1 - مراحل التطور فيما قبل التاريخ
2 - العائلة
3 - السلالة الإيروكيوسية
4 - السلالة الإغريقية
5 - قيام الدولة في أثينا
6 - السلالة والدولة في روما
7 - السلالة عند السلت الألمان
8 - تكوين الدولة عند الألمان
9 - البربرية والمدنية
1 - مراحل التطور فيما قبل التاريخ
2 - العائلة
3 - السلالة الإيروكيوسية
4 - السلالة الإغريقية
5 - قيام الدولة في أثينا
6 - السلالة والدولة في روما
7 - السلالة عند السلت الألمان
8 - تكوين الدولة عند الألمان
9 - البربرية والمدنية
أصل نظام الأسرة والدولة والملكية الفردية
أصل نظام الأسرة والدولة والملكية الفردية
تأليف
فريدريك إنجلز
تتضمن الفصول القادمة تحقيقا لغاية معينة بطريقة ما، ولم يكن في استطاعة أي شخص إلا ماركس أن يقدم النتائج التي وصل إليها مورجان في أبحاثه العلمية، وقد قام ماركس بهذا التقديم عن طريق النتائج التي توصل إلى تحقيقها.
وإلى حد ما أستطيع أن أكتب عن النتائج التي توصلنا إلى تحقيقها خلال أبحاثه المادية في التاريخ. وقد أعاد مورجان اكتشاف النظرية المادية للتاريخ بطريقته الخاصة في أمريكا، وهي النظرية التي اكتشفها ماركس قبل ذلك بأربعين عاما. وقد عقد مورجان مقارنة بين مرحلتي البربرية والمدنية، توصل فيها، عن طريق النظرية المادية، إلى نفس النتائج التي توصل إليها ماركس في النقط الرئيسية. وكما كان كتاب «رأس المال» لمدة سنين طويلة موضع إلهام وتجاهل من الاقتصاديين الرسميين بألمانيا، كذلك كان كتاب مورجان «المجتمع القديم»
1
موضع نفس المعاملة من التشويق بعلوم ما قبل التاريخ في إنجلترا.
ولا يستطيع كتابي هذا إلا أن يقدم مساهمة بسيطة تنضاف إلى ذلك الكتاب الذي لم يقدر لصديقي الراحل ماركس أن يتمه. وعلى أي حال فأمامي تعليقات كثيرة كتبها ماركس تعليقا على كتاب مورجان، وسأحاول تقديم هذه التعليقات في كتابي كلما كان ذلك ممكنا.
وطبقا للنظرية المادية في التاريخ، يعتبر هو الإنتاج، وإعادة إنتاج الحياة الحالية، ولكن هذا نفسه ذو طبيعة مزدوجة؛ إذ نجد من ناحية إنتاج وسائل المعيشة كالطعام والملبس والمأوى والأدوات اللازمة لذلك، ونجد من ناحية أخرى إنتاج البشر أنفسهم (أي التناسل) ويعني ذلك جميع الأنواع.
وإن النظم الاجتماعية التي يعيش الناس في ظلها في فترة تاريخية معينة في بلد معين يحكمها كلا النوعين السابقين من الإنتاج؛ إذ تحكم وسائل إنتاج المعيشة المجتمع عن طريق مرحلة تطور العمل، وتحكمه وسائل إنتاج الأفراد عن طريق النظام العائلي. وبقدر ما يكون العمل غير متطور، وبقدر ما يكون نطاق إنتاجه محدودا، أي بقدر ما تكون ثروة المجتمع محدودة، بقدر ما يزداد ظهور النظام الاجتماعي محكوما بالروابط الجنسية. وخلال هذا البناء الاجتماعي الذي تحكمه الروابط الجنسية تنمو القوة الإنتاجية للعمل أكثر فأكثر، وتنمو معها الملكية الخاصة والتبادل والاختلاف في الثروة واحتمال استخدام قوة عمل الآخرين؛ ولذلك تظهر أسس الصراع الطبقي مع تطور المجتمع، وتظهر عناصر اجتماعية جديدة تكافح على مدى الأجيال؛ لتجعل الصرح القديم للمجتمع متمشيا مع الظروف الجديدة إلى أن يقود التناقض بين الاثنين في النهاية إلى ثورة كاملة.
ويتحطم المجتمع القديم المبني على الروابط الجنسية نتيجة الصدام بين الطبقات الاجتماعية الحديثة النمو، ويظهر في مكانه مجتمع جديد مكون على شكل دولة وتصبح وحداته الدنيا مجموعات إقليمية بعد أن كانت مجموعات جنسية، ويتحكم نظام الملكية في المجتمع الجديد في النظام العائلي، ويصبح الصراع الطبقي مادة التاريخ المكتوب، وهذا هو ما حدث للمجتمع ووصلنا تاريخيا إلى الآن.
ويرجع الفضل الأكبر لمورجان إلى اكتشافه وإعادة تنظيمه للأسس الرئيسية لما قبل التاريخ في تاريخنا المكتوب، كما أنه وجد في المجموعات الجنسية القائمة لدى هنود شمال أمريكا مفتاح أهم وأغمض نقط التاريخ اليوناني والروماني والألماني القديم التي لم تكن معروفة قبلا. ولم يكن كتابه عمل يوم واحد، فقد عاش مع محتوياته حوالي أربعين عاما حتى فهمها واستوعبها، وهذا هو السبب في أن كتابه يعتبر أحد الكتب القليلة التي تعتبر صانعة العصور في وقتنا هذا.
وفي العرض التالي للكتاب سيستطيع القارئ أن يميز بين ما أخذته من مورجان وما أضفته من عندي، ففي الأجزاء التاريخية الخاصة بالإغريق والرومان لم أقتصر على ما كتبه مورجان وأضفت ما عندي من معلومات، أما الأجزاء الخاصة بالألمان والسلت فهي من وضعي كلية، وإذا ما ذكرنا الألمان فلا نجد لدينا عنهم من المعلومات إلا تلك المعلومات الزائفة الجديرة بالشفقة التي ساقها السيد فريمان - مع استثناء ما كتبه تاسيتس - وقد قمت بتصحيح النتائج التي اكتفى بها مورجان والتي لم أكتف بها من الناحية الاقتصادية. •••
وأخيرا فأنا أعتبر نفسي مسئولا طبعا عن كل النتائج التي سقتها ولم يكن مورجان هو مرجعي فيها.
إنجلز
الفصل الأول
مراحل التطور فيما قبل التاريخ
كان مورجان هو أول شخص ذو معرفة صحيحة حاول أن يقدم تقسيما دقيقا لمراحل حياة الإنسان فيما قبل التاريخ. ورغم أن هناك مواد هامة كان يجب أن تضاف إلى تقسيم مورجان إلا أن هذا التقسيم ما زال صحيحا.
أما عن عصور التطور الرئيسية الثلاث، وهي الوحشية والبربرية والمدنية، فلم يهتم مورجان إلا بالعصرين الأولين، وبالانتقال إلى العصر الثالث. ويقسم مورجان كلا من هذين العصرين إلى ثلاث مراحل، دنيا ووسطى وعليا، طبقا لمدى تقدم الإنسان في إنتاج وسائل المعيشة؛ لأنه كما يقول مورجان: «على مهارة الإنسان في هذا الاتجاه تتوقف كل مسألة وجود الإنسان على الأرض، فإن الجنس البشري هو مجرد كائنات يمكن القول بأنها قد اكتسبت سيطرة مطلقة على إنتاج الغذاء، وقد تحددت العصور الكبرى للتقدم الإنساني حسب اتساع مصادر وسائل العيش.» ويستمر تطور النظام العائلي بصفة مستمرة بجانب تطور وسائل الإنتاج، ولكن تطور العائلة لا يقدم لنا أسسا واضحة في تحديد مراحل التطور التاريخي.
عصر الوحشية
المرحلة الدنيا:
طفولة الجنس البشري، وفيها كان الإنسان ما زال يعيش في الكهوف من الغابات الاستوائية وغيرها، ويسكن أحيانا في الأشجار، وهذا يشرح لنا لماذا كان الإنسان في هذه المرحلة ضحية مستمرة للوحوش المفترسة. وكان الإنسان يأكل الفواكه ومنتجات الطبيعة. وكان تقسيم الحديث إلى كلمات هو النجاح الرئيسي للإنسان في هذه الفترة. ولم توجد في هذه الفترة البدائية أي من الشعوب التي عرفها التاريخ. ومع أن هذه المرحلة يحتمل أنها استمرت آلاف السنين، فليس لدينا حقائق مباشرة عن وجودها، ولكن ما دمنا نعترف بتسلسل الإنسان من مملكة الحيوان فإن الاعتراف بوجود هذه المرحلة الانتقالية أمر لا بد منه.
المرحلة الوسطى:
وتبدأ باستخدام الأسماك والحيوانات المائية الأخرى في الطعام، واستخدام النار في طهي الطعام، وقد قلل هذا الطعام الجديد من اعتماد الإنسان على المناخ والظروف المحلية. وبتتبع الإنسان للأنهار وسواحل البحار بحثا عن الأسماك أصبح في استطاعته حتى في هذه المرحلة الوحشية أن ينتشر في الجزء الأكبر من سطح الأرض.
وتعتبر الأحجار غير المصقولة التي استخدمها الإنسان في العصر الحجري القديم المسمى باليولتيك، والتي تنتمي إلى هذه الفترة والموجودة بجميع القارات، تعتبر هذه الأحجار دليلا على انتشار الإنسان في بقاع الأرض. وقد توصل الإنسان في مواطنه الجديدة إلى فن إشعال النار عن طريق الاحتكاك، وتناول أطعمة جديدة مثل مسحوقات الجذور النباتية المطهية. أما الشعوب التي تعيش على الصيد وحده فلم توجد إطلاقا في هذه الفترة؛ لأن ثمار الصيد كانت تعتمد على المصادفة غير المضمونة؛ مما يجعل وجود شعب يعتمد على الصيد وحده مستحيلا. ونظرا لعدم ضمان موارد الطعام فمن المحتمل أن أكل لحوم البشر قد عرف في هذه الفترة، وما زال الأستراليون الأصليون يعيشون حتى يومنا هذا في المرحلة الوسطى من الوحشية.
المرحلة العليا:
وتبدأ باختراع القوس والسهم، حيث أصبحت ثمار الصيد عنصرا أساسيا في الطعام، وأصبح الصيد مهنة منتشرة. ولقد كان اختراع القوس والسهم نتيجة تجارب كثيرة ساعدت على شحذ القوى العقلية مما نتج عنه اختراعات أخرى. وكانت الشعوب في هذه الفترة، رغم تعودها على استعمال القوس والسهم، لم تصل بعد إلى فن صناعة الآنية الذي يعتبره مورجان «نقطة الانتقال إلى عصر البربرية». وحتى في هذه المرحلة المبكرة نجد بداية استقرار الإنسان في قرى، ودرجة معينة من المهارة في إنتاج الأشياء المساعدة في الحياة مثل الأوعية الخشبية والمصنوعات اليدوية والآلات الحجرية المصقولة، كما استخدمت النار والمعاول الحجرية في صنع القوارب البدائية المحفورة في الخشب، كما استخدم الخشب في بناء المساكن. ويمكن مشاهدة كل آثار هذا التقدم بين هنود شمال غرب أمريكا مثلا، فهم لا يعرفون شيئا عن صناعة الآنية «نقطة الانتقال للبربرية كما سبق» رغم قدم استخدامهم للقوس والسهم. لقد كان القوس والسهم بالنسبة لعصر الوحشية مثل السيف الحديدي بالنسبة لعصر البربرية، والأسلحة النارية بالنسبة لعصر المدنية؛ أي أنه كان السلاح الفعال.
عصر البربرية
المرحلة الدنيا:
وتبدأ منذ بدء صناعة الآنية التي نجد أصل صناعتها في معظم الحالات - أو ربما كلها - بدأ بصناعة السلال والأوعية الخشبية بجانب الأوعية الحجرية؛ فقد اكتشف الإنسان أن المواد غير الحجرية يمكن أن تؤدي نفس الغرض.
وإلى هذه النقطة من التطور البشري يمكن القول إن مدى التطور واحد في كل الشعوب في هذه المرحلة بصرف النظر عن الظروف المحلية. وبتقدم البربرية نصل إلى مرحلة يبدأ فيها الفرق بين الموارد الطبيعية للقارتين الكبيرتين: «العالم القديم من جهة والأمريكتين من جهة أخرى»، يبدأ هذا الفرق في الوضوح. وتعتبر المميزات الأساسية للبربرية هي استئناس وتربية الحيوانات وزراعة النباتات.
وقد كانت القارة الشرقية المسماة الآن بالعالم القديم تحتوي تقريبا على كل الحيوانات الممكن استئناسها وكل النباتات الممكن زراعتها مع استثناء واحد. في حين أن القارة الغربية «الأمريكتين» لم يكن بها إلا حيوان واحد يمكن استئناسه هو اللاما وفي جزء فقط من الجنوب، كما لم يكن بها نبات واحد صالح للزراعة، وإن كان أفضل النباتات وهو القمح الهندي. وكان أثر هذا الاختلاف الطبيعي في الظروف أن سار سكان كل قارة في طريق مختلف، واختلفت الحدود المميزة للمراحل المختلفة في كل قارة.
المرحلة المتوسطة:
وتبدأ في الشرق باستئناس الحيوانات، وفي الغرب بزراعة النباتات الصالحة للغذاء عن طريق وسائل الري وباستخدام الطوب النيء والأحجار في البناء.
وسنبدأ بالغرب لأن هذه المرحلة ظلت في الغرب على ما هي عليه ولم تتطور إطلاقا حتى الاكتشاف الأوربي لأمريكا. فعند الاكتشاف كان الهنود الحمر في المرحلة الدنيا من البربرية في كل منطقة شرق نهر المسيسبي، وكانوا مستقرين إلى حد معين في زراعة القمح الهندي وأحيانا النباتات المتسلقة والشمام وغيرها مما كان يكون الجزء الأكبر من طعامهم، وكانوا يعيشون في مساكن خشبية في قرى محاطة بأسوار. وكانت قبائل الشمال الغربي وخاصة سكان منطقة نهر كولومبيا لا تزال في المرحلة العليا من الوحشية، ولم تكن تعرف أي شيء عن صناعة الآنية أو أي نوع من الزراعة. وكان هنود المكسيك المسمون بويبلو وهنود وسط أمريكا وسكان بيرو - في المرحلة الوسطى للبربرية عند الاكتشاف الأوربي لأمريكا، وكانوا يعيشون في مساكن مبنية بالطوب النيء والحجارة، وكانوا يعتمدون على الري الصناعي، ويزرعون القمح الهندي وغيره من النباتات الصالحة للطعام والتي تختلف باختلاف المناخ والظروف المحلية، وكانت هذه النباتات هي المصدر الأساسي لغذائهم، كما استأنسوا بعض الحيوانات القليلة، فقد استأنس المكسيكيون الديوك الرومية وغيرها من الطيور، كما استأنس سكان بيرو اللاما.
وكانوا علاوة على ذلك يستخدمون المعادن عدا الحديد؛ مما كان سببا في عدم استغنائهم عن الأسلحة والآلات الحجرية. وقد وضع الاستعمار الإسباني حدا لهذا التطور المستقل في هذه المناطق.
وفي نصف الكرة الشرقي بدأت المرحلة الوسطى من البربرية باستئناس الحيوانات التي يؤخذ منها اللبن واللحوم، في حين ظلت الزراعة غير معروفة إلى وقت متأخر جدا من هذه المرحلة. والظاهر أن تربية واستئناس حيوانات الركوب كان سببا في الاختلاف بين الآريين والساميين في الجماعات الحالية من البربريين.
ولا تزال أسماء حيوانات الركوب متشابهة عند الأوربيين والآريين الآسيويين على عكس أسماء النباتات الزراعية.
وقد كان تكوين القطعان الحيوانية في الأماكن المناسبة لذلك سببا في حياة الرعي عند الجنس السامي في السهول المليئة بالحشائش عند نهر الفرات وغيره، كما كانت سببا في حياة الرعي عند الآريين في سهول الهند، وعند الإكسس والجكارتس في سهول نهري الطونه والدنيبر. ومن المحتمل أن أول استئناس للحيوانات تم في هذه المراعي. وقد كانت الأجيال الأخيرة من الشعوب التي تعيش على الرعي والتي نشأت في مناطق غير المناطق المعتبرة المهد الأول للإنسان، يظهر أن هذه الأجيال كانت غير مستقرة في مرحلتها الوحشية وحتى في المرحلة الدنيا من البربرية. وعلى العكس من ذلك فحينما اعتاد المتبربرون في المرحلة الوسطى على حياة الرعي لم يحاولوا الهجرة من السهول المليئة بالحشائش والمياه والعودة إلى الغابات التي كانت مهد أسلافهم. وحينما انتشر الآريون والساميون في الشمال والغرب من آسيا وأوربا أصبح في استطاعتهم إطعام حيواناتهم بالنباتات المنزرعة في المناطق الجديدة التي انتشروا فيها والتي كانت أقل صلاحية من المراعي وخاصة لقضاء فصل الشتاء. ومن الأمور المحتملة جدا أن زراعة النباتات كان الغرض منها أولا توفير العلف للحيوانات ثم أصبحت مصدرا لغذاء الإنسان.
وقد تكون الفائدة الغذائية العظيمة للحم واللبن، وخاصة في تنمية الأطفال، سبب تفوق الآريين والساميين على غيرهما من الأجناس؛ فنجد مثلا أن هنود المرحلة الدنيا من البربرية في أمريكا، والذين كانوا يأكلون اللحوم والأطعمة الطازجة، كان حجم المخ البشري عندهم أكبر من حجمه عند هنود المكسيك البويبلو. وقد اختفى أكل اللحوم البشرية تدريجيا في هذه المرحلة ولم يبق إلا بمثابة طقوس دينية لدى السحرة.
المرحلة العليا:
وتبدأ باستخدام الحديد، وتدخل هذه المرحلة في عصر المدنية عن طريق اختراع الحروف الكتابية واستخدامها في تدوين الآداب. وفي هذه المرحلة التي امتدت - كما سبق الإشارة - في النصف الشرقي فقط من العالم حدث تطور في الإنتاج يفوق التطور الذي حدث في كل العصور السابقة مجتمعة، وإلى هذه المرحلة ينتمي إغريق العصر البطولي
1
والقبائل الإيطالية السابقة على تأسيس روما بفترة قصيرة والألمان أيام تاسيتس. وفي هذه الفترة ظهر للمرة الأولى المحراث الحديدي الذي تجره الحيوانات؛ مما كان سببا في تمهيد الأرض للزراعة على نطاق واسع وحصول الإنسان على موارد غير محدودة للغذاء، كما قام الإنسان بقطع أشجار الغابات وتحويلها إلى أرض زراعية، مما لم يكن ممكنا حدوثه دون استخدام الفئوس وآلات الحرث الحديدية «ولذا اعتبر استخدام الحديد بداية لهذه المرحلة.» ورغم هذه الموارد الغزيرة حدثت زيادة سريعة في عدد السكان وكثافتهم في مساحات صغيرة. وحسب ما نعلم لم يتعد عدد السكان في أي منطقة النصف مليون إلا في حالات قليلة جدا وربما لم يحدث ذلك أبدا.
وفي أشعار هوميروس «شاعر الإغريق الشهير» وخاصة الإلياذة نجد المرحلة العليا للبربرية في قمة ازدهارها؛ فقد جاء في هذه الأشعار وصف الآلات الحديدية التي تحسن صنعها كالعجلات، وكذلك صنع الزيت والنبيذ، والصناعات الحديدية التي تطورت إلى فنون، والعربات والعجلات الحربية، وبناء السفن، وبدء الفن الهندسي، وبناء المدن ذات الأسوار والأبراج الدفاعية. وتعتبر كل هذه الأشياء مضافا إليها قصص هوميروس التاريخية وعلم الخرافات - الميراث الرئيسي الذي حمله الإغريق في انتقالهم من البربرية إلى المدنية. وإذا قارنا بذلك وصف سيزار أو تاسيتس للألمان الذين كانوا على أبواب تلك المرحلة التي كان الإغريق أيام هوميروس يستعدون لاجتيازها إلى مرحلة المدنية، لرأينا إلى أي حد كان التطور الإنتاجي غنيا في المرحلة العليا من البربرية.
وإن صورة التطور الإنساني خلال عصري الوحشية والبربرية إلى بداية المدنية، تلك الصورة التي نقلتها فيما سبق عن مورجان، تعتبر كافية بما لا يقبل الشك لأنها مأخوذة رأسا من الإنتاج، ولو كان الأمر غير ذلك لبدت ضعيفة إذا ما قورنت بالصورة المكونة في نهاية رحلتنا هذه. ولأن هذه الصورة مأخوذة رأسا من الإنتاج يمكنها أن تعطي فكرة كاملة عن الانتقال من البربرية إلى المدنية والتعارض بينهما.
والآن نستطيع أن نوجز تقسيم مورجان فيما يلي:
الوحشية:
حيث يعيش الإنسان على ما تنتجه الطبيعة دون مجهود إنساني، وكل ما أنتجه الإنسان في هذه الفترة أساسا هو الأشياء المسهلة لعملية استخدام ما تجود به الطبيعة.
البربرية:
وهي المرحلة التي عرف الإنسان فيها استئناس القطعان الحيوانية وتربيتها وزراعة الأرض؛ أي تعلم الإنسان فيها وسائل زيادة الإنتاج الطبيعي عن طريق مجهوده الخاص.
المدنية:
وهي المرحلة التي تعلم الإنسان فيها عمل الإنتاج الطبيعي بالمجهود الصناعي كما تعلم الفنون.
الفصل الثاني
العائلة
قضى مورجان الشطر الأكبر من حياته بين قبائل الإيروكيوس في أمريكا، وقد تبنته إحدى هذه القبائل (السينيكاس). ووجد مورجان لدى هذه القبائل نظاما للقرابة يتعارض مع علاقاتهم العائلية القائمة؛ فقد كانت العائلة عندهم تسير على قاعدة الزواج بين ذكر وأنثى بشروط سهلة في كل طرف، وسمى مورجان هذا الوضع بالعائلة الزوجية. وإلى هنا والوضع طبيعي مألوف، وكانت هذه القبائل تسير عليه، وكان يؤدي بلا شك إلى إيجاد أب وأم وأبناء وإخوة للشخص. ولكن تطبيق الإيروكيوس لهذا النظام كان على العكس من ذلك غاية في الغرابة؛ فالإيروكيوس الرجال لا يعتبرون أبناءهم وبناتهم الطبيعيين فقط أولادا لهم بل يعتبرون أبناء وبنات إخوتهم الذكور أبناء، بعكس أولاد أخواتهم الإناث. والمرأة عند الإيروكيوس تعتبر أولاد أخواتها الإناث أولادا لها بعكس أولاد إخوتها الذكور؛ إذ تعتبر بالنسبة لهم عمة وليست أما. وبنفس المقياس يكون أبناء وبنات العم إخوة، وكذلك أبناء وبنات الخالات، بعكس أبناء وبنات الأخوال والعمات.
وهذا النظام ليس مجرد عبارات جوفاء بل تعتبر له قوة حقيقية فيما يتعلق بالقرب والبعد عن الشخص، والمساواة وعدم المساواة في علاقات وروابط الدم. وتعتبر هذه هي الفكرة الأساسية لنظام القرابة، وتحتوي على مئات من العلاقات المختلفة للشخص الواحد. وزيادة على ذلك فهذا النظام لا يقتصر في وجوده على الهنود الأمريكيين وحدهم (وهو مطبق بين قبائلهم دون أي استثناء)، ولكن يسري هذا النظام أيضا في الهند وبين قبائل الدرفيان في الدكان وقبائل الجورا في الهندستان. ونجد في علاقات القرابة المطبقة بين قبائل التامبل في جنوب الهند والسينكاس في ولاية نيويورك تمييزا بين أكثر من مائتي نوع من أنواع القرابة حتى اليوم؛ ولذلك نقول إن هذه الأنواع من القرابة تتعارض مع الشكل العادي للعائلة مع أنه الشكل السائد عندهم.
فكيف يمكن تفسير ذلك؟ إذا بحثنا الموضوع من وجهة نظر الدور الحاسم الذي تلعبه علاقات القرابة في النظام الاجتماعي لدى كل الشعوب في عصري الوحشية والبربرية فإن هذا النظام المتسع لا يمكن شرحه في كلمات؛ فنظام مطبق تطبيقا عاما في أمريكا ومطبق أيضا في آسيا بين شعوب مختلفة تماما، وكذلك أشكال أخرى من هذا النظام تختلف قليلا أو كثيرا عنه نجدها سائدة في إفريقيا وأستراليا، كل هذا النظام لا يمكن أن يفسر إلا تفسيرا تاريخيا بتتبع أصوله التاريخية. إن عبارات أب وأم وأخت وابن ونحوها ليست مجرد ألقاب شرفية ولكنها تحمل في طياتها التزامات متبادلة في غاية الخطورة، وتكون في مجموعها جزءا أساسيا من النظام الاجتماعي لتلك الشعوب.
وقد وجد شرح لهذا الموضوع في جزر هاواي، فقد وجد هناك في النصف الأول من القرن الحالي
1
نوع من العائلة مكون من الأب والأم والإخوة والأخوات والأبناء والبنات وإخوة الأب والأم وأبنائهم مثل نظام القرابة عند الهنود الأمريكيين. ولكن علاقات الدم السائدة في جزر هاواي غريبة جدا عن الشكل الحالي لدى الهنود؛ ففي جزر هاواي يعتبر كل أبناء وبنات الأعمام والعمات والأخوال والخالات إخوة فيما بينهم، وأبناء وبنات لكل هؤلاء الأعمام والأخوال والعمات والخالات دون تمييز. وعلى ذلك فإذا كان نظام الهنود الأمريكيين يمثل نوعا خاصا من العائلة لا يعمل به الآن حتى في أمريكا نفسها، فإن هذا النظام يجد له مجالا للتطبيق في جزر هاواي وبشكل أكثر غرابة. وهذا النظام وإن كان غير محقق الوجود الآن إلا في جزر هاواي إلا أنه من المقطوع به أنه كان موجودا من قبل وإلا لما وجد النظام الحالي في جزر هاواي.
ويقول مورجان: «إن العائلة تمثل مبدءا إيجابيا غير ثابت، وإنما يتطور من شكل أدنى إلى شكل أعلى كما يتطور المجتمع من حالة دنيا إلى حالة عليا. وعلى العكس من ذلك فإن نظم علاقات الدم سلبية تسجل التقدم الذي تحرزه العائلة في فترات طويلة ولا يتغير تغيرا كليا إلا حينما تتغير العائلة تغيرا كليا.» ويضيف ماركس: «ونفس الشيء ينطبق على النظم السياسية والقانونية والفلسفية عموما.» وبينما تستمر العائلة في تطورها فإن نظام علاقات الدم يصبح جامدا. وبينما يستمر نظام علاقات الدم موجودا في شكله العادي فإن تطور العائلة يطوره.
وكما استنتج كوفيار من بقايا هيكل عظمي لحيوان جيبي
2
وجد قرب باريس أن ذلك يعتبر دليلا على أن الحيوانات الجيبية كانت تعيش قرب باريس، كذلك نستنتج نحن مؤكدين من نظام علاقات الدم الذي نقل عبر التاريخ أن نظاما للعائلة نبع منه كان موجودا قديما وانقرض الآن.
وتختلف نظم علاقات الدم وأشكال العائلة النابعة منها عن الشكل السائد حاليا؛ إذ يكون للطفل فيها عدة آباء وأمهات. فطبقا للنظام الأمريكي لا يمكن للأخ وأخته أن يكونا أبوين لطفل واحد «فكما ذكرنا يكون إخوة الأب آباء أما أخواته فلا يكن أمهات.» وعلى العكس من ذلك نجد أن نظام جزر هاواي يجعل الأخ وأخته أبوين لطفل واحد كما سبق. وعلى ذلك نجد أنفسنا أمام مجموعات من أشكال العائلة تتعارض تماما مع الشكل السائد حاليا؛ فالفكرة التقليدية هي زواج الرجل الواحد من المرأة الواحدة، وتوجد بجانبها حالة تعدد الزوجات وأحيانا تعدد الأزواج. وتتجاهل الفكرة التقليدية حقيقة ما يحدث في المجتمع من عدم احترام هذه الأوضاع الرسمية وانتهاكها في سكون ودون خجل.
وتوضح لنا دراسة تاريخ الشعوب البدائية الشروط التي كان يسمح للرجال على أساسها بتعدد الزوجات وللنساء بتعدد الأزواج، ويكون الأطفال الناتجون عن هذا الزواج أبناء عموميين لهم جميعا.
وقد أخذت شروط تعدد الأزواج والزوجات تتعرض على مدار التاريخ لمجموعة مختلفة من التعديلات حتى وصلت للوضع الحالي؛ أي زواج الرجل من امرأة واحدة؛ فقد أخذت دائرة الناس المرتبطين بزواج عمومي مشترك - «وكانت دائرة واسعة جدا في الأصل» - تضيق شيئا فشيئا حتى وصلت في النهاية إلى زواج رجل واحد من امرأة واحدة، وهو الشكل الحالي للزواج.
وفي هذا البناء التدريجي لتاريخ العائلة، وصل مورجان - مع أغلبية زملائه - إلى مرحلة بدائية حدث عندها تغير أولي في القبيلة بحيث أصبحت كل امرأة مملوكة بالتساوي لكل رجل وبالعكس، وقد ثارت مناقشات طويلة عن هذه الحالة البدائية منذ القرن الماضي ولكنها كانت مناقشات عامة.
وقد كان باتشوفن أول من بحث شروط هذه الحالة بحثا جديا «ويعتبر هذا من أجل خدماته»، كما بحث آثارها في التقاليد التاريخية والدينية. ولكننا وصلنا في معلوماتنا اليوم إلى أن الآثار التي اكتشفها باتشوفن لا يمكن أن تؤدي إلى وصولنا إلى هذه المرحلة البدائية من التطور الجنسي، ولكن إلى شكل متأخر في الظهور من أشكال الزواج الجماعي. وهذه المرحلة الاجتماعية - بافتراض أنها وجدت فعلا - تنتمي إلى عصر بعيد جدا لا نتوقع أن نجد عنه حقائق أكيدة من الحفريات
3
الخاصة بمرحلة الوحشية.
ويعود فضل باتشوفن إلى أنه وضع هذه المسألة موضع الدراسة والتحري .
4
وقد أصبحت عادة الذين جاءوا بعد باتشوفن أن ينكروا هذه المرحلة من مراحل الحياة الجنسية للإنسان لكي ينقذوا الإنسانية من هذا العار. وبدلا من أن يشيروا إلى عدم وجود حقائق ثابتة عن هذه المرحلة يشيرون إلى بقية العالم الحيواني الذي جمع منه ليتورنو
5
حقائق عديدة يظهر منها أن التطور الجنسي الكامل يعود في أصله إلى مرحلة دنيا. والنتيجة الوحيدة التي أستطيع استخلاصها من هذه الحقائق أن أغلبية من جاءوا بعد باتشوفن لم يستطيعوا أن يثبتوا شيئا بالمرة عن الإنسان والشروط الأولية لحياته.
إن شرح فترات تطور الحيوانات قد يكفي فيه الشرح الفسيولوجي بعكس حالة الإنسان. فعند الطيور مثلا نجد أن الأنثى تحتاج إلى المساعدة أثناء فترة الفقس، ومن الضروري إخلاص الذكر لها في هذه الفترة. ولكن هذه المعلومات لا يمكن أن نستمد منها دليلا على الإنسان ما دام لا يتناسل من الطيور، وإذا كان إخلاص الذكر للأنثى والأنثى للذكر هو أساس الفضائل لوجب علينا أن نصفق في إعجاب إلى الدودة الخنساء التي تملك جهازا تناسليا مذكرا ومؤنثا في كل جزء من أجزاء جسمها التي تتراوح بين الخمسين والمائتين، والتي تقضي كل حياتها في تلقيح نفسها. وإذا انتقلنا إلى دائرة الحيوانات الثديية نجد أن جميع أشكال الحياة الجنسية التي يعرفها الإنسان مطبق بينها مع استثناء تعدد الأزواج إذ لا تحققه إلا أنثى الإنسان. ونجد كذلك أن أقرب الحيوانات شبها بالإنسان تختلف عنه أشد الاختلاف في حياتها الجنسية؛ إذ يقول ليتورنو إنها تسير أحيانا على قاعدة العلاقة الفردية بين الذكر والأنثى وأحيانا تسير على قاعدة التعدد، بينما يخبرنا سوزر وجيرود يتولن أنها تسير على أساس العلاقة الفردية بين الذكر والأنثى، وهكذا يتضح مدى تضارب المعلومات بشأنها. وقد أكد وستر مارك أخيرا في كتابه «تاريخ الزواج البشري، لندن، سنة 1891» أن مسألة العلاقة الفردية بين الذكر والأنثى عند الحيوانات الأربع الشبيهة بالإنسان ليس عليها دليل حتى الآن. ويقول ليتورنو إنه «بين الحيوانات لا توجد علاقة بين درجة الذكاء ونوع العلاقة الجنسية.» ويقول إسبيناس في «كتاب المجتمعات الحيوانية» ويونيت بلانك إن التارتار هي أعلى مجموعة اجتماعية بين الحيوانات، ويظهر أنها مقسمة إلى عائلات ولكن العداء القائم داخل مجموعة هذا الحيوان يسير في اتجاه عكسي مع العائلة.
ويتضح من كل ما سبق أننا لا نعرف شيئا مؤكدا عن العائلة والمجموعات الاجتماعية الأخرى لدى الحيوانات الشبيهة بالإنسان؛ فإن المعلومات في هذا الشأن متضاربة، ولا غرابة في ذلك فإن ما لدينا من معلومات عن القبائل الإنسانية نفسها في المرحلة الوحشية متضارب وعرضة لنقد علمي كثير. ولا شك أن مجتمعات الحيوانات الشبيهة بالإنسان أكثر صعوبة في دراستها من المجتمعات الإنسانية؛ ولذلك يجب علينا أن نستبعد كل نتيجة تأتي إلينا من مثل تلك المعلومات التي لا يعتمد عليها. ولكن المعلومات التي ساقها إلينا إسبيناس، وذكرناها فيما سبق، تسوق لنا أدلة أفضل من غيرها؛ إذ ذكر أن التارتار والعائلة ليسا شيئين متكاملين بل متضادين. ويضيف إسبيناس أن الغيرة بين الذكور تكاد تفكك مجموعات التارتار أثناء فترة اللقاح، ولا ينتعش التارتار إلا حيث تكون القاعدة هي العلاقات الجنسية الحرة؛ أي عندما تضعف الروابط العائلية. وذلك هو السبب في أننا نادرا ما نصادف مجموعات منظمة بين الطيور وبين الحيوانات الثديية. ونجد هذه المجموعات دون أي روابط عائلية، ونجد أن الشعور الجماعي لدى التارتار لا يجد له عدوا أو أكثر من الشعور العائلي.
ويتضح مما سبق أن المجتمعات الحيوانية ذات قيمة معينة لكي نستخلص منها استنتاجات عن المجتمعات الإنسانية، ولكن هذه القيمة سلبية، فالحيوانات العليا لا تعرف إلا نوعين فقط من العائلة وهما تعدد الزوجات والزواج المنفرد، وفي كلتا الحالتين لا يسمح إلا بوجود ذكر واحد للأنثى.
وتمثل غيرة الذكر روابط وحدود العائلة الحيوانية وتجعلها في تنازع مع العشيرة، فإن العشيرة باعتبارها أعلى الأشكال الاجتماعية تكون متفككة في موسم اللقاح. وهذا وحده يكفي دليلا على عدم إمكان المقارنة بين العائلة الحيوانية والمجتمع الإنساني البدائي، فالإنسان البدائي الذي شق طريقه إلى الوجود بعد المرحلة الحيوانية: إما أنه لم يعرف العائلة إطلاقا، وإما أنه عرف نوعا منها لا وجود له بين الحيوانات. وقد ذكر وستر مارك نقلا عن تقارير الصيادين أن الغوريللا والشمبانزي - وهما أقرب الحيوانات للإنسان - استطاعت أن تعيش في مجموعات صغيرة منعزلة على أساس من الزواج الفردي باعتباره أعلى الأشكال الاجتماعية.
وقد كانت هناك حاجة إلى عامل إضافي لكي يمكن التطور من المرحلة الحيوانية والوصول إلى أكبر تقدم عرفته الطبيعة، وهذا العامل الإضافي هو إحلال القوة الجماعية للعشيرة محل القوة الفردية العاجزة؛ لذلك لا يمكن القول إن الإنسان قد تطور اجتماعيا من الظروف التي تعيش فيها الآن الحيوانات الشبيهة بالإنسان، فهذه الحيوانات توحي حالتها بأنها في طريقها إلى الانقراض، وهذا وحده كاف لاستبعاد الرأي القائل بأن الأشكال العائلية لهذه الحيوانات موازية لأشكال عائلة الإنسان البدائي؛ فقد كان أساس الجماعات الأولى التي تم عن طريقها الانتقال من الحيوان إلى الإنسان هو التحرر من الغيرة والتسامح المتبادل بين الذكور. فالشكل القديم جدا للعائلة الإنسانية البدائية، وهو الشكل الذي توجد عليه دلائل لا تنكر، ويمكن إلى اليوم مشاهدته بين قبائل بدائية عدة وفي أماكن مختلفة، هذا الشكل هو الزواج الجماعي الذي تكون فيه جماعات بأسرها من الرجال وجماعات بأسرها من النساء في علاقات جنسية مشتركة وهو ما لا يترك إلا مكانا ضئيلا للغيرة.
وزيادة على ذلك نجد في مرحلة تالية من التطور الإنساني الشكل الاستثنائي الخاص بتعدد الأزواج وهو بدوره أبعد ما يكون عن الغيرة ولا تعرفه الحيوانات.
وحيث إن أشكال الزواج الجماعي المعروفة لنا مصحوبة بشروط غريبة معقدة تشير إلى وجود أشكال مماثلة لها من العلاقات الجنسية سابقة عليها، أي أنها تشير إلى فترة علاقات جنسية جماعية مطابقة لفترة الانتقال من الحيوان إلى الإنسان؛ لذلك فإن الرجوع إلى أشكال الزواج لدى الحيوانات للاستدلال بها على الإنسان يؤدي حتما إلى الخطأ.
فماذا تعني المعاشرة الجنسية المختلطة إذن؟ تعني أن الحدود الخلقية المطبقة حاليا أو منذ وقت مبكر لم تكن موجودة، وقد شاهدنا فيما سبق مدى هبوط مستوى الغيرة، وإذا كان هناك شيء مؤكد فهو أن الغيرة شعور حديث نسبيا في ظهوره لدى الإنسان، ونفس الشيء ينطبق على البغاء، وفي شعوب كثيرة إلى اليوم نجد أن الأخ وأخته بل الوالدين والأولاد ما زالوا يتعاشرون معاشرة الأزواج. ويذكر بانكرفت
6
وجود هذه العلاقات بين الكاثيات قرب مضيق برنج، والكادياك قرب ألاسكا، والتينهي في وسط كندا. وقد جمع ليتورنو معلومات مماثلة عن هنود التشييوا، والكاكاس في تشايل، والكاريين والكارن في الهند الصينية، وهذا فضلا عن الإغريق والرومان القدماء والفرس وغيرهم.
وقبل اختراع نظام البغاء كانت المعاشرة الجنسية بين الوالدين والأولاد شيئا لا يزيد في حقارته عن العلاقة الجنسية بين أشخاص من أجيال مختلفة مثل ما يحدث اليوم في أكثر الشعوب جهلا دون أن يسبب استهجانا كبيرا.
وإذا بدأنا البحث من أكثر أشكال العائلة المعروفة لنا بدائية، فإن صور البغاء الموجودة لديهم - وهي صور تختلف عما لدينا الآن - تجعلنا أمام شكل من أشكال المعاشرة الجنسية لا يمكن وصفه إلا بأنه مختلط تماما، فإن الحدود التي وضعت للعلاقة الجنسية لم تكن قد عرفت بعد. وليس معنى ذلك أن المعاشرة الجنسية كانت ضمن العمل اليومي للناس، كما أن انفراد الرجل بامرأة معينة لفترة محدودة كان محتمل الحدوث، وهو يحدث فعلا في حالات الزواج الجماعي الموجودة حاليا.
وإذا كان وستر مارك (آخر من أنكر هذه الحالة الأصلية) يعتبر أن الزواج هو كل حالة يظل فيها الجنسان في علاقة لحين مولد الطفل، فيمكن إذن أن يقال إن هذا النوع من الزواج كان يمكن جدا أن يوجد في ظل المعاشرة الجنسية الجماعية دون تعارض مع هذه الجماعية. ويبدأ وستر مارك (لكي يؤكد كلامه) من جهة النظر القائلة «أن المعاشرة المختلطة تتضمن كبتا لميول الفرد»؛ وعلى ذلك «يكون البغاء أكثر أشكالها دقة.» ويبدو لي أنه لا يمكن فهم الظروف البدائية طالما نظرنا إليها بمنظار البغاء. وسنعود إلى هذه النقطة ثانية عند الكلام عن الزواج الجماعي.
وطبقا لما كتب مورجان فإن هذه الظروف الجنسية البدائية التي ذكرناها قد تطورت عنها - ربما في وقت مبكر جدا - الأشكال التالية من العائلة : (1)
العائلة المرتبطة برباط الدم؛ المرحلة الأولى للعائلة: وفيها كانت المجموعات الزوجية مقسمة بحسب الأجيال، فكل الأجداد والجدات في العائلة أزواج وزوجات مشتركون، وكذلك كل الآباء والأمهات، وكذا الأولاد والبنات، ثم أولادهم من بعدهم وهكذا. وفي هذا الشكل من أشكال العائلة نجد أن الأصول والفروع فقط هم الممنوعون من ممارسة حقوق وواجبات الزواج مع بعضهم بعضا. كما نجد أن أبناء وبنات الجيل الواحد إخوة جميعا بالتبادل بصرف النظر عما إذا كانوا حقيقة إخوة أو أبناء عم أو خال أو نحوه. وكانت علاقة الأخ بأخته في هذه المرحلة تشمل ممارسة العلاقة الجنسية، أي أن العائلة كانت بهذا الشكل تتكون من سلالة زوجين، ويكون كل جيل تسلسل من هذه السلالة إخوة وأخوات وأزواجا مشتركين في نفس الوقت.
وقد انقرضت العائلة المبنية على علاقات الدم، وحتى أقدم الشعوب المعروفة في التاريخ لم يثبت أنها عرفت هذا النوع من العائلة. ولكن الدليل على مثل هذه العائلة وجد مستمدا من النظام القائم في جزر هاواي، والذي يشمل درجات من روابط الدم لا يمكن أن توجد إلا في مثل هذا الشكل من العائلة. ومما يؤيد هذا الدليل التطور الكلي للعائلة الذي يفترض وجود هذا الشكل باعتباره مرحلة أولية ضرورية. (2)
العائلة البونالوانية (عائلة الرفاق الأعزاء): وإذا كانت الخطوة الأولى في التنظيم العائلي هي منع الأصول والفروع من ممارسة العلاقات الجنسية، فإن الخطوة الثانية كانت منع الإخوة والأخوات من هذه الممارسة، وقد كانت هذه الخطوة غاية في الأهمية ولكنها أكثر صعوبة من الأولى. ويحتمل أنها طبقت تدريجيا مبتدئة بمنع الإخوة والأخوات الطبيعيين من ممارسة العلاقة الجنسية في حالات فريدة أولا، ثم أصبحت تدريجيا هي القاعدة،
7
ثم انتهى تدرج هذه الخطوة بمنع الزواج حتى بين أبناء وبنات العمومة والخئولة إلى الدرجة الثالثة. وكما قال مورجان فإن هذا المنع «يقدم تفسيرا حسنا لمبدأ الاختيار الطبيعي.» ومن المقطوع به أن القبائل التي حددت فيها العلاقات الجنسية على هذا النحو قفزت في تطورها بخطوات أسرع وأقوى من القبائل التي بقيت فيها المعاشرة الجنسية بين الأخ وأخته حقا وواجبا. وقد كان هذا المنع السبب المباشر في نشأة القبيلة، وقد كانت القبيلة أساس النظام الاجتماعي لمعظم شعوب العالم في مرحلتها البربرية. وعند الإغريق والرومان نخرج من القبيلة رأسا إلى المدنية.
وقد كانت كل عائلة بدائية تنقسم بعد جيلين على الأكثر إلى أقسام، وكانت العائلة البدائية الأصلية التي ظلت موجودة حتى آخر المرحلة الوسطى من البربرية محددة بحجم أقصى معين من النطاق العائلي، يختلف باختلاف الظروف ولكنه موجود في كل مكان.
وبمجرد أن تصور الإنسان عدم لياقة العلاقة الجنسية بين أولاد أم مشتركة كان لذلك التصور أثره في التقسيمات العائلية وفي تأسيس وحدات عائلية جديدة؛ فقد أصبحت مجموعة أو أكثر من الأخوات نواة لعائلة وأصبح إخوتهم نواة لعائلة أخرى. وبهذه الطريقة أو طرق أخرى مشابهة تطور الشكل العائلي الذي سماه مورجان: العائلة البونالوانية، فقد تطورت هذه العائلة من العائلة المرتبطة برباط الدم. فطبقا لعادات جزر هاواي نجد أن عددا من الأخوات سواء في ذلك الأخوات الطبيعيات وبنات العمومة والأخوال والخالات أصبحت زوجات مشتركات لأزواج مشتركين ليسوا إخوتهم الذكور، وهؤلاء الأزواج المشتركون لا يعتبرون بعضهم بعضا إخوة بل بوناليا أي: رفاقا أعزاء. وبنفس الطريقة أصبح عدد من الإخوة الطبيعيين وأبناء العمومة والأخوال والخالات أزواجا مشتركين لمجموعة من النساء من غير أخواتهم، وتعتبر تلك النساء فيما بينها أيضا بوناليا. وهذا هو الشكل الكلاسيكي للبناء العائلي، وهو الشكل الذي طرأت عليه فيما بعد مجموعة من الاختلافات صفتها الأساسية وجود وحدة مشتركة من الأزواج والزوجات في نطاق عائلي محدود يستبعد منه الإخوة الطبيعيون للنساء أولا ثم أبناء العمومة والخئولة، ونفس الوضع بالنسبة لأخوات الرجال.
