحي مضرحي تكنفا ... حفافيه شكا في العسيب بمسرد
أي كأن جناحي نسر عتيق عظيم تكنفا جانبي هذا الذنب وشكا في عظمه بمخصف. قال المزرباني في الموشح: «إنما توصف النجائب برقة شعر الذنب وخفته، وجعله هذا كثيفا طويلا عريضا» ومثله في الصناعتين لأبي هلال. وقال التبريزي في شرح المعلقات: «قال الأصمعي: يستحب من المهارى أن تقصر أذنابها، وقل ما ترى مهريًا إلا ورأيت ذنبه أعصل كأنه أفعى» إلا أنه قال بعد ذلك: «وقال غيره: كل الفحول من الشعراء وصفوا الأذناب بكثرة الهلب، منهم امرؤ القيس وطرفة وعيينة بن مرداس وغيرهم» .
قلنا: ولا نخالهم فعلوا ذلك إلا للمبالغة فيما كان الأولى فيه القصد. ومن هذا النوع قول ذي الرمة في ناقته:
تصغى إذا شدها بالكور جانحة ... حتى إذا ما استوى في غرزها تثب
يقول: هي مؤدبة ليس بنفور تميل رأسها لصاحبها كأنها تستمع إذا شدها بالرحل، ثم أراد أن يصفها بالنشاط فجعلها تثب عند وضع رجله في ركابها، وهي مبالغة جعلت نشاطها هوجًا ورعونة. وفي العقد الفريد والموشح: أن أعرابيًا سمعه ينشد هذا البيت فقال: صرع والله الرجل. وقيل: إنه أنشده أبا عمرو بن العلاء فقال له: ما قاله عمك الراعي أحسن مما قلت، وهو:
ولا تعجل المرء قبل الورو ... ك وهي بركبته أبصر
وهي إذا قام في غرزها ... كمثل السفينة أو أوقر
فقال ذو الرمة: إن الراعي وصف ناقة ملك، وأنا أصف ناقة سوقة.
قال المزرباني في الموشح: «أراد أن يحتال فلم يصنع شيئًا» . وذهب علي بن حمزة البصري في التنبيهات إلى أنه لم يخطئ، وأن ما روى عنه من الاعتذار حكاه الأصمعي فكذب فيه، وأن مراد ذي الرمة حتى إذا ما استوى على ظهرها، وإذا كان كذلك فقد استوى في غرزها، ثم قال: «وأبو عمرو مع عيبه بيت ذي الرمة قد أنشد مثله في نوادره، بل هو أشد سرعة من بيت ذي الرمة، وهو:
إذا وضعت في غرزها الرجل أجفلت ... كما أجفلت بيدانة أم تولب
ثم لم يعب هذا البيت» انتهى.
ولو قال قائل: ما المانع من أن يكون أكثر ما ذكر في هذا القسم والذي قبله لم يرد به قائلوه إلا ذكر الواقع، فما على من كانت ناقته ضخمة المقلد، أو فرسه مسحوب الذنب على الأرض إذا وصفهما بحقيقة ما فيهما.
قلنا: لو كانوا أرادوا ذلك لما وجد العلماء سبيلا إلى تخطئتهم والنعى عليهم، كما فعلوا مع من نهج منهج الحقيقة من الشعراء، وإنما أخذوا على هؤلاء ما أخذوه، لأنهم ذكروا أشياء حاولوا وصفها بما يحمد في نوعها، فتخيلوا لها أحسن ما تنعت به من النعوت، ولحقهم الخطأ في بعضها لجهلهم بخصائص ما ينعتون، ولو أن رؤبة أراد وصف ذاك الفرس بحقيقة ما فيه لما قال لمن خطأه: «أي بني لا علم لي بالخيل، ولكن ادننى من ذنب البعير» كما تقدم.
القسم الرابع
ومن الأوهام في المعاني ما لا يرجع لسبب من الأسباب المتقدمة فلا يصح عده من أحد أقسامها، كأن يصنع الشاعر لفظة في موضع لا تصلح له لجهله بالشيء كما تقدم، بل لسهو أو لخطإ في تقديره، أو أن يسئ في التعبير إساءة تحيل المعنى وتفسده، إن لم تعكس الغرض المقصود منه، أو أن يأتي بكلام متلائم الأجزاء، أو فاسد التقسيم، أو التشبيه أو غير ذلك مما يشبهه ويجري مجراه. وكثيرًا ما تنشأ هذه الأوهام من التساهل، إما لثقة الشاعر بقدرته وبمكانة شعره في النفوس، أو لكلال يلحق طبعه في بعض الأحيان فيلقي بالكلام على عواهنه في البيت والبيتين من القصيدة، ثم تمنعه تلك الثقة أو الضجر أو ضيق وقت من إعادة النظر فيما قال.
(فمن ذلك) قول النابغة الذبياني:
ماضي الجنان أخي صبر إذا نزلت ... حرب يوائل منها كل تنبال
يوائل: يطلب الموئل، وهو الملجأ. والتنبال: القصير، أو الجبان وذكره هنا مفسد لمعنى البيت قال أبو هلال: «ليس القصير بأولى بطلب الموئل من الطويل، وإن جعل التنبال الجبان فهو أبعد من الصواب لأن الجبان خائف وجل اشتدت الحرب أم سكنت» . ومثله في الموشح للمزرباني.
وقال النابغة أيضًا يصف ناقته:
تحيد عن أستن سود أسافله ... مشى الإماء الغوادي تحمل الحزما
1 / 12