إهداء
المرسم
دماء الآلهة
العود الأول
الوشاح البرتقالي
زيارة سرية
هي تغار منها
هي والآخر
قمر يحاول الهروب
أين هي؟
وتحكي إلهة الصيد
يد ديفيد
ما للبحر
حقيقة وادعاء
الجانب الآخر من النهر
اللقاء الثاني
عبد الله الثاني
عذراء الأوليمبس
سراي خطاب
الرسالة
إهداء
المرسم
دماء الآلهة
العود الأول
الوشاح البرتقالي
زيارة سرية
هي تغار منها
هي والآخر
قمر يحاول الهروب
أين هي؟
وتحكي إلهة الصيد
يد ديفيد
ما للبحر
حقيقة وادعاء
الجانب الآخر من النهر
اللقاء الثاني
عبد الله الثاني
عذراء الأوليمبس
سراي خطاب
الرسالة
أرتيميس تركت القمر
أرتيميس تركت القمر
تأليف
محمد السباعي
إهداء
إلى مريم السباعي وسارة السباعي، إلى أغلى من أحب: الحب هو بداية كل شيء؛ لا تخجلا منه.
محمد السباعي
المرسم
كنت على وشك التمدد مع موسيقاي وكأسي، كنت أتمنى أن تصدق يوما، عام كامل أو يزيد، ولم أتلق إجابة على دعوتي لها سوى «إن شاء الله» وابتسامة مضطربة وعين ثاقبة تخترق عيني ولا أعرف أين تستقر بداخلي، كل مرة. سمعت بها من بعض طلاب الدراسات العليا، دكتورة أمل مدرسة تاريخ الفن بجامعة الإسكندرية، تكره الفلسفة، وتكيل بعباراتها الكيل للفلاسفة. تكرر اسمها كثيرا بين طلاب قسمي، قسم الفلسفة بجامعة القاهرة، لم أعر الأمر اهتماما؛ فكثيرون هم من يسبون الفلسفة، حتى دعتني إحدى الطالبات لمحاضرة تلقيها الدكتورة أمل، التي وافقت على الإشراف على رسالتها التي أشرف عليها بالفعل، كانت بعنوان «حب الحكمة وحب الجمال». وكنت اقترحت عليها إشراك أحد أساتذة الفنون الجميلة في الإشراف على رسالتها، لكن بدا أنها فضلت الدكتورة أمل، شعرت وقتها من إلحاحها على ضرورة ذهابي للمحاضرة وكأنها مواعدة مرتبة، وفي النهاية ذهبت، ولم أندم على ذهابي بقدر ما ندمت على ما ضاع من عمري قبل هذا اليوم.
كان يوما ذا لون ورائحة، لم أميز أيا منهما حتى خرجت أمل بخطوات رشيقة واثقة على المنصة، رأيتها من قبل، كانت تحضر عرضي لبعض اللوحات التي دائما أصفها بالزفت، ابتسمت للحضور، أو لي، بادلتها الابتسامة وأنا أكثر استرخاء؛ فهي من لونت اليوم وصبغته برائحتها البرية. استسلمت لنظرتها أول مرة رأيتها، تحركت عيناها ما بين سيجارتي وصدري، لم أعلم أيهما اشتهت، لكنها فقط ابتسمت وانصرفت. والآن أراها ترقص بين الفن والفلسفة؛ رقصة موت بإيقاع الحكمة وأنغام الجمال: ترقص، ترقص، ترقص على صدري وأكاد أشعر بدقات قلبها من كفي قدميها.
ارتخيت قليلا مع الموسيقى؛ ديبوسي، لا أحب موسيقاه بقدر ما تحبني، لا أسمعه، لا أتذكر الألحان، فقط أشعر بانسياب يتمدد بروحي كموج البحر ويعود أدراجه وروحي معلقة بذيوله، ويعاود بها ليسحبها، وكأن موسيقاه تستمتع بتلك اللعبة، لكن ليس بقدر استمتاعي بها. قطع استمتاعي الموجي صوت «عم نصر» يخبرني بأن لدي زوارا ... أي زوار الآن؟ أوقفت الموسيقى وخرجت من غرفتي التي أطلق عليها «أتيليه» ومشيت حافي القدمين على أرضية السطح الحجرية، ألقيت نظرة لمئذنة ابن طولون قبل أن أصل للسور وأعرف الزائر الذي قطع متعتي.
كان العجوز «نصر» مستمرا بالصياح: «يا دكتور عبد الله، يا دكتور عبد الله ...» وتجمدت عيناي؛ أمل؟! لا أعرف كيف نزلت لأصافحها بنفس هيئتي؛ بنطالي القطني البني الفاتح بلون التراب، وقميصي الكتاني الأبيض، وبالطبع حافي القدمين ... أخذت يدها وصعدنا سويا، دعوتها للدخول، لم تهتم بحال الغرفة بل خطت كملكة في بلاطها: «غرفة كبيرة.» هكذا قالت، ابتسمت مجيبا: «هي في الحقيقة ثلاث غرف وحمام، وأزلت كل الجدران، حتى الحمام بلا باب الآن.» ابتسمت، وانزلقنا في صمت لحظي، شفتاها تجتذبان عيني، وعيناي مستسلمتان لنفاذ نظرتها ...
تحدثنا قليلا بين فترات الصمت، لم تعجبني حالتي، لم أكن أنا، لم أكن بهذا القرب منها من قبل، لم أعتده، سألتها إن كانت تريد بعض النبيذ المصنوع منزليا بجنوب أفريقيا، وافقت بضحكة خفيفة، معلنة أنها مرتها الأولى، أذابت ضحكتها كل التوتر، عاودني النشاط وأنا أملأ كأسينا، تجنبت ملامسة أناملها وأنا أعطيها كأسها، كنت أستمتع بوجودها، أراقبها ترفع الكأس، تشم النبيذ وتبلل شفتيها.
سألتها لم وافقت أخيرا على زيارتي فأجابت لترى لوحاتي «الزفت»، فأشرت لتلك اللوحة فوق السرير بأنها «الأزفت» على الإطلاق ، كانت لوحة مربعة كبيرة بها دوامة من اللون الأسود سحب بسكين مبتلعا كل الألوان، فسألتني كيف للألوان الخلاص من تلك الدوامة؟ فأجبتها بأن تتعرى منها وتخرج عارية وحين تشعر بالخجل تعود فترتديها، سألتها: «هل تخجلين من العري؟» أجابت بنفس ابتسامتها المرتعشة وعينيها الثابتتين بمستقرها داخلي «بل يخجل من يرتدون ملابسهم مني.» كانت تراقصني بكلماتها ... - هل تحبين المشي على سور السطح؟ [لم أنتظر إجابة وأضفت] اتركي ملابسك وتعالي بكأسك.
وخلعت ملابسي كلها وخرجت عاريا للسطح لم أنظر خلفي، لم تتأخر؛ عارية وكأسها بيسراها. قدماها تعرفان أحجار السطح. تسير ببطء، بهدوء، ويمناها تبحث عن يدي، أمسكتها وصعدنا على سور السطح، هي أمامي وأنا خلفها ممسك أنا بيدها وملاصق لها، مشينا قليلا، لم أقصد بعريها رؤيتها عارية، لم أكن أيضا أحاول إغواءها بعريي، لم أكن أهدف إلى شيء، ربما كنت أحاول منح جسدينا الفرصة للتعارف، تعارف البراري بنسمات الشمال.
كلاهما يمنح رائحته للآخر ومعها يمنح سره.
كانت خطوتها تتناغم مع السور الحجري، خشونته تلتهم نعومة قدميها، ونعومتهما تقتحم خلوته، كنت أشعر بخوفها، وكنت أشعر بإحساسها بالأمان التام! طلبت منها أن تحاول السقوط وتختار أي جهة تود السقوط، فاختارت ابن طولون، فجذبتها وقفزت بها للسطح مرة أخرى: «هيا لنرسم.» قلتها وأنا أجذبها من يدها للداخل مرة أخرى. - أنا لا أجيد الرسم، مجرد ... - [قاطعتها] لن نستخدم فرشاة.
وقفت أمام المنضدة وفتحت أنابيب الألوان والزيت الخام والنفط الرومي وبدأت في تخليط كميات من الألوان بسرعة، وألقيت عليها الألوان تنساب على جسدها وتبتلع من سمرتها، وقبل أن تفيق من المفاجأة جذبت ملاءة السرير وفرشتها على الأرض قائلا وتلك هي اللوحة، جذبتها للأرض وكلانا يغطي الآخر بالألوان، وبدأنا نتحرك، نترك بصماتنا بثقل أوزاننا على القماشة البيضاء، كانت تتحرك، لا، كانت تزحف، همست لها: «كنت أعرف أن خلف الدكتورة أمل كوبرا ملكية متمردة.» فهمست: «وكنت أعرف أن خلف الدكتور عبد الله إنسانا بدائيا متوحدا مع الطبيعة.»
أمسكت بها أحركها، أرفعها قليلا فتستجيب، لم تكن مستسلمة تماما ليدي التي ترسم بها؛ فطلبت منها الاستجابة، فهمست: «هل تخضع لجبروتي دقائق؟» كثيرة هي مفاجآتها. - أجبريني على الخضوع. - الخضوع الكامل، وتتسلم الصولجان وتصبح مملكتك. - أحاول المقاومة وأحاول الاستسلام. - قاوم فلا معنى لنصر بلا مقاومة، يشبه الوجبة المجانية، لا يقبلها الفرسان. - ليس لي خيار، سأحارب للنهاية، وأستمتع باستسلامك. - قلت لك تعجبني ثقتك بنفسك، تبدو أفاقا، كاذبا، مراوغا، جريئا لحد التطاول، لكنك تعجبني.
لم تكن تراوغ، كانت تعرف موطئ قدميها، طلبت منها المبيت، فاشترطت الوصول لمحطة القطار قبل الثامنة صباحا.
لا أعرف كم الساعة الآن، لكني شعرت بالراحة، فلو كانت الثامنة إلا دقيقة فسأطير بها للإسكندرية لا لمحطة القطار. لم أمارس معها ألاعيب الشيطان المثقف. كانت هي وكنت أنا، أمسكت يدها وقمت لنخرج للهواء، أوقفتها أمامي واحتضنتها: ذقني يستريح على رأسها، ورأسها يسترخي على كتفي، وأمامنا ظلام القاهرة ومئذنة ابن طولون، وسلمها يحتضنها كما أحتضن أمل، تحدثنا عن الاحتواء، الاحتضان، التوحد، وختمت حديثي بهمسة بأذنها: «محتاج لك.» بادلتني الهمسة وكأنها تقتلعني من جذوري، ما أروع طريقتها! سألتها أن تأتي إلي بكل جبروتها، ووعدتها ألا أقاوم، فصرحت لي بنفس طريقتها: «سأمتص دمك، وأبقي قطرات قليلة تأتي بها للإسكندرية؛ لأعيد إحياءك وقت الشروق، وطقس البعث سيكون بالبحر، وسأشهد سيرابيس بعثك، كما أشهدت ابن طولون غرقي.»
جذبتها مرة أخرى للداخل هامسا أن تحكي لي عما تريد إخبار سيرابيس به ونحن نستحم بحمامي المتواضع، المكون من قاعدة وخرطوم وبالوعة لتصريف المياه، لم تعترض ووقفت أمامي، أحضرت طبقين ملأت أحدهما بالنفط الرومي والآخر بالماء والصابون وقطعتين من الإسفنج، وبدأت في تحميمها كالأطفال؛ أمسح الألوان بالنفط، بالكاد تلامس قطعة الإسفنج جسدها، ثم أزيل أثر النفط بالماء والصابون، ثم أزيل أثر الصابون بالماء، وأقبل كل ما أنتهي منه. قبل أن أصل لخصرها كانت يداها تستندان إلى كتفي، لم يتحرك جسدها، وكأنني أغسل تمثالا من الرخام، حتى شعرت بأظافرها تشق كتفي، ألسنة من اللهب، جحيمها يسيل دمي؛ لينساب كاسحا الألوان من جسدي، دماء حارة، وأظافر حادة، جذبت من يدي الخرطوم، وأزالت الدماء، وبقي وشم أظافرها، وكأنها تقول لقد مررت من هنا.
لا أعرف متى ارتدينا ملابسنا، أذكر ابتسامة سائق سيارة الأجرة في المرآة الداخلية، كان رأسها مستندا إلى صدري، وأحيطها بذراعي، وكلانا مبتسم، وزادت ابتسامتنا بابتسامته، كأنه يعرفنا، وحين أعطيته أجرته ابتسم، وأوصاني بالعناية بها، نظرت إليها ثم شكرته مبتسما.
مشينا لشباك التذاكر، طلبت تذكرتين، مدت يدها لتأخذ النقود من يدي، ومدتها للموظف بالشباك قائلة: «تذكرة واحدة.» انتظرتها حتى انتهت، وأخذت التذكرة، ووضعت باقي النقود بجيب قميصي، وأنا أراقبها، سألتها لماذا، أجابت أنها لا تريدني أن أركب القطار الخاطئ، إن أردتها فعلي أن ألحق بها ... رفعت حاجبي ونظرت لها ما بين الإعجاب والاستنكار، مدت سبابتها لتلامس شفتي كي لا أتكلم، وأضافت: القطار التالي يتحرك بعد ساعة، ساعة كافية لتعرف إلى أين تريد الذهاب.
شدت على يدي وأعطتني ظهرها وانصرفت، لم أصدقها، هززت رأسي كي أفيق، ابتعدت وأنا أتابعها، ابتسمت، كنت سعيدا بهذا الجنون. ساعة لأعرف إلى أين أريد الذهاب. بالطبع كنت تخطيت خط العودة. عدت لشباك التذاكر واشتريت تذكرة في قطار التاسعة، وأحضرت بعض القهوة ومشيت لرصيف القطار لأنتظر ساعتي هناك.
رائحة القهوة، دخان السجائر، أثر النبيذ، ووشم أظافرها، عام كامل، أنتظرها وتقضي ليلة معي، لم أرها عارية، بل كانت ترتدي سمرتها، لم يظهر منها الكثير، أي روح تلك التي تسكنها، أي روح تختفي خلف هذا الجسد الممشوق؛ كمال دون إسراف، واكتمال دون إفراط، تخطت الكفاية، ومنحها الله التمام، فإن نقص ما لديها نقصت، وإن زاد ما زادت، فما بعد التمام زيادة. باحت دون رجاء، وطلبت دون تردد، ومنحتني مهلة لأقرر، صدقت حين تحدثت عن الجبروت. لا أذكر أن امرأة من قبل تذكرت سيرابيس، وهي تذوب بين يدي رجلها، طقس البعث، العودة، اقتربت ساعتي من الانتهاء، لأعود إليها، عودتي الأولى. ركبت القطار، وجلست مبتسما، مأخوذا. صرير يعلن تحرك القطار، وآخر يعلن وصوله، وما بينهما، أنا وهي وسيرابيس الذي لا يعرفه أحد، قمت من مقعدي وتذكرت أنني لا أعرف عنوانا لها؛ ابتسمت.
دماء الآلهة
هدأ القطار قليلا، يلتقط أنفاسه حتى لا يدخل المحطة لاهثا، أعلن وصوله بصفير وصرير؛ فانفرجت ذراعا المحطة لتحتضنا البطل العائد، يتوقف تماما بين ذراعيها، وسكانها بأزيائهم الموحدة يتحركون في كل مكان، وزوارها بأزيائهم المتنوعة لا يجمعهم غير بطولة المكان.
نزلت من القطار، لا أحب الزحام، يستهلك طاقتي، لكنني لم أهبه اليوم. كنت أعرف أنها ستأتي، ستجدني وأجدها، فلا معنى لمجيئها إن لم نلتق. تحركت باتجاه البوابة؛ بوابة الخروج من محطة سيدي جابر، كنت أبتسم لآدم الأول، فالآن عرفت شعوره وقت أن انتظر خروج حواء؛ هل كان من الممكن أن تخرج منه ولا يلقاها؟
نظرت ناحية بوابة المحطة؛ محطة سيدي جابر، ثم أحنيت رأسي قليلا لأختار البقع الفارغة من الأحذية على الأرض، وأحتلها بخطوتي سريعا، محافظا على اتجاهي ناحية البوابة، وصلت للبوابة، بحثت سريعا عن أقرب مكان للجلوس، وتوجهت إليه بنفس الطريقة، اعترضني حذاء خفيف بالكاد يغطي أصابع القدمين وعروق نافرة في سمرة ظهرها، تظاهرت بالتحرك فتحركت معي، ابتسمت قبل أن أرفع عيني؛ فستان بسيط بلون الكتان الخام، بلا أكمام.
كعادتها، وابتسامتها تتلقاني بود. •••
مدت يمناها لمصافحتي، لم أصافحها بل خطوت لجانبها، وأمسكتها يسراي، هامسا: «أنا الغريب في بلادكم.» ابتسمت. - ستأتي معي؟ - هل أملك بدائل؟ - لا أعتقد أن سيرابيس سيمنحك الكثير منها.
تحركت، وأنا مستسلم لها، وعقلي يدور ببراح بعيد أسائل نفسي عنها: هل ستحتويني بالفصحى؟ ستئن شعرا وتتأوه نثرا؟ هل ستعتليني كآلهة الإغريق، تحممني بالنبيذ من جرتها كأفروديت؟ هل أقسمت كهيستيا أن تظل عذراء للأبد؟ هل ستمنحني الفرصة لأفض بكارة العذراوات الثلاثة، هيستيا وأثينا وأرتيميس؟ لا، لا، هي أفروديت، وسأخرجها من صدفتها، وستراني هيفيستوس، ما أصعب الغرق في أستاذة تاريخ! •••
خطوة أخرى، ويدي بيدها، لا أعرف من يريح يده بيد الآخر، انتبهت هي حين توقفت مرة أخرى، التفتت لتواجهني متسائلة عن سبب توقفي، لم تجد في عيني إجابة، لم تدرك أن فكرة غريبة تنتابني، سألتها بوجه ثابت أن تأتي بسكين، سألتني: «هل ستقتلني بتلك السرعة؟» ابتسمت وهي تغادر يدي لركن وجبات جاهزة بجوار البوابة؛ لتعود وبيدها سكين، مددت يساري بيسراها وطلبت منها أن تحدث قطعا متقاطعا كالصليب بكفي، وأنا أنظر بعينيها، رجفة أخفتها بالقطع الأول، واستلذاذ للألم بالقطع العمودي، وأمسكت يدها اليسرى بأطراف أناملي وطلبت منها أن تنظر لي بينما أشق كفها اليسرى، كانت دمانا تنساب، فواجهت كفي بكفها ليتحول انسياب الدماء لسريان بعروقنا.
فصلبتها بكفي، واعتليت صليبا بكفها، فتطيب جرحانا بجرحينا، وامتزجت دمانا بكفينا.
فاكتفت منا الجراح وما اكتفينا.
أقلتنا سيارة أجرة. عمارة سكنية قديمة بالشاطبي، بين بورصة المال بالمنشية، وحلقات الذاكرين بمسجد المرسي أبو العباس، هكذا وصفت هي المكان، صعدت خلفها، والبحر من خلفي يهمهم سائلا من أكون، شعرت بغيرته، ونشوتي زادته غيرة، هي لي، والبحر يعرف، لا أعلم إن كان سيرابيس الغارق من خلفي قد لمحني، لكنني كنت على علم بحتمية المواجهة، قريبا.
بيت جدتها، يحمل مزيجا من الأطياف؛ جدتها يونانية وجدها من الصعيد، مكثت في حجرة جدتها بعد رحيلها لتلحق جدها بأقل من عام، طوفتني أطيافهما قليلا حتى قادتنا قدمانا للشرفة، خرجت هي تدلل البحر بعين حانية، تهمس لسيرابيس الغارق، تبتسم.
تراجعت للخلف خطوات قليلة ضيقة حتى التصقت بي عند باب الشرفة، أسقطت فستانها وأسقطت هي ما بقي من ملابسها دون النظر خلفها، فردت ذراعيها لجانبيها، صلبتها عارية على جسدي، وهمست بأذنها: «الآن يمكنك الصلاة، أخبري سيرابيس بما تريدين، فإن لم يسمعك فسأسمعك أنا.»
لم تنطق بل تمسحت بشعرها في صدري ورقبتي، لم أكن أرى من صلبها سوى كتفيها وذراعيها، مشدودة هي بعمر أشجار السنط، السيسبان السعيد، لكنها تخفي بجذعها أكروبوليس تحاول النفاذ من مسام عروقها، ربما شعرت بنيتي لتحدي سيرابيس للنهاية، ربما جاءتها رسالته بأن تتحرك الآن؛ فدارت حول محورها كأفعى دون أن تغادر جسدي، واجهتني زافرة الجحيم في صدري: «بل سأصلي اليوم هنا.» وبدأت في فك أزار قميصي.
كانت تتلو صلواتها بهمهمات بأنفها وثغرها يلامس صدري، وكأنها تصدر أوامرها لجسدي بالاستسلام، ولعقلي بالتوقف، أفقت لحظيا وأنا أسير بيدها عاريا لغرفة جدتها، أسير حيرتي بين رغبتي في الخضوع، ورغبتها في إخضاعي.
كانت الغرفة تشبه المذبح المقدس، لا أدري كم من القرابين قدمت بتلك الغرفة، مددتني بالفراش ومددتها، اعتلتني واعتليتها، ضاق حلقي وحلقت روحي، أطلقتها هي لتحلق وروحها بسقف الغرفة نراقب جسدينا يتلاحمان؛ نيراني وماؤها، لا تحرق ناري ماءها، ولا يطفئ ماؤها ناري، بل صرنا ماء مقدسا مضيئا بالفراش، لم أشعر بحدود طيفي في طيفها، لم يعد الكون مناسبا لاحتواء كل تلك الفورة المقدسة، لا أدري كيف عادت روحي مرة أخرى لتسكن جسدي، غادرت الغرفة ونظري معلق بسقفها؛ فألمح بصمات روحي ضيا يخفت بهدوء وأنا أغادرها.
