فقال الباشا: وكيف كان ذلك؟ وما سبب هذه الحرب الآن؟
قال: لا يخفى على سعادتك أن الأقطار السودانية ما برحت منذ افتتحها المغفور له محمد علي باشا؛ مؤسس العائلة الخديوية، تحت كنف الحكومة المصرية، ينتفع القطر من تجارتها بالعاج والريش والصمغ وغير ذلك، فظهر فيها في أواسط سنة 1881 رجل نوبي، يقال له محمد أحمد، يدعي أنه المهدي المنتظر، فالتفت حوله عصابة قوية عرفوا بالدراويش، وجاهروا بعصيان الحكومة، فحاولت قمع ثورتهم مرارا فلم تفلح، فاستفحل أمرهم حتى استولوا على مديرية كردوفان، واحتلوا الأبيض عاصمتها، فشق ذلك على الحكومة المصرية، واعتبرته الحكومة الإنكليزية أمرا مؤذنا باضطراب حال الأمن في البلاد، فانفتح لها باب لإطالة مدة بقاء جيشها في مصر، مع حق الإشارة على الحكومة المصرية بما تتخذه من الاحتياطات، فأشارت عليها بإرسال حملة مصرية لإنقاذ الأبيض تحت قيادة قائد إنكليزي اسمه هيكس باشا، فأعدت الحملة. وستسير من هنا بعد يومين قاصدة الخرطوم؛ لتتحد هناك بحامية الخرطوم، ويسير الجميع إلى إنقاذ الأبيض. ولما كنت من الضباط الإنكليز المنتظمين في خدمة الجيش المصري دعيت لمرافقة تلك الحملة.
فلما أتم شفيق حديثه لم تتمالك فدوى عن الصياح قائلة: أأنت ذاهب إلى الأبيض إذن؟ قال: نعم.
قالت وقد أخذتها الرجفة وغلب عليها البكاء: ما هذا يا إلهي؟ السفر إلى الأبيض. إن تلك البلاد لا يسلكها الناس في حال السلم، فكيف في حال الحرب؟ ثم تنهدت وأكبت على البكاء.
فقال لها شفيق: لا تكثري من الحزن؛ فإني ذاهب إلى الحرب، وسأعود بخير - بإذن الله -
فقالت: لا كان فخر هذا مصدره. دع عنك هذا الفخر؛ فإنه مخيف، واستعف من الجيش ولا تذهب في هذه الحملة؛ رفقا بحياة هذه المسكينة، فرمقها شفيق بنظر المستهام، واضعا يده على قبضة سيفه وهو يبتسم قائلا: إني لم أتقلد هذا السيف إلا باسمك يا فدوى، فكيف أنزعه عني وقد أصدقني الصداقة، وأنالني شرفا، وسيزيدني، بإذن الله.
فقالت: أشفق يا شفيق على والدتك المسكينة إن كنت لا تشفق على غيرها.
فاغرورقت عيناه بالدموع وقال: والله إني لا أعرفني على من منكما أكثر شفقة: أعلى التي حملتني في جوفها أشهرا، وضمتني إلى صدرها سنتين، أم على من ألقت بنفسها إلى القتل من أجلي؟ ولكن دعيني من هذا الكلام، فإنه لا يليق بي وأنا ذاهب إلى حرب. فلندع عواطف الحب جانبا، ولنتمسك بالواجب؛ فإني أمرت بالسفر إلى الأبيض، ولا يسعني مخالفة الأمر، على أنه لو وسعني ذلك ما فعلته محافظة على شرفي؛ لئلا يقال إني خفت الحرب، والأعمار والأرزاق بيد الله.
فألقت فدوى رأسها على يدها وجعلت تمسح دموعها باليد الأخرى، ولبث الجميع صامتين برهة يفكرون.
ثم قال الباشا: إذا كان لا بد من سفرك فصبرا جميلا.
صفحة غير معروفة