ويبين لنا هذا الشكل من العائلة بمنتهى الوضوح درجات القرابة كما هي موجودة لدى الهنود الأمريكيين، فأبناء الخالة ما زالوا معتبرين إخوة، وكذلك أبناء العم، بعكس أبناء العمة وأبناء الخال؛ ولذلك فإن أزواج الخالة يعتبرون أزواجا للأم، وزوجات العم تعتبر زوجات للأب من الناحية الرسمية وإن كان الأب لا يستعمل حقه معهن دائما من الناحية العملية . وقد كان حظر المعاشرة الجنسية بين الأخ وأخته هو أول تقسيم لأبناء العمومة والخئولة من الدرجة الأولى إلى طبقتين، فإحداهما بقيت معتبرة إخوة وأخوات كما كان الحال قبلا وهم أبناء العم وأبناء الخالة، والطبقة الثانية لم تعد معتبرة إخوة وأخوات وهم أبناء العمة وأبناء الخال؛ ولذلك فإن طبقة أبناء العمومة الذكور والإناث التي كانت غير محسوسة في العائلة المرتبطة برباط الدم أصبح وجودها ضروريا للمرة الأولى. وإن النظام الهندي الأمريكي لعلاقات الدم، وهو النظام الذي يظهر غاية في الغرابة لأن به أيضا بعض أنواع الزواج الفردي إلى جانب هذه القرابات الغريبة، يبدو هذا النظام معقول التفسير وطبيعيا إذا تعمقنا في التفصيلات الخاصة بالعائلة البونالوانية. وهذا يؤكد لنا أن هذه العائلة، أو شكلا مشابها لها، كان موجودا في الأصل لدى الهنود الأمريكيين.
كما أن الشكل العائلي الموجود في جزر هاواي يحتمل أنه كان موجودا في كل مكان. وقد صادفت الإرساليات الدينية مثل الإرساليات الإسبانية القديمة أنواعا كريهة من العلاقات في هذه النظم غير المسيحية.
8
ويقول سيزار عن الجنس البريتوني (وهو جنس وجده الرومان في بريطانيا) الذي كان في ذلك الوقت في المرحلة الوسطى من البربرية «أنه كان لديهم عشرات من الزوجات المشتركات، وكان أزواجهم في الغالب إخوة أو أبناء أو آباء.» وهذه ولا شك صورة واضحة من الزواج الجماعي.
ولم يكن لدى أمهات المرحلة البربرية الكفاية من الأبناء الكبار لكي يكون لهم زوجات جماعيات. ولكن النظام الأمريكي الخاص بقرابة الدم والذي تفرعت عنه العائلة البونالوانية كان يحتوي على إخوة كثيرين، حيث إن كل أبناء عمومة وخئولة الرجل كانوا إخوة له.
وعلى ذلك فيمكن شرح كتابات هيرودوت وغيره من الكتاب القدماء بشأن الزوجات الجماعيات بين الشعوب في عصري الوحشية والبربرية بالرجوع إلى العائلة البونالوانية.
وقد كان نشأة القبيلة في أغلب الحالات عن طريق العائلة البونالوانية. ويؤكد ذلك النظام الأسترالي في نظام الزواج الجماعي الشائع لدى الأستراليين الأصليين. ولم يصل الأستراليون بعد إلى العائلة البونالوانية، والذي لديهم هو شكل أكثر بدائية من الزواج الجماعي. وسيأتي شرح النظام الأسترالي. ويلاحظ أنه في جميع أشكال الزواج الجماعي لا يمكن التأكد من أبوة الطفل، ولكننا نستطيع بسهولة معرفة أمه، ورغم أن الأم في هذا النظام تسمي كل أطفال العائلة أولادها وتلتزم نحوهم بواجبات الأم إلا أنها تعرف رغم ذلك أولادها الحقيقيين. وعلى ذلك فكلما وجد زواج جماعي فلا يمكن التأكد من السلالة إلا من ناحية الأم، وهذه هي الحالة بين كل شعوب المرحلة الوحشية والمرحلة الدنيا من البربرية. وكان الاكتشاف الثاني الكبير لباتشوفن هو اكتشافه لهذه الحقيقة، وهو يسمي هذا التسلسل من الأم والعلاقات الوراثية التي تفرعت عنه بفترة الانتساب للأم.
وإذا أخذنا الآن أحد نوعي العائلة البونالوانية، وهو الذي يتكون من عدد من الأخوات الطبيعيات وبنات العمومة والخئولة «المعتبرين إخوة كما ذكرنا» مع أولادهن وإخوتهن الطبيعيين وأبناء العمومة والخئولة «وهم معتبرون أيضا إخوة»، فإننا نكون بذلك أمام تلك الدائرة من الأشخاص التي ظهرت في المجتمع على هيئة قبيلة. وهكذا نشأت القبيلة من أصول نسائية تعتبر سلالتها من الإناث جيلا بعد جيل أخوات بفضل الانحدار من أصل مشترك. أما أزواج هؤلاء الأخوات فلم يعودوا معتبرين إخوة لهن؛ أي لا يمكن أن يكونوا منحدرين من نفس الأصول النسائية؛ ولذلك لا ينتمون إلى دائرة القرابة في الدم التي أصبحت تسمى قبيلة. ولكن أولاد هؤلاء الأزواج ينتمون للقبيلة لأن أمهاتهم منها، والقاعدة هي الانتساب للأم لأنه الرابطة الوحيدة المؤكدة.
وحيث يطبق منع المعاشرة الجنسية بين الإخوة والأخوات بالمعنى الواسع لانحدارهم من أصول نسائية مشتركة، فإن تلك المجموعة تجعل من نفسها دائرة محدودة من الأقارب في الدم، لا يسمح لأفرادها بالزواج فيما بينهم، وهكذا تصبح قبيلة. ومنذ ذلك الوقت فصاعدا يزداد التضامن الداخلي لتلك القبيلة ويتخذ طابعا اجتماعيا ودينيا. وتفرق هذه القبيلة بين نفسها وبين باقي قبائل العشيرة. وسنعود لهذه المسألة بتفصيل أكثر فيما بعد، وحيث إننا وجدنا أن القبيلة قد خرجت من العائلة البونالوانية، فإننا لذلك نستطيع التأكيد أن هذا الشكل من العائلة وجد قديما بين كل الشعوب التي لدينا آثار عن أنظمتها القبلية القديمة.
وعندما وضع مورجان كتابه كانت معلوماتنا عن الزواج الجماعي قليلة جدا؛ إذ لم نكن نعرف إلا القليل عن الزواج الجماعي المطبق لدى الأستراليين الأصليين، وقد نشر مورجان سنة 1871 المعلومات التي وصلته عن العائلة البونالوانية في جزر هاواي، وقد أعطتنا العائلة البونالوانية الشرح الكافي لنظام قرابة الدم المطبق لدى الهنود الأمريكيين، ومن ناحية أخرى أعطتنا نقطة بدء نخرج منها إلى السلالة المنتسبة للأم، كما أنها كانت تمثل مرحلة عليا أكثر تطورا من النظام الأسترالي؛ ولذلك كان يجب على مورجان اعتبار العائلة البونالوانية مرحلة من مراحل التطور سبقت في ظهورها العائلة المكونة من فردين، وكان يجب عليه التسليم بأن هذا الشكل العائلي كان عام الانتشار في الزمن القديم.
ومنذ كتاب مورجان علمنا عن مجموعة أشكال أخرى من الزواج الجماعي، وقد قطع مورجان مرحلة كبيرة في هذا المجال؛ ولذلك فقد كان اكتشاف مورجان للعائلة البونالوانية اكتشافا للشكل الكلاسيكي الأعلى للزواج الجماعي مكننا من شرح مرحلة التطور التالية له بسهولة.
وقد قام المبشر الإنجليزي لوريمر فيسون بدراسة الزواج الجماعي لمدة سنوات طويلة بموطنه الأصلي بأستراليا، وإنا لندين بمعظم معلوماتنا الأساسية عن الزواج الجماعي له. وقد وجد لوريمر المرحلة الدنيا من التطور بين الزنوج الأستراليين بجبل جامبير جنوب أستراليا؛ إذ وجد القبيلة كلها مقسمة إلى طبقتين كبيرتين هما الكروكي والكوميت. كما وجد أن العلاقات الجنسية داخل كل طبقة ممنوعة تماما، ومن ناحية أخرى يعتبر كل رجل في إحدى الطبقتين زوجا بالميلاد لكل امرأة في الطبقة الأخرى، ولا توجد أي موانع بسبب الاختلاف في السن أو روابط الدم خلاف الموانع الناتجة عن التقسيم إلى طبقتين؛ فالرجل من الكوميت مثلا يعتبر زوجا لكل امرأة من الكروكي، وحيث إن ابنته نفسها تعتبر من الكروكي طبقا لقاعدة الانتساب للأم السابق ذكرها فإن ابنته نفسها تعتبر زوجة له، وحيث إن هذا التنظيم لا يضع أي موانع، فإنه إما أن يكون قد ظهر في وقت كانت فيه المعاشرة الجنسية بين الأبوين والأولاد لا تعتبر ممنوعة ، وإما أنه ظهر في وقت كانت فيه هذه العلاقات محرمة من الناحية العملية، ثم نشأت هاتان الطبقتان، وهي الحالة التي تشير إلى العائلة المرتبطة برباط الدم والتي تعتبر الطبقات أول خطوة للتطور بعدها؛ وهذا هو الاحتمال الذي نرجحه.
وإن حالة العلاقات الجنسية بين الأبوين والأولاد التي استقينا معلوماتها من أستراليا، والعرف الخاص بضرورة الزواج من خارج السلالة (نظام الطبقات سالف الذكر)، وكذلك نظام السلالة المنتسبة للأم، كل ذلك يفترض ضمنا أن مثل هذه العلاقات محرمة فعلا.
وفضلا عن جبل جامبير بجنوب أستراليا، نجد نظام الطبقتين مطبقا في منطقة نهر دارلنج بالشرق ومنطقة كوينزلاند في الشمال الشرقي؛ وهو لذلك نظام شائع بأستراليا. وتوجد خطوة أخرى في اتجاه منع التربية الداخلية في قبائل الكاميلا روي بمنطقة نهر دارلنج وفي نيو سوث ويلز، حيث تنقسم الطبقتان الأصليتان إلى أربع طبقات، وتعتبر كل طبقة منهما متزوجة من طبقة أخرى محددة. فالطبقتان الأوليان متزوجتان فيما بينهما، أما أولاد كل منهما فلا يكونون أعضاء في أي من هاتين الطبقتين، بل يصبح أبناء الطبقة الأولى أعضاء في الطبقة الثالثة، وأبناء الطبقة الثانية أعضاء في الطبقة الرابعة. وكذلك تعتبر الطبقتان الثالثة والرابعة متزوجتين فيما بينهما، وبالمثل يعتبر أبناء الطبقة الثالثة أعضاء في الطبقة الأولى، وأبناء الطبقة الرابعة أعضاء في الطبقة الثانية. ومعنى ذلك أن الجيل الأولى ينتمي للطبقة الأولى أو الثانية، والجيل الثاني ينتمي للطبقة الثالثة أو الرابعة، والجيل الثالث يعود ثانية فينتمي للطبقة الأولى أو الثانية وهكذا. ومعنى هذا أن أطفال الإخوة والأخوات لا يستطيعون الزواج فيما بينهم ولكن أحفادهم يستطيعون. ومن ذلك نرى كيف أن الميل لمنع التربية الداخلية في القبيلة يعود فيتأكد ولكن بطريقة غريزية غريبة ودون أي هدف واضح.
وعندما ندقق النظر في نظام زواج الطبقات الجماعي المطبق في أستراليا نجد أنه ليس شيئا مستهجنا بالنسبة للتطور الإباحي للإنسان البدائي، وقد ظل كذلك سنوات طوال ولم يصبح شيئا مستنكرا إلا حديثا. وقد يظهر من النظرة السطحية أن هذا النظام نوع مفكك من الزواج الفردي أو من نظام تعدد الأزواج والزوجات مصحوب بخيانات زوجية من وقت لآخر. ولكن على الباحث أن ينفق السنوات الطوال حتى يكتشف القانون المنظم لشروط هذا الزواج كما فعل فسون وهوديت، وهو القانون الذي يذكر الأوربي العادي بعاداته العملية «أي خيانته لزوجته»، والذي يجد الزنجي الأسترالي بمقتضاه نساء تعطي له نفسها دون حرج أو مقاومة حتى ولو كان بعيدا آلاف الأميال عن قبيلته. ويستطيع الزنجي بمقتضى هذا القانون نفسه أن يملك عدة زوجات يستطيع تقديم أي منها هدية لضيفه ليقضي معها الليل. وفي ظل هذا القانون، حيث لا يرى الأوربي فيه إلا الانحلال «يحترم الأهالي قانونهم الجنسي بدقة؛ فالقانون يمنع تماما العلاقة الجنسية داخل الطبقة وعقوبة المخالفة الطرد من القبيلة والنفي. وحتى حيث تغتصب النساء - وهي الحالة الغالبة في بضع مناطق - يراعى القانون الطبقي بدقة، فبعد أن يغتصب الشاب فتاة ويهرب معها بمساعدة أصدقائه الذين يمارسون معها من بعده العملية الجنسية الواحد بعد الآخر، تعتبر الفتاة زوجة لمغتصبها، وإذا هربت الفتاة من مغتصبها وضبطها آخر فإن هذا الأخير يصبح زوجها ويفقد الأول امتيازه. ويعتبر هذا الامتياز الخطوة الأولى للانتقال إلى الزواج الفردي.»
من كل ما سبق يتضح أن القيود على العلاقات الجنسية، وانفراد رجل بامرأة فترة طويلة أو قصيرة، وتعدد الأزواج والزوجات، كل ذلك يوجد جنبا إلى جنب في الزواج الجماعي. والسؤال الذي يتردد الآن هو: من الذي سيختفي أولا في أستراليا نتيجة النفوذ الأوربي، هل هو الزواج الجماعي أم الأستراليون الأصليون الذين يعيشون في ظله؟
وعلى أي حال فإن الزواج بين طبقات بأكملها كما هو سائد في أستراليا هو شكل بدائي منحط جدا من الزواج الجماعي، بينما تعتبر العائلة البونالوانية أعلى صور الزواج الجماعي حسب ما نعرف. ويظهر أن الشكل الأول هو الناتج عن الحالة الاجتماعية لدى المتوحشين غير المستقرين، بينما تفترض العائلة البونالوانية نوعا من الاستقرار النسبي في مجموعات مشاعية، وتتطور مباشرة إلى المرحلة التالية لها من التطور. ومن المؤكد أننا سنجد مراحل متوسطة بين هاتين المرحلتين وما زال مجال البحث مفتوحا أمامنا. (3)
العائلة المكونة من فردين: ظهر شكل معين من أشكال العلاقة بين ذكر وأنثى فقط لفترة طويلة أو قصيرة في ظل الزواج الجماعي وربما قبله؛ فقد كانت للرجل زوجة رئيسية ضمن زوجاته العديدات، وكان الرجل يعتبر زوجها الرئيسي بين غيره من الرجال. وعندما نمت القبيلة وازداد عدد طبقات الإخوة والأخوات الذين تحرم المعاشرة الجنسية بينهم، ازداد انتشار هذا النوع من العلاقة بين اثنين فقط وأصبح هو القاعدة المتبعة تدريجيا. فعندما سارت القبيلة في طريق منع الزواج بين الأقارب في الدم استمرت في هذا الطريق؛ ولذلك نجد بين قبائل الإيروكيوس الهندية الأمريكية ومعظم القبائل الهندية الأخرى في المرحلة الدنيا من البربرية، نجد عند هذه القبائل أن قانونهم يحرم الزواج بين جميع الأقارب وهم أنواع تبلغ عدة مئات. وقد كان هذا الازدياد المستمر في موانع الزواج سببا في جعل الزواج الجماعي أكثر استحالة، وهكذا استبدل بالزواج بين اثنين فقط. وفي ظل هذا الزواج بين اثنين فقط «وهو يختلف عن الزواج بمعناه الحديث الذي نعرفه الآن كما سيأتي» كان الرجل يعيش مع امرأة واحدة، ولكن ظل من حقه تعدد الزوجات والخيانات الزوجية من وقت لآخر. ولكن الرجل كان نادرا ما يلجأ إلى تعدد الزوجات؛ لأسباب اقتصادية. وفي ظل هذا الزواج كان يفرض على المرأة الإخلاص التام طوال فترة عشرتها مع الرجل، وكان الزنا يعرضها لأشد عقاب. أما الرابطة الزوجية فكان يمكن لأي من الطرفين حلها بسهولة، وكان الأطفال ينتسبون للأم كما كان الحال قبلا، وفي ظل هذا المنع المتزايد للأقارب في الدم من الزواج كان الاختيار الطبيعي ذا أثر. ويقول مورجان إن الزواج بين القبائل غير الأقارب في الدم كان يميل إلى خلق تكافؤ أقوى من الناحيتين الجسمانية والعقلية، وكان الطفل الناتج عن هذا الزواج يجمع بين مزايا القبيلتين.
وعلى ذلك فإن تطور العائلة في عهد ما قبل التاريخ كان عبارة عن تضييق مستمر في نطاقها الذي كان يضم في الأصل الجماعة كلها في جماعية جنسية بين الرجال والنساء. ثم أخذت موانع الزواج تزداد حتى أصبح الزواج الجماعي مستحيلا من الناحية العملية ولم يبق إلا الزواج بين اثنين فقط وإن كانت رابطته مفككة. وقد كان للحب الجنسي الفردي أو الاختيار الطبيعي أثره في هذا النوع من الزواج. ويزيدنا دليلا على ذلك الحياة العملية لكل الشعوب في هذه المرحلة. وبينما كان الرجال في ظل أنظمة الزواج السابقة غير محتاجين إلى النساء وكان لديهم ما يزيد عن الحاجة منهم، أصبح عدد النساء في ظل هذا الزواج قليلا. ونتيجة لذلك فقد كان بدء الزواج الفردي هو بدء الاغتصاب والعلاقات غير المشروعة في الوقت نفسه. كما بدأ انتشار ستر العورة كطريقة صريحة لامتلاك النساء.
وقد اعتبر ميكلتان «ذلك الاسكتلندي المحافظ» ستر العورة طبقة من طبقات الزواج سماها «الزواج بالاغتصاب» أو «الزواج بالخطف».
ولم يكن هذا النوع من الزواج عند الهنود الأمريكيين وغيرهم من عمل الزوج والزوجة، أي لم يكن الحب الجنسي هو الدافع له في أغلب الأحوال، ولم يكن الزوج والزوجة يستشاران في ذلك، بل كانت أم الزوج وأم الزوجة تنظمان الزواج وتخطران العروسين قبل الزفاف بمدة قليلة. وكان على الزوج أن يقدم إلى أقارب عروسه قبل الزفاف هدايا تسمى هدايا خطف بالنسبة للفتاة المستسلمة. وكان يمكن حل الرابطة الزوجية برغبة أي من الطرفين، وقد أخذ شعور جماعي ينمو في كثير من القبائل مثل الإيروكيوس ضد حل الرابطة الزوجية؛ فكانوا عندما تنشأ منازعات بين الزوجين يقوم أقاربهما من ناحية الأم بالتدخل للصلح بينهما، ولا يتم الطلاق قبل أن تستنفد وسائل الإصلاح، وفي هذه الحالة يظل الأولاد مع الأم، وتعود لكل من الزوجين حريته في الزواج من جديد.
ولما كانت العائلة المكونة من فردين ضعيفة وغير ثابتة لا تستطيع أن تقيم عشيرة مستقلة فإنها لم تستطع أن تكون سببا في حل العشيرة الجماعية التي سبقتها في الوجود. ولكن العشيرة الجماعية كانت تعني سيادة النساء في المنزل نتيجة الانتساب للأم؛ وكان ذلك يعني مركزا ممتازا للنساء؛ فقد كانت النساء تشغل مركزا محترما وحرا لدى كل الشعوب في عصر الوحشية والمرحلتين الدنيا والوسطى من البربرية وجزء من المرحلة العليا. ويقول آرثر رايت، الذي كان يعمل مبشرا دينيا لمدة سنين طويلة بين قبائل الإيروكيوس، أن وضع المرأة ظل محترما عندهم حتى في ظل العائلة المكونة من اثنين. وكانت نساء القبيلة المسيطرة تستولي على أزواج لها من القبائل المجاورة. وكانت النساء هي التي تحكم المنزل، ولم يكن للزوج أو الحبيب أي دور في الأمر والنهي، وقد كان ممكنا أن تأمره المرأة في أي وقت بأن يحمل بطانية ويرحل؛ فكان يمتثل للأمر في ذلة بصرف النظر عن عدد الأولاد الذين له بالمنزل أو الأمتعة التي عنده، وكان الرجل في هذه الحالة يعود إلى قبيلته أو يتزوج من أخرى كما كان يحدث غالبا. وقد كانت النساء هي القوة العليا في القبيلة وفي كل مكان آخر، لدرجة أنه كان في استطاعتها أن تنزع التاج من فوق رأس زعيم القبيلة وتعيده فردا عاديا. أما الأساس المادي لتلك المزايا التي حصلت عليها المرأة فهو أن البيت في ذلك الوقت كانت أغلب النساء فيه - إن لم يكن كلهن - من سلالة واحدة، أما الرجال فكانوا من عشائر مختلفة. ويعتبر اكتشاف باتشوفن لذلك الخدمة الثالثة الكبرى التي أداها. وأستطيع أن أضيف إلى ذلك أن تقارير الرحالة والمبشرين عن النساء عند القبائل التي تعيش في المرحلة الوحشية والبربرية مليئة بمعلومات لا تتعارض مطلقا مع ما سبق ذكره، وأن تقسيم العمل بين الرجل والمرأة حددته أسباب مختلفة تماما عن الأسباب التي تحدد وضع النساء في المجتمع. وأن الشعوب التي تؤدي نساؤها أعمالا أشق مما نتصور تكن للمرأة احتراما أعمق مما يكنه الأوربيون لنسائهم. وأن الحالة الاجتماعية للمرأة في عهد المدينة، وهي المرأة المحاطة بالاحترام الزائف والمبعدة عن كل عمل حقيقي، لأحط كثيرا من حالة المرأة التي كانت تؤدي أشق الأعمال في مرحلتي الوحشية والبربرية، والتي كان قومها ينظرون إليها على أنها سيدة حقيقية بحكم طبيعة وضعها.
وأما مسألة ما إذا كان الزواج بين اثنين قد حل محل الزواج الجماعي كلية أم لا في أمريكا الآن،
9
فيجب لتقرير ذلك مزيد من التحريات بين هنود الشمال الغربي وخصوصا هنود الجنوب الذين لا يزالون في المرحلة العليا للوحشية. وتشير التقارير عنهم إلى أن لحظات الحرية الجنسية لديهم من الكثرة الشديدة لدرجة أنه لا يمكن افتراض أن الموانع الكاملة موجودة أو أن كل مظاهر الزواج القديم قد اختفت. ونجد عند أربعين قبيلة على الأقل في شمال أمريكا أن الرجل الذي يتزوج الأخت الكبرى في عائلة يعتبر زوجا لباقي أخواتها بمجرد أن يبلغن سن الزواج، وتعتبر هذه الحالة إحدى الحالات الباقية من الزواج الجماعي (زواج مجموعة من الأزواج لمجموعة من الأخوات). ويذكر بانكرف أن قبائل شبه جزيرة كاليفورنيا «في المرحلة العليا للوحشية» لديها نوع معين من الأعياد تتجمع أثناءها عدة قبائل بقصد ممارسة العلاقات الجنسية دون أي قيود، وتمثل هذه الأعياد بالنسبة لهذه القبائل الذكريات المظلمة للأوقات التي كانت فيها كل نساء القبيلة تملك كل رجال قبيلة أخرى في زواج عمومي. وما زالت نفس العادة سارية في أستراليا، وفي شعوب قليلة يستغل الرجال الأكبر سنا والرؤساء ورجال الدين سلطتهم في السطو على كل زوجات الآخرين، ويحوزون معظم النساء على أن يسمحوا لهن بالعلاقات الجنسية الجماعية القديمة في أثناء الأعياد العامة. ويضيف وستر مارك أن هناك مجموعة كبيرة من الأمثلة لتلك الأعياد الدورية التي تمارس خلالها العلاقات الجنسية الحرة القديمة لمدة قصيرة، كما هو الحال عند الهوس والسانتالز والبانجاز والكوتار الهنود، وكذلك عند بعض الشعوب الإفريقية. ويستنتج وستر مارك بحق أن ذلك ليس زواجا جماعيا وإنما تشابها بين الإنسان البدائي والحيوان في موسم اللقاح.
ونصل الآن إلى الاكتشاف الرابع الكبير لباتشوفن، وهو الانتشار الواسع النطاق للعائلة المكونة من اثنين على أنقاض الزواج الجماعي. فقد وجد باتشوفن حالة فترجمها على أنها عقاب مخالفة التعليمات الإلهية، وهذه الحالة هي حق المرأة في الانسحاب من الزواج الجماعي ومنح نفسها لرجل واحد فقط، ويعتبر باتشوفن أن ذلك كان يعتبر عقابا نظرا لأن استسلام المرأة أصبح محدودا. وهناك عادات مماثلة ذات بواعث دينية شائعة بين معظم الشعوب الآسيوية في المنطقة الواقعة بين البحر الأبيض والقرغيز؛ فقد كانت نساء بابل ملزمات بالاستسلام مرة كل عام في معبد ميليتا، وكانت شعوب الشرق الأوسط الأخرى ترسل بناتها لمدة سنوات إلى معبد أنايتس حيث يستطعن معاشرة من يخترن من الرجال قبل أن يسمح لهن بالزواج. ويقول باتشوفن عن هذا التطور: «إن العلاقات الجنسية الواسعة للنساء المتزوجات في ظل الزواج الجماعي أعقبتها العلاقات الخاصة بغير المتزوجات، وممارسة العلاقة الجنسية أثناء الزواج أعقبتها الممارسة قبل الزواج، والاستسلام لكل رجل بلا تمييز أعقبه الاستسلام لرجال معينين.» وفي كثير من الشعوب نجد مثل هذه التعليمات الدينية معدومة. وفي بعض الشعوب مثل الثراسيانز والسلتس القدماء، وكثير من السكان غير الأصليين بالهند والملايو، وسكان جزر البحر الجنوبي، وكثير من الهنود الأمريكيين حتى يومنا هذا تتمتع الفتاة لديهم بحرية جنسية كاملة حتى تتزوج، ونفس الوضع نجده في جنوب أمريكا. ويذكر أجلسز في كتاب رحلة في البرازيل الذي صدر سنة 1886 أنه قدم إلى عائلة غنية من أصل هندي، ولما تعرف بالفتاة سأل عن أبيها الذي كان يعتقد أنه متزوج من أمها، فأجابته الأم مبتسمة: «ليس لها أب، إنها ابنة المصادفة.» وهي الطريقة التي تتحدث بها النساء الهنديات أو المولدات عن الأطفال غير الشرعيين دون أي شعور بالخطأ أو الخجل.
وتعتبر هذه الحالة العادية في تلك المناطق، والعكس هو الاستثناء؛ فالأطفال لا يعرفون غالبا سوى أمهاتهم، وتقع مسئولية العناية بهم على الأم، بل إن الأم وأولادها لا يعتقدون أن لهم أي حقوق على الأب. وما يظهر هنا للإنسان المتمدن على أنه شيء غريب يعتبر هو القاعدة السائدة في ظل نظام الانتساب للأم والزواج الجماعي.
ولدى شعوب أخرى يمارس أصدقاء الزوج وأقاربه أو ضيوف الزفاف حقهم التقليدي القديم في ليلة الزفاف نفسها ثم يأتي دور الزوج آخرهم، كما كان يحدث في جزر البليارك ولدى الأوجيلاس الأفريقيين القدماء، وكما يحدث إلى اليوم في أبيسينيا. ولدى شعوب أخرى يقوم شخص رسمي هو الزعيم أو الأمير أو الكاهن بالنيابة عن العشيرة في الليلة الأولى للعروس. ورغم كل المعايير الخلقية ما زال الحق في الليلة الأولى قائما ليومنا هذا بين معظم سكان ألاسكا الوطنيين
10 (كذكرى مقدسة من الزواج الجماعي)، وبين الناهوس بشمال المكسيك ولدى شعوب أخرى.
وقد كان الحق في الليلة الأولى مطبقا خلال العصور الوسطى في بلاد الغال الأصلية «فرنسا»، وقد تطور هذا الحق مباشرة من الزواج الجماعي. فرغم أن الفلاح لم يكن معتبرا من رقيق الأرض في مقاطعة كاستيل، كان نظام رقيق الأرض مطبقا في أبشع صورة في مقاطعة أراجون حتى ألغي بالمرسوم الذي أصدره فرديناند الكاثوليكي سنة 1486، وقد جاء بهذا المرسوم: «إننا نطبق العدل، ونعلن أن النبلاء والبارونات لن يناموا الليلة الأولى مع المرأة التي يتزوجها الفلاح كدليل على سلطتهم، كما لن يحصل النبلاء والبارونات على خدمات الفلاحين دون رغبتهم سواء بمقابل أو بدونه.»
ويعتبر باتشوفن على حق عندما قال إن الانتقال من الإباحية إلى الزواج بين اثنين قد تم عن طريق النساء، فكلما كانت العلاقات الجنسية الجماعية القديمة تفقد طابعها البدائي نتيجة لتطور الظروف الاقتصادية للحياة وتحلل المشاعية القديمة وازدياد عدد السكان، كانت النساء تعتبر العلاقات الجماعية عملا مهينا منحطا وتسعى إلى الحصول على حقها في الفضيلة والزواج المؤقت أو الدائم من رجل واحد فقط. وهذا التقدم لم يكن ممكنا أن يتم عن طريق الرجال؛ إذ لم يحلم الرجال أبدا «حتى إلى يومنا هذا» بالتخلي عن متعة الزواج الجماعي. ولما اضطر الرجال إلى الانتقال من الإباحية إلى الزواج بين اثنين تمسكوا بتطبيق هذه العفة على المرأة وحدها طبعا.
وقد ظهرت العائلة المكونة من فردين في الفترة بين عصري الوحشية والبربرية وبالتحديد في المرحلة العليا من الوحشية والمرحلة الدنيا من البربرية. وتعتبر هذه العائلة هي الشكل العائلي الخاص بعصر البربرية، كما يعتبر الزواج الجماعي هو الشكل العائلي الخاص بعصر الوحشية. ويعتبر الزواج بمعناه الحديث هو الشكل العائلي الخاص بعصر المدنية (وهو يختلف عن العائلة المكونة من فردين كما سيأتي). فإن التطور المستمر للعائلة المكونة من فردين إلى أن أصبحت زواجا بالمعنى الحديث يتطلب شروطا مختلفة عما رأيناه الآن.
ولو لم تظهر قوى اجتماعية دافعة جديدة إلى الوجود في كل مرحلة من مراحل التطور، لما كان هناك سبب لظهور شكل جديد من أشكال العائلة.
ولنترك الآن أمريكا، الأرض الكلاسيكية للعائلة المكونة من فردين؛ فليست هناك معلومات تؤكد أن شكلا أعلى للعائلة قد ظهر في أمريكا. ولننتقل الآن إلى العالم القديم.
ففي العالم القديم اتسع نطاق استئناس الحيوانات، وازداد عدد القطعان بطريقة جعلتها مصدرا غير متوقع للثروة؛ مما سبب نمو علاقات اجتماعية جديدة. فإلى المرحلة الدنيا من البربرية كانت الثروة تتكون كلية من المنزل والملابس ووسائل الإنتاج والآلات البدائية كالقوارب والأسلحة والأوعية المنزلية البدائية. وكان الغذاء يتم جمعه جديدا يوما بيوم. أما عندما وجدت قطعان الماشية والخيل وغيرها فقد أصبح في استطاعة الشعوب المتقدمة المسيطرة مثل الآريين في الأرض الهندية ذات الأنهار الخمسة وأرض القرغيز، ومثل الأوكس والجكارتس، والجنس السامي عند نهر الفرات ودجلة، أصبح في استطاعة هذه الشعوب أن تملك قطعانا تتطلب رقابة وعناية حتى يزداد عددها وتستخرج منها الألبان واللحوم الوفيرة. واختفت كل الوسائل السابقة لإنتاج الطعام، وحتى الصيد الذي كان فيما مضى ضرورة للحياة أصبح عندئذ هواية.
ولكن من الذي كان يملك هذه الثروة الوفيرة؟ كانت في الأصل ملكا للقبيلة بلا شك، ولكن يرجح أن الملكية الفردية نمت في مرحلة مبكرة جدا. وفي الكتاب الأول لموسى نقرأ أن الأب إبراهيم قد ظهر لموسى كمالك لقطيع من الحيوانات يتصرف فيه باعتباره زعيما لعشيرة وليس باعتبار القطيع ملكا خاصا له. ومنذ بدء التاريخ المكتوب نجد أن القطعان الحيوانية تعتبر ملكا خاصا لزعيم العائلة، مثلها في ذلك مثل المنتجات الفنية في عصر البربرية كالأدوات الحديدية وأدوات الصيد وأخيرا القطيع الآدمي من العبيد؛ فقد كان نظام العبيد قد اخترع حينئذ.
وفي المرحلة الدنيا من البربرية كان العبد عديم الفائدة؛ ولهذا السبب كان الهنود الأمريكيون يعاملون الأسرى معاملة تختلف تماما عن معاملة الأسرى في المرحلة العليا من البربرية؛ إذ كانوا إما أن يقتلوا الأسرى من الرجال وإما أن يتبنوهم كإخوة للقبيلة المنتصرة. وكانت الأسيرات من النساء إما أن يتزوجوهن وإما أن يتبنوهن مع أولادهن. ولم يكن هناك في هذه المرحلة الدنيا من البربرية عدد كبير من العمال فائض عن الحاجة كما حدث بعد ذلك. ولكن بانتشار تربية القطعان الحيوانية، واستخدام المعادن، ثم ظهور الزراعة، تغير هذا الوضع كلية؛ فقد أصبحت الزوجة التي كان الحصول عليها سهلا فيما مضى، أصبحت تشترى ويدفع فيها قيمة مقابلة، وحدث نفس الشيء مع القوة العاملة وخاصة بعد أن خرجت القطعان من ملكية القبيلة ودخلت في ملكية الأسرة (كما سيأتي بعد ذلك). إذ لم يزد عدد أفراد الأسرة بنفس السرعة التي زاد بها عدد الحيوانات المستأنسة؛ فأصبحت هناك حاجة لمزيد من الأفراد للعناية بأمر القطعان، وأصبح ممكنا أن يؤدي أسرى الحرب هذا الغرض، بل أصبح في الإمكان تربية أسرى الحرب كالقطيع نفسه.
وقد كانت هذه الثروات الجديدة المملوكة للعائلة سببا في تحطيم المجتمع المؤسس على عائلات مكونة من فردين وقبائل منتسبة للأم. فطبقا لتقسيم العمل الذي كان مطبقا في العائلة كان إنتاج الطعام من واجب الرجل؛ ولذا كانت وسائل إنتاج الطعام مملوكة للرجل وكان يأخذها معه في حالة الافتراق عن زوجته، كما كانت الزوجة تأخذ أمتعة المنزل؛ ولهذا كان الرجل يملك القطيع باعتباره المصدر الجديد للغذاء، ثم أصبح الرجل أيضا يملك العبيد باعتبارهم الوسيلة الجديدة للعمل. وطبقا لعادات المجتمع لم يكن أولاد الرجل يستطيعون وراثته لأن الوضع كان كما يأتي: حيث إن الانتساب كان للأم فقد كان الأقارب من جهة الأم هم الذين يرثون من يموت من القبيلة حتى تبقى الملكية داخل القبيلة، وحيث إن أولاد الرجل لا ينتمون إلى قبيلته وإنما إلى قبيلة أمهم فقد كانوا لا يرثون أباهم.
ولذلك فعندما ازدادت الثروة الحيوانية الجديدة المملوكة للرجل فقد أعطت الرجل وضعا أكثر أهمية في العائلة من المرأة. ومن ناحية أخرى أصبح الرجل يميل إلى توجيه النظام التقليدي للوراثة لمصلحة أولاده، ولكن ذلك كان مستحيلا طالما ظل الانتساب للأم مطبقا فكان على ذلك النظام أن يتغير حتى يستطيع الأب توريث أولاده، وقد تغير هذا النظام فعلا، ولم يكن من الصعوبة تغييره كما نتصور الآن لأن الرجل كان هو الأقوى في العائلة؛ وبذلك أصبح الانتساب للأب هو السائد. ومما سهل هذا التغيير أن هذه الثورة على الانتساب للأم، والتي تعتبر من إحدى التجارب الشديدة التأثير في تاريخ الإنسان، لم تكن تزعج أي عضو على قيد الحياة من القبيلة؛ فكل أعضاء القبيلة كانوا يستطيعون البقاء على ما هم عليه، وكان القرار الوحيد الكافي لإحداث هذه الثورة هو أن تظل سلالة الرجل مستقبلا في القبيلة. ولا تخبرنا معلوماتنا عن كيف ومتى تم هذا التغيير فقد وقع كلية في أوقات ما قبل التاريخ.
وقد جمع باتشوفن آثارا كثيرة تدل على حدوث هذا التغيير. ويمكن أن نشاهد بسهولة كيف جرى هذا التغيير في عدد من القبائل الهندية التي تم فيها هذا التغيير حديثا وما زال مستمرا؛ بسبب ازدياد الثروة وتغير طرق الحياة «الانتقال من زراعة الغابات إلى زراعة البراري»، وبسبب النفوذ الأدبي للمدنية والمبشرين الدينيين. فبين ثمانية من قبائل ولاية ميسوري بأمريكا نجد أن ستة منها تسير على قاعدة الانتساب للأب واثنين على قاعدة الانتساب للأم. وعند الشاونيش قبائل ميامي والدلاورس أصبحت العادة هي نقل الأولاد إلى قبيلة الأب بإعطائهم أحد أسماء أقارب الأب المقربين لكي يرثوا منه، وقد قامت في وجه هذا التغيير معارضة ولكنها لم تجد ولم تغير مجرى الأمور، «وهذا كله يظهر على أنه أكثر الانتقالات طبيعية - ماركس.» وقد كتب علماء القانون المقارن، ومنهم ماكسيم كوفالفسكي «كتاب الشكل الخارجي لأصل وتطور العائلة والملكية، استوكهولم، سنة 1890»، عن الطرق والوسائل التي تم بها هذا التغيير عند الشعوب المتمدينة في العالم القديم، ولكن هذه الكتابات افتراضات في معظمها.
وكان إنهاء الانتساب للأم هو الهزيمة التاريخية العالمية للجنس النسائي؛ فقد سيطر الرجل على السلطة في المنزل أيضا، وانخفض شأن المرأة وأصبحت عبدة لشهوة الرجل وآلة لتربية الأطفال. ويظهر هذا الوضع المنحط للمرأة بصفة خاصة لدى الإغريق في العصر البطولي والعصر الكلاسيكي، ومع أن المرأة عندهم أخذت تدريجيا تتزين وتتألق في ثيابها إلا أن وضعها لم يتغير.
ويظهر الأثر الأول لانفراد الرجل بالسلطة في الشكل المتوسط للعائلة الذي ظهر الآن، وهو العائلة المنتسبة للأب، فصفتها الرئيسية ليست تعدد الزوجات بل «تنظيم من عدد من الأشخاص الأحرار المرتبطين في أسرة تحت سيادة رب الأسرة، وعند الجنس السامي كان رب الأسرة مسموحا له بتعدد الزوجات، وكان الغرض من هذا التنظيم العائلي كله العناية بتربية القطعان الحيوانية في أرض محدودة.»
وتعتبر العائلة الرومانية المثل الدقيق لهذا الشكل من العائلة الذي يتميز بسيادة رب الأسرة. ولم تكن كلمة «عائلة» عند الرومان تعني في الأصل المعنى الذي نعرفه الآن، أي مزيجا من العواطف والخلافات المنزلية، بل لم تكن هذه الكلمة تشير في الأصل عند الرومان إلى الزوجين وأولادهما لكنها كانت تعني العبيد فقط. فكلمة
famulus
تعني عبد الأسرة، وكلمة
familia
كانت تعني مجموعة العبيد المملوكة لفرد معين. وحتى في أيام المشرع جايوس كانت كلمة
familia
تعني الميراث الذي ينتقل بوصية. ثم استعمل الرومان هذا التعبير
familia
لوصف تنظيم اجتماعي جديد يكون للرئيس فيه تحت سلطته زوجة وأبناء وعدد من العبيد، وهذا التنظيم هو العائلة. وفي ظل السلطة الأبوية عند الرومان كان لرب الأسرة سلطة الحياة والموت على جميع من تحت إمرته «فكلمة الأسرة لذلك ليست أقدم من النظام العائلي عند القبائل اللاتينية الذي جاء بعد زراعة الحقول وشرعية الرق وبعد انفصال الإغريق اللاتينيين. ماركس.» ويضيف ماركس إلى ذلك «أن العائلة الحديثة تحتوي على ذرية من العبيد ومن رقيق الأرض لأنها مرتبطة منذ البداية بالعمل الزراعي. وتحتوي العائلة في داخلها على كل الصراع الذي تطور بعد ذلك على نطاق أوسع في المجتمع والدولة.»
وقد كان هذا الشكل من العائلة مرحلة الانتقال من العائلة المكونة من فردين إلى الزواج الحديث، ولكي يمكن ضمان إخلاص الزوجة وضمان أبوة الأطفال وضعت المرأة تحت السلطة المطلقة للرجل.
ومع ظهور العائلة المنتسبة للأب ندخل ميدان التاريخ المكتوب وهو الميدان الذي يقدم لنا فيه علم القانون المقارن مساعدة كبرى لمعرفة التطور العائلي، وإننا ندين لماكسيم كوفالفسكي بحصولنا على الأدلة التي قدمها على أن الوحدة العائلية المنتسبة للأب مثل التي نجدها الآن
11
عند الصربيين والبلغاريين تحت اسم
zadruga
أو
bratstvo
وتعني شيئا كالإخوة، وغير هذه من الوحدات العائلية الموجودة عند الشعوب الشرقية بشكل معدل. هذه الوحدات العائلية تعتبر مرحلة انتقال بين العائلة المنتسبة للأم والتي نبعت من الزواج الجماعي وبين العائلة الفردية المعروفة في العالم الحديث. وهذا الوضع ثابت على الأقل بالنسبة للشعوب المتمدينة في العالم القديم، وهي شعب الأرمن والشعوب السامية.
وتعتبر ال
zadruga
السلافية الجنوبية أحسن مثل قائم لمثل هذه الوحدات العائلية؛ فهي تتضمن عدة أجيال من المنحدرين من أب واحد وزوجاته يعيشون معا في وحدة عائلية، والأرض الزراعية مملوكة للجميع على المشاع، وتأكل العائلة وتلبس من المخزن العام للعائلة ويعتبر الفائض عن حاجتهم في المخزن مملوكا للجميع. ويدير الوحدة العائلية رب البيت المسمى
domécin
ويمثلها في الأعمال الخارجية ويتصرف في شئونها ويدير ماليتها ويعتبر مسئولا عنها. وينتخب رب البيت من بين أعضاء الأسرة وليس ضروريا أن يكون أكبرهم سنا. أما عمل النساء فتشرف عليه ربة البيت المسماة
domacica
وهي عادة زوجة الرئيس، ويكون لها الكلمة العليا عند اختيار أزواج للفتيات. والسلطة العليا في هذه الوحدات العائلية مركزة في مجلس العائلة، وهو عبارة عن اجتماع لكل أعضائها البالغين من الرجال والنساء، ويقدم الرئيس لهذا المجلس حسابه، ويقوم المجلس باتخاذ القرارات الهامة وخاصة ما تعلق منها بالملكية العقارية، كما يقوم بتطبيق العدالة بين أعضاء الأسرة.
وقد أمكن إثبات وجود مثل هذه الوحدات العائلية في روسيا حوالي سنة 1875. واشتملت أقدم مجموعة قانونية في روسيا وهي برافدا ياروسلاف على وصف قانوني لهذه الوحدات العائلية التي كانت تسمى
vew
مثل اسمها في قوانين رومانيا. وتوجد مراجع لهذه الوحدات العائلية كذلك في المصادر التاريخية البولندية والتشيكوسلوفاكية.
وقد ذكر هيوسلر
12
أن الوحدة الاقتصادية عند الألمان لم تكن الأسرة الفردية بالمعنى الحديث، ولكنها كانت «المجموعة المنزلية» المكونة من عدة أجيال أو عائلات فردية لها عدة رؤساء. وكانت العائلة الرومانية كذلك بهذا الشكل؛ ونتيجة لذلك ظلت السلطة المطلقة لرأس الأسرة ونقصت حقوق باقي أعضاء الأسرة في علاقتهم به. ويرجح أن وحدات عائلية مشابهة لذلك وجدت عند السلت في أيرلندا وفي فرنسا.
واستمرت هذه الوحدات العائلية موجودة في نيفرنايز تحت اسم
rarconneries
تحت قيام الثورة الفرنسية، وفي منطقة لوهانز «الساءون واللوار» نجد إلى الآن منازل للفلاحين واسعة ذات قاعات مركزية عالية محاطة بغرف نوم تسكنها عدة أجيال من أسرة واحدة. وقد ذكر نيارتشاس وجود مثل هذه الوحدات العائلية في الهند أيام الإسكندر الأكبر، ولا تزال هذه الوحدات موجودة إلى يومنا هذا في البنجاب وكل الشمال الغربي للهند. وقد استطاع كوفالفسكي أن يتحقق من وجود هذه الوحدات العائلية في القوقاز. ولا تزال هذه الوحدات العائلية موجودة إلى اليوم في الجزائر بين القبائل. وقد حاول زوريتا إثبات وجودها في ال
calpullis
وهي الوحدة العائلية عند الأدك في المكسيك القديمة. وأثبت كانوا في كتاب
In Ausland
أن نوعا مماثلا من هذا التنظيم وجد في بيرو عند اكتشافها.
وعلى أي حال فإن الوحدة العائلية المنتسبة للأب ذات الملكية الشائعة والزراعة الجماعية لها الآن معنى مختلف تماما عن ذي قبل. ولا يمكن أن ننكر الدور الانتقالي الهام الذي لعبته هذه الوحدات عند كثير من الشعوب المتمدينة في العالم القديم في الانتقال من العائلية المنتسبة للأم إلى الزواج الحديث. وسنعود فيما بعد إلى النتيجة التي ساقها كوفالفسكي ومؤداها أن هذه الوحدات العائلية كانت مرحلة الانتقال التي خرجت منها القرية كوحدة اجتماعية، كما خرجت منها الزراعة الفردية التي كانت في أول أمرها توزيعا دوريا للأرض بين الأفراد بالتناوب ثم أصبح التوزيع دائما.
وقد كان رؤساء هذه الوحدات العائلية في روسيا يسيئون استخدام سلطتهم مع النساء الشابات، وخاصة زوجات أبنائهم اللاتي كانوا يحولوهن إلى حريم لهم. وتنعكس هذه الأوضاع في منتهى البلاغة في الأغاني الشعبية الروسية.