جلسنا على أريكة قديمة، جلسنا على الأرض، نستند إلى الحائط ونعقد أرجلنا أمامنا، تحدثنا، تحممنا، أحضرت بعض النبيذ وأعدت هي المشواة، كنت أظنها نباتية حتى رأيتها تلتهم اللحم كالجوارح، وتشرب معه النبيذ الأحمر، أراقبها دون تستر وتراقبني باقتحام، وكأننا اتفقنا أن نظهر أسوأ عاداتنا الشخصية، كنت أراقب عينيها كلما قبلتني، كانت تنظر خلسة للبحر، تثير غيرته، وتشكر سيرابيس ربما، كنت أختلس النظرات إليهما أيضا، في الحقيقة كنت أحاول معرفة سر ابتسامة سيرابيس لي، وكأنه يعلم جيدا جهلي التام بالفصل التالي.
العود الأول
لم أجد معاناة في الوصول لمحطة القطار مرة أخرى، وبروحي الكثير من مائها والبعض من ناري، لم أرجع كما ذهبت، هي أذابت ترابي في مائها، شكلت صلصالي، نحتت نقوشها بأظافرها، وأحرقت منحوتتي بناري، ونفخت في نيراني بهوائها، وهوانا، لم يحاورني القطار في عودتي، بل كان يتهادى بروحي، حتى حبات عرقها لم تغادر مسامي؛ فقد آثرت الاحتفاظ بما بقي من رائحتها بجسدي.
دخلت لورشتي، خلعت ملابسي والبعض من رائحتها بالباب، ومشيت حافيا بلا وجهة محددة، لا أعرف إن كنت أريد بعض القهوة أم بعض النبيذ، لم يكن هناك ضير من القهوة مضافا إليها بعض الفودكا الفنلندية.
ممتلئ بها ولم تثقلني، وحيد بها فلا يؤنس وحدتي بها الآن غير سيجارتي، وموسيقاي وعقل فارقه عقله؛ فبدأ يفكر بخطة تقاعده المبكرة، دخلتني كدخان سيجارتي، فلا أعرف ما خرج منها وما بقي بصدري .
لم أصل بعد للمعرفة، أحتاج للكثير من الكلمات لأفهم القليل منها، لا أعرف إن كانت مزيدا من الصدأ لمعدني، أم كانت حجرا يعيد صقل ما صدئ من روحي، كانت تجري بشراييني، هادر موجها، هل ستكون لي نهرا متجدد المياه؟ تفيض وتنحسر؟ أم ستكون بحرا تتقلب بي بين مد وجزر؟ في الحالتين هي ماء، قد تطفئ ناري، وعذبها قد ينبت روحي، وملحها قد يطهر أوردتي؛ فبكل الأحوال، هي تسري بأوعيتي.
كنت أظن أنني أعرفها جيدا، حتى زارتني؛ لتروي بذرة من الشغف وضعتها خلسة بعقلي؛ فأذهب خلفها لسيرابيس، أطالع مئذنة ابن طولون وأسأله إن كان يرضى بحكم سيرابيس، لم يجبني صراحة، نظرت لكف يدي شعرت بشق السكين مرة أخرى، شعرت بنفس سيلان دمي وسريان دمها.
لم نتفق على موعد لنلتقي مرة أخرى، هي تعرف بيتي وجامعتي وأنا أعرف بيتها وجامعتها، بالطبع لا أفكر في شراء هاتف لأتواصل معها، لا أعرف إن كانت تملك واحدا، أم هي مثلي بدائية! اعتدت ما عشقت في بدائيتي، لكنني الآن أتخبط في عدم الفهم لما يحدث لي، لا أعرف إن كنت قد اكتفيت، إن كنت سأتوقف عن البحث؟ إن كانت هي من كنت أبحث عنها فهي الآن مني وبي وأنا منها وبها، كم اشتقت لتلك اللحظة! والآن لم أعد أعرف أي شيء.
توقعت أن أنام كالأطفال، لكن فشل توقعاتي لم يكن لسبب أكثر من أن الأطفال لا تشرب الفودكا لتنام. نوم متقطع، أحلام تشبه الصور المرتعشة، لم أجد أي خط يجمعها، حتى قمت في السادسة صباحا، وقررت العودة للإسكندرية مرة أخرى، سأذهب إليها ونتحدث، لا أعتقد أنها ستطلب الزواج، ولكن هناك فرصة أن ينتهي الأمر وقد انتقل أحدنا للعيش مع الآخر، وتنظيم جداول محاضراتنا بالجامعة لن يكون بالأمر العسير، أربعة أيام سويا وثلاثة أيام للجامعة، لم أكن بهذا الحماس من قبل.
لم أتأثر بالزحام؛ فقد كنت أفكر في تلك المرأة الخليط بين آلهة طيبة والأوليبمس، كيف أحال النيل رخام الأكروبوليس لتلك الخصوبة؟ هي لا تتحدث كثيرا، أعرف حالتها من درجة حرارة جسدها، عيناها نصف المشتعلتين، نصف المستسلمتين، لديها النصف من كل شيء، ولديها مذاق في كل نصف، لم نتحدث قط عن الأمس؛ أي أمس، لم نتحدث أيضا عن المستقبل؛ أي مستقبل، فقط أكون أنا وتكون هي، واللحظات بيننا تختفي ما إن تتم، وغير جرح كفينا، ليس لدينا من أول أمس سوى بعض الجروح بجسدي، وبعض أنسجتي خلف أظافرها.
بعد خروجي من المحطة كان صوتها يصدح بعقلي «الشاطبي»، هكذا قالتها هي لسائق الأجرة، وهكذا قلتها أنا أيضا وتدثر وجهي بابتسامتها، ترجلت من السيارة حيث ترجلنا، وصعدت السلم كما صعدنا، لم أكن وحدي؛ فما زال برفقتي بعض من رائحتها، وطيف يجتاحني ويحتوي أطرافي، كدرع يحميني من الموجات المتلاطمة برأسي، لم أجدها بالبيت، لم أصب بإحباط، لم يهدأ حماسي، نزلت مرة أخرى فكان البحر في مواجهتي، مبتسما، لم أشعر بود ابتسامته، ابتسمت له متمتما: «إلى متى ستغطي سيرابيس أيها البحر؟» بالطبع لم يجبني لكنه تعمد منحي بعض البلل بزفرة طويلة لأمواجه طالتني حيث جلست على مقعد حجري مواجها لبيتها، تمتمت ثانية: «هل يطعن سيرابيس من الخلف؟» وربما كانت الحقيقة أنني أحتاج تلك الزفرة في هذا النهار الحار، لم أكن أفهم كيف يراني سيرابيس بعد.
لم يكن الانتظار متعبا رغم طوله؛ فكنت أشعر أنني الأمير «باريس» في انتظار رؤية «هيلينا» لأبحر بها من إسبرطة، لم أثق قط في أفروديت، هي كعشتار، تملك تام، ثم تخل تام، أميل أكثر لأثينا، وربما هيرا أيضا، لكنني الآن في انتظارها، عاشقة سيرابيس الغارق، سعيد بهذا السيرابيس؛ فلا يوجد له ذكر إلا بهذا المعبد الغارق خلفي، ولا يعرفه أحد سوانا وبطليموس الأول، أعتقد أن بطليموس سيحفظ السر؛ فلن أشعر براحة، ونحن سويا، والبطالمة يتهامسون أنها معشوقة سيرابيس.
كنت أراقب سيارات الأجرة التي تقف أمام البيت؛ فمن إحداها ستخرج أمل؛ نسمة برية تنفلت من إعصار، انتظرت لما بعد انتصاف النهار ولم تأت، توقفت سيارة سوداء، فارهة، حديثة، لا تتناغم مع المبنى بأي حال من الأحوال، ونزلت منها سيدة، أمل؟ لا ليست هي، نعم هي، لم أفهم تلك الخدعة، لم ترتدي هذه الملابس الغريبة؟ قميصا بأكمام بلون بنفسجي، شالا على رقبتها، يبدو من الحرير البرتقالي، وتنورة سوداء، واسعة، وتصل لكعبيها، حذاء بكعب؟ لا أتحمل سخافة ما يحدث، لا أتحمل ما فعلته بشعرها، عبرت الشارع دون تردد، لألحق بها قبل أن تدخل المبنى: «أمل، ما هذا؟» قلتها بصوت خافت لكنه حاد ... التفتت مندهشة قائلة: «عفوا!» اتسعت حدقتاي رغما عني، لم تكن عيني أمل، ليست عينيها، ليست هي، تمتمت معتذرا، وهمهمت هي غاضبة، واختفت داخل المبنى، سمعت صوت محرك السيارة فالتفت وهي تختفي بجراج المبنى المجاور، لم أجد من أوجه له دهشتي سوى البحر.
عبرت الطريق مرة أخرى وجلست في مقعدي الحجري، في مواجهة البحر هذه المرة، ومفاجأتي خلفي، كان البحر يبدو ساخرا، باسما، وشعرت أن سيرابيس يرقص في أعماقه، وددت لو بوسايدون يزيده غرقا فوق غرقه، يكفي أنه كان مسخا؛ فلم يكن إغريقيا نقيا، ولم يكن مصريا نقيا، بل كان مجرد شذوذ بعض الآلهة بعقل بطليموس الأول، من هي؟ اللعنة على الأوليمبس وعلاقتها بهم، مرت برأسي كل ألاعيب آلهة الإغريق، حتى أفروديت اللعوب ذات الألف وجه، هي كوثيريا، وإروكينا، وكوبريس، وبافيا، وأورانيا، وبنديموس، وبيلاجيا، وأنادوميني، ولدت من زبد هذا البحر، المخلوط بأعضاء أورانوس المبتورة، لم لا تكون أمل مثلها؟ بألف وجه كأفروديت، لم أكن لأتصرف بعند أدونس، وأرفض أن أترك الصيد أمام جبروت جمالها، كنت سأتركه، كنت سأترك كل شيء لعينيها، لكنه كان أيضا محظوظا فعاش نصف حياته بصحبة أفروديت، والنصف الآخر بالعالم السفلي، مرة أخرى يتوقف عقلي عند فكرة الحياتين، حياة، وحياة، هي مستها لعنة الأساطير الإغريقية فصارت لها حياتان: حياة برفقتي، والأخرى برفقة سيرابيس؟ هل يقبل سيرابيس هذا الذوق الرديء؟ شالا من الحرير البرتقالي؟
كعادته لم يجب البحر تساؤلاتي، وكأن بوسايدون أمره أن يلتزم الصمت، كانت الأفكار تتزاحم برأسي وأنا أسير بمحاذاة البحر، انتقلت من صدمة المفاجأة لاستعذاب الفكرة في مسافة ليست بالطويلة؛ فعلى مشارف محطة الرمل كنت شبه مبتسم للفكرة؛ فبعد خوفي من عدم الاكتفاء بأمل أصبح هناك اثنتان منها؛ من السهل أن أراها أرتيميس إلهة الصيد وربة القمر، في الصباح ترتدي رداء الصيد القصير بدون أكمام، وفي الليل ترتدي رداء طويلا وخمارا على الرأس، كنت أتساءل عن مدى معرفة إلهة الصيد بربة القمر، هي لم تتعرف علي بشالها البرتقالي، فقط يجب الاطمئنان أنهما لا تشكلان خطرا عليه، عرفت ما يجب فعله.
كنت أشعر بجزء مني يتحول لمحلل نفسي، وينزوي جانبا بعيدا عن بدائية الفنان وهمجيته كما يراها، وجزء آخر يتحول لمسئول إداري يحدد الاحتياجات المطلوبة للخطة، ولم يختف مني الفنان؛ فكان له دور البطولة في إلياذتي الخاصة، عدت ثانية لبيت أمل، لم يكن الحصول على شقة مقابلة لشقتها بالمبنى المجاور بالأمر الصعب، كانت شقة عمودية على البحر لها شرفة كبيرة على البحر وكل نوافذها تطل على شقة أمل، طابق أعلى يتيح المراقبة، لم يكن بها هاتف، أثاثها فقير، لكنها تفي بالغرض تماما، استأجرتها لعام، نزلت مرة أخرى وتركت لمدير الاحتياجات تولي الأمور، بداية من مخزون الطعام والعصائر والنبيذ، حتى أوراق الرسم وأصابع الفحم والألوان وريشات الرسم، ثم تولى المحلل النفسي شراء مجموعة من الكتب والمراجع، ولم يحرم المخبر السري فرصته بالحصول على آلة تصوير حديثة وحامل وتليسكوب، وفي لا وقت يذكر حولت شقتي الجديدة لورشة لا تختلف محتوياتها كثيرا عن ورشتي في القاهرة.
كانت الرؤية واضحة من خلف عدسة التليسكوب، أراها الآن داخل بيتها، أمل كما أعرفها، أرتيميس إلهة الصيد، قميص بدون أكمام يرتفع عن الركبة بقليل، حافية القدمين، تتحرك بحرية بعد غياب الشمس، أعدت طعاما خفيفا؛ بعض الخضروات غير كاملة النضج وكأنها نباتية، ثم طهت قطعة من اللحم بمشواة مستوية بمطبخها وكأنها من الكواسر، وضعت طبقيها على طاولة بفراغ المعيشة، ثم توجهت لباب الشرفة المطلة على البحر، فتحتها، ورجعت خطوة للخلف، وقفت، وأسقطت قميصها، لم تكن ترتدي شيئا تحته، وقفت لحظات وكأنها تقوم بطقس خاص، ربما صلاة الطعام، تطلب بركة بوسايدون أو ربما معشوقها سيرابيس، كنت أتأملها في لحظات صلاتها الصامتة، لم يكن عريها مثيرا بقدر ما كان جميلا، أثارت بدائيتها يدي لتتحرك بأصابع الفحم بسرعة على الأوراق لترسم أمل عارية تواجه البحر، لا تختلف في وقفتها عن أفروديت، فقط أكثر سمرة، ذهبية هي. قبل أن أنتهي من تفاصيل ما أرسم انثنت ركبتاها لتلتقط قميصها، لتصنع تمثالا جديدا، وكأنها أندروميدا مقيدة بالصخرة قبل أن ينقذها بيرسيوس من الوحش، لم أتمكن إلا من رسم خطوطها الخارجية دون تفاصيل، أدارت بعض الموسيقى، لم أكن أسمع ما تسمعه لكنني كنت أشعر بها، جلست، تناولت طعامها باستمتاع، غسلت الأطباق، عادت فأغلقت الشرفة، وتحركت، بيدها كتاب، لغرفة جدتها، تمددت بالفراش، قرأت قرابة الساعة ثم وضعت الكتاب بجوارها، وابتسمت لسقف الغرفة وكأنها تلقي التحية على هوبنوس إله النوم ثم تغمض عينيها.
كنت أدون ما تفعله في دفتري بعدما قسمته لقسمين: أحدهما بعنوان «أرتيميس إلهة الصيد»، والآخر بعنوان «أرتيميس ربة القمر».
الوشاح البرتقالي
ثلاثة أيام ولم تظهر أرتيميس ربة القمر، وامتلأت صفحات أرتيميس إلهة الصيد بالتفاصيل والرسومات، ثلاثة أيام كانت أمل تنتقل بين إلهات وأنصافهن وأشباه القديسات والبشر، تصحو من نومها مثل أفروديت، تخرج من المحارة وتزيح عن جسدها أعشاب البحر، تجلس على الأرض ساندة ذراعها على الأريكة مثل هيرا الجالسة عند قدم زوس، تثني ركبتيها مثل هوجيا تعالج العصفور، تستحم جالسة مثل أفروديت، تتحرك مع ألحانها مثل الثلاثي هوراي: يونوميا، وديكي، وإيريني، حول أبولو وهو يقود عربة الشمس. وحين تتحرك عارية فهي الثلاثي خاريتيس: يوفروسوني، وثاليا، وأجليا. لم يبق لدي سوى انتظار خروج بروتيوس من البحر ليتمدد ويستريح فأشد وثاقه عند نومه وأسأله: متى سأقابل أرتيميس ربة القمر؟
كنت أنظف البيت وأنام وقت ذهابها للجامعة، وألازمها بقية الوقت، حتى صورها المتكررة، وطقوسها الثابتة، أستمتع بها وكأنني أراها للمرة الأولى، لم يصبني الملل، بل كان الشوق ينهشني لأعرف أمل الأخرى، صاحبة الشال البرتقالي، أرتيميس ربة القمر، كادت تنتهي من طقوس الطعام وتنظيف الأطباق، لكنها اليوم لم تشغل الموسيقى وتسترخ، بل أحكمت إغلاق زجاج النوافذ، وتهادت حافية ناحية غرفة جدتها، ليس موعد نومها، لم تدخل غرفة جدتها، بل فتحت الغرفة المغلقة بجوارها، الغرفة التي لم أدخلها حين زرتها، قالت لي إنها مغلقة، أضاءتها، كانت الستائر خلف نافذتها تحجب الرؤية، لم تتأخر كثيرا فمع إظلام الغرفة، خرجت هي؛ أرتيميس ربة القمر، بملابسها الغريبة، خطت بكعبها الطويل بإيقاع خفيف نحو فراغ المعيشة، وضعت وشاحها البرتقالي على كتفيها، وخرجت من البيت، وقبل أن تصل لبوابة البناية كانت السيارة الفارهة تقف في انتظارها، ركبتها وانطلقت، وتذكرت أنني لا أملك سيارة للحاق بها، لكنني في اللحظات القصيرة التي أطلت فيها تمكنت من رسمها.
رحلت أمل الأخرى، أرتيميس إلهة القمر، وبقيت وحدي بصحبة دفتر الرسومات والملاحظات، ربما هذا وقت ديونيسوس وبعض النبيذ، وموسيقى ديبوسي الذي لا أحبه، كنت أحتاج دايدالوس ليصنع لي أجنحة من الريش كالتي هرب بها هو وإيكاروس ابنه لأحلق خلف أمل، لكن آلهة الإغريق لا يأتون أبدا حين تحتاجهم، حتى أنغام ديبوسي لا تأتي بهم، هل تعرف أمل ربة الصيد بأمل إلهة القمر؟ لم يظهر عليها أنها تعرفني بثوب إلهة القمر، أيهما تملك ذاكرة الأخرى؟ من أمل؟ ومن الأخرى؟
طال غيابها؛ فنزلت لعامل الجراج تبادلنا الحديث قليلا، وانتهى الحديث بصدمتين؛ الأولى: أن أمل من القاهرة وتأتي للإسكندرية لعملها في الجامعة منذ سنوات. والثانية: أنها الابنة الوحيدة للطبيب الراحل إسماعيل خطاب، وهو من عائلة رأسمالية عريقة، وهذا يفسر سيارتها الفارهة، كم تمنيت أن تكون أرتيميس إلهة الصيد هي الشخصية الحقيقية لأمل، لكن لم أدرك ما تمنيت؛ فالحقيقة واضحة أن الشخصية الحقيقة هي أرتيميس ربة القمر، وأن أمل التي أعرفها هي شخصية بديلة، ولا أعرف لو قبلت العلاج فحين تشفى عن أي شخصية ستتخلى هي؟ هي لا تعرفني بشخصيتها الحقيقية.
أمامي البحر، ومن خلفي المدينة، جلست، كانت نوكس تجري بخيول عربتها الأربعة من الشرق إلى الغرب، وتلقي ستائر ظلمتها خلفها؛ فاستكان لها البحر، واستكانت له، لم تكن تحبني أبدا، أعرف جيدا؛ فهي دوما تجعل هوبنس يمنع عني نومها، والآن بعد أن عشقت أمل، تجعل أخاها موروس يحيطني بأستار الحظ السيئ؛ فمن عشقت هي بديل لأخرى لا أعرفها، ابتسمت لظلمتها سائلا، أين أويزوس؟ فلم يبق لي سوى الحزن، لا أعتقد أنها تصدقني، أمل قالت إنها تعرف أنني محتال وكاذب، لكنني أعجبها، هي قالت؛ فلماذا تمطرني نوكس بلعنات أسرتها؟ أرسلي الآن كل ما لديك، أرسلي ثانتوس بموته، لا، لا، بل كير بموته العنيف وأحلامه المخيفة، لم يعد يثيرني استرضاؤك، لم أحب أفروديت، لم أثق بها أبدا، كان يمكنني اللجوء لهيرا، نعم هيرا، كم من مؤامرات نسجت وكم من خدع غزلت! حتى وإن كانت تخسر أمام أفروديت، لأن الأخيرة مجرد غانية، غانية جميلة، لكنها غانية، ولكنها جميلة، لا أريد أفروديت بل أمل.
لم يبك السحاب ثورتي، بل تنحى جانبا ليفسح للقمر البعض من السماء، كان يقترب من البحر ليوقظ بوسايدون؛ فتعدو عجول البحر وتجذب عربته بقوة؛ فيثور البحر ويصحو رجاله، ويخرج بروتيوس عكر المزاج للشاطئ، لم أصدق، لم تكن بوكس بتلك القسوة، لم أكن أنتبه إليها فقط، وحين تحدثت إليها، وبرغم ثورتي، استجابت لي، وأيقظت بروتيوس في الليل من أجلي، ابتسمت لها لكن هذه المرة كنت ممتنا شاكرا، وانتظرت أراقب بروتيوس حتى ينام لأشد وثاقه، وأعرف منه كل شيء.
