فقالت دليلة: أما أنا، فأظنها لا تفضل سواك؛ لأنك شاب غني عنها بالمال والجاه، وقد حصلت على رتب الجهادية التي هي أشرف مناصب الحكومة الآن، ولكنك - سامحك الله - لا تعلم من أين تؤكل الكتف، والجنس اللطيف لا يؤخذ إلا بالملاطفة، وليس بالعنف، ولا يخفى عليك أن تصديك لها على قارعة الطريق مما ينفرها منك، ولا بد لك في مثل هذه الحال أن تجعل بينك وبينها من لها خبرة بذلك.
فقال: نعم الواسطة أنت! فهل لك أن تقومي لي بهذه المهمة؟ قالت: مرحبا بك، ولكنها تكلف إنفاق قدر طائل من المال؛ إذ إن مرادي أن أصنع خاتما عليه اسمك، وأقدمه لها بلطف وحسن أسلوب، وأرى ماذا يظهر منها، فمد يده وناولها مبلغ كبيرا، فأخذته وخرجت إلى الصائغ فاصطنعت الخاتم، وذهبت إليها وجرى بينهما ما قد تقدم ذكره.
فلما عادت بخفي حنين اتقدت في قلبها نار الانتقام؛ لأنها اعتبرت معاملة فدوى لها على تلك الصورة إهانة، فسارت توا إلى منزل عزيز الذي كان في انتظارها على مثل الجمر، فلما رآها بما هي عليه من الغضب خفق قلبه وسألها، فقصت عليه القصة إلى أن قالت: طب نفسا، يا ولدي،
فقال لها: أتقدم إليك أن تأتي إلي كل يوم مرة للمفاوضة في الأمر، وأخشى أن ترد علي الأوامر بالسفر إلى الإسكندرية بغتة، وعند ذلك لا بد لي من الاعتماد عليك في هذه المهمة.
فقالت: وهل إذا جاءتك الأوامر بالسفر إلى الإسكندرية تسافر وأنت عالم أن ذلك الثغر في خطر عظيم؛ تتهدده دوارع دولتي إنكلترا وفرنسا الواقفة له بالمرصاد؟ وزد على ذلك أن ذهابك هذا يعرقل مساعي من جهة فدوى، قال: «ما كل ما يتمنى المرء يدركه.» فكنت عولت منذ انتظامي في سلك العسكرية أني حالما أعلم باقتراب الحرب أستعفي من الخدمة، ولكني رأيت من الجهة الواحدة أني ارتقيت وصرت عظيما في أعين الناس، ومن الجهة الأخرى، علمت أن القوانين العسكرية لا تجيز الاستعفاء وقت الحرب، فلا بد لي من البقاء في الجيش على كل حال، ويجب علي إطاعة الأوامر. أما إذا ذهبت إلى حرب، فلا أعرض بنفسي إلى مكان الهلاك؛ لأنها عزيزة علي، ومتى انتهت مهمتي أعود إلى القاهرة، وأسعى إلى ما أتطلبه.
الفصل الثلاثون
إباحة الأسرار كإباحة الأعمار
أتت دليلة صباح يوم إلى بيت عزيز جريا على العادة، فرأته يخطر في غرفته ذهابا وإيابا، وفي يده رسالة ينظر إليها، وسمات الطرب بادية على وجهه، فلما لحظ العجوز مقبلة عليه رحب بها وقال: وسيعلم الظالمون أي منقلب ينقلبون. أتدري ممن هذا الكتاب ...؟ هو من فدوى إلى والدة شفيق. خذي انظري وتعجبي. لقد قضي الأمر وحبطت آمال تلك الحبيبة الجافية.
فسألته: وكيف ذلك؟!
قال: ضاع حبيبها شفيق، ولم يطلع والداه له على خبر، فهل بعد ذلك مانع من نيلها!
صفحة غير معروفة