مقدمة
1 - القاهرة
2 - شفيق
3 - التفتيش عن شفيق
4 - شفيق وعزيز
5 - فدوى
6 - التفرنج الحديث
7 - الأوبرا الخديوية
8 - مناشدة الغرام من وراء اللثام
9 - دليلة الدلالة
10 - سلاح الضعيف الحيلة
11 - شر الأخلاق المراء
12 - لقاء الضائع وشكوى الغرام
13 - فتح الصندوق
14 - الامتحان السنوي
15 - عاقبة الخيانة الفشل
16 - الزر والدبوس
17 - مجيء الرقيب
18 - سفر شفيق
19 - انقلاب سياسي
20 - أحمد عرابي
21 - حادثة عابدين
22 - عزيز أفندي
23 - التعرض في الطريق
24 - سفر والدي شفيق إلى إنكلترا
25 - تذكار عزيز
26 - السر المكتوب
27 - ضياع شفيق
28 - ضرب الإسكندرية
29 - دليلة وعزيز
30 - إباحة الأسرار كإباحة الأعمار
31 - نجاة عزيز من الموت
32 - خطبة فدوى لعزيز
33 - عود عزيز إلى مصر
34 - رسول عزيز إلى فدوى
35 - معدات الزفاف
36 - على الباغي تدور الدوائر
37 - اجتماع الحبيبين وكشف القناع
38 - شهامة شفيق
39 - انتظار مجيء والدي شفيق
40 - حديث في لندرا
41 - سفر غير منتظر
42 - القنوط من حياة شفيق
43 - الجاسوس إلى المتمهدي
44 - الدراويش
45 - موكب المتمهدي وخطابه
46 - أسير المتمهدي
47 - قادم غير منتظر
48 - النجاة من الموت
49 - حملة هيكس باشا
50 - مذبحة هيكس وجيشه
51 - البيعة
52 - متى يا كرام الحي عيني تراكم؟
53 - غوردون والمتمهدي
54 - المناجاة
55 - رسل غوردون إلى المتمهدي
56 - إرسال الكتاب
57 - والدا شفيق
58 - المهاجرة إلى بر الشام
59 - فندق بسول
60 - ضياع رسم شفيق
61 - الدبوس
62 - الدكتور «ن»
63 - التفتيش عن الرسم والدبوس
64 - الطباخ
65 - السودان الشرقي
66 - بطل سنكات
67 - زيارة المنارة
68 - طنوس العربجي
69 - ضيف ثقيل
70 - إحياء الأمل
71 - وإذا تألفت القلوب على الهوى، فالناس تضرب في حديد بارد
72 - المانيتزم أو النوم المغناطيسي
73 - سفير الهوى
74 - مسير الدراويش إلى الخرطوم
75 - حصار الخرطوم ومجيء الإنكليز
76 - مجيء الإنكليز لإنقاذ غوردون
77 - الخرطوم أثناء الحصار
78 - غوردون باشا وأهل الخرطوم
79 - رسم شفيق في سراي الخرطوم
80 - سقوط الخرطوم
81 - كتاب فدوى
82 - باخرة ولسن
83 - عود إلى بيروت
84 - اليأس
85 - الرجاء
86 - قرية عاليه
87 - كشف السر
88 - دمشق الشام
89 - وادي القرن
90 - النجدة
91 - أغرب غرائب الاتفاق
92 - لقاء يعجز القلم عن وصفه
93 - على الباغي تدور الدوائر
94 - العفو عند المقدرة من شيم الكرام
مقدمة
1 - القاهرة
2 - شفيق
3 - التفتيش عن شفيق
4 - شفيق وعزيز
5 - فدوى
6 - التفرنج الحديث
7 - الأوبرا الخديوية
8 - مناشدة الغرام من وراء اللثام
9 - دليلة الدلالة
10 - سلاح الضعيف الحيلة
11 - شر الأخلاق المراء
12 - لقاء الضائع وشكوى الغرام
13 - فتح الصندوق
14 - الامتحان السنوي
15 - عاقبة الخيانة الفشل
16 - الزر والدبوس
17 - مجيء الرقيب
18 - سفر شفيق
19 - انقلاب سياسي
20 - أحمد عرابي
21 - حادثة عابدين
22 - عزيز أفندي
23 - التعرض في الطريق
24 - سفر والدي شفيق إلى إنكلترا
25 - تذكار عزيز
26 - السر المكتوب
27 - ضياع شفيق
28 - ضرب الإسكندرية
29 - دليلة وعزيز
30 - إباحة الأسرار كإباحة الأعمار
31 - نجاة عزيز من الموت
32 - خطبة فدوى لعزيز
33 - عود عزيز إلى مصر
34 - رسول عزيز إلى فدوى
35 - معدات الزفاف
36 - على الباغي تدور الدوائر
37 - اجتماع الحبيبين وكشف القناع
38 - شهامة شفيق
39 - انتظار مجيء والدي شفيق
40 - حديث في لندرا
41 - سفر غير منتظر
42 - القنوط من حياة شفيق
43 - الجاسوس إلى المتمهدي
44 - الدراويش
45 - موكب المتمهدي وخطابه
46 - أسير المتمهدي
47 - قادم غير منتظر
48 - النجاة من الموت
49 - حملة هيكس باشا
50 - مذبحة هيكس وجيشه
51 - البيعة
52 - متى يا كرام الحي عيني تراكم؟
53 - غوردون والمتمهدي
54 - المناجاة
55 - رسل غوردون إلى المتمهدي
56 - إرسال الكتاب
57 - والدا شفيق
58 - المهاجرة إلى بر الشام
59 - فندق بسول
60 - ضياع رسم شفيق
61 - الدبوس
62 - الدكتور «ن»
63 - التفتيش عن الرسم والدبوس
64 - الطباخ
65 - السودان الشرقي
66 - بطل سنكات
67 - زيارة المنارة
68 - طنوس العربجي
69 - ضيف ثقيل
70 - إحياء الأمل
71 - وإذا تألفت القلوب على الهوى، فالناس تضرب في حديد بارد
72 - المانيتزم أو النوم المغناطيسي
73 - سفير الهوى
74 - مسير الدراويش إلى الخرطوم
75 - حصار الخرطوم ومجيء الإنكليز
76 - مجيء الإنكليز لإنقاذ غوردون
77 - الخرطوم أثناء الحصار
78 - غوردون باشا وأهل الخرطوم
79 - رسم شفيق في سراي الخرطوم
80 - سقوط الخرطوم
81 - كتاب فدوى
82 - باخرة ولسن
83 - عود إلى بيروت
84 - اليأس
85 - الرجاء
86 - قرية عاليه
87 - كشف السر
88 - دمشق الشام
89 - وادي القرن
90 - النجدة
91 - أغرب غرائب الاتفاق
92 - لقاء يعجز القلم عن وصفه
93 - على الباغي تدور الدوائر
94 - العفو عند المقدرة من شيم الكرام
أسير المتمهدي
أسير المتمهدي
تأليف
جرجي زيدان
مقدمة
بسم الله الحي الأزلي
لم يخطر لي يوم كتبت رواية المملوك الشارد أنها ستصادف ما صادفته من استحسان الأدباء لها، وإقبالهم على مطالعتها، واعتنائهم بانتقادها أو تقريظها، فإن كتبهم ورسائلهم قد انهالت علي انهيال الغيث، وهم فيها بين منشط ومستحسن ومقترح ومنتقد ومقرظ. وقد تكرم بعضهم بدرج ذلك في بعض الصحف اليومية، وعنت مجلة المقتطف العلمية بانتقاد تلك الرواية انتقادا دقيقا، فعلمت من خلال ذلك أن الرواية على حقارتها قد استحثت الأذهان للنظر في الروايات التاريخية وانتقادها؛ مما يدلك على حاجة البلاد إليها، ويوجب ثنائي لحضرات القراء، وشكري لفضلهم؛ لأنهم جرءوني على كتابة رواية أخرى هي هذه. اخترت لها موضوعا أقرب إلى حالتنا الحاضرة من موضوع تلك، فجعلتها تتضمن الحوادث الأخيرة في مصر والشام، وأخصها الحوادث العرابية والسودانية، وحادثة سنة 1860 في دمشق، وما تخلل ذلك من الأحوال والأعمال؛ مما لا يفي التاريخ بتفصيله حتى يتمثل للذهن تمثلا واضحا.
وقد أفضت بنوع خاص في وصف البلاد السودانية وعوائد أهلها، وأحوال المتمهدي الداخلية، مما لم يرد في كتب التاريخ وإنما عرفته باختباري الشخصي مذ وطئت تلك الأقطار سنة 1884، واختلطت بأهلها، وحضرت مجتمعاتهم ومواقع قتالهم، وتمرنت في لغتهم، واستطلعت سائر أحوالهم، وإما نقلا عمن فروا مؤخرا من حوزة الدراويش بعد أن قضوا في أسرهم السنين الطوال، وقد عرفوا عوائدهم وأخلاقهم وسائر أحوالهم؛ فكل ما سأذكره عنهم حقيقي يركن إليه، ويعتمد عليه اعتمادا لا يقل عن اعتماد كتب التاريخ بشيء.
على أني لم أختر هذا الموضوع إلا إجابة لاقتراح بعض الأصدقاء، فلبيت الدعوة راجيا أن تقع خدمتي لديهم موقع الاستحسان، ولا ألتمس إغضاءهم عما يلاقونه فيها من الزلل، بل أتقدم إليهم أن يوازروني بما عودوني من النصائح والملاحظات، ولا حاجة إلى تكرار إقراري بالعجز، ولا سيما في فن الروايات التاريخية؛ لوعرة مسلكها، وكثرة عقباتها، وتطفلي على خوض عبابها؛ فقد طالما أقررت بذلك فيما كتبته قبل الآن، ولكني أكرر الرجاء لحضرات الأدباء وذوي الفضل من المطلعين أن يمدوني بآرائهم، ويتحفوني بإرشادهم؛ توصلا إلى كتابة ما تروق لديهم مطالعته؛ لأني إنما أكتب لهم، ولا غرض لي إلا ارتياحهم لما أرجو أن يقوم لديهم مقام بعض الواجب علي نحوهم، مما تلذ لهم مطالعته ساعات الفراغ؛ آملا أن تكون هذه الرواية أقل نقصا، وأقرب إلى رضائهم من تلك، فإذا تحقق لدي ذلك نشطت إلى مواصلة الكتابة في هذا الفن، وبذلت الجهد حتى تكون الرواية الثالثة أقل خطأ من الاثنتين. والله الموفق إلى الصواب، وهو حسبي ونعم الوكيل.
الفصل الأول
القاهرة
القاهرة عاصمة الديار المصرية، بناها الخلفاء الفاطميون في منتصف القرن الرابع للهجرة في مكان أناخوا فيه جمالهم يوم جاءوا لافتتاح الفسطاط؛ عاصمة القطر إذ ذاك. وفي ذلك المكان الآن حي الجمالية والجامع الأزهر وما جاورهما من الجوامع القديمة. وما زالت القاهرة منذ بنيت تتسع عمارتها، ولا سيما منذ حكمت العائلة المحمدية العلوية، وعلى نوع خاص في عهد الخديوي إسماعيل باشا؛ لأنه كان مغرما بفتح الشوارع، وتنظيم المدينة وتزيينها، فكثرت الشوارع الحديثة، وأنشئت المنازل والقصور خارج المدينة الأصلية، فكان لنا بذلك أحياء الإسماعيلية والفجالة، وشوارع الدواوين والعباسية وشبرا وغيرها. وجميع هذه الشوارع متسعة، والأشجار محدقة بها من الجانبين. وقد أنار الخديوي المشار إليه المدينة بالغاز، فأصبح ليلها كنهارها، وازدادت بهجة ورونقا، واستأنس الناس بالأنوار، واتساع الشوارع، وزخرفة الحدائق والمنازل والقصور، فأحبوا الطواف في المدينة في ليالي الصيف، فكثرت بسبب ذلك الأماكن العمومية، ولا سيما حول حديقة الأزبكية التي أصبحت الآن في منتصف المدينة، بعد أن كانت خارجها؛ لتكاثر العمارة هناك. وقد بنى الخديوي إسماعيل باشا حول الحديقة سورا محاطا بشبك الحديد تحدق به هالة من الأنوار الغازية، ورتب لها الموسيقى العسكرية تعزف كل مساء بالقرب من بحيراتها المستديرة.
فإذا دخلت الحديقة في المساء وأتيت الدكة المستديرة المزينة بالأنوار الغازية؛ حيث تعزف الموسيقى، ترى الناس محدقين بها أفواجا على اختلاف أجناسهم ونزعاتهم ومراتبهم ولغاتهم وألوانهم؛ من القوقاسي الأبيض الناصع إلى الزنجي الأسود الحالك، وترى في اختلاف لباسهم من العمامة العربية، والطربوش العثماني، والقاووق الفارسي، والبرنيطة الإفرنجية، والخمار المغربي، والحبرة المصرية، والإزار والبنطلون والقفطان والسراويل وغير ذلك. وقس عليه سائر ما يخطر كل من امتزاج الأنواع والأشكال، مما لا يتفق وجوده في غير مصر من الأمصار.
أما المدينة الأصلية، فبعكس كل ذلك؛ إذ لا يزال معظم أسواقها على النمط القديم مع الضيق وعدم الانتظام، وأما حاراتها فلم تنجع فيها وسائل التنظيف مع ما أراده الخديوي من الترتيب، وما تحداه من التنظيم، فهي لا تزال ضيقة الطرق، معوجة الدروب، وكأن الأقدمين أرادوا بتضييق الطرق استجلاب البرودة بحجب أشعة الشمس عنها. وأما الخديوي فعوض عن ذلك في الشوارع الحديثة بغرس الأشجار التي تظلل الطرق، وترطب الهواء بما يتصاعد عنها وعن الطرق المرشوشة بالماء من البخار.
الفصل الثاني
شفيق
ففي سنة 1878 كان في شارع العباسية في القاهرة منزل مبني على النمط الحديث كسائر المنازل الحديثة هناك، ومن أقلها بهجة وكبرا، تحدق به حديقة صغيرة بسيطة. والمنزل مشرف على الشارع العمومي المظلل بأشجار اللبخ المغروسة على جانبيه كسائر الشوارع الحديثة.
والبيت مؤلف من غرف قليلة مفروشة بالأثاث البسيط غير الثمين، ولكنه في غاية النظافة والترتيب، وفي جملة هذه الغرف غرفة أثمن ما فيها خزانتان ملآنتان كتبا في لغات مختلفة، وفي أحد أركانها طاولة عليها بعض الكتب، وبجانبها رجل بين الأربعين والخمسين من العمر، عليه لباس إفرنجي، وليس على رأسه شيء على أنه لم يكن إفرنجي النزعة، وكان جالسا على كرسي ساندا يده الواحدة إلى الطاولة، وفي يده الأخرى كتاب يطالع فيه، وليس في الغرفة غيره، والباب مغلق عليه.
أما الرجل فكان قمحي اللون، أسود الشعر، واسع الجبهة، حليق اللحية، في شعره شيب، وفي وجهه تجعد، وفي عينيه ذكاء، وفي أسرته عبوس؛ كأنه ناقم على الدهر الذي قضى عليه بالاكتفاء من الدنيا بولد ذكر قد أنفق كل حياته في تربيته وتثقيفه، فضلا عن أنه ما انفك منذ سنين كاسف البال، مرتبك الأفكار، منقبض النفس كأنه أصيب بنكبة من نكبات الزمان. ولم يكن أحد يعلم سبب ذلك الارتباك حتى ولا امرأته، مع أنها حاولت استطلاع ذلك مرارا، وكان ينكر عليها تارة ويعدها أخرى.
فمر عليها منذ تزوجها نحو العشرين سنة وهي حائرة في أمره لا يهدأ لها بال إلا بمعرفة سبب ذلك الانقباض.
ومما زاد اضطرابها، وأوجب اندهاشها، صندوق صغير مر عليه منذ عرفت زوجها من الزمن مقفلا. وقد تقدمت إلى رجلها مرارا أن يطلعها على ما فيه عبثا، وإنما كان يقول لها سيأتي يوم تعرفين فيه سر جميع هذه الغرائب، وتعذرينني على كتمانها عنك. ولم يكن هذا الكلام إلا ليزيد تشوقها إلى الاطلاع.
ولكثرة ما ألحت عليه، وعدها أنه يطلعها على ما في الصندوق، بشرط أن يكون ذلك مكتوما عن كل فرد سواهما، وأنه لا يطلعها على شيء فوق ذلك قط، ولا يفوه بكلمة واحدة، فقبلت. ولم تعلم أن اطلاعها على ما في الصندوق بغير أن تعلم أسبابه وتفاصيله لمما يزيد قلقها واضطرابها.
وكان ذلك اليوم يوم الموعد، على أن يكون فتح الصندوق في منتصف الليل، بعد أن ينام أهل البيت جميعا. وكان ذلك الرجل في تلك الساعة جالسا يفكر في حكاية الصندوق وقلبه يرتجف كلما تصور أنه فتحه، فأخذ يتلاهى بمطالعة بعض الكتب والجرائد التي كانت أمامه على الطاولة.
فلما كان الغروب انتبه الرجل بغتة كمن هب من رقاد، فنظر إلى الساعة فإذا الوقت قد أزف، فغمز جرسا أمامه فحضر خادم أسمر اللون عليه الجلابية والعمامة، فقال له الرجل: ألم يحضر شفيق بعد، قال: كلا، يا سيدي، لم أره هذا المساء، فاضطرب الرجل وسكت هنيهة ثم قال للخادم: اذهب، يا أحمد، ادع لي الست، قال: حاضر. فمضى. وبعد يسير، جاءت الست (امرأته) - وكانت أصغر منه سنا. أما وجهها فكان أكثر طلاقة، ولباسها على الزي التركي - وفي يدها مجلة المقتطف العلمية؛ كانت تطالع فيها في غرفتها تلهي بها نفسها عن التشوق في انتظار فتح الصندوق.
فلما دعيت إلى زوجها جاءت مسرعة والمجلة بيدها، فقابلها قائلا: ألم يأت شفيق بعد يا سعدى، فأجابته بلهفة: ألعله ليس عندك؟ فإني لم أره هذا المساء، ولكني كنت أظنه جاء ودخل حجرتك يطالع الجرائد أو يقرأ شيئا آخر. يا ويلاه! أين ذهب الغلام الليلة؟ فإنه لم يسبق له تأخير مثل هذا قط. كم هي الساعة الآن؟ وأخذت تدق يدا بيد، فقال: هي الساعة السابعة بعد الظهر، قالت: وميعاد حضوره الساعة الخامسة ونصف؛ أي بعد إقفال المدرسة التجهيزية بساعة واحدة، فما سبب هذا التأخير؟
فلما عاين زوجها اضطرابها، ندم على ما أظهره من القلق لديها، فأراد تطييب قلبها فقال: لا بأس عليه من التأخير ؛ فإن المدينة في أمان، والناس يسيرون ليلهم كنهارهم، والشوارع آهلة إلى ما بعد نصف الليل، لا يتعدى أحد على أحد، فلعل شفيقا كان في رفقة من التلامذة فمروا بحديقة الأزبكية ليسمعوا أنغام الموسيقى العسكرية، أو أنهم دعوا إلى منزل أحدهم؛ فلا يضطرب بالك. قال ذلك وقلبه قلق على الغلام، وإنما أراد تسكين رعب الوالدة، فقالت سعدى: لا تعتمد على الظنون يا إبراهيم، فإن الغلام قد تأخر، ولا يخفى عليك شدة تعلقنا به؛ لأنه وحيدنا، وكل الآمال معلقة به؛ إذ قد قدر الله ألا يكون لنا غلام سواه. أفيليق بنا أن نهمل أمره؟
فأجابها بصوت منخفض قائلا: لا خوف على الغلام، بإذن الله، وأؤكد لك بأنك سترينه أمامك بعد برهة، وها إني قد أحضرت له عدة جرائد إفرنجية ومقالات علمية ليطالعها؛ لأن درس المدرسة يدوخ الدماغ.
فقالت سعدى: وأنا أيضا قد عولت أن أطلعه على مقالة في هذه المجلة شاقني معناها؛ لأنها تبحث عن مآثر العرب في الأندلس، ولكني أصبحت قلقة لتأخره، فقال لها: لا تجزعي؛ إنه في حراسة الله.
فسكتت سعدى مراعاة لقول زوجها، واحتراما لرأيه، وعادت إلى حجرتها وأسندت نفسها إلى نافذة مشرفة على الشارع، ولبثت تنتظر مجيء ولدها وهي على مثل الجمر، وقد نسيت اشتياقها إلى استطلاع ما في الصندوق. أما الرجل فلم يعد يستطيع صبرا، فأخذ يقلب كتابا أمامه؛ ليشغل نفسه به ريثما يأتي ابنه، وقد أظلمت الدنيا في عينيه؛ لأن شفيقا لم يتأخر عمره إلى مثل تلك الساعة، فدقت الساعة ثماني دقات، فازدادت دقات قلبه، وأمر بالخادم فحضر، فقال له: أتعرف بيت عزيز أفندي صديق شفيق، قال: نعم يا سيدي، هو ذلك البناء الكبير في شارع عابدين، فقال له: سر حالا وابحث عن شفيق هناك، فإذا وجدته قل له: إن والديك ينتظرانك للعشاء. وأت به معك، قال: حاضر. ومضى، ولم يكد يخرج حتى عادت سعدى إلى غرفة زوجها تسأله عن شفيق، فأخبرها بما فعل، ثم عادت إلى غرفتها، ولبث الاثنان ينتظران عود الخادم حتى عاد وليس معه أحد.
فبادره إبراهيم بالسؤال عن شفيق، فقال: قد ذهبت إلى بيت عزيز أفندي فإذا به لم يجئ البيت حتى الآن، إلا أنهم ليسوا قلقين لذلك؛ لأنها ليست أول ليلة باتها خارجا، فقال إبراهيم: هل أنت متحقق ذلك؟ قال: نعم، يا سيدي، وأنا أعلم أن سيدي شفيقا لا يألف الجلوس في القهاوي؛ ولذلك لم أفتش عنه هناك. فبهت إبراهيم وهو في غاية الاضطراب، ولكنه كظم ما به خوفا على امرأته من سلطان العواطف؛ لأنها كانت شديدة التعلق بولدها هذا؛ لأنه وحيدها، ولم يكن أبوه أقل تعلقا به منها، إلا أن الرجال أقوى على احتمال الأهوال من النساء؛ ولذلك كان إبراهيم واجسا على امرأته.
وفيما هو واقف يخاطب الخادم جاءت امرأته مسرعة، ولما لم تر شفيقا صاحت: أين شفيق يا أحمد؟ قال: يا سيدتي، لم أجده في بيت عزيز أفندي، وقد سألت الخدم عنه فقالوا: إنه لم يجئ. ثم بادرها زوجها قائلا: لا يلبث أن يأتي؛ لا يضطرب قلبك يا سعدى، وسنصبر قليلا، فإن لم يجئ أذهب أنا للتفتيش عنه.
فضربت سعدى كفا بكف ووقفت صامتة وقد ملأت الدموع عينيها، وأحبت التجلد فلم تستطع، فنظرت إلى زوجها فإذا هو غارق في بحار الهواجس، ثم التفت فإذا هي تنظر إليه، فتبسم محاولا إخفاء عواطفه وقال: سامح الله شفيقا؛ أظنه في النزهة لا يبالي بقلب الوالدين، ولقد صدق من قال: قلبي على ولدي انفطر، وقلب ولدي علي الحجر. ومتى جاء لا بد لي من أن أعنفه؛ لكيلا يعود ثانية إلى مثل هذا.
الفصل الثالث
التفتيش عن شفيق
أما سعدى فلم تعد تستطيع الجلوس، فذهبت إلى النافذة ووقفت مستطلة تنظر إلى الشارع المضيء بالغاز وعلى جانبيه الأشجار. وما زالا كذلك حتى دقت الساعة التاسعة، فهب الرجل ولبس طربوشه ثم قال لامرأته: ها إني ذاهب للتفتيش عن شفيق، ولا أغيب عنك أكثر من ساعة وأرجع به، إن شاء الله. ثم أخذ عصاه بيده، وغادر امرأته على مثل جمر الغضا. أما هي فبقيت مستطلة من النافذة لا تحول نظرها عن الشارع لحظة حتى دقت الساعة العاشرة، ولما لم يرجع أحد زاد خفقان قلبها، وأخذت ركبتاها ترتجفان، وهي إلى تلك الساعة لم تذق طعاما، وكانت تفكر تارة بولدها، وطورا بزوجها، وطورا بذلك الصندوق؛ حتى دقت الساعة الحادية عشرة، فأظلمت الدنيا في عينيها، فجلست إلى طاولة مستلقية رأسها بيدها على تلك الطاولة، وأخذت تندب سوء حظها.
وفيما هي في ذلك سمعت طارقا يطرق باب الحجرة طرقا خفيفا، فهمت إلى الباب بعد أن مسحت دموعها، فإذا بالخادم، فسألته عن أمره فقال: يا سيدتي، إذا أذنت لي أسير وآتيك بسيدي شفيق، فأجفلت قائلة: وهل تعلم مكانه؟ قال: نعم؛ لأني أذكر قولا قاله مرة لعزيز أفندي، فترجح لدي معرفة مكانه الآن، فقالت بلهفة: وأين تظن مكانه، قال: أظنه ذهب مع صديقه عزيز (وحرق أسنانه) إلى احتفال فتح الخليج؛ لأني سمعت عزيزا منذ بضعة أيام يحبب إليه الذهاب إلى هناك لمشاهدة الأنوار، واستماع الأنغام، ورأيت سيدي يتمنع قائلا: إنه لا يعتد بهذه المناظر، وإن المطالعة لأشهى لديه من كل الاحتفالات. وحضرتك تعرفين دهاء هذا الشاب، وسلامة نية سيدي شفيق وإخلاصه لأصدقائه.
فقالت سعدى وقد لاحت على وجهها أمارات البشر: وما الذي خافه من ذهابه إلى ذلك الاحتفال؟ فكيف أنه لم يخبرنا ولا أظن والده كان يمنعه من ذلك؟ فقال أحمد: لا يا سيدتي، بل كان يمنعه؛ لأن هذا الاحتفال وأمثاله ليست هنا لمجرد الاحتفال المقصود، وإنما يحدث أحيانا أمور مغايرة للآداب لا يرضاها سيدي الكبير؛ ولذلك قلت إنه كان يمنعه من الذهاب.
قالت سعدى: كيف كان الحال، فإن المراد أن تأتي بشفيق. ثم تنهدت وقالت له: سر،
وكان أحمد هذا في الأصل من أنفار الجهادية، وقد تقلب مع الدهر وعرف دخائل الناس، وكان يظن في عزيز صديق شفيق سوءا، ولا يحب صداقته لسيده، ولكنه لم يكن له أن يشور عليه في ذلك، فكان رصدا وعينا عليهما؛ لأنه كان يحب سيده وابن سيده محبة عظيمة، وكان هماما غيورا، فلما أذنت له سيدته بالذهاب خرج قاصدا فم الخليج، ومكثت سعدى في البيت وهي بين وجل وريب حتى كاد يغمى عليها، فنادت جارتها للاستئناس بها، وأخبرتها بغياب شفيق، فشاركتها باللهف، وأتتها ببعض المنعشات، ولبثت سعدى تنتظر باب الله والفتح.
الفصل الرابع
شفيق وعزيز
أما شفيق، فكان شابا في التاسعة عشرة من العمر، طويل القامة، معتدلها، قمحي اللون، ذا عينين سوداوين تحت حاجبين متصلين، صغير الفم، واسع الجبهة، أسود الشعر، خفيف العارضين، وكان قد ربي في بيت أبيه تربية حسنة جدا، فشب كريم العنصر، طيب السريرة، لا يعرف أبواب المكر ولا أساليب الناس في الخداع. وكان مع ذلك ذكيا نبيها حاذقا، فأدخله والده المدرسة التجهيزية الأميرية؛ ليتم دروسه على نفقة الحكومة؛ لأنه لم يكن في سعة كبيرة من العيش، على نية أن يعلمه مهنة الطب أو المحاماة لما رأى فيه من الذكاء.
وكان لباسه في غاية البساطة، وعلى الزي المعتاد من السترة والبنطلون والطربوش العزيزي، وكان في وجهه - على صغر سنه - مهابة كبار الرجال؛ قلما يتجرأ أصدقاؤه على ممازحته، ولو كانوا أكبر منه سنا، فكان لذلك كثير الهيبة لدى كل معارفه، وكان على صغر سنه يخاطب كلا حسب مقامه، وعلى مقتضى المقام، وقلما كنت تراه في مجلس أولاد أو معرض لهو؛ ولذلك كان أساتذة المدرسة وتلامذتها يحبونه، ويعتبرونه كثيرا. وكان لفرط ذكائه لا يعاني تعبا في الدرس، ولم يكن أبناء صفه يطالعون دروسهم إلا إذا جاء شفيق فيشرح لهم الدرس كأنهم تلامذة وهو أستاذهم.
ولم يكن أحد منهم يحسده لكثرة ما كانوا يحبونه، إلا عزيزا؛ فإنه كان رفيقا له في الدروس. وكان كلاهما في السنة الأخيرة من سني المدرسة.
أما عزيز، فكان مضادا لشفيق في أخلاقه ويحسده؛ لما رأى من منزلته الرفيعة لدى كل من يعرفه، وكان على جانب عظيم من الثروة التي اتصلت إليه بالإرث من والده، وكان قصير القامة، كبير الأنف، شديد سمرة البشرة، محبا للتفرنج، فلا يخرج إلى الشوارع إلا بالنظارات المسترسل خيطها من جانب عينيه على صدره على غير قصر في نظره، وكان يلبس طربوشه مائلا فوق حاجبيه تيها وعجبا، وحول عنقه قبة (ياقة) تزاحم أحناكه، حتى لم يكن يستطيع إدارة رأسه ذات اليمين أو ذات اليسار إلا بصعوبة، وإذا وقف يقف منتصبا، وإن شئت قل متطاولا، في يده اليمنى عصا غليظة معكوفة الرأس، وفي اليسرى سلسلة ساعته الذهبية الغليظة يلاعب أصابعه بها، وفي فمه السيكارة الإفرنجية الضخمة. ومن شر أخلاقه الادعاء والحسد والرياء وحب الرفعة عن غير استحقاق.
ولم يكن شفيق يود مرافقته؛ لأنه يكره كل ما تقدم من أخلاقه، وإنما جمعته به جامعة المدرسة، وكان عزيز يعرف حقيقة أطوار صديقه، فكان يتظاهر أمامه بما يرضيه استبقاء لصداقته؛ لأنه كان يحتاج إليه بأشياء كثيرة أخصها مراجعة الدروس معا. ولا يخفى أيضا أن الغنى والترف يكسبان المرء مظهرا يقربه من رضاء الجمهور.
وكان من عادة الخديوي إسماعيل باشا أن يختار أنجب تلامذة هذه المدرسة فيبعثهم إلى أوروبا؛ لدرس الطب والحقوق أو ما شاكل. وكان جميع التلامذة تلك السنة يتوقعون ذلك الفخر لشفيق؛ لامتيازه عنهم في كل شيء، كما تقدم. أما عزيز، فكان كلما تصور ذلك يكاد يتميز غيظا، ليس رغبة في العلم، وإنما حبا للفخر، فصعب عليه أن يكون غنيا، ويكون شفيق أكثر اعتبارا منه في عيون الناس. وكان لا ينفك باحثا عن وسيلة تمكنه من حط شفيق في عيون الأساتذة أدبا وعلما، وما زال حتى كانت أواخر السنة المدرسية والتلامذة يهتمون بمراجعة الدروس، فلاح له أن يسعى إلى إلهاء شفيق عن دروسه، وإيقاعه بما يعاب به، واتفق احتفال فتح الخليج في ذلك الأثناء، فأخذ قبل يوم الاحتفال ببضعة أيام يحسن له حضوره. وربما كان له بذلك غرض آخر. ولعلمه أنه يريد استئذان أبيه في الأمر قال له: دع هذا إلي؛ فإني أبعث لجناب والدك خبرا مع المجري يوم عزمنا على المسير. وكان في نيته أن يهيج غضب والده عليه أيضا، فعند انقضاء وقت المدرسة في ذلك اليوم، ألح عزيز على شفيق أن يسير معه للتنزه في الجزيرة حتى يمسي المساء فيأتيا إلى مكان الاحتفال عند فم الخليج، فاعتذر بأنه لا بد له من استئذان والده، فأكد له أنه سيبعث خادمه ليخبر والده ووالدته؛ لئلا يقلقا لغيابه. وكانت عربة عزيز تنتظرهما عند باب المدرسة وأمامها المجري بلباسه القصبي، فركبا وسارا.
الفصل الخامس
فدوى
فقضيا ساعة الغروب وما بعدها في الجزيرة بين ذهاب وإياب، وأحاديث مختلفة، حتى كادت الجزيرة تخلو من المارة والساقة.
وفيما كانت العربة سائرة بهما في شارع الجزيرة المستدير، المظلل بأشجار اللبخ المتعقد فوق الشارع مثل عقد البناء، وصلت إلى الجبلاية، فلاحت منهما التفاتة فرأيا عند مدخل ذلك التل الاصطناعي عربة مقفلة من عربات حريم أصحاب المناصب من الأتراك، أمامها فرسان من الخيل الكبيرة الروسية الأصل. وكان الظلام قد سدل نقابه، والعربة لم يضئ قنديلها. وكان السكوت مستوليا على ذلك التل لا يسمع فيه إلا حفيف شجر السرو المحدق به، وقرع الأرض بأقدام الجوادين المرة بعد الأخرى، ولم يشاهدا أحدا في العربة ولا بالقرب منها، وباب الجبلاية يستطرق إلى دهاليز اصطناعية في ذلك التل، فقال شفيق لرفيقه: ما رأيك بهذه المركبة؟ فتبسم عزيز وهز رأسه ولم يبد جوابا، فعاوده شفيق السؤال بلهفة، فقال له: إن لهذه العربة حكاية سأقصها عليك عندما نبعد من هذا المكان. فاشتاق شفيق إلى استطلاع الخبر، فلما بعدا يسيرا سأله عن القصة، فقال: إنها عربة أحد كبار الأغراب، وأصله من جهات المورا، وقد جاء والده هذه الديار برفقة إبراهيم باشا عند عوده من محاربة تلك الجزيرة، فأقام في مصر وتزوج فيها، فولد له ابنه هذا، وعاش تحت كنف الحكومة، وترقى إلى رتبة باشا، واكتسب مالا طائلا، وله ابنة وحيدة بارعة في الجمال تركب هذه العربة للنزهة غالب الأحيان، فأحبها أحد شبان العاصمة - وهو صديق لي - ولما طلبها من والدها لم يجب طلبه، بناء على أن الابنة لم تحب أخلاقه، فأضمر لها السوء. وقد أخبرني في صباح هذا اليوم أنه تواطأ مع سائق العربة أن يأتي بها متأخرا إلى هذا المكان للانتقام منها. ولا أخفي عليك أنها أخطأت في رفضه؛ لأنه شاب جميل كريم، راتبه ثلاثون جنيها ينفقها كلها على أصدقائه، فإذا حضرهم في قهوة أو معمل جعة (بيرا) لا يدع أحدا منهم يدفع بارة، وهو لطيف المعشر للغاية، يضحك الثكلى للطف حديثه ومجونه.
فاشتعل شفيق غيظا لتلك القصة، والتفت إلى صديقه قائلا: هل هو الآن في ذلك المكان يريد بالفتاة سوءا؟ يا للدناءة! ثم أمر السائق أن يحول الأعنة نحو الجبلاية، فأراد عزيز منعه بقوله ما لنا وللتداخل في أعمال الناس؟ فلم يصغ إليه، فاقتربا من الجبلاية بأسرع من لمح البصر، فسمعا صوتا لطيفا مرتجفا يتخلل حفيف الأشجار يقول: خف من الله يا رجل. أليس عندك شرف؟ فنزل شفيق من العربة حالا وطلب جهة الصوت داخل ذلك التل والمكان مظلم، فأنار عودا كان في جيبه، فتراءى له في أحد الدهاليز المظلمة المعوجة شبحان؛ أحدهما امرأة والآخر رجل ملثم. أما الفتاة فحالما رأت النور نادت بأعلى صوتها: أنقذني من هذا الخائن بحرمة الشرف والشهامة. فلم تكن لحظة حتى كان شفيق بينهما وفي يده عصا ضرب بها الرجل ضربة أخطأته؛ لأنه طلب الفرار مسرعا، فناداه بقلب لا يهاب الموت: إلى أين تفر أيها النذل الذميم؟ فلم يسمع له صوتا ولا رآه لشدة الظلام في تلك المغارة، ثم سمع وقع جواد فعلم أنه طلب الفرار. أما تلك الفتاة فنادت بتأثر عميق: لا عدمت الشهامة رجالها! من أرسلك أيها الرجل السماوي؟ أين أنت؟ وكان شفيق قد رجع ليأتي بمصباح من العربة؛ لأن الظلام كان مدلهما هناك، فلم يفهم مقالها، فلما عاد بالمصباح رأى فتاة ترتعد خوفا وهي في زي نساء الأتراك، وعلى رأسها اللثام (اليشمك) تحته وجه كأنه البدر بهاء، وعينان سوداوان براقتان قد ملأتهما دموع الخجل والوجل، ووجنتان قد كللهما الاصفرار، فأمسكت يده بيد كادت تذوب لطفا قائلة: لقد أنقذتني من الموت والعار. جزاك الله عني خيرا. أما شفيق، فقد خفق قلبه خفوقا لم يكن يعرفه قبلا، وغلب عليه الحياء حتى تلعثم لسانه عن الكلام، ولكنه تجلد وقال لها: لا بأس عليك، أيتها السيدة المصونة، ولا عاش من أراد بك سوءا. هلم إلى عربتك لنسير بك آمنة إلى منزلك.
أما هي فلم تنفك ممسكة يده ضاغطة عليها مع ما كانت فيه من الرعدة والارتجاف مطرقة خجلا لا تستطيع رفع نظرها إليه، فلما وصلا للعربة لم يجدا سائقها؛ لأنه كان قد خاف تبعة ما جنته يداه، وأركن إلى الفرار، فأدخلها إلى العربة، ونادى سائق عربة عزيز، وأجبره أن ينير مصابيح تلك المركبة، ويسوقها إلى حيث تأمره الفتاة، ثم استظل من النافذة وسألها إذا كانت في خير، أو تحتاج إلى شيء، فأشارت بعينيها وملامح وجهها أنها في غاية الراحة، فعاد إلى عربة عزيز، فإذا بصديقه لا يزال في مكانه كأنه قطعة من خشب، ولكنه حالما رآه أظهر اهتماما، ونزل من العربة ويده الواحدة على نظارته لئلا تسقط، وفي الأخرى سيكارته المعهودة، وقال بلهفة: هل بك من بأس يا عزيزي شفيق؛ فقد أشغلت بالي؟ ماذا فعلت؟ وإلى أين ذهبت؟ فقد كان في عزمي أن أنزل لمساعدتك، لكني أعلم أنك شهم باسل لا تحتاج إلى مثلي، فبقيت بانتظارك هنا، فأين ذلك الخائن؟ فنظر شفيق إليه نظرة الاحتقار ولم يبد جوابا، فقال له: أين سائق عربتنا؟ فقال له: ذهب لسوق العربة الثانية، وأنا أسوق هذه، فضحك عزيز ضحكة الخجل وقال: هل لك معرفة بسوق العربات يا شفيق؟ فأجاب مبتسما: نعم يا عزيزي. أما قيل: «ألبس لكل حالة لبوسها.» ولم يزد. فسارت عربة الفتاة أولا، ثم تبعتها الأخرى، وما زالوا سائرين وقد استولى عليهم السكوت حتى تجاوزوا جسر قصر النيل (الكوبري)، فوقفت العربة الأمامية بغتة، فاضطرب شفيق لذلك، ونزل يبحث عن الداعي لوقوفها. وكان ذلك في شارع مضيء بالأنوار الغازية التي مزقت بقوة نورها حجاب الظلام عن تلك الأماكن، فأسرع شفيق حتى اقترب من العربة، واستطل من نافذتها يبحث بنظره ليدرك السبب، فوجد الفتاة جالسة وقد هدأ روعها من الاضطراب الذي اعتراها في الجبلاية، وأبرقت أسرتها، وأشرق وجهها، فلما رأته أمسكت بيده ضاغطة عليها، وقالت له والخجل يحول بينها وبين التأمل في وجهه: اعلم يا سيدي أن حياتي وشرفي هذه الليلة كنت خسرتهما لولا شهامتك وشرف مباديك، فأنا مديونة لك بهما. فخجل شفيق ولم يجب، وقد توردت وجنتاه، وأندى جبينه، فقالت له: هل لك أن تخبرني عن اسمك لأذكر أمام والدي ما أبديت نحوي من الشهامة والفضل.
فأجاب شفيق بصوت رقيق تتخلله شعائر الغرام ونغمة الحب - والله أعلم بما كان له من التأثير الخفي على قلب تلك العذراء: إني أيتها السيدة المصونة لم أفعل إلا ما أوجبته علي الإنسانية، فلست أنتظر مكافأة سوى ألا تذكري هذا الأمر أمام أحد من العالم؛ صيانة لشرفك، حتى ولا أمام والدك؛ لئلا يوقع فيك شبهة أو مظنة.»
فبادرته: معاذ الله أن أقصد بكلامي مكافأتك؛ لأنه أمر لو أردته ما استطعت القيام به، ولكن ذكر الجميل فرض على الإنسان، وأي فضل أعظم من الإنقاذ من العار والموت، فقال وقد غلب عليه الخجل حتى كاد يمتنع عليه الكلام: إني لم أفعل ما يستحق هذا الثناء، وإنما عواطفي قادتني بأمر من الله لأنقذ ملاكا جسمانيا من التلطخ بحمأة العار، وما ذلك إلا لحسن حظي.
قالت: وهل من عبارة تفي بأداء الشكر لتلك العواطف الشريفة؟ وأما حسن الحظ فهو لي؛ لأني ربحت بك حياتي، أو بالأحرى شرفي الذي هو أعز من حياتي.
وفيما هما بأثناء الحديث سمعا عزيزا ينادي: ما بالك يا شفيق؟ لقد أطلت بنا الوقوف وقد حان ميقات العشاء، فهيا بنا.
فقالت الفتاة: ومن ذا الذي يتكلم؟
أجابها شفيق: صديق لي رافقته للنزهة على أن نسير معا إلى احتفال فتح الخليج هذه الليلة.
قالت: أحس أني أزعجتكما، فأتقدم إليك أن تجيبني على سؤالين ثم تعود إلى صديقك.
قال: مري ما بدا لك.
قالت: أولا: أرغب إليك أن تخبرني عن اسمك إن لم يكن لإعلام والدي، فلأحفظه عندي ذكرا لشهامتك ومروءتك اللتين يعز وجودهما في شبان هذه الأيام. ثانيا: أن تخبرني عن اسم ذلك الخائن إذا كنت قد عرفته من تحت اللثام.
قال: أما سؤالك الأول، فقد يكفيني فخرا حفظ اسمي عندك، ونعم ما طلبت، على أني أود ألا تطلعي أحدا على الحكاية، واسمي «شفيق». أما الثاني، فأتقدم إليك أن تسدلي عليه سترا؛ إذ لا يليق بشريف مباديك وسامي أدبك أن تنتقمي من اللئام؛ فاحسبيها هفوة من هفوات الشباب، على أني لا أتقاعد عن الاقتضاء عن استطلاع اسم الرجل وإفادتك؛ فأذني لي قبل أن أودعك أن أتطفل بسؤال أطلب إليك الإفادة عنه، ولكني أخشى أن يثقل عليك.
قالت: مر؛ إني رهينة أمرك.
قال: هل لك أنت تقولي لي ما الاسم الكريم.
قالت: اسم الداعية فدوى.
قال: عاشت الأسماء، وفدتك روحي أيها الملاك البشري. ثم ضغط على يدها مودعا، فأجابته بالمثل، فبارحها عائدا إلى عربته وهو غارق في تيار الغرام، وقلبه يخفق، وركبتاه ترتجفان، ولسان حاله يقول:
ودعته وبودي لو يودعني
صفو الحياة وأني لا أودعه
فلما وصل كان رفيقه قد مل الانتظار، وكاد يتميز غيظا، وقد اضطرم فؤاده حسدا، لكنه أخفى ما في سره، وأبدى الابتسام، وكان عزيز يعرف فدوى منذ أشهر وقد مال إليها، لكنه لم يجسر على طلبها خوفا من الفشل؛ لأنه رأى ما ألم بسواه؛ لعلمه أنها لا تنظر إلى الغنى ولا حسن الزي، وتحتقر كل غر متكبر ولو ملك ملك قارون. وكان عزيز - لسفالة طباعه - يعد كرم طباع تلك العذراء وأنفتها كبرا وتيها، فسره إذلالها بواسطة أحد السفلة؛ لعله يستطيع بعد ذلك نيلها، فلما حبطت مساعيه ورأى ما صنعه شفيق نحوها أيقن أنها أحبته، فخاف أن يسرع في السعي إلى نيلها فتكون البلية عليه أعظم فلاح له أن يوطد أمل شفيق، ويجعل الأمر في يده هو؛ لعله يقوى على تفريقهما فينال مرغوبه.
فبعد أن جرت العربتان قال عزيز: إنك يا شفيق لقد صنعت مع هذه الفتاة صنيعا يجب عليها أن تكون مديونة لك به مدى الدهر. أما شفيق فكان غارقا في بحار تأمله ولم يفقه لخطاب رفيقه، فأدرك عزيز منه ذلك فازداد حسدا، ثم التفت إليه متلطفا وقال له وهو يظهر نحوه المحبة: إن مثل هذه الفتاة الطاهرة لا تليق إلا بك. فخفق قلب شفيق ولم يستطع بعد ذلك السكوت، لكنه هدأ روعه قدر طاقته، وخفض من انفعاله وقال: أين أنا من هذه البغية؛ فإن بيني وبينها أبعادا؛ لأن أباها لا يتنازل إلى إجابة مثلي، وفضلا عن ذلك فإني لست في حال تؤهلني من الاقتران.
فقال عزيز: أما أبوها فعلي إرضاؤه؛ لأننا في عصر عزت فيه الشبان، وهانت فيه البنات، وإني واثق بأنك لو طلبت أيا من بنات الأغنياء تنالها، وتنال معها مالا طائلا، ولم يعد أحد من المتمدنين يتزوج بابنة قبل معرفة مقدار ثروتها. وهذه عادة إفرنجية حديثة النشأة في بلادنا. أما من حيث أهليتك، فالذين بعمرك لا يمنعهم مانع عن الزواج.
فإذا شئت فإني أسير إلى أبيها وأكاشفه بما أبديته نحو ابنته من الشهامة، ولا أشك بأنه يرغب في مصاهرتك، فقاطعه شفيق قائلا: أرجو أن تكتم كل ما عرفته عن هذه الفتاة؛ صيانة لها، وحفظا لشرفها وشرفي، فأكون لك شاكرا، وأما من حيث الأهلية، فأنت أليق مني؛ لثرائك وسمو حسبك ونسبك.
وفيما هما في الحديث وقفت عربة الفتاة أمام باب حديقة تعطر تلك الأنحاء بشذا رياحينها، وعلى جدار الحديقة إلى جهة الشارع يعرش الورد والنسرين والأقحوان. وكان منظر الحديقة من الخارج بغاية الجمال، وفي وسطها قصر بديع الهندسة، مرتفع البنيان، يظهر للرائي اقتدار صاحبه وكثرة غناه.
فعلم شفيق أنه منزلها، فنادى سائق العربة أن يأتي إلى عربته بعد دخول الفتاة إلى بيتها، فأنزلها وعاد فساق العربة بهما إلى جهة حديقة الأزبكية حيثما ترجلا وذهبا إلى حانوت تناولا فيه العشاء، ثم دخلا إلى الحديقة وأخذا يتمشيان حول بركتها. كل ذلك وشفيق غارق في بحار من الهواجس، وعزيز يراقب حركاته وسكناته وهو يكاد يتمزق غيظا وحسدا، وقد نسي حسده له على دروسه ومنزلته بين الأقران.
فأخذ يفكر في شرك يوقع فيه شفيقا، ويجعل لنفسه الحق في الصنع الجميل الذي حملته الفتاة؛ لعله يستطيع به التوصل إليها.
وما زالا يخطران حتى مرا بقهوة فيها القينات (العوالم) يغنين بألحان الخلاعة، فوقف عزيز وأوقف شفيقا وهو لا يدري أنه فعل؛ لتشتت أفكاره. وهذه أول مرة طرق الحب قلبه فوجده خاليا فتمكن.
فأمسك عزيز بيده، ودخل به تلك القهوة، وجلسا أمام مائدة، ثم أمر صاحب القهوة فأتاهما بأقداح من الكنياك، وشفيق لم يفطن إلى شيء، وقد تملك فؤاده الغرام، فكان حاضرا بصورة الغائب؛ لأن مجموع حواسه تائهة في جمال فدوى وكمالها. وإذ هو على تلك الحال أخذ عزيز قدحا وأعطاه ليشرب، فانتبه بغتة كأنه هب من رقاد عميق، والتفت إلى ما حوله فإذا بالناس جماعات ووحدانا يشربون ويطربون ويقهقهون؛ يترنح بعضهم طربا لصوت الغناء، وآخر ينادي بأعلى صوته: آه! طيب. كمان يا ستي، وآخرون يصافحون الأقداح، ويشربون بعضهم نخب بعض، فتملأ ضوضاؤهم كل تلك الحديقة.
فنظر شفيق إلى صديقه مندهشا وقال له: أين نحن يا عزيز؟ قال: نحن في محل طرب وانبساط. خذ هذه الكأس واشربها. فأجفل شفيق عند لمس الكأس إجفاله من العقرب، ونهض معتذرا أنه لا يرتاح إلى مثل هذا الاجتماع.
فتبسم عزيز ونظر إليه نظر الاحتقار قائلا: ألعلك لا تزال صبيا كأولاد المكاتب تخاف كأس المدام؟ خذ اشربها يا صاح؛ فإن فيها شفاء للناس.
فقال شفيق: اعذرني لأني لم أعتد شربها، وأخشى ضرها لئلا تدور في رأسي، وكلا الأمرين صعب؛ فهيا بنا من هذا المكان.
فضحك عزيز حتى كاد يستلقي، ثم نادى مخاطبا إحدى القينات من وراء الحجاب: اسمعي يا ست فايقة قال هو خائف من هذه الكأس. فاغتاظ شفيق، وغلبت عليه مبادئه فنهض وارتد عائدا من حيث أتى، فتبعه عزيز يريد إقناعه في مجاراته، فلم يفعل، فلما رأى منه الإصرار على عدم الرجوع تحول عن عزمه ورافقه حتى خرجا من الحديقة، وشرع يخاطبه بما يقوم مقام العذر لديه.
الفصل السادس
التفرنج الحديث
فخرجا من باب الحديقة القبلي، فأقبلا على الملهى (الأوبرا)، فوقف عزيز ونظر إلى ساعته وقال: إن الساعة لم تتجاوز التاسعة، واحتفال فتح الخليج لا يكون على أتقنه إلا نحو الحادية عشرة، فلنقض هاتين الساعتين في هذا الملهى؛ فإنه من أجمل الملاهي، والتشخيص فيه الليلة باللغة الفرنسوية.
وكان شفيق لم يشاهد زمانه تشخيص الروايات لا في هذا الملهى ولا في غيره، فقال لصاحبه: إني أحسن فهم اللغة الفرنسوية، ولكني لا أرتاح إلى حديثها كالعربية. فضحك منه حتى فحص الأرض برجليه، ثم قال وهو يعدل وضع نظاراته: يا للعجب منك يا صاح! فإني لم أعرف لك مراسا. أراك من جهة شابا ذكيا عاقلا، ومن جهة أخرى - اسمح لي أن أقول لك - مغفلا. أيليق بك ونحن في عصر التمدن أن تقول مثل هذا القول؟ وأعجب لقولك إنك لا ترتاح إلى التكلم في اللغة الفرنسوية، وجميع أصدقائنا المتمدنين لا يتكلمون إلا بها، حتى إنهم أهملوا اللغة العربية؛ لتعقدها وصعوبة التلفظ بها، فلا يتكلم بها الآن إلا البسطاء الذين لم يلجوا المدارس.
فبهت شفيق لخطابه، ونظر إليه نظرة مملوءة من الرزانة والكمال متبسما تبسما خفيفا، وقال (مسندا يده إلى قائمة القنديل الغازي أمام باب الملهى): إني لأعجب من رسوخ ذلك في اعتقادك، فكأني بك تحسب التمسك بالأخلاق الشرقية حطة لمقامك حتى أنكرت اللغة التي ربيت فيها، وصرت تفضل الرطانة عليها، زاعما أنها لغة عامة الناس وأسافل السوقة. فما معنى مخاطبتك رجلا عربيا بلغة أعجمية إلا التفنن بمبتدعاتك الفرنجية المؤدية إلى سوء المصير؟ أرني واحدا ممن تتقلدهم من الفرنجة - ولو مهما أتقن العربية - يخاطب ابن لغته بها، فكيف تسير على خطواتهم إلا فيما يوافق مصلحة بلادك منها؟
فأنت مقر بصنيعك هذا أن أحط الناس في عينيك إنما هم والداك، وسائر أعمامك وأخوالك وغيرهم من ذوي قرباك وأصدقائك؛ لأنهم لا يعرفون الرطانة، ولا يهملون لغتهم.
فضحك عزيز ضحكة يمازجها الخجل وقال: إن قولك لأشبه بما نسمعه من عجائز بلادنا؛ لأنهم لم يخالطوا الفرنجة، ولا تعلموا التمدن، ولكن ما لنا ولهذا الجدال؟ هل تريد أن تدخل بنا الملهى أم لا؟
فقال شفيق: أما إذا كان لمشاهدة التمثيل، فإني لا أتمناه إلا مراعاة لإرادتك، فقال عزيز: إذا كنت لا ترتاح إلى التمثيل، فإنك تسر بمشاهدة معدات هذا الملهى، فهيا بنا.
الفصل السابع
الأوبرا الخديوية
فابتاعا رقعة من مبيع الرقع خارج الملهى، ولما دخلا اندهش شفيق لازدحام الأقدام، ولما هنالك من الإتقان والترتيب؛ لأنه رأى السلالم مكسوة بالمخمل الحريري، والجدران بالمرايا المذهبة الجوانب، الكبيرة الحجم، فلما دخل إيوان المرسح شاهد في سقفه ثريا (نجفة) بمئات من الشموع المنيرة بالغاز، فضلا عن الأنوار الغازية في كل من الخلوات (اللوجات). ومن تلك الخلوات خلوة خاصة بالخديوي مفروشة بأحسن ما يكون من الأثاث، على أن الخلوات - بوجه عام - مكسوة جدرانها بالمرايا الجميلة المذهبة، فانبهر شفيق لتلك المشاهد، غير أنها لم تكن لتشغله إلا يسيرا؛ لأنه كان كلما شاهد فتاة في لباس تركي يختلج قلبه، ويعلو وجهه الاحمرار. وكان يحاول إخفاء ذلك جهده فلم يقدر.
أما عزيز فما انفك مفكرا في أمر فدوى، والاقتران بها، والإيقاع بشفيق. وكان يراقب شفيقا وحركاته ليستطلع عواطفه.
فلما رآه مفكرا بادره قائلا: بماذا تفكر يا عزيزي؟ قال وهو يخفي ما في ضميره: إني أفكر في هذا الملهى البديع، وما اقتضى لبنائه وفرشه من الزمن والمال، فقال وقد أدرك ما يحاول إخفاءه: ألا تعجب إذا أخبرتك أن أفندينا إسماعيل باشا بناه وفرشه في خمسة أشهر.
فتعجب شفيق وقال: إنه بالحقيقة لأمر غريب، ولكن ما الذي حمله على هذه السرعة، قال: حمله على ذلك قدوم ملوك أوروبا لحضور الاحتفال الذي أعده سموه لفتح قنال السويس، فبنى هذا الملهى إتماما لدواعي الاحتفاء بهم. وقد دخل فيه بسبب ذلك نفقات طائلة. ثم رفع ستار المرسح لمشاهدة الألعاب. أما عزيز فجعل ديدنه استراق النظر إلى خلوات السيدات بالمنظار؛ لعله يلمح معصم إحداهن أو وجهها من وراء الحجاب.
أما شفيق فكان يود انشغال رفيقه بأي شيء كان ليعود هو إلى التأمل بما وقع فيه من الحب، ولم يكن عمره يعلم معنى الوجد، فلحظ أخيرا من صديقه النظر بمنظاره إلى إحدى الخلوات، والتبسم تبسما يدل على أن وراءه شيئا، مع ما يخامر تبسمه من ظواهر الخلاعة، فخشي شفيق أن يهزأ الحضور برفيقه لما يبديه من ضروب الخلاعة، فكاد يتميز غيظا وقد علت وجهه حمرة الخجل، فنظر إليه نظرة اللطف والوداعة قائلا: علام تضحك يا عزيزي؟ قال وأمارات النزق والخفة تبدو على وجهه: إني أشاهد من وراء هذا الحجاب معصما صيغ من بلور، وكأني به لو لم يمسك بالأساور لسال من الأكمام سيل الجداول، وأرى تلك اليد أشارت إلي (قال ذلك وهو يكاد يطير فرحا)، فالتفت إليه شفيق شذرا وقال: ما الذي أوجب وضع هذا الحجاب على نوافذ خلوات المخدرات؟ قال: هو منع الناس من النظر إليهن، قال شفيق: ولماذا؟ قال: مراعاة لحرمة الدين وجاري العادة.
فأحدق شفيق ببصره إليه قائلا: وكيف إذن يليق بنا أن نسترق النظر إلى من يقيم بيننا وبينه حجابا؟ أفلا نكون قد خرقنا حرمة الشرع والدين؟
فضحك عزيز ضحكة يستر بها خجله وسكت، وبعد يسير عاد إلى منظاره فنظر به إلى جهة المرسح وقال لشفيق: اعذرني قليلا؛ فإني ذاهب في حاجة وأعود حالا.
فعجب شفيق لتلك الوقاحة، ولكنه لم يسعه إلا الإجابة، فبعد خروجه مكث بانتظاره حتى طال غيابه، فلاح له أن هذا التأخير لا يخلو من بأس على رفيقه، فلم يستطع البقاء، فخرج يبحث عنه في سائر الخلوات، وفي حجر المنعشات خارجا، فلم يقف له على خبر، فبقي في هذا الاضطراب ساعة زمانية، فلما دقت الساعة الحادية عشرة لم ير بدا من الخروج؛ ظنا منه أن عزيزا ربما خرج من الملهى فرارا من أمر.
الفصل الثامن
مناشدة الغرام من وراء اللثام
وفيما هو في حيرة أنزل ستار المرسح لانقضاء الفصل، وابتدأ وقت الاستراحة بينما يبتدئ الفصل التالي، فهم بالخروج من خلوته، وإذا بعبد طواشي قد انتصب أمامه وهو طويل القامة، دقيق العضل، ممتلئ الجسم، لا نبات في عارضيه، عليه لباس إفرنجي أسود، وعلى رأسه طربوش أحمر، فلما رآه شفيق هابه لغريب منظره، فبادره الطواشي بألطف إشارة محييا، ثم قال له: أيريد سيدي أن يتكرم علي بذكر اسمه الكريم؟ قال: اسمي شفيق.
فقال له: إن أحد أصدقائك يود مقابلتك الساعة 11 ونصف بجانب باب حديقة الأزبكية القبلي، فتعجب شفيق من ذلك وقال له: من هم هؤلاء الأصدقاء؟ قال: قلت بعض الأصدقاء وأريد صديقا واحدا، قال: من هو؟ قال: هو (وهمس في أذنه) السيدة فدوى. فخفق قلب شفيق خفوقا سريعا، واصطكت ركبتاه، وأخذته القشعريرة، ولكنه تجلد جهد طاقته، ونظر إلى العبد نظرا مملوءا من الوداعة يظهر له امتنانه، وقال: إني سأتمم ما أمرت به، ولكني الآن أفتش عن صديق لي تاه مني في هذا الملعب ولا أعلم أين مقره، ولا أرى مفارقة هذا المكان قبل أن أقف على أثره، أو أتحقق أين ذهب. ثم خرج إلى خارج الملهى، فإذا بعربة عزيز لا تزال في انتظاره، فعلم أنه لم يخرج، فوقف يفكر في أمر فدوى واستدعائها إياه في ذلك الوقت، وكيف تكون مقابلته إياها. وكلما تصور ذلك يخفق قلبه، ثم يعود فيذكر ضياع رفيقه، فتحدثه نفسه أن يجيب داعي الوجد فيسير إلى فدوى، فتناديه المروءة كيف تذهب قبل أن تجد رفيقك.
وما زال مترددا والخصي ينتظره خارجا حتى كانت الساعة الحادية عشرة ونصف، فوقع في حيرة بين أن يلبي طلب سالبة لبه، أو أن يفتش عن صديقه، فدفعه دافع الوجد إلى أن يسير إلى فدوى ثم يعود بعد ذلك للتفتيش عن عزيز، فاصطحب الخصي إلى الحديقة فوصلا الرصيف بإزاء عمود مصباح غازي، وقد لحظ مركبة فدوى فاضطرب وامتقع لونه فتعثر في سيره حتى كاد لا يقوى على المسير، فلما أقبل على المركبة شاهد فدوى مستطلة من النافذة وهي في أبدع ما يكون من الجمال، وقد زايلها الوجل والاضطراب، فوقف خاشعا يتأمل وجهها الطافح بهاء وحياة، وعينيها الدعجاوين الممتلئتين ذكاء ودعة، يحرسهما حاجبان مزججان يكتنفهما لثام أبيض شفاف، ويتراءى من ورائه مبسم كله معان، ويتجلى في وجهها وقار يزينه الحياء.
فلما وقعت العين على العين ترامت السهام من الجانبين، وبادرته فدوى بالتحية مبتسمة، ثم مدت يدها إليه تصافحه وقد غلب عليها الحياء وأحست بقشعريرة انتظمت كل أطرافها، وتصبب جبينها عرقا، ولم تقو على تسكين اضطرابها، فلما أدرك شفيق منها هذا وقد تصافحت الأيدي حتى ارتعدت فرائصه ولم يستطع الوقوف فأسند يده إلى نافذة العربة، وحاول تسكين روعه فلم يستطع ثم رفع بصره إليها وهم بمخاطبتها فامتنع عليه الكلام ولم يقو على إدامة النظر فأطرق حياء ووجدا، وأخيرا تجلد وقال: أطلب إليك المعذرة يا سيدتي لتأخري بضع دقائق عن الموعد الذي ضربته، وما تأخرت إلا لأني كنت أبحث عن رفيق لي ولم أظفر به حتى الآن.
قالت: لعله صديقك الذي كان معك في العربة؟ قال: نعم. فتكلفت الابتسام، وأرادت التكلم فمنعها الحياء. والتبس الأمر على شفيق فسألها: أهناك أمر تعرفينه عن صديقي عزيز؟ فلم تجب وظهر اضطرابها جليا عند ذكر اسم عزيز، فتشاغلت بتثنية طرف اليشمك بين أناملها وبقيت مطرقة. فقلق شفيق، وأدرك أن هناك شيئا لا تريد التصريح له به، وهم بسؤالها ولكنه استحيى فأجل هذا إلى ما بعد الحديث الذي استقدمته لأجله، وأصاخ بسمعه ينتظر ما تقول.
فقالت: ربما تعجب من أني دعوتك الليلة لأخاطبك على انفراد وأنت شاب لم يسبق لي معرفة بك من قبل فضلا عما تعلمه من عادتنا في التحجب عن كل رجل إلا أقرب ذوي قربانا. وربما تنسب ذلك مني إلى الخفة والطيش.
فابتدرها شفيق قائلا: معاذ الله فأنت أرفع من أن تهبطي إلى مثل هذا وقد خصك الله بكمال الذات والصفات.
فنظرت إليه بعين الحب نظرة خرقت أحشاءه، ولم تقو على مكاشفته بما في فؤادها فقالت بصوت منخفض: لا يعرف ما في القلوب إلا الله، وما جرأني على أن أدعوك إلى هذا الموقف إلا الشهامة التي أبديتها لإنقاذي من العار، إذ جعلتني أحس فضلك وكرم أخلاقك وأشعر بأني مقصرة عن شكرك، ولا أقول مكافأتك لأنها أمنية لا يمكنني الوصول إليها ولو ضحيت نفسي بين يديك. فالآن أرغب إليك في أن تتقدم إلي بما تشاء لعلي أقوم بشيء من الواجب.
قال: كفاك يا سيدتي إطراء، فلا تدعيني أحس قصوري عن بلوغ ما تصفينني به؛ فقد قلت إني لم أقصد بإنقاذك استجلاب المكافأة؛ إذ لم يحملني عليه إلا الواجبات الإنسانية، فلا أطمع بغير رضاك إن كنت أستحقه.
فقالت وقد رمقته مستعطفة: أهذا غاية ما تتمناه يا شفيق؟
فأجابها وهو مطرق: إن ذلك غاية ما أستحق يا سيدتي.
قالت: إنما أسألك عما تتمنى.
قال: ولكن «لا كل ما يتمنى المرء يدركه.» وكلل جبينه العرق خجلا. أما هي فأدركت ما وراء ذلك، وغلب عليها الحياء، فأطرقت خجلا وانزوت حياء.
فعاودها الخطاب قائلا: إذا كنت لم أذكر لك ما أتمناه وقد نفرت؛ فكيف لو ذكرته؟!
فدنت من النافذة بلطف وقد خفضت من اضطرابها ومدت يدها إليه فتصافحا بالأيدي، وأوضحا بالإشارة ما يقصر دونه الخطاب.
ثم عاودت الحديث قائلة: أظنك تعجب لمعرفتي مقرك وإرسالي إليك، فأخبرك أني جئت الليلة مع والدي إلى الملعب لمشاهدة التمثيل، فرأيتك في إحدى الخلوات وأنا في إحداها، وكنت لا تحول بنظرك إلى خلوات السيدات، خلافا لرفيقك الذي أضحى هزءا وسخرية عند من لاحظوا حركاته. ونظرا لما أشعر به من المنة نحوك أحببت مخاطبتك بما يظهر مظهر الشكر لديك، فاستأذنت والدي بالخروج من الملعب لترويح النفس، وبعثت إليك بخادمي الأمين بخيت، الذي أثق به كثيرا؛ لما هو فيه من الأمانة والبسالة، وكرم النفس، وصدق الطوية. وقد أطلعته على ما أبديته نحوي من الشهامة بإنقاذك نفسي من العار والموت، حتى صار يحبك محبته لي، ويعجب ببسالتك وكرم أخلاقك. وحيث إن والدي بانتظاري في الملهى؛ فلا يحسن بي التأخير.
قال: وأنا أيضا سأعود للتفتيش عن عزيز. ونظر إليها ليرى ما يبدو على وجهها، فإذا هي مطرقة تريد التكلم ويمنعها الحياء.
فقال: إني أقرأ في وجهك كلاما ترومين إظهاره ويمنعك الحياء، وعلى ما أرى إنه يتعلق بصديقي عزيز، فعلام تحجبينه عني؟
قالت: ليس في الأمر ما يوجب التستر، ولا يمكنني الإفصاح بالإجابة أكثر من أن عزيزا ليس من أمثالك.
قال شفيق: وهل عرفته قبل الآن؟ قالت: لم أشاهده إلا لمحة ساعة الغروب في حال الاضطراب، والآن في الملهى ساعة خرج ولم يعد، وأنت - لحسن طويتك - لا تزال في انتظاره؛ فنعم الشهامة شهامتك، ولكن ليس مع من ... وأمسكها الحياء، ثم قالت: إذا شئت تحقق الخبر فاسأل بخيتا. والآن استأذنك بالذهاب؛ لأن والدي لا يزال في انتظاري، وإنما لا بد لي من موعد أراك فيه.
فبهت شفيق وقد تذكر ما مر عليه هذه الليلة من الأهوال، وخاف أن تلحظ منه ما خامره من الارتباك، فقال: إني رهين إشارتك بما تأمرين، ونظرا لفوات الوقت الآن، يلزم ألا تتأخري أكثر من ذلك. ثم أمرت السائق فساق العربة إلى الملعب.
الفصل التاسع
دليلة الدلالة
أما شفيق فبقي واقفا مكانه وقد فقد حواسه بذهاب فدوى حتى زاحمه المارة فانتبه إلى نفسه، وتوجه توا إلى الملعب فشاهد بخيتا ينتظره خارجا، فلما اقترب منه أخذه جانبا وشرع يستطلع منه ما أشارت إليه فدوى مما لم تقدر أن تفوه به هي، فقال بخيت: إني لا أستحيي أن أقول لك يا سيدي أن عزيزا لا يستحق أن يكون صديقا لك.
قال شفيق: لماذا؟ - لأنه رجل ذميم. - وكيف ذلك؟ - لأنه غادرك على مثل الجمر وسار إلى من هي على شاكلته.
فقاطعه شفيق: ماذا تقول؟
أقول الواقع يا سيدي، وكيفية الأمر أني كنت في الخلوة مع سيدتي نراقب حركاتكما؛ لأنها أعجبت بك وبشريف مباديك، فلاحت مني التفاتة إلى بعض الخلوات، فإذا بواحدة قد أومأت إليه من وراء الحجاب. ولما خرج هو من عندك خرجت هي من خلوتها، ولا أعلم إلى أين، وإنما أؤكد لك أنهما لم يخرجا من الملعب، فإذا بقيت هنا إلى انقضاء التمثيل لا بد من أن تراه خارجا.
فقال شفيق وقد اشتد به الغضب: يا للغرابة! كيف يمكن أن يكون ذلك؟
قال بخيت: إن سمو أدبك يا سيدي يجعلك ألا تظن به سوءا؛ فتعال بنا ندخل الملعب وأنا أبحث عنه، فإذا ظفرت بمكانه أتيت بك إليه وأريتك إياه رأي العين. ثم دخلا وسار شفيق إلى خلوته ، وذهب بخيت ليفتش عن عزيز. وبعد يسير، عاد مهرولا وعلى وجهه أمارات الدهشة، فسأله شفيق عن الخبر، فقال: لقيت صاحبك وسيدي الباشا في خلوة يتساران، وسأرجع إليك بما يدور بينهما، فانذهل شفيق ولبث مبهوتا يفكر في أمر صديقه، وعاد بخيت لاستطلاع الخبر.
أما ما كان من أمر عزيز، فإنه غادر شفيقا في خلوته وخرج لمحادثة عجوز دهياء كأنها حية رقطاء بجفن أحمر، وخد أصفر، ووجه أغبش. وكانت هذه العجوز في الخلوة التي أشار إليها بخيت، وهي دلالة تبيع الأقمشة والمصاغ على السيدات في بيوت الأعيان وأرباب المناصب، تتكلم التركية والفرنسوية جيدا، وقد عاشت زمنا طويلا حتى صيرها الدهر عظما على جلد، فلما رأت عزيزا رحبت به؛ طمعا في غنائه، وقالت له: ما وراءك؟
قال: بل أنت ما وراءك؟
قالت: ليس لدي إلا الخير.
فضحك عزيز مظهرا لها الوقار والاعتبار وقال: أدامك الله لنا يا خالتي دليلة؛ إنك - والله - ملجؤنا وهدانا.
قالت: بارك الله فيك يا ولدي.
فقال: أعندك للسر مكان؟
قالت: بئر عميقة. وهل تجهل ذلك؟
قال: كلا، وأنا لدي أمر ذو بال أحتاج في قضائه إلى همتك وغيرتك.
قالت: قل ما بدا لك. إني رهينة أمرك.
فمد يده إلى جيبه وأخرج نقودا في منديل وقال لها (جاعلا تلك الصرة في يدها بإشارة لطيفة): مرادي أن أكلفك قضاء أمر أرجو ألا يكون صعبا لديك.
قالت وقد وضعت الدراهم في جيبها: ثق يا حبيبي أنك بمعزة ولدي، وما يهمك يهمني، وقد عتبت عليك لدفعك لي دراهم، ولم أقبلها إلا مرضاة لك.
فقال عزيز: ليس لنا بركة إلا فيك يا خالتي، وأما ما أطلب إليك قضاءه فهو: هل تعرفين فلانا باشا؟
فقهقهت دليلة قائلة: أليس الباشا المورالي الذي كان أبوه في جند إبراهيم باشا عند عوده من حرب المورا، فإني أعرفه جيدا، وأعرف امرأته وهي تعرفني، وكل يوم تقريبا أراها، وذلك من يوم أتى بها من بر الشام؛ لأنه تزوج بها هناك.
قال: وهل تعرفين ابنته فدوى ذات الحسن والجمال والبهاء والكمال .
قالت: كيف لا أعرفها وهي عندي بمنزلة ابنتي، وقد عرفتها منذ نعومة أظفارها.
قال عزيز: لقد قضي الأمر؛ فإذا كانت هي - كما تقولين - بمثابة ابنتك، أظنك لا تكرهين أن أكون عندك بمثابة صهرك. فسكتت هنيهة ثم قالت: ذلك أمر سهل، ولا يكون إلا ما تريد؛ فأنت شاب غني، وهي لا تطمع بمن هو أكثر منك مالا، وأعظم نوالا، ولكني علمت منذ بضعة أسابيع أنها معقود عليها لأحد شبان العاصمة.
فقاطعها عزيز قائلا: لم يعقد له عليها، وإنما طلبها من أبيها ولم ترض هي، وقد ترتب على ذلك ميله إلى الانتقام منها. فامدديني برأيك لعلي أكسب رضاء تلك العذراء؛ لأني أحبها حبا زائدا.
قالت: عليك بمرضاة أبيها، وعلي مرضاة أمها. أما هي فلا أظنها تخالف والديها.
قال: وما الذي يرضي أباها؟ وإلام تتوق نفسه؟
قالت: إنه بخيل يحب المال، ويستسهل الصعب في سبيل نواله، ومثله الإطراء والمدح.
قال: ماذا يتعاطى من الأعمال؟ - لا يتعاطى عملا؛ لأنه ذو عقارات كثيرة يعيش من دخلها، ويقضي معظم أيام السنة في أبعدية له في مديرية الشرقية.
قال عزيز: عليك إذن استطلاع رأي والدتها. وها إني ماض إلى والدها لعلي أستفيد منه شيئا. ثم ودعها وخرج.
الفصل العاشر
سلاح الضعيف الحيلة
فسار إلى خلوة الباشا ودخل عليه مسلما بإحناء رأسه كتحية الإفرنج.
فلما رآه الباشا اعتبره لما يظهر على لباسه من مظاهر الرفعة والمجد، فرحب به وأجلسه بجانبه، ثم سأله عن بلاده وإلى من ينتسب، قال وهو يمضغ الكلام في فمه ويقطعه شأن أغراب اللغة الذين لا يحسنون التكلم بالعربية جيدا: إني من أهل هذه المدينة يا سعادة الباشا.
قال الباشا: ولكني أرى في لغتك لهجة إفرنجية.
قال: ذلك لأني أسافر إلى باريس كل سنة لقضاء فصل الصيف فيها. - والعائلة الكريمة من أي العائلات. - إني يا سعادة الباشا من عائلة جندب، واسم عبدكم عزيز.
فنظر إليه مندهشا وقال: من عائلة جندب! وما هي القربى بينك وبين السيد جندب المغربي المتوفى منذ سنتين؟
قال: هو والدي يا سيدي. - هو والدك إذن! فهذا رجل غني، ولم يكن له إلا ولد واحد، وقد ترك له مالا وافرا. - نعم، يا سعادة الباشا، هو والدي، وأنا ابنه الوحيد. - ماذا تتعاطى من الأعمال؟
إني ما أزال في المدرسة، وفي النية متى خرجت منها أن أنشئ جريدة سياسية ليس بقصد الربح، ولكن لأجل المقام وخدمة ذوي المناصب والأعيان مثل سعادتكم.
قال الباشا وقد استبشر: حسنا تفعل؛ لأن أفندينا إسماعيل باشا يحب المشروعات الأدبية، وينشطها كثيرا، ويحب رجال العلم، فإذا جاءه أحد بقصيدة يجيزه عليها بمبالغ طائلة، وقد يمنحه الرتب والنياشين، وكثيرا ما رأيناه ينشط الجرائد بأن يعين منها نسخا عديدة لدوائر الحكومة، فإذا عزمت على إنشاء جريدة فعول.
فقال عزيز: صدقت يا سعادة الباشا، ولكني أظن أن ذلك قد كان دأب سمو الخديوي قبل تشكيل لجنة المراقبة التي تعينت لمراقبة حسابات مالية البلاد برأي الدول، فإن المراقبين قد باشرا مراجعة الحسابات، وأغلا يدي الخديوي عن النفقات غير الضرورية. أفلا تظن ذلك يحول دون نجاح مشروعنا؟
قال الباشا: نعم، إن المراقبين قد أوقفا النفقات غير الضرورية، غير أن إنشاء جريدة وتنشيطها لا يدخل في أعمال المراقبة، وفضلا عن ذلك فإن المراقبة قلما قيدت أعمال الخديوي، حتى إن الوزارة الولسينية التي أدخل الدول فيها وزيرين أجنبيين - فرنسوي وإنكليزي - قلما أثرت في بسط كفه.
قال عزيز: وما قولك في الحكومة الشوروية؟ ألا تظنها تقيد أعمال الخديوي بعد أن كان الحاكم المطلق يمنح ويحسن دون معارض؟ وأما الآن، فإن لمجلس النظار دخلا في كل الإجراءات، جزئية كانت أو كلية.
فقال الباشا: لا يعيقنك ولا يثن عزمك شيء، فإذا عزمت فعول، وما أنت في احتياج إلى الكسب.