لم يطل العجوز بروتيوس؛ فقد علا شخيره سريعا، متحسسا خطاي أقترب منه، لملمت بعض الأعشاب القوية من الشاطئ، وشكرت بوسايدون، واقتربت متمتما: سأشد وثاق هذا العجوز جيدا ولن أطلق سراحه حتى أحصل على كل الأجوبة، أريد فقط الأسئلة الصحيحة، حتى لو أضعت عمري في استجوابه؛ فليمت جوعا وتمت كل عجول البحر التي يرعاها لبوسايدون، حتى يقتله مرة أخرى. اقتربت أكثر من خلفه، وكدت ألف العشب حوله، لكنه تحول، إلى حجر كبير، أعرف أنه يتحول، قفزت لأتمكن منه؛ فتحول مرة أخرى لشجرة، ثم إلى كومة من القش، ثم قطرة ماء، وعاد من حيث أتى، نظرت للبحر وقد هدأ، والسحب عادت لتخفي القمر.
عدت للشقة، وكلما قلبت في دفتري رأيتها، أمل، تغادر الرسومات وتترك ظلا فارغا، مرات تغادر كلها، ومرات يغادر وجهها، كنت قلقا عليها، بحثت كثيرا بكتب أمراض الهيستريا، الكثير من العناوين، لم أتمكن من متابعة القراءة؛ فلجأت لوسائط أتمكن من فهمها أكثر من مصطلحات العلاج النفسي وتوصيف أمراضها، خرجت مرة أخرى وأضفت لقائمة المشتريات آلة العرض السينمائي ومجموعة من الأفلام عن حالات ازدواج الشخصية، برغم كرهي لتلك الأدوات فإنني حاولت جعل الأمر أكثر إنسانية، اخترت الحائط الأكبر، وأطفأت الأنوار وسلطت عليه الضوء وتأكدت من أن كل شيء يعمل بشكل جيد، واخترت فيلما يدعى «الأوجه الثلاثة لإييف»، حديث، إنتاج عام ألف وتسعمائة وسبعة وخمسين، جلست وبجواري النبيذ ودفتر الملاحظات وبدأت العرض.
السيدة إييف وايت، لم تكن الريفية المدبرة المثابرة النشطة، ولم تكن أيضا الريفية البدينة كثيرة السباب والشكوى، بل كانت ريفية خافتة الوهج، شاحبة الجمال، كانت مصباحا زيتيا نفد زيته وبدأ فتيله في الاحتراق.
متزوجة ولديها طفلة، زوجها خشن الطباع كما يبدو، ضيق الأفق، قروي كادح، يحبها لكنه لا يفهم أي شيء، هي لا تعرف شيئا مما يحدث لها ولا تفهم سر تلك الملابس الغالية التي وجدتها في بيتها، البائعة تقول إنها اشترتها، وهي لا تعرف شيئا عنها، وزوجها لا يصدقها، والسيدة إييف بلاك، ظهرت للطبيب ونعتت السيدة وايت بالمسكينة المثيرة للشفقة، وزوجها بالغبي، وادعت أنها غير متزوجة، وليس لديها أطفال، مشرقة ومحلقة، بلا روح، تحب السهر والرقص والشرب، تظهر أحيانا لتنقذ السيدة وايت من مشكلة، أو لتحظى ببعض المرح، تعرف كل شيء عن السيدة وايت، بينما لا تعرف السيدة وايت أي شيء عنها، لم تتمكن من التجاوب مع أحد طالبي المتعة بحانة ترتادها؛ فانهارت، بكت، وانزوت لتخرج لنا السيدة جين، هي الأكثر إنسانية، بلا خفوت وايت ولا جرأة بلاك، امرأة هي جين، وتدرك جيدا من أين أتت، هي من ساعدت كلا من وايت وبلاك على التلاشي، المهم في الأمر أن الطبيب رأى أن أوجه إييف الثلاثة لا تشكل خطرا على نفسها أو على المجتمع ويمكنها استكمال العلاج دون احتجاز، ورحلت السيدة وايت والسيدة بلاك وبقيت السيدة جين.
عدت لدفتري ورغما عني كنت أحاول ربط أمل بالسيدة إييف بلاك، هل أرتيميس إلهة الصيد هي السيدة بلاك إييف؟ لا، هي ليست بهذا الانطلاق، أو التحرر، هي الأقرب للسيدة جين، هي إنسانة طبيعية، ناجحة في عملها، محبوبة من تلامذتها، الغريب أن أرتيميس ربة القمر أيضا لا تشبه السيدة إييف وايت؛ فليست بهذا الخفوت، هي أيضا الأقرب للسيدة جين، على الأقل شكلا، لغتها الجسدية لم تكن منكسرة أو مترددة، يجب أن أعرف أرتيميس ربة القمر أكثر، ما الذي تملكه ولا تملكه أرتيميس إلهة الصيد؟ أو العكس، من منهم تلجأ للأخرى؟ أكرر نفس الأسئلة، وكل مرة أتمنى أن تكون إلهة الصيد هي الأساس وأحاول أن أقتنع أن ربة القمر سترحل، أو ربما ستكون السيدة جين هي الحل، هل ستراني جين كما تراني أمل؟ لا أعرف هل أهتم حقا بها لتلك الدرجة أم أنني أدافع في الأصل عن عشقي لها؟ لم يبق لي إلا الرحيل خلف أرتيميس ربة القمر.
زيارة سرية
قطار المساء يقطع جسد الإسكندرية، وينفلت بي منها، ما يظنه القطار ذهابا، أراه عودة، لم أكن عائدا للقاهرة بل لأرتيميس، ولكن تلك المرة أرتيميس ربة القمر، رجعت للمرسم، لم تتحرك مئذنة ابن طولون من مكانها، كما هي، ملوية سامراء بالقاهرة، هنا لم تعد أمل من الأوليمبس، بل كنت أراها تلك المئذنة العارية وذراعي تلتف حولها، ترتقي معها حتى تتلاشى ويتلاشى معها سلمها، حضورها هنا أقوى، لا حاجة بي للتودد لسيرابيس الغارق، أو مناجاة بوسايدون، هنا لا حضور للإغريق والبطالمة، رائحة الأحجار المبللة والمياه تطرد منها آثار البخور المستكينة لمئات السنين، وحين تمتزج الروائح وتتردد أصداء الألحان، لا يتردد منها الكثير، لا يرتد من تلك الأحجار إلا ما ترفض ابتلاعه، وهي تبتلع الكثير، شعرت برائحة غريبة بالمرسم، رائحة برية متناغمة مع خليط الروائح، رائحة الصيد، أمل كانت هنا!
أكد ظني العجوز «نصر»، السيدة التي زارتني آخر مرة أتت مرتين وقالت إن معها المفتاح وستنتظر، في كل مرة قرابة الساعتين، ماذا فعلت لساعتين؟ ديبوسي، استمعت لبعض موسيقاه، عبثت بالألوان، تحممت، لم يبق إلا أن تشرب بعض النبيذ، وتمشي عارية على أحجار السطح، وتترك كأسها على الأرض بجوار سور السطح، هل رقصت؟ هل تركت لي شيئا؟ هل أطلقت تعاويذ الإغريق بجدراني؟ كانت هنا، في انتظاري، افتقدتني، أو ربما أتت لتخبرني أين يجب أن أكون، هل لمحتني أراقبها؟ خرجت أتأمل المئذنة، تركت كل أفكاري بعتباتها، وعدت لأنام برفقة رائحتها؛ أمل. •••
كانت أشعة الشمس تدلك جسدي، لسعات متتالية تمسح ظهري لأستيقظ على ابتسامتها، وهي تجفف الأحجار وقدماي تحتجزان الأبخرة كلما خطوت، هيا؛ فلدي الكثير لأريك اليوم، هكذا قالت الشمس، ومن يملك تجاهل ندائها؟! خرجت وكان العجوز نصر يرش الماء أمام البيت، وكأنها لقنته سرا تلك الدعوات لي بالتوفيق، ابتسمت له، وشكرته، فزادني من الدعاء دعاء، لم يكن الوصول لوسط العاصمة يشبه معركة البقاء اليومي، بل كان يشبه انسياب الماء بواد رحب، هل يمكن للشمس أن تخفي الزحام؟ لا يمكن أن تكون تلك التظاهرات هي السبب، حاولت النظر إليها من نافذة سيارة الأجرة، لم تكن تصلح أن تكون لوحة، لا أصدق في تكوين لا يصنع لوحة، وصلت الجامعة، لم أمكث كثيرا، عرفت مكان بيت الطبيب الراحل إسماعيل خطاب وانصرفت.
بناية متوسطة بحي الدقي تطل على حديقة عامة، هنا تعيش أمل، ربة القمر، بعض الطعام والسجائر والعصائر والماء والجلوس في الحديقة أمام بيتها، كل شيء هادئ، لم يكن هناك سوى سيدة عجوز بالطابق الأرضي، تشاغب الحارس والمارة بابتسامة جميلة أو نظرة سخط، لم يتمكن نحت الزمن بوجهها من إخفاء جمالها، تبدو سيدة وحيدة، تقضي يومها بشرفتها بالقرب من الطريق، تأنس بالمارة وتؤنس طريقهم بتعليقاتها، راقبتها قليلا ثم انطلقت إليها، عرفت نفسي كصحفي وسألتها عن الدكتور إسماعيل، دعتني للدخول والجلوس معها بالشرفة، وبعد أن جلست طلبت مني أن أعد كوبين من الشاي. - إذن فأنت صحفي، وتسأل عن الدكتور إسماعيل. - نعم سيدتي أقوم ببحث عنه، له ابنة واحدة كما أعتقد. - نعم، أمل، هي من قتلته . - قتلته؟!
أومأت برأسها، وعيناها العسليتان تنظران في عيني كصقر ينقض على فريسته، وكأنها تريد معرفة وقع الكلمة علي، أمل قتلت أباها؟ ربما تكون تلك هي نقطة التحول، هنا تحولت لإلهة الصيد وتركت القمر؟ لم أصدق ما شعرت به، ولم أصدق أنها تقصد ما تقول. - لا تكذب يا بني على امرأة مثل أمك، أنت هنا من أجل أمل، هل تريد أن تتزوجها؟ - سيدتي لا، أقصد نعم، أنا هنا من أجلها، أقصد لم آت لأتزوجها.
ربتت على يدي بيد حانية، وتورد وجهها، وابتسمت قائلة: «حتى المجنونة لها من يحبها.» وضحكت ونكزتني لأشاركها ضحكتها فابتسمت، أخبرتها أنني أريد أن أعرف كل شيء عن أمل، وكأنها وجدت ضالتها وبدأت تحكي وبين الحين والآخر تطلب مني أن أغسل الكوبين وأعد المزيد من الشاي.
أتت كاميليا أم أمل كزهرة الربيع، وكانت تذبل كل يوم برفقة إسماعيل، كان طبيبا ناجحا، من أسرة ميسورة، كان يعامل الجميع بلطف ومودة، إلا أهل بيته، وكأنه يترك الدكتور إسماعيل بعتبة البيت ليتحول إلى شخص آخر، عكر المزاج، متسلط، متملك، لا يقبل مناقشة، لا يسمع لأحد، لا يعرف ما قد يرضي كاميليا أو أمل منذ طفولتها؛ فما يراه، هو ما يجب أن يرضيهم، وليكمل سيطرته الكاملة، اشترى البناية من مالكها، وظل يقدم الإغراءات للمستأجرين، حتى اشترى كل الشقق، إلا شقتي، لم يستطع طردي منها ولم أستطع شراءها منه، لم تختلف وحدة كاميليا عن وحدتي؛ فلم أتزوج يا بني، وكانت أمل هي ابنتي وابنة كاميليا، أول مرة أسمعها تبكي كان يضربها لأنه سمعها تقول: «ماما سناء.» لم أقل لك يا بني، اسمي هو سناء، الآنسة سناء مدرسة لغة إنجليزية، أنا من علمت أمل الإنجليزية؛ فأمها كانت تتحدث الفرنسية بطلاقة لكنها لم تكن تعرف من الإنجليزية شيئا، كانت كاميليا كأخت لي قبل أن تفقد عقلها، نعم، فقدت عقلها، كانت تتناسى، حتى أصبحت تنسى كل شيء، حتى ابنتها، ولم يتوقف إسماعيل عن إهانتها، أو انتقاد أفعالها ...
مسكينة كاميليا، أعرف أن أمرها لا يعنيك كثيرا؛ فأنت هنا من أجل أمل، من أي عائلة أنت؟
أجبتها: «مسعود، اسمي عبد الله مسعود.» فسألت مرة أخرى: «أنت ابن حسين مسعود؟» قبل أن أجيب، تجمد الزمن لحظة، ثم انصهر جليد الكون فوق رأسي؛ فقد كانت أمل أمامي تلقي التحية على الآنسة سناء، وهمت أن تصيح بوجهي؛ فتداركت الموقف الآنسة سناء. - أهلا ابنتي، ألقي التحية على عبد الله، ابن ابن خالتي، الأستاذ حسين مسعود. - أهلا [قالتها بحدة].
أجبت مرتبكا: «أهلا آنسة أمل.»
وكأن الآنسة سناء تدير الأحداث كما تريد؛ فقد أتت أمل لتجلس معنا بالشرفة، وانفرج شيئا فشيئا وجهها عن ابتسامة جميلة، لم تكن بتلك الحدة التي تظهرها، وتبادلنا إعداد الشاي وغسيل الأكواب ونحن نتبادل الكثير من الأحاديث، سناء تدير كل شيء من جلستها، وأنا وأمل نستجيب لها بلا مقاومة، وسناء تترك لنا الشرفة لبعض الوقت؛ فتواعدنا أنا وأمل، واستأذنت لتصعد لأمها، بقيت مع سناء، لأعرف بقية قصتها.
كانت أمل ذكية وعنيدة، لم يعاملها إسماعيل كطفلة أبدا، بل كان يعاملها كند له، وأصر أن تدخل كلية الطب، لترث مشروعاته العلاجية العملاقة، لكنها أصرت أن تتزوج في أسبوع الكلية الأول، أتت بطالب بالسنة الرابعة لأبيها، وأجبرته على الموافقة وتزوجا في الطابق الثاني من بنايتنا، كان شرطها لتتعلم هو الزواج، وكان شرطه هو الإقامة تحت نظره، لكن الأمر لم يدم كثيرا؛ فبعد أقل من شهر بدأ زوجها الدكتور عمرو عبد الكريم، نعم لا يمكن أن أنسى اسم هذا الحقير، صفعها بعد أقل من شهر، وبدأ يتحدث كأبيها، نعم صفعها، لكنها لم تسكت؛ فصفعته، وتحول الأمر لمعركة، وأوسعها ضربا، جرت تستنجد بأبيها؛ فكال لها هو الآخر ودفعها لشقتها وكأنه يتركها لزوجها ليكمل ما بدأه من تعذيبها، لم يعرف أحد سبب المعركة، كانت ليلة لم تنته قط، أمل تصرخ من شقتها، وكاميليا تتأوه كقطة ذبيحة، وأنا هنا أضرب رأسي بالحائط بجوار أمي المريضة، حتى توقفت كل الأصوات، صعدت في السادسة من صباح اليوم التالي، كنت أظنه قتلها، لم تكن هناك، صعدت لأمها مسرعة، أين أمل ؟ لا أحد يعرف، اختفت أمل.
ثلاثة أشهر كاملة، لا أحد يعرف أين كانت، حتى هي لا تذكر، ثلاثة أشهر كاملة، كسرت إسماعيل وقضت عليه، ورحلت أمي، ولم يبق إلا أنا وكاميليا، وزوج أمل الحقير الذي رفض ترك المنزل طمعا في إرث إسماعيل. كاميليا نسيت كل شيء، لم تكن تردد غير اسمها، أمل، وعادت أمل امرأة أخرى، لم تعد تلك الطفلة العنيدة، بل عادت امرأة صلبة، أجبرت زوجها على تطليقها، لكنها دفعت له الكثير، وكلما سألنا أين كانت، أجابت بأنها لا تذكر، حتى عمرو لم تذكره حين عادت، ولم تصدق أنه زوجها حتى رأت قسيمة الزواج، وحين رأتها قالت له: «حسنا، أنا لا أذكر أنني تزوجت منك، لكن أعد بألا أنسى أنني سأتطلق الآن.» لم تكمل تعليمها المسكينة، وكانت تراعي أمها وتراعيني، وجدتها بالإسكندرية، وأعمال أبيها، حتى أعمامها تركت لهم الكثير مما لا يستحقون ليتركوها وأمها، أوصيك بها يا بني.
هي تستحق كل الخير؛ إن لم تكن تحبها فاتركها لحالها. •••
كانت الآنسة سناء تبكي، قبلت يدها ورأسها، حتى هدأت، ودعتها وانصرفت، وكنت أشعر بأمل تراقبني من نافذتها، لم ألتفت وانصرفت، كان رأسي يدور، هم يظنون بأنها لم تكمل تعليمها، لا أحد يعرف أنها أستاذة بالجامعة، أكثر من عشرين عاما، أين اختفت أمل لثلاثة أشهر؟
كانت سماء القاهرة ممتدة إلى ما لا نهاية، ونجم خافت يرسل ومضاته كأنه علامة نبض الكون، أو ربما يشير للانهاية، حيث تسقط كل الأسئلة أمام أجوبتها، كنت أود أن أخلع حذائي وأنا ألامس أرصفة وسط البلد المبللة، سكنت الريح وانتصف القمر، في انتظار طلتها ليكتمل، يقترب همسا بصحارى الوادي البعيد، عله يلقاها بين حبات الرمال الساخنة، أو حبات الندى الخجولة، يراقص النهر سرا علها تغافل الطمي، وتنفلت منه وتطفو كورد النيل، هو نصف القمر، وهي اكتماله، لم أمكث طويلا بوسط البلد وعدت لمرسمي لأجد نصفه الآخر في انتظاري.
لم أصدق عيني؛ فبعدما تركت ربة القمر وتركت هي معي كل تلك الأسئلة، أجد إلهة الصيد بمرسمي عارية ممددة تستمع لموسيقى معابد كيوتو اليابانية التي تنشر رائحة الغابات الاستوائية بالمرسم، لم تتحرك حين دخلت، ابتسمت وسألتني أين أخفيت النبيذ؟ يا إلهي! منذ قليل كنت أختلس النظر لعينيها، والآن هي تخترقني بعينيها وتنفذ لترى ما خلفي، ابتسمت لها، وأحضرت النبيذ من خزانة صغيرة بجوارها، خلعت ملابسي وأعددت كأسين، خرجت قائلة: «أحضر الزجاجة معك، وسأحمل السجائر.»
تجاورنا بعرينا على الأحجار الرطبة؛ ظهري إلى أحجار السور مستند، ونصف ظهرها يقسم نصف صدري، نتحدث في اللاشيء، ويراقبنا نصف قمر.
هي تغار منها
لا أدري إن كان القمر قد شعر ببعض الحياء فتبدد شيئا فشيئا، أم أنه قد أنهى نوبته، وتركنا لمئذنة ابن طولون لتعلن بزوغ الفجر قبل الشروق، ميلاد جديد لنا، أنا وأمل، أمل الأخرى.
والأخرى أيضا، وأنا، كم من النبيذ شربنا أسفل السور الحجري؟ لنخلع عنا الطريق والمسافة.
وتبقى هي بسمرتها اللامعة قمرا وشمسا، نصف حياة، تحدثنا بطول الليل وعرض السماء، وتلاشت مع خيوط الشمس، تركتني بلا شبع ولا جوع، تركتني لأبحث عنها؛ فلا أجد سوى أمل الأخرى، قاتلة أبيها.
أفقت بلا أمل، تحممت وارتديت ما يكفيني وخرجت، كان موعدي مع أمل ربة القمر، لم أكن متأكدا من مجيئها فقد قضت الليل معي أمل إلهة الصيد، لم أنم إلا غفوة قليلة، لكنني وجدتها في انتظاري، مشرقة كطفلة بملابسها الغريبة، كانت عيناها تلمعان ووجهها صحوا، أين ذهبت آثار النبيذ والسهر؟ هل كانت نائمة بينما كانت الأخرى بصحبتي؟ لم أعد أفهم جيدا، أو لم أكن قادرا على مجاراتهما، كنا نتودد ببطء، سألتني لماذا ذهبت لبيت جدتها بالإسكندرية، هي تذكرني إذن، أجبتها بأن رؤيتها بالإسكندرية كانت صدفة دفعتني للبحث عنها بالقاهرة، توردت خجلا، لم تكن مصدقة، لكن يبدو أن كذبتي الصغيرة أعجبتها، وبعد الكثير من الأحاديث التقليدية عما نحب ونكره، سألتني أين أسكن، لم يكن بيدي سوى دعوتها لمرسمي، وأتت ربة القمر وتعجبت حين حياها العجوز نصر باسمها، لم أجد تفسيرا مناسبا لها فقلت، ربما سمعني أناديك.
