جلسنا نتلحف صمتنا، يقينا قليلا من برودة تلك الحقائق التي لا نعرفها، تدهشنا ولم نعد ننكرها، يصدقني ويصدق روايتي، وأصدقه وأصدق روايته، تحول الغضب لخوف، وتحولت الاتهامات باندفاعها لتراجع بعيد ببئر من الخواء، هل أصابنا جميعا ما أصاب أمي؟ داء النسيان؟
ودعني وهو يقبل بعينيه الأخرى، وودعته وأنا أشتاق بروحي للآخر، ما كنت أدركت بعد أننا صرنا أربعة.
كنت أفكر وأنا راحلة عنه، نعم أشتاق للآخر، لكني أريد معرفة الثاني، لا أفهم ماذا أريد؟ أو من أريد؟ وحين بدأت أفهم ما يحدث له، وعرفت بوجودها أدركت ما قد تكون عليه حالته، هل يمكن أن أترك لها الأول فهو يشبهها، وتترك لي الثاني فهو يشبهني، لكنني أخاف المزيد من التعلق، تكفيني حيرتي، وتكفيه حيرته، أهكذا كان أبي؟ مبتسما للجميع، قاسيا حادا مع أمي، هل كان أيضا مزدوج المشاعر؟ هل هذا عذر لأبي؟ لا، الجميع يدعي الحسن بينما ينضح قبحا، لا يستحقني، كما كان أبي لا يستحق أمي. - اهدئي أمل، هل تريدين بعض القهوة؟ - لا، شكرا دكتور، أريد فقط الذهاب الآن، هذا ما أحتاجه الآن. - حسنا، يمكنك الآن الذهاب لحجرتك.
أغمضت أمل عينيها والدكتور أحمد ينظر بتعجب لكل تلك المعلومات والملاحظات، عاد لكل ما يعرفه عن الأب، لم يكن سيئا على الإطلاق، كان يعتقد أن مفتاح العقدة في والديها، وضع ملاحظة أخرى، وأعد ملفا آخر للدكتور عبد الله مسعود قبل أن تفيق أمل، إلهة الصيد. - هل تعرف أن عبد الله المنمق أكثر إثارة من الفنان الفيلسوف؟ - لم يكن هذا رأيك من قبل. - هل قلت لك رأيي من قبل؟ - أعتقد، لكن يسعدني أن أسمع أكثر منك. - أنا متعبة الآن سآتي لك قريبا.
ودعت الدكتور أحمد مراد ورحلت أمل، وتركته وسط الكثير من علامات الاستفهام.
عذراء الأوليمبس
جاء بوجه آخر، لم يكن الفنان، لم يكن المنمق، جاء بوجه التائه، سئمت منه ومنها، أعلم جيدا أنه لا يراها الآن، رغم غيبته الطويلة عاد لي، تركته ووقفت بباب الشرفة، أتطلع للبحر، أسقطت ملابسي؛ فهو يعشقني عارية، سيرابيس، كم كنت أرى عبقرية بطليموس وكهنة آمون في هذا الإله الذي جمع الحضارتين، التفت لعبد الله، أتأمله، وهو يتفحصني بعينيه، جالسا وبيده كأسه. - لماذا لا تحب سيرابيس؟ - لا أصدقه، مصنوع من العبث ليوحد قطبين، الحقيقة، لا يرتقي للاحترام كي أحبه.
ولم أصدقه أيضا، وأقصد عبد الله، كنت أراه كاذبا، ليس ذلك الكذاب اللطيف، خذلته عفويته، وخانته نزعاته البرية هذه المرة، كان صيدي اليوم، لم أكن فريسته، بل كان هو الضحية، أسيرا بين امرأة عارية حافية، وبين مئات الأسئلة، كانت ليلة عصيبة، يحاول الهروب لجسدي فتلاحقه الأسئلة، ويزحف جسدي متواريا، وفي كل جولة يتخلص من بعض قشرته، ويقترب عريه من عريي، تزداد إثارته، وتقل مقاومته، لكنه لم يعترف أبدا بعبد الله الثاني، كان يراه محاولة مني للهروب، كان يراه إنكارا لحالتي، وكنت أراه كاذبا، تحول ضعفه لغضب، وتحول غضبه لرغبة، وأفرغ رغبته بداخلي، وادعى النوم مصلوبا بجسدي، ورغم يقيني من كذبه لم أفك صلبه حتى الصباح؛ فحتى أنفاسه الكاذبة رغم كل شيء تشعرني بالدفء.
كانت روح جدتي تحلق في الغرفة، تطرد ألفتي به، تلامس الدفء فيتثلج، تركت صدره العاري لأنتظر الصباح في ركن الغرفة، أحاور جدتي بصمتي وصمتها، أراقب نومه الكاذب، لم أعرف رائحة أنفاسه من قبل، لم أعرف طعم قبلاته، كان حضوره مسكرا، ولم يعد الآن يسكرني؛ فصرت أراه، أسمعه، أشم رائحته، أتذوقه، لم أكن أنا أنا فقط، ولم يعد هو هو فقط، صرنا كثيرين، يملؤنا الصراع بين الغربة والهروب من غربتنا لغربتنا الأخرى، لم أعد في حاجة للبحث عنه، العمر يمضي ولم أجدني، سألملم أخشاب مظلتي التي ظللته بها وأصير جسرا يعبرني لامرأة أخرى، ثم أحيل جسري قاربا لأبحث عني بين تلك الأمواج المتناطحة، إما أنا أو هي، وأما هو فعليه أن يجده، سأعود عذراء قبل الفجر، وسأنساه عند الظهيرة، ولن يبقى سوانا، أنا وهي.
لم يغب الصباح عني، جاء كما اشتهيته، أعددت قهوتي وقهوته، وقام مختالا بجسده، قبل جبهتي وشرب قهوته ثم انصرف، لم أودعه؛ فقد ودعته بالأمس، لم أره منذ ذلك الصباح، ولم أعد أشتاق لرؤيته كنصف امرأة تغار من نصفها، أحاول التذكر، متى انقسمنا أنا وهي؟ كيف بدأت أنا في الظهور؟ أو كيف بدأت هي؟ لم يعد يهمني أيضا من منا ستبقى.
صفحة غير معروفة