قال عزيز: حسنا، ولكن لدي مسألة أخرى مهمة أريد عرضها على سعادتكم، قال: تفضل، قال: قد توفي المرحوم والدي وترك لي مالا طائلا، وليس لدي أحد من ذوي قرباي يتولى إدارة هذه الأموال وأكون على ثقة منه، ونظرا لما هو مشهور عن حسن أمانتكم؛ أتيت أستشيركم في ماذا أفعل.
فاشتم الباشا من كلامه رائحة الربح الكثير، ولا سيما إذا قدر له أن يكون هو الوصي، فقرب كرسيه من عزيز وقال له: يصعب علي أيها الحبيب ألا أساعدك بهذا الأمر؛ لأن الأمناء قليلون، ولا سيما في هذه الأيام، وإذا شئت فإني أبحث لك عمن يقوم لك بذلك، فإذا لم يتأت لنا إيجاد رجل أمين، فإني أتعهد أن أقوم لك بهذه الخدمة؛ لأن والدك - رحمه الله - كان من أصدقائي.
فقاطعه عزيز متلهفا وقال له: إنها منة من سعادتكم إذا كنتم تتعطفون، ولكني أخشى أن يكون في ذلك ثقلة عليكم. أما إذا تم لي الحظ وتوليتم وصايتي، فأكون من السعداء؛ لأني أعلم حينئذ أني سلمت زمامي لمن هو بمنزلة والدي، وأعاهد سعادتكم أني حالما يقسم لي الله الاقتران أرفع عنكم هذا الثقل؛ إذ أكون قد وطنت نفسي.
فكاد الباشا أن يطير فرحا؛ لعلمه بالغنى الوافر الذي ورثه عزيز عن أبيه، وأنه سيحصل على التصرف به إذا تولى الوصاية عليه، ولاح له أيضا أنه سيسعى إلى تحبيبه بابنته وتزويجه إياها، فيصير كل المال إليه. وكان إذا تصور ذلك يختلج قلبه سرورا، ويزيد اعتباره لعزيز، ويتوق إلى حديثه، فتقدم إليه بسيكارة، فتناولها عزيز شاكرا، وجلس يدخن وهو يتنقل بنظره من جهة إلى أخرى؛ تارة إلى المرسح، وأخرى إلى التمثيل، ثم يرفع النظارات ويمسحها بطرف منديله وهو يفكر بوسيلة يعرقل بها مساعي شفيق إذا أراد فدوى؛ لما لاحظ من حبهما المتبادل.
وفيما هما بذلك جاء بخيت يقول: يا سعادة الباشا، إن سيدتي فدوى قد عادت إلى خلوتها، فقال: حسنا. ثم عاد بخيت.
أما عزيز، فعلم أن خروج فدوى لم يكن إلا لمقابلة شفيق خارج الملعب، فازداد حسدا، فأجهد الفكرة لبلوغ مرامه، فاهتدى إلى حيلة، فقال للباشا: أليس الذي خاطب سعادتكم خصيا؟
قال: نعم، هو خصي خرج بابنتي في آخر الفصل الأول لترويح نفسها خارج الملعب، وأتى الآن ليخبرني برجوعها. - وهل السيدة فدوى ابنة سعادتكم.
فتعجب الباشا من ذلك وقال: نعم، هي ابنتي، ومن أين عرفتها؟
قال عزيز : قد عرفت ذلك بطريق الاتفاق. فاشتغل قلب الباشا كثيرا، وتقدم إلى عزيز ليفصح عن كيفية معرفته بها.
فامتنع عن الإجابة أولا بدعوى أن ليس في الأمر ما يوجب الاهتمام، ثم قال: ولكن يجب علي حبا بمصلحة سعادتكم، وصيانة لشرف السيدة كريمتكم، أن أوجه التفاتكم إلى أمر مهم؛ وهو أن الأجدر بكم ألا تهملوا أمر مراقبة الخاتون ابنتكم؛ لأنها جوهرة ثمينة؛ فلا تعهدوا أمرها إلى الخصيان؛ لأن الأمين بينهم قليل.
قال الباشا: الحق في جانبك يا عزيزي، لكني قد عهدت أمرها إلى أفضل من عرفت بين هؤلاء؛ فإن بخيتا الذي رأيته الآن خادم أمين صادق يحب الفتاة حبا عظيما، ويحافظ على شرفها، وقد أظهر أمانته في أحوال مختلفة.
قال عزيز: إن قولي هذا لم يكن إلا على سبيل التعميم، وقد كفى ما أشرت إليه الآن، وعسى أننا نلتقي مرة أخرى للمفاوضة فيما دار بيننا.
قال الباشا: إذا أتيت منزلي غدا نتفاوض مليا. ثم نهض عزيز مودعا وقد أظهر ما استطاع إظهاره من اللطف والرقة والثقة والغيرة حتى حبب الباشا به.
الفصل الحادي عشر
شر الأخلاق المراء
أي شيء يكون أقبح مرأى
من صديق يكون ذا وجهين؟
من ورائي يكون مثل عدوي
وهو إذ يراني يقبل عيني
فخرج عزيز وترك الباشا يفكر فيما سمعه عن ابنته، وقد وجه انتباهه من ذلك الحين إلى مراقبتها وهو لا يزال واثقا بتعقلها وعفافها، فلم يمنعها شيئا مما اعتادت عليه من ضروب المعيشة والذهاب والإياب، ولكنه صار يلاحظ أميالها عندما تسنح له الفرص، على أن اهتمامه الأعظم كان منصرفا إلى ما أمله من الكسب إذا تولى الوصاية على أموال عزيز.
وحينما كان عزيز عند الباشا يكلمه بشأن ابنته كان بخيت واقفا عند الباب، فسمع كل ما دار بينهما، فبادر قبل خروج عزيز واختلى بشفيق يقص عليه حكاية صديقه بسرعة؛ خوفا من أن يدركهما عزيز، وعند نهاية الخبر قال: لا بد لنا من تأجيل اجتماعك بسيدتي ريثما تذهب الشبهة عنها.
فبهت شفيق لما سمع من كلام بخيت ، ولكنه لم يقطع بأن عزيزا اجتمع مع الباشا قصد السعاية أو التفريق بينهما؛ لما كان وعده به من المساعدة عند عودهما من الجزيرة، فصبر نفسه ريثما يتحقق الخبر.
أما عزيز فخرج من خلوة الباشا توا إلى خلوة شفيق، فلم يره فيها، فبحث عنه حتى لمحه منفردا ببخيت، فتغاضى عنهما حتى افترقا، ثم سار إلى شفيق وهو يظهر الخجل. ولعلمه أن بخيتا أطلعه على كل ما دار بينه وبين الباشا، بادره قائلا: اعذرني يا عزيزي؛ فقد أطلت الغياب عليك. أما إذا أطلعتك على ما فعلته، فإنك تعذرني. وأراد بذلك أن يرفع الشبهة عنه. ثم قال: وما هو الوقت الآن؟ فقال: نحن في منتصف الليل، وقد انقضى التمثيل وارفض الجمهور؛ فهيا بنا.
فقال عزيز: هيا بنا نتمم سرورنا بمشاهدة احتفال فتح الخليج. وخرجا من الملعب واستدعيا العربة.
فقال شفيق: قد كفانا ما لقيناه الليلة، ولا شك أن والدي في قلق عظيم على تأخري، وقد أنهكني السهر؛ لأني لم أعتد عليه.
قال عزيز هازئا: من ينام الليلة وهي ليلة فتح الخليج؟ أما والداك فلا أظنهما يتقاعدان عن الذهاب إلى هذا الاحتفال؛ لأن أهل القاهرة عموما، صغارا وكبارا، يذهبون هذه الليلة إلى هناك. وما زال يحاول إقناعه حتى أتت العربة فأمسك بيده وأجلسه فيها، وركبا يريدان فم الخليج وكلاهما تائه في عالم هواجسه؛ هذا يصعد بأفكاره إلى العفاف والحب الطاهر، وذاك يهبط بها إلى الدناءة والخيانة. والأمر العجيب أن أفكارهما مع تناقضها تنتهي بهما إلى نقطة واحدة هي فدوى.
أما شفيق فهذه أول مرة خامر ضميره الريب في صداقة عزيز على أثر ما سمعه عنه، فأراد مكاشفته لئلا يكون فيما بلغه عنه تحامل عليه.
وفيما هما بأثناء الطريق قال شفيق: إن الصداقة التي بيننا تقضي علي بمكاشفتك في أمر سمعته، وقد ساءني حصوله؛ فأرجو ألا يكون صحيحا.
قال: ماذا بلغك؟ قال: بلغني أنك تركتني وذهبت لمسامرة إحدى النساء، وقد أفضى بك الأمر إلى الحديث مع بعض الناس بما لا يوافق مصلحتي.
قال عزيز نازعا سيكارته الثخينة من فيه وهو يتميز غيظا كأنه سمع ما يحط من قدره، وقد أدرك أن شفيقا علم كل ما دار بينه وبين والد الفتاة فقال: إني مسرور من مكاشفتك إياي بما في ضميرك أيها العزيز؛ إذ ربما ترفع عني بذلك وقيعتك بي، فتبرئني مما خامرك من الشك في صداقتي؛ وبناء عليه سأطلعك على حقيقة الخبر؛ ليتحقق لديك صدق طويتي لك، فإني لم أفعل ما فعلته إلا سعيا إلى مصلحتك قياما بوعدي؛ لأني توسمت من ميلك إلى فدوى على أثر إنقاذك إياها من مخالب الموت ما حملني على السعي سرا إلى ما يسهل اقترانك بها. ولا بد لنا في ذلك من الحكمة والتعقل.
أما الامرأة التي أشرت إليها، فهي التي سيكون عليها معتمدنا في مرغوبنا؛ لأنها عجوز محنكة، ولها إلمام تام بدخائل بيت الباشا، وقد علمت منها أن الوسيلة الفضلى لنوال بغيتنا إنما هي استجلاب خاطر والدها، فجالسته في خلوته مدة، وبعد الإفاضة معه بالحديث استطردت إلى الخوض في قضيتنا، فجئته من حيث رجوت التطرق إلى الغرض، فنبهت أفكاره إلى وجوب الاحتراس على ابنته، وعدم الإباحة لها في الخروج وحدها، راجيا بذلك أن يسألني عن الخطر الذي يترتب على ذلك فآتي على ذكرك، وما كان من أمر إنقاذك إياها من خطر العار والموت، وأستطرد إلى ذكر صفاتك، ثم ألمح إلى مناسبة اقترانك بها، ولكني لم أستطع الوصول الليلة إلى هذا الحد؛ لأني رأيت منه إعراضا عن الموضوع، فاقتصرت على قصد أن أعود إلى ذلك في فرصة أخرى.
وكان عزيز يتكلم بمظهر السذاجة إيهاما لشفيق، فأخذه شفيق مأخذ الإخلاص وقال له: إني يا عزيز غير طامع في نيل الفتاة؛ لبعد الحالة بيني وبينها، ولا أقول: إني أريدها، إنما أقول: إني لا أطمع فيها.
فالتفت عزيز إليه بغتة حتى وقعت النظارات عن عينيه وكادت تنكسر، فمد يده إليها ورفعها وهو يمسحها بطرف منديله ويمسح آماق عينيه قائلا: وإذا اعتبرت الحقيقة فأنت جدير بها وبأعظم منها. لا أقول ذلك تحقيرا لها في عينيك ؛ لأنها فتاة غنية، وقد زينها الله بكمال الذات والصفات، ولكنك أنت أيضا شاب نادر المثال بآداب نفسك، وذكاء عقلك، فلو طلبت أي ابنة أردتها لنلتها ونلت معها مالا وافرا؛ لأن هذا العصر عصر الشبان، وهم الذين ينالون المهر. وذلك أمر مشهور.
فأجابه شفيق هازئا: إن التعقل والرزانة والتأدب جواهر لا تباع ولا تشترى، على أن «الدوتا» ليست من عادتنا نحن الشرقيين، ولو أدركت لطف هذه العذراء وأدبها لعلمت أنها ليست ممن يدفعن المهور.
فقال عزيز متبسما وهو يتقد غيرة وحسدا، وقد عمد إلى تحقيرها في عينيه، مشيرا بيده الطويلة على قامته القصيرة: إني لا أنكر عليك شيئا من ذلك، ولكن لدي ملاحظة؛ فاسمح لي بإبدائها.
قال شفيق: قل ما بدا لك، فقال: إن مثلها - ولا أخفي عنك - لم يحسن بها أن تبقى في الجزيرة وحدها في مثل هذا الليل الدامس، حتى عرضت بنفسها إلى الخطر الذي عرفته.
فاستعرت نار الغيرة في قلب شفيق، وأحس كأن تلك الإهانة قد لحقته هو، ولم ير بدا من دفعها عن مالكة لبه، فقال وقد بدت علائم الخجل على وجهه: كلانا يعلم، يا عزيز، أنها لم تذهب إلى الجزيرة لتبقى هناك إلى الليل، وأنت نفسك أخبرتني أن سائق المركبة أعاقها بتواطؤ مع ذاك الرجل الذميم، فهل يحط ذلك من قدر أدبها وتعقلها؟
فلما رأى عزيز ما يتخلل كلام شفيق من الغيرة الشديدة على صحة أدب فدوى تلوى تلوي الحية، وقد اشتعل فؤاده حسدا؛ إذ لم ير من الإيقاع بها إلا إثارة عواطف شفيق للدفاع عنها، فكظم غيظه، وخاف إذا اختلق عليها أكذوبة أخرى أن يقع في شر أعماله، فينكشف أمره، وتحبط مساعيه، فصمت وهو يتلاهى بعصا عقفاء كانت بيده يضعها بين شفتيه، ثم يعود فيلعب بها أصابعه، حتى حول إليه بصره قائلا: لا أقول لك يا عزيزي إنها بقيت في الجزيرة إلى ذلك الحين باختيارها، وإنما قلت إن ذلك التأخير ربما أضر باسمها، ولا أجهل أن ما حصل لها هو عن غير إرادتها، ولو تنبأت بحصوله ما خرجت من بيتها قط.
قال ذلك إخفاء لما كاد يظهر من حسده وغيرته، ولكن قلبه ما برح يزداد بغضا وحسدا لشفيق، حتى حدثته نفسه أن يفتك به في المركبة؛ ظنا منه أنه يستطيع بذلك الظهور أمام والدها مظهرا آخر، فيدعي أنه هو الذي أنقذها من مخالب الموت، وأنه استخدم شفيقا آلة له، ولكنه لم يجسر على ذلك لعلمه أن شفيقا أشد منه بطشا، فعمد إلى الحيلة شأن الضعيف الساقط.
الفصل الثاني عشر
لقاء الضائع وشكوى الغرام
وبينما هما في الحديث وصلت العربة إلى ساحة فم الخليج والاحتفال قد انقضى، ولم يبق في الساحة إلا نفر قليل، فسر شفيق لذلك؛ لأنه كان قلقا لطول غيابه عن والديه معظم ذلك الليل الذي لاقى فيه الأهوال.
فقال لعزيز: هيا بنا إلى منازلنا؛ فقد انقضى معظم الليل وأنا واجس من قلق والدي علي.
قال عزيز: إني أضن بفراقك يا عزيزي؛ لأني لا أسر إلا بمشاهدتك، وقد كانت هذه الليلة لدي من أسعد الليالي. أما إذا كان لا بد لك من العود الآن، فإني أشيعك لئلا تصيب وحشة في الطريق. قال ذلك وأمر السائق فحول الأعنة إلى شارع العباسية. فعادا وكلاهما هاجس فيما لاقاه تلك الليلة من غرائب الاتفاق، حتى وقفت العربة أمام باب بيت شفيق وقد سمعا صوتا من إحدى النوافذ ينادي: شفيق، شفيق. فعرف شفيق أنه صوت والدته فأجابها: لبيك يا أماه.
فقالت: ما هذا التأخر يا ولدي؟ ألا تدري أن والديك على مثل الجمر لطول غيابك؟ ما عهدتك على مثل هذا يا شفيق. وهرولت لملاقاته، فأسرع إليها عزيز وهم بتقبيل يديها احتراما، فمنعته من ذلك وردت عليه التحية، لكنها لم تكن مسرورة من مرافقته لابنها.
ثم التفتت إلى شفيق وقالت له: أيليق بك يا ولدي أن تطيل علينا الغياب بدون أن تعلمنا؟
فأجابها متعجبا: ألم يصلكما الخبر بذهابي مع صديقي عزيز إلى احتفال فتح الخليج؟ قالت: لا، فأطرق عزيز وقد دفع الأرض برجله متظاهرا بالكدر وقال: يبان لي أن الخادم قد نسي أو توانى في إبلاغكم الخبر بذهابي مع عزيزي شفيق؛ فلا بد لي من عقابه وطرده. ثم ودعهما وخرج.
فقالت سعدى لشفيق: أين والدك يا بني؟ قال: لا أعلم. ألعله خرج في أثري؟ قالت: نعم، فقال: والله يا أماه إني آسف لما حملتكما من المشقة هذه الليلة، ولكن ثقي بأني لم أتأخر إلا لوثوقي باطلاعكما على خبر ذهابي. فأخذته بيده حتى دخلت به المنزل فسألته: هل تناولت العشاء يا ولدي؟ قال: نعم، فقالت: أتدري أننا لم نذق طعاما ولم نعرف رقادا حتى الآن؟ فقال: سامحيني يا أماه؛ لأني لم أفعل ذلك عمدا.
ثم دخلا حجرة المائدة وقد أعد الخادم ما حضر، فدعت ابنها ليواكلها فأجابها وجلسا يتناولان الطعام وهما قلقان على غياب إبراهيم، فأعاد شفيق السؤال عن أبيه، فقالت: لا خوف عليه؛ لأنه خبر الدهر فعرف خله من خمره، ولعل تأخره في شاغل مهم، ولا يلبث أن يعود. ثم استطردت إلى السؤال عن سبب تغيبه كل تلك الليلة.
فقال: كنت في احتفال فتح الخليج كما أسلفت لك، فقالت: لم أعهد بك التلبس بغير الواقع؛ فإنك لم تكن في ذلك الاحتفال.
فتعجب شفيق لمعرفتها ذلك، فقال: من أين لك أني لم أكن هناك؟ فقالت: ألست مصيبة؟
قال: نعم يا أماه، وإنما أسألك العذر، وسأقص عليك الخبر على أن تبقيه في سرك ولا تطلعي عليه أحدا حتى والدي. ثم جلس يقص عليها الحكاية من أولها إلى آخرها وهي مقبلة عليه بسماعها، وقد استغربت ما صادفه تلك الليلة من الغرائب، حتى إذا أتى إلى حديث الفتاة احمر وجهه، وأندى جبينه، وكاد يمتنع عليه الكلام، فاندهشت والدته وخافت عليه من سلطان الغرام وهو لا يزال يافعا غض الشباب، فقالت له: وكيف أحببتها لأول نظرة وأنت لا تعرف عنها شيئا؟
قال: أعترف لك أني أجهل السبب، ولكني أعلم أني شعرت نحوها بما لم أشعر به نحو أحد في هذا العالم بعد، ولا أخفي عليك أيضا أني شاهدت من محبتها لي ما لا يقل عن ذلك، ولكن آه يا أماه! (وكاد يشرق بالطعام) فبادرته قائلة: لا بأس عليك يا ولداه! مما تشكو؟
فترقرقت عيناه بالدموع وقال: اعذريني، اعذريني يا أماه لأني لا أملك حواسي. - ما لك يا حبيبي؟ خفض من اضطرابك ولا تخف عني ما بك.
قال: أحبها يا أماه، نعم أحبها حبا مفرطا. ولم يتمالك عن البكاء، فخافت عليه أمه من شدة الانفعال، فترامت عليه وضمته إلى صدرها وقبلته قائلة: لا تخجل يا ولداه؛ إن المحبة إذا قرنت بالشرف والشهامة لا حياء بها ولا خجل، فسكن روعك، واشرح لي كيفية حبك لها، وهل تحس نحوها بحب قلبي؟ - أحبها يا أماه حبا لا أفهم كيفيته ولا مقداره، ولكني أحس أن له تأثيرا في كل جوارحي؛ كأنه جرى مجرى دمي في مفاصلي، فقالت: كأني بك تميل إلى الاقتران بها.
فأطرق حياء وخجلا وقد مال إليها مجهشا كأنه يريد التكلم ويرى دون طلبه عقبات، حتى قال: أميل يا أماه، ولكن ماذا ينفع الميل وبيني وبينها بون عظيم، وأنا في أصعب الأحوال؟ لا أعلم حقيقة مستقبلي.
فرق قلبها له، وغلب عليها الحنو فقالت: إني أعرف الفتاة يا ولدي، وقد سمعت عن تهذيبها ولطفها وذكائها من فلانة جارتنا، فلا ألومك على حبك لها، لكن لا يخفى عليك صعوبة مركزك، وما يحول بينك وبين الافتكار بهذا الأمر، فضلا عن أن الفتاة من عائلة عريقة في الحسب والنسب، وذات ثروة عظيمة، فاجتهد أن تكون رجلا عظيما فتستحقها، ولا يأخذ منك اليأس مأخذه، فطالما كنت ذكيا مهذبا، صادق اللهجة، صحيح المبادئ، مقداما، لا يمنعك مانع من الارتقاء ودوس كل ما يعترضك من المصاعب. ومما يساعدك على نيل مطلوبك كون حبكما متبادلا؛ فلا تخف ميلها إلى سواك، وأطلعها على حقيقة حالك؛ فإن كانت أهلا لحبك، والحب متبادلا؛ رضخت لسلطان الهوى، وساعدتك في مرادك، إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا، وإلا فهي ليست أهلا لك؛ فالتحجب بك أولى، ونسيانها منك أحرى.
إن كلامك الحي أيتها الوالدة الحنونة قد نبه في أشرف المبادئ، ورقى أفكاري إلى درجة لا أرضى معها التزلف والمذلة، ولكن آه يا أماه!
سهم أصاب وراميه بذي سلم
من في العراق لقد أبعدت مرماك
فأين أنا الآن مما تقولين؟ وكم هو الزمن الذي يؤكد لي حقيقة مستقبل أستحق به فدوى، حتى إذا فرضنا المستحيل وتأكدنا ذلك النجاح الموهوم، فهل تبقى فدوى إلى ذلك الوقت كما هي الآن؟ لقد أبعدت يا أماه مرماك.
فقالت له: الحب يعمي البصيرة يا ولدي. كن حازما ولا تطع هواك، فأين أنت الآن من نيل تلك الفتاة ولا تزال تلميذ مدرسة لا مهنة لك ولا منصب يقوم باحتياجاتك؟ فضلا عن أن أباها لا يزوجها إلا لمن يماثلها ثروة، أو لمن هو مشهور بين رجال الأعمال. ولا أظنك إذا نلتها ترضى أن تعيش من مال أبيها.
فقال: كلا، وأظنها إذا عرفت بأني لست شيئا مذكورا يفتر حبها؛ فلا بد لي من السعي إلى العلاء إرضاء لها، ولو كلفني ذلك شق الأنفس. على أنها لو رضيت هي فأنا لا أرضى.
قالت: أرى من الرأي بعد انقضاء الامتحان النهائي في المدرسة التجهيزية أن تتلقى فن المحاماة أو الطب.
فقال شفيق: أما الأول فلا بد لي في درسه من المسير إلى أوروبا، وأما الثاني فيقتضي لدرسه ست سنوات، وإذا قلت فخمس.
قالت: كيف يمكننا الاصطبار على بعدك سنتين وقد رأيت قلقنا عليك الليلة؟ أما الطب فربما استطعنا بوسيلة ما أن نجعل مدة الدرس فيه أربع سنوات، فقال: ننظر في ذلك غير مرة. وأنا الآن في قلق على والدي. ثم نظر إلى الساعة فإذا هي الثالثة بعد نصف الليل، وفيما هما في ذلك دخل الخادم يقول: في الباب جاويش، وفي يده كتاب لك يا سيدتي، فقالت: هاته. فجاءها به، فتناولته وسألت: من أين هذا؟ قال: من المعية السنية يا سيدتي. فاضطرب قلبها وارتعدت فرائصها حتى لم تقو على فضه، فرمت به إلى المائدة وقد اغرورقت عيناها بالدموع، فقال شفيق: ما الداعي لهذا ونحن لم نطلع على مضمونه؟ أتأذني لي بفضه، فأذنت له ، ففضه فإذا فيه: لا ينشغل بالك على غيابي الليلة؛ لأني دعيت وأنا خارج من البيت إلى المعية السنية، وسأبقى إلى الغد، فاكتبي لي عن مجيء شفيق مع ناقل هذا. فلما قرأ الكتاب زال اضطرابهما وقلقهما، فكتبت إليه تخبره عن عود شفيق، فعاد الجاويش ولبث شفيق ووالدته برهة تائهين في عالم من الهواجس حتى اقترب شفيق من والدته يسألها: ما معنى هذه الدعوة في هذا الليل؟ وما هي علاقة والدي مع المعية؟ فما هو من مستخدمي الحكومة المصرية، ولا من أصحاب الأملاك!
فقالت: لا يخفى عليك يا ولدي أن والدك من مستخدمي قنصلاتو إنكلترا، وأنت تعلم ما تسعى إليه هذه الدولة مع فرنسا بشأن مصر، حتى أصبح مركز الخديوي في خطر، وبما أن والدك من محبي الحكومة المصرية، بعثت إليه المعية للسؤال عن بعض تلك الشئون، وقد فعلت ذلك قبل الآن، ثم قالت: لا خوف عليه - بإذن الله - ولكني خشيت بادئ بدء أن تكون الدعوة من أفندينا رأسا؛ لما أخشاه من عواقب مثل هذه الدعوة.
ثم سار كل إلى فراشه ولم يبق من الليل إلا القليل.
الفصل الثالث عشر
فتح الصندوق
أما شفيق فقضى ما بقي من الليل في هاجس من الافتكار في فدوى ورضاها عنه، وما دار من الحديث بينه وبين والدته بشأنها.
أما والدته فحالما طاب قلبها على ولدها وزوجها عادت إلى الافتكار بأمر الصندوق، وقد ساءها ما حدث تلك الليلة مما أخر فتحه، ولكنها صممت على السعي إلى فتحه حين مجيء زوجها قياما بوعده لها.
وفي الصباح التالي، لم يستيقظا إلا على طرق الباب، وإذا بإبراهيم قد عاد بخير، فسأل شفيقا عن سبب تأخره بالأمس، فقال: إنه كان باحتفال فتح الخليج، ولم يخبره شيئا عن أمر فدوى، فعنفه على ذهابه بدون إعلام، فاعتذر وساعدته والدته على إلقاء التبعة على خادم عزيز؛ لأنه لم يأت لإعلامهما، فاكتفى بذلك، ثم سار شفيق إلى المدرسة كجاري العادة.
وأتت سعدى إلى زوجها تسأله أن يفتح لها الصندوق حسب وعده، فبهت برهة ثم قال: أنصح لك يا سعدى أن تتغاضي عن هذا الأمر؛ لأني لا أرى في فتحه إلا ما يزيد قلقك.
فقالت: كلما زدت تمنعا ازددت بفتحه رغبة؛ فأنجز بوعدك؛ فالحر إذا أنجز.
فقال: أنجز بالوعد، لكني أنصحك أن تكفي عن طلبك. فلم تقبل حتى أخرج من جيبه مفتاحا صغيرا، والتفت يمنة ويسرة حتى تحقق خلو المكان من الناس، فتناول الصندوق وأولج فيه المفتاح ويده ترتعش، وسعدى تحوم ببصرها نحوه حتى رفع الغطاء عنه، فانتشرت منه رائحة كريهة، ورأت شيئا أسود، فتأملته فإذا به خصلة من الشعر قد اغبر لونها على طول المكث في ذلك الصندوق، فهمت إلى لمسها، فمنعها إبراهيم قائلا: أمعني بنظرك ولا تمدي يدك. فأحدقت بنظرها فإذا بشعر كث متكاثف يتخلله أثر دماء قد أكمد لونه على بعد الزمن، فلما عاينت ذلك أخذتها الرجفة، فامتقع لونها، ومالت إلى استطلاع الحكاية، فلم تجسر على مفاتحة زوجها بها؛ لما اشترطه عليها، فأخذتها الدهشة لشدة التأثر حتى لم ترفع نظرها من الصندوق إلى أن أقفله إبراهيم وأعاده إلى مكانه، ثم نظر إلى سعدى وقال لها: أرأيت كيف ازددت قلقا بعد فتحه منك قبله، فأجابت وقد زاد اضطرابها: إني لفي قلق عظيم إن لم تطلعني على الحكاية، وإلا فإني الجانية على نفسي بهذا القلق، فهل لك أن تقصها علي؛ فقد عدمت الصبر؟
فأحدق بها وقد ظهرت على وجهه أمارات الحزن والكآبة كأنه تذكر مصائب قديمة كانت قد تنوسيت على طول المدى، وقال: إني أخلصت لك النصيحة فلم تقبلي، فأنا بريء من تبعة ما تقاسينه من القلق؛ لأني لا أستطيع إلا المحافظة على ما اشترطته عليك، ولو ألمحت لك عن الحكاية ما ازددت إلا قلقا، وما اكتفيت إلا بالتصريح، ولكن لا بد من مجيء وقت أطلعك فيه على تفصيل الخبر؛ فأقصري - ناشدتك الله - إذ لا فائدة من إلحاحك، وليس الأمر في يدي.
قال ذلك ونهض إلى ثيابه فتبدل وخرج إلى شغله. أما سعدى فبقيت مشتغلة الخاطر منقبضة النفس، وقد تحولت طلاقة وجهها إلى العبوسة لا يهدأ روعها إلا باطلاعها على هذا السر.
أما إبراهيم فكان أكثر منها انقباضا، وقد زاد قلقه لتذكره أحزانا كادت تزول من ذاكرته.
الفصل الرابع عشر
الامتحان السنوي
مضت عدة أسابيع بعد تلك الحوادث وعزيز يتردد على الباشا ويؤمله بما دار بينهما من الحديث، حتى كان وقت الامتحان العمومي في المدرسة التجهيزية باحتفال شائق في سراي درب الجماميز، حضره الخديوي وسائر الوزراء والأعيان كجاري العادة، فتقدم التلامذة للامتحان الجهاري، وكان الخديوي يراقب مقدرة كل فرد إلى أن كان دور شفيق، فأجاد في أجوبته حتى استدعى انتباه العموم له، فأعجب الخديوي بذكائه وفطنته وما يزينهما من الرزانة والكمال، فاستدعاه إليه على مشهد من الحضور، فلما مثل بين يديه وقف متأدبا.
فقال له: ما اسمك؟
قال: عبد سموكم شفيق إبراهيم.
فالتفت الخديوي إلى سر ياورانه يسأله إذا كان يعرف والده، فقال: إنه من مستخدمي قنصلاتو إنكلترا، فأظهر أنه يعرفه، ثم التفت إلى شفيق قائلا: عفاريم أوغلم عفاريم. يعني أحسنت يا بني أحسنت، وصرفه فعاد إلى مكانه فرحا لما لاقاه من استحسان ولي النعم، والناس تصفق له تهنئة بما نال، فلما ارفض الجمهور تقدم ناظر المدرسة إلى والد شفيق - وكان من جملة الحضور - فبلغه أن الجناب الخديوي قد أمر بإرسال شفيق إلى أوروبا لإتقان العلوم فيها على نفقة الحكومة، فأثنى على إنعام الجناب العالي وعلى وجهه علامات المسرة؛ لما حازه ابنه من التفات ولي الأمر، ثم أتى شفيق إلى والده فهنأه بنجاحه، وخرجا والناس ينظرون إلى شفيق ويعجبون من رصانته وذكائه؛ لأنه مع هذا الفوز لم تأخذه هزة الطرب، أو تبد على وجهه علامات الإعجاب والخفة.
أما عزيز فكاد يقضي عليه حسده من شفيق، ولكنه كظم غيظه وجاءه مهنئا بما ناله من الإنعام، ثم سار شفيق ووالده.
فلما وصلا البيت وعلمت والدته بما ناله من الالتفات فرحت لنجاحه، وكدرها أمر فراقه، فأخذ يخفف عنها ويهون عليها، وقال تسلية لها وتطييبا لخاطرها: إنني إذا تغيبت عنك ثلاث سنين أو أربعا لدرس فن المحاماة، فإني أتقنه ويسهل علي الدخول إلى أحد المناصب المهمة؛ كالقضاء مثلا، فإنه منصب جليل يتمناه كثيرون ولا ينالونه، فقالت وقد أعجبت بكلام ولدها وأخفت كدرها: متى يكون ميقات السفر؟ فقال: لا أظن ذلك يتم قبل بضعة أسابيع، فقالت: الأمر لله يفعل ما يشاء.
وكان ممن حضر الامتحان والد فدوى، فأعجب بما ناله شفيق من التفات الخديوي، وقد أحبه لما عاين من ذكائه ولطفه، فلما عاد إلى بيته وجلس إلى المائدة مع عائلته وصل به الحديث إلى حكاية الامتحان، فأطنب بشفيق وصفاته، فلما سمعت فدوى اسم مالك لبها اختلج قلبها في صدرها، وعلا وجهها الاحمرار، وأخذت أطرافها بالارتجاف، ولكنها تشاغلت بتقطيع فاكهة كانت أمامها، ولم ترفع بنظرها إلى والدها إخفاء لما كاد يظهر على وجهها من ظواهر الوجد، ولكنها كانت تود تحقيق الخبر لتعلم إذا كان شفيق الحكاية هو شفيقها، فلبثت تنتظر ما يجيئها به الحديث، فلم تستزد علما، فأملت نفسها أن في الغد تأتيها جريدة الأهرام بتفصيل الخبر، فلبثت تستعد الدقائق، وترقب الساعات وهي في هاجس عظيم، حتى كان الغد وأتى عدد من الأهرام إلى والدها، فتلقته وفضته، وأول ما حولت نظرها إلى رسالة العاصمة، فإذا فيها: «قد أنعمت الحضرة الفخيمة الخديوية على جناب الشاب الأديب شفيق أفندي إبراهيم بالتوجه إلى الديار الأوروبية؛ لدرس فن المحاماة في أعلى مدارسها على نفقة الحكومة السنية؛ وذلك لما شاهد سموه من ذكاء هذا الشاب ونشاطه.» فكانت فدوى تقرأ وقلبها يختلج بين الفرح والوجل؛ إذ قد سرها تعطف الخديوي عليه؛ لعلمها أنه إذا صار قاضيا يكون أقرب إلى إرضاء والدها، ولكنها أشفقت أن يكون في غيابه ما يضعف أملها بنيله، فذهبت إلى حجرتها واستدعت بخيتا؛ لتطلعه على ما يطويه فؤادها من أمر شفيق؛ لأنها لا تقدر أن تكاشف أحدا من الناس بما يدور في خلدها من الحب والوجد إلا هذا العبد الأمين، فقالت له: هل سمعت بما تم لحبيبي شفيق؟ قال: نعم، قرأت عنه في جريدة الأهرام، فقالت: إن نجاحه وفوزه مما يفرحني ويزيده اعتبارا في عيني، غير أن سفره إلى أوروبا لا ينتهي قبل أربع سنوات، ومن يدري ما يأتيه الزمن من الحسنات والسيئات؟ وقد قيل: «الدهر في الناس قلب.» وأوروبا بلاد تشغل الأم عن رضيعها (ثم تنهدت ونظرت إلى بخيت كأنها تستطلع رأيه).
فبادرها قائلا: قد آنست يا سيدتي بهذا الشاب شهامة ومروءة فوق ما سمعت عنه، وأظنه إذا عاهدك لا ينكث بعهده، فقلب المحب الصادق لا يميل إلى الهوى. وقد فهمت أنه يحبك مثل حبك له أو أكثر، فإذا رأيت أن أذهب إليه فأسأله موعدا تجتمعان به فتتفاوضان فعلت؛ لعلك تثنينه عن السفر، أو تبرمين معه عهدا. فأطرقت برهة ثم رفعت بصرها إليه وقالت له: حسنا تفعل يا بخيت، غير أنك لا تدع مظنة لوالدي بتخلفك عني وذهابك من البيت بأمري، فترقب فرصة يكلفك بها والدي الذهاب لقضاء أمر فتتوجه إلى شفيق؛ لئلا يظن بي والدي سوءا؛ لأني أراه يراقب ذهابي وإيابي على أثر ما سمعه من ذلك الشاب المتفرنج، كما أخبرتني.
فقال بخيت: إن احتفال المولد أفضل موفق لاجتماعكما إلا إذا ذهب سيدي والدك إليه، فنعود بصفقة المغبون، فأرى أن نعين يوما تذهبين فيه إلى النزهة في أحد المنتزهات؛ فلنختر اليوم العاشر من هذا اليوم فتذهبين بمركبتك إلى قصر النزهة في شارع شبرا، فنتخذ وسيلة نقوى بها على الدخول إلى الحديقة وندخله معنا، وحينئذ يخلو لكما الجو.
فقالت: نعم الرأي، فقال: حيث استحسنته فها إني ساع إلى قضائه.
الفصل الخامس عشر
عاقبة الخيانة الفشل
وفي مساء ذلك اليوم، خرج شفيق من بيته قاصدا العباسية لترويح النفس، وكان مطرقا في الأرض كمن يفكر بأمر ذي بال لا يحول بصره إلى شيء من البنايات المزخرفة، والحدائق الغناء التي على جانبي الشارع، فكأنه منشغل بتصوراته الغرامية عن النظر إلى تلك المناظر اللطيفة، وبينما هو على هذه الحال اعترضه بخيت بالسلام، فرفع بصره إليه، ولما عرفه خفق قلبه شوقا وهياما إلى ساكنة فؤاده، فرد عليه التحية وسأله: ما وراءك؟ قال: جئتك بأمر من سيدتي، وكنت ذاهبا إلى محلك فأسعدتني الصدف بلقياك هنا.
قال شفيق: هات ما عندك.
قال: إن سيدتي قرأت في جريدة الأهرام عما أنعمت به عليك الحضرة الخديوية، فسرت لفوزك، وتكدرت لما علمت من عزمك على السفر إلى أوروبا قريبا.
قال شفيق: للضرورة أحكام، وقد قيل: «تجري الرياح بما لا تشتهي السفن.» فما العمل إذن؟
قال: إنها تود مواجهتك قبل سفرك، فهل لديك مانع؟
فظهرت علائم الدهشة والاستبشار على وجه شفيق، فقال: لا مانع لدي، فهل عينت المكان والزمان؟
قال: أما الزمان فهو أصيل يوم العاشر من هذا، وأما المكان فهو قصر النزهة بسكة شبرا.
فقال شفيق: سأكون هناك في الوقت المعين، فبلغ السيدة فدوى احترامي. ثم ودعه بخيت وذهب فأخبر سيدته بما كان.
أما شفيق فعاد إلى بيته ولبث ينتظر الميعاد المضروب وهو في هاجس عظيم إلى أن كان اليوم العاشر، فركب عربة وأمر السائق فسار إلى شارع شبرا. والشارع يومئذ من أجمل متنزهات القاهرة؛ يشرف على أرض قليلة السكن تتخللها مروج خضراء، وحدائق غناء، وعلى جانبي الشارع أشجار باسقة كثيفة، ملتفة الأغصان، تكاد لا تخرقها أشعة الشمس. وكان الخديوي يخرج إلى هذا الشارع بموكبه أيام الجمعة والناس حواليه جماعات من العظماء والأمراء بمركباتهم؛ احتفاء به، وتيمنا بطلعته. أما في الأيام الأخرى فالذاهبون إليه قليلون، كما كانت الحال في ذلك اليوم.
فلما وصلت العربة بشفيق إلى قصر النزهة لم يحاول الدخول إليه؛ لعلمه بامتناع ذلك إلا على بعض الناس، فنظر إلى الساعة فإذا هي في الثالثة ونصف، وميعاد الاجتماع في الرابعة، فأمر السائق أن يسير به ذهابا وإيابا لقضاء نصف الساعة ريثما تصل حبيبته، فلما صارت الرابعة ولم تأت اضطرب باله، فقال للسائق أن يعود به الهويناء؛ لعله يلتقي بعربتها في أثناء الطريق، فعاد حتى اقترب من منتصف الشارع، فلم يشاهدها، فأوجس من تأخرها خيفة، وأمر السائق فوقف. أما هو فبهت مفكرا بسبب تأخرها، وقد اشتدت هواجسه حتى نسي موقفه إلى أن نبهه صوت المجري، فالتفت فإذا بها عربة فدوى، فخفق قلبه ، وأخذته رجفة الحب، وعلا وجهه احمرار الخجل، ثم عقبه اصفرار الوجل؛ لهول ذاك الملتقى وهو يفكر كيف يقابلها. وقد زاغ بصره لتحديقه بعربتها، فرأى فارسا متلثما قد اعترض السائق وأمره أن يعرج إلى سواء السبيل في مضيق هناك. فلما رأى شفيق جسارته ظن أنه يريد بحبيبته سوءا، فارتعدت فرائصه من الغيظ، واشتعل قلبه غيرة على فدوى، فقال للسائق: أسرع إلى حيث هذا اللئيم. وأشار بيده إلى ذلك الفارس الملثم، فلما وصل أو كاد نادى به: يا لئيم، ما قدرك لتعترض السيدات على قارعة الطرق؟ اخسأ يا أخس الرجال.
أما الفارس فحول عنان جواده ولم يفه ببنت شفة، وعاد شفيق إلى عربته بعد أن أومأ إلى فدوى إيماء التحية، وسارت العربتان توا إلى القصر فوقفتا، ونزل بخيت ينظر في وسيلة للاستئذان بالدخول، ولبث كلاهما يتسارقان اللحظ وهما في انتظار عود بخيت على مثل الجمر؛ ليدخلا الحديقة ويتفاوضا بما تتحدث به القلوب. وكان كلاهما خائفا من عيون الرقباء، وقد فعل بهما الحب فظهر تأثيره، وأخذت بهما رجفته، وقوي عليهما الخجل حتى لم يقدرا أن يديما النظر بعضهما إلى بعض، وفيما هما على تلك الحالة سمعا صوت مسير عربة فحولا بصرهما إليها، فعرف شفيق أنها عربة عزيز، فأوجس خيفة من مجيئه وقال: هذا عزيز. فتشاءمت فدوى منه، وأنزلت ستارة النافذة وهي ترتجف من الغيظ.
أما هو فأوقف عربته بإزاء عربة شفيق وحياه تحية المشتاق، فرد عليه التحية وقد ثقلت عليه مقابلته، فتجلد وخفض من اضطرابه وقابله ببشاشة ولطف.
فاقترب عزيز منه وهمس في أذنه قائلا: إنني سررت جدا لائتلاف قلبيكما؛ فلا أحب أن أثقل عليكما؛ فاسمح لي بالذهاب وهم بوداعه، فشكره شفيق ثم سأله عما جاء به إلى هناك.
قال: خرجت للنزهة فأسعدني الحظ بلقياكما، فاسمح لي بالذهاب، وليوطد الله بينكما دعائم المحبة، ثم ودعه وعاد إلى عربته، وأمر السائق فعاد. أما سبب مجيئه فهو أنه ما انفك من ليلة الأوبرا يراقب حركات فدوى بمساعدة دليلته العجوز، فعرف أنها خرجت للنزهة ذلك النهار ، فتواطأ هو ورجل استأجره بدراهم على أن يتنكر ويعترض لها في الشارع منفردة، فيأتي هو لنصرتها وإنقاذها؛ ظنا منه أنها تحبه محبتها لشفيق لأنه فعل ذلك، وهو لا يعلم بتواطئها على هذا الاجتماع، فلما اعترض الفارس لعربة فدوى كان عزيز مختبئا، فلما رأى شفيقا وما أبداه تنحى ولم يره أحد، ثم رأى المركبتين سائرتين معا نحو قصر النزهة، فأحب استطلاع الحقيقة، فأتى على أثرهما حتى اجتمع بهما، كما تقدم، وعاد وقد علم أن مكيدته انقلبت عليه، ومحبة فدوى لشفيق تمكنت عراها، فازداد غيرة حتى صورت له نفسه أن يفتك بشفيق ولو كلفه ذلك بذل الحياة.
الفصل السادس عشر
الزر والدبوس
أما العربتان فلما لبثتا قليلا حتى عاد بخيت متهللا، فسألته فدوى عن الخبر، فقال: ليس في القصر أحد من الخفراء والخدم يا سيدتي، فقالت: وكيف ذلك؟ قال: إنهم خرجوا في جملة من خرج من الجند إلى نظارة المالية لطلب المتأخر من رواتبهم، وتبعهم من بقي من الخدم لاستطلاع النتيجة.
فقالت فدوى: ومتى كان هذا؟ وتهيأت للنزول فأخذ بخيت بيدها وأنزلها.
ونزل شفيق من عربته قائلا وهما متوجهان إلى الحديقة: أما سمعت ما جرى اليوم من هذا القبيل.
قالت: لا.
فقال: إن الجنود المصريين قد اتحدوا وبعثوا من ينوب عنهم إلى سراي المالية يطلبون رواتبهم، فأمسكوا برئيس النظار. وكانت فدوى مقبلة إليه بنظرها، فقاطعته قائلة: كيف آل الأمر؟ فقال: آل إلى تفرقهم حالما شاهدوا أفندينا إسماعيل باشا مطلا من إحدى نوافذ السراي، وهو لم يكلمهم إلا كلمات قليلة، فذهب كل إلى مكانه.
فقالت فدوى: إني لم أسمع عمري حدوث مثل هذا في زمن إسماعيل باشا.
فقال: إن هذا لم يحدث إلا بعد صيرورة الحكومة المصرية شوروية.
وكانا يتحدثان وهما ماشيان الهويناء نحو الحديقة وبخيت يتقدمهما حتى دخلا، فإذا هما في حديقة غناء، ملتفة الأشجار، زاهية الأزهار، يانعة الأثمار، قد جمعت بين عذوبة التنسيم واعتلال النسيم، يتخللها ممار مفروشة بالرمال والحصباء، والماء موزع في جنباتها، وفيها مرتفع اصطناعي يزيد تلك الحديقة بهجة وإتقانا، فسارا إليه ولم يدهشهما شيء من تلك المناظر الآخذة بمجامع النفوس لاشتغال فؤاديهما بما هو أسمى من ذلك.
فنظر شفيق إلى فدوى، فإذا هي على أجمل ما يكون، وقد زادها خجل الحب بهاء، فأبرقت عيناها، وندي وجهها، ولازمتها رجفة الحب فأطرقت في الأرض ولم تقو على رفع نظرها إليه. أما هو فلم يكن أقل منها اضطرابا. وبقيا على ذلك برهة والحياء يمنع فدوى من النظر إلى وجهه أو مفاتحته بالكلام، فأخذت تشغل نفسها بتلك المناظر؛ لعلها تسكن شيئا من هياج عواطفها واضطرابها؛ لأنها لم تعتد مجالسة الشبان ولا مخاطبتهم، ولا سيما على انفراد؛ إذ قد عاشت عيشة التحجب المتبعة عند عائلات الأتراك، مع أن والدها لم يكن منهم، ولكنه تخلق بأخلاقهم، وسار على عوائدهم، فشبت فدوى على ذلك. وما زالا على هذا الاضطراب حتى وصلا المرتفع وقد كساه الزهر، وظلله الشجر، فجلس كل منهما على مقعد متقابلين يفصلهما ممر الحديقة الضيق، وكلاهما يتناظران بألحاظ ناطقة، ولا يقوى أحدهما على إطالة النظر إلى الآخر، ولبثا زمنا لا يجسر أحدهما على افتتاح الحديث، ثم رفعت فدوى بصرها تفاتحه بالكلام، فارتج عليها، لكنها تجلدت جهدها وقالت: لقد سرنا ما قرأناه في الصحف عن سبقك أقرانك ونيلك إنعام الخديوي.
فأطرق شفيق خجلا ولم يجب بكلمة، فقالت: ولكن بعض الناس ساءهم الأمر لما يترتب على ذلك الإنعام من الأسفار في أنحاء الممالك الأوروبية بضع سنين. قالت هذا وخنقتها العبرات، ولكنها تجلدت وأحبت إتمام الحديث فلم تستطع.
أما شفيق، فكان ينكت الأرض بشيء كان في يده إخفاء لعواطفه حتى سمع منها ذلك، ولحظ ما أرادت، فقال لها: وايم الحق، يا حبيبتي، إني لم أسر بهذا الإنعام تمام السرور؛ لابتعادي به عن كل الناس، وليس بعضهم؛ فأنت عندي كل الناس، ولكن قد تكرهون شيئا وهو خير لكم، فعسى أن أصيب بسفري هذا ما يجعلني أقرب إلى استحقاقك مما أنا الآن؛ فإني لا أجهل منزلتي منك.
فقاطعته قائلة: حاشا لله يا منى فؤادي. إنك في الحقيقة فوق ما أستحق، وأكثر مما أتمنى؛ فنحن لا نقدر الناس بأموالهم، وإنما بصفاء جوهرهم، وصحة أدبهم وشهامتهم، وأنت قد زينك الله بصفات شريفة لو تفرقت في جماعة لكفتهم؛ فإنك غني غنى لا يستحصل بالقوة ولا بالحيلة، وإنما هي مواهب يخص الله بها من يشاء من عباده.
فالتفت إليها شفيق وقد كاد يتلعثم لسانه وقال: إنك غنية عن الوصف، وقد خصك الله بكمال الصفات، فلا يفي الكلام ولا يحيط بوصفك. أيحيط ما يفنى بما لا ينفد؟! فصفاء عنصرك يجعلك تصفينني بصفات أنت الحقيقة بها؛ لسمو أدبك، وتفرد صفاتك.
أما هي، فظهر اضطرابها جليا مع محاولتها إخفاءه، وكانت تسعى إلى تخفيفه فتنظر إلى جمال الحديقة وتتلاهى بمنظرها اللطيف فلم تقدر، ثم أطرقت في الأرض إخفاء لاضطرابها، ثم رفعت بصرها إلى شفيق وقالت: إني ممتنة من عواطفك الشريفة التي لا أستحقها، وأسألك أيها الحبيب أن تقول لي: هل أنت حقيقة مسافر إلى أوروبا؟
قال: إن شاء الله.
قالت: ولأي مملكة من ممالكها؟ قال: غالبا إلى باريس في فرنسا، أو لندرا في إنكلترا.
قالت: هل رضيت والدتك بذلك؟
قال: إذا لم يكن رضاؤها طوعا، فإذعانا لحكم الضرورة.
فتنهدت وهي مطرقة - وكانت تنثر وردة بأناملها اللطيفة - ثم قالت: إني لأعجب كيف يمكنها البقاء لحظة بعيدة عنك، ولكن ... وسكتت كأنها تريد كتمان شيء، فبادرها شفيق مستفهما عما أرادت السكوت عنه، فقالت ... ولكن قد يمكنها الصبر على بعدك لأنها والدتك وأنت ولدها.
فقال مندهشا: ماذا تعنين بذلك يا فدوى؟
قالت: لا أعني شيئا، وإنما ... وسكتت.
فقال: قولي يا حبيبتي ولا تكتمي عني شيئا.
فهمت أن تجيبه فخنقتها العبرات وكأنها المقصودة بقول الشاعر:
ترنو إليه بعين الظبي مجهشة
وتمسح الطل فوق الخد بالعنم
فأخذت شفيقا الدهشة وخفق فؤاده، فرشقها بنظر مملوء من الحب، وطيب خاطرها، وخفف عنها حتى سكنت عواطفها قليلا، فمسحت دموعها ورمته بسهم من لحظها كاد يقضي عليه، فقرب شفيق مقعده منها وخاطبها بألطف عبارة قائلا: أتريدين يا حبيبتي أن تخبريني بما عنيته بقولك؟
قالت: لم أعن غير المفهوم من كلامي.
فقال: لم أفهم منه ما يوجب هذا التأثر.
فأجابته: قلت إن والدتك تستطيع الاصطبار على بعدك لأنها والدتك وأنت ابنها؛ أي إنها لا تخاف أن تتخذ لك والدة سواها، أو بدلا منها. وكانت تخاطبه وهي تكاد تذوب خجلا حتى لم تقدر أن ترفع نظرها إليه.
فأدرك شفيق مقصودها وقال: لقد فهمت فحوى مقالك، ولكن ذلك كان يجب أن يكون محل اضطرابي لإمكان حصوله إن أخذت بك مطامع الدنيا؛ إذ قد يتهيأ لك من هو أفضل كثيرا مني، وأما أنا فبخلاف ذلك، ولا أقول إني أعظم ثقة فيك مما أنت في، وإنما ذلك شأن الجنس اللطيف.
فقالت: إذا كان جنسنا ضعيف الثقة بكم؛ فذلك لما علمهن إياه الاختبار. والآن ما لنا وللجنسين؟ (وظهرت على وجهها أمارات البشر والانبساط) فقد قلت لك إننا لا نقدر الناس إلا بما فيهم من الصفات الأدبية والشهامة، فإذا كنت مسافرا إلى أوروبا، أفلا تترك لنا تذكارا منك؟!
قال: أترك لك قلبي؛ أما يكفيك؟
قالت: ذلك أكثر مما أستحق، وإنما أريد منك عهدا حسيا يبقى لدي تذكارا لك، وشاهدا لما دار بيننا.
فقال وقد بلغ منه الهيام مبلغا عظيما: ماذا أعطيك وقد وهبتك قلبي وكل عواطفي؟! ثم أمسك بيدها وقال: أعاهدك، يا فدوى، بالشرف والمحبة الطاهرة التي بيننا، أني أحافظ على حبك حتى الموت، وأقف لك نفسي، ولا أرضى بدلا منك قط، فأجابته ولسانها يتلعثم قائلة: وما تذكارك عندي؟ ففتش جيوبه فلم يجد ما يليق بالتذكار فقال: ليس لدي ما يليق بك يا حبيبتي، فقالت: ما القيمة عندنا للذهب والفضة، فأخرج لها زر ذهب من أزرار زنديه منقوشا عليه الحرف الأول من اسمه وأعطاها إياه، فتأملته، ولما رأت فيه ذلك الحرف أعجبها كثيرا، فمدت يدها إلى دبوس ذهبي مرصع كان في صدرها ونزعته وقدمته له قائلة: خذ هذا الدبوس؛ فكلما نظرت إليه تذكرني.
فأخذه شفيق وتأمله، فإذا هو على شكل المرساة في غاية ما يكون من الإتقان، لطيف الهيئة، دقيق الصنعة، فتبسم ونظر إليها نظرا مملوءا من الحب قائلا: لو علمت قبل الآن طلبك لكنت أولى منك بتقديم مثل هذه المرساة؛ لأنها رمز عن الأمل، وأؤكد لك أن أملك في محله.
دار بينهما كل ذلك الحديث وكل منهما يحاذر أن يمس ثوب الآخر إجلالا للطهارة والعفة، فما أتما المعاهدة إلا وقد ذهب بياض النهار أو كاد، فنهضا يتمشيان في الحديقة والشمس ترمقهما مودعة من خلال الأشجار والأزهار، وهما مشتغلان عنها بتصوراتهما الحبية.
الفصل السابع عشر
مجيء الرقيب
وفيما هما في ذلك جاءهما بخيت مسرعا وهو يقول لشفيق: ودع سيدتي واخرج من الباب الآخر للحديقة، وقد قلت لسائق عربتك أن يذهب وينتظرك هناك؛ لأن سيدي آت، فلعل أحدا وشى بكما إليه، فودعها شفيق وخرج مسرعا من الباب الآخر؛ صيانة لشرفها، وعرج من هناك حتى جاء الشارع على مسافة من الحديقة، فإذا بالعربة منتظرة، فركب وأمر السائق بسرعة المسير فعاد.
أما فدوى فتكدرت لهذه المصادفة، ولكنها تجلدت وداومت التبختر في الحديقة كمن يتمتع بمناظر الطبيعة الجميلة، وبخيت إلى جانبها، ثم سارا يريدان الخروج وإذا بوالدها داخل بغتة، فهمت إليه وقبلت يديه، فسلم عليها.
وسبب مجيئه أن عزيزا لما عاد من عندهما أخذ يفتش عن وسيلة للإيقاع بشفيق والتقرب من والد فدوى، فلاح له أن يذهب إلى والدها ويغريه بالمجيء إلى قصر النزهة، فذهب إليه وحادثه بمواضيع مختلفة إلى أن قال له: هل تمكث في البيت طول نهارك؟ قال: نعم، قلما أخرج لا لشغل.
قال: هل لك أن نسير معا للنزهة في شارع شبرا؟
قال الباشا: هلم بنا؛ فإن ابنتي قد ذهبت إلى هناك، فعسى أن نلتقي بها ونعود معا.
وكان قصد عزيز أن يأتي والدها ويراها مع شفيق، فيصدق ما كان قد قاله له عزيز، ويعظم في عينيه؛ ولذلك كان حديثه كل الطريق بشأن فدوى، ووجوب الانتباه إلى ذهابها وإيابها، منتظرا أن يثبت كلامه لدى الباشا عندما يصل ويرى شفيقا وفدوى.
فلما سارت بهما العربة يسيرا خاف عزيز أن تظهر مكيدته لدى شفيق، فتظاهر أمام الباشا بنسيانه شيئا خطيرا، واستأذنه في أن يتبعه بعد قليل إلى قصر النزهة، فأذن له، فنزل وسار.
أما الباشا فداوم مسيره حتى أتى القصر فدخل الحديقة، فلم يشاهد فيها غير فدوى وبخيت، فتعجبت فدوى لمجيء والدها، فسألته عن السبب فقص عليها الخبر، ولكنه لم يذكر اسم عزيز، فأدركت أنه هو بعينه، وقد فعل ذلك ليوقع بها أو بشفيق، ولكنها تجاهلت. وبعد التمشي والانتظار، لم يأت عزيز، فركبا عائدين إلى البيت.
أما شفيق، فلما وصل البيت كاشف والدته بما كان من تعاهدهما، وأوصاها بكتمانه، وأن تجتمع بها أثناء غيابه ما استطاعت، وتذكرها بوعدها له؛ لئلا يضعف البعد عهدها.
الفصل الثامن عشر
سفر شفيق
وبعد بضعة أسابيع، وردت الأوامر إلى شفيق بالسفر إلى إكس؛ لدرس فن المحاماة فيها حسب أمر الخديوي، فتقدم والده إلى الجناب العالي أن يسمح له بإرساله إلى إنكلترا؛ لأنه يعرف الإنكليزية جيدا، وله وسائط أخرى للمطالعة هناك؛ فأذن له في ذلك.
فلما علم عزيز بسفره وقد اشتد به الحسد حدثته نفسه أن يفتك به، أو يسعى إلى إهلاكه بمكيدة أثناء سفره إلى لندرا، فلم ير أفضل من الإسكندرية لهذه الغاية؛ لأنه يكون فيها بعيدا من أهله وأحبائه، فجاء إليه ليلة سفره، وقضى عنده معظم الليل مظهرا له عظيم أسفه على فراقه، وأخبره أنه سيشيعه في الغد إلى الإسكندرية، فشكره شفيق وحسب ذلك له منة كبرى.
فلما كان الغد نزل والد شفيق إلى المحطة لوداعه، ونزل عزيز لمرافقته، فسافرا على القطار الحديدي قاصدين الإسكندرية، وقضيا معظم الطريق في الأحاديث عن مصر وفدوى، وعزيز يحاول إظهار رغبته في اقتران شفيق بها، ويعده المواعيد المشددة بالسعي في ذلك.
فوصل بهما القطار إلى الإسكندرية ساعة الغروب، فركبا عربة إلى فندق على شاطئ البحر، ولم يسبق لشفيق معرفة بالإسكندرية قبل ذلك اليوم، فلما استراحا وغيرا ثيابهما قال عزيز: هلم بنا يا شفيق إلى المدينة نقضي بعض الليل في مشاهدة أسواقها وبهجتها وزخرفها ترويحا للنفس من وعثاء السفر، فأجابه إلى ذلك وذهبا حتى أتيا ساحة المنشية، فاندهش شفيق لما شاهد من زخرف المدينة، وسعة شوارعها، وإشراقها بالأنوار الغازية التي تجعل ليلها نهارا. ومما يزيدها بهجة حوانيتها المضاءة بالأنوار المزينة بأنواع السلع تزيينا يأخذ بالعقول، ومما يدهش الناظر مبانيها الشاهقة المزخرفة بما على جدرانها من أنواع النقوش المحفورة، وما في شرفاتها من الرخام المجزع وغير المجزع، فعجب شفيق لهذه المناظر، وأخذته الدهشة، فبهت إلى أن تأبط عزيز زنده، وذهب به متلطفا إلى رصيف الساحة المرصوف بالرخام. والمنشية مستطيلة الشكل فيها كثير من شجر اللبخ، وفي منتصفها تمثال هائل قائم على قاعدة مرتفعة من الرخام الأبيض يمثل فارسا مهيبا، وشيخا وقورا متسع الصدر، واسع اللحية، متعمما بعمامة كبيرة، ومتزملا بالجبة والقفطان، وممتطيا جوادا من جياد الخيل، ومتقلدا سيفا منحنيا، وقد وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى كأنه ينظر إلى جهة المدينة؛ ليتأمل بهاءها ورونقها، فازداد شفيق دهشة وسأل عزيزا عن ذلك التمثال، فقال: إنه تمثال المغفور له محمد علي باشا؛ مؤسس العائلة الخديوية. فمال بكليته إلى التأمل في تمثال ذلك الرجل العظيم الذي أحيا الديار المصرية وأنقذها من وهدة الدمار.
أما عزيز، فلم يكن همه إلا تدبير مكيدة يهلك بها شفيقا، فلما رآه منذهلا بمناظر الإسكندرية أخذ يمتدحها له، ويطنب بمحاسنها، وهما يتبختران ويسرحان نظرهما بالمارة أفواجا، ومعظمهم في زي الإفرنج، وعلى وجوههم أمارات الانبساط، وعلائم الرغد والسعة، فلم يستعظم عزيز شيئا من ذلك؛ لأنه كان يعرف الإسكندرية معرفة تامة. وكان مشتغل البال في أمر الفتك بشفيق، فلاح له أن يذهب به إلى حان ويسقيه خمرا حتى يغيب صوابه فيفتك به، ولكنه تذكر أن شفيقا لا يتعاطى شيئا من أنواع المسكر، وأنه يستنكف من مجالسة كل من يتعاطاها.
وفيما هما على رصيف المنشية مرا بحانوت قد ازدحم بالجلوس وهم يشربون شراب عرق السوس، وصاحب الفندق شيخ متعمم بعمامة بيضاء، مشدود النطاق؛ لئلا يتعثر بأذياله لكثرة حركته، واسمه محمود. وكان عزيز يعرفه من قبل، وله معه أحاديث وصداقة، فقال لشفيق: هلم بنا نشرب شيئا من منقوع عرق السوس؛ فإنه رطب منعش. فأجابه شفيق ودخلا، ولم يحصلا على ما طلباه من المشروب إلا بعد الانتظار مدة لكثرة الازدحام.
أما شفيق فلحظ بجلوسه في هذا الحانوت رجلا في ثياب غريبة الزي كان يقتفي أثرهما عن بعد، فلما جلسا مر من أمام الحانوت واسترق النظر إليهما، ثم عاد ودخل فجلس على مسافة منهما وطلب من الشيخ محمود كأسا، فجيء بها إليه. وقد كان الجلوس في هذا الحانوت جماعات جماعات يتفاوضون ويتسامرون، وفيهم الإفرنج والأتراك والوطنيون وغيرهم على اختلاف الأجناس والملل، وبعضهم يتحادث في «البورصة» والأسعار والأرباح، وآخرون في السياسة، وآخرون في الملاهي، وجميعهم فرحون لا تسمع فيهم إلا ضحكا وقهقهة.
أما شفيق فاشتغل باله بأمر الرجل المتنكر، ولم يمل إلى مكاشفة عزيز؛ لئلا يظن فيه جبنا.
وما زال عزيز تلك الليلة يترقب فرصة يهلك بها شفيقا فلم يقدر، فأجل ذلك إلى الليلة التالية، لعلمه أن الباخرة بريندزي لا تصل الإسكندرية إلا بعد ثلاثة أيام، فسارا إلى المنزل، وذلك الرجل في أثرهما حتى طلعا السلم، فقلق شفيق، لكنه حمل ذلك على محمل الاتفاق لسلامة نيته، فلما وصل غرفته طلب العشاء، وقضى بعض الوقت في محادثة عزيز، ثم سار كل إلى فراشه.
أما شفيق، فما استلقى على فراشه إلا تذكر الأهل والمحبوب. وكانت هذه هي الليلة الأولى التي باتها بعيدا عن والديه، فتواردت عليه الأفكار، وتاه في عالم تصوراته، فألفه السهاد، وجفاه الكرى حتى لم يطق الاضطجاع، فنهض وجلس على كرسي بجانب السرير، ثم استخرج من جيبه أوراقا قديمة؛ ليقتل الوقت بقراءتها؛ لعلها تأتيه بالنعاس، فلم تكن إلا لتزيده سهادا وأرقا، فخرج إلى غرفة الاستقبال لعله يرى شيئا من الجرائد، فوجد صحيفة الأهرام، فأتى بها وأقبل على قراءتها حتى انتهى إلى تلغراف آت من بريندزي مفاده: «إن الباخرة بريندزي تصل الإسكندرية صباح كذا (أي غد ذلك اليوم) على غير المعتاد، وتبرح الميناء عند الظهيرة.» فاهتز شفيق من الفرح لتلك المصادفة؛ تخلصا من الانتظار على غير جدوى، ونهض لوقته وشرع في ترتيب أثوابه ولف أوراقه فعثر على دبوس فدوى، فخفق قلبه وترقرقت عيناه بالدموع حتى لم يتمالك عن تقبيله وحفظه في مأمن من ضياعه. فلما أعد كل حاجيات سفره نظر إلى الساعة فإذا هي الثانية بعد نصف الليل، فاضطجع على فراشه وهو ينتظر اكتحال عينيه بالكرى، فلم ينله منه إلا اليسير في آخر الليل.
وفي الصباح، جاء عزيز وهو لا يدري شيئا من أرق صديقه، وقد قضى ليله في إعداد المكيدة ونصب الأشراك، فإذا بشفيق قد تزمل بأثواب السفر، فسأله عزيز عن السبب، فأطلعه على الجريدة، فلما عرف ذلك خاف حبوط مسعاه، فأخذ يحبب إليه الإقامة في الإسكندرية.
فقال له شفيق: والله لو خيرت ما اخترت إلا الإقامة في غير هذه المدينة؛ لأني أحببتها كثيرا، ولكنني الآن على أهبة سفر طويل، ومشقة عظيمة، وخير البر عاجله، فلعن عزيز في سره الساعة التي وصلت بها تلك الباخرة؛ لأنها أحبطت كل مساعيه، فكظم غيظه وأخذ يساعده في التأهب، فأنزله إلى القارب حتى وصلا الباخرة. وقد ركب معهما في ذلك القارب الرجل المتنكر، فلما لحظه شفيق عرفه، فأزمع أنه إذا كان مسافرا على تلك الباخرة، فلا بد له أن يتحرش به، ويعرف أمره، لكنه رآه قد عاد في القارب الذي عاد فيه عزيز فما أدرك السبب.
أما عزيز فوعد شفيقا قبل وداعه ببذل جهده في مساعدته، وتحبيب والد فدوى إليه، ثم عاد بصفقة المغبون وهو يتلون تلون الحرباء من الكدر.
فبقي شفيق لا أنيس له إلا هواجسه، فأقلعت الباخرة تمخر عباب البحر، وهو لا يحول بصره عن وادي النيل، حتى حال الأفق بينهما، فودع الربوع والأهل والحبيب، وردد قول أبي الطيب:
بكيت يا ربع حتى كدت أبكيكا
وجدت بي وبدمعي في مغانيكا
فعم صباحا فقد هيجت لي طربا
واردد تحيتنا إنا محيوكا
فزاد غرامه وخفق قلبه، فأسند نفسه إلى سرير كان أمامه وهو بين الأسف على فراق الحبيب والمتطلع إلى طلب العلا، فأثرت فيه هذه التصورات حتى كاد يغيب عن الوجود، فشغل عواطفه بحركة السفينة، ومنظر البحر، وأصوات المسافرين، ولكنه ما لبث حتى عاد إلى تأملاته، وبقي بين هذه التقلبات بضعة أيام إلى أن قابلت السفينة شاطئ مرسيليا، فنزل إلى البر، ومن هناك ركب القطار الحديدي إلى باريس، ومنها إلى فرضة هافر على خليج المانش، وركب - من ثم - سفينة بخارية شقت بهم خليج المانش، ثم دخلت نهر التيمس فوصلت مدينة لندرا، فدخلها على قطار حديدي، فهاله عظمها وكثرة الازدحام فيها. وكان على المحطة معتمد من المدرسة جاء بأمر الرئيس لاستقباله، فهنأه وذهب به إلى المدرسة. فلنتركه هناك يدرس المحاماة ونأت بالقارئ إلى مصر.
الفصل التاسع عشر
انقلاب سياسي
رجع عزيز إلى مصر بخفي حنين وهو يضرس أنامل الندامة، ويندب سوء بخته؛ لأنه لم يقو على عرقلة مساعي شفيق، أو أن يحط من قدره في عيني فدوى، وقد ذهل عقله في حبها، وأصبح في شر بال وسوء حال وهو يردد:
تريدين قتلي لا تريدين غيره
ولست أرى قصدا سواك أريد
ولما زاد هيامه قال: والله لأحبطن مساعيه. ونهض يسعى إلى نصب مكيدة تقربه من فدوى.
وفي مساء الأربعاء الواقع في 25 يونيو (حزيران) سنة 1879، كانت الناس في القاهرة تتحدث باضطراب السياسة المصرية؛ لحقد دولتي إنكلترا وفرنسا على الخديوي، حتى خشي الناس تنازله.
فتمنى عزيز حصول ذلك ظنا منه أن هذا الأمر إذا تم عاد على شفيق بالفشل؛ إذ ربما يترتب عليه إلغاء الأمر الصادر بشأن إرساله إلى لندرا، فصار كله آذانا تسمع، وأعينا تبصر؛ استطلاعا للأخبار الجديدة، وسار في ذلك الليل إلى الباشا ليرى رأيه في تلك الإشاعات.
فلما استقر به الجلوس قال عزيز: ما رأي سعادتكم في هذه الإشاعات؟ أتظن الدولتين تفوزان ويستعفي أفندينا إسماعيل باشا؟
قال الباشا: إن إبراهيم باشا؛ المرسل من قبل أفندينا إلى الآستانة في هذا الشأن، قد أرسل الأخبار البرقية ينبئ برضا الباب العالي عنه، وأما القنصلان فإنهما ينصحان له أن يستعفي.
فقال عزيز: وما سبب هذا الحقد عليه؟ وما هي العلاقة بينه وبين هاتين الدولتين؟
قال الباشا: لا يخفى عليك، يا ولدي ، أن أفندينا لكثرة شغفه بتحسين حالة البلاد وزخرفها، ولا سيما القاهرة، مع ما أجراه من فتح الترع وبناء الجسور التي اقتضت إنفاق الأموال الطائلة بغير حساب، قد اضطرته إلى استدانة الأموال الكثيرة من أغنياء ممالك أوروبا، ولا سيما إنكلترا وفرنسا، فبلغ مقدار ما على الخزينة المصرية نحوا من تسعين مليونا من الجنيهات المصرية، فلما رأت الدول ذلك خافت ألا يكون بين دخل الحكومة المصرية وخرجها نسبة، أو أن يكون في دفاترها ريب، فبعث كل من إنكلترا وفرنسا رقيبا لحساباتها، فتألفت لجنة المراقبة، ثم أرادوا المداخلة في أعمال الحكومة أكثر من ذلك؛ بدعوى أن لإجراءات الحكومة أثرا في خزينة البلاد المديونة، فسعوا حتى أمست حكومة الخديوي شوروية؛ أي تحت مشورة مجلس النظار، بعد أن كانت تحت تصرفه المطلق، ثم أدخلوا في هذا المجلس ناظرين أجنبيين: الواحد إنكليزي، والآخر فرنسوي. وفي أيام هؤلاء، قرر مجلس النظار رفت بعض الجنود اقتصادا بالنفقات، فثار المرفوتون وجاء ضباطهم إلى نظارة المالية وأمسكوا برئيس النظار وناظر المالية وتهددوهما، ولولا ظهور أفندينا إذ ذاك لما أبقوا عليهما؛ فإن كلمة واحدة منه أوقفتهم عند حدهم.
وفي نهاية الأمر، رأى أفندينا أن وجود الناظرين الإفرنجيين يضايق عليه، فعزلهما وولى ناظرين وطنيين، فتكدرت منه الدولتان وحقدتا عليه، فسعتا ضده في الآستانة، ولا تزالان تسعيان حتى الآن، والناس بين واجس وآمل.
فلاح لعزيز أن الدولتين لا تنفكان حتى تنالا المأرب، فينال هو مأربه ظنا منه أن تغيير الخديوي يقضي بإلغاء الأمر بسفر شفيق ودرسه على نفقة الحكومة، وقضيا بقية وقت السير في أحاديث مختلفة.
وفي الصباح التالي، أفاق عزيز من أصوات المدافع المؤذنة بتنازل إسماعيل باشا وتولية ولده محمد توفيق باشا مكانه، فلبث ينتظر ما يكون من التغيير، وما يظهر من أعمال الخديوي الجديد، فإذا به أمير محب لرعيته، راغب في مصلحتهم، ساع إلى ترقية شأن بلادهم، فخاب أمله، وحبط سعيه؛ لأن ذلك التغيير لم يغير شيئا من حظ شفيق؛ فإنه ما زال يدرس المحاماة في إنكلترا، وكل يوم في نجاح .
الفصل العشرون
أحمد عرابي
مرت الأيام على عزيز وهو بين هاجس بالحب وواجس من الفشل حتى كاد يقتله هيامه، فلاح له أن يكاشف والد فدوى بما في نفسه، ثم ظهرت الثورة العرابية؛ وهي أنه كان في جملة ضباط الجيش المصري ضابط يقال له أحمد عرابي، وطني النزعة، أصله من إحدى قرى مديرية الشرقية. دخل في خدمة الجيش أيام المغفور له سعيد باشا، وما زال يترقى حتى بلغ في عهد الخديوي توفيق باشا رتبة أميرالاي.
وكان في الجيش المصري عدة من الضباط الشراكسة، وكانت الرتب الجهادية العليا تمنح غالبا لهم. أما المصريون فقلما يتجاوزون رتبة أميرالاي. وقد كان المصريون على عهد الخديوي إسماعيل باشا قلما يباح لهم التظاهر بما يخامر قلوبهم من الأسف لتمتع الغرباء بأحسن مصالح الجند، لما كان من نوع حكومته القاضية بتفضيل الكظم على التظاهر بحرية الضمير. فلما تولى الخديوي توفيق باشا، ورأى المصريون حبه لهم ولمصلحتهم، وإنعامه عليهم بالرتب والمصالح العالية، وتخويلهم حقوقهم من التمتع بخيرات بلادهم، شرعوا في مكاشفة أسرارهم، وإظهار ما كان في قلوبهم. ولم يكن الخديوي يستنكف من إعطائهم حقوقهم، ولكن تلك الإنعامات أثرت في بعض الضباط المصريين تأثير النسيم اللطيف إذا مر على نار بدأ فيها الاشتعال، ولم تكن مكشوفة للهواء، فلم يكن لها لهيب، فكشفت وجاءها ذلك النسيم فاتقدت، وأي اتقاد، حتى أشعلت ما حولها وكادت تقود إلى الدمار. ذلك كان تأثير الحرية التي وهبها الخديوي لرعيته.
وكان رؤساء الثورة ثلاثة ضباط: أحمد عرابي، وعلي فهمي، وعبد العال، فتعاهدوا على السعي إلى التفرد بمصالح بلادهم وإدارة أعمالها بأنفسهم، واستئصال الأجانب من خدمة الحكومة، وخصوصا الجهادية، بجمعيات سرية كانوا يعقدونها لذلك، ووافقهم على غايتهم سائر الضباط المصريين. ونظرا لرغبة الخديوي في تعزيز جانب المصريين، كما تقدم، كان يجيب طلباتهم فيما يرى فيه مصلحتهم، فبدءوا بعزل ناظر الجهادية - وكان شركسيا - ثم تطرقوا إلى المداخلة فيما وراء ذلك، وساعدهم على مرامهم ناظر الجهادية الذي خلف الشركسي - وكان وطنيا متحالفا مع عرابي وجماعته سرا - فأخذوا يعقدون الاجتماعات السرية في منزل عرابي، ويتفاوضون ويتحالفون على جمع الكلمة وبث تلك المبادئ في سائر أنحاء البلاد.
فقرأ عزيز في جريدة الطائف التي هي لسان حال الحزب الوطني أنه «سيحتفل في 21 جمادى الأولى سنة 1298 (20 أفريل سنة 1881) في سراي قصر النيل احتفالا كبيرا؛ لما أنعم به الجناب العالي من زيادة رواتب الضباط والعساكر، وتعديل القوانين العسكرية.» فلاح له أن يحضر ذلك الاحتفال. وكان احتفالا حافلا اجتمع فيه رؤساء الجهادية والنظار. ولما تم عقد الاجتماع، نهض بين الحضور رجل عليه لباس العسكرية العليا، وخطب يمتدح من إنعام الخديوي. وكان ذلك الخطيب ناظر الجهادية، ثم قام بعده رجل قصير القامة، خفيف شعر اللحية، سريع الحركة، فخطب أيضا يذكر إنعام الخديوي، فكان عزيز واقفا في أحد منزويات المكان، فسأل عن الرجل، فقيل له: إنه رئيس مجلس النظار. وأخيرا انتصب رجل في لباس الضباط، ربع القامة، ضخم العضلات، أسمر اللون، فلما وقف صفق له الحضور وعلت الضوضاء، حتى لم تعد تسمع إلا طلب سكوت الجمهور إصغاء لما سيقول الخطيب، فبدأ بمقدمة، وانتهى إلى شكر الخديوي والنظار، وحث المصريين على محبة الوطن ورفع شأنه، وكان كلما قال فقرة يصفق له الجمع فرحين وكلهم آذان تسمع مقاله، فتعجب عزيز لاحتفائهم الغريب بخطيبهم، فسأل ضابطا أمامه عن الخطيب، فضحك من استفهامه واستجهله قائلا: ألا تعلم من هو هذا البطل، قال: لا أعرفه، قال: أظنك غريبا قادما إلى هذه البلاد من أمد قريب؟ قال: كلا، بل أنا مولود فيها، ولكن لم يقسم لي الحظ بمعرفته.