وهناك بضع كلمات أخرى لتعدد الزوجات وتعدد الأزواج نذكرها قبل أن نبحث العائلة الزوجية بالمعنى الحديث، وهي العائلة التي تطورت سريعا وأعقبت انتهاء العائلة المنتسبة للأم. فلم يكن كل من تعدد الأزواج وتعدد الزوجات يطبقان إلا استثناء بمثابة إنتاج تاريخي للترفيه، ومن الثابت أن أيا منهما لم يصل إلى مرتبة التطبيق العام. وقد كان الرق قديما هو سبب تعدد الزوجات الموجود حاليا. وعند الجنس السامي لم يكن تعدد الزوجات يسمح به في ظل العائلة المنتسبة للأب إلا للأب نفسه واثنين من أبنائه على الأكثر، وكان على الآخرين أن يكتفوا بزوجة واحدة. وظل الوضع إلى الآن
13
على ما هو عليه في الشرق كله؛ فتعدد الزوجات يعتبر من مميزات الأغنياء وذوي الألقاب، وتجمع الزوجات أساسا عن طريق شراء الإماء، أما جماهير الشعب فلها في الغالب زوجة واحدة. وهناك استثناء واحد لتعدد الأزواج موجود في الهند والتبت وأصله من الزواج الجماعي، ويظهر هذا النظام في تطبيقه العملي أكثر سهولة من نظام الحريم الغيورات المطبق لدى المسلمين، وفي ظل هذا النظام يكون الرجال في مجموعات مكونة من ثلاثة أو أربعة رجال لهم زوجة واحدة شائعة فيما بينهم، ولكل منهم الحق في زوجة ثانية شائعة بينه وبين ثلاثة رجال آخرين، وبنفس الطريق يستطيع الرجل الحصول على زوجة ثالثة ورابعة وهكذا. ومن الغريب أن ميكلنان الذي كتب عن هذا النظام لم يعتبر هذه النوادي الزوجية، طبقة جديدة من الزواج. وكانت عضوية عدة نواد زوجية مفتوحة للرجل في نفس الوقت. ويلاحظ أن هذا النظام لا يعتبر تعدد أزواج بالمعنى الصحيح، بل شكلا خاصا من الزواج الجماعي يسمح للرجال فيه بتعدد الزوجات ويسمح للنساء بتعدد الأزواج كما ذكر جيرود تيلون. (4)
العائلة الزوجية بالمعنى الحديث: تطور هذا النوع العائلي - كما سبق القول - عن العائلة المكونة من فردين أثناء فترة الانتقال من المرحلة الوسطى إلى المرحلة العليا للبربرية، ويعتبر الانتصار النهائي للعائلة الزوجية الحديثة إحدى علامات بدء المدينة. وهذه العائلة مؤسسة على أساس سيادة الرجل وهدفها إنجاب أطفال غير مشكوك في أبوتهم حتى يرثوا ثروة أبيهم. وتختلف هذه العائلة عن العائلة المكونة من فردين في قوة الرابطة الزوجية التي لم تعد تحل في الزواج الحديث بمجرد رغبة الطرفين، ولكن أصبحت القاعدة هي حق الرجل وحده في حل الرابطة الزوجية. وما زال حق الرجل في خيانة زوجته قائما من الناحية العملية على الأقل (وينص قانون نابليون على حق الرجل في خيانة زوجته ما دام لا يحضر عشيقته إلى منزل الزوجية). لكن الزوجة أصبحت عرضة لأشد أنواع العقاب إذا أقدمت على خيانة زوجها.
ونجد هذا الشكل الجديد من العائلة في عنفوانه عند الإغريق؛ فقد انحط شأن المرأة في العصر البطولي نظرا لسلطة الرجل ومنافسة الإناث من العبيد له. وانعكس هذا الوضع في الأدب الإغريقي الذي ظهر في تلك الفترة؛ فنجد في الأوديسا
14
أن تلمافيوس يقتل أمه وينعم بالهدوء فوق جسدها. وكانت الأسيرات الشابات موضوع الرغبة العاطفية لدى المنتصرين في أشعار هوميروس، ويدور كل موضوع الإلياذة على الصراع بين أتيلز وأغاممنون من أجل امرأة من العبيد. وقد كان كل بطل من أبطال قصص هوميروس تذكر بجانبه أسيرة جميلة يشاركها البطل في الخيمة والفراش ويصحبها إلى منزل الزوجية، كما فعل أغاممنون مع كاساندرا. ويعطى الأبناء الذين يولدون من تلك الأسيرات جزءا صغيرا من أملاك والدهم ويعتبرون أحرارا، وقد كان تيوكروس في القصة ابنا غير شرعي لتيلامون وسمح له بأن يحمل اسم والده. وكان على الزوجة الشرعية أن تسمح بقيام هذه الأوضاع وتخلص رغم ذلك لزوجها إخلاصا تاما. ورغم كل ذلك فقد كانت الزوجة في العصر البطولي لدى الإغريق أكثر احتراما منها في عصر المدينة. وكان وجود الرق جنبا إلى جنب مع الزواج، ووجود إماء جميلات يملكهن الرجل هو الذي طبع الزواج الحديث منذ بدايته بطابع الإخلاص من جانب الزوجة والخيانة من جانب الرجل، وما زال الرجل يحتفظ بهذا الطابع إلى اليوم.
أما الإغريق الذين جاءوا بعد ذلك فهناك فارق بين الدوريانيين والأيونيين. فالأولون الذين كانت إسبرطة هي المثل الكلاسيكي لهم كانت لديهم في مجالات كثيرة علاقات زوجية أقدم مما كتب عنها هوميروس، وكان في إسبرطة نوع من الزواج الفردي - عدلته الدولة تمشيا مع الآراء السائدة - يحمل كثيرا من خواص الزواج الجماعي، فكان الزواج الذي لا ينتج عنه أطفال يحل. واتخذ الملك أنكساند ريداس (حوالي سنة 650ق.م) زوجة أخرى له بالإضافة إلى زوجته الأولى لأنها لم تنجب أطفالا. وأضاف الملك أرستوتس (نفس الفترة) زوجة ثالثة لزوجتيه الأوليين لأنهما كانتا عقيمتين، ثم طلق إحداهما. ومن ناحية أخرى فقد كان يمكن لعدة إخوة أن يتخذوا زوجة مشتركة لهم، وكان الشخص الواحد يستطيع مشاركة صديقه في زوجته إن كانت له رغبة فيها. وكان في بلوثارت ممر ترسل إليه المرأة الإسبرطية الحبيب الذي يلاحقها باهتمامه كي يتباحث مع زوجها في ذلك، ويدل هذا - كما قال تشومان - على حرية جنسية كبرى. ولم يكن الزنا بمعناه الحقيقي، أي خيانة الزوجة لزوجها دون علمه، معروفا في إسبرطة، كما لم يكن الرق المنزلي معروفا أيام ازدهار إسبرطة. وكان رقيق الأرض يعيشون منعزلين في المزارع؛ لذلك كان رجال إسبرطة يميلون إلى معاشرة نسائهم قبل الزواج. ولكل هذه الظروف تمتعت المرأة في إسبرطة بمركز محترم عن كل نساء الإغريق الأخريات، وقد كانت النساء الإغريقيات والبغايا الأثينيات (وسيأتي ذكرهن) هن النساء الإغريقيات الوحيدات اللاتي تكلم عنهن الأقدمون باحترام ورأوا أن آثارهن جديرة بالتسجيل.
أما الأيونيون فتعتبر أثينا المثل الصحيح لهم. وكان وضعهم يختلف تماما عن الإسبرطيين؛ فقد كانت فتياتهم يتعلمن العزف على الآلات الموسيقية والحياكة والطهي وقليلا من القراءة والكتابة، ولكنهم كن في عزلة لا يختلطن إلا بالنساء. وكان جناح النساء جزءا منفصلا في المنزل في الدور الأعلى ولا يسمح للرجال - وخاصة الأغراب - بدخوله بسهولة، ولم يكن يسمح للمرأة بالخروج إلا في صحبة امرأة من العبيد. ويقول أرستوفانز إنهم كانوا يحتفظون بكلاب الصيد لحراسة النساء وإخافة الرجال، كما كان سكان المدن الآسيوية يحتفظون بالخصيان لحراسة النساء، وكان هؤلاء الخصيان يعدون للاتجار فيهم منذ وقت قديم مثل وقت هيرودوت. ويقول واتشسميث: «إن هؤلاء الخصيان لم يكونوا من الزنوج فقط.» وقد انعكس وضع المرأة أيضا في الآداب التي ظهرت في تلك الفترة، ففي كتابات إيوريبيدبيس توصف المرأة على أنها شيء للاحتفاظ به في المنزل، وفيما عدا وظيفتها في إنجاب الأطفال لم تكن تعني بالنسبة للأثيني سوى خادمة المنزل الرئيسية، وكانت محرومة تماما من الاشتراك في الشئون العامة أو ممارسة الرياضة، وزيادة على ذلك فقد كان للرجل في أغلب الحالات عبيد من النساء، وفي أيام ازدهار أثينا تفشى البغاء، وكانت الدولة تشجعه أو على الأقل تتغاضى عنه.
وكان هذا البغاء هو سبب علو مركز المرأة الإغريقية؛ فبإيحاء البغايا وذوقهن الفني عملن على تقوية مركز المرأة عموما في هذا الوقت القديم، وكان على المرأة أن تصبح بغيا أولا لكي تصبح زوجة، وكان هذا أخص خصائص العائلة الأثينية.
وبمرور الوقت أصبحت العائلة الأثينية المثل الذي اقتدى به كل الأيونيون، بل كل الإغريق الأصليين والمقيمين بالمستعمرات. ورغم كل العزلة والاحتجاب كان لدى النساء الإغريقيات الفرص الكافية لخيانة أزواجهن. وكان يخجل الرجل في ذلك الوقت أن يظهر أي حب لزوجته، وكان يجد مع عشيقاته كل أنواع المتعة. وقد كان لانخفاض شأن المرأة الأثينية أثره المنعكس على الرجل؛ فانخفض شأن الرجال بدورهم حتى غرقوا في هاوية الشذوذ الجنسي مدنسين بذلك أنفسهم وآلهتهم على السواء.
وكان ما سبق هو أصل نظام الزواج الحديث على قدر ما نستطيع التحقق من آثاره بين معظم الشعوب المتمدينة في الزمن القديم. ولم يكن هذا الزواج ثمرة الحب الجنسي بأي حال من الأحوال، ولم يكن للحب أي مظهر عام كما كان الحال قبلا، وقد كان هذا الزواج هو الشكل الأول للعائلة المبني على أسس اقتصادية وليست طبيعية، وهذه الأسس هي انتصار الملكية الخاصة على الملكية الجماعية الأصلية التي نمت نموا طبيعيا. فحكم الرجل للعائلة ورغبته في إنجاب أطفال موثوق من أبوتهم ليرثوه بعد موته، كانت هي كل أسباب الزواج التي يعترف بها الإغريق، وكان ذلك عبئا على بقية أفراد الأسرة وواجبا عليهم نحو الآلهة والدولة والأسلاف يجب أداؤه.
وقد كان القانون في أثينا يجعل الزواج إجباريا باعتباره وفاء من الرجل بالحد الأدنى لما يسمى بالواجبات الزوجية.
وعلى ذلك فإن الزواج لم يظهر في التاريخ باعتباره توافقا بين الرجل والمرأة بأي حال، وعلى العكس فقد ظهر الزواج باعتباره خضوعا من جنس لجنس آخر، فلم يكن التنازع بين الجنسين قد أعلن إلى اللحظة التاريخية التي ظهر فيها الزواج. وقد وجدت الآتي في كتاب قديم من عمل ماركس وعملي سنة 1846 (وهذا الكتاب واسمه الفكر الألماني نشرت الترجمة الإنجليزية للجزء الأول والثالث منه في نيويورك سنة 1939)، وقد وجدت في هذا الكتاب ما يأتي: «إن التقسيم الأول للعمل هو تقسيمه بين الرجل والمرأة من أجل تربية الأطفال.» وأستطيع اليوم أن أضيف إلى ذلك أن أول صراع طبقي ظهر في التاريخ كان الصراع بين الرجل والمرأة في ظل الزواج، وأن أول خضوع طبقي كان خضوع المرأة للرجل، فقد كان الزواج تقدما تاريخيا كبيرا ولكنه في نفس الوقت ظهر مع ظهور الرق والملكية الخاصة؛ ولذلك فإن هذا العصر (أي عصر الزواج) الذي يستمر إلى اليوم نجد كل تقدم فيه نعمة ونقمة، وكل تحسن ونمو في مجموعة يقابله بؤس وشقاء في مجموعة أخرى. ويعتبر هذا العصر هو الشكل المركب للمجتمع المتمدين الذي نستطيع أن ندرس فيه طبيعة الصراع والتعارض الذي ينمو بقوة في المجتمع المتمدن.
ولم تختف الحرية الجنسية القديمة بانتصار العائلة المكونة من فردين أو حتى بانتصار الزواج الحديث. إن نظام العائلة القديم الذي اختصر إلى حدود ضيقة باختفاء المجموعات البونالوانية ظل يحيط بالعائلة المتقدمة في طريقها إلى المدنية، وكان ذلك في شكل العلاقات غير الشرعية التي تخيم على العائلة كظل مظلم في مرحلة المدنية. ويعني مورجان بالعلاقات غير الشرعية العلاقات الجنسية بين الرجال والنساء غير المتزوجات بجانب الزواج. وقد ازدهرت هذه العلاقات غير الشرعية بأشكالها المختلفة في ظل المدنية، وما زالت تتطور في ثبات إلى بغاء علني. وتعود هذه العلاقات في أصلها إلى الزواج الجماعي والاستسلام الفدائي للنساء اللاتي بعن حقهن في العفة. وقد كان الاستسلام للمال أول الأمر عملا دينيا يجري في معبد آلهة الحب، وكان المال يوضع في صندوق المعبد. وكانت إماء معبد أناتيس في أرمينيا، وإماء معبد أثرودت في كورنث، وفتيات الرقص الديني الملحقات بالمعابد في الهند، كانت هؤلاء النساء أولى البغايا. وكان هذا الاستسلام في الأصل إجباريا لكل النساء في ظل الزواج الجماعي، ثم أصبحن يمارسنه في تضحية تلك الراهبات نيابة عن كل النساء. وتنبع العلاقات غير المشروعة عند الشعوب الأخرى من الحرية الجنسية المسموح بها للفتيات قبل الزواج، والتي نبعت بدورها من الزواج الجماعي. وبظهور الفوارق في الملكية الفردية (أي منذ المرحلة العليا للبربرية) يظهر العمل الأجير في كل مكان مع الرق، ويظهر احتراف النساء للبغاء في نفس الوقت مع الاستسلام الإجباري للإماء. وعلى ذلك كان الميراث الذي انتقل للمدنية عن طريق الزواج الجماعي نعمة ونقمة، مثله في ذلك مثل كل شيء ظهر بظهور المدنية، فمن ناحية نجد الزواج، ومن ناحية أخرى نجد العلاقات غير المشروعة وخاصة أبشع أشكالها وهو البغاء.
وتعتبر العلاقات غير المشروعة نظاما اجتماعيا شأنها في ذلك شأن أي نظام آخر؛ فهي استمرار للحرية الجنسية القديمة لصالح الرجال الذين يمارسونها بأجسادهم ويلعنونها بأفواههم. والحقيقة أن هذه اللعنة لا تمس الرجال وتقتصر على النساء؛ لكي يؤكد الرجل مرة أخرى سيطرته على المرأة كقانون أساسي للمجتمع.
وهناك تعارض آخر ينمو داخل الزواج، فبجانب الرجل الذي تمتلئ حياته بعلاقات غير شرعية تقف الزوجة المهملة الشأن، ومن المستحيل أن نأخذ جانبا واحدا من التعارض دون الجانب الآخر. وعلى ذلك فعلينا أن نذكر أن هناك صورتين اجتماعيتين لم تكونا معروفتين قبلا حتى ظهر الزواج، وهما عشيق الزوجة وزوجها. لقد انتصر الرجال على النساء ولكن تتويج المنتصر بالعار قام به المهزوم في شجاعة؛ فالزنا ممنوع ومعاقب عليه بشدة ولكنه أصبح نظاما اجتماعيا لا يمكن تجنبه بجانب الزواج والبغاء. وبذلك أصبحت أبوة الطفل المؤكدة مبنية - كما كان الحال قبلا - على مجرد الاقتناع الأدبي. ولكي تحل المدنية هذا التعارض الذي لا يحل تنص المادة 312 من قانون نابليون على أن الطفل الذي «يولد أثناء الزواج يعتبر ابنا للزوج.» وهذه هي الحصيلة النهائية لثلاثة آلاف سنة من الزواج.
وعلى ذلك فإن هذه الحالات الملازمة للزواج تنعكس فيها بأمانة أصولها التاريخية. ويظهر بوضوح التنازع الحاد بين الرجل والمرأة الذي ينتج عن السيطرة المفرطة للرجل. ويعطينا هذا التنازع صورة مصغرة للتنازع والصراع في المجتمع المقسم إلى طبقات منذ بدء المدنية دون أن يستطيع حل هذا التنازع أو القضاء عليه. وأنا أشير هنا بطبيعة الحال إلى حالات الزواج التي تسير فيها الحياة الزوجية طبقا للقواعد التي تحكم الطابع الأصلي للنظام العائلي كله. ولكن حيث تثور الزوجة ضد سيطرة الزوج (وهي حالات قليلة)، يخبرنا الألماني غير المثقف عن مدى هذه الثورة، وهو الرجل الذي لم يعد مستطيعا أن يحكم بيته، شأنه في ذلك شأن وضعه في الدولة، ويعزي هذا الألماني المسكين نفسه متخيلا الحالة المؤلمة التي يعيش فيها الرجل الفرنسي.
ولم تظهر العائلة الزوجية في كل مكان بالشكل الكلاسيكي القاسي الذي ظهرت به عند الإغريق، وقد كانت نظرة الرومان الذين كانوا يعتبرون أنفسهم غزاة العالم المستقبلين، كانت نظرتهم للعائلة أعمق من نظرة الإغريق فقد كانت المرأة عندهم أكثر حرية واحتراما، وكان الروماني يعتقد أن إخلاص زوجته مضمون بسلطته عليها وحقه في قتلها، كما كان في استطاعة الزوجة والزوج حل الرابطة الزوجية بإرادة أي منهما. لكن أكبر تقدم ظهر في نظام الزواج جاء مع دخول الألمان للتاريخ؛ لأنه يبدو أن الزواج عندهم لم ينبع من العائلة المكونة من اثنين، وربما كان ذلك راجعا لفقرهم، ونستنتج ذلك من ثلاثة ظروف ذكرها تاسيتس:
أولا:
بجانب اعتقادهم بقدسية الزواج كان الرجل قانعا بزوجة واحدة تعيش في سياج من العفة. وكان تعدد الزوجات موجودا بالنسبة لأصحاب الألقاب ورؤساء القبائل فقط، وهو وضع مشابه لوضع الهنود الأمريكيين الذين كانوا يعيشون في ظل العائلة المكونة من فردين.
ثانيا:
لم يطبق الانتقال من العائلة المنتسبة للأم إلى العائلة المنتسبة للأب إلا لفترة قصيرة؛ فقد كان أخو الأم (وهو أقرب ذكر لها طبقا للانتساب للأم) يعتبر أكثر قرابة للشخص من الأب نفسه. مما يقودنا إلى موقف مماثل للهنود الأمريكيين الذين وجد ماركس عندهم المفتاح الذي يؤدي إلى فهم حياتنا فيما قبل التاريخ كما تعود ماركس أن يقول.
ثالثا:
كان للنساء عند الألمان مركز ممتاز، وكان لهن نفوذ في الشئون العامة، وهو ما يتعارض مع سيطرة الرجل في الزواج، وفي كل ذلك يتفق الألمان مع الإسبرطيين.
وعلى ذلك فإن عنصرا جديدا اكتسب التفوق العالمي مع ظهور الألمان؛ فالزواج الذي نتج عن امتزاج الأجناس على حطام العالم الروماني، وسمح للنساء بأن تشغل مركزا ممتازا (على الأقل في المظاهر الخارجية)، كان هذا الزواج سببا في تقدم أدبي كبير يأخذ مكانه في الزواج ويسير في خط متواز أو متعارض معه؛ وهذا التقدم يسمى الحب الجنسي بين الأفراد وهو ما لم يكن معروفا في العالم كله من قبل.
ومن المسلم به أن هذا التقدم ظهر في ظل الظروف التي كان الألمان يعيشون فيها أثناء فترة العائلة المكونة من فردين. ولم يظهر هذا التقدم بأي حال من الأحوال نتيجة للتقاليد الخلقية الرائعة والعفة التي كان الألمان يتحلون بها، بل ظهر نتيجة الظروف التي عاشوا فيها. بدليل أن الألمان «الفضلاء» أنفسهم عندما هاجروا إلى الجنوب الشرقي - حيث رعاة الاستبس على البحر الأسود - قاسوا انحطاطا أدبيا كبيرا، ولم ينقلوا عن هؤلاء الرعاة فروسيتهم، بل نقلوا عنهم رذائلهم الخطيرة كما كانت حال قبائل ال
taifali
وال
heruli .
ومع أن الزواج كان الشكل الوحيد للعائلة الذي كان يمكن أن يتطور منه الحب الجنسي فإن هذا الحب أو حتى أغلبيته لم يتطور من الزواج وحده؛ فقد كانت طبيعة الزواج الصارمة في ظل سيطرة الرجل تنفي حدوث ذلك. فبين كل الطبقات التاريخية الحاكمة ظل الزواج كما كان الحال في ظل العائلة المكونة من فردين؛ أي مسألة مصلحة أو ملاءمة ينظمها الوالدان. ولم يكن الشكل الأول للحب الجنسي الذي ظهر في العصور الوسطى - حب الفرسان - لم يكن هذا الشكل حبا بين زوجين، بل على العكس كان في شكله الكلاسيكي عند هؤلاء الفرسان يتجه بكل قواه نحو الزنا، وهو ما كان يتغنى به الشعراء . ومن الثمار الأدبية لهذا النوع من الحب أغاني الفجر
albas
الألمانية، فقد كانت تصف بألوان فاقعة كيف ينام الفارس مع عشيقته وهي زوجة آخر في حين يقف حارس في الخارج ليناديه عند ظهور أول بوادر الفجر لكي يهرب دون أن يشعر به أحد. ويمثل منظر الفراق في هذه الأغاني قمة النشوة. وقد تبنى الفرنسيون الشماليون هذا الأسلوب من الشعر مع تقاليد حب الفرسان. وعلى ضوء هذا الموضوع الإيحائي ترك لنا منشدنا القديم ولفرام فون إشنباخ ثلاث أغان رائعة.
وللزوج البورجوازي في وقتنا الحالي نوعان، ففي البلاد الكاثوليكية يقدم الوالدان لبورجوازيهم الصغير الزوجة المناسبة، والنتيجة الطبيعية لذلك ظهور أقصى التناقض الموروث في الزواج وازدهار العلاقات غير الشرعية من جانب الزوج والزنا من جانب الزوجة، وقد منعت الكنيسة الكاثوليكية الطلاق لمجرد اقتناعها بأنه ليس هناك علاج للزنا، شأنه في ذلك شأن الموت. وفي البلاد البروتستنتية جرت العادة على السماح للابن البورجوازي أن يختار زوجته بحرية على أن تكون من طبقته، والنتيجة أنه يمكن في تلك الحالات تأسيس الزواج على درجة معينة من الحب الذي نفترض وجوده تمشيا مع النفاق البروتستنتي. ونجد في هذه الحالات أن الزوج لا يسعى بنفس الحماس إلى العلاقات غير المشروعة، كما لا يكون زنا الزوجة هو القاعدة، وحيث إنه في كل أنواع الزواج يبقى الناس كما كانوا قبل الزواج، وحيث إن مواطني البلاد البروتستنتية جهلة في أغلبيتهم، فإن هذا الزواج لا يؤدي في أغلب الحالات إلا إلى حالة مستمرة من الملل يصفونها بالسعادة الزوجية. وأحسن انعكاس لهذين النوعين من الزواج هو القصة الفرنسية بالنسبة للزواج الكاثوليكي، والقصة الألمانية بالنسبة للزواج البروتستنتي، وفي كلتا القصتين يقول الكتاب إن الزوج «يأخذها»، في القصة الألمانية يأخذ الزوج «الفتاة»، وفي القصة الفرنسية يأخذ الزوج «قرني المخدوع». أما أي الاثنين هو الأسعد فهو ما لا يسهل تقريره. ويثير جمود القصة الألمانية في نفس الفرنسي نفس الاشمئزاز الذي يثيره انحلال القصة الفرنسية في نفس الألماني، وإن كانت القصة الألمانية قد بدأت تتجه إلى الجرأة في الكلام عن الزنا والعلاقات المحرمة منذ أصبحت برلين عاصمة ألمانيا.
وفي كلا النوعين السابقين يتحدد الزواج بالوضع الطبقي للزوجين، وإلى هذا الحد يظل الزواج زواج مصلحة، ويتحول في أغلب الحالات إلى دعارة طائشة، أحيانا من جانب الزوجين، وغالبا من جانب الزوجة التي تختلف عن الغانية في أنها لا تؤجر جسدها بالقطعة مثل العامل الأجير كما تفعل الغانية وإنما تبيعه في عبودية بصفة دائمة. وإن كلمات فوريير لتنطبق بدقة على كل زواج مصلحي؛ إذ يقول: «كما أنه في القواعد اللغوية يعتبر نفيان إثباتا، فكذلك في القواعد الزوجية تعتبر دعارتان فضيلة.» ويمكن للحب الجنسي في يومنا هذا أن يصبح القاعدة بين الطبقات المحكومة، أي بين العمال، فقد انعدمت بينهم أسس الزواج الكلاسيكي، ولم يعد يهمهم إن كانت العلاقة العاطفية رسمية أم لا، فبين العمال تنعدم الملكية التي اخترعت الزواج وسيطرة الرجل من أجل المحافظة عليها ووراثتها.
ولذلك لم يعد هناك دافع بين العمال لتأكيد سيطرة الرجل فضلا عن انعدام وسائل السيطرة. ويضاف إلى ذلك أنه منذ اتسعت رقعة الصناعة واضطرت المرأة إلى الانتقال من المنزل إلى السوق والمصنع أصبحت مورد رزق للعائلة؛ ففقدت سيطرة الرجل أساسها، وأصبح أساس الزواج هو العلاقات الشخصية، ولم تبق إلا بعض القسوة في معاملة النساء وهي قسوة ورثها الرجل وانطبعت في أعماقه منذ نشأ الزواج. وعلى ذلك فإن العائلة العمالية لم تعد عائلة زوجة بالمعنى الحرفي، ولم يعد للزنا والعلاقات المحرمة إلا دور بسيط؛ فقد عاد للمرأة حق الطلاق. وباختصار فإن الزواج العمالي زواج بالمعنى اللغوي الدقيق للكلمة وليس بمعناها التاريخي بأي حال. ولكي نؤكد ما نقوله نسوق ما يعتقده قضاتنا من أن التطور التشريعي الكامل يمحو وجود أي سبب للشكوى من جانب المرأة؛ فالنظم القانونية الحديثة تعترف أكثر فأكثر بأن الزواج يجب أن يتم برغبة كلا الطرفين حتى يكون مثمرا، وأن حقوق وواجبات الزوجين أثناء الزواج يجب أن تكون متساوية، فإذا نفذ هذان الشرطان بدقة تكون المرأة قد حصلت على كل ما تريد.
ويطابق تفكير هؤلاء المشرعين تفكير الراديكاليين البورجوازيين الذي يستعبدون به العمال، فالمفروض في نظرهم أن عقد العمل هو عقد بين صاحب عمل وعامل بمحض إرادة الطرفين، ويحاولون إيهامنا بأن العقد فعلا يتم بإرادة الطرفين لمجرد أن القانون ينص على ذلك. ولكن السلطة التي يملكها أحد هؤلاء الطرفين لاختلاف الوضع الطبقي والضغط الذي يفرض على الآخر، كل هذا لا يهم القانون. والمفروض أيضا أن كلا الطرفين متساويان في الحقوق والواجبات بشأن استمرار عقد العمل إلى أن يرغب أحد الطرفين في إنهائه. أما كون الوضع الاقتصادي يضطر العامل إلى أن يتنازل حتى عن أبسط مظاهر المساواة فهو أيضا ما لا دخل للقانون به.
وإن أكثر القوانين المنظمة للزواج تقدما يقنعها مجرد إعلان الطرفين رغبتهما الكاملة في الزواج، أما ما يحدث خلف الستائر القانونية حيث تجري الحياة الحقيقية وكيف ينفذ هذا الاتفاق الاختياري فهو ما لا يخص القانون أو القاضي. وإن أبسط مقارنة بين القوانين يجب أن تظهر للقاضي حقيقة هذه الرغبة الاختيارية. ففي البلاد التي يضمن القانون فيها للأولاد أن يرثوا آباءهم مثل ألمانيا والإمبراطورية الفرنسية - يجب على الأولاد أن يحصلوا على موافقة آبائهم في مسائل الزواج. وفي البلاد الخاضعة للحكم الإنجليزي حيث لا يتعين الحصول على موافقة الآباء، نجد للوالدين الحرية المطلقة في الإيصاء بثرواتهم بعد الموت لمن يشاءون، ويمكنهم - إذا أرادوا - حرمان أولادهم من الميراث. وعلى ذلك ففي الطبقات التي يجد أبناؤها ما يرثونه عن آبائهم نجد أن حرية الزواج في إنجلترا ليست بأفضل منها في فرنسا.
وليس الوضع بأفضل من ذلك إذا نظرنا إلى المساواة القانونية بين الرجل والمرأة في الزواج؛ فعدم المساواة بين الاثنين أمام القانون هو شيء سببته الظروف الاجتماعية السابقة، وليس هو سبب السيطرة الاقتصادية على النساء بل نتيجة هذه السيطرة. ففي العائلة المشاعية القديمة التي كانت تضم عدة أزواج وأولادهم، كانت إدارة المنزل موكولة إلى النساء على أنها وظيفة عامة حتمية مثل حتمية قيام الرجل بالحصول على الطعام. وقد تغير هذا الوضع مع ظهور العائلة المنتسبة للأب، وازداد تغيرا مع ظهور العائلة الزوجية الحديثة؛ فقد فقدت إدارة المنزل طابعها العام ولم تعد تهم المجتمع وأصبحت خدمة خاصة، وأصبحت الزوجة خادمة المنزل الأولى وحرمت من المساهمة في الإنتاج الاجتماعي. ولم تعد المرأة إلى المساهمة في الإنتاج إلا مع ظهور الصناعة الحديثة ولكن بطريقة تجعلها حينما تؤدي واجباتها العائلية تظل مبعدة عن الإنتاج، وحينما تريد المساهمة في الإنتاج وكسب معاشها في استقلال تكون في وضع لا يمكنها من أداء واجباتها العائلية. وما ينطبق على المرأة في المصنع ينطبق عليها في كل حرفة حتى في الطب والقانون. فالعائلة الزوجية الحديثة مؤسسة على العبودية المنزلية الظاهرة أو المستترة للمرأة، والمجتمع الحديث ما هو إلا كتلة مكونة من عائلات فردية بمثابة جزئياته.
وعلى الرجل في أغلب الحالات حديثا أن يكون كاسب العيش لأسرته وهذا ما يعطيه وضعا مسيطرا دون حاجة لامتيازات قانونية، وإذا ما انتقلنا إلى عالم الصناعة نجد الطابع الخاص بالخضوع الاقتصادي الذي يحط من شأن العامل يظهر بكل حدته بعد إلغاء المزايا القانونية الخاصة بالطبقة الرأسمالية وتطبيق المساواة الاسمية الكاملة بين جميع الطبقات، فإن الجمهورية الديموقراطية لا تلغي الصراع بين الطبقتين بل تعد لهما الميدان الذي تتصارعان فيه. ومما لا شك فيه أن ذلك الوضع الشاذ - وهو سيطرة الرجل على المرأة - سيختفي تماما بدخول المرأة كلية إلى ميدان الإنتاج الاجتماعي؛ فعندئذ ستنتفي الدوافع التي كانت سببا في سيطرة الرجل. •••
مما سبق يتضح أن لدينا ثلاثة أشكال رئيسية للزواج تمثل المراحل الرئيسية الثلاث للتطور الإنساني. فبالنسبة للمرحلة الوحشية كان الزواج الجماعي هو الشكل السائد. وبالنسبة للمرحلة البربرية كانت العائلة المكونة من اثنين هي الشكل السائد. وبالنسبة للمدنية كانت العائلة الزوجية الحديثة هي الشكل السائد، ويكملها في هذه المرحلة الزنا والبغاء. وفي المرحلة العليا للبربرية كانت هناك العلاقة التي يمارسها الرجال مع العبيد من النساء كما كان هناك تعدد الزوجات.
وكما يتضح من العرض السابق نلاحظ أن التقدم الملحوظ في هذا المجال مختلط مع حقيقة غريبة مؤداها أنه بينما تحرم النساء أكثر فأكثر من الحرية الجنسية لا يعاني الرجال هذا الحرمان. فما زال الزواج الجماعي إلى اليوم موجودا بالنسبة للرجال من الناحية العملية، وما يعد اليوم جريمة بالنسبة للمرأة تترتب عليه آثار قانونية واجتماعية خطيرة - يعد بالنسبة للرجل شيئا مشرفا، أو على الأكثر سقطة خلقية بسيطة يتحمل آثارها في سرور. وبقدر ما تعدلت العلاقات القديمة غير المشروعة في أيامنا هذه بسبب مستلزمات الصناعة الحديثة، وبقدر ما تتحول هذه العلاقات إلى بغاء علني، بقدر ما تنهار المعايير الخلقية وخاصة بين الرجال. ونعتقد أن تلك التعيسات اللاتي يتردين في هاوية البغاء من أجل لقمة العيش لسن بالانحطاط الذي يظنه المجتمع.
ونقترب الآن من تغيير اجتماعي تختفي فيه أسس الزواج الاقتصادية القائمة إلى الآن، كما يختفي البغاء. فقد ظهر الزواج مع ظهور قدر معين من الثروة في يد شخص واحد هو الرجل ومع رغبة هذا الرجل في توريث الثروة لأبنائه، وكان الزواج ضروريا لأداء هذا الغرض من جانب المرأة وليس من جانب الرجل؛ بدليل أن زواج المرأة من رجل واحد لم يمنع تعدد الزوجات العلني أو الخفي بالنسبة للرجل. أما التغيير الاجتماعي المقبل فسيحول الجزء الأكبر من الثروة المتوارثة إلى الملكية الاجتماعية، وسيكون ذلك سببا في تخفيض كل القلق من أجل الميراث، وحيث إن الزواج قد ظهر نتيجة أسباب اقتصادية، فهل يختفي الزواج باختفاء تلك الأسباب؟
لا يجب أبدا أن نقول ذلك، فبدلا من الاختفاء سيبدأ الزواج تماما في أن يتحقق لأنه بتحويل وسائل الإنتاج إلى ملكية اجتماعية سيختفي العامل الأجير، وستختفي باختفائه ضرورة وجود عدد معين من النساء يبعن جسدهن للمال، أي سيختفي البغاء، وبدلا من اختفاء الزواج سيصبح أخيرا حقيقة ناصعة حتى بالنسبة للرجال؛ ولذلك فإن وضع الرجل سيعتريه تغير ملحوظ وكذلك وضع المرأة، وستظل العائلة هي الوحدة الاقتصادية للمجتمع، وستصبح إدارة المنزل عملا اجتماعيا مرة أخرى، وستصبح تربية الأطفال أمرا يهم المجتمع الذي سيعنى حينئذ بكل الأطفال بصرف النظر عما إذا كانوا شرعيين أو غير شرعيين، كما أن الخوف من «النتائج» الذي يعتبر اليوم أهم دافع خلقي واقتصادي يمنع الفتاة أن تمنح نفسها للرجل الذي تحبه، هذا الخوف سيختفي. ولكن ألن يكون ذلك كافيا للتوسع التدريجي في العلاقات الجنسية ونمو رأي عام أكثر تساهلا فيما يتعلق بعذرية الفتاة وخجل المرأة؟! وهل يستطيع البغاء أن يختفي دون أن يأخذ معه الزواج؟!
نعتقد أن العكس هو الصحيح؛ فهناك عامل جديد ظهر إلى الوجود وهو كفيل بحفظ الروابط الاجتماعية، وهذا العامل هو الحب الجنسي بين الأفراد.
ولم يظهر ما يسمى بالحب الجنسي قبل العصور الوسطى؛ فإن الجمال وتشابه العواطف والصداقة الوطيدة أظهرت الرغبة في الدخول في علاقات جنسية مع أشخاص معينين، ولم يعد الرجل أو النساء غير مكترثين بمسألة مع من يدخلون في تلك العلاقات الوثيقة. ولكن كل ذلك كان بعيدا عن الحب في العصور الوسطى هذه؛ فقد كان أطراف الزواج أيامها يقبلان الزواج الذي كان ينظمه الوالدان في هدوء، ولم يكن الحب الزوجي القليل المعروف لدى الأقدمين عاطفة بأي حال، بل كان واجبا خارجيا، ولم يكن سببا للزواج بل نتيجة له. ولم يكن الرعاة الذين تغنى ثيوكريتس وموسكي بأفراحهم وعواطفهم، لم يكن هؤلاء الرعاة أحرارا بل كانوا عبيدا لا نصيب لهم في الدولة؛ وبذلك لم يكن الحب من صفات المواطن الحر. وكانت أمور الحب لدى المواطنين الأحرار قاصرة على عواطف النساء الذين يعيشون خلف حوائط المجتمع، وغانيات أثينا عندما بدأ نجمها في الأفول، وغانيات روما أيام الأباطرة. وكان كل الحب الذي ظهر بين المواطنين الأحرار يتخذ شكل الزنا. ولم يكن الحب الجنسي بمعناه الحالي مادة لشعر الحب الكلاسيكي عند الأقدمين؛ ففي أشعار أناكريون لم يكن حتى جنس الشخص المحبوب موضع أهمية.
ويختلف الحب الجنسي الحالي اختلافا ماديا عن الرغبة الجنسية التي كانت هدف الأقدمين، فهو يفترض حبا متبادلا من جانب الطرف الآخر بينما كانت موافقة المرأة لدى الأقدمين غير مهمة إطلاقا. كما يتطلب الحب الجنسي الحديث درجة من الرقي ورغبة في الدوام قد تدفع الطرفين إلى الإقدام على مخاطرات قد تصل إلى درجة المخاطرة بالحياة وهو ما لم يكن يحدث عند الأقدمين إلا في حالات الزنا. كما يتطلب الحب الحديث مستوى خلقيا جديدا لحكم العلاقات الجنسية.
وبذلك يصبح أهم سؤال هو ما إذا كانت العلاقة الجنسية مبنية على حب أم لا بصرف النظر عما إذا كانت العلاقة مشروعة من عدمه.
وعندما بدأ الأقدمون يتجهون إلى الحب الجنسي بدأت العصور الوسطى، وكان الحب حينئذ عبارة عن علاقات غير شرعية، وقد وصفنا فيما سبق حب الفرسان الذي كان يظهر في أغاني الفجر. وما زالت هناك ثغرة واسعة بين هذا النوع من الحب الذي كان يهدف إلى تحطيم الزواج، وبين الحب الذي يهدف إلى أن يكون أساس الزواج. ولم يكن الألمان القدماء بأفضل من اللاتينيين العابثين من حيث نظرتهم للحب، وقد انعكس ذلك بصدق في آدابهم؛ ففي رواية
Nibebungenlied
نقرأ أن كرايمهيلد كانت تحب سيجفريد بنفس القوة التي كان يحبها بها، ولما أخبرها أبوها بأنه وعد فارسا بأن يزوجها إياه أجابت ببساطة: «ليس بك حاجة لسؤالي فكما تأمر سأكون إلى الأبد، وهذا الذي اخترته أنت يا سيدي ليكون زوجي سأمنحه إخلاصي»، ولم يظهر لكرايمهيلد أبدا أن حبها يمكن أن تكون له قيمة في هذا الشأن. وكانت عروس الأمير عند الألمان يختارها له والداه، فإن لم يكونا على قيد الحياة اختارها بنفسه مع مجلس النبلاء. وبالنسبة للفارس أو البارون، كما هو الحال بالنسبة للأمير نفسه، يعتبر الزواج عملا سياسيا وفرصة للحصول على السلطة عن طريق عقد محالفات جديدة، وتعتبر المصلحة العامة هي العامل الحاسم بصرف النظر عن العواطف الشخصية؛ ولذلك لم يكن ممكنا للحب أن يكون أساس الزواج.
وقد كان هذا هو نفس الحال بالنسبة للرجل العادي من سكان المدن في العصور الوسطى، والميزة الوحيدة التي كانت تحميه (مواثيق النقابات بشروطها الخاصة، والحدود الصناعية بين المناطق وهي الحدود التي كانت تفصله عن النقابات الأخرى). هذه الميزة كانت تقتصر على تضييق الدائرة التي كان الرجل يستطيع أن يبحث فيها عن شريكة حياته. ومع ذلك فقد كانت هذه الشريكة تختار طبقا لمصلحة العائلة وليس طبقا للعواطف الفردية في ظل هذا النظام المعقد.
وإلى نهاية العصور الوسطى ظل الزواج في أغلبية الحالات عملا لا يقرره الطرفان الرئيسيان فيه.
من كل ما سبق يتضح أن الإنسان كان في البداية يولد متزوجا من كل مجموعة الجنس الآخر. ومن المحتمل أن علاقات خاصة قد نشأت في الشكل الأخير من الزواج الجماعي مع تضييق مستمر في نطاق الجماعة.
وفي مرحلة العائلة المكونة من فردين كانت القاعدة هي قيام الأمهات بتنظيم زواج الأولاد، وكانت تراعي مسألة إنشاء روابط جديدة لتقوية مركز الزوجين في القبيلة. وعندما حلت الملكية الفردية محل الملكية الجماعية، وظهرت المصلحة في الميراث، ظهرت العائلة المنتسبة للأب، ثم ظهر الزواج الحديث فأصبح الزواج مؤسسا على اعتبارات اقتصادية أكثر من أي وقت مضى. ومع أن الزواج بالشراء قد اختفى فقد اتجه المجتمع الجديد بدرجة متزايدة إلى تقدير المرأة والرجل على السواء بما يملكان وليس بشخصيتهما. ولم تعد لفكرة العواطف المتبادلة أي حساب في الحياة العملية للطبقات الحاكمة، ولم تجد هذه العواطف لها مجالا إلا في قصص الفروسية وبين الطبقات المحكومة التي لا يحسب لها حساب.
وقد ظل الوضع على ما هو عليه في ظل المجتمع الرأسمالي عندما بدأت الاكتشافات الجغرافية، وبدأت الرأسمالية تغزو العالم عن طريق الصناعة والتجارة، وقد يظن المرء أن الزواج الحديث كان الشكل العائلي الذي يناسب المجتمع الرأسمالي (وكم يتهكم التاريخ في سخرية من هذا الظن). ولكن الإنتاج الرأسمالي حول كل الأشياء إلى سلع تباع وتشترى؛ فتحللت بذلك كل العلاقات التقليدية، وحل البيع والشراء محل التقاليد الموروثة، وأصبح «التعاقد الحر» أساس المجتمع، وقد ظن القانوني الإنجليزي
H. S. Maine
أنه توصل إلى اكتشاف عبقري حين قال: «إن كل التقدم الذي أحرزه المجتمع الحالي إذا قارناه بالأزمنة القديمة يتلخص في أننا خرجنا من الأوضاع القديمة إلى العقد، ومن حالة موروثة في الحياة العملية إلى حالة يتعاقد عليها الناس اختياريا.» ولكن العبقري الإنجليزي نسي أن عقد العقود يفترض في الناس أنهم يتصرفون في أنفسهم وأعمالهم وأموالهم في حرية، ويلاقون بعضهم بعضا في ظروف متساوية كما كانت الرأسمالية تتشدق دائما بأن هدفها هو خلق مثل هؤلاء الأحرار المتساوين. ومع أن هذه المساواة حدثت في البداية بطريق نصف واعية في شكل ديني، فرغم ذلك نجد أنه منذ حركة لوثر وكالفن الإصلاحية أصبح من المبادئ الثابتة مسئولية الإنسان الكاملة عن عمله إذا كانت لديه الحرية الكاملة وقت إظهار إرادته. ولكن كيف يتفق ذلك مع التطبيق السابق للزواج؟ طبقا للتفكير البورجوازي يعتبر الزواج عقدا لأنه يتصرف في جسد وعقل شخصين مدى الحياة، ومن الصحيح من الناحية الشكلية أن المساومة على العقد كانت تجري باختيار الطرفين وليس دون موافقتهما. أما كيف كانت تتم هذه الموافقة ومن هو الذي كان ينظم الزواج حقيقة؟ فمعروف جيدا.
ولكن إذا كانت الحرية الحقيقية مطلوبة في كل العقود الأخرى فلماذا لا توجد في عقد الزواج؟! أليس للشابين اللذين على وشك الزواج الحق في التصرف بحرية في أنفسهما؟! ألم يصبح الحب الجنسي هو الموضة نتيجة لعهد الفروسية؟! ألم يكن حب الزوج والزوجة هو الشكل البورجوازي لحب الفروسية بدلا من حب الفرسان المدنس بالزنا؟! وإذا كان من واجب الزوجين أن يحبا بعضهما أليس من واجب الحبيبين أن يتزوجا بعضهما وليس أي إنسان آخر؟! أليس حق هؤلاء المحبين أقوى من حق الوالدين والأقارب وغيرهم من سماسرة الزواج؟! وإذا كان الاختيار الحر قد أخذ طريقه غير مكترث بالكنيسة أو العقيدة فكيف وقف عند اعتراض الجيل الأكبر وادعائه حق التصرف في جسد وروح وسعادة وشقاء وملكية الجيل الأصغر؟!
ظهرت هذه الأسئلة في فترة تفككت فيها كل الروابط الاجتماعية القديمة واصطدمت فيها أسس كل الأفكار التقليدية، فبضربة واحدة ازداد حجم العالم إلى عشرة أمثاله.
15
وبدلا من ثمن بسيط من الكرة الأرضية كانت تشغله أوربا أصبحت السبعة الأثمان الأخرى مفتوحة أمامها. واختفت الحدود التي فرضها الإقطاع في العصور الوسطى بنفس الطريقة التي اختفت بها الحدود الضيقة القديمة للوطن. وفتح الأفق المتسع عيون الرجال في الداخل والخارج، واجتذبت ثروات الهند ومناجم الذهب والفضة في المكسيك المغامرين من كل أنحاء أوربا؛ فقد كانت الفترة هي فترة المغامرات الفروسية البورجوازية، وكانت لها قصصها البطولية وأحلامها العاطفية ولكن على أساس بورجوازي.
وقد كان ظهور البورجوازية (الرأسمالية)، وخاصة في البلدان البروتستنتية النامية، سببا في ازدياد حرية التعاقد في الزواج، ولكنه ظل زواجا طبقيا، لكن في حدود الطبقة كان لطرفي الزواج درجة معينة من حرية الاختيار، على الورق وفي النظريات الخلقية والأوصاف الشعرية فقط. وباختصار فقد أعلن الزواج على أساس الحب كحق إنساني للرجل وبطريق الاستثناء للمرأة، وأصبح الزواج المؤسس على غير الحب عملا غير خلقي من الناحية النظرية.
