هذه المعلقة هي أثر آخر من آثار البلاغة العربية القديمة، يقع في تسعة وخمسين بيتًا، وصاحبها هو زهير بن أبي سلمى ربيعة بن رباح المزني. نشأ في أقاربه بني غطفان وتخرج في الشعر على خال أبيه بشامة بن الغدير، وكان يروي لأوس بن حجر أيضًا وكان أوس زوج أمه، فكان شاعرًا فحلًا، كما كان صائب الرأي عاقلًا حازمًا حكيمًا وكان يتأله ويتعفف في شعره.. ويدل شعره على إيمان بالبعث:
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ... ليوم حساب أو يعجل فينقم
وفضله عمر بن الخطاب على الشعراء، لأنه كان لا يعاظل بين القول ولا يتبع حوشي الكلام ولا يمدح الرجل إلا بما هو فيه.
وكان زهير أحكمهم شعرًا، وأبعدهم من سخف وأجمعهم لكثير من المعنى في قليل من المنطق وأشدهم مبالغة في المدح.
كانت حرب داحس والغبراء بين عبس وبيان تؤرق زهيرًا وتضنيه، وتثير شاعريته. ولما سعى هرم بن سنان والحارث بن عوف المريان في الصلح وحقن الدماء وتحملا ديات القتلى أنطلقت تلك المأثرة زهيرًا، فنظم معلقته هذه يمدح هذين السيدين، وينوه بعملهما الجليل ويدعو إلى السلم وينفر من الحرب ويصف مآسيها وآلامها، وهي قصيدة رائعة، تمتاز بحكمها الكثيرة، وكان زهير ذا حكمة في شعره.. وقد بدأ زهير معلقته بذكر الديار وزيارته لها ووقوفه فيها عشرين عامًا طوالًا يتذكر ذكريات حبه ووفائه، قال:
أمن أم أوفى دمنه لم تكلم ... بحوماته الدراج فالمتثلم
وقفت بها من بعد عشرين حجة ... فلأيًا عرفت الدار بعد توهم
فلما عرفت الدار قلت لربعها ... ألا أنعم صباحًا أيها الربع واسلم
ثم أخذ يصف النساء اللاتي ارتحلن عنها، فيتبعن ببصره كئيبًا حزينًا، ويصف الطريق التي سلكنها، والهوادج التي كن فيها، والمياه التي نزلنها، في عذوبة وسهولة وجمال، إلى أن يقول:
فلما وردن الماء زرقا جمامه ... وضعن عصى الحاضر المتخيم
تذكرني الأحلام ليلى ومن تطف ... عليه خيالات الأحبة يحلم
ثم ينتقل إلى مدح هرم الحارث والإشادة بمنقبتهما الكريمة في إنقاذ السلام وإطفاء الحرب بين عبس وذبيان وتحملهما ديات القتلى من ما لهما، وقد بلغت ثلاثة آلاف بعير. قال:
سعى ساعيًا "غيظ بن مرة" بعدما ... تبزل ما بين العشيرة بالدم
فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله ... رجال بنوه من قريش وجرهم
يمينًا لنعم السيدان وجدتما ... على كل حال من سحيل ومبرم
تداركتما عبسًا وذبيان بعدما ... تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم
وقد قلتما إن ندرك السلم واسعًا ... بمال ومعروف من الأمر نسلم
فأصبحتما منها على خير موطن ... بعيدين فيها من عقوق ومآثم
ثم ندد بالحرب ووصف فظائعها؛ ودعا إلى السلم وأكده وأوجبه على المتحاربين، قال:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم ... وما هو عنها بالحديث المرجم
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة ... وتضر إذا ضربتموها فتضرم
ثم ينصح قومه بأن يبقوا على السلم، ويندد بالحصين بن ضمضم وبآثار عمله في تهييج الشر وإعادة نار المحرب، وكان الحصين حين اجتمع القوم للصلح قد حمل على رجل له عنده ثأر في الحرب فقتله، ويعيد التنويه بالرجلين اللذين احتملا ديات القتلى واحدًا واحدًا على غير جريرة كانت منهما.
ثم ينتقل من هذا المجال الرهيب مجال النصح والتوجيه وتأكيد السلام، إلى مجال الحكمة الإنسانية العامة، حكمة الرجل المجرب للحياة الذي ذاقها وخبرها، وعاش في خضمها، ثم امتد به العمر فزهدها وانصرف عنها.. قال:
ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله ... على قومه يستغن عند ويذمهم
إلى أن قال:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثمانين حولًا لا أبالك يسأم
وأعلم ما في اليوم والأمس قبله ... ولكنني عن علم ما في غد عم
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب ... تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم
ويختمها بتأكيد معروف السيدين الممدوحين عليه فيقول:
سألنا فأعطيتم وعدنا فعدتم ... ومن يكثر التسآل يومًا سيحرم
- ٢ - وقال أيضًا يمدح سنان بن أبي حارثة المري:
صحا القلب عن سلمى وقد كاد لا يسلو ... وأقفر من سلمى التعانيق فالثقل
1 / 48