قال هو أحمد بك عرابي؛ رجل الوطن. وكان قد سمع عنه ولم يره.
فلما انتهى الاجتماع وارفض الجمهور خرج عزيز وهو يعجب للنفوذ العسكري، وما لرجال الجهادية من المقام، فود الدخول في تلك الخدمة ليكتسب الرفعة والمجد، وطمع في القانون الجديد المانح الوطنيين امتيازات متمايزة، وقيل له إنه بمساعدة درهمه يترقى في مدة قصيرة إلى أن يصير ضابطا من رؤساء الحزب الوطني، فينال حظوة في عيني فدوى ووالدها.
الفصل الحادي والعشرون
حادثة عابدين
أخذ عزيز يسعى في نيل مرغوبه، فباشر قراءة القوانين العسكرية، وحضور الاستعراضات، وملاحظة الحركات الجندية، إلى أن كانت حادثة عابدين؛ يوم أحاط الجند بسراي الجناب العالي بالمدافع والفرسان. وكان عزيز في جملة من حضر، فرأى الطوبجية بالمدافع والجند محدقين بالسراي، والساحة غاصة بالجماعات من أجانب ووطنيين، ونوافذ البيوت المجاورة وأسطحتها ملأى بالنساء والأولاد، ثم جاءت مركبة الخديوي يتقدمها الياوران، فوقفت أمام شرفة السراي (السلاملك)، والتفت الخديوي مشيرا إلى عرابي أن يقترب، فتقدم على جواده مشهرا سيفه، ومن حوله الضباط للمحافظة عليه، فأمره بإغماد سيفه والترجل، وإبعاد الضباط عنه، ففعل، ثم خاطبه بقوله:
ألم أك سيدك ومولاك؟
فقال عرابي: نعم.
فقال الخديوي: ألست أنا الذي رقيتك إلى رتبة أميرالاي؟
فقال عرابي: نعم، ولكن بعد ترقية نحو الأربعمائة.
فقال الخديوي: وما هو سبب حضورك بالجيش إلى هنا؟
فقال عرابي: لنيل طلبات عادلة.
فقال الخديوي: وما هي هذه الطلبات؟
فقال عرابي: هي إسقاط الوزارة، وتشكيل مجلس النواب، وزيادة عدد الجيش، والتصديق على قانون العسكرية الجديد، وعزل شيخ الإسلام.
فقال الخديوي: كل هذه الطلبات ليست من خصائص العسكرية.
ثم انقلب الخديوي إلى داخل السراي وجاء مكانه قنصل الإنكليز، فقال لعرابي: إن إسقاط الوزارة من خصائص الخديوي، وطلب تشكيل مجلس النواب من متعلقات الأمة، ولا وجه لزيادة الجيش؛ لأن البلاد في طمأنينة، فضلا عن أن مالية البلاد لا تساعد على ذلك. أما التصديق على القانون، فسينفذ بعد اطلاع الوزراء عليه. أما عزل شيخ الإسلام، فلا بد من إسناده إلى أسباب.
فأجاب عرابي: اعلم يا حضرة القنصل أن طلباتي المتعلقة بالأهالي لم أقدم عليها إلا لأنهم أنابوني في تنفيذها بواسطة هؤلاء العساكر؛ لأنهم أخوتهم وأولادهم، فهم القوة التي ينفذ بها كل ما يعود على الوطن بالمنفعة، واعلم أننا لا نتنازل عن هذه الطلبات، ولا نبرح من هذا المكان ما لم تنفذ.
القنصل: إذن تريد تنفيذ اقتراحاتك بالقوة؛ الأمر الذي يخشى منه ضياع بلادكم.
عرابي: ذلك لا يكون. ومن ذا الذي ينازعنا في إصلاح داخليتنا، فاعلم أننا نقاومه أشد المقاومة إلى أن نفنى عن آخرنا.
القنصل: وأين هذه القوة التي ستقاوم بها.
عرابي. في وسعي أن أحشد في زمن يسير مليونا من العساكر طوع إرادتي.
القنصل: وماذا تفعل إذا لم تنل ما طلبت.
عرابي: أقول كلمة ثانية.
القنصل: وما هي؟
عرابي: لا أقولها إلا عند القنوط.
ثم انقطعت المخابرات بين الفريقين نحوا من ثلاث ساعات؛ تداول القناصل والخديوي والنظار أثناءها داخل السراي، وعزيز يفكر فيما سمعه من حديث عرابي، وما عاين من جراءته، فإذا بالأمر قد استقر على إجابة طلبات عرابي وتنفيذها تدريجا؛ لأن بعضها يحتاج إلى مخابرة الباب العالي، فأصر عرابي على تنزيل الوزارة قبل انصرافه، فنزلت واستدعي شريف باشا، وبعد اللتيا والتي قبل بأن يشكل وزارة جديدة، بشرط أن يتعهد له رؤساء الحزب العسكري بالامتثال لأوامره، وأن يقدم عمد البلاد ضمانة على ذلك، فحصل وتشكلت الوزارة.
الفصل الثاني والعشرون
عزيز أفندي
فلما رأى عزيز ما ناله جماعة الجهادية من نفوذ الكلمة ازداد شوقا للانتظام بتلك الخدمة، ولكنه رغب في استطلاع خاطر فدوى وميلها للجهادية، فإذا كانت تميل إليها يتيسر له التقرب منها، فذهب إلى صديقته الدهياء وأطلعها على مراده، فقالت: إني أستطلع رأيها وأنبئك بالخبر اليقين. فذهبت يوما ببضاعتها كجاري العادة إلى منزل الباشا ودخلت دار الحريم، فلما درت نسوة القصر بمجيئها أتين ليشاهدن ما جاءت به من السلع، وكن يتهادين في مشيهن وفي وسطهن فدوى بلباس البيت، الذي زادتها بساطته جمالا وحسنا، فلما قابلنها ترحبت بهن، فسألنها عن بضاعتها، فمدت يدها واستخرجت مشطا مصنوعا من سن السمك، لطيف الشكل، وقدمته إلى فدوى قائلة: هل لك أن تتنازلي، يا سيدتي، لقبول هذه الهدية الحقيرة؛ لكي تتشرف بمس هذا الشعر الجميل. وما جرأني على تقديمها إلا ما يقال من أن الهدية على مقدار مهديها. فأعجبت فدوى من ملاطفتها وقبلته مرضاة لها.
ثم مالت بنظرها إلى ما جاءت به تلك الدلالة من السلع، ثم جلسن جميعهن يقلبن تلك السلع ويتحادثن في أحاديث مختلفة، حتى قادهن الحديث إلى حادثة عابدين.
فقالت دليلة: إن رجال الجهادية هم زهرة البلاد ويدها اليمنى، وبهم تفتخر الأمة، وعليهم حماية الحصون، ودفع الأعداء، وهم نصراء الوطن.
فقالت فدوى: إن رجال الجند يا خالتي، إذا كانوا رجالا في الحرب كما هم في السلم؛ فهم بالحقيقة، كما وصفت. أما الجندية بوجه العموم؛ فإنها أشرف المصالح.
فقالت لها دليلة: أتفضلين يا سيدتي الضابط الحربي على التاجر أو العالم؟ وتبسمت.
فأدركت فدوى أنها تريد مباغمتها بما يخجلها، فلم تجب.
فأدركت العجوز أن فدوى تحب رجال الجهادية، فلم تزد، ثم عدن إلى النظر في الأمتعة، فاشترين ما شئن، وعادت العجوز إلى منزلها، فرأت عزيزا في انتظارها، فقالت له: أبشر يا ولدي، لقد قضي الأمر.
قال: وكيف ذلك؟
قالت: إنها تحب رجال الجهادية؛ فافعل ما بدا لك.
فتنهد عن قلب حزين، ونطق بلسان خاشع وقال: هذه هي كل العقبات يا خالتي. وودعها وخرج إلى والدها؛ ليستطلع رأيه، فإذا رأى من الاثنين ميلا للجهادية هان الأمر عليه.
فلما دخل عليه وجلس إليه رآه منقبض النفس، مرتبك الأفكار، فبادأه بالحديث قائلا: هل حضرتم سعادتكم يوم عابدين وشاهدتم ما كان من فوز الجهادية؛ فقد حبب إلي ذلك خدمة الجيش.
فقال الباشا: إن الخدمة العسكرية من أشرف الخدمات، ولكنها محفوفة بالأخطار.
قال عزيز: لا خطر فيها إلا أيام الحرب.
قال الباشا: ولكنك غني عن هذه الخدمة لما أنت فيه من الثروة، فإذا كانت حرب، فماذا تفعل؟
قال: أقوم بما تقترفه علي مصلحتي؛ «ولا بد دون الشهد من إبر النحل.» (أراد التظاهر بالبسالة وقد أضمر في نفسه الفرار إذا نشبت حرب).
فقال الباشا: إذا كان لا بد لك من ذلك، فإني أعطيك كتاب توصية لعرابي بك؛ لأني أعرفه، وهو يتوسط لك لدى ناظر الجهادية، فيقلدك منصب ضابط، ولكن هل لك معرفة بالحركات العسكرية؟
قال عزيز: هذا ليس أمرا صعبا؛ فقد تعلمت بعضها، وأقدر أن أتمم علمها بسهولة.
فكتب له كتابا إلى عرابي يوصيه أن يشمل عزيزا بأنظاره، فأخذ عزيز الكتاب وودعه وسار حتى وصل منزل عرابي، فإذا فيه جماهير الناس والأعيان بين منتظر أمرا، ومتظلم من أمر يدخلون إليه الواحد بعد الآخر يتفاوضون أو يستعطفون، وهو يقابل كلا حسب مقامه، ويجتهد في إرضاء الجميع، حتى جاء دور عزيز، فدخل عليه وقد زر ثوبه اعتبارا، فقابله بالبشاشة واللطف، وبعد تلاوة الكتاب قال له: ألعلك عزيز أفندي جندب ابن المرحوم السيد جندب المشهور؟ قال: نعم. فأجلسه إلى جانبه وقال: ما الذي حملك على الانتظام في الجهادية وأنت في غنى عنها؟
قال: رغبة في خدمة الوطن.
قال عرابي: والله لقد أعجبني حبك للوطن المصري وأنت مغربي الأصل على ما أسمع، قال عزيز إن جدي - رحمه الله - جاء من بلاد المغرب للخدمة في جيش محمد علي باشا، فأقام في مصر واتخذها وطنا له، وأنا أعد نفسي وطنيا، فقال عرابي: بورك فيك، ولكن يطلب منك أن تتعهد بالمساعدة المالية للجهادية عند الاقتضاء خدمة لمصلحة البلاد.
فندم عزيز على إقدامه، ولكنه لم يعد يستطيع الإحجام، فلم يسعه إلا الإجابة رغما عنه، وحذرا من نقمة عرابي عليه، فقال: أنا وما أملك تحت أمر سعادتكم.
فشكره عرابي وأطنب بشهامته وقال له: إن مثلك يستحق التشرف بخدمة العسكرية. ثم أمر فكتب له كتاب إلى ناظر الجهادية يوصيه به.
فأخذ الكتاب وأتى الناظر، فوعده بإنجاز طلبه، وبعد مدة ألبسوه الحلة العسكرية بالشريطة الصفراء القصبية على الكمين؛ وهي علامة رتبة الملازم، وصار من ذلك الحين يتدرب في الحركات العسكرية.
الفصل الثالث والعشرون
التعرض في الطريق
لقد كانت فدوى - والله أعلم بحالها بعد فراق الحبيب - من اشتغال البال، وتباريح الهوى، فلا ترتاح إلا إلى ذكر الحبيب، أو استطلاع أحواله، فكانت تجتمع أحيانا بوالدته سرا، وهي لا تقدر أن تكشف لها قلبها وما يطويه من الحب لشفيق؛ مراعاة للحياء والعادة، غير أن والدة شفيق كانت تقبل بكليتها على مقابلة فدوى، والاحتفاء بها؛ حتى إنها أحبتها محبتها لشفيق. وقد اجتمع قلبهما على حب طاهر مقدس، فكانت تحدثها عن شفيق ونجاحه، وما ذكرت الجرائد الوطنية عنه، فيقضيان مدة في الأحاديث عنه.
ففي أحد الأيام، خرجت فدوى بعربتها إلى شارع العباسية لترويح النفس، وما ترويح النفس إلا أن تمر ببيت الحبيب، وترمق الحي وآله؛ للاستئناس برؤيته، وما كان استئناسها إلا بقول الشاعر:
تلفت نحو الحي حتى وجدتني
وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا
وأذكر أيام الحمى ثم أنثني
على كبدي من خشية أن تصدعا
وفيما العربة سائرة بها وبخيت أمامها، لحظت من النافذة فارسا يحاذي مركبتها بمسيره، فأشارت إلى بخيت أن يأمر السائق بسرعة المسير، غير أن الإسراع لم يخجل ذلك الطفيلي، فما زال سائرا على محاذاة المركبة أسرعت أم أبطأت، فاغتاظت فدوى وقالت لبخيت: ما بال هذا لا يبرح محاذيا عربتنا؟ فأمر بخيت السائق أن يوقف العربة، فلما وقفت داوم الفارس مسيره بضع خطوات، ثم لوى شكيمة جواده وعاد الهويناء حتى حاذى المركبة أو كاد. وهيئة هذا الفارس تبين أنه من رجال الجهادية، عليه لباس الضباط بالطربوش العزيزي، والشرائط القصبية، وقد أمال طربوشه على جبينه حتى يظهر شعره المصقول، فحاول النظر إلى فدوى، فأنزلت ستارة النافذة وانزوت داخل العربة.
فلما رأى بخيت تماديه وشراسته، نظر إليه بشطر عينه وقد عرفه قائلا: ما غرضك يا أفندي؟
قال عزيز: لا غرض لي، ولكني أحيي حضرة السيدة.
قال بخيت: لم تجر العادة عندنا على مثل هذا.
قال: لطفها جرأني.
فرمقه بخيت باحتقار قائلا: الأليق بك أن تمر بطريقك وتحفظ شرف الحلة التي أنت لابسها.
فقال عزيز: اعلم أنك تخاطب ضابطا جهاديا (وأراد أن تسمعه فدوى ظنا منه أنها إذا علمت مكانته ترفع الستارة وتنظر إليه).
فقال بخيت: قد دلنا لباسك على مقامك، ولكن رجال الحرب لا يصقلون شعورهم، ولا يتطيبون تطيب المخدرات، ولا يتعرضون المارة وهم حامية البلاد ودعامة الأمن، وليس فزاعة لتخويف أبناء السبيل. وايم الله، لولا احترام كسوة العسكرية التي عليك لأذقتك ما لم تذقه عمرك.
قال عزيز وهو ينتفض من الغضب والخجل: ليس من مقامي مخاطبة العبيد، وإنما أنا أخاطب سيدتك.
قال بخيت: احفظ مقامك وسر، واكفنا شر هذا اليوم.
قال عزيز: قل لسيدتك: ألعل شفيقا الذي لا يزال غرا من تلامذة المدارس أولى بالمحادثة من ضابط جهادي؟
قال بخيت وقد اشتد غضبه وغاب عن الصواب: اخسأ يا ذميم، وسر في طريقك قبل أن تذوق الوبال. قال ذلك وأمر السائق فعاد إلى البيت، وعزيز قد أذهله الفشل، وأخذه الجمود؛ لحبوط مسعاه، فلما عاد إلى صوابه لم يجزم بنفور فدوى منه؛ لأنها لم تشافهه ببنت شفة، فحمل ذلك على حذرها من بخيت؛ لئلا يطلع والدها على مكالمتها إياه.
أما فدوى فعنفت بخيتا لإطالة الكلام معه إلى هذا المقدار، فقال: يا سيدتي، إنه مؤمل - ولا أخجل أن أقول - بما يقصر عن نيله، ولا يراه في الحلم، ويخال له أن لباس الجهادية يزيده اعتبارا في عيون الناس، ولم يفطن أن المرء بأصغريه لا ببرديه، ولكن مهلا يا سيدتي، سأريه ما لم يره عمره، ولولا حرمة وجودك الآن لأذقته الهوان.
فقالت: ألا تعلم أن للجهادية هذه الأيام شأنا عظيما، ولهم الأمر والنهي، فإذا أرادوا أمرا لا يخالفهم فيه مخالف، فأخشى إذا اتصل الأمر بوالدي أن يلومنا على ذلك؛ فالإعراض أولى بنا.
قال بخيت: لا ريب أن نيل الجهادية ما طلبوه يوم حادثة عابدين يعد فوزا تاما، ولكن عرابي أخذ بعد سفره بآلايه إلى رأس الوادي يبث مبادئه في مشايخ عربان الشرقية وغيرهم، ويحثهم على الاتحاد والتحالف. وهذا ما أوجب تحذر حكومتي فرنسا وإنكلترا من هذا التظاهر. وقد علمت أنهما بعثتا إلى الجناب العالي تتبرعان بالمساعدة في كل ما يئول إلى تأييد سلطة سموه.
فقالت فدوى: وما الموجب الذي أوجب مداخلة هاتين الدولتين في مصالح البلاد؟
قال بخيت: لأن لهما على هذه الديار دينا، فيحافظان عليها محافظة على حقوقهما.
ولما وصلت بهما العربة إلى المنزل، أوصت فدوى بخيتا بكتم الأمر عن والدها.
الفصل الرابع والعشرون
سفر والدي شفيق إلى إنكلترا
عاد عزيز بصفقة المغبون وقد ازدادت هواجسه وذهل عقله، فصار في شر بال وسوء حال، وقد أضناه حبه لفدوى، وحسده لشفيق، وحقده على بخيت، فسعى للانتقام من بخيت؛ لئلا يكون عثرة في سبيل تقربه من فدوى. وفيما هو يعمل المكيدة صدرت له الأوامر بالشخوص مع ضباط آخرين إلى الإسكندرية، فصعب عليه الأمر، وأحس بثقل الخدمة العسكرية التي لا مرد لأوامرها، فسار وقلبه في العاصمة.
وفي أثناء غيابه، وقع الخلاف بين مجلس النواب والوزارة على بعض مواد لائحة المجلس المذكور، واشتد الخصام حتى آل إلى استعفاء الوزارة، وتأليف وزارة جديدة برئاسة محمود سامي، وتقلد أحمد عرابي نظارة الجهادية فيها مع رتبة لواء (باشا)، فكان ذلك موجبا لتشامخ الحزب العسكري ورفعة منزلته، فاستفحل أمره، ورافق ذلك تنقل في الآلايات، فجاء آلاي عزيز إلى مصر، وسعى عرابي لترقية جانب من الضباط، فأصاب عزيزا من هذه الترقية أن أعطيت له رتبة يوزباشي، فصارت الشرائط ثلاثا. ولا تسل عن إعجابه بذلك الترقي بعد أن استفحل أمر الجهادية، وأصبحت أزمة الأحكام في أيديهم؛ مما آل إلى خوف الدول الأوروبية على مصالحها بمصر، فاتحدت دولتا إنكلترا وفرنسا، وقدمتا للحكومة الخديوية لائحة تطلب فيها تنزيل الوزارة، وإبعاد عرابي ورفقائه زعماء الثورة، مع حفظ نياشينهم ورتبهم وألقابهم.
أما الوزارة، فلم تر بدا من الاستعفاء، وكانت دوارع الدولتين راسية حينئذ في مينا الإسكندرية، فاستعفت في 26 مايو سنة 1882، فعظم ذلك على العرابيين ولم يقبلوا به، وما زالوا حتى أعادوا الوزارة بالقوة الجبرية، فنتج عن هذا زيادة الضغائن على الأجانب، مع أن عرابي كان يتابع إرسال المناشير للقناصل بضمن الأمن والسلام، حتى كانت مذبحة الإسكندرية في 11 يونيو سنة 1882، التي ذبح فيها قسم كبير من الإفرنج، ونهبت بيوتهم، فصدرت الأوامر من الحكومات الأجنبية إلى رعاياها بمهاجرة القطر المصري حالا في مراكب أعدت لذلك على نفقة الحكومات، فكان ذلك موجبا لسرور عزيز؛ لأن تلك المنشورات تقضي بسفر والدي شفيق لارتباطهما بقنصلاتو إنكلترا، فتحبط آمال فدوى وتضطر إلى القبول به.
أما فدوى فلما علمت بتلك المنشورات ذهل عقلها، وغاب صوابها، فاستدعت بخيتا وكاشفته بوجلها قائلة: إن والدي شفيق مسافران من هذه الديار، فما تكون حالي إذا اضطر البعاد شفيقا إلى إهمال العلائق والمودة بيننا، ثم تنهدت عن كبد حرى وتأوهت، وقد أذهلها الحب، فسحت الدموع ونسيت أن بخيتا بحضرتها فقالت: أينكث بالعهد؟ آه! يا إلهي، لا ترمني بوهدة اليأس، لا، لا. إني أجل ذلك الشهم الباسل عن الخيانة، ولكن إذا قضت عليه الأحوال بنكث العهود، فماذا أعمل ...؟
ها إن والديه مسافران إلى أوروبا، ولا يستطيع المجيء إلينا والبلاد تتقد بنيران الثورة العسكرية، وأهلها يبرحونها، وأنا المسكينة لا أستطيع المجاهرة بما في الفؤاد حتى يقتلني الهوى ويقضي علي بتباريحه، فماذا يوسيني أو يوسيني على الفراق وأنا أرى الشمس على حيطان بيته فأحسبها إياه. وربما أشاهد والدته بغتة فأبهت وتكاد تفارقني الحياة، فمن أين لي الصبر على هجره؟ ثم عمدت إلى مسند أمامها أسندت إليه يديها، واستلقت بهما رأسها، وأخذت تصعد الزفرات، فلما شاهد بخيت منها هذا لم يتمالك عن البكاء، فقال لها: يا سيدتي، خفضي من اضطرابك؛ فليس الأمر على ما تتوهمين؛ فإن شفيقا قد خصه الله بأرق العواطف، ومن كان مثله لا ينكث عهدا.
فلما سمعت اسم محبوبها رفعت رأسها كأنها هبت من رقاد عميق، فرأت بخيتا أمامها فخجلت من نفسها وقد نسيت أنها استدعته، فقالت له: وهل أنت مطلع على كل ما أبديته؟ فيا للخجل! فقال لها بخيت: لا يصعب عليك الأمر يا سيدتي؛ فالحب لا يخفى، والعواطف لا تقهر، إلى أين تظنين والدي شفيق يتوجهان؟ فقالت: قد فهمت من والدته أنهما يريدان إنكلترا لأن شفيقا هناك.
فصمت بخيت مفكرا ثم قال: وما المانع يا سيدتي من أن تكتبي إليه أنك ترغبين في الاطلاع على أحواله؟ فعسى أن تكون النتيجة على خلاف ما تظنين، وما الأمر إلا لله.
فقالت: أخاف أن كتابتي إليه تهيج فيه ساكنات الحب، وتحمله على المخاطرة بنفسه، فيجيء إلى البلاد وهي كما تعلم من الهياج والاضطراب، فأكون قد جنيت عليه وعلى نفسي.
فقال بخيت: أرى الأفضل إذن أن تستطلعي أفكار والدته، فاستصوبت رأيه، وبعثته إليها لتعيين زمن يمكنها فيه الاجتماع بفدوى.
فلما اجتمعت ودار الحديث بينهما ، أدركت سعدى غرضها من الاجتماع، فبينت لها بكلام لطيف حالة سفرها هي وزوجها، وأن الأسطولين الإنكليزي والفرنسوي في مينا الإسكندرية منذ أيام، وهما لا يجاهران بالعدوان إلا إذا رأيا من خطر على حياة الجناب الخديوي، فيستخدمان حينئذ القوة، ولو كلفهما ذلك هدم ثغر الإسكندرية وخراب سائر القطر؛ لأنهما دولتان قويتان.
ثم قالت: أما نحن، فقد عزمنا على الجلاء من هذا البر؛ خوفا من الخطر على حياتنا، وربما يداخلك الريب فيما أقول؛ لأننا لسنا أجانب، لكننا يا ابنتي نخاف الرقباء، ولا نأمن معهم البقاء والبلاد على هذه الحال، والأغلب أننا نسافر إلى لندرا حيث نشاهد شفيقا.
فأجهشت فدوى بالبكاء وأطرقت حياء، وظهر اضطرابها جليا، فأجهدت نفسها بإخفائه، فلم تقدر، فلحظت سعدى منها ذلك، فضمتها إلى صدرها وقبلتها والدموع ملء عينيها وقالت: خفضي عنك يا ابنتي، والذي فرقكما قادر على أن يجمعكما في وقت قريب.
فقالت لها فدوى: اعذريني يا سيدتي لما ظهر من اضطرابي؛ فقد غلبت علي عواطفي.
وفيما هما في الحديث، جاء بخيت ملهوفا وهو يقول: إن سيدي الباشا قد بعث إلينا بالإسراع إلى البيت؛ لأنه تلقى من عرابي باشا أمرا بالذهاب إلى الإسكندرية حالا، ولا بد له قبل ذهابه من مشاهدتك، فنهضت للحال وودعت سعدى وداع السفر، فسألتها إذا كان عندها خبر لشفيق، فخجلت في أول الأمر، ولكنها تجلدت وقالت: بلغيه ما تشائين من السلام، وإذا أردت أن تكتبي إلي حين وصولك؛ فليكن الكتاب باسم بخيت، وهو يوصله إلي، ثم ودعتها ثانية وخرجت، فشيعتها سعدى بنظرها إلى أن سارت بها العربة وتوارت عن النظر.
أما فدوى فأخذت تحاول إخفاء اضطرابها؛ لئلا يلحظ منها أبوها شيئا فيريبه أمرها، فلم تقدر، فلما وصلت إلى البيت ولحظ أبوها أثر الدمع على عينها، سألها عن السبب فقالت له: لما بلغني أمر سفرك بهذا الاضطراب السياسي لم أستطع إمساك الدمع. فطيب خاطرها، وهون عليها، وقال لها: إني مسافر إذعانا لأمر رئيس الحزب العسكري، فلا يصعب عليك ذلك؛ إذ ليس في الأمر ما يوجب الخوف ، فالبثي مع والدتك في البيت بطمأنينة، وسأوصي بخيتا بكما وبكل من في القصر، ثم ودع الجميع وبرحهم على القطار الحديدي إلى الإسكندرية.
أما سبب سفره، فهو أن عزيزا بعد تحققه جلاء والدي شفيق إلى إنكلترا، أخذ يسعى إلى إبعاد والد فدوى؛ تذليلا لها حتى يخلو له الجو، فوشى به إلى عرابي أنه لا يؤمن من بقائه في القاهرة بعد سفر الجند إلى الإسكندرية؛ لشدة رغبته في مخابرة الأجانب، فبعث إليه عرابي أن يسير حالا إلى الإسكندرية.
أما عزيز، فبذل قصارى جهده ليبقى في القاهرة طمعا بنيل مرغوبه؛ لعله يقوى على اختلاس فدوى أثناء هذا الانقلاب السياسي.
أما فدوى، فلم يكن يسليها أمر، ولم تكاشف أحدا بسرها إلا بخيتا؛ لأنه هو وحده محل أمانتها، وكانت تخشى تعدي أنفار الجهادية الذين لا يميزون بين العدو والصديق، ولا يفهمون ما يجاهدون من أجله، إلا النفر اليسير من ضباطهم، فاضطرتها الحال إلى الاعتزال في البيت.
الفصل الخامس والعشرون
تذكار عزيز
ففي ذات يوم من أيام شهر يوليو سنة 1882، كانت فدوى في غرفتها تائهة في تيار من الهواجس والهموم، ووالدتها في غرفة أخرى تهتم ببعض الشئون، فسمعت فدوى قرع جرس الدار، فسألت أحد الخدم عن القارع فقال: إن في الباب الدلالة بائعة الملبوسات والسلع تريد التشرف بمقابلتك، قالت: فلتدخل. حتى أتت غرفة فدوى فرحبت بها وأجلستها، ثم سألتها عن بضاعتها وأخذت تقلب فيها، ثم دار الحديث على شئون مختلفة أخصها الأخبار الحاضرة.
فقالت دليلة: إن جنودنا المظفرة ستغلب جنود الفرنجة؛ لأن البوارج لا تزال في مياه الإسكندرية تنتظر عقد المؤتمر في الآستانة، ولكن مولانا السلطان غير راض بعقده.
فقالت فدوى: وما ظنك بنتيجة هذه الأعمال؟
قالت العجوز: إن النتيجة، يا حبيبتي، تحرير البلاد من العنصر الأجنبي، فتبقى مصالح الحكومة في أيدي أبناء الوطن، وسيتم كل ذلك بهمة الجهادية المصرية التي ألبستنا المجد والفخر، فنطلب إلى الله أن يؤيدها بالنصر، ويكلل أعمالها بالنجاح.
فقال فدوى: تلك أعمال الله يؤتي ما يشاء لمن يشاء. فما عندك الآن من السلع الجديدة؟
قالت: عندي ما يليق بجمالك وكمالك، ومدت يدها إلى جيبها وأخرجت علبة صغيرة وفتحتها، فإذا فيها خاتم ذهب قدمته لها، فأعجبها شكله، فتناولته وأرادت التأمل فيه، فأمسكته دليلة وألبستها إياه في بنصرها قائلة: لتجربن اتساعه. فلما لبسته جعلت تتأمل فيه، فلمحت على فصه نقشا فقرأته، فإذا فيه: «تذكار عزيز»، فنزعته حالا من يدها وقد احمر وجهها، وبدت عليه علائم الكدر، فرمت به إليها قائلة: خذي خاتمك وأقصري.
فقهقهت دليلة حتى بانت أسنانها المهتومة، واختفت عيناها المفجرتان، وقالت مظهرة المزاح: ما أجفلك يا ابنتي؟ قالت: لم يجفلني شيء، لكنني فهمت أنه ليس برسم المبيع (وقد أدركت أنه مرسل عمدا من شخص معين، فتصرفت بما تقتضيه الرزانة ويوجبه المقام)، فأعادت الكلام دليلة قائلة: إن لم يكن برسم البيع؛ فقد يكون برسم التذكار.
فقاطعتها فدوى قائلة: أقصري يا دليلة، واعلمي أن مثلنا لا يقبل تذكارا من أبناء الأزقة، فخذي تذكارك وأرجعيه إلى أهله.
فنظرت إليها مستعطفة وقالت: لا تحكمي يا سيدتي قبل استيعاب الخطاب.
فقالت فدوى وقد أخذ التأثر منها مأخذا عظيما: لا حاجة بي إلى الاستيعاب وإطالة الكلام، فاذهبي من حيث أتيت. ثم تركتها وتحولت عنها، فخرجت العجوز لا تلوي على شيء.
فعادت فدوى إلى غرفتها. وبعد قليل، جاء بخيت فأطلعته على ما كان، فقال لها: لا يزال هذا اللئيم على غيه، فلعنة الله على دهر يستنسر فيه البغاث، فلا يرتد حتى أورده حتفه أو أذيقه من الإهانة ما لم يذقه عمره.
الفصل السادس والعشرون
السر المكتوب
أما ما كان من أمر سعدى، فإنها لبثت بعد ذهاب فدوى تفكر بها، وبما زينها الله من رقيق العواطف، ودقيق الإحساس، وكمال الذات، ولطيف الصفات، فكانت تعيد تاريخ معرفتها بها، وتتذكر اجتماعاتها من حين سفر شفيق، فلم تذكر عنها إلا ما يزيدها اعتبارا في عينيها، فأخلت لها مكانا في قلبها، وصارت تتلهف على رؤيتها ومكالمتها، لما رأت من الارتياح إليها، فصارت ترى ابنها سعيد الجد إذا حظي بتلك الدرة اليتيمة.
أما إبراهيم ، فلم يطلع على شيء من أمر فدوى وشفيق؛ إذ لا يعرف سوى بيته ومحل شغله، ولا سيما من يوم فتحه الصندوق، وسفر شفيق؛ لأنهما زادا انقباضه عن معاشرة الناس. ولولا ذلك لما بقي حب شفيق لفدوى مكتوما عنه، فلما صدرت الأوامر بسفر القنصلاتو، أخبر امرأته وأوصاها بالتأهب للسفر، وأعلمها أنه يريد الشخوص إلى مدينة لندرا لمشاهدة شفيق.
فشرعا في التأهب وتحضير الأمتعة السهلة الحمل، ووضعوها في الصناديق لإرسالها بالسكة الحديدية إلى الإسكندرية، وإذ هما في ذلك وقع نظر سعدى على الصندوق المعهود، فخفق قلبها، وتاقت إلى استطلاع ما فيه، فقالت لزوجها: ها إننا مسافرون على بركة الرحمن، ولا ندري ما نصيب في سفرنا هذا من خير أو شر، فأرغب إليك أن تطلعني على حكاية هذا الصندوق.
فبهت إبراهيم هنيهة ثم قال: أما اطلاعك على تلك الحكاية، فقد قلت لك: إنه لم يجئ ميقاته ولكن ... وسكت مفكرا ثم عاود الحديث قائلا: ولكني من جهة أخرى أخاف أن أصاب بسوء في سفري هذا، فينمحي خبر هذه الضفيرة من العالم؛ إذ لا يعلم أمرها إلا أنا، فأمهليني ريثما أعود إليك. قال ذلك ودخل غرفته، وأغلق بابها، وامرأته تنتظره خارجا وهي لا تدري ماذا يفعل.
وبعد ساعة خرج إبراهيم مكفهر الوجه وفي يده ورقة مختومة، فاقترب من سعدى وأمسك بيدها قائلا: أقسمي لي بمحبة ولدنا الوحيد شفيق أنك تحافظين على ما أقوله لك في شأن هذه الورقة، فأقسمت، فقال لها: إليك هذه البطاقة المختومة، ولا تفضيها أو تطلعي على ما فيها إلا إذا أصابني ضر في سفرنا هذا أو بعده، فعند ذلك تفضينها وتطلعين على ما فيها، وأرغب إليك العمل بمقتضاها والحرص عليها.
فتناولتها وقلبها يرتجف، وقد اغرورقت عيناها لتأثرها من خطاب زوجها وقالت: لا أراني الله بك سوءا، وجعلت البطاقة في جيبها ريثما تختار لها مكانا آخر أمينا تجعلها فيه.
ولا يخفى على القارئ أن تلك الورقة لم تكن إلا لتزيدها قلقا على قلق، فحدثتها نفسها مرارا أن تفضها انقيادا لعواطفها، ولكنها كانت تتذكر القسم فترجع.
ومضى ذلك الليل وهما يعدان معدات السفر، وكان خادمهما أكثر اهتماما منهما؛ لأنه اشتاق إلى سيده شفيق، وكان يحبه حبا مفرطا. وفيما هو يهيئ الأمتعة قال له إبراهيم: هل أنت مسرور بالذهاب معنا يا أحمد؟
فانتصب الخادم أمام سيده بوقار وقال: كيف لا وأنا مشتاق إلى رؤية سيدي شفيق، ويعلم الله أني لا أنسى كرم أخلاقه أبد الدهر، وقد شكرت الله لوجوده هذه المدة في بلاد الإنكليز حرصا على حياته.
فقال إبراهيم: لا شك أنه نجا من مخالب الثورة العرابية.
قال: كلا، يا سيدي، إن ذلك ليس محل خوفي، ولكنني كنت أخاف عليه من دسائس أحد أصدقائه الذي رافقه إلى الإسكندرية. قال ذلك وهو يحرق أسنانه غيظا من عزيز.
قال إبراهيم: ما تعني؟ ومن تريد؟
قال: أريد صديقه عزيزا ... وأعترف لك، يا سيدي، أنني كنت خائفا على سيدي شفيق منه، فلما علمت بمرافقته إياه إلى الإسكندرية لم يهدأ لي بال حتى رافقتهما متنكرا إلى الإسكندرية، ولم أرجع حتى ركب سيدي الباخرة على مرأى مني.
فقال إبراهيم: إنك كثير البلبال يا أحمد. وما الذي تخشاه على شفيق من هذا الرجل وهو أعز أصدقائه؟
قال: ربما كنت غير مصيب، ولكني لا أدري ما حملني على ذلك، فكأن قوة إلهية دفعتني إلى الذهاب. قال ذلك وعاد إلى ترتيب الأمتعة وحزمها، واستمر في ذلك طول الليل.
الفصل السابع والعشرون
ضياع شفيق
لبثت فدوى بعد سفر عائلة شفيق على مثل الجمر تنتظر كتابا من سعدى، وبعد ثلاثة أسابيع أخذ بخيت كتابا باسمه ففضه، فإذا طيه آخر برسم فدوى، فأتاها به، فلما تناولته اختلج قلبها فرحا، وارتعشت يداها حتى لم تقو على فضه، فدخلت غرفتها وأغلقت بابها حذرا من مفاجئ، ثم قعدت على متكأ هناك وفضت الكتاب بيدين ترتعشان فرحا؛ فإذا فيه:
عن لندرا، شارع أوكفرد، نمرة 65 إلى القاهرة في 5 يوليو سنة 1882
عزيزتي فدوى
وعدتك أن أكتب إليك حال وصولي هذه الديار عما يكون بعد مشاهدتي ولدي شفيقا، ولكنني أخبرك وأنا أكاد أغيب عن الصواب أنه قد مر علينا ثلاثة أيام من يوم وصولنا ونحن نفتش عن حبيبي ومهجة كبدي في سائر أنحاء لندرا، فلم نقف له على أثر. وقد أخبرنا صاحب النزل الذي كان ساكنا فيه أنه خرج صباح يوم من أيام الأسبوع الماضي ولم يعد، وهو لا يعلم مقره، فلا نزال ساعين في التفتيش عنه، ولم نظفر به بعد، فلا تسألي الدمع عما انسكب، ولا القلب عما انفطر، ولا الكبد عما تفتت. أواه! وا حسرتاه! لقد ذهل عقلنا، وطاش لبنا ونحن نسعى الليل قبل النهار في التفتيش عنه، فإذا عرفت عنه شيئا فعرفينا تلغرافيا بالعنوان المكتوب في أعلى هذا الكتاب، وإذا عرفنا نحن نخبرك، والسلام.
الداعية
محبتك سعدى
فأين للقلم أن يصف حالة فدوى بعد قراءة الكتاب وقد خارت قواها، وارتعدت فرائصها، وغاب صوابها، فصرخت وانكبت على الأرض مغشيا عليها؟ فسمع بخيت صوتها فبادرها وقد أذهله الأمر فرشها بالماء إلى أن استفاقت، فأخذ يسألها السبب وهي لا تعي على شيء، ولم تزدد إلا نوحا، فبحث عن الكتاب حتى رآه، فلما اطلع عليه لم يتمالك عن البكاء، ولكنه أخفى اضطرابه وأقبل عليها؛ ليخفض من اضطرابها وهي تصعد الزفرات، فقال لها: تصبري يا مولاتي، عسى أن يمن الله بالفرج، واكتمي ما بك لئلا ينكشف الأمر؛ فإن سيدتي والدتك لا تلبث أن تأتي فتشاهد اضطرابك فتصير البلية أعظم. أما هي فرجعت إلى وعيها وتجلدت جهدها؛ لتخفي ما اعتراها، فلم تقدر، فأمرت بخيتا أن يأتيها بدواة وقرطاس، وجلست إلى طاولة وكتبت لسعدى جوابا على كتابها؛ وهو:
عن القاهرة في 12 يوليو سنة 82 إلى لندرا
سيدتي المحترمة
قرأت كتابك بدموع الحزن والأسف، وقلب يتقلب على نار اللهف، كأن الدهر قد ندم على ما وهب، فحملني ما لا أستطيع عليه صبرا. أما أنت، أيتها الوالدة، فلا أذاقك الله لوعة، ولا سقاك حسرة؛ فإن ضياع حبيبي ومنتهى أملي نبأ أورثني من القلق ما لم أذق مثله، ومن اللوعة ما لم أكابده، فلا غرو إذا انفطر له قلبك، وسح دمعك ، وتفتت كبدك، وأنت والدته ومربيته، وقد علقت به أملك، وعقدت له على باقي عمرك، وربيته بدموع عينيك.
على أني آملة بمراحم الله أنه لا يخيب أمل والدة حنونة، وحبيبة مفتونة، وهو الذي أذن بما كان، وله القدرة برد ضائعنا، وجبر قلبنا، وحاشاه أن يأذن بهلاكنا حسرة ولهفا. على أني أسألك أن تعلميني تلغرافيا عما تعلمين عنه، وأما أنا فإذا عرفت عنه شيئا سأعلمك أيضا. اعذريني على التمادي في مكاشفتك عواطفي؛ إذ ليس لدي من أكاشفه سواك. وأختم الكتاب بتقبيل يديك، ودمت سالمة لولدك.
فدوى
وبعد أن أتمت قراءة الكتاب ختمته وعنونته وسلمته لبخيت ليضعه في صندوق البوسطة، ورجعت إلى هواجسها، فصارت تندب سوء بختها، فقال لها بخيت: لا تقنطي من رحمة ربك، ولا يخامرك مثل هذه الأفكار؛ فإن لندرا مدينة عظيمة تحتوي على زهاء خمسة ملايين من الناس، فلا بدع إذا اختفى عن أهله فيها بضعة أيام.
قالت: ولكني أخشى أن يكون ذلك الخائن قد سعى إلى أذيته. والهفي عليه! ماذا أعمل الآن؟
فقال بخيت: سكني روعك، واغسلي عينيك، وألقي اتكالك على الله، وهو قادر أن يجمعك بمن تريدين، وليس عليه أمر عسير. وما زالت في هاجس عظيم إلى أن كان الأصيل، فقال لها بخيت: هل لك يا سيدتي أن تركبي العربة للنزهة فتفرجي كربك، واتركي الأمر لله، وهو لا يخيب رجاءك.
فامتنعت أولا، ثم رأت مناسبة ذلك إخفاء لما قد يوقع مظنة فيها لدي والدتها، فأرسلت بخيتا يخبرها بذهابها للنزهة، ثم ركبت العربة وركب معها بخيت وخرجا يريدان الجزيرة.
الفصل الثامن والعشرون
ضرب الإسكندرية
فمرا بجهات الأزبكية وإذا الناس في هرج يتحدثون ويتساءلون ويتسارون، وأنفار الجهادية يخطرون في الطرقات مرحا، ورءوسهم تكاد تدرك السحاب عجبا وتيها، فأوقف بخيت المركبة وسأل عن السبب، فقيل له: إنه قد قدم من الإسكندرية بعض المهاجرين، وأخبروا أن العمارة الإنكليزية قد أطلقت مدافعها على الحصون فهدمتها، ثم أنزلت عساكرها واحتلتها، ففر العرابيون إلى كفر الدوار يتحصنون ويستعدون لملاقاة العدو بعد أن أحرقوا الإسكندرية ونهبوها . أما جند القاهرة فلم يصدقوا الخبر؛ لأن جرائدهم كالطائف والمفيد كانت تذكره بعكس ذلك؛ تشجيعا لهم؛ ولذلك كانوا يمرحون في الأسواق إعجابا بالنصر، ولا سيما الذين هاجروا الإسكندرية فرارا من الإنكليز، وجاءوا القاهرة، فإنهم كانوا يتحرشون بالمارة من الغرباء، ويوقعون بهم كل سوء، حتى صاروا لا يخرجون إلى الأسواق إلا متنكرين بزي الوطنيين حرصا على حياتهم.
أما أهل القاهرة فكانوا أيضا يتضررون من تصرف جالية الإسكندرية، فعرضوا شكواهم لضابط العاصمة إذ ذاك، وكان ساهرا على مصلحته، فبذل قصارى جهده لملافاة تلك التعديات.
وكان يطوف في شوارع القاهرة جماعة من المشائخ على صدورهم مآزر ملونة، وبأيديهم مباخر يبخرون بها وينادون بعالي صوتهم طالبين النصر لعرابي وأحزابه، وحبوط مساعي الإفرنج.
فلما شاهد بخيت هذا الاضطراب خشي أن ينال فدوى منه سوء، فاستأذنها بالعود، وأمر السائق فعاد إلى البيت.
فدخلت غرفتها وإذا بوالدتها في انتظارها فحيتها، فشاهدت والدتها في وجهها أثر الاضطراب، فسألتها السبب، فنسبته إلى ثورة الإسكندرية، إلى أن قالت: أما سمعت ما حل بالإسكندرية من القتل والحرق. وقصت عليها الحكاية وهي ترتعد من الخوف، فلما سمعت والدتها ذلك امتقع لونها، وأخذتها البهتة، ثم قالت: آه! يا إلهي! ماذا يكون حل بوالدك؟ وماذا يترتب على بقائنا هنا تحت ظل الأخطار؟ آه! كم رغبت إليه مهاجرة هذا البر أثناء الثورة! فنلتجئ إلى دمشق الشام؛ لأن لنا فيها أهلا وأقارب، ومتى سكنت الأحوال نعود، ولكنه أبى إلا البقاء هنا. وها قد ذهب الآن إلى الإسكندرية، فلا ندري ما أتى أو يأتي به المقدور.
فقالت فدوى: أظنه تمنع خوفا على أملاكه من الضياع مدة هذه التقلبات، ولا إخاله ظن الثورة تبلغ هذا المبلغ. أما ذهابنا إلى الشام فما أحلاه لو كان! لأني شديدة الميل إلى مشاهدة مسقط رأسك، ومقر أهلك؛ فقد بلغت هذا المبلغ من العمر ولم يقسم لي الحظ برؤيتهم، فما أمر البعاد وأجفاه!
فتنهدت والدتها وخنقتها العبرات، ثم اتكأت إلى سنادة كرسي أمامها وهي تصعد الزفرات، فلما رأتها فدوى على هذه الحال اضطرب فؤادها، وظنت هذا التأثر خوفا على والدها من مذبحة الإسكندرية، فأخذت تهون عليها لتسكن اضطرابها، وأخبرتها عن دخول الإنكليز إلى الإسكندرية، وأن الجميع في سلام وطمأنينة.
فرفعت نظرها إلى فدوى وقالت: لم يكن اضطرابي كله يا حبيبتي على والدك؛ إذ لا خوف عليه بإذن الله؛ لأنه معروف من زعماء الثورة، وإنما تأوهي لذكرى حضرتني بتذكر الوطن.
فقالت فدوى: ما هي هذه الذكرى يا والدتي إن لم تكن الأهل والوطن؟
فقالت: تذكرت ضياع أخ لي منذ 19 سنة أثناء الحادثة المشئومة التي حدثت في دمشق الشام سنة 1360 ولم أكن أعرف أباك بعد.
فقالت: كيف ذلك يا أماه؟ وهل لم تقفوا على خبره بعد. وأقبلت بكليتها لاستطلاع الخبر.
فقالت والدتها وقد مسحت دموع عينيها: اعلمي يا ابنتي أنني من عائلة معروفة في دمشق، وكان لي أخ غض الشباب، حسن الأحدوثة، شهم شجاع، وكنا عائشين في بسطة ورغد تحت كنف والدينا، حتى كانت سنة 1860، فجرت ثورة في دمشق قام فيها فتيان المسلمين على النصارى، فحصلت مذبحة هائلة عرفت بمذبحة سنة 60، دارت فيها الدائرة على النصارى، وكان خالك في جملة أولئك الفتيان، فخرج صباح يوم في جملة من خرج للقتل والفتك، ولم نعد نراه أو نسمع عنه شيئا. وا حسرتاه! لقد كان وحيد العائلة، فبقيت أنا وحدي مع والدي؛ جديك، وفي السنة التالية للمذبحة، جاء والدك إلى دمشق في مهمة، فتعرف بوالدي وخطبني منهما. ونظرا لما هو فيه من الشهرة والغنى أجاباه، فتزوجني وجاء بي، وللآن لم نعلم خبرا عن خالك.
فلما سمعت فدوى من والدتها هذا الكلام تذكرت ضياع شفيق، ففقدت صوابها ولم تتمالك عن البكاء، ولكنها قالت: إن ضياع خالي قد أحزنني، فكيف تكون حال ذينك الوالدين بعد فقد ولدهما الوحيد؟ ثم أردفت كلامها لئلا تلحظ منها شيئا من الاضطراب: كيف يمكنك التصبر، يا أماه، على بعد والديك كل هذه المدة والمسافة بين مصر وسورية قصيرة لا تحتاج إلى أكثر من بضعة أيام ذهابا وإيابا؟ آه لو نذهب لتمضية بضعة أيام هناك! لأني أميل من كل قلبي إلى مشاهدة جدي اللذين قسم لي الدهر ألا أراهما حتى الآن.
فتأوهت والدتها عن كبد حرى وقالت: أطلب إلى الله أن يستجيب دعوتك وينيلك مرامك.
لندع فدوى ووالدتها يتحدثان، ولنأت إلى عزيز.
الفصل التاسع والعشرون
دليلة وعزيز
ما برح عزيز يزداد هياما بعد تلك الإهانة من بخيت على شارع العباسية، فكأن الإهانة في مثل هذه الأحوال تحمل الإنسان على الانتقام لنفسه، فيستعمل ما لديه من الوسائط السافلة لاستطلاع أسرار خصمه، ويتخذها سلاحا له ليذلله بها، وهكذا فعل عزيز، فذهب إلى المفتش الذي أقامه العرابيون في مصلحة البوسطة لفض الرسائل المرسلة من أعيان البلاد ورجال حكومتها، والرسائل الواردة إليهم؛ استطلاعا لضمائرهم نحوه، وأوصاه سرا إذا عثر على كتاب مرسل إلى بلاد الإنكليز بعنوان كذا أن يطلعه عليه، إلى أن قال: إن عرابي باشا يريد ذلك. وقد كان هذا المفتش من الملكية، ولم يقبل تلك المهمة إلا خوفا من صولة الجهادية إذ ذاك.
وفضلا عن ذلك، فإن عزيزا أقام الأرصاد على فدوى، حتى إذا خرجت من بيتها يسعى إلى اكتسابها بأي طريقة كانت. ولما لم ينل جدوى قصد صديقته دليلة، وعرض لها الأمر وقال: لا بد من نيل هذه الفتاة على أي الطرق؛ فالذين كنت أخشاهم بعيدون عنها الآن، وقد ساعدتني جميع الأحوال، ولم يبق إلا رضاها، فالحوادث العرابية قضت بإبعاد والدي شفيق إلى أجل غير مسمى، وقد سعيت إلى إبعاد والدها إلى الإسكندرية، فظننت أنها تذل بعد هذا وتخاف الجهادية، فاعترضت لها مرة في شارع العباسية فقابلني خصيها بشراسة، وهي لم تفه ببنت شفة، ولا أدري إذا كان سكوتها احتقارا لي أو خوفا من خصيها؛ لئلا يوصل كلامها إلى مسامع والدها.
فقالت دليلة: أما أنا، فأظنها لا تفضل سواك؛ لأنك شاب غني عنها بالمال والجاه، وقد حصلت على رتب الجهادية التي هي أشرف مناصب الحكومة الآن، ولكنك - سامحك الله - لا تعلم من أين تؤكل الكتف، والجنس اللطيف لا يؤخذ إلا بالملاطفة، وليس بالعنف، ولا يخفى عليك أن تصديك لها على قارعة الطريق مما ينفرها منك، ولا بد لك في مثل هذه الحال أن تجعل بينك وبينها من لها خبرة بذلك.
فقال: نعم الواسطة أنت! فهل لك أن تقومي لي بهذه المهمة؟ قالت: مرحبا بك، ولكنها تكلف إنفاق قدر طائل من المال؛ إذ إن مرادي أن أصنع خاتما عليه اسمك، وأقدمه لها بلطف وحسن أسلوب، وأرى ماذا يظهر منها، فمد يده وناولها مبلغ كبيرا، فأخذته وخرجت إلى الصائغ فاصطنعت الخاتم، وذهبت إليها وجرى بينهما ما قد تقدم ذكره.
فلما عادت بخفي حنين اتقدت في قلبها نار الانتقام؛ لأنها اعتبرت معاملة فدوى لها على تلك الصورة إهانة، فسارت توا إلى منزل عزيز الذي كان في انتظارها على مثل الجمر، فلما رآها بما هي عليه من الغضب خفق قلبه وسألها، فقصت عليه القصة إلى أن قالت: طب نفسا، يا ولدي،
فقال لها: أتقدم إليك أن تأتي إلي كل يوم مرة للمفاوضة في الأمر، وأخشى أن ترد علي الأوامر بالسفر إلى الإسكندرية بغتة، وعند ذلك لا بد لي من الاعتماد عليك في هذه المهمة.
فقالت: وهل إذا جاءتك الأوامر بالسفر إلى الإسكندرية تسافر وأنت عالم أن ذلك الثغر في خطر عظيم؛ تتهدده دوارع دولتي إنكلترا وفرنسا الواقفة له بالمرصاد؟ وزد على ذلك أن ذهابك هذا يعرقل مساعي من جهة فدوى، قال: «ما كل ما يتمنى المرء يدركه.» فكنت عولت منذ انتظامي في سلك العسكرية أني حالما أعلم باقتراب الحرب أستعفي من الخدمة، ولكني رأيت من الجهة الواحدة أني ارتقيت وصرت عظيما في أعين الناس، ومن الجهة الأخرى، علمت أن القوانين العسكرية لا تجيز الاستعفاء وقت الحرب، فلا بد لي من البقاء في الجيش على كل حال، ويجب علي إطاعة الأوامر. أما إذا ذهبت إلى حرب، فلا أعرض بنفسي إلى مكان الهلاك؛ لأنها عزيزة علي، ومتى انتهت مهمتي أعود إلى القاهرة، وأسعى إلى ما أتطلبه.
الفصل الثلاثون
إباحة الأسرار كإباحة الأعمار
أتت دليلة صباح يوم إلى بيت عزيز جريا على العادة، فرأته يخطر في غرفته ذهابا وإيابا، وفي يده رسالة ينظر إليها، وسمات الطرب بادية على وجهه، فلما لحظ العجوز مقبلة عليه رحب بها وقال: وسيعلم الظالمون أي منقلب ينقلبون. أتدري ممن هذا الكتاب ...؟ هو من فدوى إلى والدة شفيق. خذي انظري وتعجبي. لقد قضي الأمر وحبطت آمال تلك الحبيبة الجافية.
فسألته: وكيف ذلك؟!
قال: ضاع حبيبها شفيق، ولم يطلع والداه له على خبر، فهل بعد ذلك مانع من نيلها!
فقالت دليلة: ها إنك قد اطلعت على أسرارها، فيمكنك بهذه الرسالة تحقيرها في عيني والدها، وحينئذ لا يشك في محبتك له، وغيرتك على شرف ابنته، فيزداد بك ثقة، حتى إذا أظهرت له أقل ميل بمصاهرته لا يتردد في إجابة طلبك، وإذا مانعت ابنته يجبرها انتقاما منها؛ لأنه غيور عليها.
فلما سمع عزيز كلام العجوز أخذته هزة الطرب وقال: لا أشك بأن الباشا يرغب كثيرا في مصاهرتي، لكنني كنت أخاف أن تمتنع هي فأرجع بصفقة المغبون؛ ولذلك سعيت عبثا في استجلابها فلم أظفر، والذي يتراءى لي أن حبها لشفيق لم يدع في قلبها مكانا لمحبة سواه. ولما لم أقو على استجلابها بالملاطفة التجأت إلى إذلالها، وإيقاع المكيدة بها، فظفرت. أما الآن وقد وقعت في شرك كبرها وترفعها، فلا تقوى على رد أوامر والدها بعد أن ينكشف له حبها لشفيق.
وبينما عزيز في الحديث أتاه الخادم بكتاب ففضه، فإذا هو من أركان حرب عرابي يطلبون إليه به أن يعد عددا من الخيل، ومقدارا من المئونة مساعدة للجيش ويقدمها بأقرب ما يمكن من الوقت. وبعد ذلك يطلبون إليه السفر إلى الإسكندرية، فلما قرأ الكتاب تغيرت ملامح وجهه، فقطب جبينه، وجلس إلى متكأ أمامه، واستلقى رأسه بيده؛ كأنه وقع في أمر عظيم، فسألته العجوز عن سبب هذا الانقلاب، فلم يجبها أولا، ثم أعلمها بواقعة الحال، فخفضت عنه وقالت له: ألم تعلم قبل انخراطك في سلك الجهادية أن أوامرها لا مرد لها، وخصوصا في مثل هذه الأحوال.
فرفع عزيز رأسه بعد تفكر طويل وقال إني مسافر إلى الإسكندرية بعد غد فأعهد إليك في مراقبة حركات فدوى واستعطافها إذا وجدت إلى ذلك سبيلا فطيبت خاطره ووعدته بما يريد.
فسافر عزيز، ولما وصل إلى كفر الدوار علم أن عرابيا لا يلبث أن يأتيها، فيعود بجنده من ضواحي الإسكندرية ويتحصن في كفر الدوار لدفع الإنكليز، فخاف عزيز أن يلتحم الجيشان هناك فيصيبه سوء، وقد تبادر إلى ذهنه أن موته يعود بالنفع على شفيق إذا كان لا يزال حيا، فصور له حسده أن يبحث عن مكان والد فدوى، ويرسل إليه الكتاب ليهيج فيه عاطفة الانتقام، ويعرقل مساعي شفيق. وبعد البحث، علم أنه لا يزال في الإسكندرية، فتربص مكانه يرقب فرصة ينزل بها إلى الإسكندرية، حتى ورد أمر من الجناب العالي في الإسكندرية إلى عرابي يأمره بالإمساك عن الأعمال الحربية، وحشد الجند؛ لأن الجنرال سيمور؛ أميرالاي العمارة الإنكليزية، قد صرح بالخروج من الإسكندرية حالما يتأكد انحلال عقد الجهادية، والتوقف عن الاستعدادات الحربية، ويطلب سموه إلى عرابي الحضور إلى الإسكندرية، فسر عزيز بذلك؛ لأنه يتمكن من نيل مراده بالذهاب إليها، ولكن خاب ظنه؛ لأن عرابي لم يذعن للأوامر، بل كتب إلى وكيل الجهادية في القاهرة يخبره بما حصل، فجمع ذلك أعيان العاصمة ورجال حكومتها، وبعد المفاوضة أقروا على وجوب المثابرة على الأعمال الحربية، وبعثوا لجنة مؤلفة من ستة مندوبين لمخاطبة الجناب العالي بذلك.
فسارت اللجنة من القاهرة ومرت بطريقها على كفر الدوار تعلن مهمتها لعرابي، فرأى عزيز أن يسعى لمرافقة هؤلاء إلى الإسكندرية؛ إذ لا يتسهل له السفر إلا بمثل هذه الطريقة؛ لأن السكك الحديدية في مصر أصبحت بعد ضرب الإسكندرية لا تسير قطاراتها إلا بأمر العرابيين؛ إذ قد حظروا السفر فيها لغير حاجياتهم من صادر ووارد، فاغتنم عزيز هذه الفرصة، وطلب إلى رئيسه أن يسمح له بمرافقة هذا الوفد إلى الإسكندرية، فأذن له. ولما وصلوا المدينة، انفرد عزيز ليفتش عن بيت الباشا، فاستولى عليه الذهول لما حل بتلك المدينة العظيمة من الدمار إثر الحريق الذي ذهب بأعظم مبانيها، وأصبحت المنشية آكاما من الأتربة والأحجار. وكان الدخان لا يزال يتصاعد عنها، وحوانيتها العظيمة التي كانت ملأى بالأقمشة والملابس على أنواعها، والحلي والمجوهرات، ذهبت طعاما للنار، فصارت آكاما خربة، وأطلالا بالية ينعق فيها البوم، بعد أن كانت تزهو بهاء وجلالا. وبعد أن كان الأمن مخيما فيها، والناس في الشوارع زرافات ووحدانا يترنحون بخمرة الزهو والعز بأزياء مختلفة، وعوائد متنوعة، وعربات متباينة الشكل بين متشح بالثياب الفاخرة، ومتأنق بركوب العربات الباهرة، ومباه بكثرة الخدم والحشم، ومفاخر بالزهو والبذخ. هذه البلاد بعد عزها وزهوها هجرها أهلوها، وغشيها البلى والدمار، وما لم تأكله النار من مبانيها ذهب فريسة النهب، فتعجب عزيز لهذا الانقلاب السريع. وكان لا يشاهد أثناء سيره من المارة إلا أزواجا من الشرطة بزي الإنكليز؛ بعضهم خيالة، وبعضهم مشاة، وكلهم بالسلاح الكامل يطوفون بالبلد حفاظا للأمن، وقلما شاهد مارة في الشوارع من غير الشرطة، فخاف أن تقع فيه شبهة ويساق بتهمة، فيعود ذلك بالوبال عليه.
الفصل الحادي والثلاثون
نجاة عزيز من الموت
أما محل سكن الباشا في الإسكندرية فكان إلى جهة منحرفة من السكة الجديدة، فلما اهتدى عزيز إلى منزله وهم بالدخول إذا بنفر من الجنود الإنكليزية قد أمسكوا به - وكانوا آتين للقبض على الباشا؛ حيث اتهمه البعض بكونه من العصاة المختبئين - فلما رأوا عزيزا وغبار القطار الحديدي على ثيابه بلباس الجند المصري، ظنوه قادما بدسيسة من عرابي وأتباعه إلى الباشا، فقبضوا عليهما وساقوهما موثقين إلى المحافظة، بعد أن ضبطوا ما وجدوه معهما من الأوراق ولفوها رزمة واحدة، فلما صار الباشا على الطريق لحظ عزيز فعرفه، وظن أنه الواشي به. أما عزيز فكان يلعن الساعة التي أتى فيها الإسكندرية، ويندب سوء بخته وقد اكفهر لونه، واصطكت ركبتاه، وارتعدت فرائصه، حتى كاد يقع في الطريق من شدة الخوف. ولم يكن الباشا أقل منه اضطرابا، فبينما هما في الطريق وقد اقترب بهما الجند من ساحة المنشية، تصدى لهم ضابط إنكليزي، فوقف الجند بالسلام العسكري المعتاد عندهم، وتأمل الضابط الرجلين الموثقين وأشار إلى الجند وخاطبهم باللغة الإنكليزية، فتركوهما وألقوا إلى الضابط ملف الأوراق وساروا.
فتعجب الباشا وعزيز منه، وظناه المفوض إليه أمر إعدامهما. أما هو فأشار إليهما أن يتبعاه، فتبعاه حتى خرج بهما من شوارع البلدة إلى جهة معروفة بسكة المسلة، فوصل إلى منعطف فأدخلهما بيتا فيه وأغلق خلفهما الباب.
أما هما، فتحقق لديهما دنو الأجل، وأنهما لا محالة مسوقان إلى القتل، فرجفا من الخوف، وسقطا إلى الأرض، فاقترب الضابط منهما ورفع قبعته وخاطبهما باللغة العربية قائلا: «السلام عليكما.» فانذهل كلاهما لهذا المشهد وتأملاه، فإذا به كأنهما يعرفانه. أما عزيز فما أطال نظره إليه حتى ألقى بنفسه عليه قائلا: شفيق ... شفيق، ما أسعد هذه المصادفة! أخي حبيبي.
فقال الباشا: هل أنت مصري الوطن يا سيدي، قال: نعم، وقد رأيتكما في خطر فسعيت إلى إنقاذكما من مخالب الموت.
فقال الباشا: إننا مديونون لك بحياتنا أيها الشهم الباسل؛ فاطلب إلينا ما تشاء، لعلنا نفي بعض الواجب علينا.
فقال شفيق: يكفيني مكافأة أن قدر لي الله إنقاذكما من الموت أو الإهانة، ثم حل وثاقهما ودعاهما إلى الاستراحة، ودخل هو إلى غرفة أخرى، وفض ملف الورق ليرى ما يحتويه، فعثر على الكتاب المرسل من فدوى إلى والدته، فلم يتمالك أن قرأه على نفسه، فثارت عواطفه، وأخذته رجفة الحب، ولم يقو على الوقوف، فقعد على مقعد هناك وهو يكاد يغيب عن الوجود، وصبر إلى أن هدأت عواطفه، فأرسل خادما عنده أن يدعو الرجلين إلى حضرته، فلما حضرا أكرمهما، ثم سألهما: ما سبب وجود هذا الكتاب بين أوراقكما؟ فتدارك عزيز وقال: قد كان بين أوراقي، أيها الحبيب، واقترب منه كأنه يسأله المحادثة بالأمر سرا، فطاوعه شفيق وقام، وخرجا الاثنان بعد أن استأذنا الباشا. ولما انفردا بادأه عزيز بما فطر عليه من الدهاء والكذب قائلا: ما برحت أذكر أيها العزيز ما تفرضه علي واجبات الصداقة والإخاء نحو شخصكم الكريم، فسعيت إلى ما وعدتك به من تسهيل أمر اقترانك بفدوى ، فبقيت مدة أتردد إلى بيت الباشا حتى تسنى لي أن أساعد بخيتا في إيصال كتبها لك إلى البوسطة سرا؛ لأن والدها لم يكن يأذن لأحد بمخاطبتها غير بخيت. وهذا لم يجسر على إيصال التحارير إلى البوسطة؛ خوفا من اطلاع الباشا عليها؛ فينتقم منه. أما أنا فلم أخاطب الباشا بشيء من مقاصدك؛ خوفا من أنك لا تريد ذلك. وهذا الكتاب أعطاني إياه بخيت لأوصله إلى البوسطة، وبما أن إدارة البوسطة هذه الأيام بيد العرابيين يستطلعون من المراسلات فيها تساؤلا، فلا أكون على ثقة من وصوله إليكم، فأبقيته معي؛ لأنني كنت عازما على النزول إلى الإسكندرية فأضعه في مكتب من مكاتب البوسطات الفرنجية، فيصلكم لا محالة. ومما رغبني في المجيء أيضا إلى الإسكندرية، أن الباشا مقيم فيها، فاغتنمت الفرصة إلى أن أتيتها وذهبت إلى بيته، ولما وصلته قبض الجند علي وعليه، وكان ما رأيت.
فبادر إليه شفيق وقبله قائلا: لقد أوليتني فضلا عظيما، أيها الصديق الحميم، فأراني مقصرا عن تأدية الشكر لك، لا بل أرى عبارات الشكر تنفد ولا تحيط بفضلك، غير أني أرجو من لطفك وقد قلدتني هذه المنة أن تعلمني عن حالة فدوى.
قال: هي على ما تريد من الكمال والجمال، وكأن الله - سبحانه وتعالى - قد خلق هذه الذات المتحلية بفضائل النفس ليجمع بكما فضائل النفس والجسد.
وأراد عزيز أن يجعل في شفيق ثقة عمياء فيه؛ لكي يستعين بها على نيل أربه، فكأن الله قد قد قلب هذا الجلف من حجر، فلا يؤثر فيه جميل ولا إخلاص.
أما شفيق، فأخذ كلامه مأخذ الإخلاص، وظنه صادرا عن شعائر كريمة، ومحبة صادقة، حتى لم يدر كيف يبدي له شكره، ثم حول نظره إلى حلة عزيز العسكرية وقال: أراك قد انتظمت في سلك الجهادية! فقص عزيز عليه حكاية انتظامه في الجهادية، وأدخل عليها ما شاء من الأكاذيب الملفقة، ثم قال: وأنت؛ أراك لابسا لبس الضباط الإنكليز، فكيف ذلك؟!
قال شفيق: إنني لما سمعت بالثورة العرابية وما أصاب الديار المصرية من اختلال الأحوال، أشفقت على فدوى أن ينالها سوء، فدخلت متطوعا في الجندية الإنكليزية لمرافقة هذه الحملة، فأشاهد الأهل والأحباب؛ لعلي أقوى على غوثهم، وخصوصا فدوى؛ لأن حبها شغل كل جوارحي حتى منعني من الافتكار بسواها. أقول غير خجل؛ لأنك تعلم مقدار حبنا المتبادل، ولا يخفى عليك أيضا أن انتظامي في الجندية الإنكليزية كان رابع المستحيلات لو لم أستخدم وسائط كثيرة، وأكون ممن يعرفون اللغتين العربية والإنكليزية، فأقوم أحيانا مقام المترجم. ولي أمل عظيم إذا نلت حظوة في عيني رئيسي أن أحصل على التعيين النهائي في الجيش فأغفل مهنة المحاماة. فما رأيك بعد هذا يا عزيز؛ هل أكاشف الباشا الآن بحقيقة حبي لفدوى أم ... فقاطعه عزيز قائلا: أرى الأفضل أن تنوط الأمر بي فأديره بما تقتضيه الحكمة والدراية.
فقال: إنني أشكر اهتمامك، وأتقدم إليك إذا رجعت إلى العاصمة قبلي أن تبلغها تحياتي، وتخبرها أني لا أزال على العهد، وعما قليل أكون عندها، فلا تشغل بالها علي، وسأكتب لها في الغد. قال عزيز: لا تنقل كتبك في البوسطة؛ لأنها محتلة كما أخبرتك. أما إذا شئت، فإني أنقل لك ما تريد، ولكني أخشى أن تغشني فدوى، فهل من علامة ترفع الشبهة عني؟ فقال شفيق: لدي علامة، لكني لا أحب أن يطلع عليها أحد. أما أنت فسأطلعك عليها؛ لأنك عالم بما بيننا. ثم أخرج الدبوس من جيبه، وأراه لعزيز قائلا: هذا الدبوس أخذته منها في حديقة قصر النزهة تذكارا للحب والولاء، فإذا ذكرته لها تثق بك.
فأظهر عزيز استحسانه لتلك الإفادة، وشكر شفيقا على ثقته فيه، ثم دخلا على الباشا في الغرفة واعتذرا إليه على انفرادهما، ثم دفع شفيق الأوراق إليهما، ونسي كتاب فدوى بينها، وقال لهما: إذا أردتما الذهاب فهاكما شعار الأمان المصطلح عليه هنا؛ وهو إذا التقى بكما أحد فقولا له: «السلام.» فهذا هو الشعار الأخير، فخرج الاثنان ينفضان غبار الموت عن منكبيهما، حتى أتيا مختبأ الباشا، وعزيز كل الطريق مشتت البصر لهذا الاتفاق العجيب، وهو يقول: من أين أتى ...؟ لا حول ولا ...! ألا يزال في قيد الحياة؟ فوالله إذا التحم الحرب بيننا وبين جيوش الإنكليز لأسعين إلى قتله ولو كلفني ذلك الحياة!
الفصل الثاني والثلاثون
خطبة فدوى لعزيز
فلما دخلا المنزل أثنى الباشا على عزيز؛ لأنه نجا بواسطته من الموت، فأبدى عزيز أمارات التعزز وشمخ بأنفه وقال للباشا: إن ما صنعه معنا هذا الرجل إنما هو مكافأة لما لي عليه من الصنع الجميع، لكنني سررت لاتفاق وجودك معي.
ثم نظر إلى الباشا كمن لديه خبر ذو بال، فلحظ الباشا ذلك منه، فحول إليه نظر الإصغاء وقال: ما وراءك؟ فقال عزيز: لدي أمر أرغب في إيراده على سعادة الباشا راجيا منه ألا يثقل على مسامعه، وهو - ولا أزيدكم علما بغيرتي على شرفكم وشرف الخاتون كريمتكم، وقد أتيت من مصر لهذه الغاية ...
فقال الباشا: ماذا ...؟ بربك عجل في إيراد الحديث، قال: أتذكر ليلة كنا في الملعب ولمحت لك بشيء من وجوب التيقظ على ذهاب السيدة فدوى وإيابها؟ قال الباشا: نعم، قال عزيز: إن كلامي لم يكن عبثا؛ لأني عرفت أن أحد شبان العاصمة سعى إلى إغوائها، وهي لصفاء جوهرها، وسلامة نيتها، وقعت في شركه؛ حتى إنها علقت بحبه. ولما ظهرت الثورة العرابية سافر ذلك الشاب إلى بلاد الإنكليز وشرع يكاتبها من هناك حتى كاتبته. وفي هذه المدة المتأخرة عثرت على كتاب منها إلى والدته، فاستحصلت عليه وجئت به إليك؛ لتعلم صدق خدمتي لشرف سعادتك، ثم استحضر الأوراق، واستخرج الكتاب المعهود، وأعطاه إياه، ففضه وقرأه، وما انتهى إلى آخره حتى صار الباشا ينتفض من الغضب ويلعن ابنته، فقاطعه عزيز وقال: إن طيبة قلبها وحسن طويتها هما اللذان غشيا على بصرها، ثم قال: إن سعيي وراء شرف الخاتون كريمتك لم يكن إلا لما رأيت فيها من الخصال الحميدة، فتعلق قلبي بها، والآن أعترف لك أني أحببتها، وأمدح صفاء جوهرها، وطيب عنصرها، فهل تريد أن تجعلني في مكان ذلك الغر الخائن، فأكون لها بعلا، ولك صهرا، وعند ذلك تكون لي بمثابة والد، وتضع يدك على جميع أموالي، فاستبشر الباشا من كلام عزيز ببلوغ مناه، فقال له على الفور: إنك لتفضلها كثيرا، وهي لا تستحق أن تكون لك زوجة، وقبولك بالاقتران بها أعده لي شرفا، فقال عزيز: العفو يا سيدي، إنها مهما كان من أمرها، فلم تخرج عن كونها من الأصل الكريم، والعنصر الشريف، وإني أحسب نفسي سعيدا إذا عاهدتني على الاقتران بها، فقال: قد وهبتها لك زوجة، فبورك لك فيها.
فابتهج عزيز لنجاح مسعاه، وشرع يؤمل اكتسابها قهرا عنها، ونسي بغضها له ونفورها منه، وحبها شفيقا، وائتلاف قلبيهما على حب صادق، ثم أتى الخادم يدعوهما للطعام، فذهبا وجلسا إلى المائدة، فقال الباشا: ما أخبار جنودكم؟ قال: هم بخير يتأهبون للدفاع في كفر الدوار، فقال الباشا: إنكم لم تحسنوا التصرف في الأمر كما كان يجب، ولقد بالغتم في الاستبداد فكانت أعمالكم بادئ بدء حسنة المظاهر كريمة الغاية. أما الآن فلا ينجلي من وراء هذا الاستبداد سوى أغراض نفسية ليست بشيء من فائدة الوطن، بل هي مضرة به.
فقال عزيز: إننا لم نطلب يا سعادة الباشا إلا المطاليب العادلة التي تعود على الوطن بالنفع العميم.
قال الباشا: هب أن جميع مطاليبكم عادلة؛ أترومون تنفيذها دفعة واحدة في يوم واحد، فإن لله في عباده سنة لا محيد عنها، والإصلاح مهما كان بينا لا يمكن إدخاله إلا تدريجا، وفضلا عن ذلك فقد بالغتم في عقوق إحسان ولي النعم الذي لم يظهر لكم من أعماله منذ اعتلى أريكة الخديوية إلا كل حسن نافع، فإنه رجل مخلص لرعيته، محب لمصلحتهم، ساهر على خيرهم. أفتقولون إنه ساع إلى بيع الوطن؟
فقال عزيز: لم نقل ذلك إلا بعد أن رأيناه يقبل نجدة الدول الأجنبية علينا.
قال الباشا: وماذا إذن بعد أن ثارت القوة العسكرية عليه؟ وهل يخفى عليكم أن للحكومات الأجنبية مصلحة مادية في هذا القطر، ومصلحته من مصلحتها؟ ألا تذكر ما نقلته لي يوم حادثة عابدين، عندما قال قنصل إنكلترا لعرابي: إن إصراره على عناده يحمل الدول الأجنبية على المداخلة في إخماد الثورة؟ فما باله لم يفقه لذلك المقال؟ ولا أظن الدول غدرته في شيء، بل أوضحت له مقاصدها من أول الأمر؛ وهو حفظ الأمن في البلاد، حتى إن الدولة الإنكليزية بعد دخولها الإسكندرية صرحت أنها ترجع عنها حالما تنحل عقدة اجتماع الجيوش والتظاهرات الحربية.
فقال عزيز: إن مقاصد إنكلترا الاستيلاء على هذه البلاد.
قال: وكيف يكون ذلك مقصدها وقد صرحت بما قلته لك؟ وفضلا عن ذلك أنها أوعزت إلى عرابي قبل تفاقم الخطب أن يخرج من البر برتبه وألقابه ورواتبه مع رفيقيه، فلم يقبل، ولو قبل لانحل المشكل على أهون سبيل، على أنه إذا أصغى في هذا اليوم إلى ما قيل له لانحلت المشكلة، واستتبت الراحة، وعادت الجنود الإنكليزية من حيث أتت. أما إذا أصر على مراده، فإنا نقع في شر أعمالنا، ويعود ذلك وبالا علينا.
فقال عزيز: ولكن لا يخفى على سعادتك أننا ندافع بأعمالنا هذه عن حقوق مولانا السلطان صاحب البلاد.
قال: ومن قال لك ذلك؟ تمهل؛ فإنك لا تلبث أن تسمع بصدور المنشورات المؤذنة باعتبار عرابي عاصيا، وها إن الجناب العالي قد صرح بعصيانه، ونحن ليس لنا قدرة على مدافعة القوة الإنكليزية.
فقال عزيز: إذا كان الجناب العالي يحب الرعية، فلماذا يقبل نجدة الدول الأجنبية؟
قال الباشا: قلت لك إنه لا يمكنه غير ذلك، ولا بد أنه فعل هذا رغما عنه، فمن تريدون أن يستنجد وأنتم القوة التي كان يستنجدها وقت الحاجة قد انقلبتم عليه؟ على أن ذلك لا يقابل حريقكم لمدينة الإسكندرية.
فقال عزيز: إن حريقها لم يكن إلا جريا على مقتضيات القوانين الحربية القاضية بإتلاف ما يتحقق قرب وقوعه في يد العدو، فقال الباشا: «ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا.» وحينئذ تتأكد صدق مقالي.