بدا عليها التأفف من الفوضى، أدرت الموسيقى؛ فسألتني بلطف ألا يوجد لديك شيء لأم كلثوم؟ مفاجأة أخرى منها، بالطبع سأجد شيئا مناسبا، وكأنني أبدأ كل شيء من جديد، وكأنها لم تقض الليل على صدري، وكأنني لا أعرف رائحتها، لمحت زجاجات النبيذ فأبدت امتعاضا وطلبت ألا أشرب في وجودها، قائلة إنها لن تسمع مني هراء أنه مفيد للشرايين وللقلب، فيكفيها أنه حرام! لم يبق لدينا ما نشربه غير القهوة والشاي، لم تفهم شيئا من لوحاتي، لكنها نظرت طويلا للوحة أعلى السرير، ربما أعجبتها، أو ربما تذكرتها، خرجت للسطح خلف إعجابها بمئذنة ابن طولون، وقفت خلف السور الحجري وكأنها تذوب وترتقي بدرجاتها، أتيت خلفها لأحتضنها بعفوية، انتفضت وكادت تصرخ، اعتذرت، حاولت تهدئتها، كانت ترتعش، ربت على كتفيها واحتضنتها برفق، وهمست لها أن تتنفس بهدوء حتى هدأت، قبلت يدها واعتذرت مرة أخرى. - كم من النساء أتت لمرسمك؟ - لا أعرف، هل يهم؟ - لماذا أنا؟
لم تكن تقنعني تلك السذاجة، لكنني قررت المضي للنهاية، أحضرت لها طبقا من الفاكهة؛ تفاح، كمثرى، ونوعين من الأعناب، دعوتها لتناول البعض منها، فالتقطت تفاحة؛ فسألتها لماذا التفاحة؟ فأجابت بأنها تحب التفاح، شعرت بالحرج، وبعد قضمة صغيرة أكملت: لو لم يكن هناك تفاح لاخترت الكمثرى، لو لم أكن هنا لاخترت غيري. ابتسمت لها متسائلا: رغم حبي للتفاح؟ قد تحب التفاح لكنك قد تحتاج الكمثرى أو الأعناب. وتوالت قضماتها الصغيرة، تحتفظ بقضمتها بفمها، تمتص عصارتها ثم تبتلعها وهي تراقبني أقترب منها، وعيناها تنتقلان بين تفاحتها وشفتي، حتى اختلط علينا الأمر، والتهمت من طبقها ألوانا من الفاكهة، وكأن نضارتها لم تمس من قبل، كيف لربة القمر أن تكون بهذا الاختلاف عن إلهة الصيد؟ حرارتها، أناتها، عيناها نصف المغمضتين، كنت أبدأ الجملة وهي تختمها، أكتب وهي تضع التشكيل وعلامات الترقيم، الكثير من الجمل الخبرية، والقليل من الجمل الاستفهامية، وما بقي كان صلة الموصول، لا محل له من الإعراب.
غربت عني كما فارقت الشمس سماء القاهرة، كنت أتوقع مجيئها، أقصد هي الأخرى، أرتيميس إلهة الصيد، أستاذة تاريخ الفن، لا تأتي الأمور كما ننتظرها، ولا قريبة مما نتوقعها، فاللعنة على الانتظار، واللعنة على التوقع، أوصلني الشغف للحيرة، مزيد من العشوائية الذهنية، وعدم القدرة على المفاضلة، لم أعد أنام وهي أيضا، تنتقل بين الاثنتين وكأن تحولها يعطي الأخرى بعض ساعات الراحة لتستلم نوبتها حين تفرغ مني الأولى، لا أريد الاستغناء عن أي منهما ولا أستطيع المواصلة مع كلتيهما، اللعنة على الطمع، حتى الآن لا أعرف من تسيطر على الأخرى وتملك ذاكرتها، ولا يمكنني التكهن في حال شفائها أيهما ستبقى، ومن ستتلاشى.
وتمضي الساعات بلا أمل، ينقبض الليل بحثا عنها، حتى الشمس لم تعد تجد متعة في أن تطل وحدها، بلا أمل، والحمائم بساحة ابن طولون كانت تلتقط الحب وتنظر لمرسمي، لم أكن الوحيد الذي يفتقدها، لم أعد أعرف أيهما أفتقد، أو أيهما أشتاق، حاولت رسم أرتيميس إلهة الصيد وأرتيميس ربة القمر في رسمة واحدة بلا جدوى؛ فحين ترتدي رداء القمر ووشاحه وخماره، تتلاشى جعبتها وقوسها، وحين تمسكهما تظهر سيقانها من ردائها الجلدي القصير، وكأن زوس يريد قتلي بعذراء الأوليمبس، لم تعد عذراء كما أظن، وطئت اثنتين منها، لكن هل لديها أرواح أخرى؟ هل ستتنافس هيرا وأفروديت مرة أخرى وتتجسد كل واحدة منهما في صور أخرى لأرتيميس؟ نظرت لمئذنة ابن طولون أناجيها علها تلقي بقلبي الأجوبة.
أيتها المنارة السامية التي رسمتها الريح، يا من تضاءلت من أجل السمو، بحق رفعتك، بحق ما تناقص من بدنك حتى التلاشي، بحق قمتك، نقطة السفر بين العوالم، بحق من أتاك عالم، ومن فارقك سالم، بحق من رزق عند قدميك الحمائم، أسري إلي بسرها، وأسقطي عنها خمارها، سامريني بصورها، وطهريني بذاتها، تحشرج الحلق وتبلل الوجه بماء العيون، ولم تجبني المئذنة. «فتاتك ليست هنا.» قالتها السيدة سناء وأنا أسألها عن أمل، أضافت بأنها بالإسكندرية، ربما السيدة سناء تعرف شيئا لا تريد إخباري به، وبدأت نوبات إعداد الشاي وغسيل الأكواب المتواصلة حتى أخبرتني بأن أمل تتلقى العلاج في إحدى مصحات أبيها بالإسكندرية، عشرون عاما بلا نتيجة، مسكينة تلك القطة، سقط الكثير من ذاكرتها، لكنها ليست كأمها، أمل لا تقلم أظافرها؛ فلا تثر حفيظتها يا بني، انتظرها هي ستأتي بعد أيام ثلاثة، وأضاعت السيدة سناء نهاري لأحصل منها على الكثير من اللاشيء.
حبات القهوة والقطار ورحلة أخرى خلف ظلها، لم يكن زجاج القطار متسخا؛ فلا يمكن أن يتسخ بهذا التكوين التجريدي، حتى الأتربة تجيد رسم العبارات، خيوط النور تتصل وتنقطع بدرجات من التباين، وقبل أن أفهم شفرتها أظلمت وكأن القطار دخل كهفا أسود بجبل من ظلام، ألقيت برأسي للخلف ولم أشعر بشيء حتى وصلت الإسكندرية، أفقت وبمؤخرة رأسي ألم شديد وبقايا حلم مزعج، غادرت محطة الوصول بعروق نافرة، لم أكن أعرف أمن الألم هي، أم من الإزعاج. المزيد من القهوة وسيارة أجرة ألقت بي أمام بيتها، لم أهتم بسيرابيس، ولم أعر زفرة بوسايدون وهي تغرق الطريق أي اهتمام.
فتحت لي الباب عارية واختفت بغرفة جدتها، لحظة وعادت وبيدها منشفة، طلبت مني التحمم؛ فرائحتي تنافس بول الخيل قذارة، لم أتحدث كثيرا، وقفت تحت الماء وجاءت لمساعدتي، كانت لمستها مختلفة، كانت إغوائية القصد، لم أشعر بعفويتها، لكنني كنت أحتاج الاستحمام، وربما المزيد من القهوة أيضا: «لا أعتقد أنك تحتاج لتلك الملابس الآن، سأغسلها حتى تشرب قهوتك، ونتركها تجف، لا تحتاج لأن أقول البيت بيتك.» قالتها وهي تجمع ملابسي وتطردني بلطف من الحمام، لا أعرف إن كانت تمنحني بعض الوقت لأرتب أفكاري، أم أنها تعبث بها.
جلست في فراغ المعيشة بالقرب من الشرفة، إضاءتها الخافتة ورائحتها البرية، موسيقاها العذبة، هي أمل التي أريد البقاء بقربها، هي لا تظهر مشاعرها بالكثير من الأسئلة أو القليل حتى من الغيرة، هي ليست كغيرها من النساء، الأخرى أيضا ليست كغيرها من النساء، الأمر أصبح صعبا، صرت أشعر بالقلق أن أناديها باسم الأخرى، لن تحدث كارثة؛ فأرتيميس إلهة الصيد هي أرتيميس ربة القمر، وكلتاهما أمل. - تأخرت عني، هل شغلتك المئذنة، أم امرأة أخرى؟ - أي امرأة أخرى؟ - التي جئت خلفها، أنا أعرف كل شيء. - أنا جئت خلفك أنت. - تعرف أنني معجبة بوقاحتك لكنني لا أحب المراوغة، هي متطلبة تحب التملك، لن تجد راحتك معها، ستطالبك بالزواج، خاصة بعد ما حدث بمرسمك. - أنت تعرفين كل شيء إذن، يا إلهي! لقد اختصرت الكثير من الوقت، أريد أن أفهم كل شيء، من هي، ومن أنت. - أنت لا تريد أن تعرف.
كدت أقاطعها؛ فوضعت بنانها على فمي، وانسابت بين ساقي كأفعى، لتجلس على الأرض مستندة إلى رجلي، وصمتت قليلا: «لم يكن يجب أن تعرف شيئا عنها.» كان صوتها مذبوحا.
قبلت ركبتي وأسندت رأسها إليها وبدأ الحديث الذي انتظرته.
مسكينة هي ومثيرة للشفقة، لم يكن ذنبها أن أباها يشبه أسكليبيوس، بلغ من علوم الطب ما بلغ، وكل ما كان يأمله صبي من صلبه يمنحه كل ما عرف، كان من الممكن أن تكون المسكينة هي نعمته، لكن صلفه وغروره جعلاها لعنته، وصار لعنتها، لم يعتد عليها أو يغتصبها، لم تكن تتعرض لإيذاء بدني، لكنه كان يقتل روحها كل يوم، كانت أضعف من حماية حلمها، كانت تريد أن تصبح مثلي، بسيطة، كانت تتمنى أن ترسم بيتا وشمسا ورجلا وامرأة وطفلة، كانت تريد أن تصبح مدرسة للرسم، لكنها لم تصبح أي شيء.
كانت طفلة فقط في المدرسة، ذكية، متفوقة، وكلما زاد إدراكها، ازدادت خفوتا، حتى أفلت كما الشمس، ولم تشرق مرة أخرى، كذلك أمها، كانت مثيرة للشفقة أكثر منها، لم تخفت بل فقدت عقلها، كانت تتناسى لتعيش، حتى نسيت كل شيء، ولم يبق لديها سوى أمل، لا أقصد الفتاة بل أقصد الاسم، حاولت إقناعه بالزواج من أخرى، أو تركها وابنتها، لكنه لم يكن ليتنازل عن وسيلة إفراغ ما يتعفن بداخله كل يوم، كان ملاكا مع الجميع، باع روحه لعمله فلم يبق شيء لبيته، لم يبق منه إلا قبحه.
لم أكن هناك وقتها لأنقذها، أو أحميها، لم أكن بجوارها، لم أكن أعلم، وحين أتيت لم تكن تستمع لي، حاولت التصدي له، أسكليبيوس، فأجبرته على الموافقة من الزواج بحقير آخر، لم أقو على الصمت وقتها، لم يكن من الممكن تركها، كان بيدي أن أحولها لشجرة لولا أمها، لا تظن أن ترفقي بها يعني تعاطفي، أو موافقتي على تعديها على ما أملك، لا؛ فقد فعلت الكثير من أجلها، قضيت عقدين من عمري بنصف حياة لأتركها لمراعاة أمها المسكينة.
حين صب أورانوس غضبه على نسله، وألقى بهم في تارتاروس، أججت جيا نيران غضبهم، وأشعلت ثورتهم حتى قطعوا جسده، ولكن انظر ماذا خلفت دماؤه وأوصاله، سقطت أوصاله وتزاوجت بزبد البحر حيث أتت أفروديت، الجمال، والخصوبة، والرغبة، أما الدماء فجعلت جيا تلد الإرينيوس إليكتو وتيسيفوني وميجايرا، ربات الانتقام، يعشن بالأسفل ولا يخرجن إلا بالليل، من أجل الانتقام، أما أنا فأخرج بالليل والنهار؛ فأينا تراه أفروديت؟ وأينا الإرينيوس؟ أم اختلط عليك الأمر؟
هي والآخر
استرسلت أمل في الحديث، وكأن دماء عروقها من نبع أجانيبي، لا ينضب لها وحي، ولا تفارقها خاطرة، كانت تقص حكايتها، ورأسها ما زال مستندا إلى فخذي، وتتحرك بين الحين والآخر لتقص أجنحتي فلا أجد مفرا من أيكها، أربت على رأسها، وأفرد شعرها على ساقي، وأغزل خيوطها حولي كي لا أستطيع الفكاك، وكلما ضاق بي النسيج تسلل عقلي لأمل، الأخرى، ولم أتوقف عن غزل الخيوط، ولم أتمكن من العدول عن التسلل. - لم تجبني. - عفوا؟! - أينا تظن أفروديت؟ - ممم، كلتاكما أرتيميس؛ أنت إلهة الصيد، وهي ربة القمر.
قفزت وكأن قد مسها الجان، تغير صوتها، واختفت دموعها، تحولت، نعم تحولت، وامتلأ صدرها بالهواء لتصرخ في وجهي. - قمر؟ هي ربة القمر؟ هل فقدت عقلك؟ كيف تضعنا بمرتبة واحدة؟ أيضا هي ليست عذراء، هي تزوجت، أما أنا فلا.
أصابني الهلع من ثورتها، نظرت لها متعجبا، هدأت، تحول الوجه الثائر لوجه آخر، متصابية، بريئة، برية، وتساقطت أوراق ثورتها بخريف نظراتي، وعادت لتجلس بين رجلي، لم أرحب بها تلك المرة، ولم تعر جفائي أي انتباه، بل عادت لتكمل ما بدأته.
كما ذكرت لك، لم أتحمل هذا الكائن الذي تزوجته، وكأنها تزوجت الصورة المطابقة لوجه أبيها القبيح، تزوجت قسوة أسكيبيوس دون مهارته، تركت البيت، لم يعلم أحد أين ذهبت، كانت معي هنا عند جدتي، وقمت بكل شيء من أجلها، التحقت بكلية الفنون الجميلة، درست الفنون وتميزت في تاريخها، وأصبحت أستاذة تاريخ الفن، ولم تتمكن هي من التخلص مني حتى قابلتك، والآن لا أنوي الرحيل، فإن أرادت هي الرحيل فلها ما تريد، وإن أردت أنت أيضا فلك ما تريد، لكنها لن تعيش سوى نصف حياة، وأنت لن تحظى إلا بنصف امرأة.
لم أعرف كيف أرد، أو كيف أسأل، تركتها تتدفق، تجتاح أرضي وتبتلع أطرافي، تعلو ببطء، دافعتني أمواجها لغرفة جدتها، ورست بي بسريرها واعتلتني، تستنزف قوتي، تتأوه في وجهي، تئن، ولم تحرك عينيها من عيني، لم تكتف بمشاركتي المتعة، وبدأت مشاركتي الألم؛ فشقت بأظافرها رحلتها بصدري، حتى تهاوت يداي من حول خصرها، وأطبقت عيني، لم تتوقف، لم تهدأ، حتى انتهت سائلة هل من مزيد؟ فتحت عيني، نظرت لي بتوسل، تحول توسلها لنظرة ثابتة مستوية مسطحة، وكأن الريح توقفت فعجزت أمواجها عن الحركة، قامت دون ثورة، وبابتسامة رسمتها الريح بكثبانها. - حسنا يبدو أنك تريدها أو ربما تريد معرفة الفرق. - أنا. - اخرس، لا تقلق، أنا أتفهم جيدا، هي بالغرفة المجاورة سأحضرها لك.
خرجت من الغرفة ثم عادت كمن تذكر شيئا: «حين تنتهي منها أخبرها أن تذهب إلى الحجرة، لا تنس، قل لها اذهبي إلى حجرتك.» وابتسمت ثانية، ثم مضت، أمسكت رأسي بيدي أحاول سحقه كاتما صيحة غيظ، ماذا فعلت بنفسي؟ يجب أن نذهب لمعالج نفسي، لن أصمد كثيرا أمام امرأة تغار من نفسها، ستصيبني بالجنون بلا شك.
عادت مرة أخرى، لا، عادت الأخرى بملابسها الغريبة لترمقني بدهشة صائحة: كيف جئت إلى هنا؟ كيف دخلت البيت؟ ولماذا أنت عار هكذا؟
قمت مسرعا واقتربت منها وهي تحاول النظر بعيدا من خجلها، قلت لها لقد كنا سويا، لم أتوقع ردها، لم يخطر ببالي أن تصفعني بتلك القوة، وخرجت مسرعة لفراغ المعيشة، ذهبت للحمام سريعا، وارتديت بعض ملابسي المغسولة، كما هي ببللها وخرجت خلفها. - كيف تظنين أني دخلت هنا؟ - لا أعرف، لا أعرف.
كانت بقرب الشرفة وأقف على مسافة منها، مستندا إلى لحائط المجاور لباب الشرفة، كنت أنظر إليها، كانت تصرخ وتهذي بعبارات ما بين السب والاتهامات، ليس لي فقط، بل لنوع الذكور من ذكر البعوضة لذكر الفيل، لم أكن أسمعها، كنت أنظر لعينيها، هل تدعي كل ما يحدث؟ هل يجب أن أصدقها، لا يمكن أن تدعي كل تلك الانفعالات، أنا أصدقها.
اقتربت منها واحتضنتها رغم مقاومتها، اعتصرتها حتى سكنت، وهدأت قليلا، ثم جذبتها لتجلس وجلست جوارها، ابتسمت لها بحب. - سناء قالت لك إنني مجنونة، أليس كذلك؟ - لا، هي قالت إنك تذهبين لمركز من مراكز التأهيل المملوكة لكم بالإسكندرية، ولم أسألها لماذا تأهيل، آثرت أن أعرف منك. - ماذا تريد أن تعرف، إن كنت أنا لا أعرف.
لم تكن تراوغني، بل كانت ضحية مراوغة عقلية لا تفهمها، حاولت مساعدتها لتتذكر أباها وزوجها وما حدث لدراستها بكلية الطب، انتقلت من المساعدة للضغط، من الضغط للمحايلة، لم أصل لشيء، أخبرتها أنني جئت هنا لها، وكنت برفقتها، لم تتذكر أي شيء، سألتها لم تأتي للإسكندرية، لم تعرف! قالت بأنها يجب أن تأتي؛ فهذا ما تفعله لعشرين عاما مضت وعليها أن تفعله؛ فهي حين تمرض، أو يتعذر عليها المجيء تتحول حياتها لجحيم، تصيبها نوبات الصداع، والإغماء. - الجميع يظن بأنني أدعي، يقولون بأني مجنونة مثل أمي، هي لا تتذكر أي شيء، أظن الأمر بدأ معها تدريجيا، مثلما بدأ معي، إخوة أبي، المفترض أنهم أعمامي، يأخذون شهريا مقابل عدم محاولتهم إثبات أنني مختلة، والحجر علي، أنا وأمي، ما زلت لا أفهم كيف دخلت إلى هنا، أو كيف وجدتك عاريا بغرفة جدتي؟ أنت تقول بأنك كنت برفقتي، هل تعاملني أنت أيضا كمجنونة؟ - لا، أمل، أنا أعرف أنك لست مجنونة. - هل تظن بأن الشيطان يسكنني؟ - أمل، لا. - تعرف؟ - ماذا؟ - لم أستشعر الغربة معك، كأنني أعرفك من قبل، وأنت أيضا لم تكن تعاملني كغريبة قابلتها مرات أقل من عدد أصابع اليد الواحدة، أشعر أنك تعرف ما لا أعرفه، أرجوك أن تخبرني بكل ما تعرف، أرجوك.
بدأت تتوسل، وتقبل يدي باكية، وهي تردد أنها لا تريد أن تصير كأمها، تخبرني أنها تريد مساعدتي لها؛ فرفعت رأسها، ونظرت لعينيها الباكيتين، أتساءل، هل أخبرها؟ هل ستتقبل فكرة أرتيميس إله الصيد، وربة القمر؟ هل يمكنني شفاؤها، وإنهاء محنتها؟ - أمل، لا أعرف إن كان يجب إخبارك بما أعرف، لا أعرف إن كان هذا سيفيدك، ربما علينا مقابلة معالج. - أرجوك أن تخبرني أولا بكل شيء. - حسنا، أريد كلمتك في أمر المعالج. - لك هي، فقط أخبرني. - هل تعرفين أرتيميس؟ - ماذا؟ هل ستبدأ دروس الفلسفة الآن؟ رجوتك أن تخبرني، توسلت إليك، وأنت تريد التحدث عن آلهة الإغريق؟ هل تستخف بي لتلك الدرجة؟ - أرجوك اهدئي، أرتيميس هي من ستخبرك بكل شيء، هي من عذراوات الأوليمبس، إلهة الصيد وربة القمر، تظهر بملابس الصيد القصيرة ومعها جعبة الأسهم وقوسها، وتظهر أيضا برداء فضفاض طويل وتغطي رأسها بخمار، هي في الحقيقة أرتيميس أخت أبولو، لكنها شخصيتان، ولكل شخصية صفاتها وقدراتها. - لكنني لست عذراء، على الأقل منذ عرفتك، أم نسيت؟ - ليست المشكلة في عذريتها، أو عذريتك صغيرتي، المشكلة أنك تشبيهنها في شيء آخر. - ماذا تقصد؟ [قالتها بقلق يقارب الفزع]. - نعم طفلتي، أنت تملكين شخصية أخرى، أرتيميس إلهة الصيد، الدكتورة أمل خطاب أستاذة تاريخ الفن بكلية الفنون الجميلة بجامعة الإسكندرية، التي قابلتها منذ فترة وكانت معي هنا بغرفة جدتك قبل أن تأتيني ثائرة.
قاطعتني، ثارت، أخذت تصرخ، هدأت، جلست على الأرض، تبكي على ركبتي، أخبرتها بضرورة الذهاب لمعالج نفسي، سأذهب معها، وعدتها ألا أتركها، ظننتها بدأت تفهم، لم تتحدث، بكاء تحول لهمهمة، ثم صمت ينظر في ساعته، بدا قلقا من تأخر العاصفة.