وهناك ناحية يختلف فيها هذا الحق الإنساني عن باقي ما يسمى بالحقوق الإنسانية. فبينما ظلت حقوق الإنسان من الناحية العملية قاصرة على الطبقة الحاكمة، أي البورجوازية، كانت الطبقة المحكومة، أي الطبقة العاملة المحرومة عمليا من هذه الحقوق، تجد التهكم التاريخي يؤكد نفسه مرة أخرى؛ إذ بينما يظل الزواج لدى الطبقة الحاكمة مبنيا على أسس اقتصادية في أغلب الحالات يكون الزواج الاختياري هو القاعدة لدى الطبقة المحكومة. ولن يصبح الزواج اختياريا إطلاقا قبل إلغاء الإنتاج الرأسمالي وعلاقات الملكية المبنية عليه حتى تزول كل الاعتبارات الاقتصادية التي ما زالت تمارس نفوذا قويا في مسألة اختيار شريك الحياة، وعندئذ لن يكون للزواج دافع سوى التبادل العاطفي، وحيث إن الحب الجنسي مانع للخيانة بطبيعته (ولو أن هذا المنع لا يتحقق الآن إلا بالنسبة للمرأة) فسيكون الزواج المبني على الحب الجنسي زواجا صحيحا بطبيعته كذلك. وقد رأينا إلى أي حد كان باتشوفن صادقا عندما قال إن الانتقال من الزواج الجماعي إلى العائلة المكونة من فردين كان أساسا من عمل المرأة، وأن التقدم من العائلة المكونة من فردين إلى العائلة الزوجية الحديثة تم لحساب الرجل، وتلخص هذا التقدم من الناحية التاريخية في تسويء مركز المرأة وتسهيل الخيانة للرجل.
وعندما تختفي الاعتبارات الاقتصادية التي اضطرت النساء إلى قبول خيانة الرجل، وعندما تساهم المرأة في الحياة الاجتماعية فينتهي بذلك قلقها بشأن كسب عيشها ومستقبل أولادها، عندئذ ستصبح رغبة الرجل في الزواج أكثر من رغبة المرأة في تعدد الأزواج، وستصبح المرأة مساوية حقا للرجل.
وكذلك ستختفي من الزواج الصفات التي طبعت فيه نتيجة ظهوره من علاقات الملكية، وهذه الصفات هي أساسا سيطرة الرجل وعدم قابلية الزواج للحل. وقد كانت سيطرة الرجل في الزواج نتيجة سيطرته الاقتصادية ولذلك فإنها ستخفى آليا باختفائها. وقد كان عدم قابلية الزواج للحل نتيجة هذه الظروف الاقتصادية، ونتيجة التقاليد التي نشأت منذ الوقت الذي كانت فيه العلاقة بين هذه الظروف الاقتصادية والزواج غير مفهومة على الوجه الصحيح وبولغ فيها بسبب الدين. واليوم أصبح الحال غير الحال. وإذا كان الزواج المبني على الحب يعتبر زواجا أخلاقيا، فإن الزواج الذي يستمر فيه الحب هو الزواج الأخلاقي بحق، وحيث إن دوام حيوية الحب الجنسي يختلف باختلاف الأفراد وخاصة الرجال، فإن زوال الحب يجعل الطلاق نعمة لا شك فيها للزوجين والمجتمع على السواء.
وعلى ذلك فإن ما نستطيع استنتاجه حاليا عن تنظيم العلاقات الجنسية بعد تصفية علاقات الإنتاج الرأسمالي يعتبر استنتاجا ذا طابع سلبي يحدد ما سيختفي من الزواج. ولكن ما الذي سيزيد على الزواج؟ هذا هو ما سيستقر بعد نمو جيل جديد، جيل من الرجال لم تسنح له الفرص أبدا لشراء استسلام امرأة سواء بالمال أو بأي وسيلة أخرى من وسائل السيطرة الاجتماعية، وجيل من نساء لم يضطررن أبدا للاستسلام لأي رجل لأي سبب سوى الحب الحقيقي، ولن تخاف المرأة حينئذ أن تمنح نفسها لمن تحب خشية النتائج الاجتماعية. وعندما يظهر مثل هذا الجيل فإنه لن يهتم أبدا بما نعتقد اليوم أنه يجب عليه عمله، فسيتبع طريقه الخاص وسيكون له رأيه الخاص به دون أي اكتراث بما نعتقد.
ولنعد الآن لمورجان، فإن الأبحاث التاريخية للنظم الاجتماعية التي ظهرت أثناء عصر المدنية لا يشتمل عليها كتابه، فلم يعن مورجان إلا بمصير الزواج خلال هذه المرحلة. وقد نظر مورجان إلى نمو العائلة الزوجية الحديثة باعتباره تقدما واقترابا من المساواة التامة بين الجنسين، ولم يلاحظ أن هذه الغاية قد تحققت فعلا.
ويقول مورجان: «عندما تواجهنا حقيقة أن العائلة قد مرت خلال أربع أشكال متتابعة وهي الآن في الشكل الخامس، يواجهنا فورا سؤال عما إذا كان هذا الشكل سيدوم في المستقبل. والجواب الوحيد على ذلك هو أن هذا الشكل يجب أن يتقدم بتقدم المجتمع ويتغير بتغيره كما حدث في الماضي؛ فإن الزواج نظام خلقه النظام الاجتماعي ولذلك فهو يعكس صورته، وحيث إن العائلة الزوجية الحديثة قد تقدمت تقدما كبيرا منذ بدء المدنية وخاصة في العصر الحديث، فمن المفروض أنها قادرة على مزيد من التقدم حتى تتحقق المساواة بين الجنسين، وإذا فشلت العائلة الزوجية مستقبلا في تحقيق مطالب المجتمع فمن المستحيل أن نتنبأ بطبيعة العائلة التي ستخلفها.»
الفصل الثالث
السلالة الإيروكيوسية
ونأتي الآن إلى اكتشاف آخر لمورجان يوازي في أهميته إعادة تنظيم الشكل البدائي للعائلة من داخل نظم علاقات الدم، وقد أثبتت الدراسة التي قام بها مورجان أن السلالة وروابط الدم في القبيلة الأمريكية الهندية وفروع القبيلة التي تسمى بأسماء الحيوانات، تماثل تماما تنظيم السلالة عند الإغريق والرومان. وقد أثبتت هذه الدراسة أن السلالة الأمريكية كانت الشكل الأصلي للسلالات، وقد أوضحت هذه الدراسة أكثر أجزاء التاريخ الإغريقي والروماني صعوبة، كما ألقت ضوءا على المميزات الأساسية للنظام الاجتماعي في الفترات البدائية قبل ظهور الدولة، وقد يظن المرء عندما يقرأ هذا الاكتشاف أنه غاية في البساطة ولكن مورجان لم يتوصل إليه إلا منذ وقت قريب جدا، وفي كتابه السابق الذي صدر سنة 1871 لم يكن قد كشف بعد هذا السر.
وتعني الكلمة اللاتينية
gens
التي استخدمها مورجان كتعريف عام لعناصر القرابة في الدم، هذه الكلمة تماثل شبيهتها الإغريقية
genos
المشتقة من الأصل الآري العام
gan ، وتعني الإخراج إلى الوجود أو التسلسل. وتشبه هذه الكلمة اللفظ السنسكريتي
1
janas ، والكلمة الألمانية القديمة
kuni ، والكلمة الأنجلوسكونية
kyn ، والكلمة الإنجليزية
kin ، والكلمة الألمانية
kúnne . وتعني كل هذه الكلمات القرابة أو السلالة عموما؛ وتعني عند اللاتينيين والإغريق عناصر قرابة الدم التي تكون سلالة عامة من المنحدرين من أصل مذكر مشترك، وتمتزج معا في وحدة خاصة في ظل نظم اجتماعية ودينية. وقد ظلت طبيعة السلالة غير واضحة لكل مؤرخينا حتى اكتشفها مورجان. وقد رأينا فيما سبق عند الكلام عن العائلة البونالوانية كيف تكونت السلالة في شكلها الأصلي، فقد كانت تتركب في الأصل من كل الأشخاص الذين ينحدرون من أنثى معينة هي مؤسسة السلالة طبقا للزواج البونالواني.
فلما كانت الأبوة غير مؤكدة في العائلة البونالوانية فقد كانت القاعدة هي الانتساب للأم، وحيث إن الإخوة لا يتزوجون أخواتهم في هذا الشكل من العائلة، بل يتزوجون نساء سلالة مختلفة، فقد كان أولادهم يعتبرون خارج السلالة لانتسابهم لأمهاتهم. فماذا يكون مصير هذه المجموعة المرتبطة برباط الدم عندما تصبح مجموعة مستقلة ضمن مجموعات مماثلة في القبيلة؟!
ويعتبر مورجان السلالة الإيروكيوسية والإيروكيوس هم قبائل من الهنود الحمر في أمريكا الشمالية كما سبق، وخاصة في قبيلة السينيكا، هي الشكل الكلاسيكي للسلالة الأصلية؛ فلديهم ثمانية فروع في القبيلة مسماة بأسماء الحيوانات التالية: (1) الذئب. (2) الدب. (3) السلحفاة. (4) كلب البحر. (5) الغزال. (6) طائر البكاش. (7) مالك الحزين. (8) الصقر.
وتسير كل سلالة على النظام التالي: (1)
تنتخب كل سلالة زعيمها وقت السلم، وقائدها الحربي. ويجب أن يختار الزعيم السلمي من السلالة نفسها، وكان مركزه وراثيا في السلالة؛ بمعنى أنه كان يجب ملء هذا المنصب بمجرد فراغه. أما القائد الحربي فكان يمكن اختياره من خارج السلالة، ويمكن أن يظل منصبه شاغرا أحيانا. ولم يكن ابن الزعيم السابق يختار أبدا للزعامة، حيث إن الإيروكيوس يسيرون على قاعدة الانتساب للأم؛ وبذلك ينتمي ابن الزعيم لسلالة أخرى، وكان الأخ أو ابن الأخت هو الذي يختار غالبا للزعامة.
وكان الرجال والنساء على السواء يدلون بأصواتهم في الانتخاب. وكان يجب أن توافق الفروع السبعة الأخرى في القبيلة على اختيار زعيم كل سلالة، وعندئذ فقط يحتفل رسميا بتثبيت الزعيم المنتخب في منصبه. ويجب كذلك أن يقر المجلس العام لاتحاد الإيروكيوس (وسيأتي ذكره) هذا الانتخاب. وقد كانت سلطة الزعيم في السلالة ذات طابع أبوي محض فلم تكن تحت يده أية وسيلة من وسائل الإرغام، وكان بحكم منصبه عضوا بالمجلس القبلي للسينيكاس، وكذلك مجلس الاتحاد العام للإيروكيوس . وكانت سلطة القائد الحربي قاصرة على المسائل العسكرية. (2)
تستطيع السلالة عزل الزعيم والقائد الحربي بإرادة الرجال والنساء على السواء، ويصبح الشخص المعزول فردا عاديا كغيره. ويستطيع مجلس القبيلة عزل الزعيم حتى رغم إرادة السلالة. (3)
ليس لأي شخص الحق في أن يتزوج من سلالته، وهذه هي القاعدة الأساسية في السلالة، وهي التعبير السلبي عن قرابة الدم الإيجابية التي تتكون السلالة منها بفضل اشتراك الأفراد في هذه القرابة.
وباكتشاف هذه الحقيقة البسيطة اكتشف مورجان للمرة الأولى طبيعة السلالة، وقد كانت المعلومات عنها قليلة جدا حتى هذا الاكتشاف، كما يتضح ذلك من التقارير التي كانت موجودة عن عصري الوحشية والبربرية؛ فقد كانت هذه التقارير تصف الفروع المختلفة المكونة للتنظيم الاجتماعي على أنها عشيرة أو قبيلة دون تمييز. وكانت هذه التقارير الخاطئة هي سبب الحيرة اليائسة التي تردى فيها «ميكلنان» فأخذ يخلق أنظمة من عنده كما لو كان نابليون، وقال في سذاجة إن كل القبائل مقسمة إلى فروع يمنع الزواج داخلها وفروع لا يمنع. وبعد أن خلط الأمور بهذه الطريقة أخذ يخوض في أعمق التحريات لمعرفة أي النوعين من الفروع هو الأقدم في ظهوره، وقد انتهى هذا الهراء باكتشاف مورجان لحقيقة السلالة، ولا تخضع قاعدة منع الزواج داخل السلالة لدى الإيروكيوس لأي استثناء. (4)
توزع الممتلكات العقارية للموتى بين كل الأعضاء الباقين من السلالة، وكان باقي الميراث يقسم بين أقرب الأقارب، أي بين الإخوة والأخوات والخال بالنسبة للرجل، وبين الأولاد والأخوات بالنسبة للمرأة. ونظرا للانتساب للأم فقد كان مستحيلا أن يرث الرجل من زوجته أو العكس، كذلك كان مستحيلا أن يرث الأولاد من أبيهم فقد كان على ممتلكات الموتى أن تبقى في السلالة. (5)
كان على أعضاء السلالة أن يتبادلوا المعونة والحماية وخاصة الانتقام من الأغراب إذا اعتدوا على أحدهم، وكان الفرد يعتمد على حماية السلالة له؛ فقد كانت أي إساءة إليه تعتبر إساءة للسلالة كلها. ونظرا لروابط الدم في السلالة نشأ التزام الانتقام للدم وهو التزام مقدس لدى الإيروكيوس، فإذا قتل شخص من خارج السلالة أحد أفرادها كان على السلالة كلها أن تنتقم للدم، فكانت تجري محاولة أولى للسلام بأن ينعقد مجلس سلالة القاتل ويعرض الصلح على مجلس سلالة القتيل، ويتم هذا الصلح بتقديم الاعتذارات والهدايا القيمة، فإذا لم تقبل سلالة القتيل ذلك عينت فردا أو أكثر لتتبع القاتل وقتله، وإذا حدث ذلك اعتبر الموضوع منتهيا وليس لأحد حق الشكوى. (6)
للسلالة أسماء محددة أو مجموعات من الأسماء تنادى بها هي وحدها دون باقي القبيلة؛ وعلى ذلك فإن اسم الفرد يدل على سلالته، ويعطي حمل الشخص لاسم السلالة كل الحقوق التي تتمتع بها. (7)
تستطيع السلالة أن تتبنى الأغراب فيندمجون بذلك في القبيلة كلها. وكانت قبيلة السينيكا تتبنى أسرى الحرب الذين لم يقتلوا، عن طريق إحدى سلالاتها، فكان الأسرى يحصلون بذلك على كل حقوق القبيلة والقرابة. وكان الرجال يعتبرون الأجنبي المتبنى أخا أو أختا، وتعتبره النساء ابنا أو بنتا، ولتأكيد التبني كان من الضروري إجراء احتفال للقبول في السلالة. وقد كان يحدث أحيانا أن تقوم سلالة بتبني فروع كاملة من القبيلة أو القبائل الأخرى عندما تكون هذه الفروع قليلة. وقد كان احتفال التبني لدى الإيروكيوس يجرى في اجتماع عام لمجلس القبيلة الذي كان يحوله إلى احتفال ديني. (8)
وكان لكل فرع من الفروع الهندية حفلاته الدينية الخاصة به. وكان لدى الإيروكيوس ست حفلات دينية في السنة يقوم فيها الزعيم والقائد العسكري بوظائف كهنوتية باعتبارهما من «حراس العقيدة». (9)
ولكل سلالة مقبرة عامة «وقد اختفت المقبرة العامة للإيروكيوس باكتساح البيض لولاية نيويورك». وما زالت المقابر العامة موجودة لدى باقي القبائل الهندية مثل التوسكاروراس، وهي قبيلة تنتمي إلى الإيروكيوس بصلة قرابة وثيقة. ورغم أن الإيروكيوس مسيحيون الآن فما زالوا يحتفظون في مقابرهم بقسم خاص لكل سلالة، وعند وفاة أحد يقوم كل أعضاء السلالة بالبكاء وترتيبات الجنازة. (10)
وللسلالة مجلس يعتبر الجمعية الديموقراطية لكل الذكور والإناث البالغين في السلالة مع تساويهم في الأصوات. ويقوم هذا المجلس بانتخاب وعزل الزعيم والقائد العسكري و«حراس العقيدة» أي الكهنة، ويبت في مسائل هدايا التعويض والانتقام للدم وتبني الغرباء ونحوها. وباختصار كان المجلس هو السلطة العليا في السلالة.
هذه هي الخصائص المميزة للسلالة الهندية عموما. «فقد كان كل أعضاء السلالة لدى الإيروكيوس أحرارا متساوين يدافع كل منهم عن حرية الآخر. ولم يكن لزعمائهم أي امتياز، وكان الكل مرتبطين برباط الإخوة والقرابة في الدم. وكانت الحرية والإخاء والمساواة هي المبادئ الأساسية في السلالة رغم أنه لم ينص عليها أبدا. وكانت السلالة هي خلية النظام الاجتماعي والأساس الذي بني عليه المجتمع الهندي، وقد كانت معاني الاستقلال والكرامة هي الصفة العامة للطباع الهندية.»
وقد كان الهنود في كل أمريكا الشمالية عند اكتشافها منتظمين في فروع طبقا لقاعدة الانتساب للأم، وقد انحط شأن الفروع في قبائل قليلة مثل الداكوتاس، وفي قبائل أخرى مثل الأوجيبواس والأوماهاس كانت القاعدة هي انتساب الفروع للأب.
وقد وجد مورجان لدى كثير من القبائل الهندية المقسمة إلى خمسة أو ستة فروع، وجد أن ثلاثة أو أربعة من هذه الفروع موحدة في مجموعة خاصة داخل القبيلة سماها مورجان الأخوة. وقد وجد مورجان لدى السينيكاس أخوتين تضم الأولى الفروع الأربع الأولى السابق ذكرها «وهي: الذئب، والدب، والسلحفاة، وكلب البحر»، وتضم الثانية الفروع الأربع الثانية «وهي: الغزال، وطائر البكاش، ومالك الحزين، والصقر.» وتظهر التحريات الدقيقة أن هذه الأخوات هي الفروع الأصلية التي تكونت منها القبيلة في البداية. فنظرا لمنع الزواج داخل السلالة كانت كل قبيلة تتكون حتما من فرعين على الأقل لكي تستطيع الاستقلال في وجودها بالتزاوج بين هذين الفرعين. ولما زاد عدد أفراد القبيلة انقسمت كل سلالة إلى فرعين أو أكثر يظهر كل منها كسلالة مستقلة بينما تعيش السلالة الأصلية التي تضم كل الفروع على هيئة أخوة. وتعتبر الفروع المنضمة لإحدى الأخوات لدى السينيكاس إخوة فيما بينهم، بينما تعتبر الفروع الأخرى أبناء عمومة، وهي تفرقة ذات معنى حقيقي معبر في نظام علاقات الدم الأمريكي كما رأينا.
ولم يكن أي فرد لدى السينيكاس يستطيع في الأصل أن يتزوج من داخل الأخوة التابع لها، ثم اقتصر المنع على سلالة الشخص وحدها ، وقد كان لدى السينيكاس تقليد يعتبر «الدب» و«الغزال» هما الفرعين الأصليين اللتين تفرعت منهما الفروع الأخرى. وعندما استقر هذا التنظيم الجديد كان يعدل حسب الحاجة للمحافظة على التوازن، فكانوا ينقلون فروعا بأكملها من إحدى الأخوات إلى الأخوة الأخرى التي انقرضت فروعها، وهذا يفسر لنا السبب في وجود فروع تحمل أسماء مشتركة في القبائل الهندية المختلفة.
وكانت الأخوة لدى الإيروكيوس ذات وظائف دينية واجتماعية، وهي: (1)
كانت مباريات الكرة تنظم بين الأخوات المختلفة وتقدم كل منها أحسن لاعبيها، بينما يظل باقي الأفراد متفرجين يجرون المراهنات على الفائز. (2)
كان زعيم كل أخوة وقائدها الحربي يجتمعون في مجلس القبيلة ويجلس الزعماء في صف والقادة الحربيون في صف مواجه لهم، ويعتبر ممثلو كل أخوة ذوي كيان مستقل. (3)
إذا ارتكبت جريمة قتل في القبيلة ولم يكن القتيل والقاتل ينتميان لنفس الأخوة، كانت سلالة المجني عليه تنادي الفروع المشتركة معها في الأخوة ويعقدون مجلسا ويطلبون إلى الأخوة الأخرى عقد مجلس لتسوية الموضوع، وتعتبر كل الأخوة يدا واحدة في النزاع. (4)
عند وفاة الأشخاص ذوي الأهمية في أخوة معينة كانت الأخوة الأخرى هي التي تقوم بترتيبات الجنائز والبكاء وغيره، بينما تكتفي أخوة الميت بالبكاء، وإذا مات زعيم إحدى الأخوات تقوم الأخرى بإخطار المجلس الاتحادي للإيروكيوس بخلو منصبه. (5)
وعند انتخاب زعماء الفروع لا بد من موافقة مجلس الأخوة على هذا الانتخاب، فإذا اعترض أصبح الانتخاب لاغيا، ولا تهم موافقة الأخوات الأخرى في القبيلة. (6)
وفيما مضى كان للإيروكيوس طقوس دينية خاصة كان البيض يسمونها «بيوت الطب». وكان لدى السينيكاس جماعتان دينيتان تمثل كل منهما إحدى أخوتيهما وتتوليان الاحتفال بهذه الطقوس، وكان يجري دوريا تعميد أعضاء جدد في هاتين الجماعتين. (7)
وعند اكتشاف أمريكا كانت هناك أربع أخوات تشغل أركان تلاسكالا الأربعة، ومن المؤكد أن هذه الأخوات الأربع كانت كل منها وحدة عسكرية مستقلة كما كان الحال عند الإغريق والألمان، فقد اشتركت هذه الوحدات الأربع في المعركة ضد البيض، كل منها كوحدة منفصلة لها زيها الخاص وعلمها وقائدها. وكما كانت عدة فروع تكون أخوة، فكذلك كانت عدة أخوات تكون قبيلة في الشكل الكلاسيكي، وفي حالات كثيرة لا توجد الحلقة الوسطى، أي الأخوة، عند القبائل التي تزداد ضعفا.
أما الخصائص المميزة للقبيلة الهندية في أمريكا، فهي: (1)
إقليم خاص بالقبيلة واسم خاص بها. وبالإضافة إلى الإقليم الذي كانت تستقر عليه القبيلة كانت تسيطر على إقليم واسع للصيد البري وصيد الأسماك. وبجانب ذلك كانت هناك مساحة محايدة بين كل قبيلتين، وكانت هذه المساحة صغيرة إذا كانت لغتا القبيلتين متقاربتين، وكبيرة إذا لم تكونا كذلك. (وتشبه هذه الأرض المحايدة «غابة الحدود» التي كانت عند الألمان، وهي الأرض المحايدة التي عينها ممثل القيصر بينهم وبين السلاف). وكانت القبيلة تدافع عن إقليمها ضد أي عدوان، ولم تكن هناك علامات دقيقة للحدود؛ مما كان سبب المنازعات المستمرة خاصة عندما يزداد عدد السكان. ويظهر أن الأسماء القبلية كانت نتيجة المصادفة أكثر من الاختيار. وكان يحدث أحيانا أن تنادي القبائل المجاورة إحدى القبائل بغير اسمها الحقيقي، مثال ذلك في التاريخ ما حدث للألمان فقد كان اسمهم الأول في التاريخ
die deutscher
ثم أطلق عليهم السلتس اسم
germani . (2)
كان لكل قبيلة لهجة كلامية خاصة بها. وكان انقسام القبيلة إلى قبائل جديدة ولهجات جديدة يسير قدما في أمريكا حتى وقت قريب ولم ينته إلى الآن.
2
وكان يحدث أحيانا أن تندمج قبيلتان ضعيفتان معا في قبيلة واحدة فيكون في القبيلة في هذه الحالة لهجتان بصفة استثنائية.
ويقل عدد القبيلة في أمريكا عن ألفين في المتوسط. ويعتبر الشيروكيس - ويبلغ عددهم ستة وعشرون ألفا - أكبر عدد من الهنود يتكلم نفس اللهجة في الولايات المتحدة. (3)
كان لكل قبيلة الحق في الموافقة على الزعيم أو القائد العسكري الذي تنتخبه الفروع. (4)
وكان لها أيضا حق عزل الزعيم أو القائد حتى رغم إرادة الفروع؛ فحيث إن هؤلاء الزعماء والقادة أعضاء في مجلس القبيلة فيعتبر ذلك سبب هذا الحق للقبيلة عليهم. وعندما كان يوجد اتحاد للقبائل تمثل فيه كل قبيلة في المجلس الاتحادي انتقلت هذه الحقوق إلى المجلس الاتحادي. (5)
لكل قبيلة أفكارها الدينية المشتركة وطقوسها . «وقد أصبح الهنود الأمريكيون شعبا متدينا بناء على الموضة التي سادت الشعوب في عصر البربرية.» ولم يقم أحد بدراسة أفكارهم الدينية دراسة دقيقة إلى الآن، وكل معلوماتنا عن هذه الأفكار هي إيمانهم بالأرواح من كل نوع. ولم تكن تماثيل الآلهة أو الأصنام قد عرفت عندهم بعد إذ كانوا لا يزالون في المرحلة الدنيا للبربرية، وكانوا يؤمنون بتعدد الآلهة. وقد كان لكل قبيلة احتفالاتها الدينية الخاصة بها، وخصوصا حفلات الرقص والمباريات. وقد كان الرقص بصفة خاصة جزءا أساسيا في كل الحفلات الدينية لدى الهنود. (6)
كان هناك مجلس قبلي للشئون العامة يتكون من زعماء الفروع المختلفة وقوادها الحربيين. وكان المجلس يعقد علنا ويحيط به باقي أعضاء القبيلة الذين كان لهم حق الاشتراك في المناقشات وعرض آرائهم، على أن يتخذ المجلس القرار. وكان من حق أي شخص من الموجودين مخاطبة المجلس، وحتى النساء كن يستطعن عرض آرائهن عن طريق رجل يتكلم باسمهن ويقمن باختياره. وكان على كل فرد من الإيروكيوس أن يقبل قرار المجلس دون اعتراض (كما كان الحال في وحدات المارك الألمانية). وكان تنظيم العلاقات مع القبائل الأخرى من أهم واجبات المجلس، وكان يرسل السفارات إلى القبائل الأخرى ويستقبل سفاراتها، ويعلن الحرب ويعقد الصلح. وعندما كانت الحرب تشتعل كان المحاربون من المتطوعين. وكانت كل قبيلة تعتبر من حيث المبدأ في حالة حرب مع القبائل الأخرى التي لم يعقد معها ميثاق سلام. وكانت الحملات الحربية ضد مثل هؤلاء الأعداء تنظم في معظمها عن طريق عدد قليل من المحاربين الممتازين. وكان التنظيم يتم بأن تقام رقصة الحرب، ومن يشترك في هذه الرقصة يعتبر متطوعا في الحملة، ثم تنظم على الفور حملة عسكرية وترحل الحملة دون تأخير. وعندما كان عدو يهاجم إقليم القبيلة كان الدفاع عنه ينظم بنفس الطريقة بواسطة المتطوعين. وكان رحيل الحملات العسكرية وعودتها من مناسبات الحفلات العامة. ولم يكن إذن المجلس القبلي ضروريا لتنظيم الحملات الحربية؛ فقد كانت مثل الحملات الحربية الخاصة للنبلاء الألمان كما وصفها تاسيتس، مع وجود فارق واحد ، هو أنه عند الألمان كانت مجموعة النبلاء قد اتخذت طابعا دائما، وكونت وحدة منظمة في أوقات السلم، التفت حولها فرق المتطوعين لتكون معدة وقت الحرب. وكان يندر أن تكون الحملات الحربية كبيرة العدد أو قوية. وعندما كانت عدة فرق من هذه الحملات تتجمع لغرض هام كانت كل فرقة تطيع قائدها الخاص وحده، وكان توحيد خطة المجتمعين يتم عن طريق مجلس من القادة. وكانت هذه هي نفس طريقة الحرب التي اتبعها الألمان في حوض الرين الأعلى في القرن الرابع الميلادي كما وصفها أميانس مارسيلينس. (7)
ولبعض القبائل رئيس عام ذو اختصاصات قليلة وهو في الوقت نفسه أحد زعماء الفروع؛ ولهذا الرئيس في الحالات التي تستدعي قرارا سريعا أن يتخذ قرارا لحين اجتماع مجلس القبيلة واتخاذه لقرار نهائي. ولم يتطور هذا الاختصاص لدى الهنود حتى يصبح منصبا رسميا في ظل سلطة تنفيذية، وسنرى فيما بعد أن منصب القائد العسكري هو الذي تطور حتى أصبح رئيس دولة في معظم الحالات.
ولم تتعد الأغلبية العظمى للهنود الأمريكيين المرحلة القبلية الكاملة التي يتكون المجتمع فيها من قبائل عديدة يفصل بينها الحدود، وتستمر هذه القبائل في الضعف نتيجة الحروب المستمرة بينها. ورغم أن القبائل الهندية كانت تشغل مساحة فسيحة جدا في أمريكا إلا أن عددها كان قليلا. وكانت الأحلاف التي تضطرهم إليها الظروف الوقتية تعقد بين القبائل المرتبطة بروابط الدم، ثم تنحل هذه الأحلاف بانقضاء الضرورة. وفي بعض المناطق توصلت القبائل المرتبطة بروابط الدم (والتي كانت في الأصل قبيلة واحدة ثم انقسمت)، توصلت هذه القبائل إلى عقد اتحاد عام دائم؛ فخطت بذلك الخطوة الأولى نحو تكوين أمة. وفي الولايات المتحدة نجد أكثر أشكال هذا الاتحاد تقدما هو اتحاد القبائل الإيروكيوسية؛ فقد هاجر الإيروكيوس من أرضهم الأصلية غرب نهر المسيسبي، حيث يحتمل أنهم كانوا فرعا من سلالة داكوتا الكبرى، واستقروا بعد كثير من التنقل في ولاية نيويورك الحالية. وكانوا منقسمين إلى خمس قبائل، هي: السينيكاس، والكايوجاس، والأونونداجاس، والأونيداس، والموهاوكس. وكانوا يعيشون على صيد الأسماك وإنتاج الغابات، وكانوا يسكنون قرى محاطة في الغالب بأسوار خشبية.
ولم يكن عددهم يزيد عن عشرين ألفا، وكان لديهم عدد من الفروع المشتركة بين كل القبائل الخمسة. ولما بدأ البيض في غزو هذه الأراضي كان من الطبيعي أن تتعاون هذه القبائل لمقاومتهم. وعند بداية القرن الخامس عشر الميلادي على الأكثر تطور هذا التعاون إلى عصبة دائمة منظمة واتحاد شعر بقوته الجديدة، فبدأ فورا العمل العدواني بكل قوته التي بلغت ألفا وستمائة وخمسة وسبعون مقاتلا، فقهر مساحات واسعة من الأرض المحيطة به وطرد بعض المقيمين بها وأرغم الآخرين على دفع الجزية، وقد كان الاتحاد الإيروكيوس أكثر التنظيمات الاجتماعية تقدما لدى الهنود الذين لم يخرجوا من المرحلة الدنيا للبربرية (مع استثناء المكسيكيين والمكسيكيين الجدد وأهل بيرو). وكانت الخواص الرئيسية للاتحاد هي: (1)
حلف دائم من القبائل الخمس المرتبطة بروابط الدم على أساس من المساواة التامة والاستقلال في كل الشئون الداخلية لكل قبيلة، وقد كانت القرابة في الدم هي الأساس الحقيقي للاتحاد. وبين القبائل الخمس كانت ثلاثة منها تسمى القبائل الآباء وتعتبر أخوة فيما بينها، وكانت القبيلتين الأخريين تسميان القبائل الأبناء وتعتبران أخوين فيما بينهما. ويوجد ممثلون دائمون لأقدم ثلاثة فروع في هذه القبائل لدى كل القبائل الخمسة ولثلاثة فروع أخرى ممثلين لدى ثلاثة قبائل. وكانت اللغة المشتركة (مع اختلاف اللهجات) هي التعبير عن وحدة الأصل والدليل عليه. (2)
كان جهاز الاتحاد هو مجلس اتحادي مكون من خمسين زعيما متساوين في المرتبة، وكان هذا المجلس يبت في كل الأمور الخاصة بالاتحاد. (3)
وعند تأسيس الاتحاد وزع هؤلاء الخمسون زعيما بين القبائل والفروع ليشغلوا مناصب جديدة أنشئت خصيصا لخدمة أغراض الاتحاد. وكانت الفروع تعيد انتخاب هؤلاء الزعماء من جديد كلما خلا منصب كما كان يمكن عزلهم. وكان الحق في إقرار انتخابهم من اختصاص المجلس الاتحادي. (4)
وكان هؤلاء الزعماء الاتحاديين زعماء في قبائلهم أيضا، وكان لكل منهم مقعد وصوت في المجلس القبلي. (5)
وكان يجب أن تصدر قرارات المجلس الاتحادي بالإجماع. (6)
وكان التصويت يتم بطريقة تجعل من الضروري موافقة كل قبيلة وكل أعضاء المجلس الاتحادي في كل قبيلة على أي قرار قبل صدوره. (7)
وكان في استطاعة كل مجلس من مجالس القبائل الخمسة أن يطلب عقد المجلس الاتحادي، ولم يكن المجلس الاتحادي يستطيع عقد مجالس القبائل. (8)
كانت اجتماعات المجلس الاتحادي تعقد علنا أمام الجمهور المجتمع، وكان من حق كل فرد أن يتكلم ولكن إصدار القرارات كان من حق المجلس وحده. (9)
لم يكن للاتحاد رئيس أو مدير تنفيذي. (10)
وكان للاتحاد قائدان عسكريان أعليان يتمتعان بسلطات متساوية «مثل الملكين في إسبرطة والقنصلين في روما.»
كان هذا هو كل البناء الاجتماعي الذي عاش الإيروكيوس في ظله أكثر من أربعة قرون وما زالوا يعيشون في ظله. وقد نقلت هنا كلام مورجان عنه بشيء من التفصيل لأنه يعطينا فرص دراسة تنظيم المجتمع الذي لم يتحول بعد إلى الدولة. فالدولة تفترض وجود سلطة عامة معينة منفصلة عن المجموعة. ويعتبر مورجان بحق أن نظام وحدات المارك الألمانية هو نظام اجتماعي محض مختلف تماما عن الدولة مع أنه كان أساسها فيما بعد. وقد كان مورار في كل كتاباته يبحث عن ارتفاع السلطة العامة التدريجي من وحدات المارك التي كانت تشمل القرى والإقطاعيات والمدن. ويظهر لنا نظام الهنود الأمريكيين كيف تنشر قبائل متحدة الأصل فوق سطح قارة ضخمة، وكيف أصبحت هذه القبائل عن طريق انقسامها إلى فروع شعوبا ومجموعات كاملة من القبائل. كما يظهر لنا كيف تغيرت اللغة الأصلية إلى حد أن أصبح التفاهم مستحيلا بينهم، كما اختفى كل أثر للوحدة الأصلية. كما يظهر لنا هذا النظام كيف انقسمت الفروع في القبائل إلى عدة أقسام، وكيف أن الفروع الأصلية الأم ظلت قائمة على هيئة أخوات، وأن أسماء هذه الفروع الأصلية ظلت كما هي بين القبائل على اتساع المساحة الفاصلة بينها وقدم انفصالها، فإن اسم «الذئب» و«الدب» ما زالا أسماء شائعة بين أغلبية القبائل الهندية. وبصفة عامة ينطبق هذا التنظيم على جميع القبائل الهندية باستثناء تلك القبائل التي لا تربطها بهم وحدة الدم.
ونرى أنه منذ أصبحت السلالة هي الوحدة الاجتماعية، فإن النظام الكامل للفروع، أي الأخوات القبائل، نما نموا حتميا من هذه الوحدة. فهذه الأشكال الثلاثة: الفروع، والأخوات، والقبائل، هي مجموعات لدرجات مختلفة من قرابة الدم، كل منها كاملة بنفسها وتتصرف في شئونها الخاصة؛ ولكن تكمل كل منها الأخرى في نفس الوقت، ومجموع الشئون الخاصة لكل منها يكون مجموع الشئون العامة للمرحلة الدنيا للبربرية.
وعلى ذلك فأينما نكتشف السلالة كوحدة اجتماعية لشعب معين فإننا نكون أمام تنظيم للقبيلة مشابه لذلك الذي سبق لنا وصفه. وعندما تكون المصادر الكافية موجودة لدينا، كما هو الحال عن الإغريق والرومان فإننا نكون أمام نفس النظام، وعندما لا تسعفنا المصادر فإن المقارنة مع النظام الاجتماعي الأمريكي تساعدنا على قطع الشك باليقين.
والنظر البسيط لهذا التنظيم يرينا كم هو رائع في بساطته، يجري فيه كل شيء بسهولة دون جيش أو بوليس ودون نبلاء أو ملوك أو حكام أو سجون. فكل المنازعات تحسم عن طريق كل أطرافها فيما بينها داخليا. ويعتبر الانتقام للدم وسيلة تهديدية نادرة التطبيق بينما نجد أنها العقوبة الرئيسية في مجتمعنا المتمدن. ورغم أن هناك شئونا مشتركة أكثر من الآن (فإدارة المنزل تجري بطريقة مشتركة بين عدد من الأسر، والأرض مملوكة للقبيلة، والحدائق الصغيرة هي وحدها المملوكة للأسر بصفة مؤقتة) رغم ذلك فليست لديهم حاجة إلى جهازنا الإداري المعقد، وفي أغلب الحالات تنظم العادات المتوارثة كل شيء، ولا يمكن أن يوجد بينهم فقير أو محتاج؛ فالسلالة تعرف التزاماتها تجاه الشيوخ والمرضى ومشوهي الحرب، والكل أحرار متساوون حتى النساء، وليس هناك مكان للعبيد أو للسيطرة الأجنبية. وعندما قهر الإيروكيوس «الأمم المحايدة» حوالي سنة 1651 دعوهم إلى المشاركة في الاتحاد على قدم المساواة مع باقي أعضاء اتحاد الإيروكيوس، ولم يطرد المنهزمون من أراضيهم إلا عندما رفضوا الانضمام للاتحاد. إن نوع الرجال والنساء الذي ينشأ في مثل هذا المجتمع قد استحوذ على إعجاب كل الرجال البيض الذين اتصلوا بالهنود؛ فقد أبدوا إعجابهم بكرامة الشخصية والاعتزاز بالنفس والاستقامة والشجاعة التي يتحلى بها هؤلاء المتبربرون.
وقد شاهدنا منذ وقت قصير أمثلة لهذه الشجاعة في أفريقيا؛ فقد فعلت قبائل الزولو منذ بضع سنين والنوبيون
3
منذ بضعة أشهر (وكلاهما لم يختف لديه النظام القبلي)، فعلوا ما لم يستطع أي جيش أوربي أن يفعله. ومع أنهم كانوا مسلحين بالرماح والدروع وحدها فقد تقدموا تحت سيل من طلقات المدافع الرشاشة إلى تحصينات القوات الإنجليزية (المعروف أنها أحسن قوات مقاتلة من وراء الحواجز في العالم) مفرقين صفوفها، وأعادوا الكرة أكثر من مرة رغم الفرق الرهيب في التسليح، ورغم أنه لم يكن لدى الأفريقيين أي تدريب عسكري. ويقول الإنجليز إن الأفريقي كان يقطع على قدميه في اليوم أكثر مما يقطعه الحصان، وقد كان هذا هو حال المجتمع الإنساني قبل انقسامه إلى طبقات. وإذا قارنا حالته بحالة الأغلبية الساحقة من العمال والفلاحين اليوم لوجدنا الهوة السحيقة بينهم وبين أعضاء السلالة الأحرار.
وقد كان الفناء مصير النظام القبلي الذي لم يتطور إلى أكثر من اتحاد القبائل الذي كان بدء سقوطها كما سنرى. وقد كان كل شيء خارج نطاق القبيلة يعتبر خارج نطاق القانون. وكانت الحرب تجري بين القبائل التي ليس بينها ميثاق سلام بقسوة ميزت الآدميين عن سائر الحيوانات. ويفترض هذا التنظيم - كما رأينا - وجود نظام اقتصادي في غاية التأخر؛ أي عدد قليل جدا من السكان موزعين في مساحة شاسعة من الأرض. وقد انعكس تسلط الطبيعة على الإنسان في أفكاره الدينية الطفولية، وقد ظلت القبيلة هي حدود الإنسان وكانت مقدسة لا تخالف. وقد كان ضروريا تحطيم قوة هذه الجماعة نتيجة التطور، وقد تحطمت فعلا؛ ولكنها تحطمت نتيجة النفوذ الذي يبدو لنا من بدايته انحطاطا وسقوطا من المرتبة الخلقية العليا للمجتمع القديم. وأصبحت القسوة والنهم والأنانية والمصلحة الشخصية هي باعث المجتمع المتمدن الطبقي، وأصبحت كل الوسائل غير المشروعة كالسرقة والخيانة مدنية. وباختصار لم يكن المجتمع الجديد خلال الألفين والخمسمائة عام من المدنية سوى نمو للأقلية على حساب الأغلبية المحكومة.
الفصل الرابع
السلالة الإغريقية
كان الإغريق مثلهم في ذلك مثل البلاسجيانز والشعوب الأخرى ذات الأصل القبلي، كانوا منتظمين منذ ما قبل التاريخ في نفس المجموعات القبلية التي لدى الهنود الأمريكيين؛ أي في سلالات وأخوات وقبائل واتحادات قبائل. وأحيانا لم تظهر الأخوات عندهم كما كان الحال عند الدوريانيين، كما لم تظهر أحيانا اتحادات القبائل، ولكن السلالة كانت في كل مكان هي الوحدة الاجتماعية.
وفي الوقت الذي دخل فيه الإغريق التاريخ كانوا على أبواب عصر المدنية؛ وعلى ذلك فهناك فترتان تاريخيتان كبيرتان بين الإغريق والهنود الأمريكيين. فإغريق العصر
1
البطولي كانوا متقدمين جدا عن الإيروكيوس؛ ولهذا فإن السلالة الإغريقية لم تكن تحمل الطابع القديم للسلالة الإيروكيوسية؛ إذ لم يعد طابع الزواج الجماعي موجودا، وحل الانتساب للأب محل الانتساب للأم، وظهرت إلى جانب ذلك الثروة الخاصة التي كانت أول اضطراب في النظام. وكان هناك اضطراب ثان تلي ذلك بالضرورة، فبعد تطبيق الانتساب للأب كان نصيب الوارثة الغنية ينتقل بفضل زواجها إلى زوجها إلى أي سلالة أخرى، وهكذا يتحطم قانون القرابة القديم كله؛ ولذلك فقد كانت الفتاة الغنية تجبر على الزواج من سلالتها - استثناء من القاعدة - لكي تظل ثروتها في السلالة.
وقد كتب جروت في كتابه «تاريخ اليونان» أن روابط السلالة الأثينية كانت كما يأتي: (1)
احتفالات دينية عامة وامتياز خاص للكهنة؛ تمجيدا لإله يعتقدون أنه أصل السلالة ويطلقون عليه لقبا معينا. (2)
مقبرة عامة مشتركة. (3)
حقوق ميراث متبادلة. (4)
التزام متبادل بتقديم كل منهم المساعدة للآخر وحمايته ضد أي أجنبي. (5)
التزام بالزواج من داخل السلالة في حالات معينة مثل حالة الفتيات اليتامى أو الوارثات. (6)
ملكية مشتركة في بعض الحالات مع وجود رئيس مشترك وخازن مشترك من السلالة. أما الأخوة التي تربط بين عدة فروع فكانت أقل تماسكا مع وجود نفس الروابط المتبادلة مثل الاشتراك في الطقوس الدينية والانتقام للدم. وكان أعضاء الأخوة في كل قبيلة يقيمون دوريا حفلات دينية مشتركة تحت رئاسة الحاكم المسمى
، أي الحاكم القبلي، وكان ينتخب من بين النبلاء المسمين
eupatridcs .
ومما تقدم يتضح إمكان التمييز بين السلالة الإغريقية والسلالة الإيروكيوسية.
وقد كان ما سبق هو مميزات السلالة في أثينا بصفة خاصة. أما السلالة الإغريقية عامة فتشترك في الصفات التالية: (7)
الانتساب للأب. (8)
منع الزواج في داخل السلالة ما عدا حالات الفتيات الوارثات كما سبق. وقد كانت القاعدة أن المرأة عندما تتزوج تهجر الطقوس الدينية الخاصة بسلالتها وتمارس معتقدات سلالة زوجها وتندمج في أخوته. ويقول بيكار في كتابه
Charicles
إنه ما من شخص كان مسموحا له بالزواج داخل السلالة. (9)
كان التبني في السلالة يتم عن طريق التبني في إحدى عائلاتها بإجراءات شكلية وفي حالات استثنائية فقط. (10)
حق انتخاب وعزل الرئيس. وقد سبق القول أن كل سلالة كان لها حاكمها؛ ولكن هذا المنصب كان وراثيا في عائلات معينة. ويرجح أنه إلى نهاية عصر البربرية لم تكن الوراثة في المناصب مطلقة؛ لأنها تتنافى مع الظروف التي كان للغني والفقير في ظلها حقوق متساوية في السلالة.
وقد فشل جروت ونيبور ومومسن وكل مؤرخي الآثار الكلاسيكية السابقين في حل مسألة السلالة. ومع أنهم قد ذكروا بدقة كل صفاتها المميزة فقد كانوا دائما يعتبرونها مجموعة من العائلات فكان مستحيلا عليهم بذلك أن يفهموا طبيعتها.
وفي ظل هذا التنظيم لم تكن العائلة أبدا هي وحدة التنظيم، ولم يكن ممكنا أن تكون؛ لأن الرجل وزوجته كانا ينتميان لفرعين مختلفين، وكانت السلالة ككل تنتمي للأخوة، والأخوة تنتمي للقبيلة؛ وبذلك كانت العائلة تنتمي نصفيا إلى سلالة الزوج ونصفيا إلى سلالة الزوجة. ومع ذلك فكل التاريخ المكتوب يعتبر نقطة البدء هي العائلة الزوجية وأنها كانت النواة التي تبلور حولها المجتمع والدولة، مع أن هذه العائلة لم تظهر إلا قبل المدنية بقليل جدا. والغريب أن هذا الخطأ كان هو الرأي السائد في القرن الثامن عشر.
ويضيف ماركس أن «جروت كان يجب أن يلاحظ أنه رغم أن الإغريق كانوا يعتبرون سلالاتهم أثرا من علم الخرافات (بدليل نسبتها إلى أحد الآلهة الذي يعتبرونه أصلا لها)، فإن السلالات كانت أقدم من علم الخرافات بآلهته وأنصاف آلهته التي خلقوها هم بأنفسهم.»
ويعتبر مورجان أفضل من جروت في تفسيره للسلالة؛ فقد قال إن كل سلالة أثينية كان لها اسم مشتق من سلفها، وإن القاعدة قبل أيام سولون وبعده كانت أن الرجل إذا مات بدون وصية كان أعضاء فرعه يرثون ثروته، وإذا قتل رجل كان لأقاربه أولا ثم لأعضاء فرعه وأخيرا لأعضاء أخوته، الحق في مقاضاة القاتل في المحاكم، وكل ما نسمعه اليوم عن أقدم قوانين أثينا مبني على التقسيمات إلى فروع وأخوات.