الفصل الثالث والثلاثون
عود عزيز إلى مصر
ثم استأنف الباشا الحديث وقال: ماذا عولت أن تفعل الآن؟
قال عزيز: قد عولت أن أعود مع الوفد إلى كفر الدوار، ومن هناك أغتنم الفرصة لأرجع إلى القاهرة، فما الرأي؟
فقال الباشا: يلوح لي أن العرابيين طالما أصروا على الدفاع ومخالفة أوامر الخديوي، فالحرب لا تنتهي إلا بعد زمن طويل، فتطول إقامتك في كفر الدوار أو في غيرها من النقط الحربية. أما أنا فلست في مأمن من مرافقة الحزب العسكري؛ لأنها ذات خطر علي إذا ظنوا بي سوءا، ويخال لي أنهم توهموا ذلك من قبل فأمروا بجلائي من القاهرة، فتراني قلقا على أهلي في مصر، وأخشى أن ينال فدوى ووالدتها سوء وأنا بعيد عنهما، فلا آمن من وصولي إليهما سالما إذا ذهبت، ولا آمن عليهما وحدهما من شر إذا بقيت هنا.
فقال عزيز: أما خوفك على أهلك، فلا أخالفك فيه، وإذا شئت فإني أسعى في سرعة انتقالي إلى القاهرة، ومتى صرت هناك أتعهد لك بالمحافظة على راحتهن ما استطعت، غير أني أخشى ألا يثقن بي؛ لعدم علمهن منك بذلك.
فقال الباشا: إني أعطيك كتابا مني ينفي الشبهة، وفي صباح الغد كتب إلى امرأته ما نصه:
بعد السلام ... قد اضطرني بقائي في الإسكندرية وتعذر حضوري الآن إلى القاهرة، وما أخشاه عليك وعلى ابنتنا فدوى، إذا - لا سمح الله - حدث حادث في القاهرة، أن أسأل ولدي عزيز أفندي أن يكون عندكم مشجعا وقائما بمهامكم؛ لأنه من رجال الجهادية، وهو من أخص أحبائي، وقد تبرع كرما منه بالقيام بهذه المهمة، فينبغي أن تعتبريه كولدك، ولا تظني به سوءا، واعتمدي عليه في كل مهمة ريثما أحضر. والسلام.
ثم طوى الكتاب وأعطاه لعزيز، فتناوله وهو يكاد لا يصدق، ثم ودع الباشا وخرج يريد الوفد، فلما اجتمع بهم وانتهت مهمتهم، عادوا جميعا إلى كفر الدوار، ثم ما لبثوا أن عادوا إلى مصر، فسعى عزيز إلى أن عاد معهم.
أما فدوى، فما برحت تنتظر جوابا على كتابها إلى أن مر أسبوعان، فوقعت في اليأس، واستولى عليها الهم والغم؛ حتى لم تستطع طعاما ولا شرابا، فخارت قواها، وهزل جسمها، واكفهر لون وجهها الأبيض، وكادت تغور عيناها في وجهها، ولم يكن لها مؤنس في خلوتها إلا البكاء والنحيب، ولا معز إلا خادمها الأمين بخيت، فكان لا ينفك عن تخفيف كربها، وتعليق آمالها بلعل وعسى، وهي كل يوم تزداد ضعفا وكآبة، حتى كاد ينجلي أمرها، فدخل بخيت غرفتها مرة، فإذا هي منكبة على البكاء تردد قولها: آه! حبطت آمالي. ألم يوجد بعد؟ كيف أسلوه؟ يا إلهي، ترفق بهذه المسكينة. فدنا منها يطيب خاطرها قائلا: خففي عنك يا سيدتي. لا تدفعي نفسك إلى اليأس، ولا تدعي عواطفك تأخذ مداها، فالله الذي جمع قلبيكما قادر أن يجمع شتاتكما، وقد تعاهدتما على حب طاهر مقدس تعززه الشهامة والشرف، وتصونه عزة النفس وكرم الأخلاق، فلا يخيب الله لكما أملا. ولما وصل بخيت إلى هنا من الكلام أتت خادمة تدعو فدوى إلى مقابلة والدتها، فقال لها بخيت: اغسلي وجهك يا سيدتي، وأخفي اضطرابك؛ لئلا تلحظ شيئا منه سيدتي والدتك. فنهضت وهي لا تفتأ تائهة في أحزانها، فلم تقو على المشي، فأسندت يدها إلى شيء أمامها ريثما هدأ اضطرابها، فغسلت وجهها وتلاهت بترتيب شيء من رياش غرفتها إلى أن يزول عنها هذا الاضطراب، فلما طال أمرها عادت الخادمة تستنهضها للذهاب، وتقول لها: إن سيدتي والدتك قلقة لتأخرك. فنهضت وقد زال عنها معظم ذلك الاضطراب، فذهبت إلى والدتها، وكانت حينئذ في قاعة الاستقبال، فلما قاربت الدخول رأت شابا هم بالخروج من القاعة، فأجفلت؛ لأنها كانت بثياب البيت، وانزوت حياء إلى أن خرج الرجل، وكان لابسا لباس الجهادية، وهيئته هيئة قادم من سفر، فلما دخلت القاعة سألتها والدتها عن سبب تأخرها، ولحظت في وجهها أمارات الكآبة، فقالت: علام هذا التغير في وجهك يا حبيبتي؟ فقالت لها: إن انقباضي هذه الأيام لدواعي هذه التقلبات، ولأن والدي بعيد عنا تحت رحمة الأخطار في الإسكندرية. ولم تكذب فدوى بكلامها؛ لأن هذا الانقلاب وتغيب والدها مما يزيدها اضطرابا على اضطرابها، فطيبت خاطرها وقالت لها: إن الإسكندرية هذه الأيام آمن من كل أنحاء القطر، وقد أتانا هذا النهار أحد أخصاء والدك وأعز أصدقائه منها وهو ينقل إلينا كتابا منه، وقد وكل إليه النظر في أمر البيت؛ خوفا من عواقب الحرب أن تمتد نيرانها إلى هنا. فأدركت فدوى أنه عزيز، فارتعدت فرائصها، لكنها أخفت اضطرابها ولم تبد شيئا، فقالت والدتها: يظهر لي أن هذا الشاب غيور همام، فإنه جاءنا من القطار توا قبل أن يذهب إلى بيته ويغير أثوابه ويستريح من مشقة السفر. وإني قد امتننت من مجيئه واهتمامه بنا؛ لأننا في حاجة إلى من يحمي ذمارنا أثناء هذه التقلبات السياسية. وهذا ضابط جهادي يقدر أن يصون حمانا، ويقينا غوائل الشر، بإذن الله، وقد أتانا بكتاب من والدك ينطوي على ثقته به، وكفاءته للقيام بهذا الأمر. قالت ذلك ودفعت الكتاب إليها، فتناولته وتلته بسكون إلى أن أتت على آخره، ثم ردته إلى والدتها ولم تبد رأيا ولا فاهت بكلام، لكنها تأثرت تأثرا خفيا كاد ينكشف لوالدتها لو لم تبرحها في الحال وتذهب إلى غرفتها؛ لتترك مجالا لعواطفها وقد أحست بانقباض أوشك أن يشتت صوابها، فلما شاهدها بخيت لحظ شيئا من اضطرابها، فبادرها قائلا: أرى الرجل قد جاءنا اليوم مجيئا رسميا، فما الداعي لذلك يا ترى؟ فقصت عليه الحكاية وهي تتميز من التأثر والانفعال.
فقال بخيت: إذا لم يكن للمرء زاجر من نفسه، فماذا تفيد الإهانة والتعنيف؟ فوالله لقد أخطأ هذا الغر مرماه، وهوى بنفسه إلى حيث هلاكها، فليجر ما هو جار، سواء عندنا قرب منا أو بعد، فهل يجسر على مخاطبتك أو يقوى على رؤيتك؛ فدعيه وشأنه يتزلف ما شاء إلى أن يقضي الله ما يشاء، فتأوهت فدوى عن فؤاد متبول وقالت: أرى قلبي لا يغشني، فإن مجيء هذا الرجل ينذرني بخطر قريب، ويزيد لوعتي على بعاد ... الحبيب. قالت ذلك واستلقت رأسها بيدها، ولم تتمالك عن البكاء، فدخلت غرفتها وألقت بنفسها إلى سريرها، وشرعت تصعد الزفرات، فبقيت بقية ذلك اليوم عرضة للتذكرات المخيفة من ضياع الحبيب، وسفالة ذلك الرجل الذميم.
الفصل الرابع والثلاثون
رسول عزيز إلى فدوى
ففي الصباح التالي، كانت فدوى لا تزال عرضة لاضطراب الأمس، غارقة في لجج الأفكار، إذ دخلت عليها دليلة وهي تبتسم عن أسنانها المهتومة، وكان وجهها أغبش ، وطرفها أعمش، وخدودها معجرة كأنها المقصودة بقول الشاعر:
لها في زوايا الوجه تسع مصائب
فواحدة منهن تبدي جهنما
بوجه بشيع ثم ذات قبيحة
كصورة خنزير تراه ترمرما
فلما رأتها فدوى تشاءمت من رؤيتها، وكرهت مخاطبتها. أما تلك العجوز المعطاء فأقبلت عليها بوجه الظافر كأنها لم تبال بنفورها منها، وقالت: أرى سيدتي لا تزال غاضبة علي وأنا لم آت إلا ما به خيرها، ولم أقصد إلا ما أراده والدها.
قالت فدوى: ما تعنين بقولك؟
قالت: أعني الخاتم الذي رميته في وجهي منذ بضعة أيام؛ ستلبسينه من يد من لا يسعك مخالفته.
قالت فدوى: من ذا يا ترى يستطيع ذلك؟ قالت: إذا أذنت لي سيدتي بخلوة قصصت عليها الخبر، وأطلعتها على الأمر، فاختلت بها مع شدة كرهها لها؛ لتدرك المهمة التي أتت بها هذه الحية الرقطاء، فقالت العجوز: إن والدك قد سمح بخطبتك لمن أردت إلباسك خاتمه فامتنعت وانتهرتني.
فنفرت منها فدوى وقالت لها: هل وصل من قدرك أن تخاطبيني بمثل هذا الخطاب؟ أين الوقار والحشمة اللذان تتصف بهن اللائي مثلك؟ أقصري. لا تخرقي حرمة شيخوختك.
فقالت لها: لا يصعب علي سماعك كلامي أيتها السيدة اللطيفة؛ فإني لم آت لأثير فيك ثائرة الغضب، بل لأطلعك على حقيقة الأمر؛ لعلي أقدر أن أعطف قلبك على ذلك الشاب الذي لا يريد من الدنيا إلا رضاك.
فقالت فدوى: لا أريد أن أسمع مثل هذا الكلام، ولا هو من شئونك، فما بالك لا تأتينا إلا بأخبار الشؤم؟
قالت: إني لا آتيك إلا بالخبر اليقين، وهذا كتاب يكشف لك حقيقة الأمر، ويطلعك على طوية من تعلق قلبك بحبه، ويريك الأشراك التي نصبها لك فوقعت فيها لصفاء قلبك.
فاضطربت فدوى عند هذا الكلام بالرغم عنها وقالت: ماذا؟ ألا تقصرين عن معاودة مثل هذا الكلام؟ فقاطعتها العجوز وقالت لها: أتحمل إهانتك بالصبر؛ لأنني كنت فتاة مثلك لا أنقاد إلا لما تصوره لي المخيلة؛ فخذي هذا الكتاب واقرئيه على نفسك، فتعلمي حينئذ صدق خدمتي لك.
فأخذت فدوى الكتاب وفضته ويداها ترتعشان، فإذا فيه:
حضرة السيدة فدوى
إن الموجب الأول لهذا الكتاب إليك هو عظم حبي لك، ولولا ذلك الحب البالغ في نفسي مبلغ الهيام، وإكرام سيدي والدك الجليل القدر لأوقعتك في شر أعمالك، غير أن فؤادي المتيم بحبك لم يطعني على أذيتك وقد تماديت بالجفاء والنفور، مع ما أظهرته لك من اللين والملاطفة، فإذا سعيت إلى التقرب منك سعيت إلى إهانتي وإذلالي، وأنا لم أقترف ذنبا يوجب هذا، غير أني اطلعت على ما نصبه لك بعضهم من الأشراك، وقد ألتمس لك من أجل ذلك عذرا على غرورك؛ فاعلمي يا حبيبتي أن الذي قد وهبته قلبك غلام غر لا يعرف له لا حسب ولا نسب، وإذا أردت تحقيق الخبر بالخبر، فاسأليه ينبئك إذا كان يعرف له حسبا أو نسبا ما خلا والديه. أيليق بك وأنت ابنة أصل كريم ومجد وسؤدد أن تسلمي زمامك إلى من لا يعرف جده ولا وطنه، ولا هو من الناس في مقام يليق بك، ويرضي والدك؟ فمن هذا أصله لا يعرف لك قدرا، ولا يقدر لك مقاما، ولولا ذلك ما أذاع أمرك بين الناس، وجعلك مضغة في أفواه العامة منهم. وما تزعمين أنه عاهدك عليه سرا تتداوله الألسنة في الفنادق والقهوات، فليس أحد ولم يبلغه خبر قصر النزهة وحكاية الزر والدبوس ... وقد كتمت كل ذلك عن والدك صيانة لحرمتك؛ فاعلمي الآن أنك قد صرت خطيبة لي بأمر والدك، فانزعي من بالك الانقياد لذلك الغلام، وأذعني لأمر والدك، وإذا حاولت الاستمرار على غرورك، فلا يزيد ذنبك إلا كبرا، وما لا ترضينه طوعا ستنقادين له كرها. والسلام.
محبك
عزيز
فما أتمت فدوى قراءة الكتاب إلا خارت قواها، واكفهر لون وجهها، فالتفتت إلى دليلة وقالت لها: لقد تمادى هذا الذميم تماديا ليس وراءه حد ولا نهاية، وأراك متممة لمبادئه السفلة؛ فاخرجي من هذا البيت ولا تعودي البتة عمرك كله.
فخرجت دليلة وهي تقول: يا ابنتي، ستندمين على كل هذه الأعمال.
أما فدوى فوقعت في حيرة مما قرأته من أمر الدبوس والزر، ولم تجد تفسيرا لحل تلك الرموز، إلا أنه عرف ذلك من شفيق نفسه؛ لأن ذلك محفوظ بينهما. ولما كانت تفتكر في ذلك كان يخامر فؤادها الشك في إخلاص شفيق، لكن عواطف الحب لا تصبر أن تبرئه من هذه التهمة، وتجله عن هذه الدنايا، ولكن هذه التهمة التي مست كرامة حبيبها ما كانت لتزول من بالها باليسير من الوقت، فلما رأت بخيتا أطلعته على الحكاية، فقال: لا تصدقي ما ذكره أو يذكره هذا الخائن، فإنه كاذب مخادع، فشفيق أرفع وأشرف من أن يقابل بهذا الوغد الذميم.
الفصل الخامس والثلاثون
معدات الزفاف
وبعد بضعة أيام، جاء والد فدوى، فأتى عزيز للسلام عليه، فزاد الباشا في إكرامه وتبجيله، فلما بلغ فدوى ذلك خافت سوء العقبى.
وبعد يومين من مجيء الباشا، اختلى بفدوى وفاتحها في مسألتها وأمر خطبتها لعزيز، وأطنب في مدح صفاته ومروءته، وأنه قد نجاه من الموت في الإسكندرية، إلى أن قال لها: قد سبق مني القول له أن يكون لك بعلا.
فقالت: أمر والدي لا أقدر أن أرفضه، إلا أنني أطلب إليك الإمهال في هذه المسألة.
فقال: وما الفائدة من الإمهال وقد عرفت هذا الشاب معرفة جيدة، وهو الذي أنقذني من الموت على يد أحد أصحابه؟ وفوق ذلك فهو رجل ذو ثروة واسعة، فعلام الإمهال؟
فقالت: إن البلاد الآن في خطر، والأفكار مضطربة، فهلا تمهلت في الأمر ريثما تهدأ الأحوال.
قال: إن ذلك لا يوجب الإمهال، ولا بد من إتمام الأمر؛ فالشاب ممن يليقون بنا.
قالت: ولكن ... وخنقتها العبرات.
فبادرها قائلا: لا حاجة بنا إلى التردد وقد قضي الأمر ووعدت الرجل وعدا شافيا بك. فلم تستطع فدوى جوابا لشدة تأثرها واشتغالها بالبكاء.
فغضب الباشا منها وانتهرها قائلا: ما معنى هذا البكاء؟ ألعلك تريدين خداعي بدموعك؟ فلا حاجة بنا إلى الإطالة، فالغد موعد الاقتران.
فترامت على يدي والدها تقبلهما وهي تقول: ارحم، يا أبتاه، ابنة مسكينة، واسمح لها بكلمة فأحس بالحنو الوالدي. فانعطف قلبه نحوها وقال: تكلمي ما بدا لك، فقالت : سيدي، لا تظلم ابنتك ولا تحملها ما لا تطيق، فأنا مجبورة على تتميم أوامرك كلها، ولكن هذا شيء ... لا أقدر على ... إجرائه.
فقال: ماذا ...؟ وهل تعنين مخالفة قولي؟ - سيدي ووالدي، ما اعتدت أن أخالف لك أمرا إلا هذا فقط.
فقاطعها وهو يتميز من الغضب قائلا: يكفي. لا تزيدي. أتظنين أني لم أطلع على مكاتبتك لذلك الشقي إلى بلاد الإنكليز، فهذا أمر لا يليق بك، ولم يسبق له نظير عندنا.
فقاطعته قائلة: يا أبتي ... خيانة ... وخداع. لا تظلم هذه الابنة. الموت أقرب إلي من القبول بهذا الأمر، قال: لا يعنيني كيف كان هذا الأمر، بل يهمني أني وعدت هذا الرجل بقرانك. أفهمت؟
فأوشكت فدوى أن تفقد صوابها من التأثر والبكاء فقالت بصوت ضعيف ونغمة حزينة: الموت ... الموت ... أحب إلي ولا ...
فانتهرها قائلا: أهذه نتيجة التربية يا فدوى؛ أن تعقي والديك؟
فقالت: لا لا ... يا أبتي، وإنما أطلب إليك ... الإمهال بالأمر ريثما تختبر من غشتك ظواهره.
فقال: عبثا تتكلمين، فغدا ميقات الاقتران قبلت أم لم تقبلي. ثم تركها وخرج لا يلوي على شيء، وأخذ يهتم بمعدات الفرح، وبقيت تلك المسكينة تتقلب على نار الأسى، وتندب سوء بختها، فتراءى لها أن تستنجد والدتها، فلما ذهبت إليها وأطلعتها على الأمر أجابتها: خير لك الانصياع إلى أمر والدك من مخالفته؛ لأنه يسعى إلى خيرك، فما معنى مخالفتك له؟ ألعلك خبرت الدهر أكثر منه؟ أو لعله يريد بك سوءا؟ فعادت فدوى إلى غرفتها تضرس أنامل الأسى وتشكو المعاكسات التي ألمت بها، ولم ترث منصفة لضعفها، وبقيت بياض النهار وسواد الليل تتقلب على جمر الغضى، فلما كان الصباح أعد الباشا معدات الفرح من مأكول ومشروب، وأعدت تلك السيئة البخت جرعة سامة أخفتها حتى تكون في مأمن من انكشاف أمرها للسوى، حتى إذا تحققت وقوع المقدور تتجرعها وتتخلص من حياة تسخر قلبها فيها لسوى الحبيب.
أما عزيز فأخذته هزة الطرب لما نال من الفوز، فدعا من استطاع من أصدقائه إلى الاحتفال، ولبس أفخر ما لديه من اللباس متناسيا حالة البلاد التي كانت في خطر عظيم؛ فالجنود المصريون كانوا في التل الكبير يتوقعون هجوم الإنكليز عليهم وهم في تأخر مبين، والجنود الإنكليزية صاروا على مقربة منهم، وأما عزيز فنزع ثوبه الجهادي، ولبس ما اختار من اللباس؛ ليظهر به جميلا ذلك اليوم، ولو ساعدته الأحوال لجاء بالمغنين والمغنيات، واحتفل احتفالا عظيما.
فما كانت عصارى النهار إلا امتلأت القاعات بالمدعوين، فلما تأكدت فدوى الأمر وقعت في اليأس، وانفردت في غرفتها تندب شفيقا والحياة، وعولت على الإيقاع بذلك الخائن ثم بنفسها تخلصا من العار، فأرسلت تستدعي بخيتا. ولما حضر ألقت إليه الأمر، وأطلعته على عزمها من تجرع كأس الموت، فقال لها ودموعه تتناثر: لا تفعلي يا سيدتي، ولا تبيعي حياتك رخيصة. إن هذا الخائن والله غير بالغ ما يريد وأنا حي أرزق، فلا بد من أن أخطف روحه قبل أن يدركك ببصره، وبعد ذلك سواء عندي عشت أو مت؛ لأني أكون قد أقمت بما يجب علي، وخلصت نفسا طاهرة من العذاب والموت. وكان بخيت قد أعد فردا ناريا (ريفولفر)، حتى إذا تأكد عقد الزواج يطلقه على عزيز فيميته، ثم على نفسه فيموت الاثنان فداء لفدوى.
الفصل السادس والثلاثون
على الباغي تدور الدوائر
وفي الأصيل، بينما كان بيت الباشا غاصا بالجماهير وقد أحضر ما لزم لعقد الزفاف، جاءه خادم يقول: إن في الباب جاويشا وفي يده كتابا لسعادتكم. فخرج الباشا وتناول الكتاب، فإذا هو مكتوب بإيعاز عرابي باشا في قصر النيل؛ يقول فيه ما معناه:
إن امتلاك جنود العدو حصون التل الكبير يقضي على جميع أمراء العسكرية والملكية وأعيان البلاد بالحضور حالا إلى سراي قصر النيل؛ للمفاوضة في الاحتياطات اللازمة لمنع العدو من دخول مدينة القاهرة؛ فيجب حضوركم حالا حالا إلى السراي المشار إليها.
من قصر النيل
يوم الأربعاء في 13 سبتمبر سنة 1882
فلما قرأ الباشا الكتاب تغير لون وجهه، فأمر بإحضار العربة، وركب وركب معه من حضر من أعيان البلاد إلى المحل المذكور، فانحل عقد الاجتماع، ولما وصل الباشا إلى قصر النيل، رأى القاعات ملأى بالأمراء والأعيان وهم يتفاوضون فيما يتخذونه من الاحتياطات لمنع العدو، فكثرت الآراء فيما بينهم، وتعددت وتناقضت، فنهض أحد الباشوات - وكان من الذين لا يزالون محافظين على ولاء الخديوي - فعنف الجهادية على عصيانهم، وحرضهم على وجوب التماس العفو من مولاهم، ووافقه كثيرون ممن حضر، فألفوا لجنة لتكتب عرضا بطلب العفو، فكتبته وأرسلته بمعية وفد إلى الإسكندرية، غير أنه لم يقبل.
وبعد مسير الوفد من القاهرة، أصر البعض على وجوب الدفاع، وأقروا على إنشاء خطوط نارية في ضواحي المحروسة، فذهب عرابي لتنفيذ ذلك في العباسية، وكانت العاصمة حينذاك في اختلاط ولغط؛ خوفا من حدوث ما حصل في الإسكندرية من حريق وخراب.
كل هذا الاضطراب وعزيز لا هم له إلا الظفر بفدوى، فلما أقبل المساء ولم يأت الباشا خاف أن هذا الانقلاب السياسي يعرقل مساعيه، وخصوصا إذا جاء شفيق العاصمة، فتحبط آماله، وتظهر خيانته له، فيعمل على الانتقام منه، فصورت له بصيرته أن يأتي بزمرة من الرعاع على شاكلته ويتهدد فدوى ويختطفها غصبا، وهكذا فعل، فلما وصل باب غرفتها وهم بالدخول اعترضه بخيت، فلم يرتد، فدفعه في صدره قائلا: لا تزيدك الأيام إلا سفالة، فهجم رفاقه يريدون فتح الباب قهرا، فلما رآهم بخيت على هذه الحال أطلق فيهم الفرد، ولكنه صوبه إلى عزيز فأصاب منه جنبه، فسقط إلى الأرض، فعلت الغوغاء من رفاقه، وهجموا على بخيت بالنبابيت والعصي. أما هو فدافع حتى كاد يقع في اليأس، وحينئذ اضطربت فدوى لهذه الغوغاء، وإطلاق البارود، فتناولت الجرعة السامة ويداها ترتعشان وفرائصها ترتعد، ثم أخرجت تذكار شفيق، وجعلت تقبله وتذرف عليه العبرات وهي تقول: على الدنيا ومن فيها السلام إذا خلت ممن يحبه قلبي؛ فالوداع الوداع أيها الحبيب إذا كنت لا تزال من أهل الحياة، واللقاء اللقاء إذا كنت قد انتقلت إلى أهل البقاء. ثم لم تقو على الوقوف، فألقت بنفسها إلى المقعد وهي غائبة بذكرى الحبيب، فسمعت جلبة عقبها سكوت وصوت رخيم ينادي: ما هذا التحامل؟ أين فدوى؟ من هؤلاء يا بخيت؟ كيف يقوون على اختراق حرمة المخدرات؟ فلما سمعت فدوى هذا الكلام خافت افتضاح أمرها، ورفعت الكأس إلى فيها، فسمعت أيضا: أين فدوى؟ من يظلم هذا الملاك؟ فبهتت وأخذتها الدهشة، واشتبهت في صوت من تحب، فاحلولت لها الحياة، ورغبت في استطلاع الخبر قبل أن تأتي أمرا فريا، والسم الذي ظنته منذ هنيهة مقربا من الحبيب رأته مفرقا عنه، فأي عبارة تفي بوصف حالة هذه الذات الملائكية وهي بين هذه التقلبات؛ تارة ترتجف من الخوف وتختار الموت، وأخرى تهتز بسكرة الحب وتطيب لها الحياة، فتتصور أن الحبيب حي سيوافيها، ثم سمعت أيضا: اذهبوا. لا يبق منكم أحد. وبعد بضع ثوان لم تعد تسمع صوتا، ثم فتح الباب ودخل فيه ضابط إنكليزي، فلما رأته فدوى خافته، فإذا هو يقول: لا تخافي يا حبيبتي؛ أنا شفيق. وكانت لا تزال جالسة والجرعة السامة في يدها، فلما سمعت ذلك سقطت الجرعة من يدها وقالت: أحبيبي في قيد الحياة؟ وسقطت على الأرض مغشيا عيها، فرشها شفيق بالماء إلى أن استفاقت، وأجلسها على المتكأ وهو يقول: خفضي من اضطرابك، فلما رأت شفيقا وتأكدت أنه هو باللباس الإنكليزي، لم تتمالك أن صرخت وهي غائبة عن الصواب: حبيبي، حبيبي شفيق، قد شفق الله على حياتي فأرسل إلي ملاكي الحارس. فأخذ شفيق يسكن روعها ويلاطفها إلى أن هدأ بالها.
ثم نهض شفيق ليرى ما تم لعزيز، فإذا به يئن من ألم الجرح وقد هم بخيت أن يقضي عليه، فمنعه وأمره بنقله إلى غرفة لمداواته، فقالت فدوى: أتريد إحياء خائن أراد بك سوءا؟ فقال: تمهلي يا حبيبتي، ولا تأخذي الناس بأعمالهم؛ فهذا الشاب كان من أصدقائي، وهو الآن مطروح بين حي وميت، فيجب علينا معاملته معاملة الجريح في الحرب. ثم أمر بنقله إلى غرفة ثانية، وغسل جراحه وضمدها، حتى استفاق فرأى شفيقا فوق رأسه، فبكى وأحس بما أساء به إلى هذا الباسل، فهم أن يلقي بنفسه إلى الأرض ويطلب إليه المغفرة، فمنعه وطيب خاطره قائلا: لا بأس عليك يا عزيز، أنا أعلم أنها هفوة صدرت منك، فلا أؤاخذك عليها؛ فاضطجع ريثما تستريح وسأعود إليك. ثم تركه وعاد إلى فدوى.
الفصل السابع والثلاثون
اجتماع الحبيبين وكشف القناع
فلما سمع الشرطة إطلاق البارود أتى بعضهم فشاهد ضابطا إنكليزيا داخلا البيت - وكان قد سمع بدخول الإنكليز مدينة القاهرة في ذلك المساء - فظنه قد فعل ذلك عمدا، فلم يستطع كلاما.
أما والدة فدوى، فلما سمعت الضوضاء وإطلاق البارود اضطربت وخرجت فرأت الازدحام، ثم أتى الضابط الإنكليزي ولم يصبر أن دخل غرفة فدوى، فخافت عليها ونادت الخدم أن يمنعوه، فلم يجسر أحد منهم على ذلك، فظنت أن الإنكليز بعد دخولهم القاهرة جاءوا للقتل والنهب، وبقيت في قلق عظيم على ابنتها إلى أن أتى الباشا فأطلعته على الخبر، فلم يستطع الآخر في بادئ الأمر الدخول خوفا على حياته، وصار ينتفض من الخوف والغضب، ويفكر في مخرج ليخلص ابنته، وإذا ببخيت قد أتى إليه ودلائل الفرح والاستبشار بادية على وجهه وهو يقول: لم لا يدخل سيدي؟ فدخل الباشا غرفة ابنته فإذا هي جالسة إلى ذلك الضابط، فاستاء منها لما كان يجب عليها من التحجب عن الغرباء، خصوصا لأنه كان يعهد فيها المحافظة على تلك العادة، غير أنه لم يقو على إبداء ملاحظة في هذا الشأن، فنسب ذلك إلى خوفها، فلما اقترب منهما كان يرجف من الخوف والغضب، غير أنه حالما تفرس في وجه شفيق عرفه؛ إنه هو الذي نجاه من الموت في الإسكندرية، فألقى بنفسه إليه وقال: أهلا وسهلا، إني لا أنسى فضلك مدى العمر. فما هذا الاتفاق السعيد؟ ومتى جئت؟ قال: جئت هذا المساء مع الجيوش الإنكليزية، فقال: هل على المدينة من بأس منهم، قال: لا، لأنهم دخلوها وجعلوا الخفر في كل جهاتها، واحتلوا القلاع والحصون، ولا يلبثون أن يقبضوا على عرابي. وها قد تمت نبوءة قائد الحملة الجنرال ولسلي بأنه يدخلها في 14 سبتمبر.
أما فدوى، فدهشت لترحيب والدها بشفيق، ولكن أمارات الوجل كانت لا تزال على وجهها إثر ما قاست هذين اليومين، ثم ما كان من دخول شفيق عليها بغتة.
وكان الباشا جاهلا كيفية إصابة عزيز، ولا ينفك مفكرا في سبب دخول ذلك الضابط لبيته والجلوس إلى ابنته، فلاح له أن شفيقا هو الجاني على عزيز لدواع جنسية - وكانت الحياة إذ ذاك لا قيمة لها - فأسف لضيم صبره، وأوجس من ضياع الثروة، ورغب في استطلاع الخبر، فسأل شفيقا، فبادرته فدوى - وكانت قد استردت روعها: إن بخيتا يا أبت ضربه، ويا ليتها كانت القاضية! قال: ولماذا؟ قالت: أطلب إليك قبل قص الخبر أن تعلمني كيف عرفت حضرة الضابط. ورمت شفيقا بنبل من عينيها خرقت أحشاءه، وتبسمت تبسما مملوءا من الحب.
فقال الباشا: هذا الذي أنقذنا من الموت في الإسكندرية أنا وعزيز، قالت: أتعرف أن اسمه شفيق، قال (وقد بهت إذ تذكر ذلك الاسم): ولعله الذي خبرت عنه من عزيز! قالت: نعم، هذا هو الملاك الحارس الذي أنقذك من الموت مرة، وأنقذني منه مرتين، وأنقذ ذلك الخائن مرارا. فخجل شفيق وقد أذهله لطف حديث فدوى، حتى أوشك أن يغيب بسكرة الحب، فهم أن يتجمل بالاعتذار لمبالغتها بالوصف، فأدركت ذلك منه وقالت (وهي ترمقه بألحاظ ناطقة بأن لا أخشى في حبك لوم اللائمين): إذا ذكرت بسالتك فلا أكسبك رفعة؛ لأن أعمالك المتجددة مع الأيام ناطقة بذلك، فلا تحسب شكري لك على ما أوليتني من الفضل ثناء عليك. ولكي لا تدع له مجالا للكلام، وجهت الخطاب إلى والدها بعد أن أفهمته بألحاظها المراد، وقالت: أتلومني بعد هذا يا والدي إذا كنت ... وكأنها أحست بعدم لياقة ذكر الحب لوالدها، فكادت تتلعثم، فأتم والدها قولها إذا كنت تحبينه؛ أليس كذلك؟ فخجلت، ولكنها استأنفت الكلام قائلة: لا أجهل يا أبت أن وجودي بالقرب منه ولو ملثمة محظور في عوائدنا، غير أني لا أستحيي أن أقول إنه يجب معاملة من كان كهذا الشهم وقد أنقذني من الموت مرتين معاملة أقرب الناس مني، فأعد مقابلتي له على هذه الحالة مقابلتي لأقرب أقربائي.
فنهض الباشا حينئذ إلى شفيق وقبله ومدحه، فكرر شفيق ما حضره من عبارات الشكر والامتنان ؛ لما أظهراه له، ثم أخذوا بأطراف الحديث عن عزيز وأعماله، حتى انكشفت للكل سعايته، ورداءة جوهره، فأسف الباشا على ثقته به قدر أسفه على فقد ثروته بهذا الحادث، ثم سأل الباشا شفيقا: من أبوه؟
فقال: إن والدي اسمه إبراهيم، وهو أحد مستخدمي قنصلاتو إنكلترا في القاهرة، وقد قضى حتى الآن في خدمتها زهاء 18 سنة. فدهش الباشا لذلك وخاف ألا يكون مسلما، فقاطعه قائلا: ومن أي الطوائف؟ قال: من الطائفة الإسلامية. فازداد دهشة وقال: أمن الطائفة الإسلامية وقد قضى في خدمة الحكومة الإنكليزية جل عمره؟ فقد سمعت أنه ليس منها، فقال شفيق: كلا، بل هو منها، وأما تقربه من هذا القنصلاتو فيلوح لي أن له به سرا يود إخفاءه.
فقال الباشا: وأظن هذه البلاد ليست بلادكم؟
فقال شفيق: أعترف لك بجهلي الحقيقة كما هي، وإنما يترجح لدي أن والدي من أنحاء بر الشام. فاستأنف الباشا الحديث لئلا يضايق شفيقا، وعاد إلى التكلم في أمر عزيز، ولكنه أضمر في سره أن يبحث عن حقيقة حسب شفيق ونسبه قبل إتمام أمر الاقتران.
الفصل الثامن والثلاثون
شهامة شفيق
فقال الباشا: إن خيانة هذا الرجل تستوجب القتل.
أجابت فدوى: لا شك في ذلك، وإني أعجب كيف سعى شفيق إلى معالجته.
فقال شفيق: ألم يكن هذا الشاب من أصدقائي، بل رفيقي في المدرسة، فلا يليق بي أن أقابل جهله بالشر.
فقالت فدوى: أيستحق هذا الخائن غير القتل، وقد أبدى لك ما أبداه من الشر والعدوان.
قال شفيق: أي فضل للعاقل على الجاهل إذا عامل الجهل بالجهل، والشر بالشر، وما الانتقام إلا شأن الضعيف الساقط. وهذا المسكين قد نال ما جنت يداه، فأصيب بما استحق، ولو استحق الموت لكانت الضربة هي القاضية، وفوق ذلك فهو جريح يقاسي من الآلام وتبكيت الضمير ما يكفيه جزاء، فإذا شفي فبإرادة الله، وإن قضى فمن الله جزاؤه.
فقالت: لا تزال تسعى إلى الإبقاء عليه وشفائه، وأنا لا أرى إلا الموت جزاء له!
فقال: الموت والحياة يا عزيزتي بيد الله، وما نحن إلا عبيد ضعفاء عرضة للغلط والتهور. وقد رأيت هذا الشاب يترامى على رجلي ليقبلهما وهو فيما علمت من ألم الجرح، وقد أصيب من تبكيت الضمير بما يكفيه، ومع ذلك فالشهامة تأمر بالعفو عند المقدرة.
قالت: ولكني أطلب إليك بحق المحبة ألا تبقي عليه، وإلا فاسمح أن يعالج جرحه في غير هذا البيت.
فقال شفيق متبسما: إن أمرك يا سيدتي مطاع، ولكني أذكرك أمرا واحدا؛ وهو أنني قد صرت من رجال الجهادية عرضة للرصاص في الحروب، وحياتي دائما في خطر، فلو بلغك يوما أنني أصبت برصاصة ولم ألق نصيرا ولا شفوقا ينقذني ويعالجني، فماذا يكون حالك حينئذ؟ وكيف يكون قلبك؟
فارتعدت فرائص فدوى لكلام شفيق كأنه حقيقي، ومسحت دموعها وقالت: بمن تتشبه يا شفيق، إن ذلك خائن لئيم.
فقال: إن البشر ضعفاء يا عزيزتي، ومن منا يا ترى معصوم من الغلط؟ وقيل إن من أقر بذنبه لا ذنب عليه. فهذا المسكين أقر واستغفر، ونال ما استحق من القصاص.
وبينما هما يتحدثان كان الباشا ينظر إلى شفيق معجبا بكرم أخلاقه، فقال: لله درك يا ولدي، ما أكبر نفسك! وما أظهر دلائل الفضل عليك! فافعل ما بدا لك؛ لئلا يقال فقدت المروءة أهلها.
فقال: سيدي، عفوا، لم أقصد إبداء رأي لدى سعادتك، فلك الأمر والنهي، غير أني أظن أنه يحسن بقاء عزيز تحت المعالجة، وبعد ذلك فالأمر لسعادتك.
فقال الباشا: نعم الرأي رأيك يا ولدي، فهيا بنا نخيره في البقاء هنا ريثما يشفى، أو الذهاب إلى بيته، فلما قابلاه أخفى وجهه بين يديه وقال: عفوا عفوا أيها الصديق الكريم؛ فضميري يبكتني لما اقترفته نحوك، فذنبي عظيم يستحق الموت، ولكن العفو العفو، فقال شفيق: لا بأس عليك، فقد جرى المقدر. أما الآن فقد أتيت وسعادة الباشا نخيرك بين البقاء هنا أو الذهاب إلى بيتك، فقال: أريد أن تسمحا بنقلي إلى محل سكني. فأجاباه إلى ذلك ونقل.
الفصل التاسع والثلاثون
انتظار مجيء والدي شفيق
فلما نقل عزيز إلى بيته عاد شفيق إلى غرفة فدوى، واستأذن الباشا في الانصراف قائلا: إني آسف لعدم إمكاني البقاء الآن لأزداد شرفا ومؤانسة برؤيتكم ومحاضرتكم؛ إذ ربما يترتب على تغيبي عن الجيش وقتا طويلا سوء ظن بي؛ لأنهم لم يسمحوا بانخراطي في جندهم متطوعا إلا بعد السعي الكثير، فإني لست إنكليزي الأصل، وقد ساعدني كون والدي من موظفي هذه الحكومة في هذا القطر، وله فيها خدمات صادقة، فلا بد لي من أن أبرهن لهم على صدق خدمتي حتى يثقوا بي، فأنال المكافآت الجهادية التي لا بد منها بعد هذا الفوز في حربنا، وسأعود الآن إلى الآلاي، ومتى استتبت الحال أصير قادرا على الترداد والتشرف بالمثول بين يدي سعادتك، فألقي إليك ما يخالج ضميري من المحبة والاحترام؛ لعلي أصادف ما آمله من محبتك وكرمك. فلحظ الباشا المراد من تقربه، وقد أحبه وسرته العلائق التي ربطت فدوى بحبه، فلم يمانع بائتلاف قلبيهما، فرحب بشفيق وأخلى له مكانا من الحب في قلبه.
أما فدوى، فهان عليها فراق حياتها ولا بعاد الحبيب، غير أنه ليس باليد حيلة، ولا مكان لإظهار عواطفها أمام أبيها، فنظرت إلى شفيق مستعطفة وقد تاه عقلها، فتبادلا الخطاب بالألحاظ الناطقة التي يريدها الشاعر بقوله:
تشير لنا عما تقول بطرفها
وأومي إليها باللحاظ فتفهم
حواجبنا تقضي الحوائج بيننا
فنحن سكوت والهوى يتكلم
ثم عاود شفيق الكلام فقال: إنني بانتظار قدوم والدي، فمتى أتوا تقوى علائق المودة المتبادلة بين العائلتين.
فقال الباشا: ما ظنك بقدوم حضرة الوالدين؟
قال: أرجو أن يكون قريبا، وربما تستبقي الحكومة والدي في لندرا مدة لبعض الاستعلامات؛ لما سبق له من الخدمة في مصلحتها في مصر.
فخافت فدوى طول المدة، ولكنها لم تكن تستطيع جوابا عما في فؤادها إلا بما ترسمه العواطف على وجهها.
ثم دنا شفيق من الباشا وودعه، ومد يده إلى فدوى فمدت يدها وهي ترتعش من عظم تأثرها، فضغط عليها بلطف كأنه يقول لها: عندي مثل ما عندك؛ فلا تيأسي من حبي لك. ثم انصرف شفيق وبقي الباشا وابنته فأثنيا على كرم أخلاق شفيق وبسالته ، فلام الباشا فدوى لكتمانها ما ربطها بشفيق من الحب الطاهر، فاعتذرت له أنها كانت تخاف ألا يوافقها. وبعد المذاكرة بما صدر من سفالة مبادئ عزيز، وكيف آل أمره، وما أبداه شفيق من كرم النفس، وكيف ظهر فضله، فنهض الباشا يريد الذهاب إلى المدينة ليرى ماجريات الإنكليز فيها بعد حلولهم؛ لأنه كان يظن - كسائر أهل القاهرة - أن الإنكليز يدخلونها مفتتحين فينهبون ويقتلون، فكان الأمر على خلاف ذلك؛ لأنهم دخلوها بسلام وأهلها في أمن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
أما شفيق، فلما وصل إلى معسكره في العباسية وجد هناك عرابيا وبعضا من رفقائه محجورا عليهم في غرفة، وأخذت الجنود الإنكليزية من ذلك الحين تلقي القبض على زعماء الثورة للمحاكمة، فحكم على سبعة منهم - وفيهم أحمد عرابي؛ زعيم الثورة - بالإعدام، فتكرم الجناب الخديوي بالعفو عنهم وإبعادهم إلى جزيرة سيلان. وبعد إبعادهم، أخذت الأحوال في السكون رويدا رويدا.
أما شفيق فكان ينتظر محاكمة العرابيين وتقرير الأحوال؛ ليعود الإنكليز إلى بلادهم، فيستعفي هو من الجهادية، ويخلو له الجو فيقترن بحبيبته، غير أن انتظاره قد خاب؛ لأن الدولة الإنكليزية قررت احتلال مصر إلى أجل غير معين؛ بدعوى أنها إنما جاءت لإخماد الثورة وتأييد الأمن، فلا تبرح البلاد حتى تستتب الراحة تماما، فكان شفيق أثناء بقائه في مصر يتردد إلى بيت الباشا لمشاهدة فدوى، ولم يكن يهمل السؤال عن صحة عزيز، بل كان يستطلع أحواله. أما عزيز فلم تكن هذه المعاملة إلا لتثير منه حاسة الحقد والانتقام؛ لما رأى في نفسه من الذل والاحتقار لفوز شفيق عليه.
أما والدا شفيق، فوردت عليهما كتب من ولدهما تنبئهما بأنه في مصر بخير وسلام، وهو حاصل على امتيازات الجهادية، فسرا لما ناله من الشرف في ذلك، ولا سيما حين علما أنه كان في جملة من أنعم عليهم الجناب العالي بالنياشين والرتب إقرارا بأمانتهم، وزاده شرفا أنه كان من الضباط المختارين للانتظام في خدمة الجيش المصري وتدريبه.
الفصل الأربعون
حديث في لندرا
بقيت والدة شفيق كاتمة عن زوجها أمر حب شفيق لفدوى حتى أتاها كتاب منه يخبرها برضاء والد فدوى عنه، وأنه يميل إلى تزويجه بها، ويطلب إليها أن تطلع والده على حقيقة الخبر وتستطلع أفكاره في ذلك.
فسرت لأنها لم تكن تطمع بذلك لفرط ثروة الباشا، فأحبت إطلاع زوجها ليشاركها بالفرح، فبقيت تترقب الفرص لتراه مسرورا واسع الصدر، حتى كانت ليلة من ليالي الصيف في لندرا كان فيها زوجها أقل انقباضا من عادته، فجلست إليه وبدأت تلاطفه بالحديث إلى أن قالت: ألا تبرح مصرا على كتمان حكاية الشعر عني يا إبراهيم.
فتأفف إبراهيم من تكرار هذا السؤال عليه؛ لأنه ينقبض عند تذكره، فقال: أستحلفك بالله
فضحكت سعدى وقالت: أتظن لا أحد يحمل أسرارا إلا أنت فأعجبت بما كتمت؛ فإن لدي سرا لو أطلعتك عليه لزالت كل أكدارك وتبدلت بالأفراح.
قال: وما هو يا ترى السر الذي يجلب الأفراح وتكتمينه؟ قالت وهي تبتسم في وجهه: لا أستطيع أن أنقله لك قبل أن تسمح لي بفض الكتاب، أو تطلعني على حكاية الشعر.
فقال: إذا كان في معرفة سرك ما يفرح، ففي سري ما يحزن؛ فالأحرى أن نتجنب الحزن، ثم إني لا أستطيع التصريح بسري، فإذا كان سرك كما قدمت فهاته؛ لعلنا نجلي شيئا من صدأ الأحزان والأكدار، فقد كفانا ما كابدناه أثناء ضياع شفيق من المشقة، فلنشكر الرب على بقائه حيا، ونطلب إليه أن يحفظ لنا حياته، ويقدر له نصيبا يحفظ له سعادته وهناءه؛ لأن معظم سعادة الرجل تتوقف على حكمة امرأته وحسن أخلاقها.
فلما رأت سعدى أن الحديث قد سهل لها الخوض في أمر اقتران شفيق قالت: لا تظن أني أقل اهتماما منك في أمر اختيار عروس لولدنا تقرر له سعادة حياته، وأنا أفضل أن تكون من عائلة ذات ثروة واسعة؛ لأنه يستحق كل خير، فما رأيك في الابنة الغنية؛ ألا تفضلها على الجميلة؟
فتنهد إبراهيم كمن يريد التكلم ويمنعه الرقيب، فقال: إذا أردت رأيي، فلا أريد له ابنة إلا من ذوي قرباه، سواء كانت غنية أو فقيرة، جميلة أو غير جميلة.
فقالت: أتقصد من أقربائك أو أقربائي؟
قال: من أقربائي؟
فرمقته بنظر المدهوش قائلة: قد مر علي برفقتك كل هذا الزمن ولم تطلعني على شيء من أمر وطنك أو ذوي قرباك؛ أليس هذا إجحافا منك أن أعيش معك زهاء عشرين سنة ولا تعلمني من أي البلاد بلادك، ولا من أي الناس أهلك؟ فكتمانك عني هذا الأمر أشبه بكتمان أمر الصندوق.
فقال وهو يبتسم مستهزئا: اعلمي أن معرفة أحد السرين يترتب عليه معرفة الآخر.
فازدادت سعدى تطلعا إلى استطلاع السر، غير أنها لم تقو عليه ذلك الحين، فاستأنفت الحديث عن شفيق قائلة: إن أسرارك قد أذابت كبدي؛ فدعها إلى الوقت الذي تشاء. أما مسألة زواج شفيق، فأحب معرفة رأيك فيها، فإذا اختار ابنة من بنات مصر الغنيات، وكانت ذات حسب ونسب وتهذيب وتعقل؛ أفلا تكون مسرورا؟
فأجابها: كلا، بل أكون متكدرا ولو كانت الابنة من بنات الباشوات؛ لأني أفضل له ابنة من بنات أعمامي ولو كانت فقيرة، فقالت: ولو أحب وأصر على أخذها! قال: لا أظنه يخالفني، وإذا فعل ذلك أكون منكدا مدة حياتي.
فاضطربت سعدى عند ذلك الخطاب، وأوجست مما يجلب الكدر لشفيق؛ لأنه مغرم بفدوى، ولم تستطع مراجعة زوجها لئلا يفهم قصدها، فسكتت وهي مرتبكة الخاطر، ولم تقدر أن تطلع شفيقا على أفكار والده خوفا من سوء عاقبة ذلك، فتربصت لما يأتي به المقدور أو تقدره الأحوال.
وبعد المداولة في أحاديث مختلفة قال إبراهيم: وما سرك الذي تفاخرين به؟ قالت: ليس لدي سر، وإنما أردت تحريضك على مكاشفتي بسرك فلم أنجح. ثم عاد كل منهما إلى غرفته.
أما سعدى فلما دخلت غرفتها جلست تكتب كتابا لشفيق، فأخبرته أنها لم تعلم والده بأمر الزواج لأنها لم تر فرصة لذلك، وأنها ستخبره في أول فرصة، وأما مجيئهما إلى مصر فسيكون بعد أجل غير معين؛ لأن الحكومة الإنكليزية استبقت والده تستخدمه في بعض المهام المتعلقة بمصر؛ لما تعلمه من خبرته بأحوال ذلك القطر، ثم تشير على شفيق ألا يستعجل في أمر الزواج، وأن يدع كل شيء ريثما يحضران.
أما شفيق فكان بانتظار قدوم والديه إلى مصر، وظن أن ذلك يكون أثر مجيء اللورد دفرين؛ الذي أرسلته الحكومة الإنكليزية ليأتيها بتقرير عن أحوال القطر، غير أن ذلك الظن لم يتحقق - وكان شفيق قد وعد الباشا أنه يكتب لوالده ليكتب إلى الباشا لتتم المعرفة بين الجانبين - فلما جاء كتاب والدته خشي أن تطول المدة قبل اطلاع والده على الأمر، فيتوهم الباشا في شفيق الخداع والنفاق، فلبث ينتظر بشرى والدته بإطلاع والده وهو على مثل الجمر.
أما فدوى، فكانت تعد الساعات والأيام في انتظار قدوم والدي شفيق؛ لأن وجودهما يسهل أمر الاقتران، ويضع حدا لكل المشاكل التي كانت تخافها، وخصوصا دسائس عزيز، وكان قد عزل من خدمة الجيش المصري في جملة من عزل من أبناء القطر؛ لأن الخديو أمر بعد الحوادث العرابية بإلغاء الجيش القديم، وتنظيم جيش جديد، ولكنها مع ذلك لم تفتأ في قلق دائم من دسائسه؛ لما فطر عليه من الشر والخيانة، وما يساعده على قبائحه من سعة غناه.
الفصل الحادي والأربعون
سفر غير منتظر
ففي يوم من أيام شهر فبراير (شباط) سنة 1883، جاء شفيق منزل الباشا وعلى وجهه أمارات الانقباض، فعلمت فدوى بمجيئه، فبعثت إلى والدها أن يأتي به إلى قاعة دار الحريم، فجاءا، فلما رأت فدوى شفيقا على تلك الحال بادرته بالسؤال عن السبب، فتبسم يريد إخفاء ما يخامر ضميره، فلحظت منه ذلك، فسألته عن سبب اضطرابه فقال: ليس ما يوجب الاضطراب يا عزيزتي.
فقالت (وهي تصلح طرف اليشمك): يظهر على وجهك من الاضطراب ما لا يخفى علي.
فقال مبتسما: أليس عارا على رجال الجهادية أن يضطربوا من المسير إلى الحرب؟
فقالت: وما هذا الأسلوب في خطابك؛ ألعلك ذاهب إلى الحرب؟
فقال: وعلام إذن نتقلد هذه العلامات وهذا السلاح. وأشار إلى السيف.
فرجفت تلك المسكينة وتلعثم لسانها، والتفتت إلى والدها وقد اغرورقت عيناها بالدموع قائلة: اسأله يا والدي عما يقصد بهذا؛ فإني لا أستطيع كلاما.
فقال شفيق وقد ضحك مستهزئا وامتلأت عيناه بالدموع: ليس لنا فخر يا عزيزتي إلا بالحرب. نعم، إني ذاهب إلى حرب.
قالت: وإلى أين؟
قال: إلى الأقطار السودانية.
فصاحت بالرغم عنها تندب سوء بختها: أأنت ذاهب؟ وشرعت في البكاء، فأخذ يخفف عنها ويهون عليها، ولكن عبثا كان يسعى في تخفيض اضطرابها وقد كادت تغيب عن الوجود.
فقال الباشا: وكيف كان ذلك؟ وما سبب هذه الحرب الآن؟
قال: لا يخفى على سعادتك أن الأقطار السودانية ما برحت منذ افتتحها المغفور له محمد علي باشا؛ مؤسس العائلة الخديوية، تحت كنف الحكومة المصرية، ينتفع القطر من تجارتها بالعاج والريش والصمغ وغير ذلك، فظهر فيها في أواسط سنة 1881 رجل نوبي، يقال له محمد أحمد، يدعي أنه المهدي المنتظر، فالتفت حوله عصابة قوية عرفوا بالدراويش، وجاهروا بعصيان الحكومة، فحاولت قمع ثورتهم مرارا فلم تفلح، فاستفحل أمرهم حتى استولوا على مديرية كردوفان، واحتلوا الأبيض عاصمتها، فشق ذلك على الحكومة المصرية، واعتبرته الحكومة الإنكليزية أمرا مؤذنا باضطراب حال الأمن في البلاد، فانفتح لها باب لإطالة مدة بقاء جيشها في مصر، مع حق الإشارة على الحكومة المصرية بما تتخذه من الاحتياطات، فأشارت عليها بإرسال حملة مصرية لإنقاذ الأبيض تحت قيادة قائد إنكليزي اسمه هيكس باشا، فأعدت الحملة. وستسير من هنا بعد يومين قاصدة الخرطوم؛ لتتحد هناك بحامية الخرطوم، ويسير الجميع إلى إنقاذ الأبيض. ولما كنت من الضباط الإنكليز المنتظمين في خدمة الجيش المصري دعيت لمرافقة تلك الحملة.
فلما أتم شفيق حديثه لم تتمالك فدوى عن الصياح قائلة: أأنت ذاهب إلى الأبيض إذن؟ قال: نعم.
قالت وقد أخذتها الرجفة وغلب عليها البكاء: ما هذا يا إلهي؟ السفر إلى الأبيض. إن تلك البلاد لا يسلكها الناس في حال السلم، فكيف في حال الحرب؟ ثم تنهدت وأكبت على البكاء.
فقال لها شفيق: لا تكثري من الحزن؛ فإني ذاهب إلى الحرب، وسأعود بخير - بإذن الله -
فقالت: لا كان فخر هذا مصدره. دع عنك هذا الفخر؛ فإنه مخيف، واستعف من الجيش ولا تذهب في هذه الحملة؛ رفقا بحياة هذه المسكينة، فرمقها شفيق بنظر المستهام، واضعا يده على قبضة سيفه وهو يبتسم قائلا: إني لم أتقلد هذا السيف إلا باسمك يا فدوى، فكيف أنزعه عني وقد أصدقني الصداقة، وأنالني شرفا، وسيزيدني، بإذن الله.
فقالت: أشفق يا شفيق على والدتك المسكينة إن كنت لا تشفق على غيرها.
فاغرورقت عيناه بالدموع وقال: والله إني لا أعرفني على من منكما أكثر شفقة: أعلى التي حملتني في جوفها أشهرا، وضمتني إلى صدرها سنتين، أم على من ألقت بنفسها إلى القتل من أجلي؟ ولكن دعيني من هذا الكلام، فإنه لا يليق بي وأنا ذاهب إلى حرب. فلندع عواطف الحب جانبا، ولنتمسك بالواجب؛ فإني أمرت بالسفر إلى الأبيض، ولا يسعني مخالفة الأمر، على أنه لو وسعني ذلك ما فعلته محافظة على شرفي؛ لئلا يقال إني خفت الحرب، والأعمار والأرزاق بيد الله.
فألقت فدوى رأسها على يدها وجعلت تمسح دموعها باليد الأخرى، ولبث الجميع صامتين برهة يفكرون.
ثم قال الباشا: إذا كان لا بد من سفرك فصبرا جميلا.
فرفعت فدوى رأسها منادية: لا لا، لا أظن قلبه يطاوعه على السفر.
فقال شفيق: لو أردت مطاوعة قلبي يا عزيزتي ما كلفتك هذا العناء، وإنما هو الشرف والشهامة اللذان أنا عبد رق لهما. والآن، ما لنا وللخوض فيما لا فائدة لنا منه؛ فقد جئتكم مودعا. وأما عن القلب وما أصابه، فلا تسألوا؛ فليس لنا إلا التمسك بالصبر الجميل، والاتكال على الله.
ثم التفت إلى الباشا قائلا: وأما وصيتي لك يا سيدي، فالعناية بوالدي إذا جاءا القطر أثناء غيابي، وأما أنت يا عزيزتي، فلا تحتاجين إلى الوصية، وإنما أطلب إليك أن تسمحي لي برسمك حتى أستأنس به في سفري، إذا أمر بذلك سعادة والدك، ثم مد يده إلى جيبه وأخرج رسمه، وناولها إياه قائلا: وهذا رسمي يبقى عندك تذكارا ريثما أعود، إن شاء الله.
فأخذت فدوى رسمه بعد أن استأذنت والدها وهي تبكي، ولم تستطع النهوض حتى تأتيه برسمها إلا بعد العناء، فسارت وركبتاها ترتجفان، ثم عادت فناولته رسمها فتأمله، وإذا هو رسم فوتوغرافي كثير الشبه بها؛ يمثلها جالسة على كرسي ملثمة باللثام التركي كأنها تمعن في شيء، وفي يدها شيء، فتأمله، فإذا هو الزر الذي أعطاها إياه تذكارا. وبعد أن تأمل الرسم مدة، وضعه في جيبه. وكان يريد تقبيله، فمنعه الحياء. أما هي فكانت تنظر إلى الرسم ولا تتمالك عن البكاء.
ثم رأى شفيق أن مكثه أكثر من ذلك ربما زاد الطنبور نغمة، فنهض وقبل يد الباشا، فقبله وعيناه تدمعان، ثم مد يده إلى فدوى وضغط على يدها قائلا: أرجو أنك لا تنسين شفيقا. فخنقتها العبرات ولم تستطع جوابا.
فقال وهو يخرج يده من يدها: عسى أن تجمعنا الأقدار ثانية، فننسى هذه الأكدار وخرج تاركا فدوى في حالة يرثى لها من القلق والاضطراب، فأخذ والدها يطيب قلبها ويهون عليها، وكذلك والدتها، حتى سكن روعها.
الفصل الثاني والأربعون
القنوط من حياة شفيق
أما شفيق فإنه سار إلى معسكره، فرأى هيكس وأركان حربه على أهبة المسير، فأعد ما يحتاج إليه وكتب كتابا إلى والده في لندرا يخبره بحقيقة ما هو فيه، وكتابا إلى والدته يلح عليها أن تستطلع أفكار والده وتخبره، ويقول أخيرا إنه خاف أن تكون قد أطلعت والده وهو لم يقبل فكتمت عنه ذلك.
وفي اليوم التالي، سافرت الحملة عن طريق السويس فالبحر الأحمر إلى سواكن، ومن هناك في الصحراء إلى مدينة بربر على النيل، على نية أن يتخذوا النيل بعد ذلك خطة مسيرهم إلى الخرطوم؛ حيث يمكثون ويتحدون، ومن هناك يسيرون إلى الأبيض.
أما ما كان من أمر والدي شفيق، فإنهما لما جاءهما كتابه بالسفر في حملة هيكس باشا، اضطرب بالهما، وجعل والده يحسب لهذا السفر ألف حساب، وبعد أن كان ساعيا في سرعة المجيء إلى القاهرة، أوقف السعي؛ إذ لم يعد له فيها وطر. وما زال كذلك حتى دخل صيف سنة 83، فوردت الأخبار بظهور الكوليرا في القطر المصري، فازداد إبطاء في المسير إليها.
أما أخبار هيكس فكانت تصلهم في حينها، فعلموا بوصوله الخرطوم ثم استعداده للمسير إلى فتح الأبيض، وكانت الأخبار إلى ذلك الحين تبشر بفلاحهم. أما بعد مسيرهم في الطريق من الخرطوم إلى الأبيض، فصار الناس في وجل عليهم، وآخر رسالة برقية وردت من هيكس باشا كانت في 17 أكتوبر سنة 1883 يقول فيها:
نحن الآن على مسافة عشرين ميلا من نورابي، وإني آسف لأننا لم نحفظ خط الرجوع، وقد علمت من علاء الدين باشا؛ حكمدار السودان، أن العرب سيقطعون عنا الذخيرة والزاد، ويحدقون بنا من كل ناحية بعد أن يوغل جيشنا في البلاد، وزد على ذلك أن برك الماء ستجف، فلا يمكننا الاستقاء إلا بحفر الآبار. صحة العساكر جيدة، والحر شديد.
وانقطعت الأخبار عن هيكس وحملته من ذلك الحين، فخاف الناس خوفا عظيما، وكان أكثرهم وجلا والدي شفيق في لندرا، وفدوى في مصر، وأخذ الناس يقولون في مصير تلك الحملة أقوالا متضاربة، نقلا عن ألسنة العرب القادمين من تلك الأنحاء، حتى ثبت أخيرا أن تلك الحملة ذهبت بما فيها من الرجال والزاد والذخائر عطشا وقتلا بين العربة والأبيض، ولم يرجع منهم مخبر، فأصبح الكدر مستوليا على جميع الناس، ولا سيما على قلب والدي شفيق وهما لا يزالان في لندرا. ولما مضى عام 1883 ولم يرد لهم خبر عن شفيق، شقوا عليه الجيوب، ولبسوا أثواب الحداد، ولا تسل عن تلك الوالدة التي قضت شرخ الحياة في تربية الولد، فذهب إلى حرب ولم تعد تعلم عنه شيئا.
وأما ذلك الوالد الذي لم ير يوم سرور، وقد قضى معظم عمره في الانقباض والكدر، فلم يعد يخرج من البيت ولا يخاطب أحدا، واستولت عليه السويداء حتى لم يعد أحد يستطيع مخاطبته، حتى ولا امرأته، التي تضاعفت أحزانها بمعاشرة زوجها، وهو فيما تقدم من الانقباض والسويداء يكاد لا يخاطبها إلا فيما هو ضروري جدا، فأهملت أمر الصندوق والشعر.
أما فدوى فإنها بعد أن علمت بنكبة هيكس وحملته، أصبح النور في عينيها ظلاما، ولم تعد تستطيع طعاما، وأخذ جسمها في النحول، وجمالها في الذبول، وتكدر لذلك والدها ووالدتها، لكنهما كانا يعزيانها من وقت إلى آخر بأن الأخبار الصحيحة لم ترد على أحد؛ أي إنهم لم يسمعوا قائلا يقول إنه متحقق أن شفيقا في جملة من قتل، ولكنها لم تكن تصغي إلى قول أحد، بل كان يتمثل لها رسم شفيق، فكانت تقضي النهار واضعة هذا الرسم أمامها، والعبرات تتساقط من عينيها حتى أصبحت جلدا على عظم، فلازمت الفراش مدة طويلة حتى وصف لها الأطباء الخروج من القطر المصري؛ ترويحا للنفس. أما هي فلم تشأ الخروج من حجرتها لئلا يمنعها ذلك من البكاء والنحيب، ولكنهم ما زالوا بها حتى أجبروها على الخروج من القاهرة، وذهبوا بها إلى الأرياف، غير أن هذه الوسائل لم تجدها نفعا، فمكثت تزداد نحولا كلما ازدادت وسائط الانشراح والتنقل من بلد إلى آخر، فوصف لها الأطباء المسير إلى بر الشام وترويح النفس في ربى لبنان، لكنها لم تكن تجد سلوى ولا تعزية البتة، حتى أصبح والداها في يأس من حياتها. وكانا يحاولان جهدهما أن يبغضا شفيقا إليها؛ لعلمهما أنه لم يعد في عالم الحياة، وأنها كلما زادت به افتكارا زادت رقة ونحولا.
أما عزيز فقد تقدم أنه ازداد حقدا على شفيق بدلا من أن يخجل من وقاحته، فصار يود أذيته بأية الوسائل. ولما علم ما حل بحملة هيكس سر وابتهج، وكان يود أن يبلغ فدوى ذلك شفاها تشفيا منها، لكنه لم يكن يستطيع ذلك؛ لعلمه أن والدها وكل من في البيت عالمون بقصته، لكنه أقام عليها الأرصاد والعيون لاستطلاع حقيقة أفكارها؛ ظنا منه أنها حالما تيقن بضياع شفيق يتغير قلبها وتسلوه مع الزمن، فإن رأى أنها لم تزل على حبه جعل يدس في أفكار والدها على يد بعض الناس أن أحسن وسيلة لحفظ حياة ابنته إنما هي اشتغالها عنه بغيره.
فلما علم بقرب سفر فدوى من القاهرة جاء إلى والدها يسأله عن صحتها مظهرا الأسف الشديد على ذلك. وكان والدها لا يستنكف من مقابلته مراعاة لخاطر شفيق، وأملا بإعادة العلاقة بعد تحققه موت شفيق، فصار يتردد المرة بعد المرة للسؤال عن فدوى، ولكنه لم يتجاسر على أكثر من ذلك.
وكان والدها عالما أن اشتغالها بغير شفيق (إذا استطاعت) أحسن طريقة لتخفيف ضعفها، وقد لبث مدة في انتظار ورود كتاب والد شفيق، كما وعده شفيق، فلم يأته كتاب ولا خطاب، فخامره شك في حالة تلك العائلة. وكان ذلك من جملة ما حمله على تبغيض شفيق إلى فدوى، فوقع في حيرة وكثر بلباله. وكان كل ذلك مما يسر عزيزا؛ لأنه أمل بنيل مراده، ولكنه كان لا يزال يفكر في وسيلة للشماتة بفدوى المسكينة، فكتب إليها يوما رقعة بغير اسمه يذكر فيها قوله: «ذلك نتيجة الكبرياء واحتقار الناس، فأين شفيق الآن يا فدوى؟ وأين عظامه؟ هل رأيت في حبك له خيرا مما كنت تلاقين من غيره؟ أليست أسقامك هذه منه؟ وأما الذين نبذتهم فلسان حالهم يقول الآن:
من عاش بعد عدوه
يوما فقد نال المنى!»
وبعث تلك الرقعة مع بعض جواسيسه إلى حجرة فدوى؛ إذ لم يستطع تسليمها إليها بيده، فلم يستطع الرسول غير رميها في أرض الحجرة، فوقعت في يد بخيت، ولما قرأها علم أنها من عزيز، فاشتد غضبه وخبأها عن فدوى وعن غيرها، وقد صمم على قتل ذلك الخائن، لكنه لم يكن يستطيع الخروج من البيت؛ لاشتغاله بمرض فدوى، ثم لما ذهبوا بها إلى الأرياف لم يعد يتيسر له ملاقاة ذلك الباغي اللئيم.
الفصل الثالث والأربعون
الجاسوس إلى المتمهدي
أما ما كان من أمر هيكس وجماعته، فإنهم وصلوا بربر ومنها ركبوا في بواخر النيل، فوصلوا الخرطوم في أول مارس من تلك السنة، وكان شفيق قد اكتسب ثقة هيكس باشا ومحبته؛ لما اتصف به من الشهامة، ولمعرفته اللغة العربية وشدة احتياج هيكس إليها في تلك الجهات.
فلما وصلوا الخرطوم خرج حكمدارها لملاقاتهم في حاشيته ورجال حكومته، وأنزلهم في سراي أعدت لهم. والخرطوم عاصمة السودان ومقر حكومته، وهي واقعة على الشاطئ الشرقي للنيل عند نقطة التقاء البحرين الأبيض والأزرق، وهي أكبر مدن الأقطار السودانية. ونزل شفيق في غد وصولهم لمشاهدة المدينة، فإذا هي آهلة وفيها ديوان الحكمدارية، والمجلس المحلي، واسبتالية، وأشوان، وجبخانات، وتلغراف، وقيساريات، ووكالات يباع فيها أنواع البضائع الإفرنحية والسودانية، وفيها حدائق كثيرة الأشجار من الفاكهة؛ كالليمون، والبرتقال، والعنب، والرمان، والتين، والقشطة، والخوخ، والتفاح، وشاهد فيها من الصياغ من لهم مهارة خاصة في عمل الفناجين من الأسلاك.
وبعد مضي ثلاثة أسابيع من وصول هيكس، جاءتهم سرية من الجند المصري من القاهرة، وجاءتهم سرية أخرى معظم من فيها من ضباط الجند العرابي.
وكان شفيق لحسن فراسته لا تفوته فائتة لما تستلزمه الأحوال، فاجتمع يوما بهيكس باشا، فإذا به جالس في حجرته يكتب كتابا إلى لندرا، فجلس يطالع بعض الجرائد الإنكليزية التي كانت قد جاءتهم مع الحملة، فلما أتم هيكس الكتابة رحب بشفيق، وأخذا بأطراف الحديث، فقال هيكس: لا أرى هؤلاء الدراويش يستطيعون منازلة جنودنا إلا مدة قصيرة، فقال شفيق: يا حبذا ذلك، ولكني أرى يا سعادة الباشا أن جندنا لا يصلح لهذه المهمة.
فقال هيكس: ولماذا؟
قال: لأن معظم ضباطه من الذين كانوا في جيش عرابي وهم لم يأتوا إلينا إلا مكرهين؛ ظنا منهم أنهم سيقوا إلى هنا إبعادا لهم عن الديار المصرية.
قال: يا للعجب! إني أراهم يطنبون في محبتهم للخديوي ومصلحة البلاد.
قال: لا يغرنك ذلك؛ فإني سمعتهم يتحدثون بما أقوله لك الآن، وهم يجاهرون بأفكارهم أمامي ولا يحاذرون؛ لأنهم لا يعلمون أنني أعرف اللغة العربية؛ اغترارا بالزي الإنكليزي الذي ألبسه، فكن منهم على حذر.
فقال هيكس: ولكن ألا تظن أنهم أشد بطشا من هؤلاء السود؟
فضحك شفيق وقال: اعلم يا سعادة الباشا أن السودانيين إذا تدربوا على الجندية كانوا أشد بأسا من هؤلاء كثيرا؛ لأنهم صبورون على الأهوال، ثابتون في مواقع القتال.
فوقع هذا الكلام لدى هيكس باشا موقع الاستحسان، وازداد حبا لشفيق ورغب في تقريبه منه.
أما شفيق فلم تذهب صورة فدوى من ذهنه لا ليلا ولا نهارا مع ما كان فيه من القلق والاضطراب، وكان رسمها أعظم تسلية له في ساعات الانفراد. وقد كان يخاطب نفسه مرارا قائلا: هل يقدر لي العود إلى بلادي مرة ثانية فأتخلص من هول هذه الحملة، وأرى فدوى ووالدي. وكان كثيرا ما يبكي منفردا كلما يتصور عدم عوده إلى تلك البلاد.
وكان هيكس حيثما سار يصطحب شفيقا ويستشيره في كثير من الأعمال، فكان ذلك مدعاة لسرور شفيق؛ آملا أنه ينال بذلك حظوة في عيني كبار الإنكليز، فينال الرتب والألقاب مرضاة لحبيبته، وليس طلبا للفخر بنفسه؛ لأنه كان لا يبالي بأمجاد الدنيا الباطلة، ولكنه كان يرى أنه إذا نال فدوى وهو أقل منها مقاما، فلا يهنأ له عيش.
وبقي هيكس باشا في الخرطوم يبعث يوما بعد آخر سريات من الجند لمقاتلة بعض العصاة في أماكن مختلفة إلى أن عقد النية على المسير لافتتاح كردوفان، وإنقاذ الأبيض عاصمتها من المتمهدي وجنوده.
فبعث الجواسيس يستطلعون طلع العدو، فصاروا يأتون إليه بالأخبار المختلفة المتناقضة، فوقع في حيرة لا يعلم الصحيح منها، ورابه أمر الناقلين لها. وبينما هو في الافتكار دخل عليه شفيق فقص عليه ما هو فيه من التردد، فقال: وما العمل الآن؟ قال: لا بد لنا من رجل نثق به يستطلع لنا أحوال العدو، وإلا فإننا في خطر على حياتنا.
فأطرق شفيق هنيهة ثم قال: وما رأيك إذا كنت أسير أنا في هذه المهمة؟ قال هيكس: إنك أقدر الناس على ذلك لمعرفتك العربية، ولاطلاعك على عوائد هذه البلاد، وإذا فعلت فإني أذكرك لدى نظارة الحربية، فتنال مكافأة عظيمة، ولكن الأحسن ألا تلقي بنفسك إلى التهلكة.
قال: إني لم آت إلى هذه الديار إلا للقتال:
ومن كانت منيته بأرض
فليس يموت في أرض سواها
وإنما أسألك أن تكتم أمر ذهابي عن كل أحد.
وكان شفيق قد تعلم لغة عرب السودان، وعرف كثيرا من عوائدهم، فأزمع الذهاب متنكرا بلباس المغاربة، فلبس جبة فوق قباء طويل، واعتم عمامة بيضاء، واحتذى حذاء كحذاء المغاربة، وحمل السبحة بيده، وعلق الغليون بمنطقته، وجاء بجملين خفيفين؛ واحد لركوبه عليه رحل خفيف، علق بكل من جانبيه قربة ماء، وتقلد سيفا سودانيا، واصطحب دليلا كان في الخرطوم في مثل لباسه وحاله، وركب الاثنان وسارا جنوبا يريدان الأبيض، بعد أن حمل شفيق جملا آخر عدة أجربة وأكياس فيها أنواع العطارة، متظاهرا بأنه تاجر مغربي يطوف البلاد للاتجار بأصناف العطارة.
أما رسم فدوى فجعله في كيس وعلقه حول عنقه تحت ثيابه احتفاظا به؛ لأنه معزيه الوحيد في تلك الأنحاء، فخرج من الخرطوم في أوائل سبتمبر سنة 1883 ولم يعلم به أحد، وفي غد يوم خروجه خرجت حملة هيكس تريد الدويم تحت قيادة هيكس باشا وعلاء الدين باشا؛ حكمدار السودان.
وكان مسير شفيق من جهة، ومسير حملة هيكس من أخرى، على أن يلتقيا في جهة مورابي عند أول خور أبو جبل.
أما شفيق فكانت جهة مسيره بعيدة من مجرى النيل، فكان يتخذ ماءه من الآبار في الصحراء، وكلما مر بربع من العرب بات عندهم، وباعهم الطيوب، وحادثهم في شئون المتمهدي.
الفصل الرابع والأربعون
الدراويش
وما زال سائرا حتى صار على مقربة من الأبيض، فقال له الدليل: إننا بالقرب من الأبيض، فلم يعد يمكننا المسير بهذا اللباس، ولا بد لك من لبس المرقعية وغيرها من لباس الدراويش، وألق هذا الغليون؛ لأن التدخين به محظور على أتباع المتمهدي. ففعل شفيق كما أشار الدليل ولاقى جماعة قادمين من الأبيض فقيل له: إن المتمهدي خارج اليوم بموكبه يخطب في الرجال السائرين لتعقب الترك
1
في طريقهم إلى الأبيض، فأحب شفيق مشاهدة ذلك الموكب، فوقف بين الناس وهو فيما تقدم من اللباس المشابه للباسهم، ولكنه كان موجسا شرا، فلما كان العصر سمع نقر الدفوف (النقارات) عن بعد، فسأل عن السبب، فقيل له: هذه موسيقى الجيش، ومعها الجند السائر إلى الدويم. فوقف لمشاهدته.
وبعد يسير، رأى الناس يهرولون أفواجا على غير انتظام تتقدمهم جماعة حاملون نقارتين؛ وهما حلتان كبيرتان من النحاس، قد شد على فم كل منهما جلد، ويحمل كلا منهما رجلان بحبال في عنقيهما ، ورجل ثالث ينقر عليها نقرة تقلق الأذن، على أنهم يطربون بها، ويشنفون الأذن بسماعها، ووراء هذه الموسيقى خيالة على أفراس بسرج عربية، وهم قليلون، عليهم لباس الدراويش؛ وهو جبة من قماش الدمور نسيج السودان يقال لها مرقعية؛ لأنها مرقعة بقطع مختلفة الألوان، وعلى رءوسهم عمارات من القش الأبيض أو القطن حولها عمامة بيضاء تسترسل منها في قفا الرأس ذؤابة طويلة تتدلى على صدورهم حتى يلفونها لفا عريضا محكما، وحول أوساطهم مناطق من نسيج القش أو نسيج الدمور يقال لها في لغتهم كربة يخفون للجري. والسواد الأعظم منهم حفاة. أما المحتذون فحذاؤهم نعل ثخين يشد بالرجل بسيور من جلد، وقد تكون تلك الأحذية من نسيج القش، وحول أعناقهم المسبحات المدلاة على صدورهم. والجانب الأعظم منهم متقلد أسلحة معظمها من الرماح والحراب. أما سيوفهم فمستطيلة ذات حدين، أغمادها من الجلد الأصفر يعلقونها بأكتافهم. ويحملون درقا من جلد بقر النهر، وقلما يخلو كبراؤهم من خنجر يعلقونه في أكواعهم، أو يشدونه في مناطقهم. وكان شفيق يسمع عن ملابس هؤلاء الدراويش فلم يعجب من ذلك كثيرا، ولكنه تعجب لما رأى بينهم من يظهر من ملامحهم أنهم من المصريين، وأسلحتهم أسلحة الحكومة المصرية من البنادق وما يتبعها.