لم تتأخر كثيرا عاصفتها، هبت واقفة تصرخ بأنها ليست مجنونة وبأنني مثل الجميع، أخذت تكرر أنها ليست مجنونة، حاولت إفهامها أنها تحتاج للمساعدة، زادت ثورتها، وبدأت تضرب رأسها بالحائط، لم يبق لدي إلا أن أصرخ بها أن تذهب إلى الحجرة، وكأنني أطلقت تعويذة سحرية، أخمدت ثورتها، وتحركت بصمت، بهدوء، ببطء، في اتجاه الغرفة المجاورة لغرفة جدتها.
كنت أفكر في مغادرة البيت والرحيل عن كل تلك الفوضى، لكنني أعطيتها وعدا، لكنني أيضا لم أحفظ الكثير من الوعود من قبل، لماذا أحاول مساعدتها؟ ربما لأنها تحتاج مساعدتي؟ ربما تعاطفت مع مأساتها؟ لا، لا أريد أن أصدق الفكرة، عشقتها، عشقت نصفيها، نعم، عشقت اثنتين، في واحدة، تمنيت الابتسام لهذا العبث، قمت أبحث عن أي شيء أشربه؛ فوجدتها خارجة من الغرفة عارية، نظرت لي متسائلة: لماذا ارتديت ملابسك مبتلة؟
أصابني الشلل لحظة أو ربما لحظات، كيف يمكنها التحول بتلك السرعة؟ عادت أرتيميس في تلك اللحظة إلهة الصيد بقوسها وجعبتها، تعتزم الصيد الأخير، تريدني وحدي لها، وتغار من اهتمامي بها، أقصد هي الأخرى، مشت للشرفة، قدمت صلواتها الصامتة لسيرابيس الغارق، ثم عادت مرة أخرى، سألتها عن شيء نشربه، ولا تنتهي مفاجآتها، نبيذ فرنسي فاخر معتق، مرة أخرى أفروديت وهيرا وسؤال باريس من الأكثر جمالا، وأفروديت لا تنوي الخسارة، لم تكن تلك هي أسلحتها الوحيدة، ولم تكن صلواتها لسيرابيس وحده، فقد بدأت أشعر بقوى بوسايدون، كانت تحيطني كالبحر يقتلع قطعة من الأرض ويفصلها، صرت جزيرة في بحرها، جزيرة لا ترى القمر، أنستني أرتيميس الأخرى، أنستني كل شيء.
انتهى اليوم بطردي من البيت، بعد منتصف الليل خرجت بملابسي المبللة وذهبت لشقتي بالمبنى المجاور لمبناها، ارتديت ملابس جافة، وعدت لمراقبتها، لم تكن ليلتها انتهت بعد؛ فقد ظلت تدخل الغرفة المغلقة وتخرج الأخرى منها مرات عديدة وكأن معركة بينهما تدور، ظللت أراقبها تتبدل، وتتحول من إحداهما للأخرى، حتى غافلني سلطان النوم حيث أجلس ولم أعرف كيف انتهت المعركة.
قمر يحاول الهروب
أفقت والساعة قاربت السادسة، شقة أمل هادئة، ليست بغرفة جدتها، ربما بالغرفة المغلقة، لم تطل انتظاري، أو تثر قلقي، فقبل أن أنتهي من إعداد بعض القهوة كانت قد خرجت من الغرفة المغلقة، أرتيميس ربة القمر، خرجت مسرعة كعادتها، تأكدت من إغلاق النوافذ، نوافذ الشقة، نوافذها، وقفت قليلا ربما أغلقت نوافذ حلمها أو خوفها، حتى القمر كان يحاول التسلل من ليلها، أمسكت به في السماء بعد الفجر بقليل، مكتملا ، لكنه هارب، هارب لكنه باه، يغوي إيوس ربة الفجر لمساعدته، أو التوسط لدى سيليني شبيهة أرتيميس، يبحث عن هيكاتي الربة الغامضة ذات الثلاثة رءوس المشرفة على أعمال السحر والكهانة وتحمي الساحرات، فهي لا تشرق إلا باكتماله وقبل شروق الشمس، ما الذي يجعل القمر يرحل من ليل أرتيميس ويغادر سماءها؟
نزلت الدرج بخطوتها المنتظمة فنزلت متواريا بمدخل مبناي، خرجت سيارتها الفارهة لكن يبدو أنها غيرت رأيها؛ فأمرتها بالانصراف، وقفزت بسيارة أجرة، وقفزت في السيارة التالية لها، لم يكن من الصعب استنتاج أنها في الطريق للجامعة، هي قررت البحث عن أمل الأخرى، وأنا من خلفها، أتشوق لقرارها بالعلاج، اقتربنا من الجامعة تحت سماء ملبدة بالغيوم أحالت ذهبية الشمس لإضاءة بيضاء مائلة للزرقة، حتى الشمس ترفقت كثيرا برحلتها فانزوت خلف الغيوم.
من بوابة الدخول والجميع يحييها، مرحبا دكتورة أمل، أهلا دكتورة أمل، تحية مع ابتسامة، وتطلع باندهاش صريح، أو متوار، لملابسها، بدأت صلابتها في الشحوب، وخطوتها العسكرية في التعثر، بدأت عيناها في الشرود بين خيوط الظل، وبقع النور، ولم تخرج أمل الأخرى لنجدتها، تركتها، تركت أرتيميس ربة القمر فريسة لضوء الشمس المتسلل من بين الغيمات، حتى سقطت مغشيا عليها.
تعرف إلي بعض الطلبة وأنا أحملها صائحا أن يأتوا بسيارة أجرة، سمعت الهمهمات من خلفي، إنه دكتور عبد الله، وكانت تلك الهمهمات هي جواز مروري من بوابة الجامعة حاملا جسدها الرقيق، عائدا مرة أخرى لبيتها، فتحت بمفتاحها ومددتها بسرير جدتها، أميرة شاحبة، تنتظر رسالة ضوئية من القمر، تبعثها من جديد، ولا أعرف في أي صورة ستفيق أرتيميس؟
صرت أراقبها وأتجول بالشقة، أخرج للشرفة، أحدث بوسايدون، أفكر فيما سأقول لها حين تفيق، هي الآن عرفت الحقيقة، أنني لم أخادعها، كنت أعرف أن القادم ليس الأفضل على الإطلاق، لكن علينا تحمل برد الليل، لننعم بدفء الشمس؛ فالشمس تشرق وقت شروقها وليس وقت اشتهائها، ربما مورفيوس الآن يهمس لها ببعض الأحلام الجميلة علها تساعدها على الراحة، أي راحة تلك؟ وقد أدركت أنها لم تكن وحدها طوال تلك السنوات.
أطالت انتظاري بجوارها، حتى تلقت رسالتها الضوئية، وأفاقت، لم أعرف أيهما التي أفاقت، شاحبة، ذابلة، نظرت إلي كسحابة مثقلة بالماء، وما إن تلاقت الأعين حتى أفرغت شحنتها، دون برق يضيء، دون رعد يدوي، كانت تبكي صامتة، متوسلة، أربت على يدها، أمسح دمعها المالح، بقبلات حانية، حاولت الاعتدال قليلا ساعدتها لتسند ظهرها، سحبت يدها من يدي، شبكت أصابعها، أحنت رأسها في خشوع المصلين، لم أقطع صلواتها وبقيت بمحرابها صامتا حتى جاءت ثورتها برعد يدوي، وبرق يضيء، وبلا أمطار تذكر.
تدفعني عنها كلما حاولت الاقتراب منها، تصرخ بصوت بلا كلمات، تهدأ قليلا لتبكي، ثم تعاود الصراخ، تبكي بين ذراعي، ثم تدفعني عنها لتصرخ، تعاود وتعاود الهدوء والثورة، ثم انزلقت في السرير مرة أخرى، لتعاود النوم، أميرة شاحبة، لم أنتظر إفاقتها التالية بهدوئي السابق، فقد شعرت أنها تمر بصدمة عصبية، وربما تحتاج لبعض المهدئات، لم أصل للتصرف الأمثل، حتى أفاقت مرة أخرى بابتسامة شاحبة، وعين ثابتة، قائلة بصوت يشبه الفحيح: «أريد أن أعرف كل شيء عنها.» - هي ... من؟ - الدكتورة أمل خطاب ... [أكملت بصوت أكثر حشرجة] أستاذة تاريخ الفن.
عشيقتك. - هي ... أنت. - لا، لا تجمل الأشياء، هي مني وليست أنا، أرجوك لا تختر ألفاظك وحدثني بما في عقلك كما هو. - هي أرتيميس إلهة الصيد، وأنت أرتيميس ربة القمر، كلتاكما أرتيميس.
وبدأت أقص عليها روايتي منذ قابلتها، قلت كل شيء حدث، حتى مراقبتي لها، واكتشافي شخصيتها الأصلية، أو الشخصية الأخرى بالنسبة لي، رويت لها كيف هي أمل الأخرى، لم تكن مقاتلة كشخصية حامية لها، كيف هي ناعمة وحقيقية، هادئة وواثقة، جريئة، حية، كنت أتحدث وهي تبكي بلا صوت، كنت أحاول إذابة الجليد بينهما، أحاول أن أريها كيف أراها، وهي تبكي سنوات لم تعشها، تبكي نوبات إغمائها التي لم تعرف سببها، تحاول أن تشعر بما أقول، تحاول أن تدرك أقل القليل من كثير فاتها، كنت أحكي وهي تشتاق للقائها، هي الأخرى، التي أعشقها، كما أعشقها. - أريد مقابلتها. - من؟ - الأخرى، أريد مقابلتها، متى تأتي؟ - كيف؟ هي لا تأتي وأنت موجودة، لا أعرف كيف تقابلينها. - كيف تقابلها أنت؟ - لا أعرف هي فقط تأتي، أعرف كيف تذهبين أنت، بعدها هي تأتي. - وكيف أذهب؟ - أطلب منك الذهاب للغرفة. - ماذا؟! هل هذا كل شيء؟! تطلب مني الذهاب للغرفة؟! - نعم، أقول: «اذهبي إلى الغرفة.»
قبل أن يختفي ذهولها كانت أغمضت واستسلمت لهاتف النوم، لم أتوقع أن أحدا يمكنه الاستغراق في النوم بتلك السرعة، هي الكلمة السحرية «اذهبي إلى الغرفة»، لا أعرف إن كانت الأخرى ستأتي أم لا، أشتاق إليها؛ فهي تجيد الرقص على أوتاري المشدودة بين قلبي وعقلي، قد تفكر معي في مخرج من هذا المأزق، لم أكن مستمتعا بتلك الحالة الثنائية، أكن للاثنتين مشاعر قد يشوبها الصدق، وقد يصيبها الإطلاق، لكنني لن أتمكن من مجاراة امرأتين لا يفصلهما غير درجة بريق العينين، الشيء الوحيد المريح في الأمر أنني لن أخطئ في اسمها، كلتاهما أمل، أرتيميس، رغم كل القلق، ابتسمت.
لم تغب في نومها، أفاقت بعين مشرقة وابتسامة ساحرة، لم تكن هي، بل الأخرى، أرتيميس إلهة الصيد، لم تقم من الفراش، بل انسابت كعذب الماء، نظرت لملابسها بخجل لم أعتده منها، همست بخجل لا يقل عن نظرتها: «اسمح لي أن أخلع تلك الملابس، لا أطيق ذوقها.» لم تنتظر ردا مني، بل انبثقت عن ملابسها بنعومة انسيابها من الفراش، أو يزيد، عادت للفراش بجسدها الناعم المشدود، كأن شيئا لم يكن، كنت صامتا لا أحرك ما سكن مني، ولا أرفع عنها ناظري، نظرت لي نظرات متنوعة، إغواء، استعطاف ...
استمالة ... وأخيرا ثقة، ثم تكلمت.
قالت بأنها من فعلت كل شيء، حققت كل أحلامها حين عجزت هي عن مواجهة والدها، ولن تقبل أن تتنازل عن حياتها الآن من أجلها، المثيرة للشفقة كما تصفها، قالت أيضا إنها تعرف عني الكثير، لم أفهم ما تقصده ولم تجبني حين سألتها، حاولت أن أثنيها، قلت بأنها هي، وهما نفسها، كانت تبتسم، تعبس، ثم تصر أنها لن تترك لها مساحة أخرى لتهدم ما بنته طوال تلك السنوات، سألتها عن مصير أمها، أجابت سأرعاها، هي لن تدرك الفرق، لا أحد يعرف حقيقتنا إلا أنت. - أنا؟ - نعم، كما أعرف أنا أيضا عنك الكثير، ولن أضع نفسي في مقارنة رخيصة بها، إذا رغبتها فعليك انتظارها بعيدا عني. - أريدكما معا، بردا ونارا، إلهة الصيد وربة القمر، أنا لدي حل. - أي حل؟ هل تظن أننا يمكننا التعايش أكثر من هذا؟ هل تدرك كم أشعر بالغثيان كلما خرجت لأخلع ملابسها وأزيل آثار عطورها الفجة من جسدي؟ - أنا أملك الحل. - هل يمكنها الذهاب للجامعة ومحاضرة الطلاب هناك؟ هي ذهبت اليوم، تركتها تذهب لتعرف من أكون.
كان جسدها يرتجف، احتضنتها، قبلت جبينها، كفيها، وهمست لها بأنني أعرف الحل وأحتاج مساعدتها، لتبقى هي، والأخرى، لنحيا جميعا في سلام، لكن لن أنجح بدون مساعدتها، هدأت قليلا، يجب أن نقابل طبيبا، أنا وهي والأخرى، لا أظنها سمعتني، فقد هدأت أنفاسها، وانتظمت عند رقبتي، نامت، وصدري وسادتها، هدأت أنا أيضا، أرحتها بفراشها، وأرحت الغطاء حتى رقبتها، وخرجت لبهو الشقة.
كان البهو يمتد بي فيقطع الشرفة ويطويها، يمتد حتى لامس أنامل البحر، كان يحملني لسيرابيس الغارق، لم أصدقه يوما، لكنني الآن أسأل وأنتظر إجابته، هل نجح التزاوج بين البطالمة وآلهة مصر القديمة؟ أم جفت إحداهما بدماء الأخرى؟ هل ستعود أرتيميس أختا فقط لأبولو؟ تترك القمر وتلقي بقوسها وسهامها وتعود لي، أمل خطاب، أستاذة تاريخ الفن، تصلي للبحر ساجدة على صدري، مغيرة بجوانحي، معربدة بجنباتي، هل تأتي مرة أخرى لتفرغ خمرها بثغري، وتترك كأسها فارغة بجوار فراشي؟ عاد البهو يلملم أطرافه، يعيد الشرفة ويغلق بابها، يحتجزني مرة أخرى، بلا أجوبة؛ فلم ينطق سيرابيس.
جلست، وظهري لباب الشرفة، كانت الأرض باردة، لكن قليلا من النبيذ وكثيرا من الدخان كفيل بنشر الدفء بداخلي فيملؤني، ويتسرب ليعطي الأرض حقها. كنت أنفث الدخان فينسحب لطرقة البيت حتى سترها بلونه الرمادي المحال لبعض الزرقة من مصباح صغير بنهاية الطرقة، كنت أراقب انسحاب الدخان الهارب مني إليها؛ فأشرب كأسا لي، وكأسا لها، وكأسا لها الأخرى، وكأسا للدخان المنسحب، حتى أتيت على الزجاجة كاملة، أردت المزيد، لكنني لم أتمكن من القيام، أمسكت الزجاجة الفارغة، أحدثها عن محنتي، ضحكت لها، لم يجبني سيرابيس؛ فهل أنتظر ردا من الخندريس؟
لم أكف عن التدخين ومراقبة الدخان، حتى بدا لي أنه ينزوي من مدخل الطرقة، كنت أراه يتبدد من فرط الحياء؛ فقد كانت أرتيميس تتحرك حافية القدمين، كأفروديت المبعوثة من البحر.
وحولها ملاءة الفراش، خجلا أم بردا لم أعرف، تقدمت في صمت، لم أعرف من هي، أأرتيميس إلهة الصيد أم ربة القمر؟ لم أتمكن من التفرقة أو التمييز، حتى جلست بجواري في صمت، أفلتت سيجارتي من يدي، سحبت نفسا عميقا ونفثته في الهواء، قالت بإيقاع منتظم: «أريد الذهاب للطبيب.» فعرفت أنها ربة القمر.
هذا ما حدث حتى أتينا سويا إليك، رويت لك كل ما حدث منذ عرفتها حتى أتينا، هي تنتظر الآن بالخارج.
أنهى عبد الله حديثه وما زال الطبيب ينظر إليه بعد أن توقف عن تدوين ملاحظاته، أوقف الطبيب مسجلة الصوت، وطلب من عبد الله دعوة أمل للدخول بمفردها، خرج عبد الله من الغرفة، أمسك بيد أمل، قبلها وأخبرها أن كل شيء سيكون بخير، دخلت غرفة الطبيب، وأغلق الباب خلفها.
أين هي؟
دخلت أمل مترددة، لكن يد الطبيب العجوز الممتدة لمصافحتها، وابتسامته الودودة، خففتا بعض التردد، وأزالتا بعض التوتر. - أهلا دكتورة أمل. - أهلا بحضرتك، لكن لست دكتورة. - سنتحدث سويا في هذا الأمر، تفضلي بالجلوس أمل.
جلست أمل، وبمقعد متعامد وجلستها جلس الطبيب مبتسما، لم يسأل، بل بدأ بالحديث عن نفسه، أنا أحمد مراد، بدأت حياتي كطبيب مخ وأعصاب، زميل لوالدك رحمه الله، لم نتفق أبدا؛ كان يصدق العلم وكنت أثق في النفس، لا تنزعجي أمل؛ فأنا أعرف الكثير عنه، كنت دائما أصدق أن النفس السليمة تجعل الجسد سليما، ومهما وصل الطب لعقاقير تعالج اضطرابات وأمراض الجهاز العصبي، فلن يشفى من كانت نفسه عليلة؛ فبدأت من جديد وكنت تجاوزت الأربعين من عمري في دراسة علم النفس، وأحرزت العديد من الشهادات المتخصصة في هذا المجال، عفوا أمل، كما ترين، عجوز ثرثار، لكننا هنا لنتحدث عنك وليس عني، ماذا بك أمل؟
قبل أن تجيبه، قام واقفا: «قبل أن تبدئي، دعيني أعد لك بعض الشاي الأخضر، أعده جيدا.» ابتسمت أمل، فأضاف باسما: «لا تقلقي، إن تحدثت أكثر منك فسأدفع لك ثمن الجلسة، فربما كنت أحتاج لمن يسمع ثرثرتي.»
كانت أمل تشعر بارتياح أكبر الآن، تلفتت تتفقد الغرفة التي لم ترها منذ دخلتها، غرفة عتيقة إنجليزية الطراز، الجدران مغطاة بمكتبات، لمحت بعض العناوين لكتب في التاريخ والفلسفة والفن، ومجلدات ضخمة بدت لها طبية، مكتب كبير يتوسطه رقعة خضراء، ومنضدة ركنية عليها جرامافون ببوقه النحاسي الضخم يعمل بزنبرك، يظهر مقبضه من جانب صندوقه، وأسفله مجموعة من الأسطوانات الكبيرة، لم تتمكن من قراءة ما كتب عليها، لا يبدو طبيبا لها ولا تبدو عليه العجلة كباقي الأطباء، بدا لها فيلسوفا عاشقا للفن، أراحها شعور الألفة والإضاءة الدافئة وابتسامته وهو آت بأكواب الشاي، أعجبتها الرائحة قبل أن يضعه أمامها، أتى بمسجلة صوت صغيرة ودفتره وغليون قديم وصندوق معدني، عرفت أنه صندوق التبغ: «هل تسمحين لي بتدخين الغليون بينما نتحدث؟» أومأت موافقة وابتسامة تعلو وجهها، أغمضت عينيها وملأت رئتيها برائحة الشاي. - من أين أبدأ؟ [سألت أمل].
نظر لها وهو يشعل غليونه، أطفأ عود الثقاب وضغط زر التسجيل قائلا: «من حيث تروق لك البداية.» وبدأت أمل بالقليل من الخوف.
لا أعرف ماذا يحدث لي، أكاد أفقد عقلي، أوجاع الرأس تلازمني، لا أذكر أشياء يقولون أني فعلتها، لم أكمل تعليمي الجامعي، وعرفت منذ أيام أنني أستاذ دكتور بجامعة الإسكندرية، أستاذة تاريخ الفن، لا أعرف الكثير عن الفن وتاريخه، لكنهم جميعا يعرفونني هناك ولا أعرفهم.
أعرف أنني أحمل بداخلي إنسانة أخرى، أمل أخرى، قابلها عبد الله، يعرفونها بالجامعة، لكنني لم أقابلها، لا أعرفها، وددت مقابلتها، ربما لهذا السبب أتيت إليك دكتور مراد، لا أعرف ما فقدت من عمري وما أحرزت هي، لا أعرف هل يمكن أن نصبح أصدقاء، أنا وهي؟ يتهمني الجميع بالجنون لأنني لا أذكر ما يتحدثون عنه، أو ما يقولون إني فعلته، كان الموضوع يثير جنوني بالفعل، لكن بمضي السنوات اعتدت الأمر ولم يعد يثير حفيظتي، الأمور تغيرت الآن، وأريد أن أعرف كل شيء، كل شيء. - متى تغيرت الأمور؟ - مؤخرا. - منذ قابلت الدكتور عبد الله؟ - نعم، لا، لا أعرف، ربما. - اهدئي أمل، ليست جريمة، دائما ما يكون هناك إنسان يجعلنا نرى أنفسنا، يجدد فينا الرغبة في الحياة. - لا أعرف الكثير عن عبد الله، لكن الأخرى تعرف الكثير عنه، ظننت أنه يعرف امرأة أخرى، هو في الحقيقة يعرف امرأة أخرى. لم أحظ حتى بفرصة لحياة هادئة برفقة رجل، رجل، أميل إليه. - لا تخجلي أمل، من رجل تحبينه. - نعم أحبه، لكن هو؟ ربما يحبها هي. - سنصل لتلك النقطة لاحقا، لا تتعجلي. - عفوا دكتور، ألن تسألني؟ - ماذا تريدين أن أسألك؟ - أي شيء، مثل متى بدأت عدم التذكر؟ أو ما تظنين السبب فيما حدث لك؟ شيئا من هذا القبيل، أظن الأطباء يفعلون ذلك.