ويقول ماركس: «إن المنحدرين من أصول مشتركة للفروع يسببون حيرة تعذب الذهن «لخريجي المدارس الجهلة»، وحيث إن هؤلاء يدعون أن تلك الأصول خرافية (لنسبتها لأحد الآلهة) فلا يستطيعون أن يشرحوا كيف تطورت الفروع من عائلات ليس بينها في الأصل أي صلة. ولكن لا بد من معالجة ذلك بوسيلة ما لشرح وجود فروع على الأقل؛ ولذلك نجدهم يدورون في حلقة مفرغة ولا يتعدون الجملة القائلة «إن علم الفروع خرافي ولكن السلالة حقيقة».»
وأخيرا يقول جروت: «نحن نسمع عن علم الفروع هذا نادرا لأنه لا يوضع أمام الجمهور إلا في حالات معينة محترمة، ولكن الفروع الأحقر شأنا كانت لها طقوسها المشتركة (عجيب حقا يا سيد جروت - ماركس)، وأصل مشترك أعلى من الإنسان وعلم فروع ورئيس معظم (ما أشد غرابة ذلك يا سيد جروت في الفروع الأحط شأنا - ماركس)، كما كانت لها أسسها المثالية (بل المادية يا سيد جروت - ماركس)، وكان كل ذلك متماثلا فيها جميعا.»
ويستخلص ماركس من إجابة مورجان على ذلك ما يأتي: إن نظام قرابة الدم الخاص بالسلالة في شكله الأصلي (وقد عرفه الإغريق يوما كغيرهم من البشر) حفظ العلاقات المتبادلة لكل أعضاء السلالة وجعلهم على علم بها، وقد تعلموا هذه الحقيقة بالتمرين منذ الطفولة، ومع ظهور العائلة الزوجية سقط ذلك في طي النسيان، وقد خلق اسم الفرع علما للفروع، ويؤكد هذا الاسم لحامليه حقيقة أصلهم المشترك، وبتقادم العهد لم يعد في استطاعة أعضاء السلالة إثبات أصلهم المشترك ما عدا في حالات قليلة، وكان الاسم نفسه هو الدليل على وجود أصل مشترك عدا في حالات التبني. وإن الإنكار الحالي لأي قرابة بين أعضاء الفروع على طريقة جروت وينبور خليق بأي عالم «مثالي» وبديدان الكتب المدرسية؛ فلأن الرابطة بين الأجيال وخاصة منذ بدء الزواج قد أهملت، ولأن حقيقة الماضي تبدو منعكسة في أوهام علم الخرافات، يبدو للجهلة الطيبين من العلماء المثاليين أن علم الفروع الوهمي هو الذي خلق فروعا حقيقة.
وكما هو الحال عند الهنود الأمريكيين كانت الأخوة بمثابة السلالة الأم، وتنقسم إلى عدة فروع بمثابة بنات لها، وتوحدهم في نفس الوقت نتيجة الأصل المشترك. ويقول جروت إن أعضاء كل إخوة كان لهم إله مشترك باعتباره أصلا لهم من الدرجة السادسة عشر (أي تعتبر الأخوة هي الجيل السادس عشر من سلالته). وكان كل فروع الأخوة يعتبرون لذلك إخوة فيما بينهم.
وقد ذكر هوميروس الأخوة باعتبارها وحدة عسكرية في ذلك الجزء الشهير من قصيدته حيث ينصح نستور أجاممنون بقوله: «جهز القوات عن طريق القبائل والأخوات بحيث تساعد كل أخوة الأخرى وكل قبيلة الأخرى»، وحيث إنه كان من حق الأخوة مقاضاة قاتل أحد أفرادها فقد كان لها فيما مضى واجب الانتقام للدم ولا شك. كما كان للأخوة مقدساتها وأعيادها المشتركة لأن تطور علم الخرافات الإغريقي من النظام الديني الآري القديم، هذا التطور أخذ مكانه أساسا في داخل الفروع والأخوات. وكان لكل أخوة رئيس، ويرى ديكولانجس أنه كان لها جمعيات لإصدار القرارات ومحكمة وسلطة إدارية، وقد اعترف جهاز الدولة التي ظهرت فيما بعد بالأخوة وترك لها بعض الاختصاصات رغم أنه تجاهل تماما أمر السلالة كما سيأتي.
وكان عدد من الأخوات المرتبطة برابطة القرابة يكون القبيلة. وكانت في أتيكا أربع قبائل تتكون كل منها من ثلاث أخوات، وتتكون كل أخوة من ثلاث فروع، ويدل هذا التقسيم الدقيق على تدخل مرسوم في التنظيم، أما كيف ومتى ولماذا حدث ذلك فهو ما لا يبينه التاريخ الإغريقي؛ لأن الإغريق أنفسهم كانوا يحفظون ذكريات لا تتعدى العصر البطولي.
وقد كان اختلاف اللهجات لدى الإغريق أقل من اختلافها في أمريكا لأن الإغريق كانوا متجمعين في إقليم صغير المساحة نسبيا، ورغم ذلك كان اتحاد القبائل يضم القبائل التي تتكلم نفس اللهجة الواحدة. وكانت لأتيكا لهجتها الخاصة التي أصبحت فيما بعد اللغة السائدة في النثر الإغريقي. وفي ملاحم هوميروس نجد القبائل الإغريقية عموما قد توحدت على هيئة شعوب صغيرة تحتفظ فيها الفروع والأخوات والقبائل باستقلالها. وكانت هذه الشعوب تعيش في مدن محاطة بأسوار، وقد ازداد تعداد السكان مع ازدياد عدد القطعان الحيوانية وزراعة الحقول وبدء الحرف اليدوية. ومع وجود هذه الظروف بدأ الاختلاف المتزايد في الثروات مما سبب ظهور اتجاه أرستقراطي في الديموقراطية القديمة التي نمت نموا طبيعيا. وقد اشتبكت هذه الشعوب المتعددة الصغيرة في حروب مستمرة في سبيل امتلاك الأراضي والسلب والغنائم، وكان استعباد أسرى الحرب قد أصبح نظاما معترفا به.
وكان النظام الأساسي لهذه القبائل والشعوب يتلخص فيما يأتي: (1)
كانت السلطة الدائمة هي المجلس
boulé ، وكان يتكون في الأصل حسب المرجح من زعماء الفروع، ولما زاد عددهم فيما بعد كان يتكون من أشخاص مختارين؛ مما خلق الفرصة لنمو وتقوية الاتجاه الأرستقراطي. ويقول ديونيسيوس إن المجلس في العصر البطولي كان يتكون من الأشخاص الممتازين
cratistoi . وكانت للمجلس الكلمة النهائية في الأمور الهامة، وقد انعكس ذلك في آداب تلك الفترة؛ إذ نقرأ في إحدى روايات
seschyus
2
أن مجلس طيبة
3
اتخذ قرارا بدفن جسد إيتوكلس وسط مظاهر التكريم وإلقاء جسد بوفيينيسس للكلاب. وبعد ظهور جهاز الدولة لدى الإغريق تحول هذا المجلس إلى مجلس الشيوخ. (2)
الجمعية الشعبية
agora ، وقد رأينا عند الإيروكيوس أن الشعب رجالا ونساء كانوا يلتفون حول اجتماع المجلس ويشتركون في المناقشات. وعند إغريق عصر هوميروس كان هؤلاء «الملتفون حول المجلس» قد تطوروا حتى أصبحوا جمعية شعبية كاملة كما كان الحال عند الألمان القدماء.
وكان المجلس يعقد الجمعية لتقرر الأمور الهامة، وكان لكل رجل حق الكلام، وكان التصويت على القرار يجري برفع الأيدي أو الهتاف. وكان نفوذ هذه الجمعية نهائيا. ويقول شومان في كتاب آثار اليونان إنه لم تكن هناك طريقة لإرغام الشعب على شيء ضد إرادته ولذلك كانت الجمعية هي السلطة العليا. ففي ذلك الوقت كان كل رجل بالغ في القبيلة محاربا، ولم تكن قد ظهرت بعد أي سلطة عامة منفصلة عن الشعب يمكن استخدامها ضده؛ فقد كانت الديموقراطية البدائية لا تزال في أوجها. (3)
القائد العسكري
bacileus . لم يكن هذا القائد ملكا أو أميرا كما يزعم البعض. ويقول ماركس تعليقا على هذا الزعم: «إن العلماء الأوربيين الذين يولد معظمهم خدما للأمراء يمثلون القائد العسكري كملك بالمعنى الحديث. ويعترض مورجان على ذلك بحق ويقول عن جلادستون وكتابه
4
إن جلادستون يمثل لقرائه زعماء الإغريق في العصر البطولي كملوك وأمراء مع تحليهم بأخلاق السادة المهذبين فنضطر للاعتراف بأننا توصلنا إلى معرفة قانون الأجداد الأول بطريقة كافية ولكن ليس مقطوعا بها.» ولكن ما دامت المعلومات ليست مقطوعا بها فإنها تكون في حكم العدم.
وقد سبق لنا رؤية الوضع فيما يختص بحالات الوراثة في مناصب الزعماء عند الهنود الأمريكيين، فقد كان كل الزعماء ينتخبون من السلالة؛ وبذلك كان المنصب وراثيا في السلالة. ثم حدث بالتدريج أن أصبح أقرب الأقارب للزعيم المتوفى، وهم الأخ وابن الأخت، يرشحون لملء منصب الزعامة، ما لم توجد أسباب تحول دون ذلك. وعند الإغريق في ظل الانتساب للأب كان منصب القائد العسكري ينتقل في العادة إلى أحد الأبناء، رغم أن الانتخاب كان ضروريا لتحقيق ذلك الانتقال، ولم يكن أبناء القائد السابق يفرضون على المنصب دون انتخاب. وكانت هذه هي الخطوط الأولى نحو وجود عائلات أرستقراطية في الفروع عند الإغريق والهنود على السواء. وكانت هذه الخطوط الأولى هي نواة الزعامة الوراثية التي أصبحت فيما بعد ملكية. وعلى ذلك فعند الإغريق كان القائد العسكري إما منتخبا من الشعب، أو على الأقل كان يجب أن يقر الشعب انتخابه بواسطة المجلس أو الجمعية الشعبية، كما كان الحال بالنسبة للملك
rex
في روما.
وقد انعكست هذه الصورة في آداب تلك الفترة؛ فنجد في الإلياذة أن حاكم الرجال أجاممنون يظهر ليس بصفته ملكا للإغريق ولكن قائدا أعلى لجيش اتحادي أمام مدينة محاصرة، وعندما دب الخلاف بين الإغريق أشار أوديسيوس إلى هذه الصفة في القائد بالعبارة الشهيرة: «إن عددا كبيرا من القواد ليس أمرا سليما فليكن لنا قائدا واحد ... إلخ.» وجاء في جزء آخر من الإلياذة في نفس الموقف: «إن أوديسيوس لا يحاضر هنا عن شكل الحكومة ولكنه يطلب الطاعة للقائد الأعلى للجيش في ساحة القتال، ويكفي الإغريق الذين يقفون الآن أمام طروادة كجيش موحد، يكفيهم المرافعة في المجلس كعمل ديموقراطي ولا داعي لها في ساحة القتال.»
وعندما تكلمت الإلياذة عن تقسيم الغنائم، نجد أن أثيلس لا تجعل أجاممنون أو غيره من القادة يقومون بالقسمة، بل يتولى ذلك أبناء الشعب
Achaeans ، ولا تدل المزايا التي يمنحها الإله زيوس إله الزعماء على شيء؛ فإن كل سلالة متفرعة - في اعتقادهم - من أحد الآلهة، وسلالة الزعيم متفرعة من إله ممتاز هو زيوس، وكل فرد ينتمي للآلهة حتى الجنود العاديون أمثال راعي الخنازير إيومايوس. وإذا قرأنا الأوديسا، وهي تمثل عصرا بعد الإلياذة، نجد أسماء الأبطال تطلق على العامة كما تطلق على الخاصة. «وعلى ذلك فكلمة
bacileus
التي يطلقها الكتاب الإغريق على ما يسمونه الملكية العسكرية (لأن القيادة العسكرية هي صفتها المميزة) لا تعني في الواقع ملكية وإنما ديموقراطية عسكرية مع المجلس والجمعية الشعبية - ماركس.»
وبجانب الوظائف العسكرية كانت للقائد العسكري وظائف دينية وقضائية، ولم تكن الوظائف القضائية محددة بوضوح، أما الدينية فكان يمارسها باعتباره الممثل الأعلى للقبيلة أو اتحاد القبائل. وليس هناك أي مرجع بالنسبة للوظائف المدنية والإدارية ولكن يظهر أن القائد كان عضوا بالمجلس. وكما سبق القول لم يكن القائد العسكري ملكا بالمعنى الحديث على الإطلاق بل كان زعيما عسكريا ورجل دين، ولم تكن له سلطة حكومية بالمعنى الحالي.
5
وعلى ذلك فما زلنا نجد النظام القديم للفروع والأخوات والقبائل في عنفوانه لدى إغريق العصر البطولي، ولكنه كان في بداية زواله؛ فإن الانتساب للأب وجمع الثروات الطائلة بقصد توريثها للأبناء، والاختلاف في الثروة الذي خلق الخطوط الأولى للأرستقراطية الوراثية والملكية، والرق الذي كان أول أمره محددا بأسرى الحرب ثم مهد الطريق لاستعباد الزملاء في القبيلة وفي السلالة نفسها، وتحول الحروب القديمة بين القبائل إلى غارات منتظمة في البر والبحر، من أجل الاستيلاء على الحيوانات والعبيد والنفائس كوسيلة عادية لكسب العيش، كل ذلك كان سببا في تمجيد الثروة وتمرد الناس على التنظيمات القبلية القديمة لكي يحللوا لأنفسهم سرقة الثروات بالإكراه. وأصبح المجتمع في حاجة قصوى إلى نظام يحمي الملكية الجديدة للأفراد ضد التقاليد الجماعية القبلية، ويجعل هذه الملكية مقدسة باعتبارها الهدف الأعلى للمجتمع الإنساني، ويديم التقسيم الطبقي للمجتمع، ويحمي حق الطبقة المالكة في استغلال الطبقة التي لا تملك. ومعنى ذلك أن المجتمع الجديد كان في حاجة إلى ظهور سلطة الدولة. وهكذا اخترعت الدولة.
الفصل الخامس
قيام الدولة في أثينا
قامت الدولة بتحويل طرأ على بعض أجهزة التنظيم وإزاحة بعضها الآخر عن طريق قيام أجهزة جديدة، وأخيرا ألغي الكل عن طريق سلطة حكومية حقيقية. واستبدال الرجال المسلحين في كل قبيلة وأخوة وفرع بقوة مسلحة عامة في خدمة السلطة الحكومية؛ ولذلك كان يمكن استخدام هذه القوة المسلحة ضد الشعب نفسه. وهكذا قامت الدولة في أثينا القديمة.
وقد وصف مورجان المحتوى الاقتصادي الذي نتجت عنه هذه التغيرات. ففي العصر البطولي كانت القبائل الأثينية الأربعة ما زالت مستقرة في أجزاء متفرقة من أتيكا، ويبدو أن الأخوات الاثنتي عشرة المكونة لهذه القبائل كانت لها مقاعد منفصلة في مدن سيكروبس الاثنتي عشرة. وكان الدستور الأساسي هو دستور العصر البطولي، أي جمعية شعبية ومجلس وقائد عسكري. وحسبما يخبرنا التاريخ المكتوب، كانت الأرض قد قسمت وتحولت إلى الملكية الفردية التي تناسب حالة إنتاج السلع وتجارتها حوالي نهاية المرحلة العليا من البربرية. وكانوا ينتجون الحبوب ويصنعون النبيذ والزيت، وتحولت تجارة بحر إيجة تدريجيا من أيدي الفينيقيين إلى أيدي أهل أتيكا. ونتيجة شراء وبيع الأراضي والتقسيم المستمر للعمل بين الزراعة والحرف اليدوية والتجارة سرعان ما اندمج أعضاء القبائل المختلفة في بعضهم، ووفد على مناطق القبائل سكان جدد لم يكونوا ينتمون لهذه القبائل؛ ولذلك كانوا يعتبرون أجانب في مناطق إقامتهم. وفي وقت السلم كانت كل أخوة وكل قبيلة تدير شئونها بنفسها دون الرجوع للمجلس أو القائد العسكري في أثينا ولم يكن المتوطنون بالإقليم من غير أعضاء القبائل يشتركون في إدارة هذه الشئون لاعتبارهم أجانب كما سبق. وقد أحدث هذا الوضع اضطرابا في أجهزة التنظيم القبلي وظهرت الحاجة للعلاج في العصر البطولي؛ فظهر دستور منسوب إلى ثيسيوس. وكانت الصفة الأساسية لهذا التغيير تكوين إدارة مركزية في أثينا؛ أي أن بعض الأعمال التي كانت القبائل تتولاها في استقلال أصبحت أعمالا عامة ونقلت إلى المجلس العام في أثينا. وبجانب ذلك خطا الأثينيون خطوة لم يخطها أي شعب في أمريكا، فقد استبدلوا الاتحاد البسيط بين القبائل باندماج كل هذه القبائل على هيئة شعب واحد؛ فكان ذلك سببا في قيام نظام قانوني أثيني شعبي أعلى من النظام القانوني للقبائل والفروع. وأضفى هذا القانون على مواطني أثينا حقوقا معينة وحماية قانونية إضافية حتى في غير أقاليم قبائلهم. وكانت هذه هي الخطوة الأولى نحو تحطيم الدستور القبلي؛ لأنها كانت الخطوة الأولى نحو الاعتراف (الذي تلا ذلك) بالمواطنين الذين كانوا أجانب بالنسبة لكل قبائل أتيكا وظلوا خارجين كلية على نطاق الدستور القبلي الأثيني. ظهر هناك نظام آخر منسوب إلى ثيسيوس هو تقسيم الشعب كله - بصرف النظر عن الفروع والأخوات والقبائل - إلى ثلاث طبقات، هي: النبلاء وملاك الأرض وأصحاب الحرف، مع منح النبلاء حق الانفراد بتولي المناصب العامة، وبخلاف منح النبلاء حق الانفراد بالوظائف العامة ظل هذا التقسيم غير مطبق لأنه لم يوجد أي تفرقة قانونية أخرى بين طبقات. وقد كان هذا التقسيم غاية في الأهمية لأنه يفسر لنا العناصر الاجتماعية الجديدة التي نمت في هدوء. ويظهر أن شغل المناصب في السلالة من عائلات معينة كان قد تم نموه في صورة امتيازات لهذه العائلات التي كانت قوية بثروتها؛ فبدأت تتحد خارج نطاق فروعها في صورة طبقة ممتازة، وحمت الدولة الحديثة النشأة هذا الاغتصات. كما يظهر هذا النظام أن تقسيم العمل بين المزارعين والحرفيين أصبح من القوة بحيث يستطيع منافسة التقسيم القديم إلى فروع وقبائل منافسة اجتماعية. وأخيرا فقد أظهر هذا التقسيم الصراع القوي بين المجتمع القبلي والدولة. وكانت المحاولة الأولى لتكوين دولة تتلخص في تحطيم الفروع عن طريق تقسيم أعضاء كل فرع إلى طبقة ممتازة وطبقة دنيا، وتقسيم الطبقة الدنيا إلى طبقتين تابعتين بحيث تستخدم إحداهما ضد الأخرى.
ولا نعرف على وجه الدقة تاريخ أثينا الذي حدث بعد ذلك حتى وقت سولون.
1
فقد ظل منصب القائد العسكري شاغرا، وأصبح الزعماء المنتخبون من النبلاء رؤساء الدولة، وظل حكم النبلاء يزداد رسوخا حتى حوالي سنة 600ق.م حيث أصبح غير محتمل، وأصبحت الطرق الرئيسية للسيطرة على الشعب هي المال والربا. وكان النبلاء يعيشون في الغالب في أثينا أو ضواحيها حيث التجارة البحرية والقرصنة بجانبها تغذيهم وتركز الثروة النقدية في أيديهم. ومن هذه النقطة سار نظام النقود كالنار إلى الحياة التقليدية للجماعات البدائية القائمة على الاقتصاد الطبيعي. فلا يمكن للنظام القبلي أن ينافس النظام النقدي؛ فتحطم لذلك صغار الملاك في أتيكا وتفككت الروابط القبلية التي كانت تحميهم، ولم تعد سندات الديون وقيود الرهن (وكان الأثينيون قد اخترعوا نظام الرهن) تحترم السلالة أو الأخوة. ولم يكن الدستور القبلي القديم يعرف شيئا عن النقود أو القروض أو الديون النقدية؛ ولذلك فقد أقام حكم النبلاء المالي قانونا جديدا لحماية الدائنين ضد المدينين ولإشغال الفلاحين لحساب ملاك النقود. وغرقت كل أحياء أتيكا الريفية في الرهونات لدرجة أن الأرض التي كانوا يقفون عليها كانت مرهونة، وبيعت أغلب الأراضي الزراعية لحساب الرهون عند عدم دفع الفوائد، وانتقلت ملكيتها إلى المرابي النبيل المولد. وكان الفلاح يعتبر نفسه سعيدا إذا سمح له بالبقاء في الأرض كمستأجر نظير خمسة أسداس إنتاج الأرصدة يأخذها السيد الجديد ويحصل الفلاح على سدس واحد. وزيادة على ذلك ففي الحالات التي لم يكن ثمن بيع الأرض فيها يغطي قيمة الدين غير المضمون برهن، كان على المدين أن يبيع أولاده في الخارج كعبيد لكي يجيب مطالب الدائن، وقد كان بيع الأب لأولاده الثمرة الأولى لنظام الانتساب للأب والزواج الحديث.
كما كان في استطاعة الدائن بيع المدين نفسه كعبد، وقد كان هذا النظام هو فخر المدينة السعيد في أثينا.
وقد كان مستحيلا قيام مثل هذه الثورة فيما سبق أيام الدستور القبلي، ولكنها ظهرت هنا ولا يدري أحد كيف.
ولنعد الآن لحظة إلى الإيروكيوس، فلا يمكن تصور قيام مثل هذه الحالة لديهم؛ فقد كانت طريقة إنتاج وسائل المعيشة عندهم لا تزال دون تغير؛ ولذلك لم يكن في استطاعة ظروفهم إظهار مثل هذه المنازعات والصراع بين الغني والفقير. وكانوا الإيروكيوس لا يزالون بعيدين عن السيطرة على قوى الطبيعة ولكنهم كانوا سادة إنتاجهم في داخل الحدود التي وضعتها لهم الطبيعة. ولم يكن ممكنا لنظامهم الإنتاجي أن يؤدي إلى انقلابات اجتماعية غير مدبرة وخدمة النبلاء وانقسام أعضاء الفروع والقبائل إلى طبقات متعادية متصارعة؛ فقد كان الإنتاج يجري في أضيق الحدود ولكن المنتجين كانوا سادة إنتاجهم، وكانت هذه هي الميزة الكبرى لإنتاج العصر البربري الذي زال بقدوم المدنية. ولا شك أن استعادة هذه الميزة على أساس السيطرة الكبرى التي يمارسها الإنسان الآن على الطبيعة، والوصول إلى الاتحاد الحر الذي يمكن تحقيقه الآن سيكون عمل الأجيال المقبلة.
وقد سبب ظهور الملكية الخاصة في القطعان الحيوانية لدى الإغريق، سبب قيام عملية التبادل بين الأفراد وتحويل المنتجات إلى سلع تجارية، وهنا نجد الطريق الموصل إلى الثورة الكاملة التي حدثت بعد ذلك. فعندما أصبح المنتجون لا يستهلكون إنتاجهم مباشرة ولكن يبادلون به إنتاج غيرهم فقدوا السيطرة على إنتاجهم ولم يعودوا يعرفون مصيره، وأصبح محتملا أن يستخدم الإنتاج يوما ضد المنتج ويتخذ وسيلة للسيطرة عليه واستئجاره. وليس هناك مجتمع يستطيع أن يظل سيد إنتاجه ما لم يلغ عملية التبادل بين الأفراد.
وتعلم الأثينيون سريعا كيف تحكم الإنتاج في المنتج بسرعة بعد تطبيق التبادل بين الأفراد وتحويل المنتجات إلى سلع. ومع إنتاج السلع ظهرت زراعة الأرض عن طريق أفراد يزرعون لحسابهم ثم تلتها سريعا الملكية الفردية في الأرض. ثم جاءت النقود، تلك السلعة العالمية التي يمكن مبادلتها بأي سلعة أخرى. ولم يكن الرجال يعرفون حينما اخترعوا النقود أنهم يخلقون بذلك قوة اجتماعية جديدة، قوة عالمية يجب أن تخضع لها كل القوى. لقد كانت هذه القوة الجديدة التي ظهرت فجأة إلى الوجود دون إرادة خالقيها هي القوة التي سقط الأثينيون بكل وحشية في براثنها.
فما الذي كان ممكنا عمله؟ كان التنظيم القبلي القديم عاجزا عن مواجهة السطوة المنتصرة للنقود، بل عاجزا حتى عن الاحتفاظ بكيانه في ظلها. ولكن قوة النقود الجديدة كانت موجودة ولم تكن الرغبات الدينية أو الأمنيات بعودة الأيام الجميلة الماضية لتستطيع طرد النقود والربا خارج دائرة الوجود. كما أصابت النظام القبلي ضربات أخرى أقل أهمية؛ فقد زاد الاختلاط بين أعضاء الفروع والأخوات المختلفة في كل أتيكا وخاصة في مدينة أثينا من جيل إلى جيل. ورغم أنه كان محظورا على الأثيني أن يبيع مسكنه لأحد خارج سلالته فقد سمح له ببيع أرض لغير أعضاء السلالة.
وكان تقسيم العمل بين مختلف فروع الإنتاج من زراعة إلى حرف يدوية إلى نجارة وملاحة وغيرها، قد ازداد نموا مع تقدم الصناعة والتجارة. وكان الشعب حينئذ مقسما إلى مجموعات محددة إلى درجة واضحة، وكان لكل مجموعة عدد من المصالح العامة الجديدة لم يكن لها مكان في السلالة أو الأخوة؛ ولذلك اضطرتهم هذه المصالح إلى خلق مناصب جديدة ترعاها. وازداد عدد العبيد زيادة ملحوظة حتى فاق عدد الأثينيين الأحرار في هذه المرحلة المبكرة. ولم يكن النظام القبلي في الأصل يعرف الرق؛ ولذلك فقد كان جاهلا بأي وسيلة من وسائل السيطرة على تلك الكتلة من العبيد. وأخيرا اجتذبت التجارة عددا كبيرا من الأجانب الذين توطنوا في أثينا لسهولة كسب النقود بها. وطبقا للنظام القديم لم يكن لهؤلاء الأجانب أية حقوق أو حماية من القانون فظلوا مصدرا أجنبيا للقلق بين الشعب.
وباختصار كان النظام القبلي يقترب من نهايته، وكان المجتمع يزداد خروجا عن نطاقه كل يوم، فقد كان نظاما أعجز من أن يواجه حتى أبشع الشرور التي ترتفع أمام عينيه. وكانت الدولة قد نمت في نفس الوقت في هدوء، وخلقت المجموعات الجديدة التي تكونت نتيجة تقسيم العمل بين المدن والريف أولا ثم بين مختلف فروع الصناعة، خلقت هذه المجموعات أجهزة جديدة لحمايتها ، وأنشأت مناصب عامة من كل نوع، وعندئذ احتاجت الدولة الجديدة قبل كل شيء إلى قوات مسلحة خاصة بها، وكانت هذه القوات أول الأمر قوات بحرية لأن الأثينيين كانوا ملاحين، وكان الغرض من هذه القوات استخدامها من وقت لآخر في الحروب الصغيرة والدفاع عن السفن التجارية. ففي وقت غير معين بالضبط قبل أيام سولون أنشئت ال
naucraries ، هي أحياء إقليمية صغيرة عددها اثنا عشر في كل قبيلة، وكان على كل حي منها أن يجهز سفينة حربية وفارسين. وكان هذا التنظيم عدوانا مزدوجا على النظام القبلي، فمن ناحية خلق قوة عامة مستقلة عن الرجال المسلحين في القبائل، ومن ناحية أخرى فقد كان ذلك هو أول تقسيم إقليمي للشعب تحقيقا للأغراض العامة دون نظر لتقسيمات المجموعات المتصلة بصلة القرابة، وسنرى ما يعني ذلك فيما بعد.
وحيث إن النظام القبلي لم يستطع مساعدة الشعب المستغل، فقد أصبح الشعب ينظر للدولة الصاعدة وحدها، وأعطته الدولة هذه المساعدة في شكل دستور سولون بينما أخذت تقوي نفسها على حساب النظام القبلي. وقد بدأ سولون (ولا تعنينا هنا الطريقة التي تم بها إصلاحه سنة 594ق.م) المجموعة المسماة بالثورات السياسية بالتدخل في نظام الملكية. وقد كانت الثورات حتى الآن عبارة عن حماية نوع من الملكية ضد النوع الآخر منها، ولم تكن تحمي نوعا من الملكية إلا بالاعتداء على النوع الآخر، ففي الثورة الفرنسية مثلا ضحت بالملكية الإقطاعية في سبيل الملكية البورجوازية. ولكن ثورة سولون كانت عبارة عن تضحية ملكية الدائنين في سبيل ملكية المدينين؛ فقد ألغت الديون ببساطة.
ولسنا نهتم هنا بالتفاصيل الدقيقة، ويقول سولون في أشعاره إنه ألغى حقوق الرهن من الأرض المرهونة ومكن كل الذين بيعوا في الخارج كعبيد وفاء لديونهم من العودة إلى بلادهم. ولم يكن ممكنا أن يتهم ذلك إلا بانتهاك صريح لحق الملكية. ولما كان موضوع كل الثورات السياسية هو حماية نوع من الملكية ضد النوع الآخر، فإن حماية الملكية الخاصة طوال الألفين والخمسمائة عام من تاريخها كانت عبارة عن انتهاك الحقوق الملكية.
وكان لا بد من إيجاد طريقة لمنع إعادة استعباد الأثينيين الأحرار، وقد تحقق ذلك أولا بوسائل عامة مثل إلغاء العقود التي تنص على رهن شخص المدين للدائن، كما حدد حدا أقصى لما يستطيع الشخص امتلاكه من الأرض، وكان الغرض من ذلك هو الحد من استيلاء النبلاء على أراضي الفلاحين. ثم تلا ذلك إصلاح دستوري أهم تفصيلاته بالنسبة لنا هي ما يأتي:
زاد عدد أعضاء المجلس إلى أربعمائة عضو يمثل كل قبيلة مائة عضو، ويلاحظ أن القبيلة هنا ما زالت معتبرة هي الأساس ولكن ذلك كان الجانب الوحيد الذي أخذ من النظام القبلي القديم. ثم قسم سولون المواطنين إلى أربع طبقات طبقا لمساحة الأرض التي يملكونها ومحصولها. وقد كان الحد الأدنى للمحصول بالنسبة للطبقات الأولى هو خمسمائة وثلاثمائة ومائة وخمسين
medimni
من الحبوب على التوالي (
medimni
يساوي 41 لترا). وكان من يملك أرضا يقل محصولها عن ذلك أو لا يملك أرضا على الإطلاق ينتمي للطبقة الرابعة. وكان أعضاء الطبقات الثلاث الأولى هم أصحاب الحق وحدهم في شغل المناصب، وكانت المناصب العليا قاصرة على الطبقة الأولى. ولم يكن للطبقات إلا حق التكلم والتصويت في الجمعية الشعبية. وكانت كل المناصب تملأ بالانتخاب وعلى شاغليها تقديم حساب عن أعمالهم. وكانت الطبقة الرابعة هي الأغلبية العددية، وتجددت الأرستقراطية جزئيا في شكل امتيازات بسبب الثروة ولكن الشعب استرد القوة الفعالة. كما كونت الطبقات الأربع أسس إعادة تنظيم القوات المحاربة. وكانت الطبقتان الأوليان تكونان الفرسان، والطبقة الثالثة تقوم بإعداد الفرق الحربية الثقيلة، والرابعة تقوم بإعداد الفرق الحربية الخفيفة بدون سلاح أو تعمل في البحرية، ويحتمل أن أفرادها كانوا يتناولون مرتبات. وعلى ذلك فإن الدستور قد قدم نظاما جديدا تماما هو الملكية الخاصة. وكانت حقوق وواجبات المواطنين تتدرج طبقا لمساحات الأرض المملوكة لهم، وحيث إن الطبقات المالكة قد كسبت النفوذ فقد دفنت علاقات الدم القديمة في التراب وعانى النظام القبلي هزيمة أخرى.
وإن تدرج الحقوق السياسية طبقا للملكية لم يكن نظاما لا غنى للدولة عنه، ربما كان ذلك النظام مهما في التاريخ الدستوري للدولة، ولكن دولا عظيمة ونامية نموا كاملا قامت دون أن تلجأ لمثل هذا النظام، وفي أثينا نفسها قام هذا النظام بدور انتقالي فقط، فمنذ وقت أرستيدس كانت كل المناصب مفتوحة أمام جميع المواطنين.
وفي خلال الثمانين سنة التالية سار المجتمع الأثيني تدريجيا في الطريق الذي تطور فيه في القرون التالية، فقد أوقفت عمليات الربا في الأراضي وهي العمليات التي كانت موجودة قبل سولون، كما حددت ملكية الأراضي، وأصبحت التجارة والحرف اليدوية والفنون هي الفروع المسيطرة في الحياة العملية خاصة بعد أن اتسع نطاقها مع نمو عمل العبيد، كما تقدم التعليم.
وبدلا من استغلال الأثينيين لمواطنيهم بالطرق الوحشية السابقة قاموا باستغلال العبيد وغير الأثينيين، وازدادت الثروة المنقولة والنقود والعبيد والسفن زيادة كبيرة، وبدلا من أن تتخذ هذه الثروات وسيلة لشراء الأراضي كما كان الحال في الفترة الأولى مع وجود حدود للملكية أصبحت هذه الثروات غاية في حد ذاتها. وقد كان ذلك سببا في ظهور منافسة الطبقة الصناعية والتجارية الجديدة لطبقة النبلاء القديمة، كما كان سببا في حرمان النظام القبلي القديم من آخر نقط ارتكازه؛ فقد أصبح أعضاء الفروع والأخوات والقبائل مبعثرين في كل أنحاء أتيكا، وأصبحوا يعيشون مختلطين مع بعضهم كلية؛ ولذلك أصبحت هذه الفروع والأخوات عديمة الفائدة كأجهزة سياسية. كما أن عددا كبيرا من المواطنين الأثينيين لم يكونوا ينتمون لأي سلالة؛ فقد كانوا مهاجرين وتبنتهم صفة المواطن، وبجانب ذلك كان هناك عدد مضطرد الزيادة من المهاجرين الأجانب الذين يتمتعون بالحماية.
وفي هذه الأثناء ظهر الصراع بين الجماعات؛ فقد حاول النبلاء استعادة امتيازاتهم السابقة واستعادوا سيادتهم لوقت قصير حتى ثورة كليستينس سنة 509ق.م التي أسقطتهم نهائيا، وبسقوطهم سقطت البقية الباقية من النظام القبلي.
وقد تجاهل كليستينس في دستوره الجديد القبائل الأربعة القديمة المكونة من الفروع والأخوات، وشغل مكانهم بتنظيم جديد كلية مؤسس على تقسيم المواطنين طبقا لمكان الإقامة الذي حددته الأحياء الإقليمية الصغيرة
naucr arios . وأصبح العامل الحاسم هو مكان الإقامة وليس عضوية إحدى القبائل. ولم يقسم الشعب بل قسم الإقليم وأصبح السكان من الناحية السياسية من ملحقات الإقليم.
وقسم كل إقليم أتيكا إلى مائة منطقة
deme
تحكم كل منها نفسها بنفسها. وكان مواطنو كل منطقة ينتخبون رئيسهم الرسمي
demarch
وخازن أموال وثلاثين قاضيا مع إدارة للعدالة في حالات قليلة، وكان لهم معبدهم الخاص وإلههم الذي يحميهم ويسمى
heros ، وكانوا ينتخبون كهنة هذه الآلهة. وكانت السلطة العليا في الإقليم هي جمعية المواطنين. ويقول مورجان بحق إن هذا النظام نسخة طبق الأصل من نظام الأقاليم الأمريكية التي تحكم نفسها بنفسها، وإن الدولة الحديثة لتنتهي في أعلى نمو لها إلى الوحدة التي بدأت بها الدولة في أثينا.
وتكونت من كل عشرة من هذه الأقاليم قبيلة تختلف عن الشكل القبلي القديم، وأصبحت قبيلة محلية
ortostamm . ولم تكن القبيلة المحلية جهازا يحكم نفسه بنفسه فقط بل كانت أيضا جهازا عسكريا. وكانت تنتخب رئيسا لها يسمى
phylarch
يقود الفرسان، وتنتخب آخر يسمى
taxiarch
ويقود الفرق العسكرية، وآخر يسمى
strategos
يقود كل الفرق الموجودة بإقليم القبيلة. وكانت القبيلة تجهز خمس سفن حربية بملاحيها وقائدها، وتعبد أحد آلهة أتيكا وكانت تعرف باسم هذا الإله باعتبارها حارسة قديسية، كما كانت كل قبيلة تنتخب خمسين عضوا لمجلس أثينا.
وكان إتمام هذه الأعمال هو الدولة الأثينية التي يحكمها مجلس من خمسمائة عضو منتخبين من القبائل العشرة، وفي الفترة الأخيرة كانت الجمعية الشعبية تنتخبهم، وكان لكل أثيني أن يحضر هذه الجمعية الشعبية ويدلي بصوته فيها. وكان الرؤساء وغيرهم من الرسميين يشغلون مختلف فروع الجهاز الإداري والمحاكم، ولم يكن في أثينا أي شخص رسمي يملك سلطة تنفيذية عليا.
وبهذا الدستور الجديد، وبانضمام عدد كبير من التابعين الذين كان بعضهم مهاجرين وبعضهم عبيدا معتقين، أصبحت أجهزة التنظيم القبلي القديم محرومة من الأعمال العامة وصارت بمثابة اتحادات خاصة وجمعيات دينية، ولكن نفوذها الأدبي استمر مدة طويلة ثم اختفى تدريجيا. وكان ذلك واضحا في دستور الدولة الذي جاء فيما بعد.
وقد رأينا أن وجود سلطة عامة منفصلة عن الشعب هي خاصية أساسية للدولة، وفي ذلك الوقت لم تكن أثينا تملك إلا قوة مسلحة وبحرية مزودة بالرجال من الشعب رأسا. وكان ذلك يضمن لها الحماية ضد الأعداء الخارجيين ويحتفظ بالعبيد تحت السيطرة، وقد كان العبيد في ذلك الوقت يكونون الأغلبية الكبرى من السكان. وبالنسبة للمواطنين وجدت هذه القوة العامة أولا في شكل قوة بوليسية كانت قديمة بقدم الدولة، ففي نفس الوقت الذي أنشأ فيه الأثينيون دولتهم أنشئوا قوة بوليسية، بوليس حقيقي من المشاة والخيالة المسلحين. وكانت هذه القوة البوليسية مكونة من العبيد. وكان الأثيني يعتبر الخدمة في البوليس عملا مهينا؛ ولذلك كان يفضل العبد المسلح أن يقبض عليه من أن يقوم بهذا العمل المخزي بنفسه، وكان ذلك تعبيرا عن العقلية القبلية القديمة. ولم تكن الدولة تستطيع أن توجد دون قوة بوليسية، ولكنها كانت دولة لا تزال فتية فلم تستطع أن تضمن لنفسها بعض الاحترام الكافي الذي يأخذ مكانه في وضع كان كريها بالنسبة للحياة القبلية القديمة.
أما تلاؤم هذه الدولة التي اكتمل الآن شكلها الخارجي الأساسي مع الظروف الاجتماعية الجديدة للأثينيين فيتضح من النمو السريع للثروة والتجارة والصناعة. وأما الصراع الطبقي الذي كان يرتكز عليه النظام الاجتماعي والسياسي فلم يعد بين النبلاء والعامة، وإنما بين العبيد والأحرار وبين التابعين والمواطنين. وعندما كانت أثينا في قمة ازدهارها كان العدد الكلي للمواطنين الأحرار - بما في ذلك النساء والأطفال - حوالي تسعين ألفا. وكان عدد العبيد من الجنسين حوالي ثلاثمائة وخمسة وستين ألفا. وكان عدد التابعين، أي المهاجرين والعبيد المعتقين، خمسة وأربعين ألفا. وعلى ذلك فقد كان هناك ثمانية عشر عبدا على الأقل في المتوسط لكل مواطن بالغ من الذكور واثنين من التابعين. وقد كان هذا العدد الكبير من العبيد يعمل في المصانع الواسعة تحت رقابة المديرين. ومع نمو التجارة والصناعة ازداد تركيز الثروة في أيد قليلة، وافتقرت كتلة المواطنين الأحرار، وكان عليها أن تختار بين الاشتغال بالحرف اليدوية ومنافسة عمل العبيد (الذي كان يعتبر مهينا كما كان قليل الربح)، أو أن تختار الفقر المدقع. وفي ظل الظروف الموجودة اختارت المحل الثاني، وحيث إن هذه الجماهير كانت الأغلبية فقد جرت معها كل الدولة الأثينية إلى الحضيض. ولم تكن الديمقراطية هي سبب انهيار أثينا كما يحاول المدرسون الأوربيون الراكعون أمام الملوك أن يوهمونا، ولكن السبب كان الرق الذي حط من شأن عمل المواطنين الأحرار.
ويعتبر قيام الدولة عند الأثينيين المثل الحي لجهاز الدولة على العموم؛ لأنه أخذ مكانه بشكل خالص دون تدخل العنف الداخلي أو الخارجي (مع استثناء فترة الاغتصاب القصيرة التي قام بها بيسيسراتس ولم تترك وراءها أثرا). ومن ناحية أخرى كانت الدولة الأثينية تمثل قيام شكل مكتمل النمو للدولة هو الجمهورية الديموقراطية التي نبعت مباشرة من المجتمع القبلي، كما تعود أهمية هذا الشكل من الدولة إلى أننا مزودون بالتفصيلات الكافية عنه.
الفصل السادس
السلالة والدولة في روما
طبقا لما جاء بالأسطورة الخاصة بتأسيس روما، تم الاستقرار الأول عن طريق عدد من الفروع اللاتينية (وعددها مائة كما تقول الأسطورة) توحدت في قبيلة واحدة. وتقول الأسطورة أيضا إن قبيلة
Sabellibn
المكونة بدورها من مائة فرع أعقبتها، وأخيرا أعقبتهما قبيلة ثالثة من عناصر مختلفة عددها أيضا مائة. ويظهر من الأسطورة لأول وهلة أن السلالة وحدها هي التي كانت مكونة تكوينا طبيعيا، وأن السلالة نفسها في حالات كثيرة كانت مجرد فرع من سلالة أم موجودة في موطنها الأصلي. وكانت القبائل مكونة بطريقة صناعية، ورغم ذلك كانت في معظمها مكونة من عناصر متصلة بصلة القرابة، وليس من المستبعد أن قبيلة قديمة كانت نواة هذه القبائل الثلاث. وكانت الأخوة لدى الرومان تشمل عشرة فروع في كل قبيلة، وكانت تسمى
Curia ؛ وعلى ذلك كان هناك ثلاثون أخوة.
ومن الحقائق المسلم بها أن السلالة الرومانية كانت نظاما مماثلا للسلالة الإغريقية، وحيث إن السلالة الإغريقية كانت تنظيما أساسيا للوحدة الاجتماعية التي كان شكلها البدائي هو السائد لدى الهنود الحمر بأمريكا، فكذلك كانت السلالة الرومانية، ويمكن لذلك أن نتناولها باختصار.
وفي الأوقات الأولى لتأسيس روما على الأقل كان نظام السلالة الرومانية كما يأتي: (1)
حقوق متبادلة في الميراث من الأقارب المتوفين حتى تبقى الأملاك في السلالة؛ وحيث إن الانتساب للأب كان القاعدة في السلالة الرومانية كما كان الحال لدى الإغريق، فإن ذرية الإناث كانت مستبعدة من السلالة. وطبقا لقانون الألواح الاثني عشر وهو أقدم قانون مكتوب في روما كان للأبناء الطبيعيين الحق الأول في الميراث، وفي حالة عدم وجودهم كان لأقارب ذرية الرجل
agnates
حق الميراث، وعند عدم وجودهم يكون الحق للسلالة، وفي جميع الحالات كانت الملكية تبقى في السلالة. وهنا نلاحظ التطبيق التدريجي للحقوق القانونية في السلالة والتي سببتها الثروة المتزايدة والزواج الحديث؛ فالحقوق التي كانت متساوية في الأصل بين كل أعضاء السلالة اقتصرت على أقارب ذرية الرجل أولا، ثم اقتصر الحق بعد ذلك على الأولاد وذريتهم من ناحية الأب، ويظهر ذلك في قانون الألواح الاثني عشر. (2)
مقبرة عامة؛ فالسلالة المنتسبة للأب في هجرتها إلى روما أعطيت قطعة أرض ومقبرة في المدينة. ونقرأ في قصص روما أيام حكم أوجستس أن رأس فاروس الذي سقط في غابة تيوتوبرج أحضر إلى روما وأدخل في منطقة السلالة، ومعنى ذلك أن سلالته كانت لا تزال تملك مقبرتها الخاصة. (3)
حفلات دينية مشتركة. وهي معروفة جيدا، وكانت تسمى
sacra gentilitia . (4)
التزام بعدم الزواج من السلالة. ولم يكن هذا الالتزام مكتوبا في قانون في روما ولكنه كان عادة سائدة، وقد وصلت إلينا ألقاب لا حصر لها للأزواج والزوجات في روما ليس بينها إطلاقا لقب زوج وزوجة مشترك، ويثبت قانون الميراث نفسه هذه القاعدة.
وقد كانت المرأة تفقد بزواجها حقوقها الموروثة وتترك سلالتها، ولم يكن في استطاعتها أو أولادها وراثة ممتلكات أبيها أو سلالته وإلا فقدت سلالة الأب ملكيتها. وتؤكد هذه القاعدة أن المرأة لم يكن يسمح لها بالزواج من سلالتها. (5)
ملكية مشتركة في الأرض، وقد كان ذلك يحدث دائما في الأوقات البدائية عندما قسمت ملكية القبيلة لأول مرة، وقد كان جزء من الأرض لدى القبائل اللاتينية في حيازة القبيلة وجزء في حيازة السلالة وجزء مملوك للأسرة التي كانت تشبه العائلة الزوجية بالمعنى الحديث. وقد كان رومولوس أول من قسم الأرض بين الأفراد بمعدل هكتار لكل منهم (الهكتار = 2
gugera
رومانية)، وفيما بعد كانت هناك أراض لا تزال في حيازة الفروع غير الأراضي المملوكة للدولة والتي يدور كل التاريخ الداخلي للجمهورية عليها. (6)
التزامات متبادلة بين أعضاء السلالة بتبادل المساعدة. ولا يسجل التاريخ المكتوب إلا الفضلات البسيطة في هذا الشأن، فمنذ نشأة الدولة الرومانية انتقل هذا الواجب إليها. ويخبرنا التاريخ المكتوب أنه عندما اعتقل أبييوس كلوديوس أعلنت سلالته كلها - بما فيها أعداؤه الشخصيون - الحداد، وفي أثناء حرب اليونيك الثانية اتحدت الفروع لنجدة أخواتها الذين كانوا في الأسر مع أن مجلس الشيوخ منعهم من ذلك. (7)
الحق في حمل اسم السلالة، وقد ظل هذا الحق مطبقا حتى عهد الأباطرة. وكان يسمح للعبيد المعتقين بحمل اسم سلالة سادتهم السابقين دون أن تكون لهم حقوق السلالة. (8)
الحق في تبني الأجانب في السلالة. وكان ذلك يتم بالتبني في إحدى عائلاتها (كما هو الحال عند الهنود الحمر). (9)
الحق في انتخاب وعزل الرؤساء، وفي أثناء الفترة الأولى لوجود روما كانت كل المناصب من الملك إلى أصغر منصب تملأ بالانتخاب أو التعيين، كما كانت الأخوة تنتخب كهنتها. ونعتقد أن نفس الوضع كان سائدا بالنسبة للرؤساء القبليين
principes ، ولا نعرف إن كانت القاعدة الخاصة باختيار المرشحين للرئاسة من نفس عائلة الرئيس السابق تطبق أم لا.