فنظر إلى هؤلاء الجماهير فإذا بهم حطوا رحالهم حالما وصلوا، ونصبوا بيارقهم بين حمر وبيض وزرق، وشاهد على بعضها كتابة عربية فقرأها فإذا هي: «لا إله إلا الله، محمد رسول الله، والإمام المهدي خليفة رسول الله.» وشاهد على البعض الآخر كتابة تختلف عن هذه لفظا وتتفق معنى. ثم نقرت النقارة فاصطفت الرجال الخيالة في ناحية، والمشاة في أخرى، ونظر شفيق نظرا عاما إلى تلك الجنود، فإذا هي مؤلفة من ثلاثة أشكال؛ الأول: الدراويش؛ وهم اللابسون المرقعيات، وألوانهم سمراء، وليسوا سودا، والثاني: الجهادية؛ وهم حملة البنادق، وفيهم السود والسمر، وهم حامية الأبيض الأصليون، والثالث: العبيد؛ وهم خدم الدراويش أو عبيدهم؛ يلبسون شملة من قماش أصله أبيض من نسيج السودان يسترون بها عوراتهم وبعض صدورهم. وهؤلاء جميعهم سود، وقد يلبسون المرقعية .
أما الأمراء فكانوا يميزون بركوبهم الخيول النفيسة، وبما يحدق بهم من الخدم، وأما لباسهم فلم يكن يميز عن سائر الدراويش بما يستحق الذكر. وسمع شفيق الجميع ينادون أثناء قدومهم بصوت واحد: «في سبيل الله قتل الكفار.» فأخذ قلبه يخفق وجلا وقد ندم لعظم ما عرض نفسه للخطر، فانسل في الجماهير كواحد منهم يقوم لقيامهم ويقعد لقعودهم.
فلما وقفوا في حد النظام بقدر الإمكان، وكان كل أمير بجانب قبيلته، نهض أمير ووقف على مرتفع وفي يده كتاب، فضج الناس يقول بعضهم لبعض: اسمعوا ماذا يقول الخليفة محمد الشريف. إنه والله لأشبه بالإمام علي - عليه السلام. فعلم أنه أحد خلفاء الخليفة الأربعة.
فوقف محمد الشريف في الجماهير وهو بلباس الدراويش ونادى بأعلى صوته: الفاتحة أيها المسلمون، فقالوا جميعا: بسم الله الرحمن الرحيم إلخ، وأنصتوا إليه، ففتح ورقة كبيرة وقبلها ووضعها على رأسه، ثم قال: اعلموا، أيها الأحباب، أن هذا منشور من سيدنا الإمام المهدي - صلوات الله عليه - سأتلوه عليكم. ثم بدأ يقرأ.
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله الوالي الكريم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله مع التسليم، وبعد، فمن عبد الله محمد المهدي ابن السيد عبد الله إعلاما منه إلى كل المشايخ في الدين والأمراء والنواب والمقاديم أتباع المذكورين. يا عباد الله، اسمعوا ما أقوله لكم، وكونوا على بصيرة، واحمدوا ربكم واشكروه على النعمة التي خصكم بها؛ وهو ظهورنا بينكم؛ فهو شرف لكم على سائر الأمم، ولكن المطلوب منكم، يا أحبابنا، المهاجرة والمجاهدة في سبيل الله، والزهد في الدنيا. وكل ما فيها إلى البوار ... وجاهدوا في سبيل الله، فلهزة سيف مسلم في سبيل الله أفضل من عبادة سبعين سنة، وعلى النساء الجهاد إذا كن قاعدات وقد انقطع منهن إرب الرجال، والشبابة فليجاهدن نفوسهن، وليسكن بيوتهن، ولا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى، ولا يخرجن إلا لحاجة شرعية، ولا يكلمن كلاما جهرا، ولا يسمعن الرجال أصواتهن إلا من وراء حجاب، وليقمن الصلاة، ويطعن أزواجهن، ويسترن ثيابهن، فمن كانت قاعدة كاشفة فاتحة رأسها ولو لحظة عين، فتؤدب وتضرب سبعة وعشرين سوطا، ومن تكلمت بفاحشة فضربها ثمانون سوطا، ومن قال لأخيه: يا كلب، أو يا خنزير، أو يا يهودي، أو يا فاجر، أو يا سارق، أو يا زان، أو يا كافر، أو يا نصراني، أو أو ... فيضرب ثمانين سوطا ويحبس سبعة أيام، ومن تكلم مع أجنبية وليس بعاقد عليها ولا لأمر شرعي يجوز ذلك الكلام، ومن حلف بطلاق أو حرام يضرب سبعة وعشرين سوطا، ومن شرب الدخان ومن خزنها في فيه أو عملها في أنفه يؤدب ثمانين سوطا، ويحرق التنباك إن كان عنده، ومن باعها واشتراها ولم يستعملها يؤدب سبعة وعشرين سوطا، ومن شرب الخمر ولو مصة إبرة، وجاره إن لم يقدر عليه يكلم أمير البلد، وإن لم يكلمه يؤدب ثمانين سوطا، ويحبس سبعة أيام، وكذلك من ساعد شارب الخمر بشربة ماء أو إناء. ومجاهدة النفس في طاعة الله حقيقة أشد من الجهاد بالأرماح؛ لأن النفس أشد من الكافر مقاتلة، فالكافر تقاتله وتقتله، وتكون لك الراحة منه، وهي عدوة في صورة حبيب، فقتلها صعب، ومسلكها تعب. ومن ترك الصلاة عمدا فهو عاصي الله ورسوله، وقيل كافر، وقيل يقتل، وجاره إن لم يقدر عليه يكلم أمير البلد، فإن لم يكلمه فيضرب ثمانين سوطا ويحبس سبعة أيام.
واعلموا، أيها الأحباب، أن خلافتكم وإمارتكم ونيابتكم عنا في الأحكام والقضايا لأجل أن تشفقوا على الخلق، وتزهدوهم في الدنيا ... ويزوج الفتى بعشرة ريالات مجيدية أو أنقص، والعزبة بخمسة أو أنقص، ومن خالف هذا عليه الأدب بالضرب والحبس بالسجن حتى يتوب، أو يموت في سجنه، ومقطوع من أهل زمرتنا، ونحن بريئون منه وهو بريء منا، والسلام.
الفصل الخامس والأربعون
موكب المتمهدي وخطابه
فلما تمت القراءة ضج الجماهير بالدعاء، فقال شفيق في نفسه: والله إنها تعاليم حسنة لا يأتي المتمدنون بأحسن منها، ولكنه شعر بخطر موقفه فصارت ركبتاه ترتجفان، وأخذ يدبر وسيلة يتخلص بها إذا انكشف أمره، ثم جعل يفكر بقيام هذا المتمهدي ودعواه وما تأتى له من الفوز، وفيما هو في ذلك رأى الناس في جلبة واختلاط، ثم علم أنهم يستعدون لملاقاة المتمهدي، وهم يتطلعون إلى جهة الأبيض، فنظر وإذا بالموكب قادم والمتمهدي في لباس الدراويش على جواد ليس أكرم منه، يحدق به الخليفتان التعائشي وولد الحلو، ووراءهم جماعة على خيول في لباس الدراويش، غير أن مرقعياتهم أقصر من مرقعيات أولئك، فهي لا تتجاوز ركبهم حتى يكاد يظهر من تحتها أسفل سراويلهم القطنية، فأمعن النظر فيهم، وعلم بعد ذلك الحين أنهم جماعة الملازمين؛ وهم خدمة المتمهدي وأعوانه الخصوصيون. وكانوا سائرين وراء الخلفاء مطرقين احتراما ووقارا، وبينهم العلم الخاص بالمتمهدي، فوقع الرعب في قلب شفيق وأدرك مقدار الخطر المحدق به.
فلما وصل الموكب إلى محط الجيش ترجل المتمهدي، وترجل كل من جاء معه ومشوا إلى مرتفع، فلما وقفوا تنحوا جميعا إلا المتمهدي، فجيء إليه بفرو من جلد فرش أمامه، فوقف للصلاة ووقف الجميع وولوا وجوههم البيت الحرام، وبدأت الصلاة والتوحيد، فصلى شفيق ووحد معهم. ومما زاد اضطرابه أنه شاهد من نفوذ هذا الرجل في جماعته ما يجعل أنفس الناس في تقديره لا تساوي لفظا، فخيل له أن المتمهدي حالما يراه ويعرفه لا يتكلف غير إشارة القتل فيقتل. وبعد انقضاء الصلاة، وقف المتمهدي لمخاطبة الأمراء وتوصيتهم بالثبات، وحول عنقه سبحة من خشب البقس مدلاة على صدره. ولم يكن في لباسه ما يميزه عن سائر الدراويش إلا كونها أكثر إتقانا، وأغلى قيمة.
فأخذ شفيق يتأمل في هيئة هذا الرجل الذي أقلق دول أوروبا وألقى في مجالسها الشقاق، فإذا هو طويل القامة، خفيف العضل، كبير العينين، حسن الملامح، كسائر الدنقلاويين أبناء وطنه، وآنس في وجهه مهابة ولطفا، وانتبه خصوصا إلى الخال الأسود على خده، فتذكر ما كتبه إلى السنوسي من أن ذلك الخال إنما هو علامة المهدوية. ولما وقف محمد أحمد المتمهدي وقف كل الحاضرين مطرقين صامتين لا يسمع لهم صوت، ولا ترى لهم حركة، فافتتح المتمهدي كلامه بالصلاة ثم قال:
أيها الأحباب من المقدمين والمشايخ والنواب والأنصار، اعلموا أن الله لو شاء سبحانه وتعالى أن يبيد أهل الكفر ويستأصل شأفتهم من غير قتال لفعل، كما ورد في الكتاب العزيز قوله تعالى:
ولو يشاء الله لانتصر منهم
(الآية)، وقوله:
ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ، إلى غير ذلك، فصار
أنفسهم نادمين. وأما أنتم فعلى كلا الحالين من الفائزين؛ فخوضوا الغمرات شوقا إلى الله، وإلى جنة قصورها عالية، وأنوارها زاهية، وأنهارها جارية، وقطوفها دانية إلخ إلخ.
إلى آخر ما هناك من التحريض على القتال بإيراد الآيات والأحاديث النبوية.
ولما أتم المتمهدي خطابه ضج الناس بالتوحيد والبكاء وقرع الصدور؛ لشدة تأثير تلك الأقوال فيهم. ولما انتهت الخطابة ركب المتمهدي وحاشيته وعادوا يريدون الأبيض، فتراكض الدراويش إلى موطئ قدميه يمسحون وجوههم وأعناقهم بالتراب الذي وطئه، ويعفرون رءوسهم به، حتى وصل الأبيض بعد أن عهد في قيادة تلك الحملة إلى الأمير عبد الحليم وأبي جرجة. وعدد الجيش 3 آلاف.
فسار شفيق يريد الدخول في جملة من دخل والناس ينظرون إليه نظرهم إلى رجل غريب الزي، فخاف أن تقع عليه شبهة، وأيقن أنهم إذا كشفوا أمره يقتلونه لا محالة، فأخذ يتقلدهم في حركاتهم إظهارا لكونه على دعوتهم.
الفصل السادس والأربعون
أسير المتمهدي
فلما دخل البلد أخذ يطوف به ويستطلع أحواله ويسأل عن قوات المتمهدي، فلما دار البلد إذا بأماكنه مبنية بالآجر طبقة واحدة، وهي متفرقة ليست على انتظام واحد، وإنما شاهد كل جملة منها متجاورة بينها وبين جملة أخرى فضاء، وفيه مساكن مصنوعة من القش يقال لها عندهم تكول، يسكنها من لا قدرة لهم على البناء بالطين، ثم وصل ديوان الحكومة فإذا هو مبني بالآجر، وفي وسطه فضاء يقيمون فيه الصلاة، ولم يشاهد في الأسواق من أرباب الصناعة غير الحدادين والصاغة، فعلم أن سائر أهلها يتعيشون بالتجارة في ريش النعام والصمغ والتمر هندي وسن الفيل. أما ماؤهم فمن آبار عميقة يبلغ عمق بعضها 17 قامة.
وبعث دليله يتخذ له منزلا ينزل فيه للمبيت، فعاد بعد هنيهة مصحوبا بزمرة من الدراويش، فلما وصلوا إلى شفيق قبضوا عليه وأوثقوه، وساروا إلى ديوان الحكمدارية، وفيما هو في الطريق ظن بعض الناس أنه رسول من قبل السنوسي في المغرب لمشابهته المغاربة شكلا - وكانوا قد شاهدوا رسولا مثله جاء من السنوسي، بعد أن كتب إليه المتمهدي يسميه خليفة من خلفائه، ولكن السنوسي لم يقبل ذلك، ولا آمن بمهدويته - فلما رأى أهل العبيد شفيقا موثقا ظنوه رسولا يحمل خبر سوء أو ما شاكل، وظنه آخرون جاسوسا من الجنود المصرية. فلما وصلوا به مجلس المتمهدي تناوله بعض الأمراء وسأل عن أمره، فقيل له: إنه جاسوس من قبل الترك، فأخذوه إلى الخليفة، فلما رآه توسم في وجهه النباهة، وتعجب من جراءته؛ لأنه لم يظهر عليه خوف، فأحب أن يراه المتمهدي عينه، فأوقفه خارجا ودخل قاعة المتمهدي وقال له: إن في الباب جاسوسا يظهر عليه مظهر خلاف سائر الجواسيس، فهل تريد أن تراه؟ فأذن في إدخاله عليه، فدخل فلاقاه جماعة الملازمين على الباب، فأدخلوه المجلس فإذا في صدره المتمهدي على «عنقريب» فيما تقدم من اللباس، وبين يديه الأمراء جلوس الأربعاء مطأطئي الرءوس بكل احترام ووقار، والسكوت مستول على تلك القاعة. وكان شفيق قد أيقن بالهلاك، وعلم أن تلك دسيسة من دليله، ولكنه تجلد وأخذ يفكر في وسيلة للنجاة من هذه الورطة. فلما وصل مجلس المتمهدي أوقفوه بين يديه، فأحس بهيبة ذلك الرجل وسطوته، ولكنه تجرأ ووقف وهو لا يزال في لباس الدراويش ينتظر أمر المتمهدي، فخاطبه قائلا: ما الذي جاء بك إلى هذه الديار؟
قال شفيق: قد جئت بقضاء من الله - سبحانه وتعالى.
قال : ولكنك لا تعلم أننا لا نؤخذ بالدسائس، وقد قيض الله دعوتنا ومنحنا الغلبة على القوم الكافرين.
قال شفيق: إن القدرة لله يهبها لمن يشاء من عباده.
فأعجب المتمهدي جوابه، فقال: ولكنه ألم يقل:
ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة .
قال شفيق: نعم، قد قال ذلك، ولكنه قال أيضا:
من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
فقال المتمهدي: أتعلم أنك الآن في قبضة يدنا، ولو أردنا قتلك لما كلفنا ذلك غير إشارة.
قال: أعلم ذلك، وأعلم أن الموت والحياة بيد الله.
فقال: قد كنت عازما على قتلك، وقد أعجبني وثيق إيمانك، فهل أنت مؤمن بما دعانا الله تعالى إليه من المهدوية، أو أنت على ما أصحابك عليه من الكفر المبين؟
قال: إذا أذن لي مولاي قلت: إن الكفر ليس من أوصاف الموحدين، وما في أصحابي إلا كل موحد مؤمن يؤمن بالله وبرسوله وبيوم الدين.
قال: إنك مستوجب القتل بمقتضى الشرع؛ لأنك جاسوس جاء يستطلع أحوالنا، وقد جاء بك إلينا من نال أجره في الدنيا وفي الآخرة، ولكن لا بد من إيثاقك لعلنا نؤانس منك نفعا.
قال: لله الأمر يفعل ما يشاء، وهو على كل شيء قدير، ولو قدر الله قتلي ما أمسكت عنه، فإن كل شيء بقضاء وقدر، وأنا لم أعمل إلا ما أستوجب من أجله الثناء؛ لأني أقمت بأمر مولاي، كما أقام رفيقي هذا (وأشار إلى دليله) بأمر مولاه، وقد قال في كتابه:
أطيعوا الله وأطيعوا
.
فقال المتمهدي: خذوه إلى السجن موثقا حتى نرى ماذا نعمل به.
فقال شفيق: حيا الله مولانا وبياه. إن الوثاق لا يزيد شيئا من لوازم الحجر علي؛ لأني لو أطلقتم سبيلي ما استطعت العود وحدي، فلتتركوني محلول الوثاق كواحد من رجالك؛ لعلي أستطيع خدمة لكم.
فزاد شفيق كرامة في عيني المتمهدي، فأمر بعض من في حضرته أن يذهب به إلى حجرة يحفظه بها تحت الحجر، فخرج شفيق ينفض غبار الموت عن وجهه، وقعد يندب سوء حظه ويلعن ذلك الخائن الذي خانه وألقاه في هذا الضيق.
فساروا به إلى حجرة ينام فيها بعد أن جاءوه بالطعام، فتناول العشاء ثم تركوه في الحجرة وقد أظلمت الدنيا، فجلس على الأرض وأفكاره تتقاذفه كخشبة تتقاذفها الأمواج، وأخذ يتأمل فيما مر به من الأخطار، وما لا يزال يخشاه، وخطر على باله فدوى، فخفق قلبه وجلا عليها لئلا تحزن على طول غيبته، واشتد به الشوق حتى بكى، وأراد أن يخرج الصورة لمشاهدتها، ولكنه علم أنه في ظلمة وإخراجها عبث، ولكنه مع ذلك أخرجها وأخذ يقبلها ويبكي، ويخاطب نفسه كل ذلك الليل نادبا سوء حظه، وطالبا إلى الله تعالى أن يخفف حزن والديه وخطيبته.
الفصل السابع والأربعون
قادم غير منتظر
وفيما هو في ذلك وقد مضى معظم الليل سمع وقع أقدام عند باب الحجرة وصوتا منخفضا يقول: لا تخف يا أخي ولا تجزع. فاقشعر بدن شفيق وأسرع إلى إخفاء الصورة وقال: من أنت؟ قال: إني أنا صديق لك. لا تخف. فأمل شفيق من ذلك خيرا، فسكت برهة وإذا بذلك الرجل قد دخل بعد أن أشعل قطعة خشب ووضعها في منتصف الحجرة ليستضيء بها، فتأمل الرجل فإذا به أسمر البشرة، ويظهر أنه مصري النزعة، ولكنه في لباس الدراويش، فأوجس خيفة وظهر ذلك على وجهه، فابتدره الرجل بالكلام هامسا في أذنه قائلا: لا تخف يا أخي؛ إني لست درويشا إلا حسب الظاهر، ولم أتقلد هذه المرقعية وهذه العمامة إلا رغما عني، فطب نفسا عسى أن ينجيك الله على يدي.
فقال شفيق: ومن أنت؟
قال: قد كنت قبل سقوط الأبيض واحدا من مستخدمي الحكومة فيها، فلما سقطت سقطت في قبضة المهدويين، ولم أر بدا من التظاهر بدعوتهم حفظا لحياتي، فأحبوني حتى دخلت في خدمتهم، فاتخذني الأمير عبد الحليم كاتبا له.
فقال شفيق: وما اسم حضرتك؟
قال: اسمي حسن، وسارع إلى الخشبة المشتعلة وأطفأها قائلا: إن الظلام أكتم لنا؛ لئلا يهتدي أحد بهذا النور إلينا، فيعود ذلك وبالا علينا.
فقال شفيق: قد سمعت اليوم أن الحملة سائرة تحت قيادة أميرك، فهل أنت ذاهب برفقته؟ قال: نعم، سنسافر بعد غد إن شاء الله، ولكني لا أخفي عليك أني ذاهب رغما عني؛ إذ لا يسعني غير ذلك، والآن يجب أن أتخذ لك وسيلة أنقذك بها من الخطر؛ لأن المتمهدي لا بد أن يأمر بقتلك؛ إذ قلما يثق بغير الدراويش، ولكني سأبذل الجهد في إنقاذك، ولا أريد أن أسألك عن أحوال حملة هيكس باشا؛ لأننا قد عرفنا عنها كل شيء؛ إذ إن جواسيسنا منبثون في سائر الأنحاء، وأخشى أن ترتاب في إخلاصي إذا سألتك، فما لنا ولهذا الكلام. إن الأمر الذي ينبغي أن نسعى إليه الآن إنما هو إنقاذك، وليس لنا إلا أن نجعلك من الدراويش على دعوتهم، ونسير معهم حتى يقدر لنا الفرار والعود إلى بلادنا، فإننا إن لم نفعل ذلك قتلنا لا محالة.
فلما سمع شفيق ذلك ظهر له أن الرجل مخلص، فقال له: إني أصنع ما تأمرني به، فدبرني برأيك.
فقال: قد أمر المتمهدي الأمير عبد الحليم أن يقتلك قبل مغادرته هذه المدينة، فيدعوك في الغد لأجل ذلك. ودله على طريقة تنقذه من القتل، ثم قال: وأنا سأفعل ما يجب علي؛ لعلك تنضم إلى حملتنا فنسير معا، فنقترب من بلادنا؛ لعل الله يمن علينا بالفرج.
فتنهد شفيق وقال: آه! والله إن الموت لا يخيفني، ولكني أضن بحياتي من أجل من هم أحب إلي منها، ولكن أخبرني هل في هذه المدينة أحد غيرك من المصريين؟
قال: فيها كثيرون، وأكثرهم من رجال الحامية الذين أصيبوا بمثل ما أصبت فانضموا إلى المهدويين، وفيها أيضا رجل إفرنجي يقال له الأب بونومي - كان راهب دير في جبل دلن؛ من جبال نوبيا جنوبي كردوفان، في جملة رهبان وراهبات، فحاصرهم أمراء المتمهدي حتى استولوا على مكانهم، وجيء بهذا إلى هنا، وهو لا يزال تحت الحجر - وهناك غيره كثيرون ممن كانوا في نعمة، وتراهم الآن في ذل يميت النفوس.
فتأوه شفيق وكاد ييأس، لكنه تجلد وقال في نفسه: إن الرجل من احتمل المشاق والأخطار، ولله الأمر يفعل ما يشاء.
الفصل الثامن والأربعون
النجاة من الموت
وبعد أن قضوا مدة في الحديث قال حسن: ها إني ذاهب إلى المعسكر، فافعل كما قلت لك، قال: حسنا. فخرج حسن ولبث شفيق حتى كان الفجر، فنهض جاعلا المرقعية عليه (وكان حسن قد أعطاه إياها)، وجعل العمامة على رأسه، وجلس والسبحة في يده يتلو هذه الآية تكرارا؛ وهي: «لا إله إلا الله، محمد رسول الله، والإمام المهدي خليفة رسول الله.»
فلما أشرقت الشمس قام الناس للصلاة، ثم جاء درويش يدعو شفيقا لمخاطبة الأمير عبد الحليم.
أما ما كان من أمر حسن، فإنه بعد أن دبر الوسيلة سار إلى مخدعه ولم يعلم أحد، وبكر في الغد إلى منزل الأمير عبد الحليم كجاري العادة، لكنه أظهر الاضطراب والقلق.
فلما رآه الأمير عبد الحليم قال له: ما بالك يا حسن مضطرب البال؟ قال: قد رأيت حلما هذه الليلة أقلقني، ولا أعلم تفسيره. قال: قل وما هو؟
قال: حلمت، أيها الأمير، أني كنت في حضرتك، فجاءك شيخ متسربل بلباس الدراويش، كبير السن، عظيم الهيبة، واسع اللحية، فحالما رأيناه سقطنا على وجوهنا، فقال لك: لا تخف يا عبد الحليم، إني الشيخ البصير، ولم آت لأدعوكم إلى المهدوية، ولكني جئت لأدعو رجلا حل بينكم لعلكم تؤانسون منه نفعا. فلما قال ذلك رفعت وجهي لعلي أراه، فشعرت كأن الشمس تلمع أمام عيني، فلم أر شيئا وللحال استيقظت مذعورا.
فقال عبد الحليم: كرم الله وجه الشيخ البصير. إنه جد مولانا الإمام المهدي، وكثيرا ما يتراءى له ويخاطبه، فلا تخف؛ إنه حلم ليس فيه شر.
ثم أمر بعض الرجال فسار ليأتي بشفيق، فلما حضر بين يديه عجب لما شاهد من لبسه المرقعية والعمامة المهدوية وهو يكرر تلك الآية. فلما وقف بين يديه خاطبه قائلا: ما الذي ألبسك هذه الثياب؟ ألا تعلم أنك إذا لبستها إنما تكون قد دنستها؛ لأنها لباس كرام الرجال الأتقياء؟
فقال شفيق مشيرا إلى السماء: إني لم ألبس هذه الثياب إلا بأمر من لم أر بدا من طاعته، فقال: ومن أمرك بذلك؟ قال: قد رأيت، يا سيدي، حلما سرني كثيرا، وذلك أني رأيت رجلا عظيم الهيبة، كبير السن، عريض اللحية، جاءني وفي يده هذه المرقعية وقال لي: إنك لم تأت هذه الديار إلا لتكسب آخرتك، وتصلح دنياك؛ فقم إلى دعوة الإمام المهدي؛ خليفة رسول الله. ثم علمني آية وأوصاني أن أتلوها تكرارا؛ وهي: «لا إله إلا الله، محمد رسول الله، والإمام المهدي خليفة رسول الله.» فحفظتها، ولكني سألت الشيخ عن اسمه فلم يشأ أن ينبئني به، ولكنه قال: إني مصدر الهدي والصلاح لكل المؤمنين.
ثم رأيت كأن الشمس خارجة من باب الحجرة، ولما استيقظت رأيت هذه المرقعية وهذه العمامة بجانبي، فآمنت بصحة ما قيل لي فلبستها، ولبثت أكرر الشهادة السابق ذكرها، حتى جاءني رسول الأمير فجئت معه إليك.
فعجب الأمير عبد الحليم لذلك الاتفاق، واستنتج من اتفاق الحلمين أنهما صحيحان، وبعث إلى المتمهدي فقال: إنه ممن اختارهم الله لدعوتنا؛ فلا تقتلوه، بل ولوه منصبا يليق بعلمه ومعارفه.
فلما جاء الأمر إلى عبد الحليم بطلب ذلك سأل كاتبه حسنا أن يمتحن الرجل، ويرى ما إذا كان فيه منفعة، فاختلى به وامتحنه، وبلغ الأمير أنه يعرف الكتابة والرطانة باللسان الأجنبي، فأمر أن يضم إلى كاتبه ويرافقه في الحملة.
الفصل التاسع والأربعون
حملة هيكس باشا
فلبس شفيق ما بقي من ملابس الدراويش، وانضم إلى معسكر عبد الحليم. وكان ذلك غاية ما يريد؛ لأنه استأنس بحسن وتوسم فيه الخير.
وفي اليوم التالي، سارت الحملة بجمالها وخيولها، وسار فيها حسن وشفيق، وقد عجب شفيق لقلة انتظام ذلك الجيش، وعلى كل درويش منهم جلد خروف (فرو) يستخدمه للجلوس والركوع والرقاد. وما زالت الحملة حتى وصلت أبو جوي، وهناك التقوا بجيش هيكس باشا، وكان ذلك الجيش هناك يجمع إليه بعض القبائل البدوية تعزيزا له. أما هيكس ورجاله فلم يعلموا بجيش عبد الحليم.
فلما علم شفيق بذلك صار قلبه يخفق ونفسه تحدثه بالفرار إلى معسكر هيكس، ولكنه لم يكن يستطيع ذلك لبعد المسافة. أما عبد الحليم فإنه أنفذ حسنا يستخير المتمهدي في الحرب، فأجابه أن: لا يفعل، ولكنه أمره أن يتبع تلك الحملة في خور أبي حبل إلى بحيرة الرهد، وهناك تصله الأوامر النهائية.
وكان هيكس مذ فارقه شفيق قد جاء الدويم، وهناك تفاوض هو وعلاء الدين باشا رفيقه بالحملة في أي الطريقين يتخذان: طريق خور أبي حبل أم طريق بارا؟ فكان من رأي علاء الدين اتخاذ طريق الخور؛ لأنها كثيرة المياه، وإن كانت بعيدة الشقة، فسارت الحملة حتى جاءت نورابي أول الخور في 8 أكتوبر؛ حيث كان موعد الالتقاء بشفيق، فانتظر هيكس رؤيته، فلم يظفر به، فظنه أصيب بسوء، فاغتاظ ولكنه لم يعلم أحدا بذلك، وسارت الحملة من نورابي إلى جلبن هار في الخور أيضا، ولكنهم علموا هناك أن جنود المتمهدي تتعقبهم، فندموا على قطع خط الرجعة بينهم وبين الدويم، ولكنهم ما زالوا سائرين وثقتهم في الحياة تقل يوما بعد يوم؛ لأنهم رأوا أنفسهم محاطين بالعدو من كل ناحية. وزد على ذلك النفور الذي وقع بين القائدين هيكس وعلاء الدين، وما زالوا بين حل وترحال حتى ألقوا عصى التسيار في بحيرة الرهد المتقدم ذكرها، فابتنوا زريبة وتحصنوا هناك، وأخذوا يتفاوضون في أمر الجهة التي يسيرون منها إلى الأبيض؛ لأن الخور هناك ينفصل إلى فرعين: فرع يتصل بمحلة البركة، وفرع يتصل بمحلة كشجيل. وهذه الثانية أقرب إلى الأبيض، فبقيت الحملة في رهد ستة أيام، وشاهدوا في اليوم الخامس بعضا من العربان على الجهة الأخرى من البحيرة، فظن علاء الدين أنهم الرجال الذين جمعهم الشيخان؛ اللذان كان قد أرسلهما لجمع النجدة من الجوار، فشد منديلا إلى عصا وجعل يلوح لهم بالمجيء. أما هم فلم يبالوا، بل ملئوا قربهم ماء وعادوا، فبعث هيكس في أثرهم خيالة، فعادوا وأخبروا أنهم رأوا عددا كبيرا من العدو معسكرين بين الشجر. وبعد ستة أيام، سارت الحملة قاصدة البركة، فوصلت إلى محل على مسافة 8 أميال من الوبا.
ومن هناك بعث هيكس جاسوسا إلى الأبيض يستطلع قوة المتمهدي، وفي اليوم التالي ساروا إلى الوبا، وفيها كثير من الماء، فبقوا هناك حتى يرجع الجاسوس، وأرسلوا جاسوسا آخر ليستطلع أحوال البركة، ولم يمض أربعة أيام حتى عاد الجاسوس من الأبيض ومعه كتاب من المتمهدي لقواد الحملة يدعوهم فيه إلى دعوته. وبعد قليل، جاءهم الجاسوس الآخر وأخبر أن العدو جاء جهة البركة لملاقاة جيش هيكس، فوقع هيكس في حيرة وفاوض خبراءه عن أفضل السبل للمسير إلى الأبيض، بحيث لا يلتقون بالدراويش في البركة، فأجمع الرأي على أن تكون طريقهم على كشجيل، وإنما اختلفوا فيما إذا كان الأفضل أن يعودوا إلى رهد ومنها في الخور إلى كشجيل، أو يسيروا مختصرين الطريق في الصحراء إلى كشجيل تاركين البركة على يسارهم، وعزموا أخيرا أن يسيروا على الطريق المختصر، على أن يأخذوا معهم ما يكفيهم من الماء ليومين.
الفصل الخمسون
مذبحة هيكس وجيشه
فسارت الحملة في 3 تشرين الثاني (نوفمبر) يوم السبت قاصدة كشجيل، وبعد مسيرة عشرة أميال في غابات غبياء وقفوا وقد وقع الرعب في قلوبهم؛ خوفا من أن يكونوا قد تاهوا عن الطريق. وكان الخبراء معهم يرسفون بالقيود؛ خوفا من فرارهم. وفي اليوم التالي (الأحد)، ساروا قاصدين غابة شيكان بين البركة وكشجيل.
وفي تلك الغابة كانت جنود أبي عنجر، وأما المتمهدي فكان قد علم بقصد هيكس المسير إلى كشجيل، فسار لملاقاته في طريقه إلى شيكان ومعه الخلفاء الثلاثة، وولد النجومي وغيرهم، وكان عالما أنه لا بد له من المرور في تلك الطريق. وأما شفيق، فكان لا يزال في جيش عبد الحليم يتتبعون خطوات الحملة، وقد أيقن بسقوطها، وتحقق أن فوزها لم يعد ممكنا لما علمه من استعداد المتمهديين، ولكنه كان ينتظر فرصة يمكنه بها إفادة هيكس باشا بشيء، وكان قلبه يكاد ينفطر عند ما يتصور الخطر الذي أحدق بتلك الحملة المنكودة الحظ، وفيها نحو 11 ألفا من الرجال قد ساقتهم الأقدار إلى حتفهم؛ ليكونوا طعاما للوحوش في تلك البيداء.
فلما هيأ المتمهدي جنده على هذه الطريقة جمع أمراءه يبلغهم الأوامر الأخيرة، فاجتمعوا للصلاة، فولوا وجوههم البيت الحرام، ووقف المتمهدي فيهم وقفة الإمام، وبدأ بالتكبير والفاتحة، ثم قال رافعا بصره إلى السماء: اللهم لا عيش إلا في دارك، ولا نعيم إلا في لقائك، ولا خير في غيرك، ولا نصر إلا من عندك، بك الحياة، وبك الممات، وبك التقلبات، وإليك المصير. وكان الجميع يرددون ذلك بعده بالخشوع والوقار. ولما انقضت الصلاة استل سيفه بيده وقال: الله أكبر. لا تخافوا؛ إن النصر لنا.
أما شفيق فأخذ يفكر في ماذا يجب أن يفعل، ولما لم ير حيلة قال في نفسه: إذا استطعت فإني أحمي هيكس من القتل. وفي يوم الأحد المشار إليه، وصل مربع هيكس إلى غابة شيكان في البر بين البركة وكشجيل، فهجم عليه المختبئون في تلك الغابة، فانكسر المربع بأقل من لمح البصر، ثم هجم المتمهدي برجاله من الجهة الأخرى، وجاء عبد الحليم من الوراء والتحم الفريقان يقتتلان بالسلاح الأبيض. وكان المصريون لوهلتهم يطعنون بعضهم بعضا، فأراد شفيق أن يسير إلى هيكس لعله يستطيع إغاثته، فلم يدركه إلا مقتولا بسيف الخليفة محمد الشريف. فقتلت حملة هيكس برمتها إلا 300. أما من العرب فلم يقتل إلا خمسمائة.
الفصل الحادي والخمسون
البيعة
أما من بقي حيا من رجال هيكس فصاحوا يستغيثون الدراويش لكي يكفوا عن قتلهم، فصدر أمر محمد أحمد بالقبض عليهم أحياء، فقبض على أكثرهم وقيدوا موثقين إلى معسكر المتمهدي.
وكان المتمهدي وقواده في فرح لا مزيد عليه من النصر، وكان الدراويش مشتغلين بالغنائم. أما شفيق فكان يطوف بين القتلى، فإذا بالجثث متراكمة أتلالا، والدماء جارية نهرا، فمر بجثة هيكس ملقى صريعا بحربة أصابته في صدره، وشاهد علاء الدين باشا في مثل ذلك، وشاهد كثيرين غير هؤلاء عرفهم مذ كان برفقة تلك الحملة، فكاد قلبه ينفطر لتلك المناظر حتى كاد يبكي، ولكنه تجلد خوف الفضيحة. وفيما هو في ذلك رأى الناس يهرولون إلى مكان المتمهدي، فسار في أثرهم، وإذا بالأسرى الذين قبض عليهم قد أوقفوهم في بقعة من الأرض موثقين، وعلى وجوههم علامات الشقاء والتعب والجوع والعطش، فسأل عما دعاهم إلى ذلك، فقيل له إنهم سلموا أنفسهم، وأحبوا مبايعة المهدي، فوقف شفيق ليسمع المبايعة، فإذا بمحمد أحمد قد انتصب بثيابه المعلومة، فجيء له بالفرو ليسجد عليه، فصلى صلاة النصر، وصلى كل من معه، ثم وقف أحد الخلفاء يلقن الأسرى سورة المبايعة، وهم يرددونها بعده حانين رءوسهم إجلالا لها؛ وهي:
بسم الله الرحمن الرحيم. بايعنا الله ورسوله ومهديه. بعنا أرواحنا وأموالنا وعيالنا في سبيل الله، فلا نهرب من الجهاد، ولا نزني، ولا نسرق، ولا نشرب الخمر، ولا نعصيه في معروف.
وبعد قليل، أخذ الأمراء والمقدمون يهتمون بجمع الغنائم إلى ما بين أيدي المتمهدي، فأمر خلفاءه أن يأخذوا خمسها له، ويفرقوا ما بقي على الأمراء والمقدمين حسب المعتاد، وكان في تلك الحملة من الغنائم ما لا يحصى عدده من الثياب والدراهم والأسلحة والمدافع. أما الأسلحة والمدافع فسيقت على حدة لبيت المال.
وبعد الاستراحة، عاد الجميع غانمين فائزين قاصدين الأبيض، وقد غادروا جثث هؤلاء المنكودي الحظ ملقاة على الرمال وبين الأشجار تتخاطفها الغربان. فسبحان من جعل لكل نفس أجلا، ولكل أجل سببا!
فلما وصلت الحملة إلى الأبيض، ضربت لهم المدافع مائة ضربة وضربة احتفالا بالنصر، ودخلوا الأبيض باحتفال عظيم.
الفصل الثاني والخمسون
متى يا كرام الحي عيني تراكم؟
ومكث شفيق في الأبيض بعد ذلك مدة يترقب فرصة ليعود إلى الخرطوم، ولكنه لم يكن يستطيع الفرار بنفسه؛ لأنه لا يعرف الطريق، فضلا عن أنه لا يأمن غائلة أنصار المتمهدي إذا استطلعوا أمره، فلبث يترقب الفرص وقلبه لا ينفك مشتغلا بوالديه وحبيبته، وقد أوجس عليها خوفا من أن تيأس من مجيئه فتقع في القنوط، ويقودها ذلك إلى السقام والضعف، فكان كلما فكر في ذلك يخرج صورة فدوى في خلوة ويتأملها، ويطلق لدموعه العنان حتى يشفي غليله، ثم يعود ويفكر في وسيلة لنجاته من تلك الأصقاع، والعود إلى الديار المصرية، أو على الأقل لإرسال كتاب يبشر أهله ببقائه في قيد الحياة، غير أن كل هذه كانت من غير الممكنات لديه؛ لأنه وحيد ولا معين لديه إلا حسن، الذي كان يجتمع به أحيانا فيتحادثان في شئون كثيرة أخصها تدبير الوسائل للخروج من ذلك السجن، فكان شفيق لا يظهر مللا من تلك الحال خيفة أن ينسب إليه الجبن أو ضعف العزيمة، ولكن قلبه كثيرا ما حدثه بالفرار، ولولا الخوف على حياته ما صبر عنه يوما.
وكان يترقب ورود جواسيس المتمهدي ليطلع منهم على حركات الحكومة المصرية ومقاصدها تلقاء هذا المتمهدي، عسى أن يسمع خبرا مؤذنا بقرب نجاته من تلك المعيشة، والاقتراب من منى فؤاده، ولم يكن له معز إلا صورة فدوى، فإذا اشتد به الغرام يخرجها ويتأملها ويقبلها، ويندب سوء حظه، ويندم على ما قاده إليه العلى من المخاطرة التي كان يخشى ألا تكون محمودة العواقب، ولا سيما عندما كان يسمع باتساع سلطة المتمهدي، وانتشار نفوذه في الأقطار السودانية، فلم يمض بعض سنة 1884 حتى أصبح معظم السودان على دعوته؛ يقومون لقيامه، ويقعدون لقعوده، فسلمت له مديريات دارفور وكردوفان وبربر وبحر الغزال وغيرها، ولم يبق من السودان في حوزة الحكومة إلا بعض المدن التي فيها الحامية المصرية؛ كالخرطوم، وسنار، وكسلا، وسواكن، وبعض المدن في خط الاستواء، على أن تلك الحصون لم يكن يرجى لها الفوز. ومما زاد اضطراب شفيق أنه سمع من أخبار الجواسيس أن الحكومة الإنكليزية أشارت على الحكومة المصرية أن تخلي السودان، وتسحب حاميتها منها، فتيقن اليأس من العود إلى مصر؛ لأن الحكومة إذا فازت باسترجاع جنودها، فلا تصل يدها إلى الأبيض لعدم وجود الحامية فيها، فأخذ يندب سوء حظه، ويأسف على ما ساقه إلى تلك الحالة وقد كان في غنى عنها.
ففي صباح يوم من أيام سنة 1884، رأى في منامه فدوى وقد شفها السقام على بعده حتى أشرفت على الموت، فاستيقظ باكيا نائحا، فتناول الصورة من جيبه، وأخذ يقبلها ويبكي بكاء مرا حتى كاد يغمى عليه وهو يشعر بما تحملته تلك المسكينة من الهموم والأحزان من أجله، ولم يكن يستطيع التمادي في إظهار ما تكنه عواطفه خوفا من انكشاف أمره، فاشتد به الحزن في ذلك الصباح حتى خاف على نفسه ، فضم الصورة إلى صدره وجعل يندبها، ويودع الحياة والآمال والقلب حتى بلل ثيابه بالدموع، وفيما هو في ذلك سمع وقع أقدام خارج الحجرة، فذعر وحاول إخفاء الصورة وكظم ما به، والتفت إلى الباب فإذا بصديقه حسن قادم إليه وعلى وجهه أمارات السرور، فاستبشر به وبادر إليه صارخا: ما وراءك يا حسن؟ قال: أبشر بقرب الفرج يا عزيزي. وأنت ما بالك في هذه الحال من الكدر؟
فأخذ شفيق يلفق له أسبابا إخفاء لحبه فدوى، فقال: إني مفارق في القاهرة أهلي وصحبي، وأنا أعلم أنهم يئسوا من حياتي، وأعلم أيضا أن ذلك اليأس قد يقودهم إلى ما لا تحمد عقباه، ثم تجددت أحزانه وخنقته العبرات، فأخذ يبكي وينتحب، فقال له حسن: خفف عنك يا عزيزي؛ فإن الفرج قد قرب، بإذن الله.
الفصل الثالث والخمسون
غوردون والمتمهدي
فقال شفيق: وماذا عسى أن يكون ذلك الفرج ونحن بعيدون عن نظر الحكومة، ودون الوصول إلينا خرط القتاد؟
قال حسن: تمهل يا أخي، ليس على الله أمر عسير، فها إن الحكومة الإنكليزية قد قررت إرسال غوردون باشا إلى هذه الديار لإخماد الثورة وتلافي الأحوال، وأنا واثق أنه يفوز، بإذن الله.
فقال شفيق: ومن قال لك ذلك؟ وكيف وصلتك هذه الأخبار؟
فتبسم حسن قائلا: أتظن المهدي غافلا عن استطلاع أحوال عدوه، فإن له في نفس القطر المصري، بل في القاهرة جواسيس وأرصادا من أعيان القوم؛ يبعثون إليه بالكتب والأخبار عن كل أحوال البلاد؛ ففي مساء أمس وصلنا رسول بكتاب من أحد أعيان الصعيد ينبئ بعزم الحكومة الإنكليزية على إرسال غوردون باشا بلا جيش لتدبير هذه المسألة.
فقال شفيق: كيف يمكن تلافي الأحوال وقد آمن بالمهدي أهل السودان كافة، وهو لا يقبل أمرا إلا إذا منح مطالبه؟! ونيل تلك المطالب يقضي بزوال السلطة المصرية، فإن الرجل طامع بكرسي مصر، بل بكرسي الآستانة، وإن شئت فقل إنه لا يقنع إلا بفتح العالم، ولا سيما بعد أن ساعدته التقادير في عدة وقائع. ولا يخفى عليك أن ما حل بجيش هيكس المنكود الحظ لم يكن إلا تنشيطا لمشروع هذا المتمهدي؛ لأنه صرح في منشوراته إلى أتباعه مرارا أن من علامات المهدوية عدا الخال الذي على خده أن النصر يرافقه حيثما توجه، وأن علما أبيض يتقدمه حيثما سار لجهاد، وهو الضامن له الفوز. وقد رأيت أن جميع حروبه مع الجنود المصرية جاءت بنتائج أيدت دعواه، فإذا راجعت تاريخ ظهوره منذ كان فقيها يعلم الناس الصلاة والعبادة في جزيرة أبا كسائر الفقهاء، حتى بلغ نفوذه هذا المبلغ، وانتشرت سطوته في سائر أقطار السودان، رأيت أن التقادير كانت تساعده وتوفق مساعيه تأييدا لدعوته، فإذا كانت الحكومة لم تقدر على تلافي هذه المسألة عند أول دعوته في جزيرة أبا، وهو وحيد ليس حوله إلا بعض طلبة العلم القليلين، فكيف تستطيع ذلك الآن؟ وهل تظن أن الذي رفض المجيء من أبا إلى الخرطوم، وهي أول مرة دعي بها وحوله نفر قليل ليس فيهم محارب، يقبل الآن بوفاق ما، بعد أن ثبتت دعواه لدى أهل السودان أجمع.
فقال حسن: لا أنكر عليك يا أخي أن استفحال أمر هذا الرجل إنما كان لاستخفاف الحكومة المصرية به من أول الأمر، فلما ظهر بدعوته في جزيرة أبا بعثت إليه حكمدارية الخرطوم نفرا من العلماء يأتون به إلى الخرطوم، فأصابهم ما أصابهم من الإهانة، فعادوا خاسرين، ولم يكن ذلك ليفهم الحكومة ما يخشى من عواقب هذه الجرأة، فبعثت إليه نفرا قليلا من الجند، فقتل معظمهم وعادوا خاسرين، وكانت الحكومة بذلك مستخفة به، وأما هو فقام لدى عموم أهل السودان بدعوة الدين، متظاهرا بأن قصده الوحيد إنما هو تشييد الديانة الإسلامية؛ لأنها - على زعمه - قد أهملت بعد وفاة الصحابة، وكان يمثل لهم ما حاق بهم من الاستبداد، وينسب ذلك إلى إهمالهم العبادة والصلوات، فرأوا في ذلك إخلاصا وتقوى، فتاقت نفوسهم إليه، ثم لما رأوا ما كان من فوزه على أوامر الحكومة ازدادوا ثقة به وبدعوته، حتى آل الأمر إلى ما ترى من الاستفحال. وهذا أمر لا أنكره عليك، ولكن لا يخفى عليك أن غوردون باشا لا يقل اعتبارا في عيون أهل السودان عن المتمهدي؛ لأنه تولى حكمدارية السودان مرة، وأظهر من العدل والحنو والرأفة واللطف والدعة ما حبب الناس إليه حبا يقرب من العبادة، فهو الذي حررهم من الاسترقاق، فمنع بيع الرقيق، وبين لهم المساواة بين بني الإنسان، فأنا أثق أنه إذا جاء الآن فلا يعجز عن تلافي مسألة المتمهدي بوجه من الوجوه.
فأنغض شفيق رأسه وقال: آه يا أخي! إنك ذكرتني في حديثك هذا بمسألة عرابي وحزبه، فإن قيام هؤلاء الأجناد كان على طريقة تشبه قيام المتمهدي تقريبا؛ لأن منح الحرية لجماعة قبل أوانها تضر بهم ضررا لا يأتي به الاسترقاق. واعلم أن غوردون باشا قد أوجب بتحرير هؤلاء السودانيين استعباده لهم، واستفحال أمرهم، كما ترى، ولا أظنه إذا جاءهم الآن يؤثر فيهم شيئا، بعد أن بايعوا محمد أحمد مبايعة مقرونة بالقسم العظيم على الطاعة والجهاد، ورأوا من صدق أنبائه بالحروب ما أيد الدعوة، ولا سيما وأنه قد استحوذ على عدة من القواد الأشداء؛ مثل: ولد النجومي، وأبي عنجر، وأبي جرجة، وخلفائه: ولد الحلو، وعبد الله التعائشي، ومحمد الشريف، وقائده عثمان دقنا، الذي أتى المعجزات بحروبه في السودان الشرقي، وغير هؤلاء من القواد العظام، فإذا كنت آملا أن تعود إلى وطنك بمساعي غوردون باشا، فلا أظنك تنال مراما، على أني لأعجب غاية العجب من إرسال هذا الرجل وحده في هذه المهمة التي قصرت دون حلها الجيوش الجائشة. أتعجز الحكومة المصرية عن قبر هذا الرجل بالسيف على يد جند منظم مخلص لحكومته، لا كجيش هيكس باشا الذي كان معظمه من الجيوش العرابية؟
قال حسن: لا أظنها تعجز عن ذلك، ولكنها لا تستطيع أن تفعل غير ما تشير به دولة إنكلترا، فإنها هي التي أشارت عليها بإخلاء السودان وإرجاع الحامية من الخرطوم وغيرها، ولما لم توافقها الوزارة المصرية أصرت على وجوب الإخلاء، فاستعفت الوزارة الشريفية، وانعقدت الوزارة النوبارية، وهي التي صادقت على إخلاء السودان، فأنفذت إنكلترا غوردون باشا لكي يرجع الحاميات ويعيد السودان إلى حكامه الأصليين الذين كانوا قبلما فتحه محمد علي باشا.
فقال شفيق: هب كل ذلك صحيحا، فما الذي يترتب عليه من النفع لنا إذا كان غوردون آتيا لاسترجاع الحاميات، فليس هنا حاميات لاسترجاعنا معها.
فقال: حسن، اتكل على الله، واليوم خمر وغدا أمر.
قال شفيق: أنا لم أتكل على سواه في كل أعمالي، وهو لا يترك عثرة في طريق المتكل عليه.
الفصل الرابع والخمسون
المناجاة
وبعد هذا الحديث عاد حسن إلى بيته، وعاد شفيق إلى هواجسه وبلباله وهو غير آمل لقاء حبيبته، فأخرج الصورة وجعل يتأمل فيها ويخاطبها وعيناه تذرفان الدموع قائلا: هل أنت راجية بقائي يا منية فؤادي؟ أتعلمين أني لا أزال في قيد الحياة أم تظنين أني قتلت فيمن قتل؟ لا أظن إلا أنك قد يئست من لقائي، فبالله من لي بمن يوصل إليك أني لا أزال حيا خوفا من أن تلقي بنفسك إلى مهاوي الأحزان التي تضر بهذا الجسم السماوي اللطيف. ثم سكت برهة لا يتحرك وقال: ومن ينبئني أنك في قيد الحياة، وأنك لا تزالين على عهدي؟ أجل، إني واثق بصدق عهودك، وكفى دليلا ما فعلت بعزيز الذي نكث بعهود الصداقة، وأراد أخذك مني، ولكن يا ترى ما الفرق بين تلك المرة وهذه؟ ألعل اليأس من حياتي يغير شيئا من محبتك لي؟ أما إذا كنت سأقضي نحبي في هذه الديار، فأود أن تسليني وتتعلقي بمن يستطيع القيام بخدمتك، حتى إذا علمت ذلك قبل الممات أتوسد الثرى ولا أخشى عليك بأسا ولا دركا.
وأما أنتما أيها الوالدان اللذان ربياني منذ كنت طفلا حتى دببت وشببت وأنتما لا تعرفان موضعا لآمالكما إلا في. أهذه غاية آمالكما؟ لا أشك أنكما استعظمتما المصاب في، فمن لي بمن يخبركما أني لا أزال حيا أرجو العود إليكما؟ لعلي أستطيع القيام بمكافأتكما على المشاق التي كابدتماها وتكابدانها من أجلي. آه يا والدتي الحنون! كفى تسكبين الدموع علي. إني لا أزال حيا، وإذا سكبت الدموع دما لم يلمك أحد؛ لأنك تبكين ولدك وفلذة كبدك الذي قضيت أفضل سني عمرك في تربيته وتهذيبه، وآمالك محدقة به، إذا غاب عنك لحظة اضطرب قلبك خوفا عليه. أين ليلة فتح الخليج من هذا السفر الطويل؟ بالله يا أماه، كفكفي الدمع؛ إني لا أزال حيا، ولكن آه من يضمن لي الحياة حتى أراكما! أما إذا حبطت آمالكما، وأراد الله ألا أعود إليكما، فالبسا الحداد، وحلا الشعور، واقرعا الصدور، واندباني ما بقي لكما بقية من الحياة.
أما أنا فلولاكما، ولولا تلك التي وهبت لها قلبي ما خشيت الموت؛ لأني إنما أود الحياة من أجلكم، ولا أخاف الموت إلا لأنه يورث لكم الشقاء والبلاء، وأما الميت فإنه يدخل الراحة الأبدية.
ثم انتبه بغتة والتفت إلى ما حوله قائلا: مالك يا شفيق ولهذه الهواجس؟! إنك في بلاد الحرب والقتال، ولا بد لك من الصبر والجلد والحزم شأن الرجال، فدع عنك هذه العواطف، عسى الله أن يمن عليك بالفرج وهو على كل شيء قدير.
وألقى بنفسه على العنقريب يريد التوسد؛ تسكينا لما ألم به من التعب بسبب تلك الهواجس مخفيا الصورة في مكانها.
الفصل الخامس والخمسون
رسل غوردون إلى المتمهدي
وما لبث برهة حتى سمع صوت النقارة تضرب ضرب الاستعراض، فخرج بلباس الدراويش إلى ساحة خارج البلد؛ حيث تستعرض الدراويش، وهو يفكر فيما عسى أن يكون سبب ذلك الاستعراض، فالتقى بحسن فسأله عن سبب ذلك، فعض على شفته السفلى كأنه يقول له: تمهل سأخبرك بعد الآن. فخفق قلبه وخاف أن يكون في الأمر ما يخشى منه، ولم يصدق ساعة انقضى الاستعراض وعادت الجيوش إلى أماكنها، وكذلك الأمراء، وأما حسن فسار بجانب شفيق حتى إذا تنحيا عن الجمع قال حسن: ألم تشاهد الرجل الذي جاءنا اليوم بلباس غير لباس الدراويش؟ قال: لقد رأيته محاطا بالخفراء فظننته أسيرا جيء به لبعض الاستعلامات، قال حسن: إنه ليس أسيرا، وإنما هو رسول من غوردون باشا من الخرطوم.
فقال شفيق متلهفا: وهل جاء غوردون؟ وماذا يريد بهذه الرسالة؟
قال حسن: إنه بعث يقول للمتمهدي إنه جاء لإنقاذ المسلمين وفتح طريق الحج إلى البيت الحرام، مظهرا رغبته في توطيد دعائم السلم، والوصول إلى المصالحة مع المتمهدي، طالبا إليه أن يطلق الذين في حوزته من النصارى والمسلمين من رعايا الحكومة. وقد أعطاه مقابل ذلك أن يكون مديرا على كردوفان.
فقال شفيق: وهل تظن المتمهدي يجيبه إلى طلبه؟
قال: يا حبذا! فإننا نسير في جملة المطلقي السراح، ولكني لا أظنه يقبل بعد أن اتسع نطاق سطوته ونفوذه؛ ولذلك رأيته قد أمر بالاستعراض ليبين للرسول قوته إيهاما له.
فقال شفيق: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وما تكون العاقبة في رأيك؟
قال: أظنها، بل أرجح أنها وخيمة على المصريين؛ إذ ليس أقل سياسة وتدبيرا من إرسال هذا الرجل وحده من أقاصي المغرب إلى أواسط أفريقية ليخمد ثورة المتمهدي، التي جعلت السودان شعلة ثورة بلغ لهيبها أقاصي أفريقيا، حتى مس شعاعها أقطار آسيا، فلا أرى إلا أن المتمهدي يرفض ذلك الطلب؛ لأنه قد أيقن بالفوز، واعتاد رجاله النصر والاستخفاف بالجنود المصرية، بل بالحكومة المصرية؛ لكثرة ما أصابوا من الفوز والظفر في وقائعهم معهم كما علمت. وزد على ذلك أن السودانيين يكرهون الجنس التركي، ويلقبون كل من لبس الطربوش تركيا، وكانوا إذا رأوه ترتعد فرائصهم؛ لكثرة ما قاسوه من سلطتهم؛ ولذلك تراهم الآن ناقمين عليهم لا يثنيهم عنهم شيء، وإذا تأملت فيما كتبه غوردون إلى المتمهدي، ترى أنه مما يزيد طمعه بالنصر واستخفافه بعدوه، فإنه بعد أن أساء إلى الحكومة المصرية بقتل حامياتها، وسلب حقوقها، بعثت على لسان غوردون توليه كردوفان بدلا من أن تقتص منه، ولكن ذلك حكم القضاء؛ فإنه الله - سبحانه وتعالى - قد سمح باستفحال أمر
فقال شفيق: إنا لله وإنا إليه راجعون. لنصبر إلى الغد لعلنا نصيب خيرا، بإذن الله، والله مع الصابرين.
وافترقا وعاد كل إلى شأنه. أما شفيق فما انفك يفكر في أمر كتاب غوردون وما يكون من جواب المتمهدي، وبات تلك الليلة يطلب إلى الله أن يجيب المتمهدي طلب غوردون . ولما كان يتصور ذلك كان يخفق قلبه فرحا وتطلعا إلى رؤية فدوى أو مراسلتها، ثم لاح له وهو في تلك الهواجس أنه ربما يستطيع إرسال كتاب إلى فدوى أو والديه مع رسول غوردون إذا لم يسمح المتمهدي بإطلاق أسراه.
الفصل السادس والخمسون
إرسال الكتاب
فلما كان الصباح التالي بكر إلى الصلاة والمسير إلى حسن، فلما رآه ابتدره بالسؤال عما انتهت إليه إرادة المتمهدي في خطاب غوردون.
فقال حسن: لقد قلت لك إنه لا يقبل، وهكذا جرى، بل قد جرى أكثر مما قلت، فإن المتمهدي قال إنه لم يقم بجهاده رغبة في الدنيا؛ ولذلك لا يريد التسلط على كردوفان. ويؤخذ من مجمل كتابه أنه يطلب إلى غوردون أن يعتقد بمهدويته، وأخيرا قال له: إن النصر مقدور له، وأن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال له: إن كل من يقوم عليه يسقط لا محالة، وأصحب الكتاب بحلة الدراويش، حتى إذا اقتبل غوردون الدعوة يلبس خلعتها.
فقال شفيق: ومتى يسافر الرسول؟ قال: يسافر في صباح الغد. وما غرضك منه؟ قال: لا غرض لي، وإنما سألتك ذلك من باب العلم بالشيء.
فقال حسن: اسمح لي أن أسألك ثانية عن غرضك بالرسول، وأظنك قد اعتقدت صدق نيتي، فإذا أخبرتني بوطرك ربما أستطيع غوثك.
قال شفيق: آه يا أخي! وتساقطت عبراته على الرغم منه، فسكت، فابتدره حسن بالكلام مخففا عنه وقال: لا أصابك الله بسوء يا عزيزي. ما الذي يبكيك؟ أخبرني، قال: يبكيني تذكري والدي اللذين ربياني بدموعهما، وتركا الدنيا من أجلي، فإنهما لا شك يحسبانني في عالم الأموات، وقد لبسا علي الحداد، وقطعا الشعور، وقرعا الصدور. ولم يعد يتمالك عن البكاء ثم قال: ولا تظن في جبنا. إني والله صبرت صبر الرجال، واحتملت فوق ما يحملون، وأما القلب فلا سلطان لي عليه بعد ذلك.
فقال حسن: إننا جميعا في مثل هذا المصاب يا أخي، فلا تذكرني بمن تركتهم ينتحبون علي. وهذا قضاء الله يفعل بخلقه ما يشاء، فلك أسوة بغيرك، فإن في هذه البلدة كثيرين ممن أصابهم مثلما أصابك، وفيهم من ترك عائلته وأولاده يتضورون جوعا، ويئنون على فراقه ويبكونه؛ ظنا منهم أنه فقد وليس من يعولهم.
فتنهد شفيق وقال: أواه يا حسن! إني لفي أحوال تخالف أحوال أولئك، وإني لمتيقن أن بقائي هنا مدة بغير أن يصلهم خبر مني يقضي عليهم لا محالة، فإني وحيدهم، وقد علقوا آمالهم بي، وكنت إذا غبت عن البيت ساعة يقلقون لغيابي، ويبعثون ورائي من يفتش عني، فما قولك بمجيئي إلى هذه الديار مع حملة بادت عن آخرها، ولم يصلهم مني علم ولا خبر من يوم فارقت الخرطوم. ثم أراد أن يبين له اشتغال باله وقلقه على فدوى، فلم يطاوعه ضميره؛ ضنا باسمها، وحفظا لعهدها، وصونا لسر الهوى، فسكت.
فقال حسن: ألعلك تريد أن تبعث مع هذا الرسول رسالة إلى والديك؟ قال: يا حبذا ذلك! فقال: إنه أمر عسير جدا؛ لأن الرسول محجور عليه من يوم مجيئه، ولا يباح لأحد بمخاطبته في شيء، ولا أدري كيف يمكننا إرسال هذه الرسالة إليه، ثم بهت مدة وقال: اكتب كتابك؛ لقد وجدت لك وسيلة لإرساله.
قال شفيق: وكيف ذلك؟ قال: إن غوردون يطلب إلى المهدي بكتابه أن يرسل إليه مع ناقل رسالته بعضا من رسله ليرسل جوابه معهم إذا اقتضى الأمر إجابته، وهؤلاء قد تعينوا للذهاب، وهم من رجال الأمير عبد الحليم، ولي بهم معرفة تامة، فاصبر قليلا حتى أعود فأبرم اتفاقا مع أحدهم، ثم أجيء إليك فآخذ كتابك وأسلمه إليه، حتى يسلمه إلى رسول غوردون حال خروجهم من الأبيض، فقال شفيق: هل أنت واثق بنجاح مسعاك؟ قال: نعم، فقال شفيق: فأنا إذن سأهيئ هذه الرسالة ريثما تعود، قال: حسنا، ولكن لا يبرح من بالك أنه يجب عليك أن تختصر الكتاب ما أمكن، وتطويه بحيث يستطيع الرسول حمله في أثناء ثوبه، أو في طبقات نعاله إخفاء له، فاحذر أن يكون أكبر من قطعة ورق بقدر نصف الكف. فخرج حسن وجلس شفيق يكتب إلى والده يقول:
سيدي الوالدين، أكتب إليكما من الأبيض؛ حيث قدر لي أن أكون في عداد الدراويش في أمن وسلام لولا البعد عنكم، ولا أدري متى يتاح لي الرجوع، فطيبوا قلبا حتى يأتي الله بالفرج، واكتبوا لي عما أنتم فيه، وسلموا الكتاب إلى ناقل هذا؛ ليأتي به إلي. والسلام.
من ولدكما
شفيق
ثم فكر في أمر فدوى، وكيف يكتب إليها وهو لا يعلم ما إذا كان والده قد عرف بأمرها، فخاف إذا كان والده لم يعلم بعد، أن يئول ذلك إلى ما لا تحمد عقباه، ففكر هنيهة، فلاح له أن والده وإن يكن غير راض عن فدوى لا يهتم بأمرها؛ لاشتغاله بالفرح عند علمه ببقاء ولده حيا، بعد أن يئس من حياته، فكتب تحت ذلك الكتاب حاشية يقول فيها: «يا والدتي، قولي لفدوى إذا كانت ترى في حفظ العهد سعادة كما أرى أنا، فلتبق عليه؛ لأني باق ما بقي لي من الحياة بقية. أما إذا كانت ترى فيه شقاء، فإني أبيح لها حل ذلك العقد؛ خوفا على ذلك المزاج اللطيف من معاناة الشقاء. أقول ذلك وجميع فرائصي ترتعد؛ لأني أغار عليها حتى من خيالها. ضاقت الورقة فاعذريني.
ولم ينته من هذا الكتاب إلا وقد بلل ثيابه بالدموع، فطواه حتى صار بقطع نصف الريال، وعنونه، ولما جاء حسن دفعه إليه، وأوصاه أن يأخذ الرسول هذا الكتاب إلى القاهرة، وسلم إليه عشرين ريالا نفقة الطريق، على أن ينقده أجرته كاملة حالما يأتي بالجواب، وأن يسأل عن أبيه في قنصلاتو إنكلترا - لأن شفيقا كان يحسب أن والديه عادا إلى مصر - وإذا لم يجد والده، فليأخذ الكتاب إلى بيت فلان باشا (والد فدوى).
فأخذ حسن الكتاب وسلمه إلى الرسول، وأوصاه أن يجعل طريقه إذا استطاع على درب الأربعين الذي يمر بصحراء ليبيا على واحتي سليما والخارجة إلى أسيوط، ثم عاد وأخبر شفيقا بذلك، فسر وجلس ينتظر ورود الجواب، على أنه لم يكن ينتظر الحصول عليه قبل مرور أربعة أشهر من يوم ذهابه. فلنتركه ينتظر ورود الجواب، ولنرجع إلى والدي شفيق وفدوى.
الفصل السابع والخمسون
والدا شفيق
أما والدا شفيق فإنهما ما زالا يزيدان حزنا وشقاء حتى كرها الإقامة في القطر المصري، وكانت سعدى قد أغفلت أمر فدوى ولم تطلع زوجها على شيء من أمرها، ولكنها كانت تسترق الفرص لمشاهدتها، فإذا اجتمعت بها في خلوة تتشاكيان الأحزان، وتبكيان وتندبان شفيقا.
أما إبراهيم، فكان يزداد كرها للسكن في القطر المصري؛ ففي ليلة من ليالي سنة 1884 كانت سعدى جالسة في غرفتها، فدخل زوجها وبيده صحيفة لسان الحال - كان يطالع فيها في رفته وعلى وجهه بعض الانبساط، مع ما كان فيه من شدة الحزن - فاستغربت سعدى ذلك منه، فنهضت لمقابلته وهي تنتظر ما يقول، فابتدرها هو بالحديث قائلا: لقد قرب الوقت الذي يباح لي فيه أن أطلعك على ذلك السر؛ إذ قد مات الأمير عبد القادر الجزائري، ولم يعد علي رقيب، فتعجبت لقوله؛ إذ لم تفهم مراده بالأمير عبد القادر الجزائري، واشتاقت إلى سماع ذلك بكليتها، فقال لها: هاتي لي ذلك الكتاب، فمضت لتأتيه به فلم تجده، فافتقدته في كل مكان ظنت أنها وضعته فيه، فلم تقف له على أثر، فاشتغل بالها، وأدرك زوجها منها ذلك فسألها، فقالت: إنها أضاعت الكتاب. فرفس الأرض برجليه قائلا: أضعته وفيه كل أسراري؟! فقالت: لا أدري ما الذي أضاعه، ولعلي وضعته في مكان سوف أتذكره، وأخذت تعيد البحث عبثا، فاشتد غيظه حتى خرج من الغرفة وسار توا إلى حجرته قلقا، ولبثت هي حائرة متكدرة لكدر زوجها، ولم تعد تجسر أن تفاتحه بشيء.
وفي الصباح التالي، نهض إبراهيم واستدعى زوجته، ولما حضرت قال: اعلمي يا سعدى أن المقام في هذه الديار لم يعد يحلو لي، بل لم تعد السكنى تروق لي في المدن بعد ضياع ولدنا، فهيا بنا نبيع أمتعتنا، ونهاجر المدن، ونعتزل عن الناس، فنتخذ لنا مسكنا في قرية من قرى لبنان نقضي فيها بقية هذه الحياة الشقية بالتنسك، فوافقته على رأيه؛ لأنها كانت أشد كرها منه لمعاشرة الناس، فأعلن إبراهيم بيع ما كان في بيته من الفرش، وجمع ما لديه من المال وهاجر القطر المصري طالبا ربى لبنان، وأحب إطلاق سراح خادمه أحمد، فأبى إلا أن يرافقهما في السراء والضراء، فسار معهما.
الفصل الثامن والخمسون
المهاجرة إلى بر الشام
أما ما كان من أمر فدوى، فإنها ما زالت تزداد سقاما يوما بعد يوم حتى خاف والدها عليها؛ إذ كان كثير التعلق بها؛ لأنها وحيدته، ولما آنس بها من الخلال الحميدة، ولكنه كان من سريعي التقلب الذين لا يجيبون عن خطاب إلا بالإيجاب، حاسبين ذلك من لطف المعاشرة، ثم تمكن فيهم حتى أصبحوا مجردين من الإرادة.
فلما رأى الباشا ما ألم بابنته من التحول بسبب حبها لشفيق، سهل عليه كل أمر يئول إلى سلواها؛ حاسبا ذلك الحب من مجلبات التعاسة له ولها، وتردد ذلك الفكر في باله، فنشأ في اعتقاده أن ساعة معرفة ابنته لذلك الشاب كانت ساعة شؤم، فجعل يتخذ كل وسيلة تبغض فدوى إلى خطيبها، وأصبح ميالا إلى من يساعده في ذلك، فإذا اجتمع بعزيز كان يعيره أذنا سامعة؛ يعي مشوراته فيها، وما مشوراته إلا إكراه فدوى على التسلي عن شفيق بغيره. ولما كان يرى منها إعراضا عن هذا الرأي، كان يزداد كرها لشفيق، وهي لا تزداد إلا حبا به وإعراضا عن سواه.
فلما وصف لها الأطباء السفر إلى بر الشام لترويح النفس في ربى لبنان الجيدة الهواء، أسرع والدها في إرسالها إلى هناك، وظن أن بعدها عن القاهرة ربما يساعدها على السلوى، مع أن ذلك الفصل لم يكن يحسن قضاؤه في لبنان ولا في سورية؛ لأنه فصل شتاء سنة 1883، لكنه أراد سرعة الابتعاد بأي وسيلة كانت، فأخذ يهتم بأمر السفر، وهي لم تكن تمانع به، فأعد ما لزم واصطحب بخيتا واثنين آخرين من الخدم، تاركا امرأته في البيت مع من بقي من الحشم، وركب القطار يريد الإسماعيلية على ترعة السويس؛ ليسير في الترعة إلى بورت سعيد، ومن هناك في بحر الروم إلى بيروت.
فلما بلغ عزيزا ذلك جاء لوداعهم على المحطة وقد أضمر أن يقتفي أثرهم بعد حين إلى لبنان؛ لعل التقادير تساعده على نيل مرامه.
فسار بهم القطار من الصباح إلى الظهر، فوصلوا محطة الإسماعيلية وركبوا الترعة إلى بورت سعيد، وبعد مسير يومين في بحر الروم نزلوا ميناء بيروت، فأعجبهم موقعها عند سفح لبنان الشامخ الآكام، الذي لم يمنع ارتفاعه الهائل من اكتسائه بالأشجار النضرة على جبال تناطح السحاب. وكثيرا ما يكون السحاب مكللا لها. واتفق أن وصولهم كان في يوم رق أديمه، واعتل نسيمه، فبانت لهم قمم ذلك الجبل القديم العهد مكسوة بالثلج الأبيض الناصع، وكانت كل رباه الخضراء قد غسلها المطر الذي لازمها أسبوعا تاما، فأصبح له أبهج ما يكون من المناظر.
الفصل التاسع والخمسون
فندق بسول
فلما رست بهم الباخرة صباحا باكرا عند المينا، أمر الباشا الخدم أن يهتموا بإنزال الأمتعة، وأخذها إلى حافة الباخرة، وأمسك فدوى بيدها وأشار إلى تلك المناظر الطبيعية يريد إلهاءها بها، فقال: تأملي يا عزيزتي بهذه الآكام الممتدة مدى النظر على شواطئ هذا البحر، وسبحي الخالق العظيم الذي فجر الماء من أعلى قممها، فاكتست خضرة بهيجة بين أشجار وأعشاب تتخللها قرى صغيرة، كل قرية على أكمة أو في سفح أكمة؛ بيوتها بيضاء متفرقة بين الزرع كأنها أحجار كريمة على ديباجة خضراء، بل انظري إلى هذه المدينة الجميلة القائمة على مرتفعات لطيفة عند سفح هذا الجبل، وأمعني النظر في أبنيتها الشاهقة المختلفة الألوان، وفي سطوحها القرميدية مع ما يحدق بها من الحدائق؛ مما يجعلها بهجة للناظرين.
وكان الباشا يقول ذلك وينظر إلى وجه ابنته ليرى ما يكون منها، فإذا هي ساكتة لا تبدي جوابا، فظنها تتأمل في جمال ذلك المنظر، ثم جاء الخدم يخبرونه أنهم قد أنزلوا كل الأمتعة إلى القوارب، فنزل إلى قارب نظيف خاص لركوبهم ممسكا بيد فدوى. أما الخدم فنزلوا في قوارب الأمتعة، فمخرت بهم القوارب. أما قاربهم فوصل الشاطئ قبل الجميع، فنزل الباشا ووقف في انتظار وصول الأمتعة، ففرغ صبره ولم تصل، فأخذ ينظر إليهم عن بعد، وإذا بالقوارب واقفة في البحر لا تتحرك، فاشتغل باله، ثم مشت حتى وصلت إليه، فنزل الخدم وأنزلوا الأمتعة، فسألهم عن سبب تأخرهم، فقالوا: إن البحارة اتفقوا معهم على أجرة، فلما وصلوا منتصف الطريق أخلفوا وطلبوا زيادة فيها، ولم يكونوا يريدون المسير حتى يقبضوا ما يريدون، ولم يسيروا حتى نالوا ما أرادوا، فقال الباشا: لا بأس أعطوهم ما شاءوا وهيا بالأمتعة إلى فندق بسول على الشاطئ، فإننا نسبقكم إلى هناك، قالوا: حسنا، فصعد وابنته ملثمة على جاري العادة حتى التقوا بعربة فركبوا حتى نزلوا الفندق، فإذا به حسن الموقع لا تنفك الأمواج تضرب أساساته ليلا ونهارا، فهيأ لهم صاحب الفندق حجرة لمنامهم وأخرى للخدم، فلما دخلت فدوى الغرفة استقبلت المرآة في صدرها، فارتاعت لما رأت نحولها، فألقت بنفسها على السرير وقد غلب عليها البكاء، فأمسكت نفسها ما استطاعت.
وبعد الغسل وتغيير الثياب وشرب المنعشات، طلبت فدوى التوسد للاستراحة من وعثاء السفر، فنامت ونام والدها إلى الظهر، ثم استفاقوا يطلبون الطعام إلى غرفتهم، وبعد تناوله خرج الباشا ملتفا بقباء شتوي لمشاهدة غرف الفندق، فقابله أحد خدمه وذهب به إلى غرفة الاستقبال المطلة على البحر، فأشعل سيكارته وجلس بجانب النافذة يسرح نظره في ذلك البحر - وكان هادئا - وصوت أمواجه يلهي الفكر عن الهواجس، ويخفف الأكدار، فأخذ يتأمل في سفره وما فيه، وما وصلت إليه ابنته من الضعف والهزال.
الفصل الستون
ضياع رسم شفيق
أما فدوى فلبثت في الحجرة ترتب الثياب، وفيما هي تفتش في صندوقها عثرت على صورة شفيق، فخفق قلبها، فتناولتها وأخذت تتأمل فيها وتذرف الدموع مخاطبة إياها قائلة: أواه يا حبيبي! أواه يا منتهى أملي! أهذا هو نصيبي منك؟ أين أنت الآن؟ ألعلك لا تزال في قيد الحياة؟ آه أواه من نائبات الزمان! أما كان الأجدر بي أن أموت فداء عنك؟ أأنت حي بعد؟ ثم سكتت صامتة تتأمل في تلك الصورة، وبما في وجه شفيق من الجمال وتبكي حتى بللت ثيابها وخارت قواها، فألقت بنفسها على السرير والصورة في يدها وهي لا تعلم، فاستغرقت في سنة النوم، وفيما هي راقدة دخل والدها، فرآها على تلك الحال، فعلم أنها نامت باكية، فثارت فيه ثائرة الغيظ؛ إذ لم ير فائدة من ذلك، ثم لاحت منه التفاتة فإذا صورة شفيق في يدها، فلاح له أن بقاء تلك الصورة معها مما يجدد أحزانها، فاستخرجها من يدها وهي لا تدري، وأخفاها في مكان وغادر الغرفة وعاد إلى القاعة.
فلما استيقظت افتقدت الرسم فلم تجده، فأخذت تفتش عنه، فلم تقف له على أثر، فجعلت تلطم وجهها، وتنوح وتبكي، فإذا بأبيها داخل، فسألها عن سبب بلبالها، فقالت له: إنها فقدت رسم شفيق، فتظاهر بمشاركتها في التفتيش عنه، فقال لها: وأين كان موضوعا؟ قالت: كان في يدي الآن، قال: لعلك خرجت به إلى مكان ونسيته خارجا، قالت: لم أخرج إلى مكان قط، قال: لعلك وقفت على هذه النافذة فسقط منك في البحر، قالت: لم أقف هناك. فأخذ يحاول إقناعها أنه سقط في البحر إلى أن قال: وقد يمكن أنك نهضت من السرير وأنت غائبة عن الصواب فلم تعلمي أنك وقفت عند النافذة، ومع ذلك فسأبحث عنه وأخبرك. فسكتت، ولكن لم يعد يهدأ لها بال، وفهمت من كلام والدها أنه يود ضياع ذلك الرسم، فصبرت حتى خرج وبعثت إلى بخيت وأطلعته على الأمر، فوعدها أن يفتش عنه ويأتي به ولو كان في لج البحار.
أما الباشا فخرج من حجرة ابنته يفكر فيما يشغلها عن هذه الأمور، فعاد إلى النافذة وإذا بصاحب الفندق داخل محييا، فرد الباشا التحية، فقال له الرجل: لقد شرفتنا يا سعادة الباشا، وحلت البركة، فهل تأمر بخدمة؟ قال: لا، تفضل اجلس. فجلس متأدبا، ولكنه شاهد أن نزيله في ارتباك فأحب استطلاع أمره، فاستخدم طرقا مختلفة إلى أن قال: ولعل حضرة الهانم لم تسر من نزولها في هذا الفندق؛ لأنها لا تستطيع التسلية لعدم وجود السيدات.
فقال الباشا: ذلك حقيقي، ولا سيما وأن عوائدنا لا تسمح لها بالظهور أمام الرجال كما يفعل الإفرنج ومن جرى مجراهم.
فخاف صاحب الفندق أن ذلك ربما أورث لها مللا، فقال له: ولكن ذلك يا سيدي أمر سهل، وإذا أذنت سعادتك أن تتشرف امرأتي بمعرفة ابنتكم لعلها تأنس بها، فتجد سلوى عن وحدتها.
