فلما سارت بهما العربة يسيرا خاف عزيز أن تظهر مكيدته لدى شفيق، فتظاهر أمام الباشا بنسيانه شيئا خطيرا، واستأذنه في أن يتبعه بعد قليل إلى قصر النزهة، فأذن له، فنزل وسار.
أما الباشا فداوم مسيره حتى أتى القصر فدخل الحديقة، فلم يشاهد فيها غير فدوى وبخيت، فتعجبت فدوى لمجيء والدها، فسألته عن السبب فقص عليها الخبر، ولكنه لم يذكر اسم عزيز، فأدركت أنه هو بعينه، وقد فعل ذلك ليوقع بها أو بشفيق، ولكنها تجاهلت. وبعد التمشي والانتظار، لم يأت عزيز، فركبا عائدين إلى البيت.
أما شفيق، فلما وصل البيت كاشف والدته بما كان من تعاهدهما، وأوصاها بكتمانه، وأن تجتمع بها أثناء غيابه ما استطاعت، وتذكرها بوعدها له؛ لئلا يضعف البعد عهدها.
الفصل الثامن عشر
سفر شفيق
وبعد بضعة أسابيع، وردت الأوامر إلى شفيق بالسفر إلى إكس؛ لدرس فن المحاماة فيها حسب أمر الخديوي، فتقدم والده إلى الجناب العالي أن يسمح له بإرساله إلى إنكلترا؛ لأنه يعرف الإنكليزية جيدا، وله وسائط أخرى للمطالعة هناك؛ فأذن له في ذلك.
فلما علم عزيز بسفره وقد اشتد به الحسد حدثته نفسه أن يفتك به، أو يسعى إلى إهلاكه بمكيدة أثناء سفره إلى لندرا، فلم ير أفضل من الإسكندرية لهذه الغاية؛ لأنه يكون فيها بعيدا من أهله وأحبائه، فجاء إليه ليلة سفره، وقضى عنده معظم الليل مظهرا له عظيم أسفه على فراقه، وأخبره أنه سيشيعه في الغد إلى الإسكندرية، فشكره شفيق وحسب ذلك له منة كبرى.
فلما كان الغد نزل والد شفيق إلى المحطة لوداعه، ونزل عزيز لمرافقته، فسافرا على القطار الحديدي قاصدين الإسكندرية، وقضيا معظم الطريق في الأحاديث عن مصر وفدوى، وعزيز يحاول إظهار رغبته في اقتران شفيق بها، ويعده المواعيد المشددة بالسعي في ذلك.
فوصل بهما القطار إلى الإسكندرية ساعة الغروب، فركبا عربة إلى فندق على شاطئ البحر، ولم يسبق لشفيق معرفة بالإسكندرية قبل ذلك اليوم، فلما استراحا وغيرا ثيابهما قال عزيز: هلم بنا يا شفيق إلى المدينة نقضي بعض الليل في مشاهدة أسواقها وبهجتها وزخرفها ترويحا للنفس من وعثاء السفر، فأجابه إلى ذلك وذهبا حتى أتيا ساحة المنشية، فاندهش شفيق لما شاهد من زخرف المدينة، وسعة شوارعها، وإشراقها بالأنوار الغازية التي تجعل ليلها نهارا. ومما يزيدها بهجة حوانيتها المضاءة بالأنوار المزينة بأنواع السلع تزيينا يأخذ بالعقول، ومما يدهش الناظر مبانيها الشاهقة المزخرفة بما على جدرانها من أنواع النقوش المحفورة، وما في شرفاتها من الرخام المجزع وغير المجزع، فعجب شفيق لهذه المناظر، وأخذته الدهشة، فبهت إلى أن تأبط عزيز زنده، وذهب به متلطفا إلى رصيف الساحة المرصوف بالرخام. والمنشية مستطيلة الشكل فيها كثير من شجر اللبخ، وفي منتصفها تمثال هائل قائم على قاعدة مرتفعة من الرخام الأبيض يمثل فارسا مهيبا، وشيخا وقورا متسع الصدر، واسع اللحية، متعمما بعمامة كبيرة، ومتزملا بالجبة والقفطان، وممتطيا جوادا من جياد الخيل، ومتقلدا سيفا منحنيا، وقد وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى كأنه ينظر إلى جهة المدينة؛ ليتأمل بهاءها ورونقها، فازداد شفيق دهشة وسأل عزيزا عن ذلك التمثال، فقال: إنه تمثال المغفور له محمد علي باشا؛ مؤسس العائلة الخديوية. فمال بكليته إلى التأمل في تمثال ذلك الرجل العظيم الذي أحيا الديار المصرية وأنقذها من وهدة الدمار.
أما عزيز، فلم يكن همه إلا تدبير مكيدة يهلك بها شفيقا، فلما رآه منذهلا بمناظر الإسكندرية أخذ يمتدحها له، ويطنب بمحاسنها، وهما يتبختران ويسرحان نظرهما بالمارة أفواجا، ومعظمهم في زي الإفرنج، وعلى وجوههم أمارات الانبساط، وعلائم الرغد والسعة، فلم يستعظم عزيز شيئا من ذلك؛ لأنه كان يعرف الإسكندرية معرفة تامة. وكان مشتغل البال في أمر الفتك بشفيق، فلاح له أن يذهب به إلى حان ويسقيه خمرا حتى يغيب صوابه فيفتك به، ولكنه تذكر أن شفيقا لا يتعاطى شيئا من أنواع المسكر، وأنه يستنكف من مجالسة كل من يتعاطاها.
صفحة غير معروفة