وإلى نهاية العصور الوسطى ظل الزواج في أغلبية الحالات عملا لا يقرره الطرفان الرئيسيان فيه.
من كل ما سبق يتضح أن الإنسان كان في البداية يولد متزوجا من كل مجموعة الجنس الآخر. ومن المحتمل أن علاقات خاصة قد نشأت في الشكل الأخير من الزواج الجماعي مع تضييق مستمر في نطاق الجماعة.
وفي مرحلة العائلة المكونة من فردين كانت القاعدة هي قيام الأمهات بتنظيم زواج الأولاد، وكانت تراعي مسألة إنشاء روابط جديدة لتقوية مركز الزوجين في القبيلة. وعندما حلت الملكية الفردية محل الملكية الجماعية، وظهرت المصلحة في الميراث، ظهرت العائلة المنتسبة للأب، ثم ظهر الزواج الحديث فأصبح الزواج مؤسسا على اعتبارات اقتصادية أكثر من أي وقت مضى. ومع أن الزواج بالشراء قد اختفى فقد اتجه المجتمع الجديد بدرجة متزايدة إلى تقدير المرأة والرجل على السواء بما يملكان وليس بشخصيتهما. ولم تعد لفكرة العواطف المتبادلة أي حساب في الحياة العملية للطبقات الحاكمة، ولم تجد هذه العواطف لها مجالا إلا في قصص الفروسية وبين الطبقات المحكومة التي لا يحسب لها حساب.
وقد ظل الوضع على ما هو عليه في ظل المجتمع الرأسمالي عندما بدأت الاكتشافات الجغرافية، وبدأت الرأسمالية تغزو العالم عن طريق الصناعة والتجارة، وقد يظن المرء أن الزواج الحديث كان الشكل العائلي الذي يناسب المجتمع الرأسمالي (وكم يتهكم التاريخ في سخرية من هذا الظن). ولكن الإنتاج الرأسمالي حول كل الأشياء إلى سلع تباع وتشترى؛ فتحللت بذلك كل العلاقات التقليدية، وحل البيع والشراء محل التقاليد الموروثة، وأصبح «التعاقد الحر» أساس المجتمع، وقد ظن القانوني الإنجليزي
H. S. Maine
أنه توصل إلى اكتشاف عبقري حين قال: «إن كل التقدم الذي أحرزه المجتمع الحالي إذا قارناه بالأزمنة القديمة يتلخص في أننا خرجنا من الأوضاع القديمة إلى العقد، ومن حالة موروثة في الحياة العملية إلى حالة يتعاقد عليها الناس اختياريا.» ولكن العبقري الإنجليزي نسي أن عقد العقود يفترض في الناس أنهم يتصرفون في أنفسهم وأعمالهم وأموالهم في حرية، ويلاقون بعضهم بعضا في ظروف متساوية كما كانت الرأسمالية تتشدق دائما بأن هدفها هو خلق مثل هؤلاء الأحرار المتساوين. ومع أن هذه المساواة حدثت في البداية بطريق نصف واعية في شكل ديني، فرغم ذلك نجد أنه منذ حركة لوثر وكالفن الإصلاحية أصبح من المبادئ الثابتة مسئولية الإنسان الكاملة عن عمله إذا كانت لديه الحرية الكاملة وقت إظهار إرادته. ولكن كيف يتفق ذلك مع التطبيق السابق للزواج؟ طبقا للتفكير البورجوازي يعتبر الزواج عقدا لأنه يتصرف في جسد وعقل شخصين مدى الحياة، ومن الصحيح من الناحية الشكلية أن المساومة على العقد كانت تجري باختيار الطرفين وليس دون موافقتهما. أما كيف كانت تتم هذه الموافقة ومن هو الذي كان ينظم الزواج حقيقة؟ فمعروف جيدا.
ولكن إذا كانت الحرية الحقيقية مطلوبة في كل العقود الأخرى فلماذا لا توجد في عقد الزواج؟! أليس للشابين اللذين على وشك الزواج الحق في التصرف بحرية في أنفسهما؟! ألم يصبح الحب الجنسي هو الموضة نتيجة لعهد الفروسية؟! ألم يكن حب الزوج والزوجة هو الشكل البورجوازي لحب الفروسية بدلا من حب الفرسان المدنس بالزنا؟! وإذا كان من واجب الزوجين أن يحبا بعضهما أليس من واجب الحبيبين أن يتزوجا بعضهما وليس أي إنسان آخر؟! أليس حق هؤلاء المحبين أقوى من حق الوالدين والأقارب وغيرهم من سماسرة الزواج؟! وإذا كان الاختيار الحر قد أخذ طريقه غير مكترث بالكنيسة أو العقيدة فكيف وقف عند اعتراض الجيل الأكبر وادعائه حق التصرف في جسد وروح وسعادة وشقاء وملكية الجيل الأصغر؟!
ظهرت هذه الأسئلة في فترة تفككت فيها كل الروابط الاجتماعية القديمة واصطدمت فيها أسس كل الأفكار التقليدية، فبضربة واحدة ازداد حجم العالم إلى عشرة أمثاله.
15
وبدلا من ثمن بسيط من الكرة الأرضية كانت تشغله أوربا أصبحت السبعة الأثمان الأخرى مفتوحة أمامها. واختفت الحدود التي فرضها الإقطاع في العصور الوسطى بنفس الطريقة التي اختفت بها الحدود الضيقة القديمة للوطن. وفتح الأفق المتسع عيون الرجال في الداخل والخارج، واجتذبت ثروات الهند ومناجم الذهب والفضة في المكسيك المغامرين من كل أنحاء أوربا؛ فقد كانت الفترة هي فترة المغامرات الفروسية البورجوازية، وكانت لها قصصها البطولية وأحلامها العاطفية ولكن على أساس بورجوازي.
صفحة غير معروفة