فسر الباشا لذلك وقال: نعم نعم، لقد نطقت بالصواب؛ فافعل ولك الفضل، فإذا شرفت السيدة فإنني أرسل معها الخصي ليوصلها إلى ابنتي، ولا أشك أنها تأنس بها. فخرج صاحب الفندق، ولما التقى بامرأته أخبرها أن عنده سيدة مصرية تود الاستئناس بها، فلبست أحسن ما عندها من الثياب والحلي.
الفصل الحادي والستون
الدبوس
وسارت مع زوجها حتى دخل على الباشا، فاستقبلها الباشا مطرقا ولم يرفع إليها نظرا؛ جريا على عادة بلاده، وأمر ببخيت فحضر حالا، فقال له: اذهب يا بخيت بحضرة السيدة إلى سيدتك فدوى، وعرفها بها؛ لعلها تستأنس بمعاشرتها في وحدتها. فلبى بخيت طائعا وقال: حاضر يا سيدي. وسار بالمرأة حتى أتى باب غرفة سيدته، فأوقفها خارجا ودخل وحده ليستأذنها، فرآها متكئة مبهوتة لا تبدي حراكا، فخاف عليها من تلك الحالة، فأخذ يلاطفها ويستعطفها أن تترك الهواجس من بالها إلى أن قال: وقد جاءت امرأة صاحب الفندق لتسلم عليك وتسليك، وها هي خارج الحجرة، فهل أدعوها إليك؟ قالت: دعنى يا بخيت وشأني؛ فإني لا آنس ببشر، ولم يعد لي أنيس إلا الخلوة؛ لعل خياله يمر بمخيلتي؛ فذلك هو أنيسي. قالت ذلك وبكت، فقال: ما لنا وللبكاء يا سيدتي، فلا تجعلي هذا دأبك؛ إذ لا فائدة منه، واتركي الأقدار تجري في أعنتها؛ فربما تنالين بغيتك ولو بعد حين.
فقالت: دعني يا بخيت. إنك تحبني، ولكنك لم تفعل معي فعلا تستوجب لأجله محبتي، فإنك لم تقل أمامي إلا أقوالا تدل على شهامة وغيرة، ولكنها لم تأتني بفائدة تذكر ... وسكتت هنيهة ثم قالت: ولكن ما الذي في يدك؟ ألعلك قادر على مقاومة الأقدار؟
فقال بخيت: إنك، يا مولاتي، توقدين في قلبي نارا تحرق حشاشتي بهذا الكلام، ولا أقول لك شيئا الآن سوى أني مستعد أن أبذل حياتي في سبيل مرضاتك، وليس لي مجال لأقول أكثر من ذلك؛ لأن سيدة في انتظار إذنك خارجا ، فانهضي غير مأمورة، وأذني لها في الدخول، فإنها تسليك، فإذا لم تؤانسي منها تعزية، فلا تعودي على مجالستها مرة أخرى، وإنما يظهر لي أنها أنيسة لطيفة الذات؛ لأن أهل هذه المدينة يتخرجون في أساليب المحادثة وأنواع الإيناس؛ لكثرة نزول الغرباء بين ظهرانيهم.
فقالت: دعها تدخل. ونهضت ترتب ثوبها وتنظم غرفتها، فلما دخلت المرأة قابلتها بوجه بشوش، وأذنت لها بالجلوس، فبادأتها المرأة بالحديث قائلة: أهلا وسهلا بك يا حبيبتي. إنك لقد شرفتنا بقدومك.
فأجابتها فدوى بما عهد بأبناء مصر من اللطف والدعة وحلو الحديث حتى سحرتها.
فدارت بينهما المحادثة على شئون مختلفة، وتخلصتا بها من حالة الهواء إلى عوائد البلاد حتى وصلتا إلى الملابس والحلي - وكانت فدوى قد ألبست زندها سوارا من ذهب مرصعا بالياقوت والألماس - فقالت لها المرأة: لا شك أن هذا السوار من صنع أوروبا؛ إذ يظهر أنه في غاية الإتقان، فقالت فدوى: نعم، وهل تريدين مشاهدته؟ قالت ذلك وأخرجته من يدها وناولتها إياه قائلة: وهل يستطيع الصاغة عندكم أن يصطنعوا على مثاله.
قالت: إن الصاغة عندنا ماهرون كثيرا، وجميع مصاغنا إنما هو من صنعهم، فانظري إلى هذا السوار (وأشارت إلى سوار في يدها)، فإنه من صنع صاغتنا. فتأملته فإذا هو مصنوع من الذهب المعروف بكسر جفت، ومرصع ترصيعا جميلا.
ثم أعادت إليها سوارها قائلة: نعم، إن صاغتنا ماهرون، ولكن لا يتأتى لهم مباراة صاغة الإفرنج، فانظري إلى هذا الدبوس (ومدت يدها إلى شعرها واستخرجت دبوسا مرصعا بالماس وناولتها إياه)، فإنه من صنع أوروبا - على ما أظن - ولا يمكن صاغتنا أن يأتوا بمثله.
فتناولت فدوى الدبوس، ولما نظرته خفق قلبها ورجفت ركبتاها؛ لأنه يشبه الدبوس الذي أعطته عربون العهد لشفيق، ثم تأملته فإذا هو بعينه، فازداد خفقان قلبها، واصفر وجهها، وازداد ارتجافها حتى صارت تنتفض انتفاضا، وتلعثم لسانها عن الكلام، وبردت أطرافها، فأدركت المرأة ذلك، فتعجبت منه كثيرا ولم تفهم له معنى؛ لأنها لم تعلم له سببا.
أما فدوى فإنها حاولت إخفاء عواطفها فلم تستطع؛ لأن الدموع سبقتها، وأرادت أن تسألها عن كيفية وصول هذا الدبوس إليها فلم يمكنها، وخافت الفضيحة، فأسندت رأسها إلى وسادة المقعد متظاهرة باضطراب في صحتها، فوقع الدبوس من يدها، فتناولته المرأة وشكته في شعرها قائلة: لا أراك الله سوءا يا ابنتي. ما هذا الاضطراب الذي قد اعتراك؟ هل تأمرين باستدعاء الطبيب؟
قالت فدوى: لا حاجة إلى الطبيب الآن، ولا أعلم إذا كنت أحتاج إليه غير مرة. قالت ذلك وهي ترتجف، فنهضت المرأة تريد إطلاع زوجها على ذلك؛ لعله يخاطب والد الفتاة بشأنها فيأتيها بالطبيب، فاستأذنت وخرجت.
فدخل بخيت فرأى سيدته على تلك الحال، فسألها عن شأنها، فأخبرته عن أمر الدبوس وقالت: أريد منك أن تستطلع أمر هذا الدبوس، وكيف وصل إلى هذه المرأة، فقال: سمعا وطاعة. وخرج وهو ليس أقل منها انذهالا في أمر ذلك الدبوس.
أما المرأة فسارت توا إلى زوجها، وأحكت له الحكاية إلى أن قالت: يظهر أن هذه الفتاة مصابة بمرض من الأمراض العصبية، وقد علمت ذلك من شدة ضعفها وسرعة تأثرها، فهل لك أن تخبر والدها بذلك، وتشير عليه باستدعاء الطبيب؛ لأني أضن بهذه الفتاة لما شاهدت من لطفها وجمالها الذي يغشاه الضعف والنحول.
فاستصوب الرجل رأيها وقال: سأغتنم فرصة مناسبة وأذكر ذلك أمامه.
فلما كان وقت العشاء طلبوا الطعام إلى الغرفة بدعوى أن السيدة لا تجالس النزلاء الغرباء على المائدة العمومية، وتغير الجو تلك الليلة، وتساقطت الأمطار غزيرة، ففضل الباشا الرقاد باكرا استدفاء بالفراش.
أما فدوى فقضت كل ذلك الليل وهي في بلبال من أمر ذلك الدبوس.
الفصل الثاني والستون
الدكتور «ن»
وفي الصباح التالي، نهض والدها فرآها في حالة يرثى لها من الضعف والاصفرار، فقلق على صحتها وعزم أن يأتيها بالطبيب يستشيره بأمرها، فسار بعد الغداء إلى قاعة الاستراحة وبعث إلى صاحب الفندق، فلما حضر قال له إنه يريد استحضار أشهر طبيب في بيروت لمشاهدة ابنته.
فقال الرجل: إن في بيروت، يا سعادة الباشا، أطباء ماهرين.
فقال الباشا: أنا أعلم ذلك، وإنما سألتك عن أشهر طبيب فيهم.
فقال : إن لكل طبيب شهرة في فرع من فروع الطب.
قال: أريد أشهر طبيب في الأمراض العمومية الضعفية.
قال: إن في هذه المدينة طبيبا هو من أعرف الأطباء في هذه الأمراض، وإن يكن مشهورا على نوع خاص بأمراض العين، يقال له الدكتور «ن»، فإن هذا الرجل فضلا عن سعة اطلاعه في فن الطب وغيره من الفنون، قد خصه الله باللطف والإيناس، فإن كلم المريض طيب خاطره، وخفف أوجاعه بلطف حديثه قبل أن يصف له الدواء. ومما يزيده تمكنا من تشخيص الأمراض سعة اختباره، فقد أقام بين أظهرنا نحو خمسين عاما بين تطبيب وتدريس في فن الطب، فترى أهل سورية عموما يعتقدون في صدق تشخصيه اعتقادا غريبا، وهو قادر لحسن فراسته أن يعرف الداء بمجرد النظر إلى المريض.
فقال الباشا: إلي به حالا.
قال: ولكن، يا سيدي، لا يمكننا أن ندعوه إلا بعد الظهر؛ لأنه يطبب الفقراء في بعض المستشفيات مجانا.
قال الباشا: ولكنا ندعوه من المستشفى؛ إذ لا بد من أنه يفضل المريض الذي ينقده الدرهم.
فتبسم الرجل قائلا: لا يا سيدي، إنه بالضد من ذلك يفضل تطبيب الفقراء على الأغنياء، وهذه خلة قد اشتهر بها.
فقال الباشا: يا للعجب! إني لم أسمع بمثل هذه الشهامة قط.
قال: وأزيدك عنه أنه يطبب الفقراء ويساعدهم في الحصول على الدواء وسائر الحاجيات، وكم من عائلات تنال منه الصدقات شهريا مقادير معينة!
فقال الباشا: فإذا كان لا يمكننا أن ندعوه قبل الظهر، فابعث إليه بمن يستدعيه بعد الظهر، قال: سمعا وطاعة.
فلما كانت الساعة الثالثة وقفت عربة أمام باب الفندق، فنزل منها شيخ بلباس إفرنجي في نحو السبعين من العمر يمشي على عصا، لكن من غير تحدب ولا خمول، سريع الحركة، قصير القامة، خفيف الجسم، طويل اللحية، خفيفها، وعلى عينيه النظارات، فاستقبله صاحب الفندق وأخبر الباشا أن الطبيب قد حضر، فخرج الباشا لاستقباله، فسار به إلى غرفة الاستراحة، فآنس الباشا به فوق ما سمع عنه من اللطف والدعة، فأثنى عليه ثناء جميلا إلى أن قال: إني وددت لو أكون مريضا فأتمتع بتطبيبك. إن حديثك لأشهى من الترياق، فلم يجب الحكيم عن هذا المدح فرارا من مدح آخر.
فبعد أن تحادثا قليلا قال الباشا: قد دعوتك يا حضرة الحكيم لأستشيرك في أمر، وقد جرأتني أخلاقك الشريفة أن أطلعك على سر لم أطلع عليه أحدا في هذه المدينة.
فقال الحكيم: قل ما بدا لك.
فقص الباشا قصة ابنته مع شفيق كما هي تماما إلى أن قال: وقد وقعت في حيرة الآن؛ لأن الفتاة كلفة بذلك الشاب كلفا شديدا، ولا أنكر عليك أني أحبه أيضا؛ لأنه أنقذني من الموت، وآنست فيه شهامة غريبة، ولكني لا أرى فائدة من البقاء في ذلك بعد أن تحققنا من الحملة التي سار برفقتها قد هلكت بأجمعها، فلا بد أنه هلك في جملة من هلك.
فقال الحكيم: هل حاولتم أن تشغلوها بشأن من الشئون.
قال: نعم، ولكن لا فائدة.
فقال: إن أفضل طريقة - على ما أرى - أن تلتهي عنه؛ لأنها لا تزيد إلا سقاما ما دامت تفتكر به. أما إذا شغلها شاغل فقد تسلوه رويدا رويدا، ولقد أعجبني فيها المحافظة على الوداد، ولكن ليس في اليد حيلة.
فقال: وكيف نشغلها عنه؟
قال: أشغلوها بالأسفار من بلد إلى آخر، والسفر في جبل لبنان أفضل ما يكون، ولكن هذا الفصل فصل شتاء، فلا تستطيعون التجوال في تلك الأنحاء، فامكثوا هنا ريثما ينقضي هذا الفصل ويحلو المقام على ربى لبنان، فتتمتع الفتاة بهوائه النقي؛ فإنه من أحسن ما خلق الله من الجبال.
فقال الباشا: ولكن ما العمل بهواجسها، فإنها لا تنفك عن الافتكار بذلك الشاب لا ليلا ولا نهارا، وكلما زدت في تسليتها عنه زادت شغفا به.
فأجاب الحكيم وهو يمسح النظارات بمنديله الحريري: تلك عادة أولي الغرام، فإذا زدتم لوما زادوا هياما، فالأولى أن تغض الطرف عن ذلك، وإذا ذكرت حبيبها اذكره بالحسن معها، وإنما انقم على الدهر الذي يقضي على المحبين بالفراق، واشغلها بالأمل البعيد حتى يقضي الله بما يشاء.
فتأوه الباشا ثم قال: والله إنك أحسن من يعزي عن المصائب، فهل لك أن تتردد علينا حينا بعد حين؟
قال: سأفعل إن شاء الله، ولكن ربما كان الأفضل أن تذهب بها إلى زيارة منزلي بقرب المنارة؛ فإنه في مكان أشبه شيء بالجبال يشرف على البحر من جهة، وعلى الجبل من أخرى.
الفصل الثالث والستون
التفتيش عن الرسم والدبوس
وفيما هما يتحدثان كانت فدوى في غرفتها وحدها تفتش عن صورة شفيق، فلم تترك مكانا إلا فتشت فيه، فلم تقف للصورة على أثر، فلاح لها أن والدها قد خبأها في غير الحجرة، وحدثتها نفسها أنه خبأها في جيبه، فعزمت على التفتيش عنها عندما ينزع ثيابه للرقاد، فعادت إلى فراشها خائرة القوى تنتظر عود بخيت، والاطلاع على أمر الدبوس.
فلما كان المساء عاد بخيت والدبوس بيده، فلما رأته فدوى خفق قلبها، وأسرعت إليه وخطفته من يده، وجعلت تقبله وتتأمله وتبكي قائلة: أخبرني هل عرفت حكايته، قال: كلا، يا سيدتي، إن الرجل لم يقل الحقيقة، فإني ذهبت إليه زاعما بأنك تحبين مشاهدة الدبوس؛ لأنه أعجبك صنعه، وحاولت معرفة طريقة وصوله إليه فلم أستطع؛ فإنه قال إنه جاءه هدية من أحد السياح الذين ينزلون فندقه من بلاد الإنكليز.
فقالت: لم يقل الحق؛ لأني شاهدته مع شفيق قبل سفره إلى السودان، وكيف يصل إلى بلاد الإنكليز؟ فبالله ألا أعدت بالحب عقلي! فإني قد اشتممت منه رائحة حبيبي، ومنى فؤادي؛ فلعلنا نقف منه على خبر، وهل عرفت ماذا جرى برسم شفيق؟
قال: لا. فقصت عليه إلى أن قالت: ولا ريب عندي أن والدي قد أخفاه عني لعلي بذلك أسلو صاحبه، ولكن آه! كيف أسلوه وقد جرى حبه مجرى دمي في مفاصلي؟!
فقال بخيت: طيبي نفسا؛ فإني لا أنفك حتى أجد الرسم وأبحث عن أصل هذا الدبوس، وأقلب الأرض طولا وعرضا؛ حتى تعلمي أني خادم أمين لك؛ فقد كفاني ما عيرتني به من الإهمال.
قالت: إن فعلت ذلك أسر منك كثيرا، وليس لي في العالم من أثق به سواك، فلا تضع أملي بك. والآن خذ الدبوس وارجع به إلى صاحبه، وألح عليه بالسؤال، ومتى علمت شيئا جيدا أخبرني.
فخرج يفكر في وسيلة توصله إلى ذلك، ولما خرج من الحجرة لاقاه سيده فسأله عن فدوى، فقال: هي في خير. فدخل وأغلق الباب وراءه، ولما كلمها رآها أحسن حالا من ذي قبل، فأراد مسايرتها فقال: لقد أطلت عليك الغيبة اليوم.
قالت: نعم، إنك لقد أطلتها يا أبتاه، وأنت تعلم أني لم آت هذه البلاد لأسجن في هذه الحجرة.
قال: أعلم ذلك، وقد كنت في تدبير أمر للخروج إلى مكان للنزهة.
قالت: وإلى أين؟ قال: قد دعانا الدكتور «ن» الشهير للمسير إليه في الغد إلى منزله في طرف المدينة؛ حيث نقضي بضع ساعات في النزهة.
قالت: ومن أين عرفته حتى دعانا إلى ذلك؟
قال: إني بعثت إليه لأستشيره في أمرك، فطيب قلبي كثيرا عليك. وقد آنست به كثيرا وأحببته للطفه وكرم أخلاقه.
قالت: وكيف يدعوك إلى بيته وهذه أول مرة التقيت به مع أن عوائد الإفرنج لا تسمح بذلك؟
قال: نعم، إن هذا الدكتور إفرنجي، ولكنه قضى في هذه البلاد نحو الخمسين سنة، فتخلق بأخلاق أهلها، وألف عوائدهم، وأتقن درس لغتهم، وحفظ كل أمثالهم وأساليب كلامهم، فقد رأيته يورد لكل معنى مثلا من الأمثال الدارجة التي تتعذر معرفتها إلا على أبناء اللغة، وقد رأيت أن الشيخوخة لم تغير شيئا من شدة عزمه، وطول أناته، ولطف حديثه، الذي يتخلله نوع من المزاح في غاية الأدب والظرف، وأؤكد لك أنك لو جالسته ساعة لذهب عنك كل كدر، ولكن عوائدنا لا تسمح لنا بذلك، فإذا ذهبنا إلى منزله في الغد تعرفين امرأته، فلا بد أن تكون قد اكتسبت شيئا من أخلاقه الرضية.
قالت: نذهب إليه غدا حسب أمرك.
وقضيا تلك الليلة بأحاديث متنوعة متفرقة حتى كان وقت الرقاد، فذهب كل إلى فراشه، ونامت فدوى نوما هنيئا تلك الليلة على غير المعتاد، فسرت وسر والدها أيضا.
الفصل الرابع والستون
الطباخ
أما بخيت فسار توا إلى صاحب الفندق والدبوس في يده، فسلمه إليه قائلا: إن سيدتي سرت كثيرا بإتقان صنعه، وتحب معرفة المكان الذي صنع فيه لتصطنع مثله.
قال: لقد قلت لك إنه صنع أوروبا، وقد جاء به إلي سائح إنكليزي هدية، ولما أعطاني إياه لم أسأله عمن اصطنعه، فقال: وهل تريد أن تبيعه لها؟ قال: لا، لا أقدر على ذلك؛ لأن الهدايا لا تباع ولا تشترى، ويا حبذا لو أمكنني ذلك! فإنني ما كنت أمنعه عن حضرتها.
وكان بخيت قد عرف طباخ الفندق في هذين اليومين، وأحب كل منهما الآخر، فقال في نفسه: لأذهبن إليه لعلي أقف منه على خبر، فصبر حتى انقضى وقت العشاء، وسار يتمشى بجانب حجرة الطباخ، فوقف له وحياه داعيا إياه للجلوس، فدخل وجلس على كرسي بجانب السرير، فلمح على مائدته زجاجة صغيرة فيها سائل أبيض، بجانبها قدح صغيرة، فعلم أنه الخمر المعروفة بالعرقي، ورأى ذلك الرجل قد نزع طربوشه المغربي عن رأسه وشمر عن ساعديه، جاعلا خرقة بيضاء (مريول) فوق سراويله المصنوعة من الجوخ الثقيل، ثم تقدم إلى بخيت بقدح ملأى من تلك الزجاجة وأعطاه ليشرب وفي يده الأخرى قطعة لحم، فتظاهر بخيت بالشرب وسكب العرقي على الأرض. أما الطباخ فما زال يقص حكاية ويشرب قدحا حتى فرغت الزجاجة أو كادت.
ففاتحه بخيت بالكلام قائلا: إن موقع هذا الفندق جميل جدا، ولا سيما في فصل الصيف؛ فإنه يشرح الصدر لقربه من البحر.
قال الرجل وهو يترنح من الخمر: صدقت، ولكنا نسر في الشتاء لكثرة السياح، فإنهم يأتوننا جماعات من أقاصي البلاد.
فاستبشر بخيت بذكر السياح آملا أن يتخلص إلى حكاية الدبوس فقال: وما الذي يحملهم على المجيء إلى هذه الديار في هذا الفصل البارد؟
قال: يأتون في الأصل إلى يافا، ويسيرون منها إلى بيت المقدس لزيارة قبر المسيح، ويأتون إلى هنا غالبا في أوائل الربيع، فيذهبون لمشاهدة أرز لبنان المشهور بقدم عهده، حتى ظن بعضهم أن أشجاره باقية من أيام سليمان.
قال بخيت: ولكن المتبادر يا عبود أنهم يزورون مصر في فصل الشتاء لاعتدال الهواء هناك.
قال: نعم، ويأتون من مصر إلى يافا.
قال: ولكنهم إذا أتوا هذه الديار في فصل الشتاء فلا يستطيعون التجوال لكثرة الثلوج التي تتراكم في طرق جبل لبنان؛ فقد علمت أن طريق دمشق غير مطروقة منذ خمسة أيام.
قال الرجل وقد ضاق ذرعا: أنا أعلم أنهم يأتون إلينا في أواخر الشتاء وأوائل الربيع، والذي يهمنا أنهم إذا جاءوا ينفقون بيننا أموالا طائلة، فنكسب منهم كثيرا؛ لأنهم يعطون حلوانا كبيرا.
فقال بخيت وقد رجا قرب الوصول إلى مبتغاه: إن الحلوانات ليست شيئا يذكر، وأما الذي يستحق الذكر فهو ما ينفقونه في الشراء من الأسواق.
فضحك عبود وقد مال ذات اليمين وذات اليسار ثم رفع يده كأنه يقسم وقال: ما لي ولما يشترونه ويبيعونه؟! فإني أعلم أني آخذ منهم حلوانات كثيرة، وإذا اشتروا كل المدينة فما الذي يأتي إلى جيبي؟!
فقال بخيت: لقد بالغت يا صاحبي في كلامك عن الحلوانات، فما هي؟ أخبرني هل يعطونكم دراهم أو ثيابا أو حليا؟
قال عبود: يعطوننا من ذلك كله.
قال بخيت: ولكن أظن أنهم يعطون كلا على قدر حاجته، فلا أظنهم يعطونك أقراطا ولا أساور، وإنما يعطونك قطعة ثياب أو بعضا من النقود، وأظنك تفضل النقود.
فضحك عبود قائلا: نعم نعم، هذا هو الصحيح.
فقال بخيت: ولكن إذا أعطوك قطعة حلي مثل دبوس رقبة مثلا، أفلا تفضله على الدراهم؟!
قال: وما أصنع بالدبابيس، فأنا لا ألبس ثوبا إفرنجيا ولا قميصا مكويا، وإنما لبسي هذه السراويل، وهذا المنتيان، ولو أعطيتني حلة إفرنجية ما لبستها، وكذا لو أعطيتني قطعة حلي فإني أفضل بيعها بأي شيء كان؛ لأن الذهب الرنان أفضل من كل شيء.
قال بخيت: أعذرني يا صاحبي؛ فإني لا أصدق ذلك.
فقال عبود ضاحكا: إذا كنت لا تصدق، فاسأل معلمي الخواجة بسول وهو يخبرك عني، فقد جئت من بلاد السودان ... آه من تلك البلاد! وسكت هنيهة كأنه تذكر أمرا محزنا، ثم أخذ في البكاء.
فتعجب بخيت لذلك، وأحب إتمام الحديث ليسمع ما يعرفه الرجل عن السودان، فقال له: هل تعرف بلاد السودان يا أخي؟
قال: نعم، أعرفها. وازداد في البكاء، فازداد بخيت تعجبا ورغبة في استطلاع حاله، فقال: وما أصابك في تلك الديار حتى تبكي عند ذكرها.
فتغيرت حالة الرجل من السكر المضحك إلى الهدوء والرزانة وقال: إني أصبت فيها ببلية عظمى. قبح الله المتمهدي وأعماله؛ فقد قطع رزقي وحرمني من سيدي وملاذي.
فقال بخيت: وهل كنت ساكنا في تلك البلاد أم ذهبت إليها مؤخرا؟
أجاب وهو يمسح دموعه بطرف ثوبه: قد ذهبت إليها من مصر؛ لأني كنت أذهب كل سنة إلى القاهرة في فصل الشتاء لمرافقة السياح، فلما كانت سنة 1882 مضى فصل الشتاء ولم أصب سائحا؛ لأن محل كوك احتكر السياح كافة، وتكفل بإرسالهم، على أن يقوم بكفايتهم، وكان يرسل معهم تراجمة وخداما من عنده، فلم يعد لنا نفع يذكر، فلما مضى فصل الشتاء ضاقت بي الحيل، وعولت أن أعود إلى بيروت، فسمعت بمسير حملة هيكس باشا لمحاربة المتمهدي الملعون، فوفق الله لي أحد ضباك تلك الحملة لأسير معه خادما، فرافقته يئسا، وما زلت معه حتى أتينا الخرطوم، وبعد أن مكثنا هناك برهة جاءني يوما وعليه ثياب غير ثيابه الاعتيادية كأنه قد تنكر فقلت: وما هذا يا سيدي؟ قال: إني يا عبود مسافر في مهمة إلى الأبيض؛ حيث يقيم المتمهدي، ولا أستطيع أن آخذك معي؛ لأني ذاهب متنكرا، وليس معي إلا هذا الخبير السوداني، فامكث أنت هنا، وهذه ثيابي باقية عندك ريثما أعود. ولكن آه يا سيدي! إنه لم يعد قط فلبثنا في الخرطوم حتى سمعنا بمذبحة هيكس وجيشه، ولم يعد يطيب لي المقام، فحملت ما كان عندي وفي جملته ثياب ذلك الضابط، وجئت بها قاصدا هذه الديار عن طريق بربر، فرأيت خطرا بمروري إلى سواكن، وأنه لا بد لي من التنكر وتخفيف حملي، فطرحت ما كان معي من الثياب في تلك المدينة، ولم أبق إلا بعض الأشياء الخفيفة والغالية الثمن.
الفصل الخامس والستون
السودان الشرقي
وأخذت بالمسير في الصحراء تارة أمر بسهل متسع قليل الأعشاب والأشجار، وطورا أصعد في جبل وعر السلوك، وآونة أمر بحرجات كثيرة الوحوش، حتى خفت على نفسي أن أذهب فريسة لها، وكنت تارة أعطش، وطورا أجوع. وأما الطريق فلم أكن أعرفها، ولكني اصطحبت أعرابيا من بربر كان سائرا إلى سواكن، وأظنه كان ذاهبا بمهمة سرية أرسله فيها حسين باشا خليفة؛ مدير بربر، ولما قطعنا نحو نصف الطريق في بضعة أيام، علمنا أن الطريق إلى سواكن مقطوعة لا يمكننا سلوكها لظهور دعاة المتمهدي فيها تحت قيادة عثمان دقنا، الذي أصبح ألد عدو للأتراك ومن شابههم، على كونه تركي الأصل، فضاق بخيت ذرعا لطول القصة، وأراد أن يبتدره بالكلام لاستطلاع ما يهمه، ولكنه خاف أن يغضبه فبقي صامتا وهو على مثل الجمر، فأتم الرجل حديثه قائلا: فلما سمعنا ذلك وقعنا في حيرة. أما رفيقي فكان يسهل عليه التنكر لقرب حاله ولغته من هؤلاء، وأما أنا فعظم الأمر علي، وتوسلت إلى الرجل أن يدبر لي وسيلة أخلص بها من تلك الورطة، فأعطاني بعض ثيابه، وعلمني من الكلام السوداني فوق ما كنت أعرف، حتى إذا وقعنا في مشكل ندعي أننا من أهل تلك الجهات القائمين بدعوة الإمام المتمهدي.
فما زلنا سائرين حتى صرنا على مقربة من سنكات - وكان صديقي قد أخبرني أنها محاصرة، وفيها حامية من الجنود المصرية، والعدو محدق بها من كل الجهات، وأن الحكومة المصرية أرسلت نجدة تحت قيادة رجل إنكليزي يقال له باكر باشا لإنقاذها - فقلت: إن دخولي مدينة سنكات أفضل من الاستمرار على المسير إلى سواكن؛ فربما ألقى حتفي في الطريق؛ لأني علمت أن عثمان دقنا قد مد سطوة المتمهدي ودعوته إلى أقاصي تلك الأنحاء.
فلما صرنا على مقربة من سنكات ونحن فيما يشبه لباس الدراويش سألت رفيقي عن رأيه، فوافقني على دخول سنكات فصبرنا حتى سدل الليل نقابه، وسرنا حتى اقتربنا من الحصون فنادينا الأمان، فأمنونا، فدخلنا البلدة وأخذ العساكر يسألوننا عن حالنا، فأخبرناهم بما عرفناه، وبتنا تلك الليلة قرب الحصون، وذهبت في الصباح التالي إلى البلدة ، فإذا هي ليست كبيرة، وأبنيتها من الآجر تتخللها بيوت من القش، ولكني شاهدت أهلها في ضنك شديد من قلة المئونة لانقطاع السابلة عليهم من كل الجهات، فكان كل من شاهدني يسألني عن المهدويين وعن مذبحة هيكس.
الفصل السادس والستون
بطل سنكات
وفيما أن أجول في البلدة جاءني جندي يدعوني إلى مقابلة توفيق بك؛ محافظها، فذهبت إليه وإذا هو جالس على مقعد في ديوانه مقطب الوجه.
فلما دخلت حييت فأذن لي في الجلوس وأخذ يسألني عما سمعته عن حملة باكر باشا، فقلت: إني لم أسمع إلا أنها جاءت لإنقاذكم من هذا الحصار.
فتنهد توفيق بك وهز رأسه وجعل يخاطب نفسه قائلا: أجاءوا إلينا بنساء أم برجال؟ ثم نهض عن المقعد وجعل يتمشى في أرض الديوان فتعجبت لذلك، ولكني لم أجسر على سؤاله عن السبب حتى عاد إلى المقعد وأشعل سيكارته، وأعطاني سيكارة فتناولتها، وقد راعني منظره ووددت الخروج من الغرفة، فقال يخاطب ضابطا بجانبه: قد جاء باكر باشا بجنوده لإنقاذنا، ثم علمت أنهم أمروا بالإسراع إلى إنقاذ حامية طوكر، فلما وصلوا آبار التيب نزل عليهم العصاة وأمعنوا فيهم قتلا ونهبا. وقد سمعت أن الجنود والضباط لم يحسنوا الدفاع، وليس ذلك فقط، بل إنهم تربعوا على الصعيد وأخذوا يصيحون ويولولون كأنهم نساء، والعرب تعمل السيف فيهم. ولقد ساء ذلك باكر باشا كثيرا، وكانت النتيجة انكسار النجدة وعودها، وازدياد الحصار علينا، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فأخذ ذلك الضابط يخفف عنه ويهون عليه، فقال له: إني لا أخاف الموت من أجل نفسي، ولكني أخشى العار الذي يلحق بحكومتي لإهمالها إنقاذ حامية هذه البلدة التي دافع أهلها دفاعا حسنا، وكم من كتاب جاءنا من عثمان دقنا يعدنا مواعيد حسنة إذا سلمنا ولم نجبه إلا بالتهديد والوعيد!
قال ذلك وجعل يدخن سيكارته كأنه يلتهمها التهاما وقد اتقد غيظا، ثم نهض عن المقعد وعاد إلى التمشي. أما أنا فازددت رهبة من غضبه حتى لم أعد أستطيع النهوض للانصراف، فلبثت صامتا.
فقال له الضابط : تمهل يا سيدي، إن الفرج قريب، والحكومة لا تهمل أمرنا؛ لأننا أولادها.
فرفس الأرض برجله قائلا: كيف نصبر وعن قريب يحل بنا ما حل بهيكس، ولكن ذلك معذور لبعده عن مراكز الحكومة، ولأنهم لم يكونوا يعرفون مقره. أما نحن فمكاننا معلوم، وقد أصبحنا في حال لا تطاق من الضيق الجوع، فإن أهل البلد يأكلون الجلود ولحم الكلاب والخيل والجمال لقلة المئونة. وماذا تريد منهم أكثر من هذا الصبر على عهود الحكومة ومصلحتها؟ أما بخيت فخف قلقه على معرفة حال الدبوس لاشتغاله بهذه الحكاية الغريبة، وكان قد سمع عن مقتل توفيق بك قريبا.
فقال عبود: فعجبت يا أخي لإخلاص هذا الرجل للحكومة، وعظم شهامته، وصرت أقول في نفسي: إنه إذا انحاز إلى العصاة، فلا يلام لأنه اضطر اضطرارا، ثم خرج البيك من الغرفة فخرجت وقد تحقق عندي تفاقم الخطب، واستفحال أمر العصاة. وفي اليوم التالي، جمع توفيق بك ضباط مجلسه في جلسة حافلة حضرتها.
فقام فيهم قائلا: ها إن العصاة قد أحاطوا بنا من كل ناحية، والحكومة بعثت إلى نجدتنا حملة لم تصلنا، والبلد في جوع مدقع، ولا أزيدكم علما بماذا يأكلون وبماذا يشربون، فالآن إما أن نلبث في الحصار فنموت جوعا، وإما أن نخرج مستقتلين وندافع عن أنفسنا وحكومتنا حتى يقضي الله بما يشاء، وهو خير الحاكمين، فإذا قتلنا عن آخرنا؛ فذلك خير لنا من التسليم لقوم طغام يكذبون على الله ورسوله، ويدعون المهدوية زورا، على أننا لو هان علينا التسليم ما أفادنا شيئا؛ إذ إن عثمان دقنا لا يبقينا في قيد الحياة، فما رأيكم؟
فبهت الجميع وكأنهم قد سحروا بكلام محافظهم المملوء شهامة وحزما، فقالوا: الرأي لك.
قال: الرأي عندي أن نفتح أبواب البلدة غدا بعد أن نخربها، ونخرج بسلاحنا مستقتلين، فإذا لاقانا العدو قاتلناهم إلى آخر نسمة من حياتنا باسم خديوينا توفيق باشا، حتى يقضي الله بيننا وبينهم، ولكل أمة أجل، فإذا جاء أجلهم لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون.
أما أنا فوقعت يا أخي في حيرة، وليس لي إرب في القتال؛ لأني لست جنديا، ولا أعرف الدفاع، فندمت على دخولي سنكات، وكذلك رفيقي محمود، فاجتمعت به وتعاهدنا على أن نفر من المدينة تلك الليلة إلى معسكر العدو كما كنا قبلا، ثم نذهب من هناك إلى سواكن.
فلما كان منتصف الليل لبسنا المرقعيات وخرجنا نريد معسكر عثمان دقنا، فدخلنا مولولين مستنجدين وقلنا: إننا تهنا عن الطريق فمررنا بجانب سنكات فأطلقوا علينا الرصاص، ولم ننج إلا بعد الجهد والعناء، فطيبوا خاطرنا، وبتنا تلك الليلة. وفي الصباح التالي، تركنا المعسكر وسرنا حتى أتينا سواكن، ولم نبلغها حتى بلغنا خروج توفيق ورجاله قانطين، فهجم العصاة عليهم ولم يبقوا مخبرا منهم، فأسفت على ذلك البطل أسفي على ذلك الضابط، وركبت البحر من سواكن إلى السويس. وبالاختصار، وصلت إلى هنا منذ برهة يسيرة جدا وأنا لا أنسى ذلك الرجل ولطفه وفضله. قبح الله العصاة وأعمالهم. وتراني قد علقت الخمرة من ذلك الحين تسلية لي عن فقد ذلك الرجل الشريف.
أما بخيت فكان أثناء تلك الحكاية كأنه أذان صاغية، وقد توسم فيها خيرا، فلما أتم صاحبه الحديث قال له: والله إن حكايتك لفي غاية الغرابة، ولكنا كنا في سياق حكاية الهدايا والحلوانات فقلت: إنك جئت من بلاد السودان بأشياء لم تذكرها.
قال: لقد جئت من هناك بما معي من ثياب الضابط المتقدم ذكره، وفي جملتها دبوس مرصع، فبعته لصاحب هذا المنزل بمبلغ قليل؛ إذ إنه لا ينفعني.
فأخذ قلب بخيت في الخفقان، ولكنه ابتدر عبودا بالسؤال عن اسم معلمه المشار إليه، فقال: ومن الغريب أنه ضابط إنكليزي، ولكنه كان يعرف العربية كواحد من المصريين، واسمه كابتن شفيق (أي يوزباشي شفيق)، فازداد خفقان قلب بخيت وكاد يطير من الفرح لاكتشافه سر الدبوس، ولكنه أسف لتذكره ضياع ذلك الشاب، فبهت برهة وعبود ينزع الخرقة (الوزرة) عن وسطه لانتهائه من الشغل، ثم قال له بخيت: وهل سمعت شيئا عن ذلك الضابط؟
قال: لو كنت سمعت عنه شيئا ما برحت السودان قبل أن ألتقي به.
قال بخيت: ولكنك تقول إنه لم يسر برفقة الحملة، فمن الممكن أن يكون حيا بعد؟
قال عبود: آه! لو أعلم أنه حي فأذهب للتفتيش عنه؛ لأني لا أنسى فضله ولطفه؛ فقد كان يحبني ويعدني بمستقبل حسن عنده.
ولم يزد بخيت على هذا الحديث فنهض وودع عبودا، وفي يده قطع من النقود جعلها في يده قائلا: إن الباشا مسرور منك، وقد أوصاني أن أكرمك، فتناول عبود الدراهم وقبلها قائلا: ليحي رأس الباشا، وليطل الله عمره.
ثم خرج بخيت وهو في بحار من الهواجس، وود لو استطاع أن يسير توا إلى سيدته يطلعها على ما سمعه، ولكنه سمع الساعة تدق عشر دقات، فعلم أنها تكون في الفراش على أنها إن لم تكن فيه فلا بد من أن يكون والدها عندها، فلا يستطيع إطلاعها على شيء، فسار إلى حجرته على أن يغتنم فرصة في اليوم التالي ويقص عليها القصة.
الفصل السابع والستون
زيارة المنارة
أما فدوى فباتت تلك الليلة وهي تفكر بالدبوس وأمره، وأمر رسم شفيق وضياعه، ورقدت تنتظر ما يجيئها به بخيت من النبأ الجديد.
أما الباشا فلم يكن همه إلا التبكير إلى زيارة المنارة ترويحا لنفس فدوى بالمناظر الجديدة، والمحادثة مع زوجة الدكتور.
فلما أصبح الصباح تناولوا الطعام، ولم يفارق الباشا الحجرة حتى كانت الساعة العاشرة، فبعث خادمه يأتيه بعربة، فلما جاءت كانت فدوى قد لبست ثيابا استعدادا للمسير، جاعلة اليشمك اللطيف على رأسها وقد ضفرت شعرها ضفيرة واحدة محلولة من طرفها وأرختها على ظهرها، وكانت هيئتها في غاية الجمال والوقار على ما فيها من النحول.
فركب الباشا وابنته في العربة، وركب بخيت بجانب السائق، وساروا قاصدين رأس بيروت، فسألوا السائق إذا كان يعرف منزل الدكتور «ن» فقال: وهل في هذه المدينة من لا يعرفه، فإنه والد للفقراء وذوي الأسقام؟
وبعد مسير نصف ساعة، وصلت العربة إلى طريق طويل خارج المدينة ينتهي ببناء فيه المنارة التي تهتدي بها السفن إلى مينا بيروت، وشاهدوا على يمينهم قبل وصولهم إلى المنارة بابا كبيرا عاريا من كل زينة ، فدخلت العربة إلى بقعة محاطة بسور، وفي صدرها باب آخر وقفت العربة عنده، فانتصب خادم من خدمة المنزل عليه لباس أهل لبنان من السراويل المصنوعة من البفتا المصبوغ بلون بارودي زاه، وعلى رأسه طربوش تونسي قصير عليه عمامة صغيرة من نسيج ملون يقال له: كوفية، فلما وقفت العربة عنده جاء الخادم وفتح الباب واستقبل الباشا، ودخل به في رواق يحفه من الجانبين حوضان مزروعان بأعشاب وأنجم من النبات. وفي نهاية ذلك الرواق باب خشب بدرابزون يؤدي إلى حديقة تشرف على البحر، والمنزل كله على مرتفع أشبه بتل كبير.
فلما وصلوا على آخر الرواق دخل الخادم في باب صغير على يمينه اتصل منه إلى مكتب الدكتور، وأنذره بمجيء الضيف، وسار في طريق أخرى إلى اليسار مرصوفة بالرخام يتصل منها إلى باب المنزل الحقيقي، وأخبر امرأة الدكتور بمجيء سيدة تركية، وكان قد أدرك أن هذه السيدة لا تقابل الرجال.
فخرج الدكتور واستقبل الباشا ودخل به مكتبته، وجاءت امرأته وهي قصيرة القامة، خفيفة العضل مثل زوجها، واستقبلت فدوى بكل ترحاب، ودخلت بها غرفة الاستقبال، فتأملت فدوى في ذلك البيت، فإذا هو متقن الفرش، ولكنه بسيط يشهد بسلامة ذوق صاحبه، وقد أعجبها على نوع خاص لطف السيدة امرأة الدكتور؛ لأنها كانت تنتظر أن تقابلها مثلما يقابل الإفرنج من لم يسبق لهم معرفة به.
أما هذه فقابلتها ورحبت بها كأنها تعرفها من زمن مديد، وأمرت بالقهوة وسائر معدات الترحاب، وبعثت إلى بناتها وعرفتهن بالسيدة فدوى، وجلس السيدات يتحادثن بأحاديث مختلفة حتى كادت فدوى تنسى كل أحزانها وهواجسها.
أما الباشا فدخل مكتبة الدكتور، فإذا هي كما يليق أن تكون مكاتب العلماء العاملين، ولكنه رأي الدكتور في لباس لم يكن ينتظر أن يراه فيه، وهو لباسه الإفرنجي المعتاد، ولكنه كان ملتفا فوقه بعباءة سوداء من ملابس البدو، وعلى رأسه بدل البرنيطة عراقية من المخمل زرقاء اللون، مزركشة بالقصب، تتدلى منها طرة من القصب.
فلما جلسا أخذ الدكتور يرحب بضيفه ترحابا عظيما، وأمر له بالقهوة والنارجيل، وأخذا يتجاذبان أطراف الحديث، فرأى الباشا في الدكتور اطلاعا تاما في أحوال السياسة وأحوال سورية خصوصا.
فمضى نصف النهار ولم يشعر الباشا به لاستئناسه بمضيفه، فلما دقت الساعة 12 هم بالذهاب، فأمسكه الدكتور ودعاه إلى الغداء، ولم يتركه حتى تغدى عنده، فمدت مائدة للسيدات، وأخرى للرجال، وكان كل ذلك مما يزيد تعجب الباشا بسعة اطلاع الدكتور على أخلاق الشرقيين وعوائدهم.
ولما جلسوا على المائدة قال الباشا: اعذرني يا حضرة الدكتور إذا تطفلت في سؤالك عما رغبك في عوائد الشرقيين، فرأيتك قد تخلقت بجميع أخلاقهم حتى إن طعامك هذا نفس طعامهم، فهل جعلته كذلك مراعاة لضيوفك أم تلك عادتك في بيتك؟
فقال الدكتور: إن تلك عادتي في سائر أيامي، فإني قد جئت هذه الديار وأقمت فيها واتخذتها وطنا لي، وأحببت أهلها محبتي لأولادي لأعيش معهم، وأقضي باقي هذه الحياة بين ظهرانيهم، ولا أنسى محبتهم لي وإكرامهم إياي، فلا غرو إذا أحببتهم محبة الوالد لأولاده، فإنهم يحبونني محبة الأولاد لوالدهم، فإذا قضيت بينهم فكأني قضيت في وطني وبين أهلي وإخواني.
فقال الباشا: أعجب بك من رجل كريم النفس، فقد بلغني عن محبة أهل هذه البلاد لك مثلما بلغني منك عنهم.
فأطرق الدكتور وأغضى عن الإجابة، ثم أراد تغيير الحديث فسأله عن فدوى وماذا جرى بها بعدما كلمه عنها، فأخبره أنها كانت مستريحة قليلا، ويظهر لي الآن أنها آنست بكم ونسيت هواجسها.
فقال الدكتور: إذا كان منزلنا يفيدها، فمرحبا بها، فلتقم عندنا ما شاءت، فأثنى الباشا على الدكتور واعتذر عن عدم استطاعته ذلك.
وبعد تناول الغداء وشرب القهوة، استأذن الباشا في الانصراف، فألح عليه بالبقاء، فاعتذر فودعه، وهكذا فعلت امرأة الحكيم بفدوى، وخرج الاثنان وركبا العربة، وركب بخيت، وسارت بهم عائدين إلى الفندق.
الفصل الثامن والستون
طنوس العربجي
وكانا في أثناء الطريق يتحادثان بما لاقياه من حسن الوفادة.
وفيما العربة سائرة وصلت بهما إلى القرب من بناء كبير عرفا أنه مدرسة طبية، وهناك حرنت الخيل ولم تعد تمشي، فأخذ السائق يحاول تمشيتها فلم يستطع، ولم تزدد إلا حرونا، فتحولت فدوى ووالدها منها وقال الباشا لبخيت: ادفع له الأجرة وهات لنا عربة أخرى.
فلما سمع السائق ذلك تقدم نحو الباشا وهو يترنح بمشيه قائلا: لماذا لا تركبون في عربتي؟
فقال الباشا: لأن خيلها وقفت ولم نعد نأمن من الخطر.
فقال مغضبا: لعل عربتي لا تنفع شيئا الآن.
قال الباشا: لم أقل لك إنها لا تنفع، وإنما قلت إني صرت أخشى أن يكون علينا خطر فيها بعد أن رأيت الخيل قد حرنت.
قال: ولكن خيلي ليس أحسن منها في كل بيروت.
قال الباشا: آمنا وصدقنا كل ذلك، ولكن اعذرنا إذ لم يعد يمكننا الركوب، ومع ذلك فهذه أجرة العربة، وإذا كانت لا تكفي فاطلب ما تريد لندفعه إليك.
قال: أنا لست محتاجا إلى دراهمك، ولا أريد أن تتصدق علي، وإنما أريد أن تعلم أن عربتي وخيلي من أحسن ما في بيروت.
فقال الباشا: نعم أقر وأعترف بذلك.
قال: فلماذا لا تركب معي إذن؟
قال: لأني لا أريد. وكان الباشا قد اغتاظ منه وأراد ضربه، ثم تذكر ما كان قد سمعه عن سائقي العربات هناك، فخاف أن تعود العاقبة عليه وبالا وهو بعيد عن المدينة، ولا وصول له إلى البوليس، فلم ير أفضل من أن يتحول عنه ولا يجيبه تاركا بخيتا يخاطبه، وبعد اللتيا والتي تنازل ذلك السائق عن حقوقه وتركهم، فقال الباشا لبخيت: جئنا بعربة، فإننا نتمشى في هذه الطريق أمام هذه المدرسة حتى تعود إلينا، قال: سمعا وطاعة. وسار ولبث الباشا وفدوى يتمشيان أمام سور المدرسة ويتأملان في ذلك البناء الجميل الذي يزينه موقعه؛ لأن المدرسة قائمة على تل صغير مشرف على البحر. وفيما هما يتمشيان أمطرت السماء على غير انتظار، وتلك حالة الهواء في شهر شباط (فبراير) حتى قيل في أمثالهم إن شباط ليس عليه رباط، فاضطر الباشا أن يأوي بابنته إلى ملجأ، فدخل باب المدرسة، فوصل أولا إلى بناية القسم الاستعدادي، ودخل بها ملجأ تحت سقف ينتظران مجيء بخيت بالعربة، فمضى نصف ساعة ولم يأت ، فقلق لغيابه، وتعجب الباشا لذلك التأخر؛ لأنه كان يظن أن العربات في بيروت لا تنفك تجول في الشوارع خارج المدينة وداخلها كما في مصر.
وكان البواب قد جاءهما بكرسيين فجلسا ينتظران عود بخيت بفروغ صبر حتى دقت ساعة المدرسة أربع دقات، وضرب جرس الانصراف، وإذا بالتلامذة والأساتذة خارجون من القسم الطبي والعلمي أفواجا، ثم سمع صوت جري عربة خارج الباب، فخرج فإذا هي عربة وليس فيها بخيت، فسأل عنها فقيل له: إنها عربة الدكتور «ت»؛ أحد أساتذة المدرسة، فأراد العود إلى فدوى فلاقاه رجل في لباس إفرنجي، أشيب الشعر، كثيف شعر اللحية، على عينيه النظارات، فحياه، فرد الباشا التحية، فرحب به وسأله عن غرضه، فأخبره بما كان، فقال: ربما يتأخر رسولكم أكثر من ذلك؛ إذ لا بد له من النزول إلى المدينة لأجل العربة، فهذه عربتي تحت أمركم، فاركبوها إلى حيث أنتم ذاهبون، وكان ذلك الشيخ الدكتور «ت»، فامتنع الباشا في بادئ الرأي عن وجوب الدعوة خجلا، لكنه قبل أخيرا.
ولم يكن الدكتور قد شاهد مع الباشا أحدا سواه؛ ولذلك كان يريد الركوب معه، فلما رآه ينادي ابنته امتنع عن الركوب معهما، فركب الباشا وابنته وقال للسائق: خذنا إلى فندق بسول على البحر. والتفت الباشا إلى الدكتور شاكرا، فسارت العربة حتى أتيا الفندق، فلم يشاهدا بخيتا فقلقا عليه، وعلى الخصوص فدوى؛ لأنها كانت تنتظر الاختلاء به لتسأله عما عرفه من أمر الدبوس.
فألحت على والدها أن يسعى في البحث عنه، وهو لم يكن أقل قلقا عليه، فسار إلى صاحب الفندق وأطلعه على ذلك، فقال: لعله تاه عن الطريق ولا يلبث أن يظهر، فقال: لا أظنه تاه؛ لأنه لو قال للسائق: أوصلني إلى منزل الدكتور «ن» لأوصله.
الفصل التاسع والستون
ضيف ثقيل
وباتا تلك الليلة وفدوى تناجي نفسها راجية أن يعود بخيت بخبر الدبوس، فلما كان الصباح جاء أحد خدم الفندق يدعو الباشا لمخاطبة شرطي جاء يطلبه، فخرج فإذا بأحد الشرطة وبيده ورقة، فلما تلاها فهم منها أن بخيتا محجور عليه في السجن، فلبس ثيابه وسار برفقة الشرطي إلى السراي قرب حديقة الحميدية، ودخل توا على مأمور الشرطة، فوقف له واحترمه وأجلسه إلى جانبه، فاستخبره الخبر فقال: إن خادمك وأحد المصريين تشاجرا أمس، وجيء بالاثنين إلى المخفر، فسأل عن اسم الآخر فقال: يدعي عزيزا، فاستغرب الباشا ذلك؛ لتذكره عزيزا صاحبه، مع علمه أنه كان في مصر، فقال للمأمور: إنهما أبناء بلد واحد. وتقدم إليه أن يتخلى عن قضيتهما إذا تصالحا، فوعده بذلك، وأمر بإحضارهما، فحضرا فإذا هما بخيت وعزيز، فلما رأى الباشا عزيز سلم عليه وقال له: ما سبب خصامك؟ قال: التقيت بخادمك هذا - وكان بخيت في حالة الغيظ من عزيز فقال له: تأدب يا فتى؛ إنك والله لمستحق القتل. فأسكته المأمور ريثما يتم الرجل حكايته - فقال عزيز: التقيت به مساء أمس وهو مسرع نحو المدينة، فناديته لأسأله عن سعادتك، فلعنني وأهانني، فترفقت به، فازداد فجورا، فسمعنا الشرطة، فقبضوا علينا وساقونا إلى السجن.
فقال الباشا: لا بأس يا ولدي، إن ذلك لم يحصل إلا سهوا؛ إذ ربما لم يعرفك بخيت. فابتدره بخيت قائلا: كلا، يا سعادة الباشا، إني عرفته، ولولا ذلك ما أهنته؛ لأنه مستوجب فوق الإهانة.
فقال الباشا: اسكت يا بخيت؛ فقد جئت الآن لأصلحكما وأخرجكما من السجن، فقال بخيت: إني أفضل السجن يا سيدي إذا كان هذا الخائن فيه معي؛ لكي يتأدب. فانتهره الباشا. أما عزيز فما زال ساكتا مظهرا التأدب والإصغاء إلى كلام الباشا، فسكت بخيت، فقال الباشا: لقد تصالحا لأنهما من بلد واحد، وكلاهما من خاصتي، فليأمر حضرة المأمور بإطلاق سراحهما، فقال المأمور: ليكن كما تأمر سعادتك، فخرجا من السجن. وأما بخيت، فكان يرتجف ويرتعد لشدة تأثره؛ لأنه كان يود قتل عزيز لو لم يدركهما الشرطي، وسار الجميع قاصدين الفندق، والباشا يرحب بعزيز ويسأله عن سبب مجيئه، فقال: يعلم الله، يا سعادة الباشا، أني لم يعد يهدأ لي بال منذ برحتمونا، ولم أر سبيلا للاطمئنان إلا بالمجيء إلى هنا ومشاهدتكم، فعسى أن تكون السيدة فدوى بخير، فقال : إنها بخير إن شاء الله.
وكان بخيت كل الطريق ينظر إلى عزيز نظرة الغدر، ونفسه تحدثه بقتله، لولا احترامه لسيده. وكان عزيز قد أدرك ذلك، فأخذ يتزلف إلى الباشا ويظهر له الود والإخلاص والقلق على صحة فدوى، فلما اقتربا من الفندق سأله الباشا عن محل نزوله فقال له: إني لم أختر منزلا، وقد قيل لي إن هذا الفندق من أفضل فنادق بيروت، وكنت قد وصلت أمس ووضعت أمتعتي في قهوة بقرب المينا على أمل الخروج للتفتيش عن منزل، فالتقيت بخادمك وجرى ما جرى.
فقال: ابعث من يأتيك بالأمتعة وتعال إلى هنا. ودخلا.
أما فدوى فكانت في انتظار عود والدها، فسمعت صوتا في الدهليز المؤدي إلى غرفتها، ولما فتحت الباب لاستقباله والاستفهام عن بخيت وقعت عيناها على عزيز، فارتعدت فرائصها، وخفق قلبها، واتقدت النار في فؤادها، فعادت إلى الحجرة وأغلقت الباب وراءها، وألقت بنفسها على المقعد خائرة القوى من شدة التأثر قائلة: ما الذي أتى بهذا الخائن إلى هذه الديار؟ قاتله الله! ما أثقله! وما أكثر فضوله!
ثم فتح والدها الباب وقد أدرك ما بها، ودخل بخيت معه وسلما عليها، فأسرع بخيت إلى تقبيل يدها. أما هي فشغلت نفسها عن التأثر وخاطبته قائلة: ما الذي جرى لك يا بخيت؟ فقد أقلقتنا بغيابك، فقال: لا أقلقك الله يا سيدتي، إنها حادثة عرضت وانقضت بسلام. قال ذلك وحرق أسنانه، وهز رأسه خيفة من سيده، فأدركت أن في المسألة سرا، فصبرت على استطلاعها ريثما تختلي به.
وجلس الباشا يقص القصة عليها وهي مصغية إلى ما يقول حتى وصل إلى ذكر عزيز، فامتقع لونها وظهرت عليها أمارات الغيظ، فلحظ والدها ذلك منها فقال ضاحكا: ما الذي غاظك من حديثي يا حبيبتي؟ قالت: لم يغظني شيء، وإنما عجبت لهذا الاتفاق.
فقال: إنه اتفاق عجيب، والرجل قد جاء من مصر غيرة علينا، وقد سألني عنك كثيرا، فازدادت هي غيظا حتى لم تعد تقدر على إخفاء ما بها، فقالت: وما الذي حمله على افتقاد من لم يخطر لهم في بال؟
فضحك والدها قائلا: ألا تزالين حاقدة عليه يا عزيزتي؟
قالت: نعم، يا سيدي، ولن أزال ما بقيت حية.
فقال: يا للعجب، وقد عهدتك سليمة القلب وأنت في صحة! فكيف وأنت في مرض؟! فهلا صفحت وأخلصت النية.
قالت: وفي أي شيء؟
قال: في أمر هذا الفتى، فإني لم أعد أرى منه من يوم تلك الحكاية إلا إخلاصا ومحبة.
فازداد اضطرابها لتذكرها الأيام الغابرة، وأرادت التكلم فلم تستطع، وغلب عليها البكاء، فألقت نفسها على الفراش وأخذت في البكاء.
فحاول والدها إسكاتها فلم يستطع، فاغتاظ منها ونسي محبته لها وانتهرها قائلا: كفى يا فدوى، كفى ما أصابك! ألا تزالين مشغوفة بحب الأموات، ومفضلة إياهم على الأحياء؟!
فلم تزدد إلا بكاء، فكلمها ثانية فلم تجبه، فازداد غضبه فتركها وخرج مغلقا الباب وراءه.
الفصل السبعون
إحياء الأمل
فلما خلت فدوى بنفسها أطلقت العنان لبكائها، وأخذت تخاطب نفسها قائلة: أواه من الدهر الخئون الذي أبقى لهذا النذل أرجلا يسعى بها إلينا، وبعث ذاك الملاك إلى أقاصي البلاد حيث لا نعلم له مقرا، فهل يا ترى ألتقي به بعد هذه المشاق؟ وهل تراه عيني؟ آه آه! ثم آه! وأخذت تلطم وتبكي حتى كاد يغمى عليها، ثم عادت إلى مناجاة نفسها قائلة: إني وحبك لا أزال على حبك حيا كنت أو ميتا؛ فإنك عندي بجميع أحياء هذا العالم، فكيف بمثل هذا الخائن النذل؟! أين عينك تراه وتبصر ما يفعل؟ تبا لك يا خائن، يا غادر! وأما أنت يا أبتاه، فما الذي هاج غضبك على ابنتك ووحيدتك التي كنت تقسم بحياتها، ولا ترضى الحياة إلا من أجلها، أتريد مني أن أبدل ذلك الملاك بهذا الشيطان، أم تريد أن أسلو ذاك الشهم؛ رب المروءة والنخوة، رب المحبة والوداد، وأتمسك بهذا النذل الكاذب الخادع المنافق. إن الحياة بعد ذلك لم تعد تحلو لي ... وفيما هي في الكلام سمعت الباب يطرق طرقا خفيفا، فأصاخت، وإذا ببخيت يقول: لا تخافي، يا سيدتي، إني عبدك بخيت. وفتح الباب ودخل وهو يستشيط غيظا ، فأمسك بيدها وأجلسها، وأخذ يخفف عنها، فانتهرته قائلة: دعني وشأني يا بخيت، فلم يعد لي مطمع بالحياة بعد أن صارت الكلاب تدخل عرين الأسود، فهل مات ذلك الأسد؟ من لي بمن ينبئني بمقامه حيا أو ميتا فأفديه بروحي، وعند ذلك إما أن أحيي أملي، أو أصرم أجلي وأتخلص من العار.
فأسكتها بخيت بلطف قائلا: طيبي نفسا يا سيدتي؛ لعل وقت الفرج قد دنا، وقد قيل:
ضاقت ولما استحكمت حلقاتها
فرجت وكنت أظنها لا تفرج
فالتفتت إليه مصغية وقد سكتت بغتة وقالت له: هل عندك خبر جديد؟ أخبرني.
قال: إن عندي خبرا جديدا أخبرك به متى سكن روعك وأصغيت إلى ما أقول. فمسحت دموعها وقالت ها أنا ذا قد أصغيت، فقل ما عندك.
فقال: اسمعي يا سيدتي، إن هذا الخائن إذا بقي حيا إلى الغد، فلن يبقى إلى ما بعده، ولو ساعدتني الأقدار لسقيته كأس المنون أمس، ولكن أبشري سوف أذيقه تلك الكأس عاجلا أو آجلا. آه من الأنذال، وأما المسألة الثانية، وهي الأهم، فقد عرفت شيئا جديدا عنها مما يختص بالدبوس.
فقالت مسرعة: قل حالا ماذا عرفت.
قال: قد عرفت أنه دبوس سيدي.
قالت: ذلك عرفناه من قبل، ولكن كيف وصل إلى هذه المرأة؟
قال: قد عرفت الرجل الذي جاء به إليها.
قالت: وأين هو؟ هل هو بعيد من هنا؟
قال: كلا يا سيدتي، بل هو قريب جدا، بل هو في هذا الفندق.
فوقفت فدوى على قدميها بغتة وقالت: أين هو؟ أخبرني، ومن هو؟ ماذا قال عن شفيق؟
قال: يا سيدتي هو الطباخ، وقد قال: إن سيدي شفيقا لم يسر في حملة هكيس باشا، بل ...
فانتفضت فدوى واشتدت عزائمها ومالت بكليتها إلى بخيت، وأمسكته بيده وهزته وقد لاحت على وجهها أمارات السرور قائلة: أين ذهب إذن؟ قل حالا.
قال: قد ذهب يا سيدتي في مهمة سرية إلى الأبيض.
فقالت: وهل هو حي بعد؟
قال: لا نعلم. عسى أن يكون حيا.
فأخذت فدوى تثب في أرض الغرفة كأنها أصيبت بجنة وهي تقول: حبيبي شفيق؛ سندي؛ فلذة كبدي. هل أنت حي بعد؟ قل يا بخيت، قل عن الأبيض - بيض الله وجهك، ونصرك على عدوك.
قال بخيت قارعا صدره: آمين، إن شاء الله، وأمسك فدوى بيدها وأجلسها، وقد اغرورقت عيناه بالدموع لما رأى من تلهف سيدته وقال: اجلسي يا سيدتي فأحدثك. فجلست وقص عليها الحكاية كما هي.
فلما استوعبتها وتأملتها جيدا قالت: ما رأيك يا بخيت؟
قال: الرأي أولا أن أقتل هذا الخائن، ثم أقول لك ماذا أفعل.
فقالت: اقتله. لا بارك الله فيه، ولكن ... وسكتت برهة.
فقال بخيت: لكن إيه ... إنه مستوجب القتل حرقا، فلا در دره من خائن غادر.
فقالت: لا يا بخيت، لا تقتله. إن شفيقا أوصى ألا نقتله، فهل نخالف الوصية؟
فوثب بخيت عن الأرض وحملق بعينه وقال: كيف لا نقتله وقد فرح بمقتل شفيق؟
قالت: لا لم يفرح، وإنما ...
قال: كيف لم يفرح وقد كتب إليك يوم سمع بمذبحة هيكس باشا يقول في جملة قوله:
من عاش بعد عدوه
يوما فقد بلغ المنى؟
قالت: ومتى كان ذلك؟ وكيف؟ فأخبرها.
فسكتت برهة ثم قالت: إن أخلاق شفيق لتأبى قتله مع ذلك، وأما الأمر الجدير بالاهتمام فإنما هو التفتيش عن شفيق، وإذا قدر لنا الظفر به، فإني أصفح عن هذا الخائن إكراما له.
فقال: لا، بل نقتله ليذهب فداء عنه.
الفصل الحادي والسبعون
وإذا تألفت القلوب على الهوى، فالناس تضرب في حديد بارد
وفيما هما في الحديث سمعا وقع أقدام، فعرفا أن الباشا قادم وتظاهرا بالسكون، فوصل الباشا مقطب الوجه، فرأى ابنته حمراء العينين، فازداد غضبه، فأمر بخيتا أن يخرج خارجا، ففعل، فنظر إلى ابنته شزرا ولحيته تنتفض في وجهه، ويداه ترتعشان، حتى كادت السيكارة تقع من يده من شدة التأثر قائلا: وما هي نهاية الأمر معك يا فدوى؟ أتريدين أن تلبسيني ثوب العار في هذه الديار؟
قالت: حاشا يا سيدي! لا ألبسك الله عارا، وكيف تقول هذا القول؟
قال: أقوله لأني رأيت أنك تريدين عصيان أمري، والانقياد إلى الأهواء ومغازلة الأموات.
فقال: لا تقل هذا يا أبتاه؛ فإنك بذلك تزيد أشجاني، وتهيج أحزاني، وتسود قلبي.
قال: وماذا؟ ألا تزالين راجية قيامة الأموات على هذه الأرض؟
قالت: إن آمالي لا تزال حية، وإن تكن الحياة فيها ضعيفة.
فنهض عن الكرسي بغتة وصرخ بأعلى صوته قائلا: يا للعجب لهذه الآمال الكاذبة! ألا تصدقين أنه مات حتى تريه رأي العين؟
فأجابته وقد اغرورقت عيناها بالدموع قائلة: لا تقل مات يا أبتاه، بل قل إنه حي يرزق، بإذن الله.
فقال: هل إذا قلت ذلك يقوم من بين الأموات؟
فقالت: قد قلت لك إن آمالي لا تزال حية، والله على كل شيء قدير، وهب أنه لا سمح الله غير حي، فماذا تريد مني؟
قال: أريد أن تطيعي أوامري.
قالت: إني رهينة كل أوامرك ما خلا ...
قال: لا تقولي ما خلا ... ويظهر أنك لا تزالين على غيك وعقوقك، وليست هذه شيم من تربى تربيتك. فسكتت ولم تجبه، واشتغلت بمسح دموعها بمنديلها، فابتدرها هو بالكلام قائلا: وما رأيك الآن؟ ألا تزالين على ما أنت عليه؟
قالت: إني لا أزال ابنتك الحقيرة، وروحي بيدك إلا ... فغضب الباشا وانتهرها قائلا: قلت لك دعينا من الاستثناءات، وعليك بترك الحقد والتمسك بالإخلاص.
فقالت: ها إني قد أخلصت، وهل تظن أني أريد بهذا الرجل سوءا، حاشا لله! ولكن ماذا يترتب على هذا الإخلاص؟
قال: متى تأكدت إخلاصك أخبرك ماذا يترتب عليه في فرصة أخرى، فانهضي الآن واغسلي وجهك، وخففي روعك، ودعي عنك الهواجس. إنها مجلبة للسقام. إلى متى تعلقين آمالك بحبال الهواء، وإني لأعجب من هذا العناد بعد أن سمعت بأذنك عندما سألنا شفيقا عن مذهبه ووطنه، فلم يقدر أن يحقق لنا ما إذا كان مسلما أو غير مسلم، ولا ما إذا كان من الشام أو مصر، فافرضي أنه حي، فهو ليس من أمثالنا، ولا يجب أن نعلق به آمالنا.
فكان هذا القول في قلب فدوى كالسهام، ولم يزدها إلا ولعا بشفيق، ولكنها نهضت وغسلت وجهها وهي عالمة بما يضمر والدها ، وقد أغضت عنه اختصارا للمقال، وتخلصا من القيل والقال، وأضمرت في باطن سرها الإصرار على عزمها مهما حال دون ذلك من الأهوال.
الفصل الثاني والسبعون
المانيتزم أو النوم المغناطيسي
فلما رأى منها ذلك انبسط وجهه؛ ظنا أنها وافقته، وقد تجددت آماله بالاستيلاء على أموال عزيز، وخرج إليه فإذا هو في انتظاره في غرفة الاستقبال، فلما رآه وقف احتراما له، ولما رآه منبسط الوجه استبشر بنيل مبتغاه، ولكنه لم يفاتحه بشيء.
أما الباشا فلم يمكنه إخفاء عواطفه فقال: يظهر أنها لانت، ولكنني لا أصدق مواعيدها؛ لأنها لا تزال تذكر ذلك الشاب.
فقال عزيز مراوغا: لا يمكننا تعنيفها على ذلك؛ لأن محبته تمكنت من قلبها وهو شاب قريب من القلب، ولكن ما الحيلة فقد مات، وعلينا أن نسعى إلى تعزيتها وتسليتها عن محبته؛ لئلا تضر بصحتها.
فقال الباشا: لقد نطقت بالحق؛ إذ لا فائدة من محبته متى صار في عداد الأموات، ولكني لا أعلم كيف أبغضه إليها.
فقال عزيز: لقد خطر لي الآن طريقة تريحنا جميعا، فهل أعرضها على سعادتك؟
قال: قل ما بدا لك.
قال: قد قرأت في بعض المجلات العلمية عن علم حديث يقال له: علم التنويم المغناطيسي؛ وهو نوم اصطناعي يستخدمه بعض الأطباء اليوم، ويقولون في منافعه أقوالا غريبة، فهم ينومون المريض باللمس والتكبيس، ويزعمون أنه إذا نام يسألونه عن مرضه، فيشرح لهم حقيقته وعلاجه شرحا وافيا، وقد قالوا إن النائم على هذه الكيفية يتنبأ بالغيب، ويكتشف المجهولات، وهم لا يؤكدون ذلك، وإنما يؤكدون خاصة أخرى لا شك فيها؛ وهي أن المنوم يتسلط على إرادة المنوم تسلطا مطلقا حتى كأنه عضو من أعضائه يعمل ما يأمره به، فإذا نوم شخص شخصا وقال له وهو نائم: إذا صحوت فابغض فلانا وأحب فلانا؛ فعل، ولو كان يحب ذاك محبة شديدة، ويبغض هذا بغضا شديدا، وهو لا يعلم السبب، ولا يدرك أن ذلك التغيير إنما كان بطريق التنويم.
فتعجب الباشا لذلك وقال: أحقيق هذا يا عزيز؟ ومن هم المنومون؟
قال: هذا أمر لا شك فيه، وأما المنومون فهم في الغالب من الأطباء، وقد قل من يستطيع التنويم من أطبائنا؛ لأنه فن حديث قلما تعاطاه أبناء هذه البلاد. أما في بلاد الإفرنج فهو كثير الانتشار.
قال: وهل يخضع كل إنسان لسلطان المنوم؟ قال: لا، وإنما النساء أكثر قبولا له من الرجال، والعصبيات أكثر من سواهن.
قال الباشا: فتكون فدوى إذن من أقبلهن له، وهذه وسيلة تكفينا مئونة المشقة، ويا ليتنا عرفناها قبل الآن، ولكن على من نعتمد في التنويم هنا؟
قال: قلت لك إن الذين يعرفونه قليلون، ولكن يمكننا سؤال الأطباء الماهرين عنه.
فلاح للباشا أن الدكتور «ن» أفضل الجميع لذلك، فقال لعزيز: إن طبيبا من أشهر أطباء هذه المدينة قد عرفته وأحببته، وأظنه أعرف من الجميع بهذه الأمور.
قال عزيز: ومن هو؟
قال: الدكتور «ن» الشهير.
فعرف عزيز أن هذا الرجل تمنعه استقامته عن استخدام التنويم المغناطيسي؛ لعلمه أن استخدامه لهذه الغاية ممنوع شرعا وعرفا؛ لما يتأتى عنه من الأضرار، فقال: إن هذا الطبيب على شهرته لا يستطيع التنويم؛ لأنه شيخ طاعن في السن، ولا بد للمنوم من أن يكون شابا قوي البنية لكي يمكنه التسلط على المنوم، فإذا شئت مرني فأدبر طبيبا يكون وافيا بالمطلوب.
قال الباشا: فافعل.
فسر عزيز لنجاح مسعاه، وأخذ يفكر فيمن يوافقه على هذه الفعلة الشنعاء، ثم نهض مستأذنا ليذهب ويأتي بأمتعته إلى ذلك الفندق، فأذن له، وبقي الباشا وهو ليس أقل فرحا بهذا الاكتشاف من عزيز.
الفصل الثالث والسبعون
سفير الهوى
أما فدوى فلبثت بعد خروج والدها تفكر في أمرها، وتدبر وسيلة لنجاتها، فدخل عليها بخيت فأخبرته بما تم لها مع والدها، فكاد يتميز غيظا وقال لها: ما لنا ولهم؟! إنك ما دمت محافظة على عهود شفيق لا أخاف عليك شرا، بإذن الله، وأما شفيق فقد دبرت وسيلة للتفتيش عنه.
فقالت: وكيف ذلك؟
قال: إني اتفقت مع عبود الطباخ أن يذهب إلى السودان ويأتينا بالخبر اليقين بأسرع ما يمكن من الوقت، ودفعت إليه شيئا من النقود سلفا، ولم أخبره كنه الأمر، ولكني قلت له إنني سأعطيه كتابا يوصله إليه حيثما يراه.
قالت: ولكن أين يفتش عنه؟ إن السودان بلاد واسعة.
قال: نعم، ولكن مركزها مدينة الخرطوم التي قد ذهب إليها غوردون باشا مؤخرا لإنجاز مسألة السودان، فمتى وصل إليها عبود يستطلع منها الخبر.
قالت: لقد أحسنت السياسة، بورك فيك.
أما عبود، فكان قد عثر على صورة شفيق في مكان فحفظها عنده؛ ليتذكر بها سيده، فلما طلب إليه بخيت الذهاب في تلك المهمة استبشر بالفوز، وأخذ يعد معدات السفر، ولكنه ألح على صاحب الفندق أن يبيع الدبوس لبخيت، فباعه إياه بمضاعف ثمنه، وأكرم بخيت عبودا بمال كثير، فخيل له أن نجم سعده قد تسلط، ونجوم نحسه قد أدبرت، ولبث في بيروت بضعة أيام ينتظر إعداد الكتاب إلى شفيق.
أما فدوى فكتبت إلى شفيق كتابا هذا نصه:
يا شقيق الروح ومنى القلب
أكتب إليك هذا الكتاب من بيروت غير عالمة بمحط رحالك، ولا ما إذا كانت الأقدار تعد لي أياما أنسى بها ما قاساه هذا القلب من العناء، وما عانيته في حبك من المشاق، فهل تسمح لي الأيام برؤيتك بعد طول الغربة؟ وكنت قد يئست من بقائك (وا لهفاه!) في عالم الأحياء حتى ظفرت بناقل هذا إليك، فقص علي قصة جددت آمالي، وأحيت ما بقي في من رمق الرجاء، فإذا تحقق لي هذا الأمل فلا يكون على وجه هذه البسيطة أكثر سعادة مني، وأما إذا ذهبت مساعي أدراج الرياح، فلا ألبث أن أعلم بفشله حتى ألحق بك عاجلا؛ إذ إن ذلك خير لي من معاناة الوجد الذي كاد يذهب برشدي، بعد أن ذهب بصحتي، وأتخلص من شر هو أعظم ما أتخوفه؛ ذلك أني أخشى الوقوع فيما نصبه لي ذلك الذي لم ترض الإجهاز عليه، فتركته لي عثرة وشركا يتبعني حيثما توجهت، وينصب لي الشراك حتى أوغر قلب والدي علي، ولا أدري ما الذي سلطه على قلب ذلك الوالد حتى جاء يتهددني في سلواك، ويشير علي باستبدالك بمن لو خيرت ما اخترت غير الموت على رؤيته.
فإذا وصل إليك كتابي، فبادر إلى إنقاذي من مخالب الموت والعار. هذا إذا لم يدركني المحظور قبل وصولك، والسلام.
الداعية
الباقية على عهدك
فدوى
كتب في فندق بسول ببيروت
غرة مايو سنة 1884
ثم ختمت الكتاب وبعثت به مع بخيت، فسلمه إلى عبود وأوصاه بالإسراع، فاستعفى هذا من الفندق، وسار في باخرة قاصدا الديار المصرية؛ ليسير منها على النيل إلى الخرطوم؛ لعلمه أن طريق سواكن لم يعد يمكنه سلوكها لاستفحال أمر عثمان دقنا فيها، فوصل القاهرة في شهر مايو سنة 84، فركب القطار إلى أسيوط، ومن هناك اكترى جملا سريع الجري، وسار على البر الغربي في عطمور الأربعين، قاصدا دنقلا، ومديرها يومئذ مصطفى بك ياور، فوصلها في أواخر يونيو (حزيران)، فإذا بأهل المدينة في هرج ومرج، واستعداد إلى حرب، فسأل عن السبب، فقيل له: إنهم سائرون لمقاتلة الدراويش في الدبة، وكان عبود يظن أن الطريق إلى الخرطوم آمنة، فلما سمع الخبر وقع في حيرة، ثم أخذ يطوف في الأسواق لتحقق الأمر، فدخل وكالة شاهد فيها بعضا من التجار السوريين، فتقرب من أحدهم واستطلعه كنه الخبر، فأكد له إياه وأخبره أن الطريق من هنا إلى الخرطوم لا يستطيع رجل أو جماعة قليلة أن يقطعها؛ لأن الدراويش قد انتشروا فيها، والخرطوم في حصار شديد، فارتبك في أمره، فقال له التاجر: وما غرضك من الخرطوم؟ قال: إني أفتش عن سيدي هناك، قال: لا يمكنك الوصول إليه كما هي، ولا سيما إذا لم يفز رجالنا بقتال العصاة. أما إذا فازوا فقد تنفتح الطريق، وأملي أن مصطفى بك يقوى على أولئك؛ لأنه رجل من الأولياء الأتقياء إذا أطلق عليه الرصاص لا يخترق لحمه، وإذا سار إلى حرب فلا يستصحب من السلاح إلا حربة قصيرة في يد، والسبحة في اليد الأخرى، ولا يكف عن الصلاة والدعاء ما طالت المعركة.
وفيما هما في الحديث إذا بجماعات الجند يسيرون، فعلم أنهم يريدون الدبة، ورأى وراءهم فارسا نحيف الجسم، قصير القامة، عليه الجبة والقفطان ، وفي ركبه جماعة من الحشم، فسأل عنه فقيل له: إنه المدير ذاهب في رجاله لمقاتلة العصاة.