ابتسم الطبيب بود: «أعدك بالسؤال، ويمكنك الإجابة عما سألت، بالطبع إن كانت تلك إرادتك.» ابتسمت له أمل واسترسلت في حديث بدأته. - تعرف أبي، ربما لا تعرفه جيدا. - ما الذي لا أعرفه؟ - ربما تعرف الطبيب إسماعيل خطاب، لكن لا أظنك تعرف الزوج إسماعيل خطاب، أو الأب إسماعيل خطاب.
كان أبي خارج البيت، وفي وجود ضيوف بالبيت، شخص جميل هادئ، كنت أتمنى ألا يذهب ضيوف المنزل أبدا، وحين ينغلق الباب علينا، أنا وأمي، يتحول لرجل آخر، كائن صلب، عنيف، كان يعامل أمي بمنتهى القسوة، كنت أهرب من صوته إلى غرفتي، أضع الوسادة فوق رأسي، حتى دون أن أخلع حذائي أو أغير ثيابي، لأهرب من صوته، من تعنيفه المستمر لأمي، لكن صوته كان يوقظني، ليعنفني أنا الأخرى على نومي دون أن أغير ملابسي، كنت طفلة، لم يتوقف عن القسوة، ولم أتوقف عن الهروب لغرفتي والاختباء أسفل وسادتي الصغيرة، كبرت، وكبرت معي الوسادة، وكبرت معه قسوته، صارت أمي تتناسى قسوته؛ فتهرب هي الأخرى، لكنها كانت تهرب من ذاكرتها، حتى أصبح نسيانها مرضا، كانت تمحو ذاكرتها، حتى لم تعد تعمل.
كنت طالبة في كلية الطب، بالسنة الأولى، دخلتها رغما عني، كنت أريد دراسة إنسانية، تاريخا، فلسفة، اجتماعا، لا أعرف كيف تركت الكلية، لا أعرف كيف اختفى أبي من حياتنا، فقط وجدتني أطلق زوجا لي، لا أعرف متى تزوجته، حاولت كثيرا التذكر أين قابلته، وكيف تزوجته، وكيف وافق أبي وأنا في السنة الأولى بالجامعة! لم أتذكر، وكانت أمي وقتها مريضة بداء النسيان، كانت تنسى أنها أكلت، فتأكل مرة أخرى، وثالثة، ورابعة؛ فزادها النسيان داء آخر هو السمنة، تراكمت عليها الأمراض، لم تكن تستطيع الحركة، ولم أقبل أن تذهب لمشفى أو مصحة، أعددت لها جناحا كاملا للعلاج ويلازمها ممرضتان، كان الأمر سهلا من مشافي أبي التي أديرها، على الأقل ماليا، أو لا أديرها، أوقع على موازناتها، لا أظنني أستطيع إدارتها، لكن بعد نصيب أعمامي والمحامي والمراقب المالي ومصاريف المشافي، يتبقى لنا دوما ما يكفي ويزيد لنعيش بشكل لائق.
لنا جارة وحيدة، السيدة سناء، دائما أراها كأمي، كنت أظن أنها أمي القوية التي تعيش بالطابق الأرضي، بينما أمي الضعيفة هي من تعيش معي بالمنزل، ألجأ دوما للعمة سناء، هي وحيدة مثلي، حتى قابلت عبد الله لديها، في الحقيقة قابلته عند بيت جدتي بالإسكندرية، خاطبني عند مدخل المنزل، ردد اسمي؛ فصحت به [قالتها مبتسمة بخجل]، ثم وجدته يجلس بشرفة السيدة سناء، وددت أن أجالسه وأحدثه، كأنني أعرفه من قبل، هو ذكي وحنون. - سنأتي له لاحقا، حدثيني عن حجرتك. - الحجرة! الحجرة! أي حجرة؟ - التي بها الوسادة. - هي الغرفة التي أهرب لها كلما غضبت، كلما أصابني الخوف أدخلها وأضع الوسادة فوق رأسي، حتى أنام. - تنامين لوقت طويل؟ - أحيانا لحظات، وأحيانا لأيام، لا أعرف كيف، لكنني أستيقظ بألم في الرأس رهيب، وكلما خرجت من الغرفة أواجه نقضا أو ثناء، لأفعال لا أذكر منها شيئا. - هل تريدين الذهاب للحجرة الآن؟ - هل يجب أن أذهب إليها؟ [قالتها بخوف يشبه التوسل]. - نعم، اذهبي إلى الحجرة.
كان الطبيب ينظر لها نظرة ثابتة ، وهي ترخي جلستها وتحني رأسها، تغمض عينيها باستسلام، يطيل الطبيب نظرته إليها، ينحني قليلا ليقترب منها، يمسك معصمها، يقيس نبضها، هي نائمة. - أمل؟ أمل؟
يهز كتفها برفق مرددا: «ابنتي، ابنتي.» تفيق أمل، بعين لامعة مشرقة تختلف عن تلك النظرة الخجولة، تبتسم بثقة قائلة: «لست ابنتك، أنت لا تعرفني لتناديني ابنتك.» - أود أن أعرفك إذن. - ألم تقل لك هي من أنا؟ - من هي؟ - كف عن تلك الألاعيب، سأريحك، أنا أمل خطاب، أستاذة تاريخ الفن بكلية الفنون الجميلة بجامعة الإسكندرية.
نظرت لملابسها بحنق مرددة بصوت بالكاد يمكن سماعه: «لا أعرف كيف تختار ملابسها، لن أتمكن من التخلص منها الآن، تستمتع هي بإحراجي دوما، أف لها.» - أهلا دكتورة أمل، أنا دكتور ... - أعرفك دكتور أحمد مراد، صديق والدها.
ابتسم لها الطبيب، ودون بعض الكلمات في دفتره، ولم تفارقه ابتسامته، وربما لم يتمكن من إخفاء دهشته. - وهل تعرفين لماذا أنت هنا؟ - بالطبع أعرف، هي تريد التخلص مني، وعبد الله يريد التخلص من الأمر برمته، وأنت تريد التعامل مع حالة فريدة من ازدواج الشخصية؛ فبرغم سطوع اسمك في علم النفس، فإنك لم تحظ بحالة مماثلة، وهذا ما ذكرته في كتابك الأخير، حول أمراض الهيستريا. - تقرئين كتبي أيضا، هذا مثير حقا، تحدثت عما تريده هي، وما يريده دكتور عبد الله، وما أريده أنا أيضا، ماذا عما تريدينه أنت؟ - لا أريد شيئا، سأمنحك الفرصة دكتور، ليس لمراقبة حالة واحدة من الازدواج، بل حالتين. - ماذا تقصدين بحالتين؟
أطلقت ضحكة رقيقة، ولمعت عيناها أكثر، واقتربت منه لتهمس في أذنه «دكتور عبد الله مسعود أستاذ الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة، هل تعرف أي شيء عن حياته الأخرى؟»
وتحكي إلهة الصيد
كان الطبيب مندهشا، لم يكن بعد متأكدا من حالة أمل، وبعد أن فجرت مفاجأة أن عبد الله أيضا مزدوج، هل تدرك حقا ما تقوله هذه السيدة الشابة؟ قد سمع عبد الله لفترة طويلة، له بعض الملاحظات على شخصيته، لكنها في حدود المقبول نفسيا وإنسانيا، بدا الطبيب مترددا بين إنهاء الجلسة وبين سماع المزيد من شخصية أمل الأخرى، وفي النهاية انتصر فضوله العلمي، وقام ليعد القهوة له ولأمل ليسمع منها المزيد. - شكرا على القهوة. - أتمنى أن تعجبك، أفضل أن أفعل كل شيء بنفسي. - رائحتها ذكية، لي سؤال دكتور، وبعدها أعدك بالمساعدة. - تفضلي دكتور أمل. - ماذا سيحدث لي إن شفيت هي مني؟ أو ماذا سيحدث لها إن شفيت أنا منها؟ - دعيني أحاول توضيح الأمر بشكل مبسط، قد تكون الحالة حقيقية ولدينا شخصية منبثقة عن شخصية أخرى، هناك مراحل وأنواع مختلفة من الازدواج، في النهاية الشفاء يأتي باتفاق أو اتساق العقل الواعي بالعقل الباطن، فلا يحتاج الشخص لعدد من الشخصيات لتعبر عما داخله، سواء من مخاوف أو أحلام أو رغبات. - قد أعتبر هذا الرد دبلوماسيا من طبيب مهذب. - أن يقبلك عقلها، أو يقبلها عقلك، أو تصلا لدرجة من التسوية. - أراه أسعد حالا بكثير الآن، وأنا امرأة تحفظ وعدها، ماذا تريد أن تعرف دكتور؟ - كل شيء عنك، إذا أذنت لي بالطبع؛ فبقدر المعرفة يمكنني النصح أو المساعدة.
أعرف أنها لم تكن طفلة مدللة على الإطلاق، كانت تشبه دليل إدانة يذكر والدها بجريمته، هي لم تدرك ما أصاب أمها؛ فكانت تحذو حذوها، حتى اقتربت من فقدان عقلها هي الأخرى، كنت أثور كلما أخفت رأسها بوسادتها، كانت تقاوم ثورتي في طفولتنا، كانت توافقني في عقلها فقط، وعند التنفيذ كانت تهرب لتلك الحجرة، لم أتحمل تلك الدرجة من الخنوع، وكان صدامي معها حين أجبرها هو على دخول كلية الطب، ربما كان هذا هو ميلادي الحقيقي خارجها، هي قبلت بخضوع، وأنا رفضت بثورة، وبدأت الصدام بوالدها، تزوجت من بليد غبي لأخرج وأخرجها من بيته، لكنها خذلتني ووافقت على الإقامة بمبناه تحت عينه، في لحظة تحول البليد لنسخة مشوهة ممسوخة وحقيرة من والدها، صفعها، اغتصبها بكل وحشية؛ فلم أصمت وقتها، خرجت وسحبت أوراقها من الجامعة وقدمتها في كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية، وأقمت ثلاثة أشهر كاملة ببيت جدتي، لا تتعجب دكتور، ليست جدتها، هي جدتي أنا، نعم هي منها من ذات دمائها، لا أنتمي لتلك الذليلة المثيرة للشفقة، وأمها، لا أنتمي لهذا الرجل القاسي، وحين علمت بوفاة والدها عدت لأنهي علاقتها بهذا البليد، لكنها خذلتني مرة أخرى، حين تركت لأعمامها أكثر بكثير مما يستحقون من ميراث أبيها.
لم أكن أرغب في أكثر من دراسة تاريخ الفن، كان التاريخ هو بوابة حريتي، لم أتورط في علاقات، لم أنفصل عنها طمعا في رغبات ترفضها، لم أكن أرغب إلا بحياة سوية أحقق فيها حلمي، لم أكن أتركها إلا لحضور محاضراتي حتى أتممت دراستي وعينت في الجامعة، كان أساتذتي يقدرون مجهودي، كنت أدعي مرض أمها ليسمحوا لي برعايتها، وانتهيت من دراساتي العليا، وناقشت الدكتوراه، وقاربت الأستاذية، والآن هي تريد أن تأخذ كل شيء؟! أين كانت هي وأنا أحارب الجميع من أجلها؟ كانت تخفي رأسها بوسادتها، وحين رفعت الوسادة تريد كل شيء؟ - ما هو ال «كل شيء» الذي قصدته؟ - كل شيء، أعنى كل شيء. - تظنينها تريد الحصول على وظيفتك مثلا؟ درجتك العلمية؟ - لا، لا، بالطبع لا يمكنها، ستطرد بعد أول مناقشة. - مسكنك؟ - أقيم في بيت جدتي لا يمكنها طردي منه. - دكتور عبد الله؟ - ماذا عنه؟ - هي تريد دكتور عبد الله؟ هل هذا ما قصدته؟ - ربما. - ربما هذا ما قصدته، أم ربما دكتور عبد الله هو كل شيء؟ - [ابتسمت أمل قائلة] أعرف أنني لن أسلم من مكر الأطباء، حسنا دكتور أحمد، أتحدث عن دكتور عبد الله، هو من تسبب في كل هذا، راقبني، راقبها، ولم يعرف أنني أيضا راقبته، ولم يعرف أنني أعرف عنه أشياء ربما لا يعرفها هو عن نفسه، كما قلت لك من قبل، هو أيضا له حياتان. - إذن لو لم يراقبك دكتور عبد الله لما حدث شيء؟ - دكتور مراد لقد عشت عشرين عاما، بين الأبحاث والدراسات والمراجع والرسائل العلمية، لم تحدث مشكلة، ولي سمعة طيبة بالجامعة، منذ دفعتها للانفصال عن ذاك البليد ولم يكن هناك رجل في حياتي، ليس لدي مشاكل دكتور. - وماذا عنها؟ - ماذا عنها؟! - نعم، هل حدث لها مشاكل طوال تلك الفترة ؟ - هي تسير في طريق أمها نحو فقدان العقل، أفيقها من وقت لآخر لكن ليس دائما ما تستجيب. - وإن فقدت عقلها مثل أمها، فهل تفقدين عقلك أنت الأخرى؟
نظرت أمل إلى الطبيب نظرة طويلة؛ فقد فهمت ما يقصد، وبدا عليها بعض الضيق «نعم دكتور؛ فما يحدث لها يحدث لي.» - ولماذا لا تفكرين أن شفاءها سيكون أيضا مفيدا لك؟ - كيف يكون مفيدا؟ أنا بذلت الكثير لتستقر حياتي بعيدا عنها، لا أريد نصف حياة، لا أريد جزءا من حياة، لا أريد أن أعكر حياتي بتفاصيل حياتها، يكفيها ما أتركه لها من وقت تفعل به ما تشاء، لم أعد أتدخل في حياتها، ليس الآن، منذ سنوات عديدة. - حتى ظهر دكتور عبد الله. - حتى ظهر الدكتور عبد الله، [رددتها خلفه بابتسامة لم تكن للدكتور أحمد].
استلقت أمل أكثر في جلستها، لم تعد تنظر للدكتور أحمد، بدت كمن يحدث نفسه، بينما الدكتور أحمد هادئ، يدون ملاحظاته ويتابع لغة جسدها، ويسجل علامات استفهام من وقت لآخر.
لم أكن مهتمة باللوحات التشكيلية كثيرا رغم دراستي، أميل أكثر للتماثيل، النحت، أرى المنحوتات كائنات منفردة، لا ترتبط حتى بناحتيها، حتى ذهبت مع بعض طلابي للقاهرة، زيارات متحفية، وانتهت بإصرار منهم لزيارة افتتاح معرض للفنان التشكيلي عبد الله مسعود.
ما كنت قد سمعت عنه من قبل، سمعت صوته قبل أن أراه، لم أسمعه بأذني، كان يتردد بداخلي، كان يشرح لوحاته التي يسميها دوما ب «الزفت»، وكلما أعادها يلقى استحسانا أكثر، اقتربت أكثر بين الحضور لأرى صاحب الصوت، رأيت خليطا، مزيجا، طفلا عنيدا، شابا فتيا، رجلا لعوبا، ذكيا، نصابا، لكنه أعجبني.
لم أتأثر برجل من قبل، لم يحركني رجل، ولست الفتاة الريفية الساذجة التي هبطت للمدينة لتنبهر، تعرضت لمضايقات كثيرة وبطرق متنوعة، في العمل، في الطرقات، في أماكن كثيرة، ظننت لبعض الوقت أن حياة الرهبان ليست بالشيء الصعب، حتى عرفت أنها ليست بالشيء الهين، ظننت أنني سأنتقل من هذا العالم وحيدة، ليست وحدة المجاورة، ولكن أيضا وحدة النفس.
كانت عيناي تسبح بين ضفتي قميصه المفتوح، سمرة أشعرتني بجمال سمرتي، وشعرات كثيفة كادت تجرح نعومتي، رقبة صلبة وحنجرة قوية ذات رنين، وكانت ضربته القوية في سيجارته الطويلة، التي تنسحب منتحرة بين شفتيه، لم أدرك كيف أصبحنا متقابلين، كيف تلاشى كل شيء ولم يبق إلا هو وما بقي من سيجارته، وصدره يدغدغ خواطري أن أدفن وجهي بين ضلوعه، رفعت رأسي كي لا تورطني خواطري فيما لا أعلم عقباه؛ فواجهت خطرا أكبر، إما صدره وإما شفتيه، مددت يدي سريعا مصافحة له، لم أكن طامعة في معرفة لمسة يده، أو قوة كفه، فقط كنت أحاول الحفاظ على مسافة ذراعي على الأقل بيننا.
لم يفارقني وجهه، صوته، تصرفاته الصبيانية، ملابسه البدائية الترابية الألوان، صدره المفتوح دوما، يذكرني ببئر مسعود، أود أن ألقي به أمنياتي، أقبلها، وألقيها، أو أتمنى القفز كالأطفال لأعبر فتحته الضيقة لبحره الممتد، أقابل سيرابيس بالأسفل، أشكره على منحته رحلته، والتي صارت محنتي.
كانت المحاضرات هي ساحتي، ما إن تبدأ حتى أحلق بسماء القاعة، أحدثه فنا وشعرا ونحتا ورسما، حتى رأيته بين الحضور، ابتسمت، وجاءتني ابتسامته بسيطة، شقية، ساحرة.
وبدأ ديبوسي عزفه في أذني، وأنا أرقص بالقاعة، تراقصني نظراته، تجذبني، تحيطني، تدور بي، وأدور بها، جسور تبنيها العيون، أعبرها إليه، يعبرها لي، وأسفلنا نهر الحياة، يبدأ من حيث لا بداية، وينتهي حيث لا نهاية.
تحدثنا يومها قليلا، سألته عن لوحاته الزفت، دعاني لرؤية ورشته حيث يرسم، أعطاني عنوانه، عام كامل، يدعوني وأردد: «إن شاء الله.» مجموعة من الجمل البسيطة تبدأ بدعوته وتنتهي بتقديمي المشيئة، عام كامل أحاول أن أقاوم رغبتي، وأود أن أشعر اهتمامه، هل حقا رآني؟ كان واضحا عليه أنه شقي لعوب، لم يكن يعنيني أن يكون لي وحدي، بقدر ما تمنيت أن يكون لي فيه، ولو جزءا بسيطا، ما بين كل أجزائه، جزء لي وحدي أغلقه خلفي حين أمضي.
هل حان وقت تجاور الأرواح؟ هل يمكن لجزء من روحه مجاورة نصف روحي؟ هل سيقبل نصف حياة؟ هل سأسامحه في نصفه الآخر؟ كانت الأسئلة تفيض وتنحسر، وهو دائما يقف كتمثال ديفيد، لم تكن تفاصيله بكمال التمثال، أضاف أنجلو ملامحه لكنه لم يمسس روحه، لم يبدأه من قطعة حجر، بل كانت البداية من تمثال لم يكتمل، حمل روح عبد الله، ليرفع أنجلو بنيانه، ويخلد ديفيد، ويقدس روح عبد الله.
آن الأوان، أن أقبل زيارته، ديفيد، الواقف بثقة، عاريا، يمد يده ... لي؛ ليصطفي قلبي لجواره، آن الأوان للذهاب، لم أعد أهاب رفقته، قررت الذهاب إليه، بلا موعد.
يد ديفيد
ذرات الغبار العالقة بخيوط النور المنسدلة من باب الشرفة، تصنع خطا مائلا، يبدأ بموضع قدمي وينتهي بكسر صغير أعلى الباب، لسعة صغيرة بقدمي، تعلن موعد الصلاة؛ فخرجت للشرفة، أصلي للبحر، ومن خلفي تصدح ابتهالات ديبوسي، أسقطت ملابسي عني وأنا عائدة لحجرة جدتي حيث أقيم، التقطت فستانا يشبهني، يشبهه أيضا، حذائي الخفيف بيدي، ونزلت السلم فراشة حافية بالكاد تلمس أطرافها سلمات تفصلها عن الطريق، وانتعلت حذائي عند رصيف الوصول.
تركت نسمات البحر تملأ مسام جلدي؛ فأنا الآن على سفر، سائق الأجرة العجوز سألني: «محطة مصر؟» ابتسمت له مؤكدة حدسه، نعم، مصر، حين نزلت لم يقل لي تصحبك السلامة، بل قال تعودين سالمة، أومأت برأسي، وابتسمت شاكرة، تذكرة للقاهرة، وجلسة بجوار النافذة، وقطار المحافظات يقف كلما لمح حائرا بالطريق، قطار الحائرين ينهي رحلته بمحطة مصر، بالقاهرة، وينطلق الحائرون بالعاصمة، لم أكن منهم؛ فقد أنهى البحر حيرتي.
عجوز آخر يقلني لجامع أحمد بن طولون، كادت أنفاسي المتسارعة تحملني لقمة تلك المئذنة الملتفة الصاعدة، راجعت عنوانه، اقتربت من بيت قديم، تطل منه رائحته، رجل ضئيل الحجم يسألني عما أريد، وحين نطقت اسمه، صاح بصوته لأعلى، وأطل وجه عبد الله من سطح البيت، كما هو، يهبط الدرج حافيا، بنطاله الترابي اللون، قميصه الكتاني المفتوح الصدر، مد يده يلتقط يدي، لم يحافظ على مسافة ذراعه بيننا، بل جذبني خلفه، دفعني أمامه، حتى وصلنا لمشغله، لم تكن غرفة بسطح المبنى، بل مبنى صغيرا بسطح المبنى، الموسيقى والفوضى، ثنائي المكان الواضح.