كان ذلك هو نظام السلالة في روما. ومع استثناء الانتساب للأب كانت هذه السلالة نسخة طبق الأصل من السلالة الإيروكيوسية، ونستطيع هنا أيضا تمييز السلالة الإيروكيوسية بوضوح. ويظهر الاضطراب الذي يسود معظم مؤرخينا بشأن مسألة النظام القبلي الروماني من المثال التالي: يقول مومسن في بحوثه الخاصة بالأسماء الرومانية الصحيحة في عهدي الجمهورية وأوجستس (كتاب بحوث رومانية الصادر في برلين سنة 1864 جزءا)، يقول مومسن: «الاسم في السلالة لا يوجد فقط عن طريق الذكور بما فيها الأشخاص المتبنون والقصر مع استثناء العبيد طبعا، ولكن يوجد الاسم أيضا عن طريق النساء.» فالقبيلة (ال
stamm
كما يترجم مومسن كلمة
gens ) هي وحدة مشتقة من مجموعة حقيقية أو مختلفة من الأصول، ومتحدة عن طريق طقوس دينية مشتركة ومقبرة عامة ووراثة، وكل الأفراد الأحرار بما فيهم النساء يعتبرون ضمن أفرادها . ولكن تحديد اسم السلالة الخاص بامرأة متزوجة يسبب بعض الصعوبات.
ولم تكن هذه الصعوبات موجودة طالما ظلت النساء ملزمة بالزواج من سلالتها. وقد وجدت النساء لوقت طويل أن الزواج داخل السلالة أسهل من الزواج خارجها، وقد كان حق الزواج من خارج السلالة
gentis enuptio
يمنح كامتياز شخصي وليس كقاعدة عامة خلال القرن السادس لنشأة روما. ولكن حينما وجد هناك مثل هذا الزواج من خارج السلالة فلا بد أن النساء في العصور البدائية كانت تنتقل بسببه إلى سلالة الزوج. وليس هناك شيء مؤكد أكثر من أنه عن طريق الزواج الديني القديم كانت المرأة تنضم تماما للوحدة القانونية والدينية الخاصة بزوجها وتترك قبيلتها هي. وليس هناك من لا يعلم أن المرأة المتزوجة تفقد حقوقها الإيجابية والسلبية في الميراث من سلالتها، وتدخل في نطاق سلالة زوجها وأولادها، وإذا تبناها زوجها كابنة له فكيف تظل منفصلة عن سلالته؟!
هذا ما قاله مومسن. وعلى ذلك فهو يدعي أن النساء الرومانيات المنتميات إلى سلالة معينة كن في الأصل أحرارا في الزواج داخل السلالة فقط. وبناء على ما يزعم فإن السلالة الرومانية كانت تسير على قاعدة الزواج داخل حدودها فقط وليس خارجها. وهذه الفكرة التي تتعارض مع تجارب كل الشعوب الأخرى مؤسسة على نص فردي مختلف عليه ورد في ال
livy (الكتاب رقم 39 الفصل 19) الذي نص عليه مجلس الشيوخ سنة 568 لنشأة روما؛ أي سنة 186ق.م. وتقول الفقرة المختلف عليها:
uti feceniae hispalae datio, deminutio, gentis enuptio tutoris optio item esset quasi ei vir testamento dedisset, utique ei ingneuo nubere liceret, neu quid ei qui eam duxisset, od id fraudi ignominiaeve esset.
ومعنى الفقرة أن فسنيا هسبلا سيكون لها الحق في التصرف في ممتلكاتها وتقليل قيمتها والزواج خارج سلالتها واختيار حارس لها، كما لو كان زوجها المتوفى قد منحها هذا الحق بوصية، وأنها سيسمح لها بالزواج من رجل حر، ولن يكون ذلك شيئا شائنا بالنسبة للرجل الذي سيتزوجها.
ومما لا شك فيه أن فسنيا التي كانت أمة وأعتقت قد حصلت بمقتضى هذه الفقرة على إذن بالزواج من خارج السلالة. ومما لا شك فيه أيضا أن الزوج - كما يظهر من هذه الفقرة - كان له حق منح زوجته هذا الحق بوصية. ولكن خارج أي سلالة كان الزوج يستطيع منح زوجته حق الزواج: سلالته أم سلالتها؟
إذا كان للمرأة أن تتزوج من سلالتها كما يزعم مومسن فإنها كانت تبقى في السلالة بعد الزواج ما دامت السلالة خاضعة لقاعدة الزواج من داخلها، ومعنى ذلك أنه كان على الرجل أيضا أن يتزوج من داخل سلالته وإلا فلن يجد زوجة. وإذ سلمنا بذلك نصل إلى حالة في الفقرة السابقة يكون للزوج فيها أن يمنح زوجته بوصية حقا لا يملكه هو نفسه مما يجعلنا أمام وضع قانوني غير معقول. وقد أدرك مومسن نفسه ذلك؛ ولذا نراه يقول: «من المرجح أن الزواج من خارج السلالة كان يتطلب قانونا موافقة الزوج وموافقة كل أعضاء السلالة.» ونعتقد أن هذا الزعم في منتهى الجرأة، كما أنه يتعارض مع صريح نص الفقرة؛ فمجلس الشيوخ يعطيها الحق كما لو كان نائبا عن زوجها فهو لا يعطيها أكثر أو أقل مما كان الزوج يستطيع إعطاؤه، ويوصي مجلس الشيوخ القناصل
1
الحاليين المستقبلين والبريتورات
2
بأن يراعوا ألا تعاني أية متاعب من جراء استعمال هذا الحق؛ ولذلك فلا يمكن التسليم بافتراض مومسن. وإذا افترضنا أن امرأة تزوجت رجلا من سلالة أخرى ولكنها بقيت في سلالتها؛ فطبقا للنص السابق كان لزوجها الحق في السماح لها بالزواج من خارج سلالتها هي، أي كان له الحق في وضع شروط تتعلق بالشئون الخاصة بسلالة لا ينتمي هو إليها، وهو وضع غير معقول ولا نحتاج لأدلة لإنكاره. وعلى ذلك فالتفسير الوحيد الصحيح للنص في نظرنا أن المرأة في زواجها الأول تزوجت رجلا خارج سلالتها فانتقلت بالزواج إلى سلالة زوجها، وهو ما يعترف به مومسن نفسه في مثل هذه الحالات. وبذلك يصبح النص واضحا؛ إذ يعني أن المرأة انفصلت عن سلالتها بالزواج وتبنتها سلالة زوجها ولكنها تشغل وضعا خاصا في سلالة الزوج لا يجعلها تستوي بأعضاء السلالة الأصليين، وعندما يموت زوجها كانت ترث جزءا من ممتلكاته أي: ممتلكات زميل لها في السلالة. ولما كان يجب على الممتلكات أن تبقى في السلالة وأن المرأة لذلك يجب أن تضطر إلى الزواج من أحد أعضاء سلالة زوجها الأول حتى يتحقق ذلك، فإذا وضع لذلك استثناء فإن أكثر الناس اختصاصا بالسماح بذلك هو الرجل الذي أدخل المرأة في السلالة بزواجه منها ونقل إليها هذا الجزء من أملاكه، أي الزوج الأول، فكان عندما يوصي لها بالزواج من خارج سلالته التي أصبحت سلالتها يعطيها الحق في نقل الممتلكات التي ورثتها عنه إلى سلالة أخرى بالزواج من أحد أعضائها. أما بالنسبة للمرأة وعلاقتها بسلالة زوجها الأول فإن الزوج هو الذي أدخلها السلالة بزواجه منها، فمن الطبيعي أن يكون هو صاحب الحق في إخراجها من السلالة عن طريق السماح لها بالزواج من آخر. وعلى ذلك فتفسير النص يبدو واضحا ومعقولا إذا نظرنا للأمر - كما فعل مورجان - على أن السلالة كانت في الأصل تسير على قاعدة الزواج من خارجها.
وهناك رأي آخر ربما وجد أكبر عدد من المؤيدين وهو أن النص السابق يعني «أن الفتيات الإماء المعتقات
libertae
لا يستطعن دون إذن خاص أن يتزوجن من خارج السلالة أو أن يتخذن أي خطوة تؤدي لتركهن للسلالة مما قد يسبب أبسط خسارة لحقوق العائلة.»
3
وإذا كان هذا الرأي الأخير صحيحا فإن النص يثبت أنه أقل من المعقول إذا راعينا حالة النساء الرومانيات الأحرار، وما زال هناك مكان للكلام عن التزامهن بالزواج داخل السلالة.
وإن تعبير
enuptiogentis ، أي الزواج من خارج السلالة، لا يوجد إلا في هذه الفترة المنفردة ولا يوجد في أي مكان آخر من الأدب الروماني كله. وتوجد كلمة
enubere ، أي الزواج من الخارج ثلاث مرات فقط في ال
livy
ولا تعود على السلالة. وإن الفكرة الوهمية التي تقول إن النساء الرومانيات كن ملزمات بالزواج داخل حدود السلالة فقط، هذه الفكرة تدين بوجودها لهذه الفقرة وحدها ولكنها لا تجد ما يؤيدها؛ لأنه إما أن تكون الفقرة خاصة بالموانع الخاصة بالإماء المعتقات ولا علاقة لها بالنساء الأحرار، وإما أن الفقرة تنطبق على النساء الأحرار أيضا؛ وذلك يثبت أن النساء عموما كانت تتزوج خارج السلالة وكانت تنتقل بالزواج إلى سلالة الزوج . وعلى ذلك فالفقرة تعتبر حجة ضد مومسن في صف مورجان.
وبعد حوالي ثلاثمائة عام من تأسيس روما كانت روابط السلالة لا تزال قوية لدرجة أن سلالة تسمى الفابيان قامت بنفسها وبتصريح من مجلس الشيوخ بحملة ضد المدينة المجاورة
Wev ، ويقال إن ثلاثمائة وستة من الفابيانز ساروا وقتلوا في كمين، وتركوا وراءهم ولدا واحدا ليحفظ السلالة.
وكما قلنا قبلا كانت كل عشرة فروع تكون أخوة، وكانت الأخوة تسمى
Curia ، وكانت لها وظائف أكثر أهمية من وظائف الأخوة لدى الإغريق. فكان لكل أخوة طقوسها الدينية الخاصة ومقدساتها وكهنتها.
وقد كون الكهنة كلهم إحدى جامعات روما للكهنة. وكانت كل عشرة أخوات تكون قبيلة، ومن المحتمل أنه كان لكل قبيلة في الأصل رئيس منتخب وقائد حربي وكبير كهنة مثل بقية القبائل اللاتينية. وكان الشعب الروماني يتكون من القبائل الثلاثة السابق الإشارة إليها مجتمعة.
وعلى ذلك فهؤلاء الذين كانوا ينتمون إلى الشعب الروماني كانوا أعضاء السلالات والأخوات والقبائل فقط. وكان الدستور الأول لهذا الشعب كما يلي:
شئون عامة يديرها مجلس الشيوخ المكون من رؤساء الثلاثمائة فرع (وكان نيبور أول من ذكر ذلك بدقة)، وكان أكبر أعضاء الفروع سنا يسمونهم آباء
ratres ، وقد كان مجلس الشيوخ
senrto (والكلمة مشتقة من
senex
أي الأكبر سنا) مكونا من رجال أسرة معينة في كل سلالة جرت العادة باختيار أفرادها، وكانت هذه الأسر نواة الأرستقراطية الوراثية. وكانت هذه الأسر التي يختار منها الرؤساء بالوراثة تعتبر أبا للسلالة وتدعي الحق المطلق في مقاعد مجلس الشيوخ وكل المناصب الأخرى. وبمرور الوقت أصبح الشعب يساهم في هذه المناصب. وقد جاء بالأسطورة الخاصة بتأسيس روما أن رومولوس منح مرتبة الآباء ومميزاتها لأول أعضاء في مجلس الشيوخ ولورثتهم. وكانت لمجلس الشيوخ (مثل المجلس اللاتيني) سلطة البت في شئون كثيرة والقيام بالمناقشة الافتتاحية للأمور الهامة وخاصة سن القوانين. وقد قررت الجمعية الشعبية المسماة
Comitia curiata ، أي جمعية الأخوات، هذا النظام.
وكان الشعب المجتمع في الجمعية تجمعه الأخوات، وفي كل أخوة تجمعه الفروع، وعند البت في المسائل العامة كان لكل من الأخوات الثلاثين صوت واحد. وكانت الجمعية الشعبية تقرأ وترفض القوانين وتنتخب كل شاغلي المناصب الرسمية، بما في ذلك ال
rex
الذي يعتبر بمثابة الملك. وكانت لها سلطة إعلان الحرب، أما عقد السلم فمن حق مجلس الشيوخ. كما كان لها أن تنظر بصفتها محكمة عليا - بناء على طلب الخصوم - كل الحالات التي تصدر فيها عقوبة الإعدام ضد المواطنين الرومانيين. وبجانب مجلس الشيوخ والجمعية الشعبية كان هناك ال
rex
الذي يماثل منصبه تماما منصب القائد العسكري الإغريقي، ولم يكن ملكا مطلقا كما حاول مومسن أن يصوره.
وكان ال
rex
قائدا عسكريا وكبيرا للكهنة ورئيسا لمحاكم معينة. ولم تكن له وظائف مدنية أو أي سلطة على الحياة أو الحرية أو الأملاك الخاصة بالمواطنين إلا ما يترتب على سلطته الإدارية كقائد عسكري، أو سلطته في تنفيذ الأحكام باعتباره الرئيس الأعلى للقضاء. ولم يكن منصب ال
rex
وراثيا؛ فقد كان أول الأمر ينتخب ربما بناء على تزكية من سلفه أو من جمعية الأخوات ثم تقر انتخابه جمعية أخرى. وكان يمكن عزله، يؤكد ذلك المصير الذي انتهى إليه تراكوينيوس سوبربوس.
وكما كان الإغريق في العصر البطولي، كان الرومان في العصر المسمى بعصر الملوك يعيشون في ديموقراطية عسكرية مؤسسة على الفروع والأخوات والقبائل التي نمت فيها هذه الديموقراطية. ومع أنه من المحتمل أن الأخوات والقبائل كانت مكونة تكوينا صناعيا (أي غير مرتبطة بروابط الدم) فقد صبت في قوالب تماثل القوالب الطبيعية الصحيحة للمجتمع التي نشأت فيه وما زال يحيط بها من كل جانب. ومع أن النبلاء الآباء كانوا قد ثبتوا مراكزهم فعلا، ومع أن ال
reges (جمع
rex )
4
قد حاولوا تدريجيا توسيع نطاق سلطتهم؛ فإن ذلك لا يغير الطابع الأصلي الأساسي للدستور.
وفي هذه الأثناء زاد تعداد السكان في روما والأراضي الرومانية التي اتسعت بالفتح؛ وكانت هذه الزيادة ناتجة من الهجرة ومن المقيمين بالأقاليم التي أخضعت والتي كان معظمها لاتينيا. وكان كل سكان الأقاليم التابعة خارج نطاق الفروع والأخوات والقبائل القديمة؛ وعلى ذلك فلم يكونوا جزءا من الشعب الروماني الخالص، وقد كانوا كأشخاص أحرار يستطيعون امتلاك الأراضي ودفع الضرائب والخدمة العسكرية، ولكن لم يكن لهم حق تولي المناصب العامة أو حق الاشتراك في الجمعية الشعبية أو الاشتراك في توزيع أراضي الدول المهزومة؛ فقد كانوا يكونون الطبقة الدنيا المحرومة من كل الحقوق العامة. ونتيجة للزيادة المستمرة في عددهم وتدريبهم العسكري وتسليحهم أصبحوا تهديدا للشعب الروماني الذي سد منافذه تماما في وجه أي زيادة. ويبدو أن الأرض كانت توزع بالتساوي بين الشعب الروماني وبين هذه الطبقة الدنيا، بينما يبدو أن الثروة التجارية والصناعية كانت مركزة أساسا في أيدي هذه الطبقة الدنيا مع أن هذه الثروة لم تكن قد تضخمت بعد.
ونظرا للظلام الدامس الذي يحيط بأصل أسطورة تأسيس روما - وقد زادت من هذا الظلام تفسيرات المؤلفين القانونيين - فمن المستحيل وضع تقرير دقيق عن وقت وسير وأسباب الثورة التي وضعت حدا للدستور القبلي القديم. والشيء الوحيد المؤكد هو أن أسباب الثورة تكمن في الصراع بين الطبقة الدنيا سالفة الذكر والشعب الروماني.
وقد أنشأ الدستور الجديد المنسوب إلى ال
rex
المسمى سرفيوس توليوس (ويشابه الأنظمة الإغريقية وخاصة نظام سولون)، أنشأ هذا الدستور جمعية شعبية جديدة، تضم أو تستبعد كل أشباه الشعب الروماني والطبقة الدنيا بناء على إذا ما كانوا قد أدوا الخدمة العسكرية من عدمه. فكل الذكور القادرين على أداء الخدمة العسكرية كانوا مقسمين إلى ست طبقات طبقا لثروتهم، وكان الحد الأدنى للثروة في الطبقات الخمس الأولى هو على التوالي: مائة ألف آس، وخمسة وسبعون ألف آس، وخمسون ألفا، وخمسة وعشرون ألفا، وأحد عشر ألفا (وهي كما ذكر ديرود ولامال تساوي حوالي 14000، 10500، 7000، 3500، 1570 ماركا ألمانيا على التوالي). أما الطبقة السادسة، وهي الطبقة العاملة المكونة ممن كانوا يملكون أقل من ذلك، فكانت معفاة من الخدمة العسكرية والضرائب. وفي الجمعية الجديدة (اسمها
Comita Centuriata ) كان المواطنون مقسمين إلى درجات على طريقة الجنود، وإلى مجموعات
Contnrea
عدد كل منها مائة، وكل مجموعة لها صوت واحد. وكان للطبقة الأولى ثمانون مجموعة، وللثانية اثنان وعشرون، وللثالثة عشرون، وللرابعة اثنان وعشرون، وللخامسة ثلاثون، أما الطبقة السادسة فلم يكن لها إلا مجموعة واحدة. ويضاف إلى هذه المجموعات ثمانية عشر مجموعة للفرسان المكونين من أغنى الأغنياء. وعلى ذلك يكون العدد كله مائة وثلاثة وتسعين مجموعة، وكانت الأغلبية المطلوبة سبعة وتسعين صوتا؛ وبذلك كان للفرسان والطبقة الأولى ثمانية وتسعون صوتا، أي الأغلبية، وعندما كان الفرسان والطبقة الأولى يتحدون كانت القرارات الصحيحة تصدر حتى دون سؤال الطبقات الأخرى.
وقد انتقلت كل الحقوق السياسية إلى الجمعية الجديدة هذه. وكانت الأخوات والفروع المكونة لها لا تزال موجودة كما كان الحال في أثينا، ولكن انحط شأنها حتى أصبحت بمثابة جمعيات خاصة ودينية، وظلت بهذه الصفة مدة طويلة بينما سقطت جمعية الأخوات القديمة في طي النسيان. ولكي تلغى القبائل الثلاثة القديمة من الدولة أنشئت أربع قبائل إقليمية، تسكن كل قبيلة منها في ربع المدينة، ولها حقوق سياسية معينة.
وعلى ذلك ففي روما أيضا تحطم النظام الاجتماعي القديم المبني على روابط الدم الشخصية حتى قبل إلغاء الملكية المزعومة، وحل محله دستور جديد مبني على التقسيم الإقليمي والاختلاف في الثروة، وقد كان دستور دولة بالمعنى الحقيقي. وكانت السلطة العامة تتكون من المواطنين الصالحين للخدمة العسكرية، وكانت هذه السلطة العامة موجهة ضد العبيد والطبقة المسماة بالطبقة العاملة التي كانت محرومة من الخدمة العسكرية والحق في حمل السلاح. وقد جاء الدستور الجديد بعد طرد آخر
rex
المسمى تراكوينيوس سوبربوس الذي كانت له سلطة ملكية حقيقية اغتصبها، وقد وضع الدستور الجديد مكان ال
rex
قائدين عسكريين يسميان قنصلين، متساويين في سلطتهما (كما كان الحال عند الإيروكيوس)، وفي خلال تطبيق هذا الدستور تحرك كل تاريخ الجمهورية الرومانية بكل صراعه بين الرؤساء المسمين آباء (السابق ذكرهم) وبين الطبقة الدنيا، تحرك هذا الصراع من أجل الاعتراف للطبقة الدنيا بحق تولي المناصب والمشاركة في أراضي الدولة. وكان آخر انحلال لطبقة النبلاء الآباء هو تحولها إلى الطبقة الجديدة المكونة من أصحاب الأراضي الواسعة وملاك النقود الذين ابتلعوا تدريجيا كل أراضي الفلاحين الذين حطمتهم الخدمة العسكرية، وكانوا يزرعون أرضهم بواسطة العبيد الذين جمعوا من أقاليم شاسعة مجاورة ؛ مما أفقر إيطاليا من السكان وركزهم في روما، ومما فتح الباب على مصراعيه للحكم الاستعماري وخلفائه من المتبربرين الألمان.
الفصل السابع
السلالة عند السلت الألمان
يمنعنا بعد المسافة من الدخول في شرح تنظيمات السلالة التي لا تزال موجودة في شكلها الأصلي بدرجات متفاوتة عند معظم الشعوب التي لا تزال حتى اليوم في مرحلتي الوحشية والبربرية، كما يمنعنا من الدخول في آثار هذه التنظيمات التي كانت موجودة في التاريخ القديم للأمم المتمدنة في آسيا، وحيث إن أشكالا مختلفة من هذه التنظيمات تقابلنا في كل مكان فسنكتفي ببعض الشرح في هذا الشأن:
قبل الاعتراف بالسلالة، قام بالإشارة إليها وشرح خطوطها الرئيسية الرجل الذي كان السبب الأكبر في إساءة فهمها؛ وهذا الرجل هو ميكلنان الذي كتب عن هذا التنظيم عند الكالموس والسيركاس والسامويدز والشعوب الهندية الثلاثة: الواراليز والماجارز والمونيبوريز. كما قام ماكسيم كوفالفسكي بوصف هذا التنظيم الذي اكتشفه عند البشافز والفيفرز والفيانيانز وغيرها من القبائل القوقازية. وسنقتصر هنا على كلمات موجزة عن السلالة لدى السلت والألمان.
تظهر السلالة في كامل حيويتها في أقدم قانون للسلتس وصل إلينا، وما زالت السلالة حية في عقول العامة في أيرلندا بعد أن حطمها الإنجليز بالقوة. وكانت السلالة في قمة ازدهارها في أواسط القرن الثامن عشر في اسكتلندا، ولم تستسلم إلا لأسلحة وقوانين ومحاكم الإنجليز. وما زلنا نجد في قوانين ويلز القديمة التي كتبت قبل الفتح الإنجليزي ببضعة قرون (قبل القرن الحادي عشر)، ما زلنا نجدها تتكلم عن حقول زراعية مشتركة في قرى بأكملها ولكن في حالات استثنائية كبقايا لعادة سابقة. كان لكل عائلة خمسة آكرات
acres
لزراعتها الخاصة، وفي نفس الوقت كانت قطعة أخرى من الأرض تزرع زراعة مشتركة ويقسم محصولها، وإذا حكمنا على الأمور بناء على الأمثلة الموجودة في أيرلندا واسكتلندا فلا يكون لدينا شك أن هذه الوحدات القروية كانت تمثل الفروع وتقسيمات الفروع، مع أن أبحاثا أجريت بشأن قوانين ويلز لا تؤيد ذلك مباشرة، ولكني لا أستطيع التسليم بهذه الأبحاث لقدمها إذ تعود لسنة 1869. وعلى كل فإن الشيء الذي تثبته المصادر الأيرلندية ومصادر ويلز هو أن العائلة المكونة من اثنين لم تكن قد أخلت مكانها تماما للزواج الحديث لدى السلت في القرن الحادي عشر. ففي ويلز كان الزواج يعتبر قابلا للحل ما لم تمض عليه سبع سنين، وحتى إذا لم يكن قد بقي على السبع السنوات سوى ثلاث ليال كان في استطاعة أي من الزوجين حله، وكانت أملاكهما في هذه الحالة تقسم بينهما، وكانت المرأة هي التي تجري القسمة والرجل هو الذي يختار. وكان أثاث المنزل يقسم طبقا لعادات في منتهى الغرابة، فإذا كان الرجل هو الذي حل الزواج كان عليه أن يعيد أثاث الزوجة وأشياء قليلة أخرى، وإذا كانت المرأة هي الراغبة في الافتراق تأخذ أقل من ذلك. وكان الرجل يأخذ اثنين من الأطفال وتأخذ المرأة واحدا هو الطفل الأوسط، وإذا تزوجت المرأة ثانية بعد الطلاق ثم أعادها زوجها الأول كانت ملزمة بأن تتبعه حتى ولو كانت قد وضعت قدمها في فراش الزوج الثاني، ولكن إذا كان الرجل والمرأة قد عاشا معا سبع سنوات فكانا يعتبران زوجا وزوجة ولو لم يستوفيا شروط الزواج الشكلية. ولم تكن عفة الفتيات قبل الزواج تراعى ولم تكن حتى مطلوبة؛ فالقواعد التي تحكم هذا الموضوع غاية في العبث ومتعارضة مع كل المعايير الأخلاقية البورجوازية. وإذا زنت المرأة كان من حق زوجها أن يضربها، وكانت هذه هي إحدى الحالات الثلاث التي يحق للزوج ضرب زوجته بسببها دون أن يعاقب، وإن ضربها فليس من حقه طلب توقيع أي عقوبة أخرى عليها حتى لا تعاقب عن نفس العمل مرتين.
أما الأسباب التي يجوز للمرأة أن تطلب الطلاق بسببها دون أن تخسر حقوقها عند الاتفاق على الطلاق فتختلف عن ذلك؛ فقد كانت رائحة الرجل الكريهة سببا كافيا للطلاق. وكانت الفدية النقدية التي تدفع للرئيس القبلي أو الملك لقاء تنازله عن الحق في الليلة الأولى مع العروس منصوص عليها في قوانينهم. وكان للمرأة حق التصويت في الجمعية الشعبية. وكانت ظروف مماثلة لذلك يحتمل أنها وجدت في أيرلندا، وقد كان الزواج الحديث هو السائد فيها في ذلك الوقت، كما كان للنساء امتيازات سخية عند الطلاق، لدرجة إعطائها مكافأة عن الخدمات المنزلية التي أدتها.
وكان للرجل «زوجة أولى» إلى جانب زوجات أخريات، وعند تقسيم ممتلكات المتوفى لم تكن هناك تفرقة بين الأطفال الشرعيين وغير الشرعيين؛ فالنظام القائم إذن هو صورة من العائلة المكونة من اثنين مطابقة لشكل الزواج السائد لدى هنود شمال أمريكا. ولا يعتبر ذلك شيئا غريبا على شعب كان أيام سيزار يعيش في ظل الزواج الجماعي.
وقد جاء ذكر السلالة الأيرلندية ووصفها (وكانت القبيلة تسمى
clainne
أو
clan ) في كتب القانون القديمة، كما وصفها في القرن السابع عشر الفقهاء الإنجليز الذين أرسلوا إلى أيرلندا لنقل أراضي القبائل إلى ملكية ملك إنجلترا. فإلى هذا الوقت كانت الأراضي مملوكة ملكية مشتركة للقبائل أو السلالات عدا الأراضي التي حولها الرؤساء القبليون إلى ملكيتهم الخاصة. وحينما كان أحد أعضاء السلالة يموت وتتفكك عائلته كان الرئيس القبلي (وكان الفقهاء الإنجليز يسمونه
Caput Cognationis ) يعيد توزيع كل أرض القبيلة من جديد بين باقي العائلات الموجودة.
ولا بد أن هذا التوزيع كان يجري طبقا لقواعد مماثلة للقواعد التي كانت سائدة في ألمانيا. وما زلنا نجد للآن
1
قرى قليلة (وقد كان عددها كبيرا جدا منذ حوالي خمسين سنة) حقولها مشتركة، وكل الفلاحين مستأجرين للأرض التي كانت فيما مضى ملكية مشتركة للسلالة واستولى عليها المستعمرون الإنجليز، ويدفع الفلاحون إيجارا، كل منهم عن قطعة، ولكن كل الأرض الصالحة للزراعة والمراعي مشتركة ومقسمة حسب حالتها إلى قطع مستطيلة
gewanue
ويمنح كل فرد جزءا من القطعة.
أما المخازن والحظائر ونحوها فمشتركة، ومنذ حوالي خمسين سنة كانت إعادة تقسيم الأرض لا تزال تجري بصفة سنوية أحيانا. وتشبه الخريطة الخاصة بمثل هذه القرى خرائط الوحدات الزراعية العائلية الألمانية
gehoferschaft ، وكانت السلالة لا تزال حية في روحها الطائفية، وما زال أغلب الفلاحين الأيرلنديين منضمين إلى طوائف مؤسسة على عوامل تبدو سخيفة وغير مفهومة للإنجليز. والغرض الوحيد لهذه الطوائف هو التجمع لممارسة الرياضة العامة، وهي أن يتبادلوا الضرب القاسي.
وفي المدة من 1830 إلى 1839 كانت الأغلبية العظمى من السكان في إقليم موفاجان يحملون أسماء أربع أسرات؛ أي أنهم ينحدرون من أربع فروع أو قبائل.
2
ويبدأ انهيار النظام القبلي في اسكتلندا من تاريخ إخضاع ثوار سنة 1745. أما أي حلقة في سلسلة النظام القبلي تمثلها القبيلة الاسكتلندية فذلك ما يحتاج لمزيد من التحريات. وتجسم قصص والترسكوت القبيلة الأيرلندية أمام أعيننا، فهي كما يقول مورجان «مثل رائع للسلالة في تنظيمها وفي روحها، وشرح دقيق لسلطة الحياة القبلية على أعضاء القبيلة؛ فنحن نجد لديهم العداء المتبادل بين القبائل والانتقام للدم، وانفراد كل فرع بإقليم خاص به، وزراعة الأرض بطريقة جماعية، وإخلاص عضو القبيلة لرئيسه، والإخلاص المتبادل بين الأعضاء. وكان النظام السائد لديهم هو الانتساب للأب؛ وبذلك يظل أبناء الرجل في القبيلة وينتقل أبناء المرأة لقبيلة أخرى.»
وتثبت عائلة ال
picts
الملكية أن الانتساب للأم كان سائدا فيما مضى في اسكتلندا؛ فقد كتب بد أن الوراثة لذرية الأنثى كانت هي المطبقة. وهناك من الدلائل ما يشير إلى أن العائلة البونالوانية كانت موجودة لدى الاسكتلنديين وسكان ويلز حتى العصور الوسطى، يؤيد ذلك حق الزعيم القبلي في الليلة الأولى مع العروس باعتباره الممثل الأخير للأزواج الجماعيين، وكان الزعيم يستطيع ممارسة هذا الحق مع كل عروس ما لم تكن قد دفعت فدية عن ذلك. •••
ومن الحقائق الثابتة أن الألمان كانوا منتظمين في فروع حتى وقت هجرة الشعوب إلى ألمانيا. ومن المؤكد أنهم استقروا في المنطقة الواقعة بين أنهار الدانوب والرين والفستولا وبحر الشمال قبل وقتنا الحالي بقرون قليلة؛ فالسمبريون والتيوتونيون كانوا لا يزالون في دور الهجرة، ولم يستقر السويفيون حتى أيام سيزار. وقد قرر سيزار أنهم كانوا منتظمين في فروع وقرابات
Gentibus Cognationibusque . ويقول روماني من سلالة جوليا إن كلمة
gentibus
تعني معنى محددا لا التباس فيه. وينطبق هذا الحكم على كل الألمان بما فيهم الذين استقروا في الأقاليم الرومانية المقهورة؛ إذ يظهر أنهم كانوا لا يزالون يعيشون في ظل نظام الفروع. ويؤكد القانون الألماني أن القوم المستقرين في الأراضي التي فتحت جنوب نهر الدانوب كانوا منتظمين في فروع
genealogia ، وهي كلمة تستعمل بنفس المعنى الذي استعملت به كلمة
mark
أو
dorfgenossenschaft
فيما بعد، أي مجتمع قروي. ومنذ وقت قريب قال كوفالفسكي إن هذه ال
genealogia
كانت وحدات عائلية كبيرة، كانت الأرض مقسمة بينها؛ وأدت إلى نمو المجتمعات القروية فيما بعد. وقد كان لدى اللانجوبارد (قبائل شمال ألمانيا) نفس النظام الذي استعمل القانون الألماني في وصفه كلمة
genealogia . وكون أن ذلك يمثل السلالة أو الوحدة العائلية حقيقة أم لا فهي مسألة ما زالت محتاجة لتحريات أكثر.
وإن عبارات اللغة لتجعلنا في شك فيما إذا كان لدى الألمان تعريف عام للسلالة، وإذا كان لديهم فأي تعريف؟ هل هو كلمة
genos
الإغريقية أم كلمة
gens
اللاتينية، أم هو مشتق من كلمة
kuni
بلغة الغال أم كلمة
künne
المستعملة في وسط ألمانيا، وهل يعني نفس المعنى أم لا؟ وإن الألفاظ المستعملة للدلالة على المرأة
wonan
تقودنا وقت الانتساب للأم لأنها مشتقة من نفس الأصل، أي كلمة
gynê
الإغريقية، وكلمة
zena
السلافية، وكلمة
guina
بلغة الغال، وكلمة
kona ،
kuna
النرويجية القديمة. ونجد عند اللانجوباردز والبورجونديين أن المستعمل هو لفظة
fara
المشتقة من الأصل الافتراضي
fisan ، أي الولادة أو الإنتاج، وأفضل ردها إلى كلمة
farna
وهي الأصل الأكثر وضوحا وتعني التوهان أو الضلال، وهو تعبير كان يعين قسما محددا من الأقسام القبلية المكونة من الأقارب، وهو تعبير كان ينطبق تدريجيا على المجتمع القبلي نفسه طوال القرون التي كان العلم فيها تائها وضالا، وقد استعمل هذا التعبير في الشرق أولا ثم في الغرب.
وهناك كلمة
sibja
بلغة الغال، وكلمة
sib
في اللغة الأنجلوسكسونية، وكلمة
sippia
أو
sippa ، أي القريب بلغة شمال ألمانيا القديمة. أما اللغة النرويجية القديمة فكان بها لفظ
sifjgr ، أي أقارب، وهي تدل على الجمع، أما مفردها وهو
sib
فيعني إله. وأخيرا فهناك تعبير آخر موجود في أغنية هيلدبراند. فإذا كان هناك اصطلاح ألماني عام للسلالة فنرجح أنه
kuni
بلغة الغال.
وقد كان الفرسان والمشاة حاملي الرماح عند الألمان تجمعهم في أرض المعركة فروعهم العائلية كما كان الحال عند المكسيكيين والإغريق، ويقول تاسيتس «إنهم يجمعون عن طريق العائلات والقرابات »، وفي أيام تاسيتس كانت السلالة قد انتهت ولم تعد منذ وقت طويل أساس المجتمع في روما.
وهناك فقرة قالها تاسيتس في غاية الأهمية؛ إذ قال: «إن الخال يعتبر ابن أخته ابنا له.» ويقول البعض إن رابطة الخال بابن أخته كانت أقوى من رابطة الأب بابنه؛ لدرجة أنه حينما كانت تطلب رهائن كان ابن الأخت يعتبر ضمانا أكثر من الابن، ولا شك أن ذلك أثر قوي للانتساب للأم الذي كان أصل السلالة.
3
وعندما كان أحد أعضاء السلالة يقدم ابنه كرهينة لالتزام عليه، ثم يصبح الابن ضحية إخلال أبيه بالتزامه فقد كان ذلك يعتبر من شأن الأب وحده. ولكن إذا كان الخال مكان الأب في هذه الحالة فإنه يكون قد انتهك أقدس قانون قبلي؛ فأقرب قريب هو الخال الذي كان ملزما قبل أي شخص بحماية ابن أخته، وإذا لم يكن لدينا أي أثر عن التنظيم السلالي لدى الألمان فإن هذه الفقرة السابقة وحدها تكفي دليلا على نظامهم.
وهناك دليل أكثر قوة لأنه جاء بعد الفترة السابقة بحوالي ثمانية قرون، وهذا الدليل هو فقرة في الأغنية النرويجية القديمة
voluspa
عن شفق الآلهة ونهاية العالم. ففي هذه الأغنية تتماوج عناصر مسيحية مع فترة الفساد العالمي والشر الذي سبق الطوفان. أما فقرة الأغنية فهي: «سيشعل الأشقاء الحرب ضد بعضهم بعضا، وسيحطم أبناء الأخوات روابط القرابة.»
وتستخدم الأغنية كلمة
systrungar
ومعناها ابن الخالة. ويقصد الشاعر أن التنكر لعلاقات الدم يكسو جرائم الإخوة. وعلى ذلك فإن ذكرى الانتساب للأم لم تكن قد محيت تماما في القرن الثامن عشر عند تأليف هذه الأغنية.
وفي أيام تاسيتس كان الانتساب للأب قد حل محل الانتساب للأم في أغلب الشعوب ومنها الألمان، وكان الأولاد يرثون الأب، وفي حالة عدم وجود أولاد كان الإخوة والأعمام والأخوال هم الورثة. وإن الاحتفاظ للخال بحق الوراثة ليثبت أن الانتساب للأب كان حديث الظهور. ونجد آثار الانتساب للأم بعد ذلك في العصور الوسطى؛ ففي هذه الفترة كانت الأبوة لا تزال موضع شك وخاصة بين رقيق الأرض. وعندما كان السيد الإقطاعي يطلب عودة الرقيق الهارب، كان يشترط في أوجسبرج وبازل وكيسر سلوتر مثلا أن تثبت تبعية الرقيق للأرض بشهادة ستة من أقربائه المباشرين في الدم وخاصة من ناحية الأم.
وهناك أثر آخر من آثار الانتساب للأم بدأ يسقط في دائرة الفناء هو احترام الألمان للجنس المؤنث، وقد كانت فتيات العائلات الأرستقراطية تعتبر أحسن رهائن لضمان تنفيذ الالتزامات لدى الألمان. ولم يكن أي شيء يستثير شجاعة الألمان في الحرب قدر خوفهم من أسر زوجاتهم وبناتهم وأخذهن كعبيد، وقد كانوا يعتبرون المرأة مقدسة، وكانوا يطلبون نصحها في أكثر الأمور. وقد كانت الراهبة فلدا في نهر لب هي الروح المحركة لثورة اللاتافيان التي هز فيها الألمان والبلجيكيين أركان الحكم الروماني في بلاد الغال. ويبدو أنه كانت للنساء السلطة العليا من المنزل. ويقول تاسيتس إن النساء والشيوخ والأطفال كانوا يقومون بكل عمل لأن الرجال كانوا يذهبون للصيد والسكر وقضاء الوقت. ولم يخبرنا تاسيتس من الذي كان يزرع الأرض، ويقول إن العبيد كانوا يدفعون إتاوات فقط ولا يجبرون على أداء أي عمل؛ وعلى ذلك يبدو أن الرجال كانوا يقومون بالزراعة.
وكما ذكرنا فيما سبق، كان شكل العائلة السائد هو العائلة المكونة من فردين، ثم تحولت بالتدريج إلى الزواج الحديث، ولم يكن الزواج الحديث مطبقا بدقة فقد كان مسموحا للنبلاء بتعدد الزوجات. وعلى عكس السلتس كان الألمان يتمسكون بالعفة المطلقة للفتيات. ويتكلم تاسيتس بإعجاب عن الاحترام المطلق لروابط الأمومة لدى الألمان، ويقول إن زنا المرأة كان السبب الوحيد للطلاق، ولكن توجد ثغرات كثيرة في تقرير تاسيتس مثل نسبة الفضيلة للرومان المنحلين.
ومن المؤكد أنه إن كان الألمان في غاباتهم مثالا استثنائيا للفضيلة فإن اتصالا بسيطا بالعالم الخارجي كان كفيلا بأن ينزل بهم إلى مستوى الأوربيين الآخرين، وفي دورة الحياة الرومانية اختفى آخر أثر للفضيلة أسرع من اللغة الألمانية. ويكفي أن نقرأ في هذا الشأن ما كتبه الرحالة جريجوري. ومما لا شك فيه أن الرفاهية الزائدة كان لا يمكن وجودها في الغابات الألمانية البدائية كما كانت موجودة في روما؛ ولذلك كان الألمان متفوقين خلقيا على العالم الروماني وليس لأنهم من جنس أرقى كما يزعم البعض.
ومن نظام السلالة نشأ التزام الشخص بوراثة عداوات وصداقات أبيه وأقاربه، كما ظهر نظام الفدية
wergild
التي تدفع ككفارة عن القتل والضرر بدلا من الانتقام للدم. ومنذ جيل واحد كان يظن أن هذه الفدية نظام خاص بالألمان، ولكن ثبت أن مئات الشعوب كانت تمارس هذا النوع المخفف من الانتقام للدم الذي كان نظام السلالة أصله. كما كانت السلالة سببا في ظهور نظام الاستضافة الذي كان يظن أيضا أنه خاص بالألمان مع أنه وجد مثلا عند الهنود الحمر. ويطابق وصف تاسيتس لكرم الضيافة عند الألمان لوصف مورجان لكرم الضيافة عند الهنود الحمر.
وقد انتهى الآن النزاع الحاد بين المؤرخين حول مسألة ما إذا كان الألمان أيام تاسيتس قد أتموا تقسيم الأرض الزراعية من عدمه؛ فقد ثبت أن الأرض الزراعية لدى كل الشعوب تقريبا كانت تزرع أولا زراعة جماعية عن طريق المجموعات العائلية المشاعية، وهو نظام وجده سيزار لدى السويفي، وبعد ذلك كانت الأرض تمنح بصفة دورية للعائلات الفردية، وظل هذا التوزيع الدوري للأرض ساريا في بعض أنحاء ألمانيا إلى يومنا هذا.
4
وإذا كان الألمان في مدى مائة وخمسين عاما مضت على الزراعة الجماعية لم يكن لديهم زراعة خاصة أو أرض مقسمة (كما ينسب سيزار إلى السويفي على أيام تاسيتس)، فمن المؤكد أن التطور من الزراعة الفردية والتوزيع السنوي للأرض (الذي كان سائدا) إلى الملكية الخاصة الكاملة في الأرض في مثل هذه الفترة القصيرة وبدون أي تدخل خارجي كان مستحيلا. وعلى ذلك فإنني أفسر ما جاء في كلام تاسيتس في هذا الشأن بالطريقة الآتية: كانوا يعيدون تقسيم الأرض الزراعية كل سنة، وكان كثير من الأرض يترك مشتركا، وهذه المرحلة من الزراعة تتمشى مع الدستور القبلي للألمان في ذلك الوقت.
وسأترك الفقرة السابقة (أي ما قاله تاسيتس في هذا الشأن) دون تغيير كما كانت في الطبعات السابقة، ولكني أريد أن أقول إن المسألة تحتمل تفسيرا آخر؛ فحيث إن كوفالفسكي قد أكد أن مجتمع العائلة المنتسبة للأب كان واسع الانتشار، إن لم يكن عاما باعتباره الحلقة التي تربط بين مرحلة الانتساب للأم وبين العائلة الزوجية الحديثة، فإن المسألة تكون مسألة البحث عن شكل الملكية العامة الذي كان مطبقا. ولا يمكن أن نجاري مورر ويتز في مناقشاتهما بشأن ما إذا كانت الأرض مشتركة أم مملوكة ملكية خاصة. وليس هناك شك في أن السويفي أيام سيزار كانوا يملكون الأرض ملكية مشتركة ويزرعونها زراعة جماعية لحساب المجموع. وستظل مسألة الوحدة الاقتصادية لديهم (هل هي السلالة أم المجموعة العائلية أم مجموعة مشاعية من الأقارب تتوسط الاثنين أم الأنواع الثلاثة)، ستظل هذه المسألة موضوع خلاف إلى وقت طويل.
ويصر كوفالفسكي على أن الظروف التي وصفها تاسيتس لم تكن خاصة بمجموعات المارك أو المجموعات القروية، بل خاصة بالمجموعة العائلية التي تطورت فيما بعد إلى مجموعات قروية نظرا لزيادة السكان.
وعلى ذلك فإن استقرار الألمان في الأراضي التي سكنوها أيام الرومان والأراضي التي أخذوها فيما بعد من الرومان، هذا الاستقرار لم يكن في شكل قرى ولكن وحدات عائلية كبيرة تتكون من عدة أجيال في كل وحدة، وكانوا يزرعون قطعا متسعة من الأرض ويستعملون الأرض المحيطة كحدود مشتركة مع جيرانهم. أما الفقرة التي قالها تاسيتس فيما يتعلق بإعادة توزيع الأرض الزراعية فتعني أساسا أن الوحدة العائلية كانت تزرع كل سنة قطعة مختلفة من الأرض، وأن القطعة التي كانت تزرع في عام سابق كانت تترك بلا زراعة أو تهجر في العام التالي. وكانت قلة عدد السكان سببا في وجود أرض فضاء كافية سببت منازعات كثيرة على حيازتها. وبعد مرور قرون حينما ازداد أعضاء الوحدة العائلية إلى حد أن أصبحت الزراعة الجماعية مستحيلة في ظل ظروف الإنتاج القائمة تفككت الوحدة العائلية. أما الحقول والمراعي المشتركة فقد قسمت بالطريقة المعروفة بين مختلف العائلات الفردية التي كانت قد تكونت حينئذ، وكان التقسيم دوريا أول الأمر ثم استقرت كل عائلة في ملكية قطعة، بينما ظلت الغابات والمراعي ومصادر المياه مشتركة.
وقد ثبتت عملية النمو هذه في روسيا ثبوتا قاطعا. أما عن ألمانيا وباقي البلاد الألمانية فلا يمكن إنكار أن هذا الرأي السابق ذكره يعتبر تفسيرا أصح من القول بأن المجموعات القروية وجدت أيام تاسيتس، وإذا شرحنا الوثائق التاريخية مثل
5
Codex laureshamensis
على أنها تتكلم عن المجموعات العائلية، لوجد هذا الشرح أدق من شرحها على أنها تتناول مجموعات المارك القروية. وما زلنا في حاجة إلى تحريات كثيرة لحل هذه النقطة. ولا أستطيع أن أنكر أن المجموعة العائلية يحتمل أنها كانت المرحلة المتوسطة في ألمانيا وإسكندوناوه وإنجلترا.