فالتفت عبود إلى صديقه التاجر قائلا: وما رأيك الآن؟ قال: الرأي عندي أن نلبث هنا لنرى ماذا يكون من أخبار الحرب، وإني أدعوك إلى منزلي لتقيم عندي الليلة وما بعدها، حتى تعلم ماذا يتم. فامتدح عبود تلك الشهامة، واستأنس بذلك التاجر؛ لأنه ابن وطنه، وكان قد هاجر إلى دنقلا مع والده صغيرا، وأما التاجر فكان أكثر استئناسا به.
فسارا به إلى بيته، وعبود ينقم على ذلك التأخر خوفا من حبوط مسعاه، فلما وصلا المنزل إذا به بيت حقير مبني بالطين، بابه صغير لا يدخله الإنسان إلا ساجدا، فبات تلك الليلة بعد أن تناول العشاء وهو يفكر في أمره، وأصبح وهو في شاغل، وبعد مضي بضعة أيام وصلت الأخبار بانتصار المدير على العصاة، فظن ذلك الانتصار كافيا لإخماد الثورة، وفتح الطريق، وحملته العجلة على أن يسرع إلى المسير في أقرب الطرق إلى الخرطوم، واستشار صديقه، فأشار عليه أن يتربص قليلا وقال له: قد بلغني أن الحكومة الإنكليزية أقرت على إرسال حملة إلى الخرطوم لإنقاذ غوردون، وستمر بدنقلا فتسير برفقتها. فأجاب عبود أنه لا يستطيع صبرا، فقال له: إذا كان لا بد من سفرك، فأقرب طرق الخرطوم من هنا طريق في الصحراء جنوبا ماؤها قليل، فقال: لا بأس، إني أسير فيها. فاستحضر له خبيرا يرافقه، فجعل عبود ثيابه وأوراقه كلها في حصير صغير صنع السودان يقال له برش، ولف البرش عليها، وربطه وشده إلى رحل الجمل، وركب وسار مع خبيره، ولكنه لم يكد يبعد عن دنقلا مسيرة يوم حتى أدركه جماعة من العرب سلبوه ثيابه وكل متاعه، ولم ينج من الموت إلا بالجهد، فعاد إلى دنقلا وقد فقد الرسم والكتاب في جملة الأمتعة، فأخذ يندب سوء حظه. وقد ندم على ما فعل؛ لأنه لم يصغ إلى رأي صديقه، فلما عاد إليه عنفه على عمله، وأشار عليه أن يتربص إلى مجيء الحملة فيسير برفقتها.
الفصل الرابع والسبعون
مسير الدراويش إلى الخرطوم
فلنترك صاحبنا عبودا في انتظار الحملة، ولنعد إلى شفيق في الأبيض حيث تركناه ينتظر الفرج من عند الله، فلبث حتى إذا كان ذات صباح علم أن المهدي أمر باستعراض جيشه استعراضا عاما.
وفي صباح الغد، حضر الجميع إلى ساحة متسعة خارج البلدة؛ حيث استعرضت الجنود، ثم جاء المهدي وخلفاؤه وأمراؤه، فوقف المهدي بعد الصلاة للخطبة في الجماهير، فسأل شفيق حسنا عن سبب هذا الجهاد، فقال: إن الحملة سائرة لمحاصرة الخرطوم. فلما انتصب المهدي للخطابة صمت الناس وأطرقوا إصغاء لقول زعيمهم.
فافتتح كلامه بالفاتحة، ثم أخذ يستحث الناس على الجهاد، ويغريهم بالقتل والاستشهاد. ولما أتم خطبته، أخذ الدراويش في الدعاء والتكبير، وقد هاجت عواطفهم وأصبحوا لا يخافون الموت.
ولما انتهى الاستعراض، وبلغت الأوامر بالسفر إلى جهات الخرطوم لنصرة الدراويش المحاصرين لها، وتشديد الحصار عليها، عاد المهدي إلى مجلسه بعد أن وكل قيادة الحملة إلى الأمير ولد النجومي، على أن يتولى القيادة العامة لجنود المهدي التي هناك بعد وصوله إلى جهات الخرطوم. وكان من قواد المهدي في حصار الخرطوم الأمراء أبو جرجه وولده البصير حمد المهدي، والأمير الفضل، والأمير عبد القادر ولد أم مريم، والأمير مصطفى بن الفقي الأمين، وشيخ الأبيض وغيرهم، وجميع هؤلاء تحت قيادة ولد النجومي.
أما شفيق، فاجتمع برفيقه حسن، وسأله عما سيكون من أمره، فقال: إنك ذاهب برفقة هذه الحملة إلى حصار الخرطوم. وهذا ولد النجومي؛ رئيس الحملة، سيسافر بعد غد، فتسير أنت بصحبته كأحد الكتبة.
فقال شفيق: وكم عدد هذه الحملة المسافرة؟ قال: عشرون ألفا، فقال: وهل هذه هي القوة التي ستحاصر الخرطوم؟ فقال حسن: اعلم يا أخي أن معظم الدراويش الآن محيطون بالخرطوم وأم درمان، وقد بدءوا بحصارها منذ عودنا من محاربة هيكس؛ أي قبل أن يأتي غوردون إلى السودان، ولكن المهدي أراد تعزيز القوة المحاصرة حتى يضايقوا المدينة ويأخذوها بالتسليم جوعا وغوردون فيها.
فقال شفيق: وهل أنت ذاهب معنا إلى هناك؟ قال: لا؛ لأن الأوامر لم تصدر إلي بذلك بعد. ويا حبذا لو أتيح لي الذهاب معك! وإني أهنئك بهذا السفر؛ لأنك ستكون قريبا من بلادك، وربما أتيح لك الخروج من معسكر الدراويش ودخول الخرطوم، فتدخل في حوزة الحكومة المصرية وتتخلص من هذه المرقعية.
ففرح شفيق بذلك، ورأى بابا للفرج، وذهب إلى حجرته وأخذ في الاستعداد لطريقة يتخلص بها من هذه العبودية، ثم سافرت الحملة بعد الغد يتقدمها النقارات والفرسان، وفيهم الأمراء، ثم المشاة، وجميعهم في لباس الدراويش المتقدم ذكره، ووراء الجميع النساء والأولاد. وكان شفيق قد اعتاد طعام الدراويش. أما طعام السفر فقاصر على الذرة اليابسة، فكل رجل يحمل جرابا فيه قدر من الذرة كلما جاع أكل منه شيئا، وقل بينهم من يحمل سقاء ولو كان طريقهم في الصحراء؛ لأنهم يصبرون على العطش. وأما شفيق، فلم يكن كذلك، فقاسى في سفره هذا عذابا أليما من العطش والجوع. وكان قد ودع صديقه حسنا يوم خروجهم من الأبيض، فلما أبعدوا عنها أياما اشتاق إليه وإلى مجالسته؛ لأنه كان تعزية كبيرة له في تلك الديار، وما زالت الحملة سائرة في البر تمر تارة بصحراء، وطورا بغابات، وأخرى في جبال، حتى وصلوا إلى جوار الخرطوم، فبعث ولد النجومي الأخبار إلى رجال المهدي في الجهات المجاورة، فأخذوا في الاجتماع من سائر النواحي حتى زاد عددهم على مائة ألف، ففرقهم ولد النجومي فرقا، وأرسل كل فرقة إلى مركز في جوار الخرطوم.
الفصل الخامس والسبعون
حصار الخرطوم ومجيء الإنكليز
موقع الخرطوم عند نقطة اجتماع البحرين الأزرق والأبيض اللذين يتكون منهما النيل، وبين ملتقى هذين البحرين والنيل جزيرة مثلثة يقال لها جزيرة توتي، فالخرطوم واقعة على مقابل ضلع المثلث الجنوبية، يحدها من الشمال النيل الفاصل بينها وبين الجزيرة والبر الآخر، ومن الغرب البحر الأبيض، ومن الجنوب البر، وعليه سور موصل بين البحرين، بحيث أصبحت الخرطوم محصنة من جهتين بالنيل، ومن الثالثة بالسور. وكان شفيق قد شاهد هذا السور لما مر بالخرطوم المرة الماضية، ولكنه علم عند وصوله هذه المرة أنهم حفروا حوله خندقا كبيرا في غيابه، حتى أصبح منيعا. والسور المشار إليه قائم على مسافة من المدينة بحيث يكون بينه وبينها خلاء.
فلما وصلت قوات ولد النجومي إلى جوار الخرطوم شدد عليها الحصار، فبعث فرقا من رجاله إلى البر المقابل لها من الشمال، وفرقا إلى البر الآخر المقابل لها في الغرب، وبقي هو في فرقته وراء السور بالقرب من محلة يقال لها كلاكلا، وشددوا الحصار على الخرطوم وعلى أم درمان على البر الغربي ومقابل الخرطوم، حتى أصبح غوردون وأهل الخرطوم في ضيق عظيم وقد لبسوا لباس الجوع والخوف.
أما شفيق فكان يستطلع أحوال أهل الخرطوم، فعلم أنهم في ضيق، وأنهم سينتظرون نجدة من إنكلترا لإنقاذهم، فمضى الشهر والشهران والثلاثة ولم تأت تلك النجدة، حتى أصبح أهل الخرطوم في يأس، وأمسى شفيق قليل الرغبة في الفرار إلى الخرطوم؛ خوفا من أن يفر من بلاء فيقع في أعظم منه، فإنه إذا دخل الخرطوم فلا يقدر على شيء ينفعها به، ولكنه يجعل نفسه عرضة للقتل إذا ظفر المتمهدي بالمدينة، وهو الظافر بها إذا لم تسرع الحملة الإنكليزية بالمجيء، فوقع في حيرة لا يدري أيسير إلى الخرطوم ويعرض نفسه للخطر والجوع، أم يبقى مع الدراويش ويحارب حكومته وإخوانه.
وبعد قليل، جاء المتمهدي من الأبيض وانضم إلى جنوده في الخرطوم، فأصبحت قوة المهدويين عظيمة، حتى لم يعد عند شفيق ريب بسقوط المدينة إذا لم تأت الإنكليز لنجدتها، وعليه نزع من فكره أمر الفرار في الأحوال الحاضرة، ولكنه أحب مشورة صديقه حسن. وكان قد جاء إلى هناك، فقال له: ما رأيك بالفرار إلى الخرطوم؟ فضحك حسن قائلا: والله لو آنست من الفرار نفعا لكنت أول الفارين، ولكنني أؤكد لك أن الخرطوم لا تستطيع المقاومة طويلا؛ لأنها في ضيق من قلة المؤن كما قد علمت. وإذا كان الإنكليز لم تأت أخبارهم بالمجيء حتى الآن، فلم يعد يرجى منهم مساعدة، فالخرطوم لا تلبث أن تسقط في أيدي جماعتنا، فالأفضل أن تكظم ما بك لنرى ماذا يأتي به الغد.
فصبر شفيق نفسه منتظرا بابا للفرج، وفيما هو جالس يوما يفكر جاءه حسن ضاحكا وقال له: ما الذي يهمك الآن في هذه الغربة، قال: يهمني أن أعرف ما جرى بأهلي. ألا تظن وقت رجوع الجواب من القاهرة قد آن، قال حسن: بلى، وهذا هو الرسول قد عاد، فاسأله عما تشاء. فلما خلا به قال الرسول: إني سألت في قنصلاتو إنكلترا عن والدكم فلم ينبئني عنه منبئ، وإنما علمت أنه باع أمتعته وفرشه وهاجر الديار المصرية، ولا يعلمون إلى أين توجه، فلم أستطع تسليم الكتاب إليه، فذهبت إلى بيت الباشا فقيل لي إنه في بر الشام، فوجدت امرأته في البيت فدفعت إليها الكتاب ولم تعطني جوابا. فأخذ شفيق يندب نفسه ويبكي وهو قلق على والديه وعلى فدوى؛ لا يدري مقرهم.
وأخبرهم الرسول أن الحكومة الإنكليزية أعدت حملة تبعث بها لإنقاذ غوردون باشا والخرطوم، فسره مجيء الحملة واستبشر، ولكن الكدر غلب عليه، على أنه تجلد وعاد إلى حسن وشكره على تلك المنة، وأعطى الرسول أجرته، فالتفت إليه حسن قائلا: ما وراءك يا شفيق؟ قال: إن ورائي خبرا يسرك وخبرا يسوءني، قال: قل. ماذا عسى أن يكون ذلك؟ قال: أقوله لك على شرط أن تحفظه سرا؛ لأنه لم يبلغ أحدا غيري في جميع السودان، حتى ولا غوردون نفسه، فقال حسن: إنك، يا أخي، ماس صدق إخلاصي لك، وهل تعهد بي غير الإخلاص؟ قال: لا، ولذلك أخبرك أن الجنود الإنكليزية قد خرجت من مصر قادمة على النيل لإنقاذ الخرطوم، فما ترى؟
فبهت حسن وصرخ قائلا: هل ذلك صحيح؟ قال: نعم، ونحمد الله أن وقت النجاة قد دنا، فما العمل؟ قال شفيق: لم يعد لي صبر على الذهاب إلى الخرطوم، فقال حسن: ولكن تمهل يا أخي؛ إن في التأني السلامة، وفي العجلة الندامة.
فقال شفيق: أنخاف بعد الآن والإنكليز قادمون لإنقاذنا، ونحن نعلم أن المتمهدي نفسه يقر بعدم استطاعته التغلب على الخرطوم إذا وصلها الإنكليز؟ فالرأي أن نفر إلى الخرطوم ونلتجئ إلى غوردون؛ لعلنا نفيده في شيء، فقال له حسن: أما أنا فلا أستصوب العجلة في هذا الأمر.
قال شفيق: أما أنا، فالأرجح أنني أخرج من هذا المعسكر إلى الخرطوم في هذين اليومين، فلم يوافقه حسن على ذلك، ثم رأى الأصوب أن يتربص بضعة أيام.
الفصل السادس والسبعون
مجيء الإنكليز لإنقاذ غوردون
وبعد يسير، علم المتمهدي بوصول الحملة إلى كورتي، واهتمامها بالقدوم في صحراء البيوضة إلى المتمة وشندي، ومنها إلى الخرطوم، فبعث من رجاله حملة تحت قيادة موسى ولد حلو وأبي صافية؛ لتقطع عليهم الطريق عند آبار أبي طليح وراء المتمة بمسافة يوم؛ حتى يمنعوهم من الوصول إلى النيل، فبلغ ذلك شفيقا، فسر وابتهج لتحقق أمر الحملة ومجيئها، ولكنه تربص ليعلم ماذا يكون من أمر الملتقى بين الفريقين هناك؛ ليتحقق لديه ظنه.
فلما كان يوم عشرين يناير سمع إطلاق المدافع في معسكر المتمهدي، فتعجب؛ إذ لم يكن يعلم بما يوجب ذلك؛ لأنهم بعيدون من الخرطوم، والدراويش ليسوا في حال حربية، فسار إلى صديقه حسن، وفيما هو في الطريق إليه مر بجماعات من الدراويش يتعجبون من أمر ينظرون إليه، فتقدم إليهم، فإذا بجماعة منهم في أيديهم برانيط إنكليزية، وآخرون يقلبون قطعا أخرى من ثياب الإنكليز، وآخرون غير ذلك من أسلابهم، فأوجس خيفة حتى كاد يتحقق لديه أن المهدويين فازوا بالإنكليز وجاءوا بأسلابهم. فلما وصل إلى صديقه سأله عن السبب فقال له: إن صاحبنا المتمهدي علم بانكسار رجاله في أبي طليح والمتمة، فأراد أن يوهم من معه خلاف ذلك، فأمر بإطلاق مائة مدفع ومدفع، وهي علامة النصر؛ إيهاما لرجاله أن رفاقهم في أبي طليح فائزون، وأما هذه الأسلاب فلا عبرة بها؛ إذ قد يترك الإنكليزي كل ثيابه في ساحة الحرب ولا يبالي.
فقال شفيق: وما قولك بعد هذا يا حسن؟ قال: إني صرت مائلا إلى رأيك، ولكنني سمعت أن المتمهدي جمع خلفاءه والمقربين من الأمراء في هذا الصباح للشورى، وفي المساء نعلم ماذا يكون من اجتماعهم.
قال شفيق: كيف يمكنك أن تعرف ذلك إذا كانت الشورى سرية.
قال: إن لي بينهم صديقا حميما لا يخفي عني شيئا، فإذا أتيتني في صباح الغد أخبرك بماذا يتم، فقال شفيق: حسنا. ومضى.
وفي الصباح التالي، جاء شفيق وقد صمم في باطن سره على الفرار من معسكر المتمهدي إلى الخرطوم، فلما التقى بصديقه استطلعه الخبر، فقال له: اجلس لأخبرك بما تم في اجتماع أمس.
فجلس شفيق وجلس حسن بجانبه يقص عليه قال: اجتمع المتمهدي أمس بخلفائه المعلومين، وبالمقربين من رجاله، ولما استتب بهم الجلوس قرءوا الفاتحة، ثم قال لهم المتمهدي: جاءتني الحضرة في الليل الغابر، وقد جمعتكم لأقص عليكم ما قاله لي
صلى الله عليه وسلم ، فقد أمرني بالهجرة إلى الأبيض؛ لأن الإنكليز قوم لا نقوى على قتالهم، فإذا كان غوردون وهو فرد منهم قد دافعنا شهورا، فكم يفعل الآلاف منهم وقد ظفروا برجالنا المحنكين في أبي طليح؟! أفلا يستطيعون غلبتنا؟! فماذا ترون؟ فوافقه الجميع في رأيه إلا الأمير محمد عبد الكريم، فإنه اعترض على الهجرة قائلا: إننا نهاجم الخرطوم مهاجمة اليأس، فإن ظفرنا بها فلا يعود الإنكليز ولا غيرهم يستطيعون الوقوف أمامنا، وإذا ظفروا بنا، فإن الهجرة مستدركة لا تفر من أمامنا. وارفض المجلس مرجحين رأي عبد الكريم، على أن يعودوا إلى الاجتماع مرة أخرى.
فقال شفيق: ها قد تحققنا حبوط مسعى المتمهدي، ولم يعد لدينا ما يمنع انحيازنا إلى حامية الخرطوم.
فقال حسن: إن لدي موانع تحول دون مرافقتي إياك، وأما أنت فسر بحراسة الله، فإنك تلاقي صدورا مفتوحة، وإذا قدر لنا الاجتماع ثانية، فإننا لا نفترق بعد ذلك، بإذن الله.
الفصل السابع والسبعون
الخرطوم أثناء الحصار
فلما كانت الشمس في الهاجرة، وقد اجتمع الجميع إلى الصلاة، ولى شفيق وجهه الخرطوم وسار يريد باب المسلمية من أبواب السور، فلما بعد عن معسكر المهدي، رفع عصا عليها منديل أبيض، فلما رآه حامية الخرطوم من السور علموا أنه آت مسالما، ففتحوا له الباب فانذهل لما شاهد من متانة ذلك السور، وعمق خندقه، وكانوا قد حفروه أثناء غيابه، وعرضه نحو 17 مترا، وعمقه عشرة أمتار،
الحصون، وكان أسود اللون، طويل القامة، فلما رأى شفيقا في لباس الدراويش، سأله عن أمره فقال: إنه يريد مواجهة غوردون باشا، فأخذه وسار به إلى المدينة، وبين السور والمدينة خلاء، والسور يشبه قوس دائرة محيطا بجانب من المدينة ينتهي طرفه الواحد في البحر الأزرق، والآخر في البحر الأبيض. طوله زهاء ستة أميال، وبينه وبين المدينة ميلان أو أكثر، فساروا بشفيق شرقا قاصدين سراي الحكومة على البحر الأزرق؛ حيث يقيم غوردون، فنظر شفيق إلى جانبيه عند دخوله السور، فإذا بالجنود متفرقة جماعات، وأسلحتهم منصوبة ثلاثا ورباعا على طول ذلك السور، والرجال بين متوسد خائر القوى، وضائر يئن جوعا، وقد علت وجوههم علامات الضعف واليأس، فلما رأوا شفيقا استبشروا بقدومه؛ ظنا منهم أنه إنما جاء لمخابرة سرية ربما كان فيها خير؛ لأنهم كانوا يزعمون أن المتمهدي بعد أن علم بمجيء الجنود الإنكليزية أصبح راغبا في الصلح والتسليم، ولكنهم كانوا في ريب من أمر المدافع التي أطلقت الليلة الماضية؛ لعلمهم أن مثل ذلك العدد من المدافع لا يطلق إلا لانتصار، فتقاطر جماعة منهم ينظرون إلى شفيق وهم بين سوداني وباشبوزوق وجندي مصري وغير ذلك، فرأوا على وجهه أمارات البشر، وأنه ليس على شاكلة رجال المتمهدي إلا بلباسه، فأحبوا للهفتهم أن يسألوه عن أمره، فانتهرهم الضابط السائر بصحبته وأمرهم أن يرجعوا - وكانوا قد وصلوا القشلاق في وسط تلك الساحة - فدخل بعضهم القشلاق، وعاد البعض الآخر إلى السور. أما شفيق فما زال سائرا حتى دخل المدينة، فإذا بها قليلة الناس؛ لتقلد أهلها السلاح، واشتراكهم في الدفاع، ولم ير أسواقا مفتوحة، ولا أحدا مارا فيها ما خلا بعض الفقراء المطروحين في الشوارع يتضورون جوعا في حال النزاع. هذا يئن وحوله أطفاله يبكونه، وامرأته تلطم وجهها وتندب حظها وهي لا تستطيع النهوض لشدة الضعف. وشاهد في يد بعضهم (عرناس) ذرة مجردا من الحب يحافظ عليه محافظته على أعز ما عنده، وهو ينظر ذات اليمين وذات اليسار؛ لئلا يختطفه أحد من يده، فلما رأى شفيقا بلباس الدراويش والخفر إلى جانبه، نظر إليه مناديا: أما تخافون الله وأنتم مسلمون أن تضايقونا هذه المضايقة، وتمنعونا من المؤن، فإذا كان صاحبكم هذا مهديا، فكيف يستحل دم المسلمين؟! فضحك شفيق ولم يجب ببنت شفة، ولكن قلبه كاد يقطر دما لما عاينه في تلك المدينة من الضيق، وخاف أن يتهور بعض أهلها لضيقه فيرميه ببندقة أو سهم، فلازم الخفر.
فلما جاءوا السراي سألوا الخفر عند الباب عن الحكمدار، فقيل لهم: إنه سار لتفقد قلعة بوري عند الطرف الشرقي للسور، وإنه ربما يسير من هناك على محاذاة السور لتفقد حاميته، ثم ينعكف إلى الغرب لتفقد قلعة موكران على ضفة النيل غربي المدينة. فاضطر شفيق إلى الانتظار هناك ريثما يعود، ولكنه سأل عن وقت عودته بالتقريب، فقيل له: إنه يكون هنا نحو الغروب؛ لأن أعيان المدينة سيجتمعون إليه الليلة، فقال شفيق: إذن أنتظره حتى يعود. فسلمه الخفر إلى خفر السراي، فأدخلوه إلى غرفة جلس فيها ينتظر عود غوردون وهو يفكر بالحالة التي وصلت إليها حامية تلك المدينة، ويعجب لتأخر الحملة الإنكليزية إلى ذلك الوقت، ولكنه قال في نفسه: إن الذين احتملوا الحصار سنين لا يصعب عليهم احتماله أياما قليلة. وكان ينتظر الفرج القريب؛ لأنه علم أن جيش المتمهدي خائف من الإنكليز، وعول أن يطلع غوردون على مقاصد المهدي، ثم تصور أنه نجا من تلك الأخطار وعاد إلى القاهرة، فاضطرب فؤاده لتذكره خبر الرسول بسفر فدوى إلى بر الشام لتغيير الهواء، فخطر رسمها في باله، فمد يده إلى جيبه ليستخرجه، فسمع وقع أقدام كثيرة ولغطا، فأصاخ أذنيه، فإذا بجماعة يسألون عن غوردون باشا؛ بعضهم يتكلم العربية، وبعضهم الفرنسوية، وبعضهم لغات أخرى، فدنا إلى نافذة تشرف على صحن السراي، فإذا بجماعة من الأعيان على معظمهم اللباس الإفرنجي، فتأملهم جيدا، فعرف أكثرهم، وفي جملتهم المستر بور؛ مكاتب جريدة التيمس - وكان قد جاء بصحبة حملة هيكس، وبقي في الخرطوم بعد مسير الحملة - والمدير أحمد بك علي يالله، ونيقولا ليونتيدس؛ قنصل دولة اليونان، وإبراهيم بك فوزي، وفتح الله جهامي؛ أحد التجار السوريين - وكان قد تقلد مصلحة النقل والحمل - والدكتور نقولا بك؛ مفتش صحة السودان العام، وغير هؤلاء ممن لم يعرفهم، وسمعهم يتضجرون من تلك الحالة ويتذمرون فيما بينهم من إبطاء الحملة الإنكليزية في الوصول إليهم، فعلم من مجمل حديثهم أنهم آتون للمفاوضة في وسيلة يتصلون بها إلى نتيجة نهائية.
وفيما هو ينظر إليهم إذ جاءهم رجل في لباس رسمي علم من ملامح وجهه أنه يوناني النزعة، وتأكد بعد ذلك أنه جرياجس بك؛ باشكاتب غوردون، فاستقبل هؤلاء الأعيان وقادهم إلى القاعة ينتظرون قدوم الباشا.
الفصل الثامن والسبعون
غوردون باشا وأهل الخرطوم
فلبث شفيق في ذلك المخفر حتى كان الغروب، فسمع وقع أقدام أفراس، فعلم أن غوردون قد عاد
فابتدره شفيق وخاطبه بالإنكليزية، فالتفت بغتة فلم ير أحدا في لباس الإنكليز، فناداه ثانية، فنظر إليه فلم يتحقق صورته؛ لأن الظلمة كانت قد سدلت نقابا رفيعا، فقال له: من أنت؟ قال: إني من ضباط الجيش الإنكليزي، فاختلج قلب غوردون؛ لأن لفظ «الجيش الإنكليزي» كان نصب عينيه ليلا ونهارا، وقد أقلق أفكاره ومل من انتظار مجيئه، فتقدم إلى النافذة وأمر بالنور فجيء به إليه، فتأمل الرجل فإذا هو بلباس الدراويش، ولكن صورته غير سودانية، فأمر بإخراجه وأن يلحق به، فسار الاثنان، فلما دخلا القاعة وقف الحضور احتراما، فجلس غوردون وجلس الجميع وليس فيهم وجه باسم وهم ينظرون إلى شفيق ولباسه.
فابتدرهم غوردون بالخطاب قائلا: لا تعجبوا لهذا الرجل ولباسه؛ فإنه حمل في ثياب الذئاب! فنزع شفيق العمامة والطاقية عن رأسه، فبان من تحتها أنه ليس درويشا.
فقال له غوردون: ما اسمك؟ وما الذي جاء بك إلى هنا؟ قال: اسمي شفيق، وقد جاء بي إلى هنا بواعث الأقدار. وأحكى لهم الحكاية من أولها إلى آخرها، فلما وصل إلى المدافع التي أطلقها العصاة، وما دار بين المهدي وأمرائه، رفس غوردون الأرض برجله والتفت إلى من حوله من الجلوس قائلا: ألم أقل لكم، يا سادتي، إنهم لم يقصدوا بتلك المدافع إلا إيهام رجالهم خلاف الواقع؛ تشجيعا لهم، وقد عرفت ذلك من المرأة التي كنت أرسلها لاستطلاع أخبارهم. فها إن الإنكليز منتصرون، وعما قليل يكونون هنا.
فانقشع عن وجه الجلوس بعض العبوسة، وأخذوا ينظرون إلى شفيق نظرهم إلى رجل جاءهم رحمة، وجعلوا يسألونه عن حركات المهدي وقواته، فأخبرهم بكل شيء إلى أن قال: أما هؤلاء العربان، فعلى جانب عظيم من البسالة والإقدام، لا يبالون بالموت وهم متعاقدو الأيدي، مرتبطو القلوب، لا شيء يثنيهم عن القتال، وإذا قال المهدي فإنهم ينزلون كلامه منزلة الوحي، ولا سيما إذا ادعى الحضرة كما أخبرتكم الآن. أما إذا صبرتم على دفاعه، فإنه لا يقوى عليكم؛ لأنكم تعلمون مما قدمت أنه في خوف، وإذا لاقى مقاومة شديدة يخور عزمه، ويعود على أعقابه إلى الأبيض.
فقال قنصل اليونان: من لنا بالدفاع؟ ولكن من أين لنا ذلك وأهل المدينة ينطرحون في الأسواق عشرات يتضورون جوعا؟ وهل نلومهم إذا أرادوا الخروج إلى العدو، فإن الحامية نفسها لا مئونة عندها على ما سمعت؟
فقال فتح الله جهامي: انظر يا سعادة الباشا، إننا لم نسمع بحصار مثل هذا الحصار، ولم نفهم ما معنى هذا الإبطاء. أيحل في قضاء الله أن نكون في مثل هذه الحال من الضنك والخطر ونجدتنا تأتي إلينا ماشية مشي العروس؟! فلا يأتي الدواء من العراق حتى يكون العليل فارق.
ثم قال إبراهيم بك فوزي: إننا يا سعادة الباشا إنما جئناك لنستفهم منك عما علمت من أمر الحملة؛ فقد ضاقت نفوسنا، وخارت قوانا، وهلكت أولادنا ونساؤنا، وانحطت ثقتنا، وأصبحنا في حال لم يصل إليها قبلنا ولن يصل إليها أحد بعدنا. أتظن أننا إذا هاجمنا العرب نستطيع دفاعهم؟ وعلى من يكون اعتمادك؛ أعلى حامية حصونك الذين لا طعام لهم إلا الذرة، ولا يأكلون منها إلا ما يسدون به رمقهم، أم على أهل المدينة وقد ذهب بعضهم إلى معسكر العدو، ومات بعضهم من الجوع، ولم يبق إلا أفراد لا فرق بينهم وبين الأموات من شدة الضنك؛ فقد اشتد بهم الجوع حتى أكل بعضهم الكلاب والقطط والجلود والجرذان، ومضغوا سعف النخل، أم اعتمادك على الحملة الإنكليزية التي قد مر عليها ستة أشهر ونحن نسمع بقرب صولها ولم تصل؟ ولا أظنها ستصل، فما رأيك؟
فالتفت إليهم غوردون لفتة الاستعطاف وعلامات التأثر ظاهرة على وجهه وقال لهم: ما الذي تريدونه مني؟ مروني فأفعل، ولا ألومكم إذا قلتم إني كاذب أو مماطل بوعودي عن مجيء الحملة، ولكني أقسم لكم بالشرف أني لم أكذب بشيء مما قلته وأقوله لكم؛ لأني أفضل الموت على التفوه بغير الصحيح، ولكن هذه هي الأخبار التي وصلتني. ها إني أخلي لكم مركزي، وليتقدم من أراد منكم إلى مكاني، ولنر ماذا يفعل، فإني أؤكد لكم أنه لا يستطيع أحسن مما فعلت؛ لأني بذلت كل ما بوسعي، ولا يخفى عليكم أني مساويكم بنفسي، وقد قيل: من ساواك بنفسه ما ظلمك. ولكن مهلا سادتي، ها قد صبرنا كثيرا ولم يبق إلا القليل، والجنود الإنكليزية في المتمة، وستكون هنا بعد يومين وننسى هذه الأتعاب.
فلما سمع شفيق ذلك الحديث ازداد كدرا لحالة تلك المدينة حتى كاد يندم على مجيئه إليها، وتركه الخلاء الواسع، ولكنه تذكر قدوم الإنكليز وقرب وصولهم، فسكن روعه ونظر إلى غوردون، فإذا به قد نزع الطربوش عن رأسه، وقد خف شعره، وشاب ما بقي منه، وقطب وجهه، وأسند خده إلى كفه
غارق في بحار الهواجس، وجميع من في القاعة سكوت، ثم وقف الجميع وانصرفوا، وعاد غوردون بعد أن ودعهم إلى القاعة، فوقف له شفيق احتراما، فنظر إليه نازعا طربوشه بيده اليسرى، وخاطبه وقد أخذ منه الضجر كل مأخذ قائلا: أرأيت عمرك مثل هذا الإهمال. ها قد مر علي أكثر من ستة أشهر وأنا أنادي بأعلى صوتي مستنجدا أصحابنا في لندرا أن يبعثوا بنجدة لإنقاذ حاميات السودان، فبعد أن شبعوا من المحاورة والجدل في برلمانهم، أقروا على إرسال النجدة، ولكني لا أظنها تصل قبل أن يصل إلينا الموت، فإن أهالي الخرطوم بعد أن كانوا يحترمون مقالي احترامهم لكلام منزل أصبحوا لا يصدقونني؛ لكثرة ما وعدتهم وأخلفت اعتمادا على وعود أصحابنا في لندرا، فهل تصل تلك الحملة ونرى رجلا منهم في الخرطوم. ثم رمى بطربوشه إلى المقعد وجلس مطرقا ويده في جيبه، ثم تناول سيكارة من علبة بجانبه وأشعلها، وجعل ينفخ بها، فهاب شفيق غضب ذلك الرجل ولبث صامتا لا يفوه ببنت شفة.
ثم نظر إليه غوردون قائلا: دع التقادير تجري في أعنتها. وأمر بعض الحشم فجاء شفيقا ببدلة، فغير ثياب الدراويش، ثم حضر الطعام فتناولاه، وتناوله معهما كبار الموظفين، ولم يفه أحد منهم بكلمة أثناء الطعام؛ لأن كلا منهم كان مفكرا بما قد أحدق بحياته من الخطر.
الفصل التاسع والسبعون
رسم شفيق في سراي الخرطوم
وبعد العشاء بيسير، سار كل إلى فراشه وفي الصباح التالي سأل شفيق عن غوردون، فقيل له: أنه على سطح السراي يراقب حركات العدو بالنظارات - وكان ذلك شغله في معظم النهار، فينظر تارة إلى العدو، وطورا إلى النيل يترقب عود البواخر. وكان قد أرسلها لملاقاة الحملة الإنكليزية في جهات شندي؛ آملا أن تكون قد جاءته بنفر من العساكر الإنكليزية؛ ليتحقق أمله بإنقاذ حامية الخرطوم وحبوط أمر المتمهدي - فلم يجسر شفيق على الصعود إليه ومخاطبته، فعاد إلى حجرة رقاده، ولبث مدة ثم خرج منها إلى غرفة الاستقبال، فشاهد فيها بعض الكتب والجرائد الإنكليزية، فأخذ يقلب فيها شاغلا نفسه ريثما ينزل غوردون، فلاحت منه التفاتة إلى رسم فوتوغرافي بين الجرائد والأوراق، فخفق قلبه لما رآه؛ لأنه رسمه الذي أعطاه تذكارا لفدوى وعليه علامته بخط يده، وزاد تعجبه كونه مقطوع الرأس بطرف مدية، فأخذت ركبتاه ترتجفان وقلبه يخفق، حتى كاد يغيب عن الوعي وهو لا يصدق أنه في يقظة؛ لأنه شعر لدى مشاهدته تلك الصورة كأنه على مقربة من حبيبته، فأخذت به الهواجس والقلق، وجعل يفكر في كيفية وصول ذلك الرسم إلى ذلك المكان، وما معنى قطع رأسه، وبقي واقفا مطرقا مدة، والصورة في يده حتى سمع الجنرال غوردون يخاطبه مسلما، فانتبه فإذا هو قد نزل من السطح والنظارات بيده، فبهت شفيق ثم رد التحية محنيا رأسه احتراما، ولكنه لم يستطع إخفاء ما كان فيه من الاضطراب والرسم لا يزال في يده، على أنه تجلد خوفا من ظهور دلائل الوجد والغرام على وجهه؛ لأنه ليس في حال تتيح له ذلك. أما هو فنسي نفسه وما هو فيه من الخطر، وود لو أنه طير ليطير إلى حيث هي فدوى؛ ليشاهدها، ولم يخطر في باله حالة الخرطوم من الخطر، وقد نسي ما دار في مساء أمس من الحديث.
أما غوردون، فحمل تلك المظاهر في شفيق على خوفه من سقوط الخرطوم، بعد أن سمع ما سمعه في الأمس، فابتدره بالكلام قائلا: لا تجزع يا عزيزي؛ إن قضاء الله - سبحانه وتعالى - لا مفر منه، ولا يجب أن تعود نفسك الخوف وأنت في شرخ الشباب.
فتجلد شفيق وحاول التبسم ثم قال: إني يا سيدي لا خوف علي طالما كنت والجنرال غوردون في حال واحدة؛ إذ لست أفضل منه، فقال غوردون: ولكن يا ولدي لا يخفى عليك أني قد أمسيت شيخا، وقد انقضت أيامي، وأما أنت فلا تزال في أول حياتك، وربما تكون عازبا عاقدا على فتاة، وتود البقاء من أجلها، فعاد قلب شفيق إلى الخفقان، ولم يمكنه الجواب لتلعثم لسانه، ولكنه حاول الإجابة فسبقته العبرات رغما عنه، وكان يود إخفاءها في تلك الحال إخفاء مؤبدا؛ لئلا يظن به الجبن.
فظنه غوردون يبكي خوفا من وقوع القضاء فقال له: تأمل يا ولدي بما يقاسي الإنسان من الأخطار في هذا العالم، ومن جميعها ينجيه الله.
فتنهد شفيق تتنهدا عميقا وسكت، ولم يكن غوردون لينتبه إلى عواطف شفيق؛ لأن الأهوال أنسته عواطف الشبان، وكل ما يتعلق بها. أما شفيق فأراد أن يسأل عن الرسم، وسبب وصوله إلى تلك الغرفة، لكنه لم يجسر على إطالة الكلام؛ لعلمه أن ذلك الرجل في شاغل أهم من ذلك كثيرا ، فصمت وإذا بغوردون قد جلس على المقعد وأشعل السيكارة، وأخذ ينفخ بها ويتلاهى بنفض رمادها بإصبعه وينقلها من يد إلى أخرى، ولا يكاد يمص منها مصة حتى يثنيها ويكررها مرارا، حتى أمست تلك القاعة تعج بالدخان عجيجا. كل ذلك وغوردون على المقعد جاعلا رجلا فوق أخرى، وقد نزع طربوشه وألقاه جانبا وهو في قلق لا يستقر في مكان، فبعد أن جلس دقيقة على هذا الطرف من المقعد انتقل إلى الطرف الآخر؛ يتكئ تارة على اليمين، وطورا على اليسار؛ لكثرة بلباله وقلقه. وكان وجهه قد اعتاد العبوسة، فلم يعد يعرف الابتسام إلا اغتصابا، وأما شعره فأبيض بغير أوانه، وخف عن ذي قبل، وقد نحل وجهه حتى ظهرت فيه تثنيات الشيخوخة.
فهاب شفيق منظره ولم يجسر على مخاطبته في شيء، لكنه جلس إلى مقعد مقابل لمقعده يقلب صفحات كتاب كأنه يفتش عن شيء، ولكنه كان تائه الأفكار سائحا في لجج الهواجس التي تراكمت عليه بين خطر وقلق وارتباك من أمر ذلك الرسم، فمضت عدة دقائق والاثنان صامتان لا ينطقان. أما غوردون فكان إذا انتهت سيكارة أشعل غيرها وهو لا يهدأ في جلوسه لحظة، وفيما هما في ذلك دخل جندي يقول: إن بورديني بك في الباب (أحد تجار المدينة. وقد أظهر شهامة عظمى في ذلك الحصار)، فقال الباشا: دعه يدخل.
فدخل الرجل وعليه الجبة والقفطان والعمامة، وهم إلى يد الباشا ليقبلها، فرآه في تلك الحال من القلق، فاضطرب فؤاده ولم يعد يجسر على مخاطبته مع ما كان له من الدالة عليه. أما غوردون فحالما شاهد الرجل نزع طربوشه عن رأسه مغضبا، ورمى به الأرض قائلا: ماذا أقول الآن، فإني إذا قلت قولا لا يصدقني أحد، فكم أنبأتهم بوصول النجدة ولم تصل، فلا بد أنهم يظنون بي سوءا ورياء، فدعني أدخن هذه السكاير (وأشار إلى صندوقين ملآنين من السكاير على مائدة أمامه). وكان بورديني بك هذا قد جاء يدعو الباشا إلى جلسة يقررون بها قرارا نهائيا بشأن الدفاع، فرأى أن الباشا لا يستطيع وهو في هذه الحال من الغيظ أن يحضر الجلسات، فتركه وانصرف، فازداد الباشا رهبة في قلب شفيق، وود الخروج من حضرته ريثما يسكن روعه، ولكنه لم يستطع النهوض ولا رفع نظره من الكتاب، ثم رأى الباشا ناهضا فنهض هو، فإذا به قد حمل النظارة المقربة وصعد إلى سطح السراي ليراقب حركات الأعداء، وكانوا محدقين بالمدينة من جهاتها الأربع، فعاد شفيق إلى غرفته والرسم في يده يعيد النظر إليه المرة بعد الأخرى، ويفكر في كيفية خروجه من يد فدوى ووصوله إلى ذلك المكان، فصبر نفسه ريثما يهدأ بال غوردون بمجيء الإنكليز ويسأله عنه.
وما زال كذلك إلى وقت الغداء، فتناولوه، وبعد الغداء أخذ يفكر بالخطر المحدق بالمدينة، ولاح له أن يحافظ على بدلة الدراويش لعله يحتاج إليها في تنكر أو تستر، فتفقدها وجعلها في مكان يعلمه.
الفصل الثمانون
سقوط الخرطوم
وقضى تلك الليلة بين هاجس وخائف يراقب حركات غوردون، فإذا هو قد قضى نصف ذلك الليل ساهرا يكتب، وعند نصف الليل رقد شفيق، ولكنه لم تكد تأخذه سنة النوم حتى سمع إطلاق المدافع، فنهض مذعورا في الساعة الثالثة بعد نصف الليل، فإذا بأهل السراي يتراكضون، فسأل عن الباشا فقيل له: إنه على سطح السراي يطلق المدافع على الأعداء، فصعد إليه فإذا هو في لباس النوم يطلق القنابل والعدو هاجم على الأسوار.
وشاهد بعد قليل جماهير العصاة وقد دخلوا السور من باب المسلمية وامتلأت الساحة منهم، وما زال غوردون يطلق القنابل عليهم من السطوح مقدار ساعة حتى اقتربوا كثيرا، فلم يمكنه تصويب المدافع عليهم، ورأى شفيق أعلام المهدويين تخفق في وسط الجماهير، فتحقق لديه أن قد قضي الأمر، فعمل الفكرة في كيفية المحافظة على حياته إكراما لفدوى، وليس حبا منه في الدنيا، فأسرع إلى بدلة الدراويش وجعلها عليه، بعد أن تحقق أن الدفاع لا ينفعه شيئا، ونزل من السراي فشاهد جماهير العصاة عند باب السراي يريدون الدخول، ثم تقدم أربعة منهم ودخلوها، فالتقوا بغوردون عند رأس السلم وقد لبس ثيابه، وتقلد سيفه، وحمل الروفلفر بيده، فهجم عليه أحدهم ونادى بأعلى صوته: آه يا ملعون! اليوم يومك. وطعنه طعنة بحربة ألقته صريعا، وعملوا رفاقه مثل عمله. أما هو فلم يبد أقل مدافعة، وكان ذلك قبل شروق الشمس، فسقط غوردون صريعا يخبط بدماه، فلم يستطع شفيق النظر إليه، فترك السراي ونزل إلى الشوارع كأنه واحد من الدراويش ينادي نداءهم، ويتظاهر بمظاهرهم. وكان كثيرون منهم يعرفونه، ولم يعلموا أنه فر من معسكرهم، فظنوه على دعوتهم. أما هو فكان يحجب الدماء ما استطاع بغير أن ينفضح أمره. وبعد أن نزل من السراي بقليل رأى درويشا حاملا رأس غوردون يريد إيصاله إلى المتمهدي، على أن المتمهدي كان قد أمر بإبقاء ذلك الرجل حيا، ولكن أجله عاجله فمات شر موتة، ودامت المذبحة ست ساعات، ولم يكف الدراويش عن القتل حتى أمرهم المتمهدي فكفوا.
أما شفيق فلم يكن يأمن على حياته لعلم الأكثرين بأمره، فتحقق لديه أنه إذا علم أميره أو المتمهدي بفراره يقتله لا محالة، فاغتنم انشغال الدراويش بالنهب والقتل وطلب شاطئ النيل فركب خشبة سابحة وجعل يجذف برجليه، فساعده المجرى، فسار نازلا وهو لا يعلم لنفسه مقصدا، فشاهده الدراويش من الشاطئ، فاستغشوه فرموه بالسهام والبنادق فأخطئوه، حتى إذا كان على مسافة من الخرطوم أصابه سهم في فخذه، وما زال سابحا حتى أتى جزيرة قبالة حلة يقال لها حلفايا، فنزل تلك الجزيرة والتجأ إلى ظل شجرة. وكان الليل قد سدل نقابه، فلم يعلم به أحد، ولكنه كان في خوف عظيم لانتشار الدراويش في تلك الجهات، وقضى كل ذلك الليل ساهرا يفكر في وسيلة لنجاته من بلاد قد مد فيها الدراويش رواقهم. وأما جرحه فقد كان طفيفا فلفه بعمامته، ولما أصبح تظاهر بمظاهر الدراويش.
الفصل الحادي والثمانون
كتاب فدوى
وكان قد اسود لون جلده من معاناة الحر، وأتقن اللهجة السودانية جيدا، وعرف اصطلاحات الدراويش في حديثهم وصلاتهم وسائر أحوالهم، فأخذ يجول في الجزيرة حافيا، والسبحة في عنقه يكرر الشهادة والدعاء لنصرة الدراويش، وإبادة الكفار، وقد خارت قواه من التعب والسهر والجوع، فوصل إلى مكان اشتم فيه رائحة السودان، وهي رائحة خاصة بأهل السودان يشتمها الإنسان عن بعد، فتقدم نحوها فوصل إلى بيت صغير فيه ثلاثة من أهل تلك القرية، فحياهم بتحيتهم المعتادة، فردوا التحية ودعوه فجلس إليهم، فإذا هم يعدون الطعام وقد جعلوا على النار قدرا فيه قليل من الماء، فسألوه عن حاله فقال: إنه ممن جاءوا للجهاد في سبيل الإمام المهدي، وقد أصيب برصاصة في رجله أثناء هجومه على المدينة، فلم يعد يستطيع الجهاد، فقالوا: والله إنك لقد نلت أجرا، ويا حبذا لو كان مثل تلك الإصابة لنا!
ثم قال واحد منهم: والله إن النصارى (يريد الإنكليز) لا يعرفون كرامة سيدنا الإمام المهدي، ولو عرفوها ما تكلفوا المشقة والمجيء من أقاصي الدنيا لكي يعودوا بالفشل.
فقال شفيق: إن هؤلاء لا يعرفون كرامة أحد؛ ولذلك فإن الله قد أوقعهم في شر أعمالهم، ولم يعودوا يقدرون على المجيء إلى هنا بعد سقوط الخرطوم.
فقهقه الرجل ثم قال: وهب أنها لم تسقط. أتظنهم يستطيعون المجيء إليها؟ ألا تعلم ما فعل بهم سيدنا الإمام.
قال: وماذا فعل؟
قال: لقد رصدهم.
قال: وكيف ذلك؟
قال: يظهر أنك لم تسمع الخبر؛ وهو أن أميرنا كان في السنة الماضية سائرا في رجاله إلى الدبة نجدة للدراويش، فعثروا في الطريق على جاسوس من جواسيس الترك آتيا إلى غوردون، فأخذوا منه متاعه ونجا هو، فوجدوا في جملة متاعه صورة من صور عساكر النصارى الذين تتولى أمورهم حرمة، فلما رجعنا دفعوا الصورة إلى الإمام، فأخذها وصلى ثم قطع رأسها بسيفه، فقطعت رءوس الكفار كافة، ثم بعثها إلى غوردون في الخرطوم ليعلم هذا أن الذين هم قادمون إلى إنقاذه سيصيبهم مثلما أصاب تلك الصورة.
فأدرك شفيق من خلال تلك الحكاية أن تلك الصورة إنما هي صورته، وفهم معنى قطع رأسها، ولكنه لم يفهم كيف جيء بها إلى السودان، ولا من جاء بها، فأخذت منه الهواجس كل مأخذ، حتى خاف أن يظهر عليه ذلك، فتدارك الأمر بالدعاء للمهدي وكرامته.
وكانت القدر قد غلى ماؤها، فجاء أحدهم بقصعة من الخشب قد تلبدت عليها الأوساخ حتى صارت كأنها مدهونة بدهان أسود، واستخرج رفيقه من ثنيات ثوبه ورقة بيضاء ملفوفة وفتحها، فإذا فيها شيء من الويكة (فتات ورق البامياء الجاف)، وأخذ منها شيئا جعله في ذلك الماء وجعل يحركه بإصبعه، وهي ليست أقل قذارة من القصعة، حتى صار مزيجا لزجا، واستخرج كل منهم رغيفا من خبزهم الأسمر الملبد وأخذوا يغمسون في ذلك المزيج، ويأكلون ويلحسون أصابعهم بعد كل لقمة.
أما شفيق، فكان قد اعتاد ذلك الطعام، فتناول رغيفا وفعل مثلما فعلوا.
وفيما هو يأكل لاحت منه التفاتة إلى الورقة التي كانت فيها الويكة، وحالما وقع نظره عليها خفق قلبه، ووقفت اللقمة في حلقومه، فحقق نظره فيها، فإذا هي مكتوبة بخط يشبه خط فدوى، فتناول الورقة بأسلوب لطيف وقد أمسك نفسه عن التأثر وتأملها، فتحقق لديه أن الخط خطها، وإذا هو كتابها إليه. وبما أن الورقة كانت خالية، ولم يعد لها عوز عند أصحابه حفظها في يده، ثم أخفاها في ثيابه، ولم يعد يستطيع طعاما من شدة التأثر، فتظاهر بذهابه في حاجة، فلما خلا بنفسه فتحها وأخذ يقرأ ويبكي وهو في حيرة؛ لاتفاق ذلك له في ذلك اليوم، واستخرج صورته؛ لأنها كانت لا تزال محفوظة عنده، وفهم من ذلك الكتاب أن فدوى في بيروت تقاسي مر العذاب في انتظاره، وقد قنطت من رجوعه، ونظر إلى تاريخ الرقعة فعلم أنها خرجت من يد فدوى منذ عشرة أشهر. وكانت يومئذ قانطة من مجيئه، فكيف بعد هذه المدة؟
فأخذ يبكي ويتحرق لعدم استطاعته الوصول إليها، أو ربما لا يستطيع النجاة من تلك الديار كل حياته، فتصور له حال فدوى وأخذت ركبتاه ترتجفان وقلبه يكاد ينفطر، ولولا تعوده الأخطار والمشاق لأغمي عليه، ولكنه تجلد وعاد إلى رفاقه متظاهرا بما أشغلهم عن ملاحظة حاله، وقضى معهم بقية ذلك النهار، ثم أحب الاعتزال عنهم؛ ليتمكن من البكاء؛ خوفا من وقوع الريب فيه، ففارقهم إلى منعزل في الجزيرة بعيد، وجلس كل ليلة يتذكر فدوى ويبكي، ويندب سوء بخته وما وصل إليه، وكيف أنه مغلول لا يستطيع الوصول إليها، فكان إذا تصور ما قد يلم بها بسبب تأخره من القنوط تدب فيه الحمية؛ خوفا من أن يكون سببا لموتها، وقد لعن عزيزا الخائن، وندم على إبقائه حيا، فقضى ذلك الليل في تلك الهواجس.
الفصل الثاني والثمانون
باخرة ولسن
وفي منتصف اليوم التالي (28 يناير سنة 1885)، شاهد باخرة قادمة على النيل فوقها العلم الإنكليزي، فعلم أنها قادمة لإنقاذ غوردون من الخرطوم، فقال بنفسه: سامحكم الله على إبطائكم؛ لقد ذهبت أعمالكم أدراج الرياح. ورأى أن نزوله إلى تلك الباخرة آمن له من البقاء هناك، فنظر إليها من الجزيرة فإذا هي تجر وراءها صندلا ملآنا بالعساكر الباشبوزوق السودانيين، فأشار إلى من فيها إشارة علموا منها أنه من جندهم، فاقتربوا بالباخرة من الجزيرة ودلوا له خشبة صعد بها إليهم وهو لا يصدق، فاجتمع إليه كل من فيها من الجنود الإنكليزية ينظرون إلى لباسه وهيئته ويعجبون، ثم ذهبوا به إلى ضابط إنكليزي قصير القامة، خفيف شعر العارضين، نحيف البنية، هادئ الطبع، وفهم من كلامهم أنه السير شارلس ولسن؛ رئيس قلم مخابرات الحملة النيلية التي جاءت لإنقاذ غوردون، فخلا به وسأله عن حاله، فقص عليه القصة بالاختصار، فلما تحقق أنه من رجالهم، سأله عن الخرطوم فأحكى له ما كان، وأشار عليه ألا يصل إليها؛ لأنها في قبضة العصاة، فلم يصغ إلى مقاله، فسارت السفينة والدراويش يضربونها من الجانبين، حتى وصلت الخرطوم، فتحقق السير شارلس قول شفيق؛ لأنه رأى أعلام المتمهدي تخفق فوق السراي، والقشلاق والأسوار وأماكن أخرى، ثم أطلقت عليهم الخرطوم عدة قنابل لم تأت بضرر، فعرج السير شارلس قاصدا المتمة؛ حيث كان معسكرهم.
أما شفيق فجلس إلى شرفة من شرفات الباخرة وهي تخترق عباب النيل يتذكر ما مر عليه من الأهوال أثناء السنتين الغابرتين، ويشكر الله على ما وصل إليه، ثم خطر له ضياع الدبوس، ولكنه لم يكن يحسبه بالشيء المهم في جانب وصوله إلى فدوى والتقائه بوالديه. وبعد مسيرة يومين، وصلت بهم الباخرة إلى شلال السبلوكا؛ وهو الشلال السابع، فاصطدمت بصخر كبير فانكسرت وأوشكت أن تغرق، فصاح الناس: البدار البدار إلى النجاة من الغرق. فهرول شفيق في جملة المهرولين إلى الصندل، ونزل إليه والرصاص يتساقط عليهم من ضفتي النيل، فحملوا في ذلك الصندل ما استطاعوا حمله من الناس والمتاع وجروه إلى الشاطئ، فإذا هم على جزيرة يقال لها جزيرة ود حبشي، فخاف شفيق حبوط آماله؛ لأنه علم أنهم في أرض العدو المحيط بهم من كل الجهات.
ولا سيما لما رأى السير شارلس في حالة الخوف الشديد، وقد أحاط رجاله بزريبة من الشوك لم تكن تغني عنهم شيئا، ثم علم أنهم بعثوا ضابطا في قارب صغير يسير إلى المتمة لإعلام الحملة بذلك الأمر حتى يسرعوا إلى إنقاذهم.
ولبثوا على هذه الحال والخطر يزداد كل يوم، حتى مضى ثلاثة أيام أو أربعة، وفي سماء اليوم الرابع رأوا عن بعد باخرة قادمة من جهة المتمة، فعلموا أنها آتية لإنقاذهم، فاستبشروا بالنجاة وشاعت أبصارهم إليها حتى اقتربت من الجزيرة، ولكنهم لم يكادوا يتحققون فوزهم حتى سمعوا إطلاق المدافع من جهات العدو، ثم علموا بالإشارات أن الباخرة أصيبت بقنبلة في آلتها البخارية فتعطلت، فتحقق شفيق حبوط مسعاه، وأيقن بهلاكه وهلاك كل من كان معه.
وبقيت الباخرة تحت الترميم بقية ذلك اليوم ومعظم الليل والنار تتساقط عليها بين قنابل ورصاص، حتى قيض الله لهم إصلاحها فركبوها، فسارت بهم حتى أتت المتمة، فإذا بمعسكر الإنكليز هناك على ضفة النيل الغربية في محل يعرف بالقبة، وقد أيقنوا بالفشل بعد سقوط الخرطوم.
فود شفيق أن يكون ذلك السقوط حاملا لهم على الإسراع إلى الانسحاب نحو القاهرة؛ لأنه أصبح شديد القلق على والديه وحبيبته، ثم علم بعزم الحملة على ذلك، فسر، وبعد بضعة أيام انسحبت الحملة راجعة في طريق صحراء البيوضة قاصدة كورتي لتسير من هناك في النيل إلى مصر.
وقد علم شفيق أن المسافة في الصحراء 14 يوما، فقطعوها بعد شق الأنفس مارين بأبي طليح وجكدول.
فلما وصلوا كورتي لم يكن يصدق أنه وصل، وأخذ ينتظر ورود الأوامر بالانسحاب إلى مصر، ولكنه علم من التلغرافات الواردة من لندرا أن الحكومة الإنكليزية قررت بقاء الجيش هناك؛ لقضاء فصل الصيف حتى يعودوا في الشتاء القابل إلى فتوح السودان، فأصبح النور في عينيه ظلاما، ولكنه ما انفك ساعيا حتى أذن له بنوع استثنائي أن يسير وحده إلى القاهرة، فأخذ ما يحتاج إليه وسار تارة يركب جملا، وطورا قاربا قاصدا القاهرة، فوصلها في أواخر شهر مارس سنة 1885.
فلنتركه يفتش عن والديه، ولنرجع بالقارئ إلى بيروت لنرى ما تم لفدوى.
الفصل الثالث والثمانون
عود إلى بيروت
أما فدوى فإنها بعد أن استولت على الدبوس واستوثقت من ذهاب عبود لبثت في بيروت على مثل الجمر تأخذ والدها باللين، وتعده بإطاعة أوامره بكل ما يريد. وكان والدها قانعا بوعودها، وكان يلح على عزيز أن يأتي بالمنوم، فكتب إلى صديق له في باريس بشأن ذلك، فطال انتظاره، ولكنه كان مطمئن الخاطر لاعتقاده أن شفيقا أصبح في عالم الأموات، وأنه طالما كان الباشا راضيا عنه، فهو المالك لما يريد، على أنه لم يتمكن في كل مدة إقامته في الفندق من مشاهدة فدوى لحظة واحدة.
وورد إلى الباشا ذات يوم كتاب من امرأته في مصر في طيه كتاب شفيق الذي بعث به من الأبيض، وفيه الخبر ببقائه حيا، فلما قرأ الباشا الكتاب خاف حبوط مسعاه في الاستيلاء على ثروة عزيز إذا عاد شفيق حيا، ولكنه أخفى ذلك الخبر عن ابنته لئلا تتشبث به وترفض عزيزا، ثم خاف أن يطول وعدها بالقبول، فيأتي شفيق قبل زفافها على عزيز، وخشي إذا ألح عليها بالاقتران أن تنفر منه وتعود إلى عزمها السابق، فوقع في حيرة. وبعد التدبر مدة، لاح له أن يسعى أولا في مرامه الأساسي؛ وهو أن يضع يده على أموال عزيز قبل الاقتران، فخلا به يوما ودار بينهما الحديث في شئون مختلفة تطرق منها الباشا إلى مسألة الاقتران بفدوى، وكان يخاطب عزيزا بلسان القريب، ويدعوه تارة ابنه، وطورا صهره ، وعزيز فرح بتلك الألقاب، فقال الباشا في جملة قوله: طالما كنا يا ولدي جسمين في شخص واحد؛ لأنك ستكون صهري بمنزلة ولدي، وأنت الوارث لكل أموالي؛ إذ إن فدوى وحيدة لي، فما هو لي فهو لك، وما هو لك فهو لي، فلماذا لا نضم ممتلكاتنا بعضها إلى بعض ونجعلها ملكا واحدا، فإما أن أضم مالي إلى مالك وأكتب لك بذلك صكا، أو أن تضم مالك إلى مالي وتكتب لي به صكا.
ففرح عزيز بذلك الخطاب الدال على تمكن محبته من قلب الباشا إلى هذا الحد، وأيقن بزوال كل مشكلة من طريقه، وكان يود أن يكون هو المستولي على المالين، ولكنه لم يجسر على التصريح بذلك حياء منه. ونظرا لشدة وثوقه بنيل بغيته التي قضى السنين الطوال سعيا وراءها، وقاسى الأهوال العظام من أجلها، وبأنه هو الوارث الشرعي عند ذلك لكل ما هو للباشا، فأراد أن يظهر له وثوقه به، وبمحبته وبصدق مواعيده، فقال له: إني، يا عماه، وما أملك في قبضة يدك؛ لأنك بمنزلة والدي. ففرح الباشا لنجاح سعيه، ولكنه قال: وإذا شئت فإني مستعد أن أسجل كل ما هو لي باسمك، وأن أعطيك صكا به.
قال عزيز: حاشا يا عماه؛ إذ لا يليق ذلك والولد ليس له مال بحياة والده. وها إني أكتب لك الصك منذ الساعة. وكان الباشا قد أعد الورق والدواة حتى لا يكون ثم مانع أو مؤخر، فاستخرج الورق ووضعه على المائدة، فلم ير عزيز بدا من كتابة الصك قياما بقوله، وجاء بشاهدي عدل يشهدان على قوله.
فلما تمت كتابة الصك تناوله الباشا وجعله في جيبه فرحا لتحقق أمانيه. أما عزيز فحالما وضع الصك في يد الباشا شعر بخطئه وجهالته، ولكنه لم يجسر على استرجاعه حياء، فلبث صامتا يفكر بحالته بعد كتابة ذلك الصك، فإذا هو صفر اليدين لا يملك شيئا، ولكنه عاد فتذكر أنه سيكون عما قليل قرينا لفدوى، فتعود هذه الأموال وأموال الباشا جميعها إليه، فسكن جأشه نوعا، وازداد تعلقا بفدوى؛ لأن جميع ما يملك من المال والعقل والجسد أصبح معقودا بناصية الاقتران بها.
ولبث عزيز ينتظر مجيء المنوم من أوروبا حتى طال أمد الانتظار.
فمضى الشهر والشهران والثلاثة وفدوى لا تنفك عن النحيب والتعلل بإرسالية عبود، حتى كان يوم من أيام شهر مارس، فدخل بخيت غرفتها وهي سابحة في أبحر الهواجس، فلما رأته قالت: ما وراءك يا بخيت؟
قال: ما ورائي يا سيدتي إلا كل خير.
قالت: قل.
قال: قد ورد علي كتاب من عبود يقول إنه لا يستطيع التقدم إلى الخرطوم الآن؛ لأنها تحت الحصار، ولكنه باق في انتظار الحملة النيلية الذاهبة لإنقاذ حامية الخرطوم فيسير برفقتها.
قالت: وما ظنك به؛ هل يفلح؟ إني، يا بخيت، لم أعد أستطيع صبرا، ولا أنا راجية خيرا من هذا الرسول، ولكن عسى أن يكون الأمر خلاف ما أقول ويأتي بشفيق، فأكون أول السعيدات، وأما إذا لم يأت فإني ... وبكت.
فقال: خففي عنك؛ عسى أن يفتح لنا الله على يد هذا الرجل. وكل آت قريب.
قالت: عسى إن شاء الله.
فقال بخيت: آه لو كنا قتلنا عزيزا! أما كنا تخلصنا من أحد الويلين! فقالت: وما الفائدة له أو الخوف لنا من بقائه حيا؟ فإنه غير بالغ مني مأربا وشرف شفيق وعهده. أما إذا جاءنا ذلك الرسول بالخبر الخير، فإني لا أعبأ بمقاصد والدي ولا مقاصد ذلك الخائن، فإنه أولى الناس بي شرعا وعرفا ... آه! أين أنت يا شفيق؟ وأخذت تتأوه وتتحسر، فأراد بخيت إطالة الحديث فخاف مجيء والدها فاستأذنها وخرج.
الفصل الرابع والثمانون
اليأس
أما والدها فإنه لم يعد واجسا من بقاء شفيق حيا؛ لأنه نال مبتغاه من عزيز. أما هذا فما زال معللا نفسه بالآمال منتظرا مجيء طبيبه من أوروبا ليحبب فدوى به بالاستهواء.
أما هي فإنها ما برحت واجسة على شفيق وهي لا تصدق أنه يعود سالما، فرأت في بعض الليالي مناما أزعجها كثيرا؛ وذلك أنها رأت شفيقا مضرجا بدماه في صحراء السودان والنسور حائمة عليه تأكل من جثته، فاستيقظت مرعوبة باكية، وكتمت ذلك عن والدها، وانتظرت حتى أتى بخيت وقصت عليه الحكاية وهي تبكي، إلى أن قالت: فأتني بسم أتجرعه وأقضي نحبي وراءه؛ لعلي ألتقي به في العالم الآخر قبل أن يدرك مني ذلك اللعين وطرا.
قال بخيت: لا بأس عليك، يا سيدتي؛ فإنه والله غير مدرك مسمارا في نعلك وبخيت في قيد الحياة.
قالت وهي تلطم وتندب: أدرك أو لم يدرك، فإن الحياة لم تعد تحلو لي، فلا أريد الحياة في أرض لم تحفظ لي حبيبي. أما في العالم الآخر، فإني أكون آمنة عليه، فاذهب حالا وأتني بالسم وإلا خنقت نفسي بيدي. وجعلت يدها في عنقها، فأمسكها بخيت وحاول تسكين ما بها فلم يستطع؛ لأن عواطفها تسلطت على عقلها، وأي تسلط، وأخذت تلطم وتثب كمن أصيب بجنة وقد حلت شعرها وقطعته، وأوغلت في البكاء حتى بللت ثيابها.
فوقع بخيت في حيرة وأخذ في البكاء معها، ثم لاح له أن يتظاهر بموافقتها، فقال: ها إني أفعل ما تريدين، ولكن خففي عنك الآن لئلا يأتي سيدي ويراك على هذه الحال.
فابتدرته قائلة: لم أعد أحسب حسابا لأحد؛ لأني لست مالكة رشدي، ولا أنا خائفة من شيء، وسأكون عما قليل في جملة من مضت عليهم الأجيال في القبور.
فبكى بخيت آسفا على ذلك، ولكنه تجلد خوفا على سيدته وأخذ يخاطبها بأساليب مختلفة ويصبرها لبينما يأتي الرسول، فلم تكن تصغي إلا إذا كلمها عن الموت.
فقال لها: سأذهب لآتي لك بالسم، ولكن أمهليني بضعة أيام؛ لأن الصيدليات لا تبيع السموم بغير أمر الطبيب، ولا بد لي للحصول عليه من تدبير وسيلة، أفلا تصبرين بضعة أيام؟
قالت: أسرع في استجلابه ما استطعت؛ لأن الموت أفضل من حياتي، وإذا كنت حية بعد حبيبي، فإني أموت كل يوم ألف موتة.
فقال: اجلسي وامسحي عينيك، فها إني ذاهب لأسعى إلى مرامك، فجلست وقد خارت قواها، ثم ألقت نفسها على السرير، وسار بخيت يدبر وسيلة لنجاة سيدته من هذه الورطة.
الفصل الخامس والثمانون
الرجاء
وعاد بخيت بعد قليل يعود فدوى، فإذا بها على السرير كأنها نائمة، فجعل يلهي نفسه بتقليب أوراق كان نسيها سيده على المائدة، فوقع نظره على ورقة مكتوبة بيد شفيق، فإذا هي الورقة
ببقائه حيا، فأخذ يرقص طربا كأنه أصيب بجنة، ولكنه خاف على سيدته من صدمة الفرح الشديد، فسكن عواطفه وتقدم نحوها، فأفاقت ونظرت إليه، فإذا في وجهه أمارات البشر، فنهضت حالا وسألته عن سبب انبساط وجهه، وكانت لا تستطيع التكلم من شدة الضعف، ولكن أمارات وجه بخيت جعلتها تنتعش، فألحت عليه أن يخبرها بما عنده.
فأخذ يمهد لها الخبر لئلا يضر بها بغتة، فقال: ليس عندي إلا الخير، وأما أنت يا سيدتي فاتكلي على الله وهو يمنحك كل ما تريدين.
قالت: قد اتكلت عليه وأنت تعلم ذلك، غير أني أرى مماتي أقل شقاء لي من حياتي؛ ولذلك قد فضلت الممات.
قال: وهل تحققت يقينا أن سيدي شفيق غير حي؟ قالت: إن ما علمناه يقرب من اليقين.
قال: كلا، يا سيدتي، بل الأرجح بقاؤه في قيد الحياة.
فانتفضت فدوى عند سماعها ذلك وقالت: ما تقول يا بخيت؟ هل سمعت شيئا جديدا بهذا الشأن؟
قال: هبي أني لم أسمع شيئا، فإن قرائن الأحوال تدلك على ذلك.
قالت: وأي قرائن؟ فإني لا أرى قرينة واحدة.
قال: أول القرائن أنكما تحبان أحدكما الآخر محبة عظيمة، وقد وقعتما في ضيق وخطر مرارا وأنقذكما الله، فذلك دليل على أنه سبحانه وتعالى يريد بقاءكما؛ لتتمتعا ببقية حياتكما بالرغد، والقرينة الثانية أننا لم نسمع خبرا صريحا بقتله أو موته، وكل ما لدينا من الأخبار سلبي، وأما القرينة الثالثة ... وسكت والورقة في يده لم ترها فدوى.
فابتدرته بالسؤال عن القرينة الثالثة.
فقال: إن القرينة الثالثة هي هذا الكتاب الصغير، وفتح يده. فحالما شاهدت فدوى خط شفيق شهقت وارتدت إليها قوتها، وهمت إلى الورقة فاختطفتها وقلبها يخفق وفرائصها ترتعد، وأراد بخيت منعها فلم يستطع، فقرأت تلك الورقة وعيناها تكادان تطيران من اللهفة، ولم تتم القراءة حتى امتلأت عيناها بدموع الفرح والحزن، وصاحت ببخيت: ويلك! هل تظن أنه لا يزال حيا؟ قال: الأرجح، يا سيدتي، أنه حي، بإذن الله؛ لأن الذي أنقذه من مذبحة هيكس باشا لا يتخلى عنه في غيرها.
فظهر على وجهها علامات الارتياح، وطاب خاطرها، وبهتت مدة تتأمل بكتاب شفيق وتعيد قراءته ثانية وثالثة ورابعة وهي لا ترفع نظرها منه، فتجددت آمالها وقالت لبخيت: ما العمل الآن؟ وما الرأي؟
قال: الرأي أن ننتظر الفرج من عند الله؛ فإنه على كل شيء قدير.
قالت: وماذا نعمل بهذا الثقيل الذي قد سلطه الله على أفكار والدي حتى صمم على تبليغه مرامه، ولكن ... فابتدرها بخيت قائلا: قد قلت لك، يا مولاتي، إنه غير بالغ مسمارا من نعلك، ولسوف ترين من بخيت ما يسرك.
قالت: افعل ما بدا لك، ولكنني لا أرى إلا أن والدي مائل إلى موافقته في قصده.
فضحك بخيت ضحكة اغتصابية كأنه تذكر أمرا أغضبه وقال: بل قد صمم وتم اتفاقهما، ولكنه غير بالغ شيئا طالما كنت حيا ولو أتى بمنومي العالم. ثم انتبه وعض أنامله كأنه فرط منه لفظ في غير أوانه.
فقالت له فدوى: وما معنى هذا الكلام؟ ومن هم المنومون؟ فأحب كتمان ذلك، فألحت عليه حتى خاف غضبها إذا لم يخبرها، فقال لها: إن في الأطباء اليوم فئة يستخدمون التنويم المغناطيسي.
قالت: نعم، أسمع بهم، وما بعد ذلك؟
قال: ومن خواص ذلك التنويم استهواء النائم في كل ما يريده المنوم، فإذا حببه أو بغضه بشخص في حال النوم يفيق وهو على ما أراد منومه. وقد علمت من ثقة أن ذلك الخائن قد بعث إلى بلاد أوروبا يستقدم طبيبا ينومك ويستهويك حتى تحبيه.
فنهضت عن السرير إلى أرض الغرفة قائلة: حاشا لله! إن جميع منومي العالم لا يمكنهم أن يحببوني بهذا النذل الخائن، وإذا مت فإن ترابي لا يحبه، ولا يمكن أن يحبه.
فقال: إن فعل الاستهواء غريب يا سيدتي، ولكنني أعلمك أنك تستطيعين رفض النوم؛ لأن والدك سيدعي أن ذلك الطبيب إنما جاء لتطبيبك؛ فتظاهري أنك بخير لا تحتاجين إلى طبيب، وذلك كاف، والأفضل - على ما أرى - أن تطلبي السفر من هذه المدينة لترويح النفس، فإن الأطباء قد أشاروا بذلك في الشتاء، ولم تكن الطريق مفتوحة لكثرة الثلوج، وأما الآن فقد جاء الربيع، وإن الجولان في لبنان لما تتوق إليه النفس، وينشرح له الصدر، وأظنك إذا أظهرت السلوى والإذعان لا يعود ثم داع لاستجلاب المنوم.
قالت: لقد نطقت بالصواب، فارجع هذا الكتاب إلى ما بين أوراق والدي لئلا يعلم باطلاعنا عليه، واخرج خارجا وأنا أدبر أمر سفري.
فخرج وجلست هي في غرفتها باهتة تردد في ذاكرتها أمر ذلك الكتاب، ولما تتصور شفيقا حيا تكاد تطير من الفرح، وقد أحست بعد تجدد آمالها أنها أحسن صحة.
فلما كان وقت الغداء جاء والدها ليتناوله معها - وكان قد قضى نصف ذلك النهار مع عزيز - فلما رأى فدوى كذلك سر كثيرا واستبشر برضاها، ولما جلسا إلى المائدة أخذا في أطراف الحديث، فقال الباشا: أراك اليوم - والحمد لله - في صحة جيدة.
قالت: نعم يا أبتاه، وإني أشكر الله على ذلك، ولكنني أشعر باحتياجي إلى الخروج من هذا الفندق ومن هذه المدينة.
قال: لقد صدقت، وأنا أرى كما رأيت، فإلى أين تريدين الذهاب؟ قالت: أسمع الناس يطنبون بجودة هواء لبنان، ولا سيما في أوائل الصيف؛ فالأفضل أن نسير إلى إحدى القرى؛ حيث يمكننا الإقامة في فندق أو منزل بضعة أشهر، فمتى انقضى الصيف نعود إلى بيروت، ولي شديد الأمل أن تكون صحتي جيدة جدا، بإذن الله.
فاستغرب الباشا ذلك منها، ولم يراجعها قط، وخيل له أن ذلك التحسن في صحتها ناتج عن سلواها شفيقا، فازداد سروره.
الفصل السادس والثمانون
قرية عاليه
فسار بعد الغداء توا إلى عزيز وعلى وجهه أمارات البشر، فقص عليه ما دار بينه وبين ابنته، فقال عزيز وقد رقص قلبه في صدره: وأنا ماذا أفعل؟ قال: أما مسيرك معنا في عربة واحدة فلا يليق، ولكن يمكنك أن تتبعنا بعد بضعة أيام، فإننا ذاهبون إلى قرية عاليه، وهي على مسافة ثلاث ساعات في العربة من هنا، وموقعها في سفح جبل عال تشرف على بساتين وغياض.
ثم أمر الباشا بخيتا أن يهيئ ما يلزم للسفر، وبعد يومين سار الباشا وابنته وبخيت في عربة حتى وصلوا قرية عاليه، فاتخذوا لهم مكانا في بيت لبعض أهل القرية.
أما فدوى، فلما أشرفت على ربى لبنان تعجبت من ارتفاعها وخصبها على كونها صخرية، وأما عاليه فأعجبتها وتحسنت صحتها فيها كثيرا، وكانت تخرج مع والدها أو مع بخيت إلى الكروم خارج القرية، فيأكلون ما حضر من الفاكهة، ويروحون النفس باستنشاق الهواء النقي الذي ليس له مثيل في العالم.
فلم يمض شهران حتى أحست فدوى بتحسن بين في صحتها، وأما عزيز فإنه لحق بهم، واتخذ له مكانا بالقرب من بيت الباشا حتى يطمئن قلبه على فدوى وهو لا يطمع مع ذلك بمشاهدتها، ولكنه كان يعلل النفس بمواعيد والدها. ورأى بعد مشورته أن لا حاجة إلى التنويم؛ لأنها أخذت تسلو شفيقا وتميل إليه، فبعث إلى أوروبا يؤخر مجيء المنوم.
أما فدوى، فكانت تسلي نفسها ما استطاعت بالذهاب إلى الكروم والينابيع مع والدها أو بخيت، غير أن أفكارها ما انفكت قلقة على شفيق.
ففي ذات يوم من أيام سبتمبر، كانت قد خرجت مع بخيت للنزهة في بعض الكروم. ولما استقر بهما المقام على صخر مرتفع مشرف على عدة آكام يكسوها الكرم والتين والمشمش وغيرها، وقد مالت الشمس إلى الزوال، وأصبح منظر تلك التلال مع ما تشرف عليه من سواحل بحر الروم عن بعد شاسع منظرا بديعا تزينه أشعة الشمس المائلة إلى الاصفرار، ويكلل البحر عند الأفق الشفق المتعدد الألوان، التي لا يقوى أشهر مصوري العالم على تقليدها.