تفضلت كما طلب، عبارات قصيرة، أراقبه بصمتي الكامن، ويراقبني بقلق تلميذ في اختبار مدرسي، ربما لم يكن يعرف الأجوبة، فقرر التحايل ببعض النبيذ، دعاني للبعض منه، لم أشرب من قبل، ولم أرفض يده الممدودة بكأس النبيذ المصنوع منزليا بجنوب أفريقيا، أظهرت بعض الاهتمام، كنت سأظهره لو كان مصنوعا بحي الجمرك بالإسكندرية أيضا، بللت شفتي كما طلب مني، وكأنني ركبت قاطرته، أو ارتديت ملابسه؛ فقد تمدد وجهه، عاد طفلا عبوسا، المحتال الجميل، سألني لم أتيت، وأجبته لأرى لوحاته الزفت، أشار للوحة فوق السرير، دوامة سوداء تبتلع كل شيء، الألوان بدت مستغيثة، والدوامة تسحقها بقوة شفط، وددت لو عرفت كيف تخرج الألوان من الجهة الأخرى، بوابة زمنية تحيي وتميت، ألوانا، وأكوانا، وأزمنة.
سألته كيف تتخلص تلك الألوان من الدوامة السوداء؟ فأجاب بأن تتعرى من نفسها، بدا خبثه الذكوري في رده، لم يعرفني بعد، سألني إن كنت أخجل من العري؟ أعادني لنفسي، أجبته بأن من يتخفون خلف ملابسهم هم من يخجلون مني، ربما فاجأه ردي؛ فأراد نفي تهمة الخجل عنه، قام خالعا ملابسه، وسألني السير على سور السطح، خرج عاريا، وأنا خلفه فلم تكن ملابسي ما تخفيني، ولا قلتها ما يخيفني، انتظرت حتى صعد السور ليمد لي يده، ديفيد، يمد يده، لي أنا.
صعدت، أحاطني، رداء حراري يحيطني، يجعلني أكثر اتزانا، وأنا أسير على السور الحجري، بين يدي ديفيد، ليخيرني بين السقوط خارج السطح وداخله؛ فاجأته باختياري المئذنة، ربما لم يكن ينتظر ردي؛ فقد حملني وقفز بي داخل السطح، يجذبني للداخل مرة أخرى، لميلاد آخر، وبعث آخر، وخلود آخر، كان صمتي صلاة وأنا أرتحل معه عارية، حرة، لم تعد ملابسي تحد فطرتي، لم أشعر بأقل من الحياة، ولن أقبل بأقل منها. - هيا لنرسم. - أنا لا أجيد الرسم، مجرد ...
قاطعني: «لن نستخدم فرشاة.» قبل أن أفهم كانت الألوان المخلوطة بالنفط تغطي جسدي، خلطها، أذابها، وأذابني بين أطيافها، جذبني للأرض فوق ملاءة السرير التي جذبها قبلي.
أعطاني أطباق الألوان أذيبه فيها، وكنت فرشاته وكان سكيني، يحركني فأستجيب، يحركني فأقاوم ، طلب استسلامي؛ فسألته الخضوع لجبروتي، أعجبه لفظ جبروت؛ فطلب أن أجبره على الخضوع، وطلب الاحتفاظ بحق المقاومة، بدا كفارس يرفض الوجبات المجانية، بدا أرقى من وجه المحتال الذي يدعيه، بدا إنساني الأول.
خرجنا بألواننا للسطح، أحتضن المئذنة بعيني، ويحتضنني بذراعيه، تحدثنا، بل تحدث وسمعته، كان لدي دوما ما أقوله، لكنني لم أقل، كنت أفضل الاستماع إليه، وهو ينتقل من حال لحال، ومن قناع لآخر، طلب مني المبيت، راوغته، ودعوته للإسكندرية لأشهد سيرابيس عليه كما أشهد ابن طولون علينا، وبدأ طقسا آخر لإخضاعي، إزالة الألوان، حمام النفط، حمام الصابون، ثم الماء، وكما أذابتني الألوان، أذابني انسحابها، لم أشعر إلى أي حد غرست أظافري في كتفيه، رأيت الدماء تسيل لتزيح الألوان من جسده. - هل تصدقني دكتور مراد؟ - ولم لا أصدقك؟ - لأنني لم أصدقني وقتها.
طلبت منه أن يأتي خلفي إن أراد ذلك، كنت أمنحه الفرصة، الوقت، كنت أريد رؤيته يتحرك من أجلي؛ فلم أكن باحثة عن متعة آمنة، أو مشتاقة للحظة ماجنة، كنت أكتشف جزءا مني، أهملته لعشرين عاما، ولم أكن أثق به وقتها، وربما ما زلت، وكانت رحلة عودتي للإسكندرية هي الأصمت على الإطلاق.
تمنيت كثيرا أن يكون وضيعا، أن يجعلني أندم على زيارته، أن يكون جافا، متسرعا، أو عنيفا، تمنيت أن يترك لي مخرجا، لكنه كان نبيلا، والآن عليه الاختيار بين كأس نبيذ، أو رحلة للإسكندرية، كنت أعرف أنه سيأتي، وأتمنى ألا يفعلها.
كان قطار العودة سريعا كأنفاسي، باردا كأطرافي، يطوف المحافظات، يشعرني بالرحلة، بالعودة للإسكندرية، سيرابيس في انتظاري، لأحكي له أين قضيت ليلتي، سيكون في انتظاري، سأروي له، الآن أخلق مساحتي الجديدة، بعيدا عن الجامعة، بعيدا عن تلك المثيرة للشفقة، بعيدا عن كل شيء، اليوم ولدت، أنا حواء الأولى، وكما بقيت دكتورة أمل، ستبقى حواء، هو يريد، ككل الرجال يريد، لكنه ليس ككل الرجال، هو يحلم بعشتار ويتقمص دور المزارع، وستأتي له عشتار، هو يظن نفسه أريس وينتظر خطط أثينا، سآتيه بكل الخطط، هو يريد فض بكارة العذراوات الثلاث ، هنيئا له فضهن، وهنيئا لي مملكتي.
غرفة جدتي، أمامي بعض الوقت لطقوسي، تركت ملابسي وتحركت باتجاه الشرفة وقدماي تخفيان ملمس أحجار السطح، رجفة تشبه سريان الكهرباء بكل خطوة تخطوها قدمي، سيأتي خلفي قبل أن تتسرب شحناته، لا مجال لها الآن، لا أريد أن أسمع شكواها مرة أخرى، لا أريد لسمها أن يسري بعروقي، هي تفسد كل شيء، أسير حافية للشرفة وهي تلقي بكل أشواكها بطريقي، لكنني سأصل لمناجاة سيرابيس رغم أنفها، تخاف أن أتوقف عن رعايتها، ولم تفكر يوما من يرعاني.
نسمات البحر تتسلل لعظامي، هي ما يطهرني، أقف أمامه وله، لا أشعر بالعار، كان البحر يخصب دمي لعشرين عاما، والآن أحمل سوائل أخرى، نبيذا وعرقا وماء مقدسا، كم أتمناه مدركا لقدسية اللقاء، أتمناه لاهثا للصلاة لا ليفرغ ماءه، أخبرني أيها الملك الإله الغارق، أخبرني يا من مزجت الدم الحار بالبارد، يا من خلطت الحليب بالنبيذ بالماء، أخبرني كيف الطريق، باركني، طهرني له، طهره لي، دعها بعيدا عن هيكلنا.
كان سيرابيس يهمس لي بأنني أعبر نهرا من نار على جسر من ماء، لم أفهم لكنني شعرت قلقه، قلق الأب على طفلته، لا تقلق أبتاه؛ فما زلت ابنتك، تمن لي الكثير من الحظ؛ فأنا الآن على موعد بمحطة قطار، وسآتيك به، أو أعود وحيدة أقبل يديك.
نزلت مرة أخرى وقد غسلتني نسماته، هكذا أولد كل يوم، كنت في اتجاه محطة مصر، لكن هاتفا راودني لأذهب لمحطة سيدي جابر، وقد فعلت، وقفت بباب المحطة، دقائق على وصول القطار التالي، دقائق ويأتي أو لا يأتي، مددت يدي مصافحة، تعلق بها كطفل وجد أمه، سار بجواري غير معني بالكون؛ فهو الآن بحمايتي، يجعلني أبتسم بصبيانيته، ما أروع شيطنة الملائكة! حتى لو كان شيطانا؛ فهو شيطان ظريف يستحق اللهو بحضرة الملائكة، لم تنته مفاجآته، طلب مني سكينا! - هل تصدق دكتور؟ سكينا!
سألته هل ستقتلني بتلك السرعة؟ وددت معرفة ما يريد، حسنا سآتيه بواحدة، تركته، وأحضرت سكينا من بوفيه المحطة، عدت إليه بها، لمحت سعادته في عينيه، طفل هو فرح بسكاكري، وسكيني، لا ينتهي عقله أبدا من مداعبة وجداني، حدق في عيني وطلب أن أشق كفه بصليب يدمى، لم أتردد، لم أفكر، شققته، لم يتألم، لم ترتجف يده، أخذ السكين بالأخرى وقال لي دورك الآن، ماذا يفعل هذا العاشق المجنون؟ مددت يدي، شقها، وخلطنا دمانا، لا أصدق ما فعله للتو، تزوجنا، يا إلهي! أنا الآن زوجته، رباط الدم يجمعنا.
لماذا لم ينتظر؟ هل سيغضب مني سيرابيس؟ سيتفهم الأمر، لن يغار أيهما من الآخر، الآن تسري دماه في عروقي، تسحق في طريقها ما تصلب بجدران أوعيتي، دماء زكية، تطرد سمومها، مصل الحياة، توقفنا في الطريق، ليأتي ببعض النبيذ، لم يبق لنا من مقدسات السوائل غير الحليب، سأحممه به، وأخلطه بالنبيذ والعرق والدماء، هو لم يسألني التربع بعرشي، بل تربع، لم يطلب مني الزواج، بل تزوجني، لم يحاول أسري، بل أسرني، أريد العودة سريعا لأخبره، سيفرح لي، سينتهي قلقه على صغيرته، كنت أخفي سعادتي، ابتسامة ثابتة، كنت أريد أن أعرف المزيد مما يخفيه عني، وما يخفيه لي.
تعرف سريعا على شقة جدتي، قادتنا الأرواح المسترخية لشرفة سيرابيس، مرة أخرى، يسقط ملابسي، لأصلي، وأطلب بركته، يهمس بأذني الآن يمكنك الصلاة، إنه يعرف كل شيء، عفوا سيرابيس؛ فلن تكون صلاتي الآن لك، هو من يستحق اليوم الترقي لمراتب الآلهة، تجاوز كل الاختبارات، ولم يبق سوى الاختبار الأخير بمذبحي المقدس، سأمدده كقربان لي، وأمنحه روحي قربانا له، ستحيا ملايين الأرواح بأناتي والروح تغادرني لجسده، وسترشد عودتها كل الأرواح التائهة، ستحرق صرخاته الشياطين، ونيرانه تحيل مائي أثيرا كونيا، لن ينطفئ هذا اللهيب، حلقنا سويا حول الشجرة المقدسة، أغنيته عن تذوقها، تجاوزنا سيرابيس الغارق في عمق الأرض، وعلونا فوق كل آلهة الشمس، حتى أصابنا الوهن؛ فجلسنا في حضرة سيرابيس، كان يخفي ثورته، وكان عبد الله يتفاخر بإرثه، ابتسم له، ابتسمت لهما، أعرف تلك الذكورة، أعرف فيما يفكر كل منهما، الآن لم أعد وحدي؛ فبداخلي روحان، وبجسده روحي، وخلاصنا خلود وخلودنا خلاص، أشعلت النار وقمت بشي اللحم أغمره بالنبيذ وأعطره بدمانا، دماء الآلهة.
ما للبحر
أستطيع العيش بمفردي، صدقتها لسنوات، عشتها لسنوات، كانت أكبر مخاوفي تسللها ليلا لتغمرني برائحتها، وتغطيني بثيابها، أستطيع العيش بمفردي، أنثى كاملة، ما عاد بي ما يشتهي الرجال، نضب مني كل ما يستجيب لاكتمال القمر، أستطيع النوم بمفردي، صدقت نفسي، وبعد ذهاب عبد الله أدركت وحدتي، أتحسس خطواته بالبيت، أفتش عن رائحته بفراشي لتشعرني ببعض الدفء، أتنفس في وسادتي لترتد إلي أنفاسي محملة بما بقي بها من رائحته، لم ينضب معيني، لم تكتمل حاجتي، لم تغلق مسام أنوثتي؛ فما زلت امرأة.
لكنها لم تتوقف، كانت تطل بأمورها كي لا تستقر أموري، لم تكن تقدر حضرة الصمت.
صمتي، تقطعه دوما، بصمتها الحاد، بنظرتها الباردة، بجمودها، بحضورها الجاف، بكل خلوها من الحياة، تحتاج الآن الخروج مني ودون رغبتي، لتذهب لمشافي أبيها، لا لشيء إلا لإفساد أمري، كان يمكنها الانتظار حتى موعد عودتي للقاهرة كما اعتدنا تنظيم أمورنا، لكنها لم تنتظر، لم تتحمل سعادتي، أرادت رؤية المنتظر، لم أكن راضية عن خروجها تلك المرة، ينقبض قلبي كلما اقترب خروجها، ستفسد كل شيء.
خرجت أمل مني، أنهت زياراتها وعادت دون تأخير، لكنه كان بانتظاري، عاد لي، لم يقو على فراقي، عبر الطريق لي، كان قادما ليهمس لي وعدا، ليجدد الدماء بجرحينا، يشتاقني كما أشتاقه، لكنني لم أكن بانتظاره، كانت هي، وكانت صدمته، ليس غبيا، عرف كل شيء، لاحقها عند مدخل البناية، لم تتعرف عليه، لم يتعرف عليها، هو كاد يفقد عقله، وهي رق قلبها، وتحرك بداخلها ما لم تعرف من قبل بوجوده، وبين دهشته وطمعها، بين عشقه ورغبتها، سقطت أنا من بين آلهة الأوليمبس إلى ساحات المجاذيب، سيشفق، سيعطف، وفي النهاية سينصحني بالعلاج، أو ربما يهرب من البداية، نعم سيهرب؛ فلا أحد يحتاج لتلك المختلة في حياته، خصوصا عبد الله، الفيلسوف البدائي والمحتال الجميل.
صعدت هي ودخلت غرفتها لتترك لي جسدها برائحتها النفاذة، خلعت ملابسها المبالغ فيها، النبيذ والموسيقى وبكاء صامت للرجل الذي عشقته ، ثم فقدته، حدثت سيرابيس، توسلت له أن يتدخل، لم يجبني، مزيد من النبيذ ومزيد من الموسيقى، يتحول كل شيء لطنين يتدفق لرأسي، يملؤها، صار الإيقاع يشبه مصنعا للنسيج، آلاف الدقات المتتابعة، سنون وخيوط، تتشابك، تتعقد، لا أحتمل صوتها، تحيطني، تمنعني من التنفس، لم أعد أفكر إلا في وسادتها، أردت أن أخفي رأسي بوسادتها.
أفقت في غرفة جدتي، وبجواري كتاب يبعث الدفء في فراشي، لا أذكر أني قرأت منه شيئا، وددت لو أتركها هنا وأذهب، لكنها ارتدتني قبل ملابسها وعادت لأمها بالقاهرة، تسللت منها، لم تكن هي الأقوى، بل صرت أنا الأضعف، ذهبت لصومعته ولم أجده، عبثت بأشيائه، شربت، تنفست فراشه، ملابسه، ثم نزلت، سألت البواب متى سيعود؟ فذهب لجوار المبنى، نظر هناك ثم عاد قائلا لن يتأخر، سألته ما الذي رآه بجوار المبنى؛ فأجابني: «ما دامت السيارة هنا فلن يتأخر الدكتور عبد الله.» سيارة؟ هل يملك عبد الله سيارة؟ شكرته وذهبت وسرت حيث كان ينظر، إنها سيارة فارهة، لا تتناسب وبدائيته، لم أعد أفهم شيئا، عدت لها بالكثير من الضعف والمزيد من اليأس.
ليس الغذاء الصحي والنوم المنتظم، ليس الهواء النظيف والتعرض للشمس، ليست تلك الأسباب مجتمعة أو منفردة ما تجعل أرواحنا تنتشي، أريد استعادة قوتي، تمر أساطير التاريخ والفن أمامي وتختفي قبل أن تخبرني عبرتها، لم أقبل يوما بعودة الأمور لأصلها؛ فأنا أصل الأمور وفرعها، أنا النقطة التي بدأت كل شيء، أنا المبتدأ لكل خبر، لكني الآن متعبة، فقط متعبة، سأستريح قليلا وأتركها، ستتعثر، ستخطئ، ستضعف، وأزداد قوة.
لم أكن أتوقع أن يأتي خلفها، نعم هو كاذب ومخادع، أعرف جيدا، حتى ما يردده من أساطير الإغريق، أعرف جيدا أنه يحتفظ بكتاب للديانة الإغريقية في مكان ما ويأتي بما يناسب الحدث دوما، أقسم أنه لا يستطيع سرد آلهة الأوليمبس أو حتى يعرف عددهم، لكنه يعجبني، نعم يعجبني كما هو، والآن أتى خلفها! لم أكن أتصور أن يصل ذوقه لتلك الدجاجة المذعورة من كل شيء، هي لا تعرف شيئا عنه، تخدعها نظراته الثاقبة، الحالمة، الجريئة، الحزينة، المشرقة، ومن لا ينخدع بكل هذا التناقض؟! ومن لا ينجذب لكل هذا التضاد؟!
لا شيء يدعو للخوف من المستقبل، هكذا ظننت دوما، أن الخوف كل الخوف من الماضي، ولم أكن أخاف؛ فليس لي ماض أخشاه، الجامعة، التدريس، الأبحاث، النجاح، أشياء لا تخيف، لكنني أيضا لم أكن أنوي التورط، لا أظنني تورطت حقا فيه، ظننت أنه سيختفي، سيعتبرني مغامرة أخرى، لن يقف عندي، لن يتحمل ظهوري واختفائي، لن يتحمل تقلبات بحري المالح، لن يفهم أن ما للبحر للبحر، ومن يجيء البحر طافيا يمكنه العودة، أما ما يبلعه البحر فلا يخرج إلا بإذن البحر.
من أطلق الريح العاصفة؟ فضوله؟ طمعها؟ أم حديث سناء العجوز الثرثارة؟ تحدثت معه عن كل شيء، وكلما عرف أكثر هاجت أمواجي، وتقلبت رمال القاع، لتلفظ الأمواج بقايا عشرات السفن الغارقة، صارت مياهي عكرة، ومغرقة، ولم يعد السكون والاختفاء مجديا، يجب أن أقابله الآن، أواجهه بكل شيء، وعليه أن يختار بين الحياة بصومعته الآمنة، بمغامراته النسائية، ولوحاته الرديئة، وأحاديثه الساحرة، وبين حياة بين السطح والقاع، عليه أن يختار بيتا وزوجة أو يختار قاربا يدفعه شراعه فوق الأمواج؛ فيحل حيث تقف الريح وينطلق حيث تحمله الأمواج.
عاد النور يطل منها، هي تعود طفلة وأنا يصيبني العجز، هي تحبه، وماذا عنه؟ هو لا يعرف الحقيقة، يملك أجزاء مبعثرة منها، له حق الاختيار، له حق المعرفة، أما أنا فلم أعد أملك إلا قرارا إما بتركهما وإما التمسك بالحياة، لم يعد الأمر هو، لم يعد هي، بل الآن كل شيء يتعلق بي أنا، حياتي أنا، لا يمكنني الاستغناء الآن عني، لا يمكنني الاختباء بوسادتها، لن أحاول إجباره، ولن أحاول إيذاءها، سأتمسك فقط بحقي في الحياة، وأرجو ألا تحملني الضرورات على فعل محظورات أخشى إفشاءها يوما ما.
لم يكن الخروج منها بتلك الصعوبة يوما، لكنها معركة بقائي ويجب التحمل، خرجت شاحبة، تلاحقني دعوات العجوز الثرثارة سناء: «ستتزوج ويمتلئ بطنها بطفل يفضح قصتك.» تعرف الكثير تلك العجوز، كم أتمنى أن تختفي تلك المرأة، ابتسمت لها: «نهارك سعيد.» وانطلقت لبيت عبد الله، نظرة باهتة لبوابه المرحب دائما، وبدأت الصعود لسطح المبنى، وكلما صعدت سلمة شممت رائحتها، خلعت حذائي بالطابق الأول لأتحسس الأحجار بقدمي، لم يكن ملمسها كما كان، كانت أكثر خشونة، نعم أكثر خشونة، تحسست الجدران، طمأنتني قليلا، ما زلت هنا، وإن لفظتني الأرض فما زالت الجدران تحتضنني.
وصلت أخيرا لحيث بدأ كل شيء، لم يكن موجودا، قررت انتظاره، حاولت التصرف بحرية، خلعت ملابسي، أدرت بعض الموسيقى، المكان بارد، رائحتهم سويا تمتص الدفء، تنشر البرودة، بعض النبيذ قد يفيد، سيشعل حرارتي ويشعها في المكان، سيطرد لهيبي برودتها، وتبقى رائحتي له، تلف عريه وتغمره، أردت العبث قليلا بأسراره، أين أبحث؟ أو عم أبحث؟ لا أعرف من أين أبدأ؛ فليس لديه غرفة مغلقة.