وبينما نرى في أيام سيزار أن الألمان كانوا مستقرين بصفة جزئية في مواطن ثابتة، وكان جزء منهم ما زال ينشد الاستقرار؛ فقد كانوا مستقرين استقرارا كاملا قبل أيام تاسيتس بقرن كامل. وكانوا قد أصابوا تقدما ملحوظا في إنتاج وسائل المعيشة نتيجة هذا الاستقرار؛ فقد كانوا يعيشون في مساكن خشبية، وكان ملبسهم لا يزال بشكل الغابة البدائي، وكان يتكون من أغطية صوفية خشنة ومن جلود الحيوانات، وكانت النساء والنبلاء يرتدون ملابس داخلية من الكتان. وكانوا يعيشون على اللبن واللحوم والفواكه والعصيدة المصنوعة من دقيق الشوفان (وهي الطبق القومي لدى السلت في أيرلندا واسكتلندا إلى اليوم). وكانت ثروتهم عبارة عن قطعان حيوانية ذات مرتبة منخفضة؛ فقد كانت الحيوانات صغيرة غير أليفة لا قرون لها، وكانت الخيول صغيرة وليست سريعة الجري. وكانت النقود المستعملة هي العملة الرومانية فقط وكانت قليلة نادرة الاستعمال. ولم يكونوا يصنعون أي حلي فضية أو ذهبية، ولم يكونوا حتى يعتبرون هذه المعادن ذات قيمة، وكان الحديد نادرا، وكانت قبائل نهري الرين والدانوب تستورده ولا تستخرجه بنفسها. وكانت الكتابة اليدوية (وكانت بحروف مقتبسة من الحروف الإغريقية واللاتينية) تستعمل كشيء سري خاص بالسحر الكهنوتي. وباختصار فقد كانوا شعبا خرج لتوه من المرحلة الوسطى البربرية إلى المرحلة العليا. وبينما كانت القبائل المتصلة بالرومان مباشرة تستورد المنتجات الصناعية الرومانية في حين كانت ممنوعة من استخراج المعادن وصناعة المنسوجات لنفسها، نجد أن قبائل الشمال الشرقي على بحر البلطيق تطورت لديها هذه الصناعات؛ فقد وجدت قطع من السلاح (سيف حديدي طويل ومعطف رجل وخوذة فضية مع عملة رومانية من نهاية القرن الثاني الميلادي) في مستنقعات ستشلونج، كما انتشرت السلع الألمانية بهجرة الشعوب، وكانت هذه السلع دقيقة الصناعة رغم أنها مقتبسة من الأصل الروماني. وكل ذلك وغيره من الأمثلة التي وجدت في بورجونديا ورومانيا وحول بحر آزوف مصنوعة بنفس الطريقة التي كانت تصنع بها في بريطانيا والسويد مما يقطع بأنها ألمانية الأصل.
وكان نظامهم أيضا متمشيا مع المرحلة العليا للبربرية؛ فقد ذكر تاسيتس أنه كان لديهم مجلس عام للرؤساء
يقرر الأمور القليلة الأهمية، ويعد الأمور الهامة لإصدار قرار بشأنها من الجمعية الشعبية. وكما سبق وعلمنا فإن هذه الجمعية كانت في المرحلة الدنيا من البربرية (مثل الهنود الأمريكيين) تعقد في السلالات فقط، ولم تكن تعقد بعد في القبيلة أو اتحاد القبائل في هذه المرحلة من البربرية. وكان الرؤساء الأعضاء بالمجلس مختلفين عن قواد الحرب
duces
كما هو الحال عند الإيروكيوس. وكان هؤلاء الرؤساء يعيشون على الهدايا والهبات مثل الماشية والحبوب وغيرها مما يقدمه لهم أفراد القبيلة، وكانوا بصفة عامة ينتخبون من عائلة معينة. وقد دعم الانتساب للأب تحويل هذه المناصب تدريجيا من انتخابية إلى وراثية كما كان الحال عند الإغريق والرومان؛ وكان ذلك سببا في قيام عائلة أرستقراطية في كل سلالة. وقد اختفت معظم هذه الأسر الأرستقراطية القبلية خلال هجرة الشعوب أو بعدها بفترة قصيرة. وكان القواد العسكريون ينتخبون بناء على كفاءتهم وحدها بصرف النظر عن الأصل العائلي، وكانت سلطتهم قليلة ومستمدة من السوابق والتقاليد.
ويقول تاسيتس إن السلطة التأديبية في الجيش كانت في يد الكهنة، وكانت الجمعية الشعبية هي السلطة الحقيقية. وكان هناك الملك أو الرئيس القبلي. وكان قرار الشعب يصدر بإحدى صورتين إما زمجرة تعني «لا» وإما هتافا ورنين أسلحة يعني «نعم
aye ». وكانت الجمعية الشعبية هي ساحة العدالة أيضا، وكانت الشكاوى تقدم إليها ويصدر فيها القرار. وكان الحكم بالموت يصدر في حالات الجبن والخيانة والأخطاء الجسيمة فقط. وكانت الفروع وغيرها من التنظيمات القبلية تتولى القضاء، ويرأسها زعيمها الذي كان يتولى إدارة المناقشات، كما هو الحال في كل المحاكم الأصلية الألمانية. وكانت الأحكام عند الألمان تصدر من الجماعة كلها.
وقد ظهرت اتحادات القبائل منذ وقت سيزار، وكان لبعض هذه الاتحادات ملك. وقد بدأ القائد العسكري الأعلى يتطلع إلى السلطة، كما كان الحال عند الإغريق والرومان، وكان ينجح في الحصول عليها أحيانا. ولم يكن هؤلاء القواد المغتصبون حكاما مطلقين، ومع ذلك فقد بدءوا يحطمون النظام القبلي. وبينما كان العبيد المعتقون بصفة عامة يشغلون مركزا منحطا؛ لأنه لم يكن في استطاعتهم أن يكونوا أعضاء في أي سلالة، فقد كانوا يحصلون على المراكز والثروات بتقربهم من الملوك الجدد. وقد حدث نفس الشيء بعد هزيمة الإمبراطورية الرومانية فيما يتعلق بالقواد العسكريين الذين أصبحوا ملوكا لبلاد واسعة. وعند الفرانك (الفرنسيين) كان عبيد الملك وعتقاؤه يلعبون دورا كبيرا في المحاكم أولا ثم في الدولة. وكان جزء كبير من الأرستقراطية الجديدة ينحدر منهم.
وكان هناك نظام واحد كان السبب الأساسي الذي مكن الملكية من الظهور؛ وهو الحاشية أو التابعين.
وقد سبق لنا أن رأينا كيف تكونت الاتحادات الخاصة عند الهنود الحمر بجانب السلالات لكسب الحرب. وكانت هذه الاتحادات الخاصة لدى الألمان قد نمت حتى أصبحت تنظيمات قائمة؛ فقد كان القائد العسكري الذي يكسب شهرة يجمع حوله مجموعة من المحاربين الشبان يدينون له بالولاء شخصيا، وكان يطعمهم ويقدم لهم الهدايا وينظمهم في درجات كحرس وكفرقة مستعدة للعمل المباشر في وقت قصير. ومع أن هؤلاء التابعين كانوا ضعفاء، كما ثبت ذلك فيما بعد، فقد قاموا بدور جراثيم الفناء للحريات العامة القديمة، وأثبتوا هذا الدور خلال وبعد هجرة الشعوب؛ وذلك لأنهم خلقوا تربة صالحة لقيام سلطة الملكية، ولأن الطريق الوحيد لاستمرار جمعهم كان الأعمال الحربية المستمرة وحملات السلب. وأصبح السلب هو الموضوع الرئيسي، وكان الرئيس إذا لم يجد شيئا يفعله مع جيرانه يحرك قواته إلى بلاد أخرى حيث تكون هناك حروب وأمل في الغنائم. وكان المساعدون الألمان (الذين حاربوا الألمان أنفسهم تحت الراية الرومانية) يتكونون من هؤلاء التابعين بصفة جزئية، وكانوا النواة الأولى لنظام الجنود المرتزقة الذي كان عار الألمان ولعنتهم. وبعد هزيمة الإمبراطورية الرومانية كون تابعو الملك، هؤلاء الأرقاء والحاشية الرومانية، الجزء الرئيسي الثاني من الأرستقراطية التي ظهرت بعد ذلك.
وإذن فقد اتحدت القبائل الألمانية في هيئة شعوب. وكان نظامها الأساسي هو نفس النظام الذي نما عند الإغريق في العصر البطولي والرومان أيام الملوك المزعومين
rex ؛ فقد كانت هناك الجمعيات الشعبية ومجالس الرؤساء القبليين والقواد العسكريين الذين كانوا يتطلعون إلى سلطة ملكية حقيقية. وكان هذا النظام هو أكثر النظم التي يستطيع النظام القبلي أن ينتجها تطورا؛ فقد كان النظام الممثل للمرحلة العليا للبربرية.
وبمجرد أن تخطى المجتمع الحدود التي كان هذا النظام يلائمها، انتهى النظام القبلي وأخذت الدولة مكانه.
الفصل الثامن
تكوين الدولة عند الألمان
طبقا لما ذكر تاسيتس كان عدد الشعب الألماني كبيرا جدا. ويعطينا سيزار فكرة واضحة عن قوة مختلف الشعوب الألمانية؛ فهو يقول إن عدد اليوسيبتانر والتنكترانز الذين ظهروا على الضفة اليسرى لنهر الرين حوالي مائة وثمانين ألفا بما فيهم النساء والأطفال. وإن مائة ألف
1
في شعب واحد لعدد كبير جدا بالنسبة للإيروكيوس الذين لم يزد عددهم في قمة ازدهارهم عن عشرين ألفا، وكانوا مع ذلك مصدر رعب للإقليم الممتد من البحيرات الكبرى إلى أوهايو وبوتوماك. وإذا حاولنا أن نجمع على خريطة شعوب نهر الرين المعروفة لنا، لوجدنا أن كل شعب منها يستطيع أن يشغل في المتوسط أرضا تساوي مساحة بروسيا؛ أي حوالي عشرة آلاف كيلومتر مربع (182 ميلا جغرافيا مربعا). وقد وصلت ألمانيا العظمى الرومانية
germania magna
إلى نهر الفستولا، وكانت تشغل مساحة حوالي نصف مليون كيلومتر مربع. وإذا ما عددنا متوسطا يبلغ مائة ألف لكل شعب؛ فإن التعداد الكلي «لألمانيا العظمى» كان يبلغ حوالي خمسة ملايين، وهو رقم مرتفع بالنسبة لمجموعة من الشعوب البربرية، ولو أن كثافة السكان كانت بمعدل عشرة في كل كيلو متر مربع، وهي كثافة قليلة جدا بالنسبة للظروف الحالية. وهذا الحصر لا يشمل كل الألمان الذين كانوا يعيشون حينئذ؛ فنحن نعلم أن الشعوب الألمانية المنحدرة من الغال مثل الباستارنيانز والبيوكيتيانز وغيرهم كانت تعيش بجوار المنطقة الواقعة بين جبال الكاريامثيان ومصب نهر الدانوب، وكان عددهم كبيرا جدا؛ لدرجة أن يليني كان يعتبرهم خامس قبيلة رئيسية ألمانية سنة 180ق.م، وكانوا يعملون كجنود مرتزقة لبرسيوس ملك مقدونيا. وفي أوائل حكم أوجستس كانوا لا يزالون منتشرين في كل منطقة الأدرياتيك المجاورة، فإذا افترضنا أن عددهم كان مليونا واحدا فقط يكون الشعب الألماني كله لا يقل عن ستة ملايين في بداية المسيحية.
وبعد الاستقرار في ألمانيا لا بد أن التعدد قد ازداد بسرعة متزايدة، ويعتبر التقدم الصناعي السابق ذكره دليلا كافيا على ذلك. وترجع الأشياء التي وجدت في مستنقعات متشلويج إلى القرن الثالث الميلادي؛ لأن العملة الرومانية التي وجدت معها تعود إلى ذلك الوقت. وعلى ذلك ففي ذلك الوقت كانت صناعة المعادن والنسيج متطورة عند بحر البلطيق، وكانت هناك تجارة نشطة مع الإمبراطورية الرومانية، وكانت الطبقة الغنية تنعم بالرفاهية، وكل ذلك يدل على كثافة السكان. وفي هذا الوقت بدأ الألمان هجومهم على طول خط نهر الرين والحدود الرومانية ونهر الدانوب، وهو خط يمتد من بحر الشمال إلى البحر الأسود، ويعتبر دليلا مباشرا على الزيادة المستمرة في عدد السكان. وفي خلال القرون الثلاثة للصراع كانت كل شعوب الغال الرئيسية (مع استثناء الغال الإسكندنافيين والبورجونديين) تتحرك تجاه الجنوب الشرقي مكونة الجناح الشمالي لخط الهجوم الطويل، واندفع سكان ألمانيا العليا (الهرمينونيانز) إلى منتصف هذا الخط في منطقة الدانوب الأعلى، واندفع الإستايفونيون - الذين أصبحوا يسمون الفرانك - إلى الجناح الأيمن على طول نهر الرين، وفتح الإنجايفونيون بريطانيا. وفي نهاية القرن الخامس رقدت الإمبراطورية الرومانية مرهقة عاجزة مفتوحة الأبواب أمام الألمان.
وقد وقفنا في الفصول السابقة عند مهد المدنية الإغريقية والرومانية القديمة، ونقف الآن عند قبرها؛ فإن السطح المستوي لسلطة العالم الروماني امتد لمدة قرون على كل بلاد البحر الأبيض المتوسط. ولم تبد اللغة الإغريقية أي مقاومة، وحلت اللغة اللاتينية العامة محل كل اللغات القومية. ولم يعد هناك أي تمييز بين القوميات، فلم يعد هناك غال وأيبيريين وليجوريين ونوريكان؛ فقد أصبح الكل رومانيين. وقد حلت القوانين الرومانية والحكم الروماني في مكان تنظيمات روابط الدم القديمة؛ فسحقت بذلك آخر آثار القومية الإقليمية.
ولم يستطع هؤلاء المندمجون الجدد في روما تعويض هذه الخسارة لأنها لم تعبر عن أي قومية بل عن نقص القومية. وكانت عناصر تكوين أمم جديدة موجودة في كل مكان. وازداد الاختلاف بين اللهجات اللاتينية في الأقاليم المختلفة. وكانت الحدود الطبيعية التي جعلت من إيطاليا والغال وإسبانيا وإفريقيا بلادا مستقلة فيما مضى لا تزال موجودة ومحسوسة. ومع ذلك فلم تكن هناك قوة قادرة على جمع هذه العناصر في أمم جديدة، ولم يكن هناك كذلك أي أثر لأي مقدرة للنمو أو أي قوة للمقاومة، وأقل من ذلك بالنسبة للقوة الخالقة. وكانت الكتلة البشرية الضخمة في هذه الأقاليم الفسيحة مرتبطة مع بعضها برباط واحد هو الدولة الرومانية التي أصبحت بمرور الوقت أسوأ أعدائها المستبدين. وقد حطمت هذه الأقاليم روما، وأصبحت روما نفسها مدينة إقليمية مثل غيرها من المدن الممتازة، ولكن لم تعد حاكمة، ولم تعد قلب إمبراطورية العالم، ولم تعد حتى مقر الأباطرة ونوابهم الذين عاشوا في القسطنطينية وتورنتو وميلانو. لقد أصبحت الدولة الرومانية آلة ضخمة معقدة قائمة لاستغلال أعضائها فقط، وزادت الضرائب والخدمات المقدمة للدولة والمصادرات في إثقال كاهل الجماهير، وكان الاستبداد الصارخ من جامعي الضرائب والجنود وممثلي الدولة سببا في أن الضغط لم يعد محتملا.
هذه هي النهاية التي وصلت إليها الدولة الرومانية وسيطرتها العالمية؛ فقد أقامت حقها في البقاء على المحافظة على النظام في الداخل وحماية الإمبراطورية ضد المتبربرين في الخارج. ولكن نظامها كان أسوأ من أسوأ فوضى، وأسوأ من البرابرة الذين تعمدت الدولة حماية مواطنيها منهم، ونظر المواطنون إلى البرابرة على أنهم منقذوهم من روما.
ولم تكن الظروف الاجتماعية أقل سوءا من الظروف السياسية؛ ففي أواخر سنوات الجمهورية قام الحكم الروماني على الاستغلال القاسي للولايات الخاضعة، ولم يلغ الأباطرة هذا الاستغلال بل جعلوه شيئا عاديا . وكلما كانت الإمبراطورية تزداد اقترابا من الفناء كانت الضرائب والخدمات الإجبارية تزداد، وكان الرسميون يسرقون الشعب في غير حياء. ولم يشتغل الرومان أبدا بالتجارة والصناعة بل كانتا عمل الشعوب التابعة، ولكن الرومان فاقوا في الربا كل من سبقهم ومن جاء بعدهم.
وقضى إرهاق الحكومة على التجارة التي وجدت وعملت للمحافظة على نفسها لفترة من الوقت، وما بقي منها كان في الشرق في القسم الإغريقي من الإمبراطورية. وساد الفقر كل أرجاء الإمبراطورية وانحطت الزراعة؛ وكان كل ذلك هو نتيجة السيادة الرومانية للعالم.
وازدادت رقعة الزراعة التي تعتبر الفرع الرئيسي للإنتاج في كل الشعوب القديمة؛ ففي إيطاليا كان العدد الضخم من الإقطاعيات
latifundia
التي غطت تقريبا كل هذا الإقليم منذ نهاية الجمهورية، كان هذا العدد من الإقطاعيات يدار بطريقتين: إما كمراع؛ حيث حلت الماشية محل السكان، وكانت العناية بالماشية تحتاج لعدد قليل من العبيد فقط. وإما كأراض ريفية حيث زرعت الحدائق على نطاق واسع بأعداد كبيرة من العبيد، وكان إنتاج هذه الحدائق يستخدم لإشباع حاجات الملاك ولبيعه في أسواق المدن. وظلت المراعي الكبيرة كما هي واتسعت مساحتها أحيانا، ولكن الأراضي الريفية بحدائقها انحطت؛ نظرا لافتقار ملاكها وانحطاط شأن المدن. ولم يعد الاقتصاد المبني على عمل العبيد مربحا، ولكنه كان في ذلك الوقت الشكل الوحيد الممكن للزراعة الواسعة النطاق.
وأصبحت الزراعة الصغيرة النطاق مرة ثانية الشكل المربح الوحيد. وأخذت الإقطاعيات الواحدة بعد الأخرى تقسم وتؤجر في قطع صغيرة إلى مستأجرين يتوارثون هذا الحق، وكانوا يدفعون حصة ثابتة، وكانوا أقرب إلى كونهم مديري مزارع من كونهم مستأجرين، وكانوا يحصلون على سدس أو تسع المحصول السنوي نظير عملهم. وكانت هذه القطع توزع أساسا على مزارعين
coloni
يدفعون مبلغا ثابتا سنويا، وكانوا مرتبطين بالأرض يمكن بيعهم معها، ولكنهم لم يكونوا عبيدا، ولم يكونوا أحرارا كذلك؛ فلم يكن في استطاعتهم الزواج من المواطنات الأحرار، وكان الزواج فيما بينهم لا يعتبر زواجا صحيحا وإنما معاشرة جنسية فقط
contudernium
كما في حالة العبيد، وباختصار كانوا نواة نظام رقيق الأرض في العصور الوسطى .
وأصبح نظام العبيد القديم غير مستعمل لا في الزراعة الواسعة النطاق في الرين ولا في المصانع في المدن؛ إذ لم يعد ذلك مربحا، بينما اختفى سوق الرقيق. ولم يعد هناك مكان للعبيد كثيري العدد في ظل الزراعة الضيقة النطاق والحرف الصغيرة التي انتهى إليها أمر الإنتاج العظيم في العصور المزدهرة للإمبراطورية. ولم يعد في المجتمع مكان إلا لعبيد المنازل ومتاع الأغنياء. ولكن نظام العبيد المحتضر كان لا يزال من القوة لدرجة ظهر معها العمل الإنتاجي كله على أنه من عمل العبيد الذي لا يليق بكرامة الرومان الأحرار، وكان كل شخص حينئذ رومانيا حرا. وكانت هناك زيادة في عدد العبيد الذين أعتقوا لأنهم أصبحوا عبئا على ملاكهم. ومن ناحية أخرى كانت هناك زيادة في عدد المزارعين
coloni
وعدد الفقراء الأحرار (ويشبهون الفقراء البيض في ولايات الرقيق الأمريكية السابقة). وإن المسيحية لبريئة تماما من مسئولية هذا الفناء التدريجي لنظام الرقيق القديم؛ فلم تكن المسيحية سبب فنائه؛ فقد اشتركت في ثمار الرق في الإمبراطورية الرومانية لمدة قرون، ولم تفعل فيما بعد شيئا لمنع تجارة الرقيق لدى المسيحيين سواء الألمان في الشمال أو أهل البندقية في الجنوب على البحر الأبيض. كما لم تفعل المسيحية شيئا لمنع تجارة الرقيق السود في السنوات التالية.
2
ولم تعد تجارة الرقيق مربحة ولذلك ماتت. ولكن الرق الذي انتهى ترك خلف لذعاته السامة عمل الأحرار الإنتاجي. وكان هذا هو الطريق الأعمى الذي اندفع فيه العالم الروماني؛ فقد أصبح مستحيلا من الناحية الاقتصادية، بينما كان عمل الأحرار عارا من الناحية الأدبية. أي لم يستطع عمل العبيد أن يستمر، ولم يستطع عمل الأحرار أن يصبح بعد الشكل الأساسي للإنتاج في المجتمع، ولم تكن تنفع في هذا المجال سوى ثورة كاملة.
ولم تكن الأحوال أفضل من ذلك في الأقاليم (ومعظم المعلومات التي لدينا تخص الغال)؛ فبجانب المزارعين
coloni
كان صغار الفلاحين الأحرار لا يزالون موجودين؛ ولكي يحموا أنفسهم ضد تعسف موظفي الحكومة الوحشي والقضاة المرابين كانوا كثيرا ما يضعون أنفسهم تحت حماية ذوي السلطان، ولم يكونوا يفعلون ذلك بصفة فردية فقط بل في مجموعات بأكملها. وتكرر ذلك بكثرة شديدة، لدرجة أن أباطرة القرن الرابع أصدروا أوامر بمنع هذه الأوضاع، فكيف أفادت هذه الحماية الفلاحين؟!
كان صاحب السلطان يضع للفلاحين شروط نقل ملكية أرضهم إليه، وفي مقابل ذلك يمنحهم حق استغلال هذه الأرض مدى حياتهم، وهي حيلة تذكرتها الكنيسة المقدسة وطبقتها في القرنين التاسع والعاشر في سبيل عظمة الإله وتوسيع رقعة ملكيتها. وفي ذلك الوقت حوالي سنة 475 استنكر الأسقف سلفيانوس أسقف مرسيليا بشدة هذه السرقة، وأعلن أن استبداد الرسميين الرومان وكبار ملاك الأرض أصبح غير محتمل؛ لدرجة أن كثيرا من الرومان هربوا إلى المناطق التي يقطنها المتبربرون، وأن المواطنين الرومان لم يكونوا يخالفون شيئا أكثر من وقوعهم ثانية في قبضة الحكم الروماني. وكان كثير من الآباء المساكين يبيعون أطفالهم كرقيق في ذلك الوقت، ويؤيد ذلك صدور قانون يمنع هذا البيع.
ولكي يمكن تحرير الرومان من دولتهم نفسها استولى المتبربرون الألمان على ثلثي الأرض كلها وقسموها فيما بينهم. وقد تم التقسيم طبقا للنظام القبلي القديم. ولما كان عدد الألمان المنتصرين صغيرا نسبيا فقد بقيت أراضي واسعة دون تقسيم، ودخل جزء منها في ملكية الشعب كله، وجزء آخر في ملكية القبائل والفروع.
وفي كل سلالة قسمت الأراضي والمراعي بين العائلات إلى أقسام متساوية المساحة، ولا نعلم إذا كانت إعادة التقسيم دوريا كانت تجرى في ذلك الوقت أم لا. وعلى أي حال فقد أوقف هذا التقسيم على وجه السرعة في الأقاليم الرومانية، وأصبحت هذه الأقسام ملكية خاصة مطلقة. وظلت الغابات والمراعي دون تقسيم لاستعمال الكافة، ونظمت هذا الاستعمال مع طريقة زراعة الأرض عادات قديمة مع رغبة المجتمع كله. وبقدر ما ظلت السلالات موجودة في القرى، وبقدر ما هاجر الألمان والرومان بمرور الوقت، بقدر ما تراجعت روابط الدم أمام الروابط الإقليمية.
واختفت السلالة في مجتمعات المارك التي كانت فيها آثار واضحة للقرابة الأصلية بين الأعضاء. وعلى ذلك فقد تحول النظام القبلي إلى نظام إقليمي (على الأقل في بلاد اتحادات المارك وفي شمال فرنسا وإنجلترا وألمانيا وإسكندناوة ) وأصبح لذلك صالحا للبقاء في الدولة. ومع ذلك فقد تحطم الطابع الديموقراطي الطبيعي الذي يميز النظام القبلي كله، واحتفظت الدولة بجزء من النظام القبلي في انحطاطه، وقام النظام الإقليمي على أنقاضه فيما بعد تاركا سلاحا في أيدي الخاضعين، سلاحا معدا للاستعمال في العصر الحديث.
وكان الاختفاء السريع لروابط الدم في السلالة راجعا إلى أن تنظيماتها في القبيلة وفي الشعب كله قد انحطت بدورها نتيجة الغزو. ونحن نعلم أن حكم الشعوب الخاضعة لا يتفق مع النظام القبلي، ونرى هنا هذه الحقيقة على نطاق واسع، وقد كان على الشعوب الألمانية التي أصبحت سيدة الأقاليم الرومانية أن تنظم غزواتها. ولما لم يكن ممكنا إدماج الكتل الرومانية في التنظيمات القبلية أو حكمها بمساعدة هذه التنظيمات، كان من الضروري إحلال سلطة أخرى محل السلطة الحكومية الرومانية التي استمرت موجودة أول الأمر، ولم يكن ممكنا أن تكون هذه السلطة الأخرى سوى دولة أخرى. وعلى ذلك فقد كان من الضروري تحويل أجهزة التنظيم القبلي إلى أجهزة للدولة؛ ونظرا لضغط الظروف كان من الضروري أن يتم ذلك سريعا.
وكان أول ممثل للشعب المنتصر هو القائد العسكري. وكانت السلامة الداخلية والخارجية للأراضي المفتوحة تتطلب أن تزداد سلطة القائد العسكري. ووصلت اللحظة التي تحول فيها القائد العسكري إلى ملك، وقد تم ذلك فعلا.
أما مملكة الفرانك فقد ضمت الأقاليم الفسيحة من الدولة الرومانية، كما ضمت كل الأراضي الواسعة التي لم تقسم إلى قطع
gau
صغيرة وكبيرة، ولم تنضم إلى مجتمعات المارك وخصوصا كل الغابات الواسعة، سقطت كلها في أيدي الشعب السالياني المنتصر. وكان أول شيء عمله ملك الفرانكس الذي تحول من قائد عسكري عادي إلى ملك حقيقي، كان أول شيء عمله هو تحويل أراضي الشعب إلى إقطاعية ملكية، وسرقها من الشعب، ووهبها تابعيه في صورة إقطاعيات. وقد ازداد عدد هؤلاء التابعين (الذين كانوا يتكونون في الأصل من تابعي الملك الخصوصيين وقواد الجيش) بضم رومان وغال إليهم، وأصبحوا ضروريين للملك نظرا لمعرفتهم الكتابة وتعليمهم ومعرفتهم للأقاصيص الوطنية والآداب اللاتينية وقوانين الأرض.
كما انضم للتابعين عبيد ورقيق أرض ورجال أحرار كانوا يكونون بلاط الملك، وكان يختار من بينهم خلصائه. وكانت كل الإقطاعات التي منحت لهؤلاء التابعين قطعا من الأرض العامة كانت تمنح لهم في الأصل كهدايا، ثم في شكل
benefices
وهي الأراضي التي كان ملوك الفرانك يمنحونها كمكافأة لأفراد حاشيتهم. وهكذا وضعت قواعد أرستقراطية جديدة على حساب الشعب.
ولم يكن هذا هو كل شيء؛ فإن الإمبراطورية النامية لم يكن ممكنا حكمها بوسائل الدستور القبلي القديم. فمجلس الرؤساء لم يكن ممكنا جمعه ولو لم يلغ منذ وقت طويل؛ فاستبدل على الفور بحاشية الملك الدائمة. أما الجمعية الشعبية القديمة فكانت موجودة اسميا ولكنها تحولت شيئا فشيئا إلى جمعية لقادة الجيش والنبلاء الجدد. أما ملاك الأراضي من الفلاحين الأحرار وكتلة شعب الفرانك فقد أرهقت وافتقرت؛ نتيجة الحروب الأهلية المستمرة والغزوات، خصوصا تحت حكم شرلمان، كما حدث للفلاحين الرومان خلال الفترة الأخيرة من الجمهورية. وهؤلاء الفلاحون الذين كانوا يكونون في الأصل الجيش كله وأصبحوا شعب فرنسا بعد فتح أراضيها، كانوا في أشد الفقر في بداية القرن التاسع؛ لدرجة أن واحدا من كل خمسين كان يستطيع بالكاد أن يقوم بتجهيزات الحرب.
أما الجيش السابق المكون من الفلاحين الأحرار الذين كان يجمعهم الملك مباشرة فقد استبدل بجيش مكون من تابعي النبلاء الجدد. وبين هؤلاء التابعين كان يوجد أشخاص من ذرية الفلاحين الذين لم يكونوا يعرفون فيما سبق أي سيد سوى الملك، والذين لم يكونوا يعرفون قبل الملك أي سيد على الإطلاق. وفي ظل حكم ورثة شرلمان تحطم الفلاحون الفرنسيون تحطيما تاما؛ نتيجة الحروب الداخلية، وضعف سلطة الملك، واستبداد النبلاء الذين ارتفعت مرتبتهم بإنشاء البرلمان لرتبة الكونت وجعلها وراثية، وأخيرا نتيجة الغزو النورماندي. فبعد خمسين سنة من موت شرلمان رقدت إمبراطورية الفرانك عاجزة تحت أقدام النورمانديين، كما رقدت الإمبراطورية الرومانية قبل ذلك بأربعمائة عام تحت أقدام الفرانك، وقد ظل العجز الخارجي والنظام الداخلي - أو بمعنى أصح الفوضى الداخلية - على ما هي عليه. ووجد الفلاحون الفرانك الأحرار أنفسهم في وضع مشابه لوضع أسلافهم المزارعين
Coloni
الرومان؛ فقد حطمتهم الحروب والاستغلال، وكان عليهم أن يلجئوا إلى حماية السادة الجدد أو الكنيسة؛ لأن الملك كان أضعف من أن يحميهم، وكان عليهم أن يدفعوا ثمن هذه الحماية غاليا. فمثل الفلاحين الغال من قبلهم كان عليهم نقل ملكية أرضهم إلى السادة النبلاء ثم استئجارها منهم ثانية بطرق مختلفة؛ ولكن بشرط تقديم الخدمات ودفع الجزية دائما. وبمجرد أن وصل الفلاحون إلى هذا الوضع من التبعية فقدوا تدريجيا حريتهم الشخصية، وبعد أجيال قليلة أصبح معظمهم من رقيق الأرض.
وترينا سجلات أرض
irminon
لكنيسة سان جرمان دي بري الموجودة الآن في باريس، أنه حتى في أثناء حياة شرلمان في الإقطاعات الفسيحة لهذه الكنيسة، والتي كانت تمتد في الريف المحيط، كانت هناك 2788 أسرة كلهم تقريبا من الفرانك ذوي الأسماء الألمانية، وكانت 2080 أسرة منهم من ال
coloni ، أي المشمولين بحماية الكنيسة، و35
liti ، و220 أسرة من العبيد، و8 أسرات فقط من الفلاحين الأحرار؛ فقد كانت العادة التي ينقل السيد بمقتضاها ملكية أراضي الفلاحين إليه ويعطيهم حق استغلالها مدى الحياة فقط، وهي العادة التي استنكرها سلفيانوس لمخالفتها للدين، هذه العادة كانت الكنيسة تطبقها تطبيقا عاما في علاقاتها مع الفلاحين. وعلى ذلك فقد أصبح نظام رقيق الأرض الإقطاعي مطبقا أكثر فأكثر، وقد اقتبس من نظام
angarise
الروماني، وهو نظام الخدمات الإجبارية للدولة؛ مثل الخدمات التي كان يقوم بها أعضاء اتحاد المارك الألماني في بناء الكباري وتمهيد الطرق، وغيرها من الأعمال ذات النفع العام. وعلى ذلك فقد كان يبدو أن الكتلة الشعبية قد عادت بعد أربعمائة عام إلى النقطة التي بدأت منها. وهذا يدل على شيئين فقط:
أولا:
أن توزيع الملكية في الإمبراطورية الرومانية المنتهية كان متعلقا بالمرحلة الإنتاجية التي كانت سائدة حينئذ في الزراعة والصناعة وأن هذا التوزيع كان لا يمكن تجنبه.
ثانيا:
أن هذه المرحلة الإنتاجية لم تنحط أو ترتفع إلى مرحلة أعلى في مدى الأربعمائة عام التالية لبدئها؛ ولذلك سببت بالضرورة نفس التوزيع للملكية ونفس التقسيم الطبقي للشعب. وفي خلال القرون الأخيرة للإمبراطورية الرومانية فقدت المدن تفوقها على الريف ، ولم تستعد مكانتها خلال القرون الأولى للحكم الألماني.
وهذا الوضع يفترض وجود مرحلة منحطة من الزراعة والصناعة، ومثل هذه الظروف العامة لا بد أن تؤدي إلى وجود ملاك كبار حاكمين وفلاحين صغار خاضعين. وقد أثبتت تجارب شارلمان في إقطاعاته الملكية الشاسعة التي انقرضت دون أن تترك أثرا يذكر، أثبتت هذه التجارب أنه من المستحيل أن يقوم أحد هذين النظامين في مثل المجتمع الذي كان موجودا حينئذ. فتجارب شارلمان لم يكملها إلا الرهبان ولم تكن مثمرة إلا لهم، ولكن نظام الرهبان كان نظاما اجتماعيا غير عادي مبني على العزوبة وعدم الزواج، وكان في استطاعة الرهبان أن يفعلوا الاستثناءات والشواذ؛ ولذلك ظل نظامهم استثنائيا شاذا.
ومع ذلك فقد تقدم المجتمع خلال هذه الأربعمائة عام. وحتى إذا وجدنا في نهايتها تقريبا نفس الطبقات في البداية، فإن الناس المكونين لهذه الطبقات كانوا قد تغيروا؛ فقد اختفى الرق القديم، كما اختفى الرجال الأحرار الفقراء الذين كانوا يحتقرون العمل باعتباره شيئا خاصا بالعبيد، وبين المزارعين الرومان
coloni
ورقيق الأرض الجدد كان هناك الفلاحون الفرانك الأحرار. أما الذكريات والصراعات الرومانية فقد ماتت ودفنت، وقد نشأت الطبقات الاجتماعية في القرن التاسع في مهد مدنية جديدة وليس في لحد مدنية ميتة؛ فالجنس الجديد من الناس، سواء في ذلك السادة والخدم، كان جنسا يقارن بأسلافه الرومان. وأصبحت العلاقة بين الملاك الأقوياء والفلاحين الخدم نقطة البدء لتقدم جديد بعد أن كانت شكل الفناء للعالم القديم أيام الرومان. وزيادة على ذلك فإنه وإن ظهرت هذه الأربعمائة عام جامدة؛ فقد تركت وراءها إنتاجا عظيما واحدا هو القوميات الجديدة وإعادة تنظيم وتجميع سكان غرب أوربا لدخول التاريخ.
والواقع أن الألمان أقاموا حياة جديدة في أوربا؛ وهذا هو السبب في أن تحلل الدول في العهد الألماني انتهى، لا بإخضاع النرويجيين والمسلمين، ولكن بالتطور من الملكية اللاهوتية إلى النظام الإقطاعي مع زيادة هائلة في السكان؛ لدرجة أن الفيضان الدموي الذي سببه الصليبيون لمدة قرنين من الزمان استطاعت أوربا احتماله دون صعوبة.
فماذا كانت القوة الغامضة التي نفث الألمان بها حيوية جديدة في أوربا الميتة؟ هل كانت القوة السحرية الطبيعية للجنس الألماني كما يزعم مؤرخونا الوطنيون؟! لم يكن ذلك قطعا هو السبب. صحيح أن الألمان كانوا قبيلة آرية راقية في كامل نموها وخاصة في ذلك الوقت، ولكن لم تكن مقدرتهم الوطنية الخاصة هي التي دفعت القوة في أوربا، وإنما كان الدافع ببساطة هو مرحلة البربرية التي كانوا فيها ونظامهم القبلي.
فمقدرتهم الشخصية وشجاعتهم وحبهم للحرية وغريزتهم الديمقراطية التي كانت تعتبر كل الشئون العامة شئونها الخاصة، وباختصار كل هذه المؤهلات التي فقدها الرومان، والتي كانت وحدها قادرة على تكوين «دولة جديدة ورفع قوميات جديدة من حضيض العالم الروماني»، كل هذه المؤهلات كانت الصفات المميزة للبربرية في مرحلتها العليا، وكانت ثمرة النظام القبلي.
وقد مكنتهم هذه البربرية من تحويل الشكل القديم للزواج، والتخفيف من حدة حكم الرجل في العائلة، ورفع شأن المرأة لدرجة لم يعرفها العالم القديم. كما مكنتهم من ذلك عاداتهم القبلية والميراث المتبقي منذ أيام الانتساب للأم.
وإذا كانوا قادرين على الأقل في ثلاثة من أكثر الأقطار أهمية، وهي ألمانيا وشمال فرنسا وإنجلترا، إذا كانوا قادرين في هذه البلاد أن يحملوا إلى الدولة الإقطاعية قطعة من الدستور الحقيقي في شكل مجتمعات المارك؛ فقد أعطوا بذلك للطبقة الخاضعة من الفلاحين الاتحاد الإقليمي (حتى تحت أسوأ ظروف نظام رقيق الأرض الإقطاعي) ووسائل المقاومة التي لم تتوفر لعبيد النظم القديمة أو عمال العصر الحديث. وتعود قدرة الألمان هذه إلى مرحلة البربرية التي كانوا فيها وطريقتهم البربرية في الاستقرار في فروع.
وأخيرا فقد استطاع الألمان تنمية وتعميم الشكل المخفف لنظام رقيق الأرض الذي كانوا يمارسونه في بلادهم، والذي عمل تدريجيا على إلغاء الرق في الإمبراطورية الرومانية. وكان هذا الشكل - كما يقول فوريير - يعطي للمستعبدين وسائل التحرر التدريجي كهبة؛ وهو لذلك نظام أرقى بكثير من الرق، كما يسمح بتحرير الأفراد دون أي مرحلة انتقالية (لم يعرف التاريخ القديم أي إلغاء للرق نتيجة ثورة ناجحة )، وقد حصل رقيق الأرض في العصور الوسطى على تحريرهم كطبة لدى الألمان، ويرجع الفضل في ذلك - كما سبق - إلى بربريتهم التي يرجع الفضل إليها في أنهم لم يصلوا إلى الاسترقاق الكامل، سواء في شكل العمل العبيدي القديم أو عبيد المنازل في الشرق.
وعلى ذلك فكل الحيوية التي جلبها الألمان للعالم الروماني تعود للبربرية؛ فالبربريون هم وحدهم القادرون على بعث الحياة في حضارة ميتة، وقد كانت المرحلة العليا للبربرية التي شق الألمان طريقهم إليها وخلالها قبل هجرة الشعوب أحسن مثل ذلك. ولعل في ذلك تفسيرا لكل شيء.
الفصل التاسع
البربرية والمدنية
تتبعنا فيما سبق انحلال النظام القبلي في الأمثلة التفصيلية الكبرى الثلاث: الإغريق والرومان والألمان.
وسنبحث في النهاية الظروف الاقتصادية العامة التي حطت من شأن النظام القبلي للمجتمع في المرحلة العليا للبربرية وألغته تماما بقدوم المدنية، وفي هذا البحث سيكون كتاب «رأس المال» لماركس مهما بقدر أهمية كتاب مورجان.
فعندما خرجت السلالة من المرحلة الوسطى للوحشية ودخلت مرحلتها العليا، كانت السلالة في قمة مجدها، ونؤكد ذلك بقدر ما لدينا من معلومات عن المرحلة الدنيا للبربرية، ومن هذه المرحلة سنبدأ بحثنا.
ففي هذه المرحلة التي يعتبر الهنود الأمريكيون مثلا لها نجد النظام القبلي في قمة ازدهاره؛ فكل قبيلة كانت منقسمة إلى عدد من الفروع، يبلغ في معظم الحالات فرعين، وبازدياد عدد السكان انقسمت هذه الفروع الأصلية بدورها إلى عدة فروع. وكان الفرع الأصلي يعتبر أخوة بالنسبة لهذه الفروع الجديدة. وانقسمت القبيلة بدورها إلى عدة قبائل نجد في كل منها في معظم الحالات الفروع القديمة، وفي بعض الحالات نجد اتحادا للقبائل يضم القبائل المرتبطة برابطة القرابة. وكان هذا التنظيم البسيط كافيا تماما للظروف الاجتماعية التي نشأ منها، فلم يكن أكثر من تجمع طبيعي قادر على حل كل المشاكل الداخلية المحتملة الوقوع في مجتمع منظم بهذا الشكل. وفيما يتعلق بالمشاكل الخارجية، فقد كانت تسوى بالحرب التي كانت تنتهي بإفناء إحدى القبائل وليس بإخضاعها. وكان علو النظام القبلي وانخفاضه في نفس الوقت راجعا إلى أنه لم يوجد مكان لحكام ومحكومين. ففي نطاق الشئون الداخلية لم يكن قد وجد بعد أي تمييز بين الحقوق والواجبات، ومسألة ما إذا كانت المساهمة في الشئون العامة أو الانتقام للدم ونحوها تعتبر واجبا أو حقا، هذه المسألة لم تكن تشغل تفكير الهندي، وكانت تبدو له مثل الأكل والنوم والصيد، لا يهم أن كانت حقا أو واجبا. ولم يكن ممكنا أن تنقسم القبيلة والسلالة إلى طبقات اجتماعية. وهذا يقودنا إلى البحث عن الأسس الاقتصادية لهذه الظروف.
كان عدد الشعب قليلا جدا ومبعثرا في إقليم كبير، ولم يكن مركزا إلا في موطن القبيلة تحيط به أرض الصيد الواسعة الخاصة بها، وبعدها غابة تعتبر إقليما محايدا يفصل القبيلة عن القبائل الأخرى. وكان تقسيم العمل بطريقة طبيعية مبسطة جدا؛ فقد كان تقسيما للعمل بين الرجل والمرأة فقط، فكان الرجال يذهبون للحرب والصيد والحصول على المواد الأولية للطعام والأدوات الضرورية لتحقيق هذا الغرض، وكانت النساء تتولى العناية بالبيت وإعداد الطعام والملابس والطهي والغسل والحياكة. وكان كل من الجنسين سيدا في مجال نشاطه، الرجل في الغابة، والمرأة في البيت. وكان كل منهما يملك ما ينتجه أو يستخدمه من الأدوات؛ فكان الرجال يملكون الأسلحة وأدوات الصيد، وتملك النساء أثاث البيت. وكانت الوحدة المنزلية مشاعية تشمل عدة أسر،
1
وكان كل شيء ينتج يستعمله الجميع ويعتبر ملكا للجميع مثل المنزل والحديقة وقارب الصيد. وهنا فقط نجد الملكية المكتسبة التي قدمها الفقهاء والاقتصاديون زائفة إلى المجتمع المتمدن باعتبارها آخر تعبير قانوني ترتكز عليه الملكية الرأسمالية الحديثة.
ولكن الإنسان لم يظل في هذه المرحلة في كل بقاع الأرض؛ ففي آسيا وجد حيوانات يمكن استئناسها وجمعها تحت سيطرته، وكان يصطاد البقر الوحشي، وكان البقر المستأنس ينتج له عجلا مرة كل سنة ويدر له اللبن أيضا. وقد قامت باستئناس الحيوانات عدد من أكثر القبائل تقدما وهم الآريون والساميون وربما التورانيون أيضا. وبعد ذلك تكونت القطعان من الماشية التي أصبحت العمل الأساسي لهذه القبائل. وقد انشقت قبائل الرعاة من المجموعة العامة للبربريين، وكان هذا هو أول تقسيم اجتماعي كبير للعمل. وكانت هذه القبائل الرعاة تنتج مواد غذائية وأنواعا أكثر عن باقي المتبربرين؛ فقد كان عندها اللبن ومنتجاته واللحوم بكميات وفيرة عن الآخرين، كما كان لديها الجلود والصوف وشعر الماعز، والغزل والنسج اللذان حولا المواد الخام المتزايدة إلى الاستعمال العام. وقد سبب ذلك للمرة الأولى التبادل المنتظم؛ ففي المراحل السابقة كانت عمليات التبادل تتم بصفة غير دورية، وربما كانت المقدرة الشخصية الاستثنائية في صنع الأسلحة والأدوات سببا في إيجاد تقسيم سريع للعمل. وقد وجدت مخلفات لا يمكن إنكارها لمصانع الأدوات الحجرية من الزمن النيوليثك في أمكنة كثيرة. وكان الصناع الذين نمت مقدرتهم في هذه المصانع يعملون للمجموعة كلها في الغالب كما يفعل الحرفيون الدائمون إلى الآن في المجتمعات القبلية الهندية. وعلى أي حال فلم يكن ممكنا إيجاد أي نوع آخر من التبادل في القبيلة في هذه المرحلة، وحتى هذا النوع كان استثناء. وبعد تبلور قبائل الرعاة وجدت كل الظروف التي تمكن من وجود عمليات التبادل بين مختلف القبائل وتنميتها وتحولها إلى نظام عادي، وقد كانت القبائل في الأصل تجري عمليات التبادل عن طريق رؤسائها. وعندما بدأت القطعان الحيوانية تتحول إلى الملكية الخاصة ازداد التبادل بين الأفراد تدريجيا حتى أصبح الشكل الوحيد للتبادل. وكانت المادة الرئيسية التي تقدمها قبائل الرعاة لجيرانها هي الماشية؛ فقد أصبحت الماشية هي السلعة التي كانت كل السلع الأخرى تثمن بها، وكانت تقبل في كل مكان في مقابل السلع الأخرى. وباختصار كانت الماشية تقوم مقام النقود في هذه المرحلة، وكانت هذه هي الضرورة التي تزايد بسببها طلب وجود سلعة نقدية في بداية تبادل السلع.