فأخذت تتأمل في تلك المناظر البديعة، فمر في خاطرها الزمن الماضي وتذكرت شفيقا وأحواله، وما تخافه عليه من الخطر، فبهتت مدة وقد ملأ الدمع عينيها، وازداد بها الوجد حتى بكت، فلحظ بخيت منها ذلك فأخذ يشغلها بالأحاديث والآمال، فقالت له: آه يا بخيت! إن هذا القلب لم يعد يمكنه الاحتمال، فها قد أصبحت كريشة في مهب الربح لا تستقر على حال، فلا أدري إذا كان الحبيب ... آه! وسكتت ثم قالت: لا أعلم يا بخيت إذا كان لا يزال حيا، وما أنا في يأس من حياته بعد أن قرأنا ذلك الكتاب، ولكن التردد صعب، بل هو أصعب الحالات. وزد على كل ذلك أن هذا النذل الذي قد نضب ماء الحياء من وجهه لا يزال يميل إلي بعد أن عرف أني لا أقدر أن أراه، ولا يمكن أن أميل إليه أو أقبل به، فكيف يمكنني أن أرى شخصا يترصد خروجي ودخولي ويسترق النظر إلي، وأنا لا أطيق النظر إليه؟ والأنكى من كل ذلك أن والدي قد وافقه على قصده، وأخشى أن يغريه على التعجيل في إنهاء ذلك الأمر، فنقع في بلاء أعظم، ويظهر أنه اطمأن ولم يعد في عجلة من الأمر. أما إذا عاد إلى العجلة، فأعود إلى قصدي السابق، وأفضل الموت على حياتي مع من لا أحبه، وهو لا يحب الذي أحبه. وترقرقت الدموع في عينيها.
فابتدرها بخيت قائلا: طيبي قلبا يا سيدتي، وتحققي أن الفرج قد صار قريبا. أما أمر الاقتران فشيء يسهل تأجيله طالما كنت تظهرين لسيدي أنك لا تكرهين ذلك النذل الخائن. أما إذا رأى منك كرها له، فإنه يعجل في الأمر انتقاما منك، واعلمي - وحياة رأسك وشرفك وعفافك - أن قتل عزيز أسهل لدي من شرب كأس ماء! ولا يتعجب ضميري قط؛ لأنه مستوجب لأكثر من القتل، ولكنني لا أرى داعيا للتعجيل عليه، طالما كنا لا نخشاه، وهو لا يتجرأ على النظر إليك؛ فلا حاجة بنا إلى أن نعرض بأنفسنا لانتقام الحكومة، أو لغضب سيدي الباشا. أما إذا رأيت إلحاحا يوجب أقل كدر لك، فإني أقتله ولو كان داخل القلاع والحصون ولا أبالي إذا قضيت بعد ذلك.
فقالت: لا تذكر القتل أمامي؛ إني لا أستطيع تصوره. قالت ذلك وتنهدت، ثم قالت: والأمر الذي يهمنا الآن إنما هو الالتقاء بمنى فؤادي ومهجة كبدي. آه من الدهر الخئون! وبكت ... ثم قالت : والتخلص من هذا الإنسان الذي لا أقدر أن أحبه، والله يعلم ذلك.
ففكر بخيت قليلا ثم قال: ليس لنا يا مولاتي إلا أن نشغل سعادة والدك بالأسفار من مكان إلى آخر؛ فإنه عند ذلك يؤجل أمر الاقتران لبعد عودنا إلى القاهرة، ونحن لا نعود من هنا إلا متى علمنا ما انتهى إليه أمر سيدي شفيق.
الفصل السابع والثمانون
كشف السر
فقالت فدوى: بورك فيك يا بخيت. لقد نطقت بالصواب؛ فهيا بنا نعود إلى المنزل؛ لأن الشمس قد أغربت. فنهضت، وفيما هما في الطريق لحظ بخيت على طريق العربة المؤدية إلى القرية رجلا عرفه من ملابسه أنه ساعي البريد قادما من بيروت، فأنبأ سيدته، فقالت: إليك به؛ لعل لنا معه كتبا من والدتي. فأسرع إليه، فلما التقى به عرفه الساعي فقال: لدي كتاب لسعادة الباشا. وهم إلى (الجزدن) ودفع إليه كتابين، فإذا بأحدهما أكثر سماكة من الآخر كأن فيه أكثر من كتاب، فقالت له فدوى: لعل لي في هذا الكتاب كتابا خاصا بي، ومتى وصلنا إلى والدي نعلم الحقيقة. ولما وصلا البيت لقيا الباشا وقد فرغ صبره في انتظار البريد، فأخذ الكتابين وجلس وابنته في الحجرة، وفض أول كتاب وقرأه، ثم فض الآخر وإذا في طيه كتاب آخر ورقه قديم - وكانت فدوى أثناء قراءة الكتاب صامتة تنظر إلى ما يبدو من والدها - فإذا به وهو يقرأ قد ظهر على وجهه علامات التعجب، فخفق قلبها ورغبت في استطلاع الأمر، لكنها لم تشأ أن تقطع قراءة والدها، ثم رأته قد تناول الكتاب الآخر القديم وفتحه، وأخذ يقرأ فيه وهو في انذهال، فلم تعد تستطيع صبرا، فأخذت تخطر في الحجرة، فأدرك والدها منها ذلك، فتظاهر بانشغاله في أمر مهم خارج الغرفة، وخرج ثم عاد وقد أخفى أحد الكتابين، فأدركت فدوى أن في الكتاب الآخر ما يهمها، فصبرت نفسها، ولكنها سألت والدها عن الأخبار، فقال: إن والدتك في خير وهي تود المجيء إلى هنا، فقالت: ولماذا؟ قال: لقضاء فصل الصيف والذهاب إلى دمشق لمشاهدة والديها .
فقالت فدوى: حبذا مجيئها، فإني أستأنس بها في هذه الديار، فهلا ألححت عليها بالمجيء، قال: سأكتب إليها بشأن ذلك.
أما فدوى فما برحت تفكر بالكتاب الذي أخفاه والدها عنها، ولم تعد تعلم كيف تصبر نفسها، فبعد العشاء وذهاب الباشا إلى غرفة منامه خلت ببخيت وأخبرته الخبر، فقال لها: طيبي نفسا؛ فإن علي بتلك الورقة وإطلاعك عليها.
قالت: أريد منك ذلك عاجلا.
قال: علي به الليلة - إن شاء الله - وسآتيك بالكتاب في أثناء هذا الليل.
قالت: سر وفق الله مسعاك.
ومضى بخيت واستلقت فدوى على فراشها للرقاد وجفنها لم يغمض قط، وكانت إذا سمعت صوتا تظن بخيتا قادما، فمضى نصف الليل ولم يأت. وفي نحو الساعة الثانية بعده، سمعت وقع أقدام في الغرفة - وكان النور فيها ضعيفا - فانتبهت وجلست وأشعلت شمعة، فناولها بخيت الورقة، فدنت من الشمعة وأخذت تقرأ فإذا فيها.
اعلمي يا امرأتي العزيزة أن حكاية ذلك الصندوق وذلك الشعر الملوث بالدماء حكاية قد كتمتها عن جميع المخلوقات نيفا و23 سنة، وقد كنت عازما على كتمانها إلى أن يقضي الله بما يشاء، على أن إلحاحك وسفرنا في البحور الآن حملاني على كتابة هذا إليك، حتى إذا أصابني سوء في البحر أو البر، فتقرئين هذه الورقة وتعلمين حكايتي وأصلي وفصلي.
أما أصلي فمن دمشق في بلاد الشام؛ ولدت من والدين لم يولد لهما سواي إلا ابنة، وربينا في رغد ودلال حتى كانت حادثة دمشق سنة 1860، التي جرت على أثر حوادث لبنان المفجعة، التي ذبح فيها نصارى حاصبيا ودير القمر وغيرهم ذبح الأغنام في سراي كل من تينك المدينتين على علم من الضابطة ورجال الحكومة.
أما حادثة دمشق التي أورثت لي هذا التشتت، فسببها محاولة مسيحيي دمشق السير على مقتضى التنظيمات الخيرية التي سنها السلطان عبد المجيد سنة 1856 بشأن البدلية العسكرية، وإصرار واليها أحمد باشا إذ ذاك على تكليفهم خلاف ذلك، حتى تفاقم الخطب، وكتب إلى ديوان الآستانة يشكوهم، فوردت عليه الأوامر مؤذنة بتأديبهم، فجمع إليه مشائخ المدينة وعلماءها في القلعة واستفتاهم في تأديب أولئك العاصين، فأفتوه إلا قليلا منهم.
ففي صباح الاثنين، الواقع في 9 تموز سنة 1860، بدأت الثورة في ناحية باب البريد بقرب الجامع الأموي، فثار أهل تلك الناحية بدعوى الإهانة التي لحقت بالمسلمين على أثر حكم الوالي على بعض السوقة منهم بالطواف في الأسواق وكنسها وهم مغلولون؛ عقابا لهم على ما أرادوه بالمسيحيين من الإهانة قبل ذلك برسم صورة الصليب على الطرق.
وقد كنت أنا في جملة أهل باب البريد أيضا، فرأيت جيراني قد ثاروا كافة وأقفلوا حوانيتهم وحملوا سلاحهم غضبا لما لحق أولئك من الإهانة، على زعمهم، فأقفلت حانوتي وقد ثارت في رأسي خمرة الجهل، وأنا إلى ذلك الحين لم أعلم سبب تلك الثورة، فتبعت الجماهير، وطفقنا ندخل البيوت ونقتل كل من تصل إليه يدنا من المسيحيين، وكنت لا أتجاوز العشرين من العمر، فأتيت أمورا لم يحللها الله ولا أحد من الأنبياء، وما زلت في ذلك حتى أتيت بيتا وقد تلطخت ثيابي بالدماء وأنا لا أفقه ما أفعل؛ لأن الجهل أعمى بصيرتي، فعالجت الباب حتى كسرته ودخلت البيت، وأنا في تلك الحالة من التهيج والقساوة والهيئة المخيفة والخنجر في يدي يقطر دما، فحالما وطئت الرخام المرصوف في تلك الدار خرج إلي شاب في شرخ شبابه، وترامى على قدمي يقبلهما ويتضرع إلي أن أقتله ولا أدخل بيته، فلم أصغ إلى قوله ولا رحمت دموعه، بل رفسته برجلي، وازددت رغبة في الدخول، فقال: ليس في البيت أحد إلا فتاة هي خطيبة لي، فاقتلني واكفف عن البيت لئلا يصيب الفتاة سوء، فما كان مني إلا أن طعنته بخنجري، فصاح صيحة الألم الشديد وقال: أودعك الله يا حبيبتي - جعلت فداك. ثم نظرت وإذا بفتاة كالبدر طلعة، والخيزران قواما، محلولة الشعر حالكته، قد خرجت من ذلك البيت، وانقضت على ذلك الشاب ورمت بنفسها عليه، وقد قطعت شعرها ونادت بأعلى صوتها: حبيبي، روحي فداك، لا أصابك الله بسوء. فهممت أن أمسكها وأرفعها عنه، فأصابت قبضتي شعرها، وأردت إنهاضها فإذا هي ميتة لا حراك بها، فشعرت من تلك اللحظة كأني صحوت من سكرة، وعلمت أني قتلت نفسين بريئتين، وكانت يدي لا تزال قابضة على شعر الفتاة، فجذبتها أريد استخراجها، فكان الشعر قد التصق بيدي بسبب الدم الذي كانت يداي ملوثة به، فاقتلع بعض ذلك الشعر بيدي، فوددت لو تنفتح الأرض وتبتلعني، فخرجت من ذلك الباب وإذا بجماعة في لباس المغاربة شاكي السلاح يتقدمهم رجل جليل القدر في مثل لباسهم، ولكن أكثر إتقانا وعظمة، فحالما وقع نظري عليه عرفت أنه الأمير عبد القادر الجزائري، وأن هؤلاء رجاله يطوف بهم المدينة لإنقاذ النصارى من الذبح، وعلمت بعد ذلك أنه فرق نحو أربعمائة من رجاله في الأسواق مسلحين يحملون العائلات المسيحية إلى بيته في العمارة؛ وقاية لهم من القتل، وقد خرج هو بنفسه أيضا لمساعدة رجاله، فاتفق أنه وصل إلى ذلك البيت وقد تحولت للخروج منه. فلما عاين القتيلين في ساحة الدار يخبطان وقد اختلط دمهما بالماء المنسكب من (الفسقية) على الرخام صاح بي قائلا: يا لقسوتك يا جاهل! ثم ناداني باسمي وأمر رجاله أن يدخلوا الدار، فارتعدت فرائصي وكأني شعرت بشنيع فعلتي، ولم أعد أعي ما أعمل، فحملني حب النجاة أن أفر من وجه هؤلاء المغاربة، فأدركني واحد منهم وهم بالقبض علي، فابتدرته بطعنة من خنجري أصابت صدره، فسقط وتحولت إلى داخل البيت وأنا لا أدري إلى أين أذهب، فسمعت الأمير يقول: اقبضوا عليه أو اقتلوه؛ لأنه مستوجب القتل. فأسرعت إلى نافذة وثبت منها إلى الطريق وطلبت الفرار، وما زلت مسرعا لا ألوي على شيء بيدي الواحدة خنجر يقطر دما، وبالأخرى خصلة الشعر ملوثة بالدماء، وأنا من الجهة الواحدة آسف على ما فرط مني، ومن الجهة الأخرى خائف من انتقام الأمير، وقد علمت أنه لا بد من أن ينتقم مني، فطفقت فارا لا أدري إلى أين أنا ذاهب، ولا من أين أنا آت، وصورة تلك الفتاة وذلك الشاب نصب عيني، وقلبي يرتجف خوفا من غائلة ما فعلت، حتى سدل الليل نقابه، فعرجت إلى منفرد وجعلت أنظر في أمري ، فقلت في نفسي: لأختبئن في مكان حتى أرى ماذا تئول إليه هذه الحادثة المشومة. فاختبأت بضعة أيام حتى علمت أن الحكومة السنية بعثت فؤاد باشا مندوبا خصوصيا يتحرى الحقيقة ويقتل الجانين، فأيقنت أن الأمير عبد القادر يترقب الظفر بي حتى يخبر لجنة البحث لتحكم علي بالقتل، وأنا أستحقه شرعا وعرفا، فخرجت من دمشق الشام ولم أخبر أحدا بخروجي، وجئت الديار المصرية وأنا لا أزال خائفا من غائلة ما جنته يدي، وكنت قد حفظت تلك الخصلة من الشعر في صندوق لكي لا أنسى ذنبي. ولما استتب لي المقام في القاهرة لم أر أفضل من انتظامي في خدمة إحدى القنصلاتات بأي صفة كانت؛ إذ أكون هناك تحت حمايتها إذا اقتضت الحال، فانتظمت في خدمة قنصلاتو إنكلترا، وما زلت أجد وأترقى حتى وصلت إلى ما أنا عليه، وقد أبدلت اسمي عبد الرحمن بإبراهيم إخفاء لحقيقة طائفتي؛ خوفا من أن يحول اسمي دون بلوغ مرامي.
وقد كنت عازما على كتمان هذه الحكاية حتى يحكم الله فيها؛ فإما أن يسافر الأمير عبد القادر من دمشق، أو أن يموت، أو تأتي ساعتي، وبما أنك أردت معرفة هذا السر، وقد ألححت علي في استطلاعه، كتبت إليك هذا حتى إذا غرقت في البحر الذي نحن مسافرون فيه، وقرأت هذا، فتعلمين أن والدتي ووالدي لا يزالان في دمشق. وقد علمت أن شقيقتي اقترنت برجل عظيم غريب الديار، فأعلمي ولدنا بذلك أيضا حتى يسير إلى جديه، فإنهما يسران بمشاهدته كثيرا إذا كانا لا يزالان في قيد الحياة، وأما اسم عائلتي فهو بيت كذا في سوق كذا. أما الصندوق فأحرقيه بجميع ما فيه، والسلام.
الفصل الثامن والثمانون
دمشق الشام
فلم تتم فدوى قراءة ذلك الكتاب حتى اختلج قلبها في صدرها، وارتجفت ركبتاها، وبردت أطرافها، ونادت قائلة: بخيت بخيت، ما ظنك بكاتب هذا؟ أليس والد حبيبي شفيق، فإن اسمه إبراهيم في قنصلاتو إنكلترا، وولده وحيد، وإلا فما معنى إخفاء والدي هذه الورقة عني.
فتبسم بخيت وقال بصوت منخفض: إن لذلك سببا مهما .
قالت : وما هو.
فأخرج من يده ورقة أخرى وقال: وهذا كتاب والدتك المرسل مع هذا. فتناولته وقرأت فإذا فيه:
أنت تعلم حكاية ضياع أخي أثناء حادثة دمشق سنة 1860، وقد استنتجت من قراءة هذه الورقة أن كاتبها هو أخي بعينه، فبعثت بها إليك لأرى رأيك؛ لعلك تعرف شيئا عن الرجل. وأحب المجيء إليكم؛ لأرى والدي، ونتفاوض في كيفية البحث عنه إلخ.
فبهتت وقد أخذ العجب منها مأخذا عظيما، ثم نادت قائلة: إنه من ذوي قرابتي. آه يا بخيت! إنه ابن خالي! آه لو عرفت ذلك قبل الآن! ثم صمتت مدة تتأمل بهذا الاتفاق العجيب، وتذكرت مصيبتها وقد عظمت في عينيها، وازدادت في البكاء والنحيب.
فقال لها بخيت: هل أنت واثقة بما تقولين؟
قالت: أذكر قول والدتي مرة بأن لها أخا فقد منذ حادثة دمشق. وها إنه والد حبيبي شفيق، وهذا هو سبب محاولة والدي إخفاء ذلك عني؛ لئلا يهيج أشجاني.
فقال بخيت: عليك بكتمان الأمر كأنك لم تعلمي شيئا عنه، ومتى جاءت والدتك كاشفيها بالحكاية، واستطلعي كنه الأمر منها. وها إني عائد بالأوراق إلى حيث كانت. قال ذلك وخرج، وعادت هي إلى فراشها وقد تعاظمت هواجسها، وتضاعف حبها لشفيق بعد أن عرفت بما بينهما من القرابة.
وفي اليوم التالي، بكرت للخروج إلى الكروم، وسار بخيت برفقتها، فافتتحت حديث الأمس، فرفس الأرض برجله قائلا: أؤكد لك يا سيدتي أن الله سيطيب قلبك قريبا؛ لأن محبتكما طاهرة، وأساسها القرابة عن غير علم منكما، فإن هذه الحجارة تقضي باجتماعكما، والله يفعل ما يشاء، فأرى الآن أن تلحي على سيدي الباشا ليستقدم سيدتي إلى هنا، ومتى جاءت تذهبون جميعا إلى دمشق لمشاهدة جديك، ومن هناك نرى ماذا يتم.
فلما عادت ألحت على والدها بذلك فأجابها؛ لأنه كان يراعي رأيها كثيرا؛ حفظا لرضاها على عزيز، حسب ظنه. وبعد مضي بضعة أشهر، جاءت والدتها، فاتخذت فدوى كل وسيلة حتى خاطبتها بأمر تلك الوصية، وأفهمتها أن أخاها هو والد شفيق حبيبها، فقالت والدتها: نطلب إلى الله أن يجمعنا بأخي ، وعسى أن يعود شفيق من السودان حيا.
فتنهدت فدوى وسكتت تنتظر الفرج من عند الله.
وكان الشتاء قد جاء ولم تعد تطيب السكنى في لبنان؛ لتراكم الثلوج، وانهيال الأمطار، واشتداد البرد، فقر رأيهم على السفر إلى دمشق؛ ليشاهدوا الأهل ويقضوا بقية فصل الشتاء هناك.
فبعث الباشا إلى بيروت يكتري عربة خصوصية من شركة طريق الشام، فلما حضرت العربة ركب بها الباشا وامرأته وابنته، وركب بخيت بجانب السائق تاركين سائر الخدم والأمتعة في عاليه.
أما عزيز فتواطأ مع الباشا على أن يتبعهم إلى دمشق، فسارت بهم العربة على تلك الربى في طريق كثيرة التعرج، تارة يصعدون، وطورا ينحدرون، حتى وصلوا البقاع العزيزية المشهورة بخصبها واتساعها في منتصف الطريق بين بيروت ودمشق.
فانذهل الباشا وفدوى بنوع خاص لذلك المنظر البهج، فإن المشرف على تلك البقاع الخصبة يخيل له أنها بساط متسع منقسم أقساما مربعة، عديدة الألوان بين أحمر قان وأسمر وأخضر وأزرق وسنجابي وعنابي وأبيض كاختلاف الزرع في النضج، والتربة في الحراثة.
فوقفت بهم العربة بالقرب من فندق في ذلك السهل نحو ساعة حتى استراحوا، ثم عادوا يريدون دمشق فلم يدركوها إلا بعد الغروب، فنزلوا في فندق مشرف على نهر بردى، ونزل الباشا في الصباح التالي يفتش عن حمويه، فإذا هما لا يزالان في بيتهما القديم. فلما شاهدا الباشا لم يعرفاه لطول غيابه عنهما، وهو أيضا لم يعرفهما؛ لما كان من تأثير الشيخوخة عليهما، مع ما رافق حياتهما من الأحزان والأكدار. ولما عرفاه وعرفهما هما إليه وقبلاه وقبل أيديهما، وسألاه عن ابنتهما، فقال: هي هنا معي بخير، وابنتي كذلك، وإنما جئت وحدي لكي أتحقق وجودكما في البيت، فتقدما إليه أن يبعث إليهما فيأتيا، فذهب هو بنفسه وجاء بهم جميعا، ونزلوا في بيت عمه. ولا تسل عن قلب ذينك الوالدين وما أظهراه من الاشتياق لابنتهما التي لم يرياها منذ 25 سنة تقريبا، وقد أحبا فدوى بنوع خاص لما كان في وجهها من اللطف والجمال مع ما هي فيه من الضعف.
فمكث الباشا وسائر عائلته في دمشق بقية ذلك الشتاء إلى ربيع سنة 1885، وكان عزيز قد جاء دمشق يترقب نيل مرامه، وكان قد خامره ريب في مواعيد الباشا لطول مدة الانتظار، ولكنه لم يجترئ على مخاطبته إلا برقة وحسن أسلوب لئلا يغضبه؛ إذ كان قد عرف أن يده على جميع ممتلكاته. ولا تسل عن ندمه على كتابة تلك الورقة، ولم يكن يظهر ذلك أمام أحد.
ولما جاء الربيع أراد الباشا الرجوع إلى مصر، وألح على حمويه أن يذهبا معه؛ إذ ليس لهما إرب في دمشق - وكان قد أطلعهما على تلك الورقة - فقال: إننا من الممكن أن نجتمع بولدكما في مصر. أما إلى هنا، فلا أظنه يأتي؛ فالأفضل أن تسيرا معنا نقضي بقية هذه الحياة معا في مصر، فاستحسنا الرأي، بل كان ذلك غاية مناهما تخلصا من تذكر ولدهما في المدينة التي فقد فيها، فباعا كل ما كان لهما من الأمتعة والأثاث والأملاك، وهاجرا دمشق وقد تجددت أحزانهما بعد تلاوة تلك الورقة، وبكيا من أجلها بكاء شديدا.
الفصل التاسع والثمانون
وادي القرن
ففي أوائل شهر نيسان (أفريل) سنة 1885، اكتروا عربتين ركب في إحداهما فدوى وجداها - وكانا قد أحباها محبة عظيمة جدا، ولم يعودوا يفارقانها ساعة - وفي الأخرى الباشا وامرأته وبخيت، وجميعهم ملثمون بالكوفيات الحريرية الدمشقية، وقد التف الرجال منهم بالعبي؛ وقاية لهم من غبار الطريق، واتباعا لعادة المسافرين في تلك الجهات، فبرحوا دمشق صباحا على نية أن يصلوا البقاع في الأصيل، ومن هناك يعرجون إلى بعلبك، فيصلونها في الغروب، فيبيتون فيها ويقضون بها اليوم التالي لمشاهدة قلعتها الشهيرة، ثم يواصلون السير في الغد إلى بيروت. وكان الباشا قد أخبر عزيزا بذلك حتى يقتفي أثرهم.
فسارت العربتان في الطريق المعدة للمسافرين بين دمشق وبيروت، وما زالوا سائرين وعربة الباشا إلى الأمام، والعربة الثانية إلى الوراء مدة ثلاث ساعات. وكانتا سائرتين بسرعة بأمر الباشا لئلا يداهمهم الليل في الطريق، وفيها من الأماكن الخطرة التي تقطعها اللصوص، ويتعرضون بها لأبناء السبيل للنهب والقتل. وفيما هم سائرون حرنت خيل عربة فدوى وجعلت تتقهقر إلى الوراء، والطريق هناك على حافة تحتها هوة عظيمة، فخاف السائق أن تهوي بهم العربة إلى ذلك الوادي، فأنذرهم بالخطر، فتحولوا من العربة حالا. أما الخيل فلم تكن تزداد إلا حرونا حتى صدمت العربة صخرا، فتعطل بعض أدواتها، فبعث السائق إلى أقرب مركز للشركة، فأتى ببعض الرجال بنجدته، فحلوا الخيل وأخذوا في تصليح العربة. وكان الباشا قد عاد بعربته بعد أن عرف ما حل بالعربة الأخرى، ولبثوا ينتظرون تصليحها، فلم يتم إلا بعد الظهر بساعتين، فركبوا وساروا يجدون السير خوفا من خطر الطريق إذا داهمهم الليل فيها، فبدلوا الخيل في محطة ميرسلون، وساروا قليلا، فأشرفوا على انحدار ينتهي بواد عميق بين جبلين، والشمس قد قاربت الزوال، وشاهدوا إلى جانب الطريق قبل مدخل الوادي بناء قديما مهجورا، فعجبوا له، وقد هابهم سكون ذلك المكان وقفره، ثم لحظوا في ذلك البناء أشخاصا في لباس أهل تلك الناحية قد وقفوا أمام البناء ينظرون إلى العربتين وهما سائرتان حتى مرتا بهم، ثم رآهم بخيت بعد أن بعدت العربتان يسيرون في أثرهما رويدا رويدا، فأوجس خوفا منهم، ولم يخبر أحدا لئلا يخافوا، ولكنه أوعز إلى السائقين أن يجدا في السوق ليبعدوا عن أولئك. وما زالت العربتان سائرتين حتى دخلتا ذلك الوادي، فإذا هم بين جبلين شامخين شموخا عظيما، حتى لا يرى المار من السماء إلا جزءا صغيرا جدا، فقال أحد السائقين يخاطب بخيتا: هذا هو المكان المعروف بوادي القرن؛ المشهور بقاطعي الطرق، وكان الخطر شديدا جدا في الزمن الماضي، وأما الآن فقد نظمت شركة العربات خفرا من الفرسان يتجولون ذهابا وإيابا؛ حماية لها، وتهديدا للذين يقطنون هذا الجوار من التعدي، والحكومة أيضا قد نظمت نفرا من الجند لهذه الغاية. وقد شاهدنا بعض هؤلاء في طريقنا منذ ساعة، فقال الباشا: نعم، قد رأيناهم - وقد أثر ذلك الكلام في قلبه خوفا شديدا، لا سيما عندما تذكر أن معظم رفاقه نساء وشيوخ لا يقوون على الدفاع، فبهت الجميع لرهبة ذلك المكان المخيف مع ما سمعوه من حديث ذلك الوادي مما يتحدث به الخاص والعام في سائر بلاد الشام.
فسارت العربتان برهة والرهبة مستولية على الجميع، وكان الفرس الذي تبدل في محطة ميرسلون حرونا، فأجفل بغتة وأخذ يسير القهقرى حتى دارت العربة وسقطت إحدى عجلاتها في قناة على جانب الطريق، ولم يعد طلوعها ممكنا إلا رفعا بالأيدي. وكان الباشا فيها، فاستعاذ بالله، ونزل بخيت لمساعدة السائق في إخراجها، وما زالوا يعالجونها مدة حتى غابت الشمس وأظلمت الدنيا. وكان السائقان من الجهة الأخرى ينقمان على الساعة التي ركب فيها هؤلاء الركاب معهم، وكان الباشا يسمع السب بأذنيه ويغض الطرف لما رأى من افتقاره إلى ذينك السائقين إذا اقتضت الحال، فأخذ يلاطفهما ويقدم لهما سكاير للتدخين وغير ذلك من أنواع الملاطفة وهم لا يزدادون إلا غضبا. وأما بخيت فكان قد درس طباع القوم، وسمع كثيرا من حوادث وادي القرن، فأخذ يتظاهر أمام السائقين بعدم الاكتراث؛ تشجيعا لهما، ووقاية من تعديهما.
ولم تخرج العربة من القناة إلا بعد الغروب بساعة، فتشاءم الجميع مما اتفق لهم في ذلك اليوم، وكان البرد قد اشتد، فبالغوا في التلثم حتى لم يعد يظهر من وجوههم إلا العيون، وتزملوا بالعبي تزملا محكما نساء ورجالا، وكل منهم يحاذر أن يسمع صوتا، أو يرى شبحا؛ لهول ذلك الوادي وشدة رهبته. أما فدوى فكانت مع جديها في عربة مقفلة، وقلما علموا شيئا مما كان يحاذره الآخرون، غير أن منظر ذلك الوادي كان كافيا لإرهاب أشد الرجال.
فأنار السائقان مصابيح العربتين وهما بالسوق وقد لعنا ذلك اليوم، وكان بخيت راكبا بجوار السائق في العربة الأمامية. ولم تجر الخيل حتى سمعوا وقع أقدام وراءهم، فالتفت بخيت فإذا بالرجال الذين خرجوا من ذلك البناء قد أسرعوا يريدون إدراك العربتين، فأوعز إلى السائقين أن يسرعا، وإذا بهؤلاء الرجال قد أدركوا الخيل وأمسكوا بأعنتها وأوقفوها، فصاح بهم بخيت - وكان منظره مخيفا للغاية؛ لأنه كان شديد السواد، محملق العينين، ملثما بالكوفية، فأصبح منظره في ذلك النور الضعيف كمنظر الجان - فلما صاح بهم أجابه أحدهم قائلا: هاتوا ما عندكم وفوزوا بأرواحكم. فأجابه بخيت بصوت جهوري وقلب لا يهاب الموت: ليس عندنا إلا السيوف القاطعة، والنار الدائمة، وإذا أعدت السؤال لا ينوبك إلا الوبال أنت وجميع هؤلاء الأنذال، فقال الرجل: فوزوا بأرواحكم؛ ذلك خير لكم، فإنكم نفر قليلون، فنذيقكم الهلاك بهذه السيوف. وجرد سيفه.
فوثب بخيت من العربة وفي يده الريفولفر، وأطلق منه طلقا قائلا: إننا لا نهاب سيوفكم، وهذه نارنا تحرق أبدانكم، فسيروا بأنفسكم من هنا قبل أن يدرككم الهلاك. وكان بخيت يتكلم وقلبه واجس على أسياده، ولا سيما فدوى. أما السائقان فلأنهما مسئولان عن العربتين أمام أصحاب الشركة اضطرا إلى مشاركة بخيت بالدفاع.
أما أولئك اللصوص فكانوا قد علموا بنور المصابيح أن ليس في هاتين العربتين من الرجال الأشداء غير هذا العبد والسائقين، فصفر أحدهم بصفارة فخرج من جوانب الطريق نفر من أمثالهم بالسيوف والعصي، فوقع الرعب في قلوب الجميع. أما بخيت فاشتدت به النخوة حتى أوصلته إلى الجنون، وتقدم إلى كل من السائقين قائلا: إنكم إذا ساعدتمونا تنالان من سيدي الباشا مالا كثيرا، وتنقذان أنفسكما، فهيا بنا يا رجال لبنان. فاتقدت بهما نار الحمية، واستل كل منهما شاكريته (خنجره)، ونزلا يريدان إيهام اللصوص أنهم عدة كثيرة.
وكان هؤلاء قد هموا إلى العربتين، فأطلق عليهم بخيت بعض الطلقات النارية فجرح اثنان منهم، وبدلا من أن يفروا جمهروا حتى بلغ عددهم أكثر من العشرة، وأصيب بخيت بضربة في كتفه، فصاح من الألم، ولكنه لم يكف عن الدفاع.
وأما العربتان، فإن خيلهما أجفلت من إطلاق النار، وسارت القهقرى، وجعلت ترفس الأرض بأرجلها، فأصبحت فدوى وجداها في خوف لا مزيد عليه، وكذلك الباشا وامرأته في العربة الثانية. وفيما الخصام قائم كان بعض هؤلاء اللصوص واقفين عند العربتين وقد أطفئوا مصابيحهما، وأخذوا يطلبون إلى من فيها أن يسلموا ما لديهم، فلم يمنع الباشا منهم شيئا، ووعدهم بأكثر من ذلك إذا كفوا عن أذاهم. وأما هم، فلم يكن يرضيهم شيء قط، ثم جاء رفاقهم بعد أن تركوا بخيتا مضرجا بدماه بين حي وميت وقد فر السائقان.
فنزل الباشا من عربته، ونزل ذلك الشيخ من العربة الثانية وأخذا في استعطاف هؤلاء اللصوص واسترحامهم قائلين: إننا نعطيكم كل ما تريدون، وإنما نريد منكم الكف عن أذانا؛ لأن بصحبتنا نساء، فتقدم واحد منهم وأشعل عودا أمام نافذة عربة فدوى، فإذا فيها تلك العجوز وفدوى إلى جانبها في لباس السفر، وفي وجهها من وراء اللثام جمال باهر، فلما رأته بالغت في التلثم، وأخذت في البكاء والانتحاب مع جدتها، فقال أحد هؤلاء اللصوص: لا تبكوا؛ إننا نكف عن قتالكم إذا أعطيتمونا كل ما معكم، وهذه الفتاة. وأشار إلى فدوى، فصاح الباشا وتضرع إليهم أن يستبدلوها بما شاءوا، فلم يقبلوا، ثم أمسكها أحدهم بيدها وجذبها من العربة، فسقطت على الأرض، فقامت الصيحة، وتعاظم النواح والبكاء والاستغاثة، وهؤلاء لا يبالون، ولم يشغلهم شاغل عن جر فدوى على التراب يريدون حملها، وقد هم بعضهم إلى نهب العربتين.
الفصل التسعون
النجدة
وفيما هم في ذلك سمعوا صوت وقع خيول قادمة طرادا، فظن الباشا أنها نجدة لهؤلاء اللصوص، وأما هم فعلموا أنها ليست لهم، فخافوا وأسرعوا إلى نيل مرامهم، فهم بعضهم إلى الباشا يفتشونه، والبعض الآخر إلى فدوى يريدون حملها والذهاب بها، فصاحت: ويلاه! اتركوني يا ناس وخافوا من الله. ولم تتم كلامها حتى وصلت الخيالة وهم ينادون: عنهم يا كلاب يا أنذال. فعلم الباشا أن القادمين من الخفراء، فاشتدت عزائمه - وكان قد سار إلى ابنته ليدافع عنها - فلما وصلت الخيالة أطلقوا على اللصوص بعض الطلقات النارية، فطلب هؤلاء الفرار، ولما لم يبق أحد منهم تقدم الفرسان، وعددهم خمسة، إلى العربتين، فقامت فدوى إلى عربتها، فنظر إليهم الباشا فإذا هم ملثمون بالكوفيات، وعليهم لباس العسكرية، فتقدم إليهم شاكرا وتوسل إليهم أن يرافقوهم إلى البقاع أو إلى بعلبك، وقال: إن السائقين فرا، ونحن لا نعرف الطريق، فضلا عن الخطر. فأجابوا الطلب، فقال الباشا لبعضهم: هلم معي نفتش عن خادمي حيث كانت الموقعة. وساروا تحت جنح الظلام، فإذا ببخيت يئن من الألم، فسألوه عما به، فأشار إلى أنه مصاب بجرح في كتفه، وآخر في فخذه لا يستطيع النهوض، فحملوه إلى العربة، وركب اثنان من هؤلاء الفرسان في محل السائقين، وساقا العربتين، وسار من بقي منهم راكبا حذاء العربتين.
أما فدوى فكان قد سكن روعها، وأما قلبها فكان واجسا على بخيت، وقد علمت أنه جريح، ولم يمض يسير حتى خرجوا من ذلك الوادي، ووصلوا محطة الجديدة فإذا بالسائقين، فعنفهما الباشا على فرارهما، فاعتذرا بأنهما جاءا ليبلغا ما حصل لمأمور المحطة ليرسل من ينجدهم، ثم ركب كل منهما كرسيه بعد أن بدلا الخيل، وأنارا المصابيح، وساقا العربتين، وقد أحاط الفرسان بهما، وسار الجميع يريدون البقاع.
ففي أثناء الطريق، كان بمحاذاة عربة فدوى أحد هؤلاء الفرسان، وكان جدها الشيخ قد لحظ في محطة الجديدة على نور المصباح أن تحت عباءة ذلك الفارس لباسا ملكيا، وليس عسكريا كسائر رفقائه، فلم يعتد بذلك، فلما كان بإزائه أراد الاستفهام منه عن بعض أحوال تلك الجهات، فأدار شكيمة جواده وأشار إلى أحد رفاقه فجاء إلى الشيخ وسأله عما يريده.
فتعجب الشيخ لذلك، وكيف أن ذلك الفارس لم يكترث بسؤاله، فلما جاءه الفارس الثاني وسأله عما يريد قال: أريد منك أن تخبرني أولا عن هذا الفارس رفيقك، فإني سألته عن بعض أحوال هذه الجهات فلم يجبني، والمنتظر منه أن يعرف ذلك جيدا.
فقال الفارس: إنه يا سيدي ليس خفيرا ولا نحن خفراء.
قال: ومن هو إذن؟ ومن أنتم؟
قال: إنه مسافر لقيناه في البقاع قادما من بيروت وقاصدا دمشق في عجلة، وكان قد دنا الليل وهو لا يعرف الطريق، ونحن جند لبناني ذاهبون في مهمة إلى دمشق، فطلب إلينا مرافقته، فأجبنا الطلب، ويظهر أنه كريم النفس جدا؛ لأنه حالما سمع استنجادكم هجم أمام الجميع فتبعناه، وقد عمل في نجاتكم عملا لم نعمله نحن جميعنا، ومع كثرة استعجاله في المسير إلى دمشق لم يستنكف من مرافقتكم إلى البقاع، مع أن هذا الرجوع يؤخر وصوله إلى دمشق يوما كاملا على الأقل، فأعجب الشيخ لهذه الشهامة، وعول أنه عندما يصلون إلى البقاع يخبر صهره بذلك ليوفيه حقه من الشكر والثناء.
وكانت فدوى جالسة بجانب جدها تسمع حكاية الفارس، فأعجبتها تلك الشهامة، وتذكرت حبيبها شفيقا؛ مثال الشهامة والمروءة، فهاج بها الوجد، وأخذت دموعها تتساقط رغما عنها، ولم تكن تخشى ملاحظة جديها؛ لأن داخل العربة مظلم إلا إذا كلماها، فإنها لا تستطيع الجواب لاختناقها بالدموع.
وفيما كان الشيخ يخاطب العسكري بذلك، كان الباشا يخاطب عسكريا آخر بإزاء عربته في أحاديث مختلفة على سبيل التسلية، ففهم منه الباشا مثلما فهم الشيخ، فتعجب لشهامة ذلك الفارس أيضا.
وكان الفارس المحكي عنه سائقا وراء العربة الخلفية التي هي عربة فدوى، وهو في شاغل عن كل تلك الأحاديث بما يجول في خاطره من الهواجس والتأملات، تطلعا إلى دمشق التي يتوقع الوصول إليها بفروغ الصبر، ولم يحمله على تأخير وصوله إليها إلا شهامته.
وما زالت العربتان جاريتين حتى سمع الباشا الفرسان يقولون: قد وصلنا البقاع العزيزية، وأصبحنا على مسافة 4 ساعات من بعلبك، فقال الباشا: أظن الأفضل أن نبيت بقية هذا الليل في إحدى القرى المجاورة؛ لأن حركة العربة قد أضرت بجراح الجريح. ثم سأل عن أقرب قرية من الطريق، فقيل له: إن هناك قرية على مسافة نصف ساعة، فهم أن يأمر السائق بالمسير إليها، فإذا ببخيت يئن، وكان في عربة الباشا فسأله عن حاله فقال: إنه لم يعد يستطيع البقاء في العربة لحظة، فأوقفوا العربتين، فنزلت فدوى وهي ملثمة ودنت من والدها تسأله عن بخيت، فطيب قلبها وبعث أحد الفرسان يسأل عن أقرب بيت في ذلك الجوار، فعاد حالا وأخبر أنه وجد بيتا كبيرا على مقربة منهم، فنزل الجميع - وكانوا يشاهدون النور في البيت - فترجل بعض الفرسان وحملوا بخيتا على أيديهم، وسار الجميع في الظلام يريدون ذلك البيت، حتى إذا اقتربوا منه تقدمهم الفارس المجهول وهو لا يزال على جواده، وسأل عن أهل ذلك البيت، فخرج إليه رجل في لباس أسود لم يستطع تمييزه، ولكنه هابه لاسترسال شعر رأسه على كتفيه، وشعر لحيته على صدره. وكان لباسه جبة سوداء في غاية البساطة. فظنه راهبا، فسأله الرجل عن غرضه فقال: إن جريحا معنا لم يعد يستطيع الركوب في العربة، فجئنا به إليكم، فهل تريدون أن يبيت عندكم الليلة وأجركم على الله؟ فبهت الرجل برهة كأنه يفكر في أمر طرق ذهنه؟ ثم قال: حسنا، فليأت، ونادى قائلا: تعال يا أحمد، ساعد هؤلاء في نقل جريحهم إلى هنا. قال ذلك مشيرا إلى البيت، فجاء رجل في مثل لباس ذلك الرجل وأسرع إلى موقف العربتين.
أما ذلك الفارس، فبعث يخبر الباشا أن لا بأس من تقدمهم، فتقدموا حاملين بخيتا حتى دخلوا به البيت وأجلسوه على مقعد في إحدى الغرف، ودخل الجميع إلا العسكر فإنهم بقوا خارجا.
الفصل الحادي والتسعون
أغرب غرائب الاتفاق
فأراد الباشا الخروج للثناء على هؤلاء الفرسان، ولا سيما الفارس المجهول، فشغله بخيت بجرحه، فكلف عمه الشيخ أن يخرج للقيام بذلك الواجب عنه، بعد أن أشار إلى فدوى وأمها أن تتحجبا داخل إحدى الغرف.
فخرج عمه ونادى الفرسان أن يدخلوا، فقيل له: إنهم عادوا إلى خيولهم يعدون لها علفا، فخرج إليهم وسأل عن ذلك الفارس، فجاء إليه، فأمسك بيده وأراد أن يدخل به البيت، فرأى أمام ذلك البيت (مسطبة) عليها حصير، فجلسا هناك وسهل البقاع أمامهما واسع، فأشعل كل منهما سيكارته، وأخذا بأطراف الحديث. وكان الفارس ملتفا بالعباءة ولا يزال اللثام على وجهه.
فأخذ الشيخ يثني عليه قائلا: بلغني أنكم أظهرتم شهامة قوية، وبذلتم غاية جهدكم في إنقاذنا؛ فقد أصبح لكم فضل علينا، فعسى أن نستطيع مكافأتكم.
فقال الفارس: إننا لم نفعل ذلك لمكافأة، وإنما قد فعلناه لوجه الله، فعسى أنه سبحانه وتعالى. وتنهد ...
فقال الشيخ وقد رأى في كلامه لغة مصرية: يظهر أن حضرتكم قادمون من بلاد مصر، قال: نعم، يا سيدي، ونريد دمشق.
قال الشيخ: وهل لكم أهل هناك؟
قال: ليس لي أهل فيها، ولكن لي بعض الأصدقاء، وقد جاءوا إليها لقضاء بضعة أشهر.
فقال الشيخ: هل لك أن تخبرني عن هؤلاء الأصدقاء؛ لأننا قادمون من دمشق في صباح هذا اليوم، فلعلنا نعرف شيئا عنهم، وإلا فأسألك الإغضاء عن جسارتي في هذا السؤال.
فقال الفارس وقد أزاح اللثام عن وجهه تاركا الكوفية على رأسه: العفو، يا سيدي، ليس في سؤالك ما يوجب الاعتذار، ولكن أصدقائي المشار إليهم غرباء، والأغلب أنكم لا تعرفونهم؛ لأنهم من بلاد مصر.
فقال: إن صهري الذي رأيته الآن معنا قادم من مصر، فلعله يعرف أحدا من أصدقائك. قال ذلك ودخل يدعو صهره، فجاء وهو لا يزال ملثما، وهم توا إلى ذلك الفارس وحياه بكل لطف، وبدأ بالاعتذار إليه على عدم مجيئه من بادئ الرأي؛ لاشتغاله بتضميد جراح الجريح، ثم أخذ يشكر همته وغيرته وهو مطرق خجلا، فقال الشيخ: إن حضرة الفارس قادم من مصر يريد دمشق لمشاهدة بعض أصدقائه من المصريين. فقطع الباشا عليه كلامه قائلا: قد لحظت في كلام حضرته عندما خاطبته الآن لغة مصرية، ولكن من هم أصدقاء حضرتك؟ قال: هم عائلة مصرية يقال لها عائلة فلان باشا.
ولم يتم كلامه حتى تقدم الباشا إليه وتأمله قائلا: إن الذي تطلبه هو هذا الداعي، ومن حضرتك؟
فأمعن الفارس بالباشا قليلا ثم رمى بنفسه عليه صارخا: مرحبا بسيدي وعمي. وطفق يقبل يديه، فبهت الباشا لذلك وأدرك على ضعف النور هناك أن الشاب الذي يكلمه هو شفيق بعينه، فوقع في حيرة بين الانذهال والاضطراب، واليأس والرجاء، ولكنه لم يستطع التوقف عن تقبيله وضمه إلى صدره، فأسرع شفيق في السؤال عن باقي العائلة، وقد أراد السؤال عن فدوى خاصة، فقال: هي في خير، وستراها قريبا.
ثم أجلسه وهو يقول له: كيف أننا سرنا كل هذه الطريق معا ولم يعرف أحدنا الآخر؟ قال: إني كنت في شاغل عن كل ذلك بتطلعي نحو دمشق؛ حيث قيل لي إنكم مقيمون، وقد ساعد على ذلك مبالغتكم في التلثم. فهم الباشا أن يعرفه بذلك الشيخ، فسمع ضوضاء في حجرة السيدات فتركهما مستأذنا وهما - فيما علمت - من اللهفة والاستغراب، ودخل ليسأل عن سبب ذلك، فرأى امرأته وامرأة عمه وصاحب المنزل اللابس اللباس الأسود المستطيل متعانقين يبكون ويقبلون بعضهم بعضا، فاندهش أيما اندهاش وسأل عن سبب ذلك، فإذا بامرأة عمه قد أغمي عليها وهي تقول: وا ولداه! وفلذة من كبداه! أأنت حي بعد ولدي عبد الرحمن؟ فأسرعت امرأة صاحب المنزل؛ لأنها كانت أقدر الجميع على المشي، وجاءت بالماء ورشت المغمي عليها حتى أفاقت، ففهم الباشا أنه أخو امرأته الذي كان مفقودا، فحقق النظر فيه، فإذا هو إبراهيم والد شفيق، فوقف مبغوتا ولحيته ترقص على صدره من شدة التأثر؛ لغرابة ذلك الاجتماع، وتساقطت عبراته، ولم يعد يعلم ماذا يقول، فظنوه مبغوتا من منظرهم، فقالت له امرأته: هذا هو شقيقي الذي لم أره منذ 25 سنة، فنشكر الله على وجوده. فأخذ الباشا يهنئهم بالسلامة وهو يفكر بذلك الاتفاق العجيب، وحدثته نفسه أن يخبرهم عن شفيق، ولكنه خاف على الوالد والوالدة أن يموتا من شدة الفرح، فصبر حتى كفوا عن البكاء. أما إبراهيم وامرأته فإنهما ما زالا يشهقان من البكاء وقد شاركتهما في ذلك فدوى؛ لأنهم تذكروا فقيدهم العزيز وولدهم وحبيبهم شفيقا، فقال إبراهيم: آه آه من الدهر الذي قصم ظهري، ونغص عيشي! أما كان يحسن به أن يتم عقد اجتماعنا، ويكون فيه ولدي وحبيبي، ومهجة كبدي، ومنتهى أملي شفيق ... آه من الزمان ...! آه من الدهر! آه يا لتعاسة حظي! وأخذ يلطم وجهه، فأراد الباشا أن يخبره بأن شفيقا في الجانب الآخر من المنزل، فخاف عليه من غائلة العواطف لئلا يصيبه سوء، فأخذ يخفف عنه قائلا: إن الله قادر أن يجمعكما به، فتأس الآن بأختك ووالدك. وها إني ذاهب لأدعو لك والدك، وخرج فلقيه الشيخ قبل وصوله إلى المسطبة وسأله عن سبب تلك الضوضاء، فقص عليه الخبر بأسلوب لطيف بحيث لا يتأثر، فدخل ذلك الشيخ وألقى نفسه على ولده وقبله حتى أغمي عليه، فرشوه بالماء حتى أفاق، وجلس الجميع يهنئون بعضهم بعضا. أما الباشا فخرج إلى شفيق والتأثر ظاهر على وجهه، فسأله شفيق عن سبب ذلك - وكان قد أشفق على فدوى لئلا تكون قد أصيبت بسوء - فقال الباشا: خيرا يا ولدي، ولكني أسألك أن تمهلني قليلا لآتيك بالخبر اليقين. فجلس كأنه على جمر الغضا.
ودخل الباشا الغرفة وأغلق الباب وراءه، فإذا هناك الشيخان وولداهما وكنتهما وحفيدتهما، والجميع يندبون شفيقا، فوقف في وسطهم قائلا: من ينقصكم الآن حتى يتم عقد اجتماعكم؟ فصاحوا بصوت واحد: شفيق شفيق.
وكان بخيت في غرفة قريبة من تلك، فلما سمع كلمة «شفيق» هب من فراشه كأنه ليس عليه بأس، وجاء ماشيا وقد نسي أوجاعه، ودخل بلهفة قائلا: أين شفيق يا أسيادي؟ وجاء من الجهة الأخرى الخادم أحمد بمثل تلك اللهفة، فقال الباشا: وما الذي أقامك من فراشك يا بخيت؟ قال: والله، يا سيدي، إن شفيقا ليقيمنني من القبر وليس من الفراش فقط! فأين هو؟
فلما سمعت فدوى كلام بخيت علمت أنه يتكلم بلسان حالها، فتهيجت عوطفها وازدادت في البكاء، فقال بخيت: قد سقط بيدي، فهل سيدي شفيق ليس هنا؟
فقال الباشا: ماذا تجعلون لي إذا جئتكم به؟ فحسبوه يمزح. أما بخيت فقال وقد أقعده التعب: إني أعطيك روحي يا سيدي، وها هي في قبضة يدك، فقال أحمد: لا، بل أنا أهب روحي فداء لسيدي وحبيبي. فزادت فدوى في البكاء ثم قال عبد الرحمن وهو يمسح دموعه وامرأته إلى جانبه تندب وتنوح: أرغب إليك يا سعادة الباشا ألا تهيج أشجاننا أكثر من ذلك؛ فقد كفانا ما قاسيناه وما لم نتخذ هذه العزلة إلا من أجله.
فقال الباشا: أمهلوني بضع دقائق فأخبركم الخبر اليقين. قال ذلك وخرج، فظنوه لا يزال مازحا، وأنه إنما خرج يريد شيئا لنفسه، فجلسوا يتحادثون ويتساءلون بعضهم عن بعض، ويتأسفون بصوت واحد على شفيق.
أما الباشا فخرج إلى حيث شفيق ينتظره، فوقف له شفيق، فأقعده وجلس إلى جانبه فقال له: لقد وعدتني يا سيدي بمشاهدة العائلة، ولا أزال في انتظار ذلك، فهل هن في شغل؟ قال: لا، ولكن لي عندك سؤالا أسألك الإجابة عنه.
فقال شفيق: سل ما بدا لك .
قال : أتذكر أني سألتك عندما قابلتك في مصر قبل سفرك إلى السودان عن أبيك فلم تجبني جوابا صريحا، ولكنك قلت إنك ستكتب إليه في لندرا ليكتب إلي، فهو لم يكتب إلي بعد، ولما سألتك عن وطنه ومذهبه لم تجبني قطعيا، فهل علمت الآن أين هو وطن أبيك؟ وما هو مذهبه؟
فتأوه شفيق وأراد الإجابة فسبقته العبرات، ثم تنهد وقال: آه يا سيدي! لا تذكرني بمصائبي؛ لأني لا أعلم أين مقر والدي الآن، وقد سألت عنهما في مصر فقيل لي إنهما غادراها إلى حيث لا يعلم أحد، وإنما يرجحون أنهما قصدا لبنان ليعتزلا عن الدنيا. أما سعادتكم فعلمت أنكم في بر الشام فلحقت بكم، وما زلت أسأل حتى علمت أنكم في دمشق، فسرت برفقة هؤلاء العساكر اللبنانيين حتى التقيت بكم كما علمت، وقد كنت أظن أني بالتقائي بكم أعرف شيئا عن والدي، فهل لك أن تفيدني شيئا تعرفه عنهما؟
قال الباشا: لم يكن علمي عنهما أكثر من علمك أنت حتى هذه الليلة، بل هذه الساعة، فقال بلهفة: وهل عرفت عنهما شيئا الآن؟ قال: قد عرفت أنهما على مسافة قريبة من هنا.
فنهض شفيق عن الأرض قائلا: قل بالله أين مقرهما. آه وا والده! وا أماه!
قال: هما في مكان قريب من هنا، وفي الصباح أبعث معك بمن يهديك إليهما.
فصاح شفيق: كيف أنتظر إلى الغد؟ فها إني أسير إليهما في هذه اللحظة، وأرغب إليك يا سيدي أن تفيدني عن مكانهما الآن، ولك الفضل علي. فضحك الباشا قائلا: إنهما في هذا البيت يا ولدي.
فوثب شفيق عن الأرض قائلا: أفي هذا البيت والدي؛ أفي حلم أنا، أم في يقظة، أم أنت تمزح؟
قال الباشا: بل في يقظة يا ولدي، ولكن في اتفاق عجيب. وأحكى له الحكاية، فأراد شفيق الهجوم على الحجرة، فمنعه الباشا قائلا: وقد كان يمكنني أن أخبرهم عنك، ولكنني أشفقت عليهم من سلطان العواطف؛ إذ قد يترتب على شدة الفرح إذا كان بغتيا ضرر جسيم؛ فتعال ورائي وقف عند الباب وأنا أدخل قبلك وأنبههم إلى مجيئك.
الفصل الثاني والتسعون
لقاء يعجز القلم عن وصفه
فسار الباشا وشفيق في أثره حتى وصلا باب الحجرة، فدخل الباشا وأغلق الباب وراءه، والتفت إلى الجميع متبسما، فإذا هم جلوس وعلى وجوههم أمارات الانقباض، فتقدم إلى إبراهيم وامرأته قائلا: انزعا عنكما ثياب الحداد؛ لأن وقت فرحكما قد جاء، بل هو وقت فرحنا جميعا. فبهت الجميع ينتظرون ما وراء هذا الكلام، فإذا بالباشا قد تحول نحو الباب ففتحه، وخرج وعاد ممسكا شفيقا بيده، فلما دخل شفيق بهت الجميع، وجعلوا ينظرون إليه وهم لا يدرون ما إذا كانوا في حلم أو يقظة، وهو أيضا لم يكن أقل انذهالا منهم، فاستولى السكوت على جميع الحاضرين لحظة لم يكن فيها قلب غير مختلج، ولا ركبتان غير مرتجفتين، ولا عينان غير شاخصتين، وكان أكثر الحاضرين انذهالا ذانك الوالدان اللذان اختارا التنسك ولبس الحداد، والابتعاد عن العالم، بعد فراق ولدهما الوحيد، الذي قضيا العمر في تربيته وتثقيفه. أتستعظم الذهول أو الدهشة أو الشخوص أو الجنون منهما عند التقائهما به في تلك البرية بطريق الاتفاق الغريب.
وأما تلك الفتاة التي قاست الأهوال العظام وهي غضة العود، لطيفة المزاج، ولم تكد تفتح عينيها حتى داهمها الحب، بل الوجد، فأخذ بمجامع قلبها، ثم بعد عنها حبيبها الذي لم يكن لديها أعز منه في هذا العالم، ناهيك عما داهمها من نكبات الزمان، وكفى بذلك الخائن نقمة لها، فكم حافظت على ودها! وبالغت في تلك المحافظة على ضعف أملها باللقاء! فلا تلم هذا القلم العاجز إذا قصر في وصف حالتها عند ما عاينت حبيبها أمامها في مثل ذلك الاتفاق العجيب، بعد أن أنقذها مرة ثالثة من الموت، وكانت قد يئست من حياته.
أما ذلك الشاب الذي ربي في مهد الدلال، وعلق قلبه الحب عن صغر، فقاده حب العلا وإرضاء سالبة لبه إلى تجشم الأسفار الطوال، واحتمال الأخطار في أقصى بلاد السودان. أتستعظم منه إذا دخل تلك الغرفة التي اجتمع فيها حبيبته ووالداه اللذان هاجرا الدنيا يأسا من حياته، واختارا التنسك على الرفاهة، حتى لا يكون بينهما وبينه تفاضل في الحياة. أتستعظم منه الانذهال والدهشة والوقوف لحظة لا يفرق فيها بين اليقظة والمنام.
فبعد انذهاله لحظة عرف والديه وهم إليهما، ورمى بنفسه عليهما، وطفق يقبل أيديهما، وأما هما فعكفا عليه يقبلانه ويذرفان دموع الفرح حتى كاد يغمى عليهما، وهما يناديان بصوت يخالطه البكاء: ولداه شفيق! ولداه وقطعة من كبداه! أأنت حي بعد؟! ولا سيما تلك الوالدة التي عانقت ولدها، وأخذت تقبله وتذرف الدموع وتنادي: ولدي حبيبي، مهجة كبدي. نحمد الله على سلامتك يا ولداه.
أما فدوى فكانت أشد الجميع تأثرا لما حال بينها وبين إظهار عواطفها من الحياء، على أنها نسيت نفسها، وأخذت تنادي: شفيق شفيق، هل أنت حي ...؟! آه يا مهجة فؤادي! أفي حلم أنا أم في يقظة؟!
أما هو فلم يكن يدري من يخاطب، ولا إلى من ينظر، ولم تكن تسمع في تلك الغرفة إلا شهيقا وبكاء يمازجه السرور والابتهاج.
أما بخيت فأخذ يقبل الأرض ويفتح يديه نحو السماء قائلا: نشكر الله تعالى على هذه المنة، فإذا مت أنا الآن أموت قرير العين، طيب القلب. وتقدم إلى يدي شفيق وقبلهما، ولم يعد يدري ماذا يقبل فيه: أيديه، أم كتفيه، أم صدره، أم ظهره، أو وجهه، وأما أحمد فهم إلى يديه، وأخذ يقبلهما ظهرا وبطنا وهو يقول: الحمد لله على السلامة، يا سيدي، الحمد لله على السلامة.
ثم نهض الشيخ الكبير وتقدم إلى حفيده وقبله بدموع الفرح، وكذلك امرأته وامرأة الباشا، وكانوا قد اشتغلوا في بادئ الرأي بملاحظة عواطف الوالدين، ثم انتصب الشيخ واقفا وقد امتلأت عيناه بدموع الفرح وقال: هلم بنا يا أولادي أن نسجد ونشكر الله - تعالى - على هذه المنة العظيمة التي وهبنا إياها، وكيف أنه جمع شتاتنا من أقاصي العالم. فشاركه الجميع في ذلك. وبعد الصلاة، جلسوا يقصون أقاصيصهم، وكانت حكاية شفيق أغرب الحكايات، وما زالوا كذلك إلى الصباح، فاتفقوا جميعا على المسير إلى بعلبك يقضون فيها ذلك النهار، ويشاهدون قلعتها الشهيرة العجيبة البناء ، ثم يسافرون معا إلى بيروت، ثم إلى مصر.
وبدل إبراهيم وامرأته ثيابهما السوداء بثياب بيضاء، وهندم إبراهيم شعره، وانقشعت العبوسة عن وجهه.
أما الباشا فما برح كل ذلك الليل يفكر في أمر عزيز وما يترتب على مجيئه في الغد، وبعد طول الافتكار، قرر في ذهنه أن عزيزا يستحق كل قبيح؛ لأنه خائن ذميم، ومهما أصابه فلا أسف عليه، ولم يعد يهمه شيء منه؛ لأنه أصبح المالك لكل أملاكه بمقتضى صك مسجل لا يغيره شيء.
وفي الصباح، خرج شفيق إلى العسكر الذين كانوا معه وأنقدهم أجورهم، وأثنى على همتهم، ثم ركب مع سائر العائلة في العربتين، وساروا قاصدين بعلبك فوصلوها في الضحى، فنزلوا في فندق هناك، ثم تجولوا لمشاهدة آثارها، وقضوا بقية ذلك النهار في الجولان من مكان إلى آخر يسرحون الطرف بمناظر تلك السهول الخصبة التي قد كساها الربيع حلة خضراء، وما زالوا إلى المساء، فعادوا مارين بحجر الحبلى الهائل الذي يقتضي لحمله ستة آلاف رجل في يد كل منهم مخل. والحجر المشار إليه منحوت معد للبناء، وفي القلعة كثير من مثل هذا الحجر يعجب الناظر لعظمها، ولا يفهم كيف استطاعوا نقلها.
أما بخيت، فإنه بقي راقدا في سريره وقاية لجراحه، فسمع في أصيل ذلك النهار رجل يعرفه، فتحققه فإذا هو صوت عزيز، فخفق قلبه خفوق الفرح، فود لو أنه يأتي إليه لكي يخبره بمجيء شفيق، والتقاء سائر العائلة بخير؛ ليرى ماذا يظهر منه.
فدخل عزيز حجرة بخيت وهو لا يدري، وحالما وقع نظره عليه تعجب من رقاده في منتصف النهار، فتقدم إليه وسأله عن سبب ذلك فأخبره أنه أصيب بجرح من اللصوص الذين سطوا عليهم في وادي القرن.
فبغت عزيز وقال: وكيف نجوتم منهم؟ وهل أصاب فدوى سوء؟
فضحك بخيت وقال: نعم، إننا وصلنا إلى أشد الخطر، وقد نجونا بهمة ذلك البطل الصنديد، والشهم المجيد.
قال عزيز وقد خفق قلبه: ومن هو هذا البطل؟
قال بخيت: أقول لك من هو؟ قال: قل، قال: لا أقول حتى تسألني ذلك بإلحاح . فاغتاظ عزيز وصرخ قائلا: قل بالله قل، قال: هو سيدي شفيق. فوثب عزيز من كرسيه وقد امتقع لونه، وارتعدت فرائصه، وقال: أحقيق ذلك يا بخيت؟
قال: نعم، وحياة شفيق إني لم أقل إلا الصحيح، ومع ذلك تمهل ريثما ترى جميع العائلة آتية معا وفيها والدا شفيق، وأخبرك شيئا آخر أظنه لا يسرك، وهو أن شفيقا ابن خال فدوى؛ أي إن أمها وأباه أخوان.
فاسودت الدنيا في عيني عزيز، وتحير بين أن يصدق كلام بخيت أو يكذبه بالنظر لغرابته، فلبث ينتظر عود الباشا ليرى صدق ذلك رأي العين، فدخل غرفة تشرف على الشارع، وجلس إلى النافذة ينتظر عودهم.
الفصل الثالث والتسعون
على الباغي تدور الدوائر
فلما كان الغروب رأى جمهورا كبيرا قادما، فحقق نظره فإذا بشفيق إلى جانب فدوى يتحادثان وقد حمل كل منهما طاقة من الأزهار يتبادلان منها الأقمار وهما في غاية السرور، والباشا ماش إلى جانب شفيق فرحا، فتحقق لديه أن فدوى قد خرجت من يده، ولم يعد يمكنه الحصول عليها، ثم تذكر الصك الذي أعطاه للباشا، فاشتعل جسمه وأحس كأنك تصب عليه ماء تارة غاليا، وطورا باردا، ثم سمع وقع أقدامهم على السلم فلم يعد يتمالك نفسه عن الارتعاش، فذهب إلى سريره وهو ينتفض من البرد والقشعريرة، ثم عقب ذلك حمى شديدة أخذت تتعاظم حتى بلغت بمدة ساعتين درجة 41° س، فبادر صاحب الفندق إلى استدعاء الأطباء الموجودين في بعلبك، فعقدوا مشورة طبية فإذا هو في حالة الخطر الشديد يهذي بكلامه غائبا عن الصواب.
فشاع الخبر في الفندق - وكان الباشا وعائلته قد عرفوا بمجيء عزيز من بخيت. وهذا لم يكن لديه يوم أكثر سعادة من ذلك اليوم - فلما سمعوا بمرضه تراكضوا لمشاهدته، فلم يأذن الأطباء بالدخول، بدعوى أن المريض في حالة لا تسمح لأحد بالدخول عليه، فلما علم شفيق بذلك تكدر لما ألم بذلك الشاب في ديار الغربة؛ لأنه خشي أن تكون تلك الضربة قاضية، وأما أحمد وبخيت فكانا مسرورين بذلك؛ لأنهما اتفقا على كره ذلك الشاب والانتقام منه ، لما عرفا من دسائسه وخيانته، وأما الباشا فبهت صامتا يراجع في ذاكرته حكاية الصك، وما قاساه ذلك الشاب من الأسفار والذل طمعا بنيل ابنته، وكيف أنه استولى على كل ماله، وكيف كانت نهاية أمره من الفشل الذي أورث له هذا الداء الشديد.
وأما شفيق، فكان أشد الجميع أسفا عليه؛ لأنه علم أن سبب مرضه إنما هو الفشل وخيبة الأمل، فلم يستطع طعاما في ذلك المساء قط، وقضى الجميع معظم ذلك الليل في حديث عزيز ومرضه. وفيما هم في ذلك إذ جاءهم خادم الفندق يقول: إن العليل يود مقابلتهم غير مبال بوصية الطبيب. فأسرع شفيق والباشا إلى غرفته، وحالما دخلا وقع نظرهما عليه وهو متوسد في فراشه، وقد علا وجهه الاحمرار من اشتداد الحمى عليه.
أما هو فلما سمع وقع خطواتهما حول وجهه نحوهما، وحالما رآهما امتلأت عيناه بالدموع، ولم يكن يستطيع الحركة، فأشار إليهما بأهداب عينيه، فاقتربا منه باكيين، ووقفا بإزاء سريره صامتين لئلا يزعجاه بالكلام. وكان الطبيب في الغرفة ساهرا من أجله، فأشار عزيز إليه أن يخرج قليلا، فخرج ولم يبق في الغرفة غيره والباشا وشفيق، فأومأ إليهما وقد ضاق تنفسه من اشتداد الحمى أن يجلسا، فأخذ كل منهما كرسيا وجلسا أمام السرير ينظران إليه نظرة الأسف، ولا سيما شفيق، فإنه نسي كل سيئاته، وكاد ينفطر قلبه شفقة عليه.
وبعد بضع دقائق، أعاد عزيز نظره إليهما، وكان يريد التكلم ولا يستطيعه، فسأله شفيق: هل يحتاج إلى شيء؟ فأشار إليه بيده أن ينتظر ريثما يهدأ روعه فيخاطبه، فسكت، ثم مد عزيز يده إلى شفيق، فمد شفيق يده إليه وأمسكه، فأحس بارتجاف شديد، ومد يده الأخرى فأمسكه شفيق باليد الأخرى، فتوكأ عزيز على يدي شفيق يريد الجلوس فلم يستطع، فوقف الباشا وأسند ظهره وأجلساه وجعلا الوسائد وراء ظهره، فجلس وما زال قابضا على يدي شفيق، ثم جذبه إليه حتى دنا منه، فضمه إلى صدره وجعل
فتكلم عزيز عند ذلك وقال: إني مستوجب لأكثر من الموت؛ لأن السماء قد سخطت علي لجنايتي ودناءتي، وكأن الله لم يرد أن تدنس يدك بقتلي، فقتلني بالمرض، فأتقدم إليك أن تشفق على دموعي وضعفي، وتصفح عن شقاوتي؛ فإني لا أستحق أقل من القتل، وعما قليل أفارق هذه الدنيا، فلم أشأ مفارقتها قبل أن أستغفرك أيها الشهم الكريم؛ لأني قد أخطأت إليك، وأذنبت ذنبا لا يغتفر، وكم أردت بك سوءا وأنت لم تجازني إلا بالصفح! فها إن الله قد انتقم لك انتقاما عادلا.
فلم يعد شفيق يتمالك عن البكاء، ولكنه هم إلى عزيز وقبله مرارا وقال له: إن الله يغفر الذنوب يا عزيزي، وكل شيء بقضاء منه سبحانه وتعالى. فها إني صافح عنك، وأطلب إلى الله - تعالى - أن ينقذك من هذا الداء، وينهضك من هذا الفراش.
فصاح عزيز وقد أنهكه العياء: لا، لا، إني لا أستحق الحياة، ولم يعد يحلو لي المقام في هذه الدنيا؛ لأني دنستها بشروري، وارتكبت فيها الخيانة والغدر ... أجل إني خائن غادر. إلي يا موت؛ فقد كرهت حياتي الرديئة المدنسة بالشرور، ثم التفت إلى الباشا قائلا: وأنت أيها الشيخ الجليل، اصفح عن شروري، واسأل ذلك الملاك الأرضي أن تعفو عني لما سببت لها من الشقاء بخيانتي، فكم نغصت عيشها، وحاولت أذيتها، وهي ثابتة على وداد من لا أستحق أن ألثم حذاءه! آه لو أراها فأقبل نعالها وأستغفرها قبل موتي؛ لأني أشعر بثقل آثامي نحوها ونحو حبيبها هذا ... آه! إني أشعر بأثقال أعظم مما أحتمل، وها إني أرى الأبالسة قادمة لاختطاف روحي الشقية لتلقيها إلى السعير.
فقال الباشا: شفاك الله يا ولداه، ولا أراك مكروها، فإذا كنت مشعرا بخطئك، فيرفع الله هذه الشدة عنك؛ لأنه يقبل التائبين. شفاك الله بجاه خاتمة الأنبياء وسيد المرسلين.
الفصل الرابع والتسعون
العفو عند المقدرة من شيم الكرام
فقال عزيز: إن ذنوبي أكثر من أن تغتفر، والموت أحب إلي من الحياة، ولم تعد عيناي تستحق النظر إلى خيال تلك الفتاة الطاهرة، العفيفة، الودودة، الخالية من كل عيب، ولا إلى هذا الشهم الفاضل الشريف الكريم الأخلاق ... لا لا، بل الموت خير لي. قال ذلك وألقى بنفسه إلى السرير، وغاب عن الصواب، فأسرع شفيق إلى الطبيب، فدخل وأمر بالثلج على رأسه، فجاءوا به وجس نبضه فأوعز باشتداد الخطر، فاشتد بلبال شفيق والباشا كثيرا، ولم يعد يمكنهما براح الغرفة، فطلب إليهما الطبيب أن يخرجا قليلا، ففعلا، فإذا بفدوى وسائر العائلة بانتظارهما في حجرتهم، فدخلا باكيين فسألوهما عن عزيز، فأخبراهم بما دار بينهم، فشفقوا عليه كثيرا، ومضى ذلك الليل ولم يناموا إلا يسيرا. وبكر شفيق في الصباح التالي إلى غرفة عزيز، فقيل له إنه راقد وقد كلله العرق، فاستبشر بزوال الحمى، وعاد فأخبر العائلة بما كان. أما فدوى فكانت تعجب لشهامة حبيبها وكرم أخلاقه، وودت شفاء عزيز إكراما لعواطفه؛ لأنها رأته آسفا كثيرا على موته.
ولما كان الضحى جاءهم خادم الفندق أن يسيروا إلى غرفة عزيز، فإذا هو في السرير وقد صفا لون بشرته، فدخل شفيق والباشا، فقال لهما: ألا يأذن لي سيدي بنظرة أزودها قبل الممات من تلك العذراء الطاهرة، ولو من وراء اللثام؛ لعلها إذا رأت حالتي ترثي لي، وتعفو عن زلتي؛ فإن الله يستجيب دعاء الطاهرين.
فبعث الباشا إلى فدوى، فحضرت ملثمة، وحضر معها والدتها وجداها، فلما وقع نظره عليها بكى ونادى بأعلى صوته: إليك أتوسل أيها الملاك الأرضي أن تصفحي عن زلتي، وتعفي عن ذنبي؛ أنا الخائن الغادر الكاذب. وها إني سأفارق هذا العالم المدنس بشروري قريبا، فأطلب إلى الله بهذا اللسان الدنس، وهذا القلب الشقي أن يتم اقترانك بهذا الشهم الذي يليق بك، وأن يحفظكما سعيدين راتعين في الرغد والهناء؛ لكي تنسيا ما كابدتماه بسببي من المتاعب والعذاب. قال ذلك وأخذ يشهق في البكاء حتى كاد يشرق بدموعه. أما فدوى فلم تجب ببنت شفة، ولكنها تأثرت من تلك العبارات كثيرا حتى بكت وصفحت عما تحملته بسببه.
فقال الباشا: إنك يا ولدي لقد فطرت قلوبنا برقيق كلامك، وصرنا نود شفاءك من كل قلوبنا، وأنا واثق أن ولدي شفيقا لا يريد لك إلا الخير، فنطلب إلى الله أن يشفيك، فتكون لنا كما يجب أن يكون التائب.
فهم شفيق إلى عزيز وقبله قائلا: إن الله قادر على أن يشفيك، وأنا أعاهدك ألا أعاملك إلا معاملة الأخ؛ إذ قد نسيت كل ما جنيته، وما هي إلا هفوات يرتكبها بنو الإنسان لضعفهم. جل من لا يغلط.
وفيما هم في الحديث جاء الطبيب وفحصه، ثم تبسم، فاستبشر الجميع بزوال الخطر وشكروا الله، ثم قال لهم الطبيب: إن العليل يحتاج إلى الرقاد الآن، فإذا رقد ساعة ينهض معافى، إن شاء الله.
فخرجوا من الغرفة فرحين، وعادوه بعد الغداء فإذا هو جالس في الفراش وعلى وجهه أمارات الصحة، وقد زالت عنه الحمى تماما، وما زال يتقدم نحو الصحة يوما بعد يوم حتى مضت ثلاثة أيام وتعافى نوعا.
فزاره شفيق وهنأه بالسلامة، فقال عزيز: إني لا أستطيع النظر إلى وجهك حتى تؤكد لي صفحك عني. فقبله وأقسم له بالشرف أنه قد صفح عنه وأخلص له، فقبله عزيز ونادى الباشا فحضر، فقبل يده قائلا: إني أكون سعيدا إذا قبلتموني خادما في ركابكم، فقال الباشا: العفو يا ولدي، فقال شفيق: يا عزيزي، إنك ستكون معنا أخا وصديقا. يغفر الله لك. وقد علمت بأمر الصك الذي كتبته لعمي، فهذا لا حاجة لنا به. وها إني أتقدم إلى سعادة الباشا أن يتكرم بإرجاعه إليك؛ لتعيش به، فإنه مالك، وأنت أولى به، وأما نحن فإننا مكتفون بحول الله تعالى.
فصاح عزيز قائلا: كلا، كلا، إني لا أستحق غرشا واحدا من ذلك المال، وحسبي أني بقيت حيا بعد كثرة شقاوتي، فأنا لا آخذ من ذلك المال غرشا واحدا، بل هو حق شرعي لمن يستحقه.
فتبسم شفيق وأخذ الصك من يد الباشا ودفعه إلى عزيز، فلم يرض استلامه، وألح عليه أن يبقيه معه ، وأنه قد تنازل عن أمواله كلها له، لا يريد منها أكثر من سد الرمق، فأبى شفيق ذلك. ولما لم يقبل عزيز أن يستلم الصك هم إليه شفيق ومزقه بين يديه إربا إربا.
فأعجبت جميع الحضور بتلك الشهامة. ولم يكن ذلك إلا ليزيده احتراما في عيونهم، ولا سيما عزيز الذي أصبح أسيرا له طوع ما يريد، ثم قال: سواء أردتم أم لم تريدوا، فلا أقبل بمفارقتكم بعد الآن، وأعد نفسي خادما لكم.
فقال الباشا: إذا أردت البقاء معنا، فتكون ولدا لنا.
وقال شفيق: أنت أخي بعهد الله، والله غفار الذنوب.
أما بخيت، فعاد بعد شفاء عزيز إلى حب الانتقام منه؛ إذ تذكر سابق خياناته، وقد اغتاظ لما رأى شفيقا يمزق الصك، ولكنه سحر بشهامته، ونظر إلى عزيز قائلا: انظر يا عزيز، إنك والله لا تستوجب بحسب شريعتي أقل من القتل والصلب، ولكن شهامة هذا البطل قد عفت عنك، ولو قال لنا اعبدوه لعبدناك؛ لأن أمره مطاع، والأمر له ولسيدي الباشا، ولكنني لا أنسى أعمالك، وذلك الكتاب الذي بعثت به، بل تلك الكتب التي سببت الشقاء لسيدتي، ولكن ...
فابتدره أحمد الخادم وقال: أتذكر يوم رافقته إلى الإسكندرية و...
فأسكته شفيق قائلا: كفى ما قلتماه، واعلما أن من يريد الأذى لأخي عزيز فقد أراده لي، ولا أقول أكثر من ذلك، فنادى الاثنان معا: إنه سيدنا ومولانا، والأمر أمره بعد أمرك.
ومكث الجميع في بعلبك يوما آخر، ثم ساروا إلى بيروت ومنها إلى مصر، ولما دخلوا المدينة نزلوا بيت الباشا، وكانوا قد أعدوا فيه سائر وسائل الزينة.
ففي ليلة وصولهم قالت سعدى لإبراهيم: أتذكر كلامي لك في لندرا عن زواج شفيق لإحدى غنيات مصر فلم ترض، قال: نعم، قالت: هي فدوى التي كنت أعنيها، فها قد تزوجها، فقال: ألم أقل لك إني لا أزوجه إلا بواحدة من أقاربي؟ فها إنه لم يتزوج إلا ابنة عمته، فسبحان مدبر الأمور، وموفق الحوادث.
واحتفل الباشا احتفالا شائقا بزفاف ابنته على شفيق دعا إليه عددا غفيرا من أعيان القاهرة الغرباء والوطنيين.
وعاشت هذه العائلة بعد ذلك بالرغد والهناء إلى أن يقضي الله بما يشاء.
صفحة غير معروفة