فقال عبود: فعجبت يا أخي لإخلاص هذا الرجل للحكومة، وعظم شهامته، وصرت أقول في نفسي: إنه إذا انحاز إلى العصاة، فلا يلام لأنه اضطر اضطرارا، ثم خرج البيك من الغرفة فخرجت وقد تحقق عندي تفاقم الخطب، واستفحال أمر العصاة. وفي اليوم التالي، جمع توفيق بك ضباط مجلسه في جلسة حافلة حضرتها.
فقام فيهم قائلا: ها إن العصاة قد أحاطوا بنا من كل ناحية، والحكومة بعثت إلى نجدتنا حملة لم تصلنا، والبلد في جوع مدقع، ولا أزيدكم علما بماذا يأكلون وبماذا يشربون، فالآن إما أن نلبث في الحصار فنموت جوعا، وإما أن نخرج مستقتلين وندافع عن أنفسنا وحكومتنا حتى يقضي الله بما يشاء، وهو خير الحاكمين، فإذا قتلنا عن آخرنا؛ فذلك خير لنا من التسليم لقوم طغام يكذبون على الله ورسوله، ويدعون المهدوية زورا، على أننا لو هان علينا التسليم ما أفادنا شيئا؛ إذ إن عثمان دقنا لا يبقينا في قيد الحياة، فما رأيكم؟
فبهت الجميع وكأنهم قد سحروا بكلام محافظهم المملوء شهامة وحزما، فقالوا: الرأي لك.
قال: الرأي عندي أن نفتح أبواب البلدة غدا بعد أن نخربها، ونخرج بسلاحنا مستقتلين، فإذا لاقانا العدو قاتلناهم إلى آخر نسمة من حياتنا باسم خديوينا توفيق باشا، حتى يقضي الله بيننا وبينهم، ولكل أمة أجل، فإذا جاء أجلهم لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون.
أما أنا فوقعت يا أخي في حيرة، وليس لي إرب في القتال؛ لأني لست جنديا، ولا أعرف الدفاع، فندمت على دخولي سنكات، وكذلك رفيقي محمود، فاجتمعت به وتعاهدنا على أن نفر من المدينة تلك الليلة إلى معسكر العدو كما كنا قبلا، ثم نذهب من هناك إلى سواكن.
فلما كان منتصف الليل لبسنا المرقعيات وخرجنا نريد معسكر عثمان دقنا، فدخلنا مولولين مستنجدين وقلنا: إننا تهنا عن الطريق فمررنا بجانب سنكات فأطلقوا علينا الرصاص، ولم ننج إلا بعد الجهد والعناء، فطيبوا خاطرنا، وبتنا تلك الليلة. وفي الصباح التالي، تركنا المعسكر وسرنا حتى أتينا سواكن، ولم نبلغها حتى بلغنا خروج توفيق ورجاله قانطين، فهجم العصاة عليهم ولم يبقوا مخبرا منهم، فأسفت على ذلك البطل أسفي على ذلك الضابط، وركبت البحر من سواكن إلى السويس. وبالاختصار، وصلت إلى هنا منذ برهة يسيرة جدا وأنا لا أنسى ذلك الرجل ولطفه وفضله. قبح الله العصاة وأعمالهم. وتراني قد علقت الخمرة من ذلك الحين تسلية لي عن فقد ذلك الرجل الشريف.
أما بخيت فكان أثناء تلك الحكاية كأنه أذان صاغية، وقد توسم فيها خيرا، فلما أتم صاحبه الحديث قال له: والله إن حكايتك لفي غاية الغرابة، ولكنا كنا في سياق حكاية الهدايا والحلوانات فقلت: إنك جئت من بلاد السودان بأشياء لم تذكرها.
قال: لقد جئت من هناك بما معي من ثياب الضابط المتقدم ذكره، وفي جملتها دبوس مرصع، فبعته لصاحب هذا المنزل بمبلغ قليل؛ إذ إنه لا ينفعني.
فأخذ قلب بخيت في الخفقان، ولكنه ابتدر عبودا بالسؤال عن اسم معلمه المشار إليه، فقال: ومن الغريب أنه ضابط إنكليزي، ولكنه كان يعرف العربية كواحد من المصريين، واسمه كابتن شفيق (أي يوزباشي شفيق)، فازداد خفقان قلب بخيت وكاد يطير من الفرح لاكتشافه سر الدبوس، ولكنه أسف لتذكره ضياع ذلك الشاب، فبهت برهة وعبود ينزع الخرقة (الوزرة) عن وسطه لانتهائه من الشغل، ثم قال له بخيت: وهل سمعت شيئا عن ذلك الضابط؟
قال: لو كنت سمعت عنه شيئا ما برحت السودان قبل أن ألتقي به.
صفحة غير معروفة