أما زراعة الحدائق، التي يحتمل أنها لم تكن معروفة لدى الآسيويين في المرحلة الدنيا للبربرية، فقد ظهرت عندهم على الأكثر في المرحلة الوسطى كخطوة تالية لزراعة الحقول. فإن مناخ أراضي التورانيين العليا لا يسمح بحياة الرعي دون مدد إضافي من الطعام للشتاء الطويل القاسي؛ وعلى ذلك قد أصبحت زراعة القمح والحشائش ضرورية. ونفس الشيء ينطبق على منطقة الاستبس شمال البحر الأسود. أما القمح الذي كان فيما مضى طعاما للحيوان فقد أصبح طعاما للإنسان. وظلت الأرض المنزرعة مملوكة للقبيلة، وكانت أول أمرها مملوكة للسلالة التي وزعتها فيما بعد إلى الوحدات العائلية لاستعمالها، وأخيرا منحت للأفراد حقوق الحيازة ليس إلا.
أما النجاح الصناعي في هذه المرحلة فأهم مظاهره اثنان، هما: آلات الغزل (النول)، واستخراج المعادن وأهمها القصدير والبرونز والنحاس. وكانت الأدوات والأسلحة تصنع من البرونز ولكنه لم يستطع الحلول محل الأدوات الحجرية كلية، وكان الحديد وحده هو الذي يستطيع ذلك ولكنه لم يكن قد استخرج بعد. وبدأ استعمال الذهب والفضة في الحلي، ولا بد أنهما كانا أعلى قيمة لديهم من البرونز والنحاس.
وقد مكنت الزيادة في كل فروع الإنتاج، في تربية الماشية والزراعة والحرف المنزلية، مكنت هذه الزيادة قوة العمل الإنساني من إنتاج أكثر مما يحتاجه الإنسان، وزادت في الوقت نفسه كمية العمل اللازمة لكل عضو من أعضاء الأسرة أو الوحدة العائلية أو السلالة، وأصبحت إضافة عمل جديد أمرا مرغوبا فيه، وكانت هذه الإضافة ممكنة عن طريق الحروب وتحويل الأسرى إلى عبيد. وفي ظل الظروف التاريخية القائمة، ثم التقسيم الكبير الأول للعمل، وبزيادة القوة الإنتاجية للعمل، أي الثروة، وتوسيع نطاق الإنتاج، كل ذلك حمل معه الرق. ومن التقسيم الاجتماعي الكبير الأول للعمل نشأ التقسيم الكبير الأول للمجتمع إلى طبقتين: سادة وعبيد، مستغلين ومستغلين.
ولا نعلم إلى اليوم كيف ومتى تحولت الملكية الجماعية للقبيلة أو السلالة في القطعان إلى الملكية الفردية لأفراد العائلة، ولكن لا بد أن ذلك قد حدث بصفة رئيسية في هذه المرحلة. فالماشية وموضوعات الثروة الأخرى سببت ثورة في العائلة؛ فكسب العيش كان دائما عمل الرجل ولذلك كان ينتج ويملك وسائل الإنتاج، وكانت الماشية هي الوسيلة الجديدة لكسب العيش، وكان استئناسها وتربيتها في الأصل عمل الرجل؛ وعلى ذلك فقد كان الرجل يملك القطيع والسلع والعبيد التي كانت الماشية تبادل بها. وكان كل الفائض من الإنتاج من نصيب الرجل، وكانت المرأة تشارك الرجل في استهلاك هذه الأشياء دون أن تشاركه في ملكيتها.
لقد كان الصياد والمحارب في عصر الوحشية قانعا بأن يشغل المكان الثاني في بيته ويترك الرئاسة للمرأة. أما الراعي المسالم فقد اعتمد على ثروته للوصول إلى المكان الأول في البيت ودفع بالمرأة إلى المكان الثاني، ولم تستطع المرأة الاعتراض. ونظم تقسيم العمل في المنزل توزيع الملكية بين الرجل والمرأة.
وظل هذا التقسيم دون تغير ومع ذلك فقد قلب العلاقة المنزلية السابقة رأسا على عقب؛ لأن تقسيم العمل خارج العائلة كان قد تغير. فالسبب الذي جعل المرأة فيما سبق سيدة المنزل، وهو كونها مسئولة عن العمل المنزلي، أكد الآن سيادة الرجل، وفقد عمل المرأة المنزلي قيمته بمقارنته بعمل الرجل في سبيل كسب العيش؛ فقد كان كسب العيش هو كل شيء وأصبح عمل المرأة مساهمة تافهة. وهنا نرى أن تحرر النساء ومساواتهن بالرجال تصبح مستحيلة، وتظل كذلك طالما بقيت النساء مبعدة عن العمل الاجتماعي المنتج ومختصة بالعمل المنزلي فقط وهو شيء خاص. ولا يصبح تحرير المرأة ممكنا إلا عندما تتمكن المرأة من المساهمة في الإنتاج على نطاق واسع، وعندما يصبح العمل المنزلي شيئا ثانويا بالنسبة لها. وقد أصبح هذا ممكنا نتيجة الصناعة الحديثة الواسعة النطاق التي أصبحت مساهمة المرأة فيها ضرورية، وزيادة على ذلك فقد جعلت المرأة تكافح من أجل تحويل العمل المنزلي الخاص إلى وظيفة عامة.
وقد حطم حصول الرجل على السلطة في المنزل العائق الأخير أمام استبداده، وتأكد هذا الاستبداد واستمر بالقضاء على الانتساب للأم وتطبيق الانتساب للأب والتحول التدريجي من العائلة المكونة من فردين إلى الزواج الحديث، وقد كان ذلك ضربة للنظام القبلي؛ فقد أصبحت العائلة الزوجية الحديثة قوة وأصبحت تهديدا للسلالة.
والخطوة الثانية تقودنا إلى المرحلة العليا للبربرية، وهي الفترة التي مرت خلالها كل الشعوب المتمدنة أثناء عصورها البطولية؛ فهي فترة السيف الحديدي والمحراث والفأس الحديديين.
وأصبح الحديد خادم الإنسان، وكان الحديد آخر وأهم كل المواد الخام التي لعبت دورا ثوريا في التاريخ، وهو آخر هذه المواد ظهورا؛ فقد جعل الحديد زراعة الحقول ممكنة على نطاق واسع، كما مكن من قطع أشجار الغابات الممتدة وتهيئتها للزراعة، وقدم الحديد للحرفيين آلة من القوة والحدة لدرجة لا ينافسها أي حجر أو معدن آخر. وقد تم كل هذا تدريجيا؛ فأول حديد أنتج كان غالبا أقل صلابة من البرونز، واختفت الأسلحة الحجرية تدريجيا، وكانت الفئوس الحجرية لا تزال تستعمل في القتال، كما جاء بأغنية هيلدبراند، وكما حدث في معركة هاستنجر سنة 1066، وكان التقدم لا يمكن مقاومته. وفي المدن كانت تبنى المنازل من الحجارة أو الطوب داخل حوائط المدن الحجرية ذات الأبراج والشرفات، وأصبحت مثل هذه المدن المقر المركزي للقبيلة أو اتحاد القبائل، وكانت سببا في تقدم فن البناء، كما كانت دليلا على الخطر المتزايد والحاجة للحماية. وازدادت الثروة سريعا ولكنها كانت مملوكة للأفراد، كما ازداد التخصص في صناعة المعادن والحرف الأخرى وتطور الفن الصناعي. وكانت الزراعة تمدهم بالحبوب والخضروات والفواكه، كما كانوا يصنعون الزيت والنبيذ. ومثل هذا النشاط المتعدد لم يكن ممكنا أن يقوم به فرد واحد، وهنا تم التقسيم الثاني الكبير للعمل؛ فقد انفصلت الحرف عن الزراعة. رفعت الزيادة المستمرة في الإنتاج والنشاط المتزايد في العمل، رفعا من قيمة العمل الإنساني، وأصبح الرق في هذه المرحلة جزءا هاما من النظام الاجتماعي بعد أن كان مبتدئا متفرقا في المرحلة السابقة، وأصبح العبيد يدفعون في جماعات إلى العمل في الحقول والمصانع. وقد ترتب على تقسيم العمل إلى فرعين كبيرين: الزراعة والحرف اليدوية، ترتب على ذلك قيام الإنتاج من أجل التبادل، كما ظهر إنتاج السلع، وجاءت التجارة معهما ولم تقتصر على حدود القبيلة بل انتقلت عبر البحار. وكل ذلك لم يكن قد اكتمل نموه بعد. وكانت المعادن الثمينة تفضل في استعمالها كسلعة نقدية عالمية؛ إذ لم يكن سك النقود من المعادن الثمينة قد عرف بعد، وكانت هذه المعادن تقدر عند المبادلة بوزنها فقط. وأضيف التفريق بين الغني والفقير إلى التفريق بين الحر والعبد، ومع التقسيم الجديد للعمل جاء التقسيم الجديد للمجتمع إلى طبقات.
وقد كان الاختلاف في الثروة بين العائلات المختلفة سببا في تحطيم مجتمعات الوحدات العائلية المشاعية القديمة في كل مكان كانت هذه المجتمعات لا تزال قائمة فيه، وهكذا وضع حد للزراعة الجماعية للأرض لحساب المجتمع كله. وكانت الأرض المنزرعة تخصص لاستعمال عدة عائلات لمدة محدودة أول الأمر ثم باستمرار بعد ذلك. وتم الانتقال إلى الملكية الخاصة الكاملة بالتدريج وجنبا إلى جنب مع الانتقال من العائلة المكونة من فردين إلى الزواج الحديث، وبدأت العائلة تصبح الوحدة الاقتصادية للمجتمع.
وحتمت الكثافة المستمرة في السكان وجود اتحاد أقوى بينهم في الداخل والخارج، وأصبح اتحاد القبائل المرتبطة برابطة القرابة ضرورة في كل مكان، وبعد ذلك فورا تم امتزاج هذه القبائل ثم امتزاج الأقاليم القبلية المتفرقة في إقليم واحد يكون قطرا لشعب معين. وأصبح القائد العسكري للشعب (
Rex
أو
bacileus
أو
thiudans ) موظفا رسميا دائما وضروريا. وكانت الجمعية الشعبية تنشأ في كل مكان لم توجد فيه بعد. وكان القائد العسكري والجمعية الشعبية والمجلس يكونون الديموقراطية العسكرية التي تطور إليها المجتمع القبلي، وقد كانت ديموقراطية عسكرية لأن الحرب والاستعداد لها كانا من الأعمال المنتظمة في حياة الشعب. وكانت ثروات الشعوب المجاورة تجتذب اهتمام الشعوب الأخرى التي بدأت تنظر إلى الحصول على الثروة على أساس أنه أحد الأغراض الأساسية في الحياة. وكانت هذه الشعوب بربرية، وكان السلب يبدو لهم أسهل وأشرف من العمل المنتج، أما الحرب التي كانت من قبل تقوم من أجل الانتقام أو توسيع الإقليم الذي يصبح غير كاف لسكانه، فقد أصبحت تقوم الآن من أجل السلب وحده، وأصبحت حرفة دائمة. ولم تكن إقامة الأسوار المتينة حول المدن المحصنة الجديدة دون سبب، وقد كانت خنادقها المحصنة مقبرة النظام القبلي ووصلت أبراجها إلى المدنية.
وعانت الشئون الداخلية تغييرا مماثلا؛ فقد زادت حروب السلب من قوة القائد العسكري الأعلى والقواد الأدنى مرتبة. وتحول الانتخاب الذي جرت عليه العادة للمنحدرين من أسرة واحدة خاصة بعد الانتساب للأب، تحول تدريجيا إلى خلافة وراثية في المناصب، وكانت هذه الوراثة مسموحا بها أول الأمر ثم مدعى بها ثم مغتصبة.
وتم تأسيس الملكية الوراثية والأرستقراطية الوراثية. وبهذه الطريقة انتزعت أجهزة النظام القبلي تدريجيا من جذورها في الشعب والسلالة والأخوة والقبيلة، وتحول التنظيم القبلي كله إلى عكسه، تحول من تنظيم للقبائل لإدارة شئونها في حرية إلى تنظيم لسلب واستعباد الشعوب المجاورة، وتحولت طبقا لذلك أجهزة التنظيم القبلي من أدوات تحت مشيئة الشعب إلى أجهزة مستقلة لحكم الشعب والاستبداد به. ولم يكن ذلك بمستطاع الحدوث إذا لم يقسم الاختلاف في الثروة أعضاء القبائل إلى غني وفقير، وإذا لم تغير الاختلافات في الثروة في السلالة، إذا تغير المجتمع الموحد المصالح إلى الصراع بين أعضاء السلالة الواحدة. وإذ لم يكن نمو الرق قد بدأ فعلا ووصم العمل من أجل العيش بالحقارة على أنه عمل من أعمال العبيد أشد مهانة من الاشتراك في السرقة. •••
وهذا يؤدي بنا إلى مدخل المدينة. وتبدأ هذه المرحلة بتقدم أكثر في تقسيم العمل. ففي المرحلة الدنيا كان الرجال ينتجون لإشباع حاجاتهم المباشرة فقط، وكان التبادل محصورا في حالات متفرقة عندما يتصادف وجود فائض في الإنتاج. وفي المرحلة الوسطى للبربرية نجد أن الشعوب التي تعيش على الرعي كان لها في قطعانها نوعا من الملكية ينتج عنه بانتظام - نظرا لوفرة الماشية - فائض من الإنتاج يزيد عن حاجتهم، كما نجد تقسيما للعمل بين شعوب الرعاة والقبائل المتأخرة التي لا تملك ماشية. وعلى ذلك فقد كانت هناك مرحلتان للإنتاج توجدان جنبا إلى جنب؛ مما خلق الظروف المناسبة للتبادل المنتظم، وقدمت المرحلة العليا للبربرية تقسيما أكثر للعمل بين الزراعة والحرف اليدوية تسبب فيه إنتاج نسبة مستمرة الزيادة من البضائع للمبادلة خاصة، بحيث وصلت المبادلة بين الأفراد المنتجين إلى نقطة أصبحت عندها المبادلة ضرورة حيوية للمجتمع.
وقد قوت المدينة وزادت من كل التقسيمات القائمة للعمل، خصوصا بتقويتها للتعارض بين المدن والريف (فإما أن تكون للمدينة السيادة الاقتصادية على الريف كما في العصور القديمة، وإما العكس كما في العصور الوسطى). كما أضافت المدنية تقسيما ثالثا للعمل غريبا على نفسه وذا أهمية حاسمة؛ فقد خلقت طبقة لا تشترك في الإنتاج ولكن تشترك إلى أقصى حد في تبادل المنتجات، هي طبقة التجار . فكل التقسيمات الأصلية السابقة للطبقات كانت مرتبطة تماما بالإنتاج؛ فقد كانت تقسيما لهؤلاء المشتركين في الإنتاج إلى مديرين وعاملين أو إلى منتجين على نطاق واسع (الأغنياء) ومنتجين على نطاق ضيق (الفقراء). ولكن نجد هنا أن طبقة ظهرت لأول مرة وهي تستحوذ على الإنتاج ككل وتسيطر اقتصاديا على المنتجين وتخضعهم لحكمها دون أن تشترك بأي نصيب في الإنتاج، وقد كانت طبقة تجعل من نفسها وسيطا حتميا بين طبقتين من المنتجين وتستغل كليهما. وباسم حماية المنتجين من متاعب ومخاطر المبادلة، وباسم إيجاد أسواق بعيدة لمنتجاتهم، تصبح هذه الطبقة الجديدة (التجار) أهم طبقة نافعة في المجتمع، وهي طبقة طفيلية ومنافقة اجتماعية خالصة، تأخذ نظير خدمة غير جوهرية الزبد من الإنتاج في الوطن وفي الخارج، وتستحوذ بسرعة على ثروات ضخمة؛ وبالتالي على نفوذ اجتماعي؛ ولهذا السبب تطمع في مزيد مستمر من المناصب، وتكسب رقابة متزايدة على الإنتاج خلال فترة المدنية إلى أن تخلق شيئا من إنتاجها الخالص تقدمه إلى المجتمع هو الأزمات الاقتصادية الدورية.
وفي مرحلة النمو التي ندرسها هذه، لم تكن طبقة التجار الفتية تعرف بعد الأشياء الضخمة التي كانت مختزنة من أجلها، ولكنها ظهرت كطبقة وجعلت نفسها ضرورية وكان هذا يكفيها.
ومع ظهور هذه الطبقة دخلت النقود المعدنية والعملة المسكوكة في دائرة التعامل؛ وبسبب ذلك ظهرت وسائل جديدة يستطيع غير المنتج بها أن يتحكم في غير المنتجين وإنتاجهم. فسلعة السلع (أي النقود) التي تختفي في طياتها كل السلع كانت قد اكتشفت، وكانت الإغراء الذي يستطيع أن يحول نفسه بإرادته إلى أي شيء مرغوب فيه. وأيا كان مالك هذه النقود فهو يستطيع أن يحكم عالم الإنتاج، ومن الذي كان يملكها أكثر من الجميع؟ التاجر، ففي يديه كانت هيبة النقود في مأمن؛ فقد أوضح للجميع أن كل السلع - وبالتالي كل منتجي السلع - يجب أن تركع أمام النقود. وأثبت التاجر في الحياة العملية أن كل أشكال الثروة الأخرى عبارة عن صور إذا ما قورنت بهذا الأصل المجسم للثروة. ولم تظهر قوة النقود نفسها بعد ذلك بمثل هذه الحالة البدائية والعنف كما فعلت في هذه الفترة من شبابها.
وبعد بيع السلع من أجل النقود جاء اقتراض النقود بالربا، ولم يلق أي تشريع ظهر في فترة لاحقة بالمدين تحت أقدام المرابي الدائن دون شفقة أو رحمة كما فعل تشريع أثينا وروما القديم؛ فكلا التشريعين جعلا الضغط الاقتصادي قانونا تلقائيا.
وبجانب الثروة في السلع والعبيد، الثروة النقدية، ظهرت الثروة في الشكل العقاري؛ فحقوق الأفراد في قطع الأرض التي منحتها لهم في الأصل السلالة أو القبيلة أصبحت سائدة، لدرجة أن هذه الأراضي أصبحت ملكية متوارثة للأفراد. وكان أكثر شيء صارع الأفراد في سبيله إلى ما قبل هذه الفترة هو تحررهم من ادعاء المجتمع القبلي الحق في أراضيهم، وكان هذا الادعاء قيدا عليهم، وقد تحرر الأفراد من هذا القيد؛ ولكنهم تحرروا بعد ذلك فورا من ملكيتهم العقارية الجديدة نفسها. وقد تضمنت الحرية الكاملة في الملكية العقارية إمكانية الملكية غير المحدودة وإمكانية نقل هذه الملكية؛ فطالما كانت الأرض مملوكة للسلالة لم يكن ممكنا نقل ملكيتها. ولكن عندما حطم الملاك الجدد قيود الحق الأعظم للسلالة والقبيلة مزقوا أيضا الروابط التي ربطته وقتا طويلا بالأرض.
أما الامتداد التجاري في النقود والربا والملكية العقارية والرهن فكانت مصحوبة بالتركيز السريع للثروة في أيدي طبقة صغيرة. ومن ناحية أخرى كان الافتقار المتزايد للكتل الشعبية وظهرت كتلة كبيرة من الفقراء. ودفعت أرستقراطية الثروة الجديدة بالجماهير إلى الحضيض دائما (انظر أثينا وروما وألمانيا) بشكل أقسى كثيرا مما فعلته الأرستقراطية القبلية القديمة. وكان تقسيم الرجال الأحرار إلى طبقات طبقا لثروتهم مصحوبا (خاصة لدى الإغريق) بزيادة ضخمة في عدد العبيد.
2
وكان عمل العبيد الإجباري هو الأساس الذي يقوم عليه الصرح الكامل للمجتمع.
ولنر الآن ما انتهى إليه النظام القبلي نتيجة هذه الثورة الاجتماعية؛ فقد وقف النظام القبلي عاجزا في وجه العناصر الجديدة التي نمت دون مساعدته، وكان معتمدا على اضطرار أعضاء السلالة أو القبيلة أن يعيشوا معا في إقليم واحد ويكونوا قاطنيه الوحيدين، وقد بقي ذلك مدة طويلة. وقد امتزجت الفروع والقبائل في كل مكان، وأصبح العبيد والتابعون والأجانب يعيشون مع المواطنين.
وكان يزعج الدولة التي لم تكن مطلوبة إلا حوالي نهاية المرحلة الوسطى للبربرية، كان يزعجها التنقل، وتغير المقر الذي كانت التجارة وتغير حيازة الأرض مشروطين به. ولم يعد في استطاعة أعضاء التنظيم القبلي الاجتماع لبحث أمورهم العامة إلا في حالات قليلة الأهمية مثل الاحتفالات الدينية التي كانت لا تزال تراعى دون اكتراث. فبجانب المصالح التي قامت أجهزة التنظيم القبلي للعناية بها، ظهرت مصالح جديدة في مجال كسب العيش والتغير الذي ترتب على ذلك في البناء الاجتماعي، وقد كانت هذه المصالح الجديدة غريبة على النظام القبلي ومعارضة له في كل اتجاه. فمصالح مجموعات الحرفيين التي خلقها تقسيم العمل، والحاجات الخاصة للمدن، كانت تتطلب أجرة جديدة؛ ولما كانت المجموعات الاجتماعية الجديدة تتكون من أناس من مختلف الفروع والأخوات والقبائل وتشمل حتى الأجانب، فقد كان على الأجهزة الجديدة أن تتشكل خارج النظام القبلي، وكان ذلك يعني أن تكون ضد هذا النظام. ومرة ثانية نقول إنه في كل تنظيم قبلي أصبح تعارض المصالح محسوسا، ووصل إلى قمته بكون الأغنياء والفقراء والمرابين والمدينين مندمجين في نفس الفرع والقبيلة. كما كانت هناك كتلة المقيمين الجدد الأجانب عن الاتحادات القبلية والذين استطاعوا (كما في روما) أن يصبحوا قوة، وكان عددهم من الكثرة بحيث لا يمكن للفروع والقبائل المرتبطة برباط الدم أن تبتلعهم بالتدريج. وواجهت الاتحادات القبلية هذه الكتل كمجموعات ذات مزايا قوية. وتحولت الديموقراطية الأصلية الطبيعية النمو إلى أرستقراطية مكروهة.
وأخيرا فقد نشأ النظام القبلي ونما في مجتمع لم يعرف الصراع الداخلي؛ ولذلك لم يكن هذا النظام صالحا إلا لمثل هذا المجتمع، ولم تكن لهذا النظام أي قوة إلزامية سوى الرأي العام.
ولكن جاء الآن مجتمع جديد كان عليه أن يفرق بين الأحرار والعبيد وبين الأغنياء والفقراء؛ نظرا لقوة الظروف الاقتصادية التي أوجدته، وكان مجتمعا عاجزا عن التوفيق بين المصالح المتعارضة بل كان عليه أن يزيد من حدة هذا التعارض. ومثل هذا المجتمع لم يكن ممكنا وجوده إلا في حالة صراع علني مستمر بين هذه الطبقات، أو تحت حكم قوة ثالثة وهي القوة التي كانت تقف في الظاهر فوق الطبقات المتصارعة بينما كانت تضغط الصراع العلني بين الطبقات، ولا تسمع بالصراع الطبقي إلا في الميدان الاقتصادي على أكثر تقدير وبشكل يسمى شروعي. إذن فقد استنفد النظام القبلي أغراضه، وتحطم عن طريق تقسيم العمل ونتيجته الحتمية وهي تقسيم المجتمع إلى طبقات، وحلت الدولة محل النظام القبلي. •••
بحثنا فيما سبق كلا من الأشكال الرئيسية الثلاثة التي نمت فيها الدولة على حطام النظام القبلي. وكانت أثينا تمثل أكثر الأشكال كلاسيكية؛ فقد خرجت الدولة فيها مباشرة وبصفة أساسية من الصراع الطبقي الذي نما في المجتمع القبلي، وفي روما أصبح المجتمع القبلي أرستقراطية كاملة يقف خارجها عدد كبير من الأفراد المحرومين من الحقوق، وكل ما عليهم هو الواجبات. وقد حطم انتصار هذه الطبقة الدنيا في روما المجتمع القبلي القديم، وأقام على أنقاضه الدولة التي ابتلعت كلا من الأرستقراطية القبلية والطبقة الدنيا على السواء. وأخيرا فقد قامت الدولة عند الألمان الذين هزموا الإمبراطورية الرومانية، قامت كنتيجة مباشرة لفتح أراضي أجنبية واسعة لم تكن لدى النظام القبلي وسائل حكمها، وحيث إن هذا الفتح لم يحتم وجود صراع خطير مع الشعب القديم أو تقسيم أكثر تقدما للعمل، وحيث إن المنتصرين والمنهزمين كانوا تقريبا في نفس المرحلة من التطور الاقتصادي فبقيت الأسس الاقتصادية كما كانت من قبل؛ لذلك استطاع النظام القبلي أن يظل قائما مدة قرون عديدة بشكل إقليمي مختلف، في شكل اتحاد المارك، كما استطاع أن يجدد شبابه لمدة من الزمن بشكل أضعف في العائلات الأرستقراطية المنتسبة للأب التي جاءت بعد ذلك وحتى في عائلات الفلاحين كما في دثمارشن.
3
وعلى ذلك فالدولة ليست بأي حال قوة مفروضة على المجتمع من لا شيء، أو كما يقول هيجل خطأ إنها «تحقيق لفكرة أدبية» أو «صورة وحقيقة العقل». فالدولة شيء أنتجه المجتمع في مرحلة معينة من نموه ، والدولة هي الاعتراف بأن المجتمع قد أصبح مصابا بتعارض لا حل له مع نفسه، وأنه أصبح غارقا في صراع لا تخف حدته، عجز عن إزالته. ولكي لا تدفع هذه الخلافات والطبقات المتصارعة بنفسها وبالمجتمع إلى صراع قاتل، أصبح ضروريا وجود قوة تقف في الظاهر فوق المجتمع لتخفيف النزاع وحصره داخل دائرة القانون، وهذه القوة التي قامت من المجتمع ووضعت نفسها فوقه وزادت من استقلالها عنه هي الدولة.
وبعكس التنظيم القبلي القديم على طول الخط، فإن الدولة تقسم وظائفها طبقا للإقليم. وكما سبق ورأينا فقد أصبحت الاتحادات القبلية القديمة المبنية على روابط الدم، أصبحت غير صالحة؛ خاصة لأنها تقوم على أساس ارتباط أعضائها بإقليم معين، وهو رباط ظل قائما لوقت طويل.
وقد ظل الإقليم على ما هو عليه ولكن ساكنيه أصبحوا كثيري التنقل؛ وعلى ذلك فقد اتخذ التقسيم طبقا للإقليم كنقطة البدء. وكان من حق المواطنين ممارسة حقوقهم وواجباتهم العامة أينما استقروا، بصرف النظر عن السلالة أو القبيلة. ويعتبر تنظيم المواطنين طبقا للإقليم صورة معروفة لكل الدول، وهذا هو السبب في أنه يبدو طبيعيا لنا، ولكننا قد رأينا كيف احتاج تغير هذا النظام إلى صراع طويل مرير في أثينا وروما.
وثاني شيء في الدولة هو إنشاء قوة عامة لم تعد تلازم الشعب الذي كان ينظم نفسه كقوة مسلحة.
وكانت هذه القوة العامة ضرورية لأن استمرار قيام الشعب بتنظيم نفسه كقوة مسلحة أصبح مستحيلا منذ انقسام المجتمع إلى طبقات؛ فقد كان العبيد أيضا ينتمون إلى السكان، وكان التسعون ألف مواطن أثيني يكونون طبقة ممتازة ضد الثلاثمائة وخمسة وستين ألف عبد. وقد كان جيش الشعب في الديموقراطية الأثينية عبارة عن قوة أرستقراطية عامة موجهة ضد العبيد لإبقائهم تحت سلطتها، وقد كان وجود الجيش ضروريا على أي حال ليبقى المواطنون أنفسهم تحت سلطة الدولة كما ذكرنا قبلا. وتوجد هذه القوة العامة في كل دولة، وتتكون من جنود مسلحين ووسائل مساعدة مادية كالسجون والإدارات الحكومية من كل نوع، وهو ما لم يعرفه المجتمع القبلي. وهذه الوسائل تكون غير ذات معنى في المجتمعات التي لم يتطور فيها الصراع الطبقي، كما كان الحال لدى الهنود الحمر. ويزداد نمو هذه الوسائل كلما ازداد الصراع الطبقي في الدولة، وكلما اتسعت الدول الناشئة وزاد عدد سكانها. وما علينا إلا أن ننظر إلى أوربا في يومنا الحالي
4
حيث كان الصراع الطبقي والمنافسة على الاستعمار سببا في زيادة القوة العامة إلى درجة تهدد بابتلاع المجتمع كله والدولة نفسها. ولكي يمكن المحافظة على هذه القوة العامة كان لا بد من الحصول على عطايا من المواطنين؛ فجاءت الضرائب وقد كانت مجهولة تماما في النظام القبلي.
ولما تقدمت المدينة أصبحت هذه الضرائب غير كافية؛ فوضعت الدولة مشروعات للمستقبل وعقدت القروض العامة وغير ذلك، وتستطيع أوربا القديمة إخبارنا بالكثير في هذا الشأن.
وبحيازة السلطة العامة وجمع الضرائب أصبح الحاكمون فوق المجتمع باعتبارهم أجهزة المجتمع. أما الاحترام الاختياري الحر الذي كانت أجهزة النظام القبلي تتمتع به فلم يعد يكفي الحاكمين، ولو استطاعوا الحصول عليه فلكونهم فوق المجتمع؛ فالاحترام لهم يجب أن يفرض بقوانين استثنائية يمارسون بفضلها مكانة خاصة. ويتمتع رجل البوليس العادي في الدولة المتمدنة اليوم بسلطة تفوق سلطة أجهزة النظام القبلي مجتمعة. ولكن لا شك أن أكثر الأمراء نفوذا وأكبر الحكام في الدولة المتمدنة يحسدون الرئيس القبلي المتواضع على الاحترام المطلق الذي كان يتمتع به. وقد كان الرئيس القبلي يقف وسط المجتمع بينما يحاول الحاكم تمثيل شيء خارج عن المجتمع وفوقه.
حيث إن الدولة نشأت من الحاجة للسيطرة على الصراع الطبقي، وحيث إنها نشأت في نفس الوقت وسط هذا الصراع فهي دولة الطبقة الأقوى بصفة عامة، الطبقة المسيطرة اقتصاديا والتي تصبح عن طريق الدولة الطبقة المسيطرة سياسيا كذلك؛ ولذلك تتطلع إلى وسائل جديدة للسيطرة على الطبقة الخاضعة واستغلالها. وعلى ذلك فقد كانت الدولة في النظم القديمة هي دولة مالكي العبيد للسيطرة على العبيد، كما كانت الدولة الإقطاعية هي جهاز الأرستقراطية للسيطرة على رقيق الأرض من الفلاحين والتابعين، كما كانت الدولة النيابية الحديث هي أداة رأس المال لاستغلال العمل الأجير.
وبطريق الاستثناء تظهر فترات يحدث فيها توازن بين الطبقات المتصارعة لدرجة أن سلطة الدولة كوسيط عشوائي تتطلب إلى حين درجة معينة من الاستقلال لكل طبقة. وكان هذا هو حال الملكية المطلقة في القرنين السابع عشر والثامن عشر حيث كان التوازن قائما بين النبلاء وطبقة سكان المدن، وكذلك كان الحال في عهد بونابرت الأول والإمبراطورية الفرنسية الثانية التي أثارت الطبقة العاملة ضد البورجوازية والبورجوازية ضد الطبقة العاملة. وآخر صورة لهذا النوع الذي يظهر فيه الحكام والمحكومون على قدم المساواة كانت في الإمبراطورية الألمانية الجديدة أيام بسمارك، حيث كان التوازن قائما بين الرأسماليين والعمال من أجل مصلحة البحارة البروسيين الفقراء.
وفي معظم الحالات التاريخية تتناسب حقوق المواطنين مع ثرواتهم، وهذا يؤكد أن الدولة هي تنظيم من الطبقة المالكة لحمايتها من الطبقة التي لا تملك، وقد كانت كذلك في التقسيم الروماني والأثيني للمواطنين طبقا لثرواتهم، وكانت كذلك في الدولة الإقطاعية في العصور الوسطى التي كانت السلطة السياسية فيها تتناسب مع مساحة الأرض المملوكة. ويظهر ذلك أيضا في المؤهلات الانتخابية للدولة النيابية الحديثة، وهذا الاعتراف السياسي بالتمييز بسبب الملكية ليس أساسيا بأي حال. فهو على العكس يدل على مرحلة دنيا من تطور الدولة؛ فالشكل الأعلى للدولة هو الجمهورية الديموقراطية الذي يصبح تدريجيا في ظل ظروفنا الحديثة ضرورة لا يمكن تجنبها، وهو شكل الدولة الذي يمكن في ظله وحده حسم الصراع الحاسم الأخير بين الطبقة العاملة والبورجوازية. ولا تعرف الجمهورية الديموقراطية من الناحية الرسمية أي تمييز بين الناس بسبب الثروة؛ إذ تمارس الثروة قوتها في ظلها بطريق غير مباشر ولكنه مؤكد. فمن ناحية تمارس الثروة هذه السلطة في شكل الإفساد الكامل للحاكمين؛ وتعتبر أمريكا المثل الكلاسيكي لذلك. ومن ناحية أخرى تمارس الثروة سلطتها في شكل حلف بين الحكومة والبورصة، وهو الشكل الذي يصبح أسهل تحقيقا كلما ازداد دين الدولة وكلما ركزت شركات المضاربين في يديها الإنتاج نفسه مستعملة البورصة كمركز لها. وتعتبر الجمهورية الفرنسية الأخيرة - مثلها في ذلك مثل الولايات المتحدة - مثلا دقيقا لذلك، وقد قامت سويسرا القديمة الطيبة بنصيبها في هذا المجال. وليست الجمهورية الديموقراطية ضرورية لهذا الحلف الأخوي بين الحكومة والبورصة. ويؤيد ذلك قيام هذا الحلف في إنجلترا الملكية والإمبراطورية الألمانية الجديدة (أيام بسمارك)، حيث لا يستطيع المرء أن يعرف من الذي نجح في الانتخاب: بسمارك أم بليتشرودر.
5
وأخيرا فإن الطبقة المالكة تحكم مباشرة عن طريق الانتخاب العام؛ فطالما أن الطبقة الخاضعة لم تنضج بعد لتحرير نفسها فإنها ستظل في أغلبيتها تنظر إلى النظام القائم على أنه النظام الوحيد الممكن للمجتمع، وستظل من الناحية السياسية ذيلا للبورجوازية وجناحها الأكثر يسارية، إلى أن تنضج هذه الطبقة لتحرير نفسها وتكون حزبها الخاص بها وتنتخب ممثليها بدلا من ممثلي البورجوازية. وعلى ذلك فالانتخاب العام هو مقياس نضج الطبقة الخاضعة، وهو لا يستطيع أن يكون في الدولة الحالية أكثر من ذلك، وفي اليوم الذي يسجل فيه ترمومتر الانتخاب نقطة الغليان سيعرف كل من الرأسماليين والعمال ما يجب عمله.
فالدولة إذن لم توجد منذ الأزل؛ فقد كانت هناك مجتمعات تسير بلا دولة وبلا سلطة. وعند مرحلة معينة من التطور الاقتصادي، وهي المرحلة التي رافقت تقسيم المجتمع إلى طبقات، أصبحت الدولة ضرورة طبقا لهذا التقسيم. ونحن نقترب الآن من مرحلة من التطور الإنتاجي سيكون وجود الطبقات فيها غير ضروري، كما سيكون عائقا إيجابيا للإنتاج؛ وهنا ستنتهي الطبقات بنفس الحتمية التي ظهرت بها في مرحلة سابقة، ومع انتهاء الطبقات ستنهي الدولة بالضروري. وسيضع المجتمع الذي سينظم الإنتاج على أسس من الاتحاد الحر والتساوي بين المنتجين، سيضع جهاز الدولة حيث يجب أن يكون حينئذ، في متحف الآثار بجانب العجلة والفأس البرونزي. •••
وعلى ذلك فمنذ القدم والمدنية هي تلك المرحلة من تطور المجتمع التي يصل عندها تقسيم العمل والتبادل الناتج عن ذلك بين الأفراد وإنتاج البضائع الذي يربط بين الاثنين، تصل هذه الأشياء إلى كامل نموها وتعمل على إثارة كل المجتمع الذي كان قائما من قبل. فالإنتاج في كل المراحل السابقة للمجتمع كان جماعيا، وكان الاستهلاك يتم بالتوزيع المباشر للمنتجات خلال مجتمعات مشاعية صغيرة أو كبيرة. وكان هذا الإنتاج الجماعي يجري في أضيق حدود؛ ولكن بجانب ذلك كان المنتجون سادة إنتاجهم وسادة عملهم، وكانوا يعلمون مصيره فقد كانوا يستهلكونه. وطالما كان الإنتاج يجري على هذه الأسس فلم يستطع أن يخرج عن رقابة المنتجين، ولم يكن يستطيع إيجاد أي قوة غريبة ضد المنتجين كما في الحالة العادية المحتومة في ظل المدنية.
وبالتدريج زحف تقسيم العمل في عملية الإنتاج هذه ونقصت الطبيعة الجماعية للإنتاج والملكية، وقامت الملكية الفردية وصارت هي القاعدة السارية على نطاق واسع؛ وكان ذلك سببا في قيام المبادلة بين الأفراد كما رأينا فيما سبق، وأصبح إنتاج السلع بالتدريج هو الشكل السائد.
وبإنتاج السلع لم يعد الإنتاج لإشباع حاجات المرء الاستهلاكية ولكن للمبادلة؛ ولذلك تمر المنتجات بالضرورة من يد إلى يد. ويشترك المنتج بإنتاجه في عملية المبادلة وهو لم يعد يعرف مصير منتجاته. وبمجرد أن تدخل النقود ومعها التاجر كوسيط بين المنتجين فإن عملية المبادلة تصبح أكثر تعقيدا، ويصبح مصير المنتجات النهائي غير مؤكد. فالتجار متعددون ولا يعرف أحدهم ما يفعل الآخر؛ فتمر البضائع من يد إلى يد ومن سوق إلى سوق. وقد فقد المنتجون السيطرة على المجموع الكلي للإنتاج وعلى ظروف حياتهم نفسها ولم يحصل عليها التجار. وهكذا تصبح المنتجات والإنتاج ألعوبة في يد المصادفة.
ولكن المصادفة هي جانب واحد من علاقة يسمى جانبها الثاني الضرورة. ففي الطبيعة حيث يبدو أن المصادفة هي التي تتحكم، طالما رأينا في كل ميدان الضرورة الملحة والإلزام الذي يفرض نفسه على هذه المصادفة. وما ينطبق على الطبيعة ينطبق بدوره على المجتمع؛ فبقدر ما يصبح النشاط الاجتماعي (وهو مجموعة من العمليات الاجتماعية) بقدر ما يصبح هذا النشاط قويا بالنسبة للرقابة الإنسانية الواعية ويصل إلى ما بعد حدود الطاقة الإنسانية، بقدر ما يبدو أن هذا النشاط تتحكم فيه المصادفة المحضة، وبقدر ما تؤكد القوانين العشوائية نفسها في هذه المصادفة كما لو كان ذلك ضرورة طبيعية. ومثل هذه القوانين تتحكم أيضا في ظروف الإنتاج وتبادل السلع، وهذه القوانين توجه المنتج بالمستهلك كما لو كانت قوى غريبة ومجهولة في بدايتها. وهذه القوانين الاقتصادية الخاصة بإنتاج السلع تتعدل في مختلف مراحل تطور هذا النوع من الإنتاج، وقد تحكمت هذه القوانين في فترة المدنية كلها. وما زال الإنتاج هو سيد المنتج إلى يومنا هذا، وما زال الإنتاج الكلي للمجتمع ينظم، لا عن طريق خطة مدروسة؛ ولكن عن طريق قوانين عمياء تعمل بقوة حتمية تنتهي بأزمات اقتصادية دورية.
وقد رأينا فيما سبق كيف استطاعت قوة العمل الإنساني في مرحلة مبكرة نوعا من التطور أن تنتج أكثر من حاجة المنتجين، وكيف أن هذه المرحلة سارت جنبا إلى جنب مع مرحلة ظهور أول تقسيم للعمل والتبادل بين الأفراد. ولم يمض وقت طويل حتى اتضح أن الرجل نفسه يمكن أن يكون سلعة وأن القوة الإنسانية يمكن أن تكون موضوع تبادل، وتستخدم عن طريق تحويل الرجل إلى عبد. وقد بدأ الرجال المبادلة في الوقت الذي كانوا فيه هم أنفسهم موضوع مبادلة، وأصبح الإيجابي سلبيا، أراد الإنسان أم لم يرد.
ومع الرق الذي بلغ قمة نموه في المدنية جاء التقسيم الكبير الأول للمجتمع إلى طبقة مستغلة وطبقة مستغلة، واستمر هذا التقسيم طوال فترة المدنية، وكان الرق هو أول أشكال الاستغلال خصوصا في العالم القديم. وأعقب العبيد رقيق الأرض في العصور الوسطى، والعمال والأجراء في العصر الحديث. وكانت هذه هي الأشكال الثلاثة الكبرى للعبودية، وهي تميز العصور الثلاثة الكبرى للمدنية؛ فقد تنكرت العبودية في أشباهها رقيق الأرض والعمال الأجراء.
وتتميز مرحلة إنتاج السلع التي بدأت بها المدنية بما يأتي: (1)
النقود المعدنية؛ وبالتالي رأس المال المالي والفائدة الربوية. (2)
قيام التجار بدور الوسيط بين المنتجين. (3)
الملكية الخاصة في الأرض، والرهن. (4)
عمل العبيد باعتباره الشكل الممتاز للإنتاج.
وكان الشكل العائلي الذي ظهر في المدنية، وأصبح الشكل السائد هو الزواج الحديث وسيادة الرجل على المرأة، والعائلة باعتبارها وحدة المجتمع الاقتصادية. أما القوة التنفيذية للمجتمع فهي الدولة التي تظهر في كل العصور باعتبارها دولة الطبقة الحاكمة، وتبقى في كل الحالات أداة للسيطرة على الطبقة الخاضعة. أما علامات المدنية الأخرى فهي: تثبيت التعارض بين المدن والريف كأساس للتقسيم الكلي للعمل في المجتمع، ومن ناحية أخرى ظهور نظام الوصايا الذي يمكن لمالك الثروة بمقتضاه التحكم في ثروته حتى بعد موته. وقد كان هذا النظام الذي يعتبر ضربة قوية للنظام القبلي، كان مجهولا تماما في أثينا حتى عهد سولون، ولكنه ظهر في روما في وقت مبكر جدا ولكننا لا نعلم متى.
6
وعند الألمان ظهرت الوصية عن طريق القسس حتى يستطيع الألماني المخلص أن يورث أملاكه للكنيسة دون عقبات.
وقد حصلت المدنية على الأشياء التي لم يستطع النظام القبلي الحصول عليها عن طريق نظامها الذي تعتبر الوصية أساسا له. ولكن المدنية وصلت إلى هذه الأشياء عن طريق التلاعب بأحط غرائز أو عواطف الإنسان وبتنميتها على حساب كل ميزاته الأخرى. فقد كان الجشع الصريح هو الروح المحركة للمدنية منذ اليوم الأول لوجودها إلى يومنا هذا تحت شعار واحد: «الثروة ومزيد من الثروة»، الثروة لا المجتمع، ولكن لهذا الفرد التافه كانت أمل المدنية الوحيد الثابت.
وبتتبع هذا الهدف سقط التقدم المتزايد للعلم وفترات ازدهار الفن في فم الجشع. وكان هذا لأن ما حققته المدنية في سبيل الحصول على الثروة كان مستحيل التحقيق بدون العلم والفن.
وحيث إن استغلال طبقة لأخرى هو أساس المدنية فإن كل تطورها يسير في تعارض مستمر. وكل تقدم في الإنتاج هو في الوقت نفسه تأخر في الطبقة الخاضعة، أي الأغلبية، وما هو نعمة لطبقة هو نقمة للأخرى. وكل تحرير جديد لطبقة هو يعني دائما استعباد جديد لطبقة أخرى، وأكبر دليل على ذلك يقدمه ظهور الآلات الصناعية التي نعرف اليوم جيدا آثارها. وبينما كان المتبربرون لا يكادون يعرفون التمييز بين الحقوق والواجبات، تخلق المدنية الفرق والتعارض الظاهر بينهما حتى لأغبى العقول، معطية لطبقة كل الحقوق تقريبا وملقية على عاتق طبقة كل الواجبات تقريبا.
وليس ذلك هو ما يجب أن يكون، فما هو حسن بالنسبة للطبقة الحاكمة يجب أن يكون كذلك بالنسبة للمجتمع كله الذي تجد الطبقة الحاكمة شخصيتها فيه؛ ولذلك فبقدر ما تتقدم المدنية بقدر ما تضطر لتغطية الأضرار التي تخلقها بغطاء من الحب لإخفاء هذه الأخطاء أو إنكار وجودها؛ أي لكي تقدم نفاقا مقنعا لم يكن معروفا في المجتمع القديم أو حتى في المرحلة الأولى للمدنية، وهو النفاق الذي يكمن في إعلانها أن الطبقة المسيطرة تستغل الطبقة الخاضعة من أجل مصلحة الطبقة الخاضعة وحدها، وإذا أخفقت الطبقة الخاضعة في تقدير ذلك أو تمردت فهذا يظهر نكران الجميل المتأصل في أحط صورة نحو خدامها من المصلحين.
7
وفي الختام يقول مورجان عن المدنية: «منذ قدوم المدنية تضخم نمو الثروة وتعددت أشكالها واستعمالاتها، وتحسنت إدارتها لمصلحة مالكيها لدرجة أنها أصبحت قوة لا قبل للشعب بمقاومتها؛ ولذلك يقف العقل البشري حائرا أمام ما خلقته يداه، ورغم ذلك سيأتي الوقت الذي يرتفع فيه الذكاء الإنساني ليسود الملكية ويحدد علاقات الدولة بالملكية التي تحميها، وستوضع الالتزامات والحدود على حقوق مالكيها. إن مصالح المجتمع فوق مصلحة الفرد، ويجب أن تنظم العلاقات بينهما على أساس عادل متجانس. إن مجرد كسب الثروة ليس المصير النهائي للبشرية إذا كان التقدم هو قانون المستقبل كما كان في الماضي. فالوقت الذي مضى منذ ظهور المدنية بدأ كمجرد قطعة من الاستمرار الماضي لحياة الإنسان، وكمجرد قطعة من العصور التي سوف تأتي. إن الحلول التي يقدمها المجتمع تتطلب العدالة لتحدد الاتجاه الذي تكون الملكية نهايته وغايته؛ لأن مثل هذا الاتجاه يحتوي على عناصر تحطيم الذات. إن الديموقراطية في الحكومة، والإخاء في المجتمع، والمساواة في الحقوق والمزايا والتعليم العام، ليظللون الخطة العليا التالية للمجتمع الذي تتجه إليه الخبرة والذكاء والمعرفة في ثبات. وسيكون ذلك عودة للحياة في شكل أعلى من الحرية والمساواة والإخاء لدى الأقدمين.»
8
صفحة غير معروفة