أوراق، لوحات ناقصة وأخرى مكتملة، مسودات كتب لم تكتمل، وكتب ذيلها اسمه «الدكتور عبد الله مسعود؛ أستاذ الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة» خزانة ملابسه، ألوانه الترابية، رائحة عطره، كنت ألامس قمصانه المعلقة، أفتح أزرارها وأرى صدره خلفها، كم أشتاق النوم برحاب صدره، أزحت بعض القمصان ودخلت خزانة الملابس، أردت الرقص بين ثيابه، أردت النوم، جلست بأرضية الخزانة وأسندت ظهري إلى ظهرها، ألقيت رأسي للوراء، ارتطم بشيء معدني، التفت، إنه مقبض، أثار فضولي ففتحته، يا إلهي! خزانة أخرى، أضاءت حين فتحتها، بحجم غرفة متوسطة، ملابس رسمية، رابطات عنق، أحذية فاخرة، قمصان وجوارب حريرية، حقائب أوراق جلدية، ابتلعت دهشتي بصعوبة، بدت لي خزانة ملابس السيد عبد الله مسعود، ليس دكتور عبد الله الذي أعرفه، بل صاحب السيارة الفارهة.
تجولت قليلا بخزانة الملابس ثم فتحت الحقائب الجلدية، أوراق قانونية، قضايا متعددة، جميعها تحمل اسم «مكتب حسين مسعود؛ المحامي» مكتب والده، احتفظت ببطاقة بها عنوان المكتب بالإسكندرية تحمل اسم عبد الله مسعود «رئيس مجلس الإدارة» هو إذن صاحب الخزانة الفاخرة، لكن لم أفهم؛ لماذا يخفي ذلك عني؟ أعدت كل شيء مكانه وغادرت الخزانة، وغادرت المكان ومعي بطاقة المكتب.
نزلت السلم سعيدة، حييت البواب العجوز بابتسامة وانطلقت، هو أيضا لديه سر، لم تعد معركة بقاء، ستكون جلسة مصارحة، سأذهب لمكتبه، سأنتظر وصوله بملابسه الرسمية وسيارته الفارهة ثم أدخل إليه، لن يتمكن من المراوغة، سأسامحه على ما أخفاه، سأتفهم أسبابه أيا كانت، وسأصارحه أيضا، سيتفهم، سيسامحني، سيقبلني كما أنا، وسأقبله كما هو، لن يكون لها مكان بيننا مرة أخرى، يكفيها وسادتها وأمها وجارتها الثرثارة، يكفيها إدارة مشافي أبيها وصراعات أعمامها المادية، ويكفيني عبد الله.
حقيقة وادعاء
أوقف الدكتور أحمد مسجلة الصوت ناظرا لأمل نظرة ودودة. «هل انتهيت دكتور؟» سألته أمل، ابتسم لها مجيبا: «بل أريد رؤيتك مرة أخرى، وأثق أنه ما زال لديك الكثير لتخبريني به، فهل تعدينني بالمواظبة على زيارتي؟» - لينتهي الأمر باختفائي من الوجود؟ - ربما سينتهي الأمر بشفاء عبد الله [قالها بابتسامة]. - حسنا دكتور، أعدك بزيارة أخرى وبعدها نرى. - إجابة مرضية، حسنا دكتور أمل، إلى اللقاء إذن.
خرج الدكتور أحمد بصحبة أمل إلى صالة الانتظار بعيادته، طمأن عبد الله أن كل شيء سيكون على ما يرام واتفقا على الزيارة التالية، وعاد لمكتبه، أغلق الباب وأشعل غليونه وأعاد الاستماع لمسجلة الصوت وبيده غليونه ودفتر ملاحظاته. •••
سارا سويا، عبد الله وأمل، كانت تحرك أناملها بحثا عن يده، دون أن تهتز ذراعها، لم تجدها، شعرت بالبرد، الوحدة، الخوف، لم تكن أستاذة تاريخ الفن، لم تكن أيضا الهاربة تحت وسادتها، كانت مجرد طفلة خائفة، أما عبد الله فقد كان يتساءل أي أمل التي تسير بجواره، ما زالت بملابس أرتيميس ربة القمر، لكنه لا يدري ما جرى عند الدكتور أحمد مراد، هل ما زالت هي؟ أم الآن هي أرتيميس إلهة الصيد؟ هو يعرف من هي من عينيها، لكنه لم يقو على النظر إليهما، أيا من تكن هي الآن فلا بد أنها تحتاج لمزيد من الاطمئنان بعد هذا اليوم الطويل وتلك التجربة الغريبة، أحاطها بذراعه وضم كتفها براحته، لم تنطق أمل، بل استراحت لراحته، وهدأت بضمته. - هل أنت بخير؟ [سأل عبد الله]. - [تنهدت أمل] ظننتك لن تسأل أبدا. - [ابتسم عبد الله] حقا؟ - أنا بخير الآن، لكن لا أعرف من سأكون غدا، هل تريد حقا أن أختفي، وتفضل البقاء معها؟ - تختفي؟ كلا أمل، أريد أن تكوني بخير؛ فلا أطيق هذا الصراع بداخلك. [تردد قليلا ثم أضاف] أما هي فهي منك لا أعتقد أن أحدا سيختفي، ربما ستصل كل منكما لمعرفة أنها نصف الأخرى وينتهي الأمر بتقبل النصفين كليهما، وتتوج إلهة الصيد باكتمال القمر. - هل درست علم النفس، أم تتعامل معه بنفس طريقتك في التعامل مع لوحاتك الزفت؟
قالتها أمل ثم أطلقت ضحكة شقية؛ فقبل رأسها ولم يرد، أضاءت قبلته في رأسها آلاف الأفكار، هو يريد كل شيء، لم يكتف بأي منهما، بل يسعى الآن لمزجهما سويا ليحصل على عدة نساء في كأس واحدة، حقا، عليه أن يبذل جهدا أكبر في دراسة نظرية الألوان؛ فالألوان الأصيلة لا يمكن تركيبها بالمزج، والألوان الممزوجة مهما صفت درجاتها، تظل نقاوتها تقاس بنسبة الألوان الأصيلة بها، لكنه لئيم أيضا؛ فاللون المركب لا يمكن إعادته لمكوناته الأصلية مرة أخرى، استعادت ما قاله الطبيب، وطابقت كل شيء برأسها، ما يراه العلم شفاء هو منتهى الموت لها، فلن تكون أرتيميس إلهة الصيد، ولن تكون أرتيميس ربة القمر، بل قد تصبح أفروديت، أو ربما هيرا، تمتمت لنفسها: «المهم ألا يحولني شفاؤهم المزعوم لأبولو.» - هل تؤمن بالتعددية؟ [سألت أمل]. - تعددية؟ عم تتحدثين حبيبتي؟ - لا شيء، كنت أفكر في الأوليمبس، وكيف قبل الناس فكرة الآلهة المتخصصة، التي يبدو أنك مغرم بها.
ابتسم لها عبد الله وشعر بخبث السؤال؛ فهو يعرف إلى أين سيقود، ويعرف أيضا الآن بلا شك أنها أرتيميس إلهة الصيد، أمل خطاب أستاذة تاريخ الفن، وهي الآن تبدأ معركة أزلية بين التاريخ والفلسفة، فقرر أن يعطيها ما ترغب به دون أن يخسر معركته؛ فأجابها: حسنا، الفكرة ببساطة أننا حين نرى الجسد، فنرى العين لها وظيفة الرؤية دون السمع، والأذن لها وظيفة السمع دون التنفس، والفم يجمع وظيفة الكلام والتذوق وهكذا، هناك من يمكنه رؤية الصورة كاملة فيرى الجسد الكامل الذي تتوحد فيه كل تلك الأعضاء، ويتمكن من استيعاب تعدد الوظائف في الجسد الواحد، وهناك من لا يمكنه ذلك، فيرى كل عضو مختلفا عن الآخر باختلاف وظيفته، وربما يراه منفصلا أيضا، وفي الحضارات القديمة هناك من قبل أن الإله هو النور الذي يضيء وهو النار التي تحرق، وفهم كيف يكون المنقذ هو ذاته المنتقم، ومنهم من لم يقبل تعدد وظائف الإله، ولكي يتمكن من التعامل مع ظواهر الطبيعة فصل الأعضاء في عقله بوظائفها، ثم تعقدت الأمور أكثر في محاولة تبسيطها، لكن هل ثبت تاريخيا أن أحدا قد قابل أيا من هؤلاء الآلهة؟ - وكيف يقابلها؟ هل سمعت أن أحدا خرج مع عين أو تزوج من أذن؟
لم تعر أمل أي اهتمام لما قاله عبد الله، أدركت أنها لن تتمكن من مجاراته؛ فهو لا يبدأ الحديث قبل تأكده من منتهاه، وكما انتهت محاضرة الفلسفة التي ألقاها، انتهى مشوارهما عند بيت جدتها، صعدا سويا كعاشقين تتعانق أرواحهما في صعود مستمر، لم تتوقف نشوتها، ولم تتوقف أفكارها عن مصير لن تعرف فيه من ستكون، وبقي لها سؤال لم تتمكن من إجابته، هل تصارحه بما تعرفه عنه؟ هل تخاطر الآن وتكاشفه بكل شيء؟ أم تترك الأمر للدكتور مراد؟
جلس عبد الله بالبهو واختفت أمل بالداخل، إلى أين ستصل به أرتيميس؟ كانت الحياة أكثر انسيابا قبل مقابلتها، كان يستمتع بها، لديه ما يكفيه لتجنب مشاكلها، لم يهتم لأمر أحد من قبل، حتى نجاحه الأكاديمي جزء من متعته الذاتية الساخرة من كل شيء، كان ينظر لباب المنزل ويفكر أن يغادر الآن وينسى كل شيء، هو ليس الشخص الذي يسمح لنفسه بالتورط في امرأة، فكيف يترك نفسه ليتورط في امرأتين؟ كانت المسافة بين جلسته والباب هي المشوار الأطول في حياته حتى الآن، لا يعرف كيف يقطعها، عليه تجاوز إلهة الصيد برائحة الغابات المطلة من بشرتها، وعليه تجاوز ربة القمر، بملابسها الاحتفالية، بخجلها وطفولتها، عليه التحرك الآن، قام من جلسته، وتحرك نحو الباب، وقد اتخذ قراره، لم تكن المسافة بهذا الطول الذي تخيله، لم تكن أيضا بتلك الصعوبة، أمسك المقبض، وهو يديره، استوقفه صوت أمل. - هل اندمل جرحك؟
نظر إليها متسائلا فنظرت لكفها، وكررت سؤالها: «جرحك، هل اندمل؟» نظر بدوره لكفه، هي تذكره بعقد بينهما، البعض من دماها يجري في عروقه، والبعض من دماه يجري في عروقها، لو تأخرت لحظة، لو لم تذكر الأمر لكان الآن حرا، بدا له أنه لن يتركها أبدا.
فترك مقبض الباب وعاد إليها ناظرا لكفه.
أمل، أمل، أمل، لم تكن مضطربة كما كانت قبل الذهاب للطبيب، ما زالت هي إلهة الصيد أيضا، لم تتحدث عما دار بالعيادة، لم تعد تقاوم، هل شفيت في زيارة واحدة؟ حافية عارية، بلونها الذهبي، تتطلع إليه، وهو يحدث نفسه، أنهى حديث نفسه فقد كانت روحه متعطشة الآن، لتسكن قليلا، لتحلق بربوعها، لم يعد يجدي الإنكار.
لم يكن توحدهما تلك المرة ككل مرة، لم تكن معركة إطلاق الأرواح، بل كانت معركة تعذيبها، تقويضها، كلاهما يحاول إخضاع الآخر، كلاهما يحاول احتلال الآخر، لم يستسلم أحد، ولم ينتصر أحد، بل خارت قواهما من الألم والنشوة، من العشق والتحدي، سقطا سويا، غرقا في عرقهما وتلحفا أنفاسهما اللاهثة.
مرق سهم الليل فوق رأسيهما واختفى، داعبت الشمس جدران الحجرة، صبغتها بطلاء ذهبي، ينامان بقدس الأقداس، ببيت الشمس، لم توقظ عبد الله الشمس ببهائها، أيقظت أمل لتجد نفسها عارية تحت ذراع عبد الله، انسلتت من ذراعه كالأفعى، لم توقظه حركتها السريعة بل أفاق على شهقتها، يفتح عينيه بصعوبة ليجد أمل مذعورة تسحب من فوقه الغطاء لتغطي جسدها العاري، فتخجل من عريه فتعيد الغطاء مرة أخرى، مد يده ليهدئها فهربت من يده والتصقت بمرآة الفراش وكادت تصرخ، اعتدل عبد الله جالسا وما زالت عيناه نصف مغمضة. - حسنا، ماذا حدث؟
سألها عبد الله بصوت مخنوق دفعها للانفجار. - لا تعرف ماذا حدث؟ لا تعرف؟ أنت خائن، هذا ما حدث. - خائن؟ عم تتحدثين؟ اهدئي صغيرتي فلم يحدث شيء. - صغيرتك؟ لا، لست صغيرتك، ولست عاهرتك أيضا، ربما كانت هي، أما أنا فقد وثقت بك وذهبت معك للطبيب، لأجدك عاريا في فراشي، وأنا أيضا. - أمل؟!
بدأت أمل في البكاء، بكاء من لا حول له فيما يحدث له، أمسك يدها ولم يستجب لمقاومتها، جذبها إليه برفق وهي ترتجف، ضمها لصدره؛ فأخفت وجهها في صدره وحممته بدموعها، أخذ يربت على ظهرها كمن يطمئن طفلة استيقظت على كابوس ويهدئها لتعاود النوم، قبل رأسها راجيا إياها أن تهدأ، ظلا هكذا حتى هدأت قليلا وبدأت في الحديث باكية ولم ترفع رأسها من على صدره: أغار عليك، هل تفهم؟ أغار، لا أريد أن أعرف ما تفعلانه سويا، فقط لا أريد أن أعرف، لماذا لم تفكر في أنا؟ أنا عارية بين أحضانك ولم أقربك، عارية وأعرف أنك كنت معها، ماذا تنتظر مني؟ أن أسألك هل استمتعت معها؟ هل أسعدتك؟ هل أمتعتها؟ أنت لم تقدر ضعفي، لم ترحم مرضي، أنت تشبع رغباتك مع من تجدها منا، هي لا يعنيها الأمر؛ ففي النهاية أنا من يدفع ثمن كل شيء، لو تركت في أحشائها طفلا، أنا من ستعاني وهن الحمل وشر الفضيحة، ستتوارى هي وقتها، ستتركني، وربما أنت أيضا [وأجهشت مرة أخرى بالبكاء].
قبل رأسها وضمها ضمة قوية، يدرك ما تعانيه؛ فلم تكن هي من كانت برفقته بالأمس، هي الآن أرتيميس ربة القمر، وتظنه يخونها مع أرتيميس إلهة الصيد، تعرف أنه أنهك جسدها ولم يمس روحها، لم تكن حاضرة، كان يفكر أن يطلب منها الذهاب لحجرتها، لكن فكرة راودته، هل ما يحدث حقيقة، أم أن الأمر برمته خدعة كبيرة تهدف للإيقاع به؟ أزعجه خاطره، لن يغفر لها، لهما، إن كانتا متآمرتين عليه، أيقظت الفكرة ذكورته، تردد بين إكمال ما بدآه بالأمس والخروج من الحجرة.
الجانب الآخر من النهر
تركها عبد الله نائمة، وخرج بهدوء وأمامه وجهة واحدة، عيادة الدكتور أحمد، كان يحتاج لمقابلة منفردة، كان يحتاج ليعرف كل شيء، هل ستشفى أمل؟ هل ستصبح امرأة واحدة؟ هل يمكن أن تتطور حالتها؟ تتدهور؟ وفي مستقر حيرته، كان هناك سؤال يحاول التخفي، هل يريدها أن تشفى؟ «الخوف، هو المصدر الحقيقي للاضطراب، المصدر الأصيل، هو ما يدفع الإنسان لبناء أسواره، والتحصن خلف دروعه، هو الحاجة للمنطقة المريحة الآمنة، وكلما زاد الخوف ارتفعت الأسوار وقويت الدروع، كلما زاد الخوف تزداد القدرة على الادعاء، أو الإنكار.
يتعامل الجسم كيميائيا مع الخوف كما يتعامل مع المفاجأة، بالأدرنالين؛ لأنه يرى كليهما حدثا عارضا، وحين لا يصبح عارضا تكون هناك مشكلة، سلسلة قد لا تنتهي من الاضطرابات، وحين تعجز النفس عن مواجهة الخوف؛ فإنها تلجأ للحيلة، تحتال عليه، أو تحتال على ذاتها لإنكاره.»
أنهى دكتور أحمد مراد حديثه بابتسامة ولم يدرك أن عبد الله لم يأت إليه ليستمع لمقدمة علم النفس.
لم يدرك أن زائره يطمع في أكثر من هذا بكثير. - حسنا دكتور، أريد أن أعرف ماذا بها؟ وهل يمكن أن تشفى مما هي فيه؟ - ماذا تظن دكتور عبد الله علتها؟ - جئت هنا لأسألك دكتور مراد، ومع ذلك أعتقد أنها تعاني من ازدواج الشخصية؛ ففعليا أنا أتعامل مع اثنتين، أرتيميس إلهة الصيد، وأرتيميس ربة القمر. - وأيهما تصدق أنت؟ - كلما اقتربت أكثر أصدق أكثر، لكنني في مأزق؛ فكلتاهما تتهمني بالخيانة. - هذا حقيقي. - ماذا تقصد؟ - إن كانتا شخصيتين؛ فأنت حقا خائن للاثنتين، أو ربما يلائم الوضع شخصيتك أكثر، بكل الأحوال هي ليست الوحيدة التي تحتاج المساعدة؛ فجميعنا بحاجة لها.
لم تعجب عبد الله لهجة الدكتور أحمد، شعر بأنه متهم.
استمر الحديث طويلا بينهما، وبعد انصراف عبد الله، أعاد الطبيب كل حساباته، باتت شخصية عبد الله أكثر وضوحا الآن، يعرفها جيدا، لم يتعمد إثارته لكنه يدرك جيدا ما يدور بذهنه الآن، وصار الأمر أكثر تعقيدا.
أدار الدكتور أحمد بعض الموسيقى وأعد قهوته، أشعل غليونه وفتح ملف أمل مرة أخرى، يتذكر الدكتور إسماعيل خطاب جيدا، كان طبيبا بارعا، «المريض يظن أنه يعرف علته.» كانت تلك مقولته الشهيرة، المريض يظن أنه يعرف، ربما كان هذا الظن أكبر مصاعب التشخيص؛ فظن المريض يضلله ويضلل طبيبه، لكن الأمراض النفسية تختلف عن العضوية، أمل لا تظن؛ فهي بقدر مقاومتها تدرك أنها بحاجة للمساعدة، هي حقا لا تعرف ما بها. •••
دخلت أمل غرفة الدكتور أحمد مراد هادئة، أمل التي يسميها عبد الله بإلهة الصيد، أستاذة تاريخ الفن، بملابسها البسيطة الفاتنة، وحقيبة نسائية صغيرة انتقلت من يدها اليمنى لليسرى لتسلم عليه، رحب بها، دعاها للجلوس، وأعد القهوة وأشعل الغليون وأدار مسجلته، طقوس تعرفها أمل، وتعرف أن دورها الآن في الحديث، بقدر ما عليها البوح بما يدور في عقلها، بقدر ما تبتغي أجوبة عن مصيرها. - لدي اعتراف دكتور مراد. - لم تتناولي العقاقير [قالها مبتسما]. - نعم، لكن كيف عرفت؟ - لا يهم، لكن كيف لم تتناوله هي؟ - في الحقيقة كنت خائفة أن تتناوله فاستبدلت جميع الأقراص بأقراص المقويات والفيتامين.
ابتسم لها الطبيب، وكانت ابتسامته مرساة لمخاوفها، هدأ خوفها، وتزايدت حيرتها حول مصيرها؛ ففي تلك اللحظة لم تعد مستعدة لتلك المعايشة السلمية، تريد أن تعرف كل النتائج.
حاولت الوقوف على نتيجة ترضيها، لم يكن ليرضيها سوى العيش ببيت جدتها بالإسكندرية.
يكفيها سيرابيس الغارق أمامها، حتى عبد الله لم تعد تفهمه، طال صمتها أمام ابتسامته.
فأوقف المسجلة. - ما رأيك أن نشرب القهوة قبل أن نبدأ؟ - حسنا دكتور هذا يريحني أكثر.
فكيف يريدونها أن ترحل وتترك كل شيء؟ وهل ستغتسل الأخرى من أثرها؟ كلا؛ فهي من تحتاج للاغتسال من آثار الأخرى، هل سيتحمل عبد الله إحداهما بمفردها كثيرا؟ لا تظن؛ فهي تعتقد أنه بدأ الاستمتاع بالتبديل على أوتارهما.
شعرت أن صمتها قد طال رغم رحابة صدر الطبيب وابتسامته الهادئة، طلبت منه إدارة مسجلته لتبدأ الجلسة؛ فاعتدلت في جلستها ولم تنتظر أن يسألها. - وعدتك بالحديث عن عبد الله، وسأفي بوعدي، لكن هناك ما لم أفهمه، في البداية كان لدي سر أخفيه، سر وجودها، أو وجودي، أو وجودنا سويا، كنت أظن أنه بإمكاننا الحياة بهذا الشكل طويلا، حتى بعد مقابلة عبد الله، كشف سري وكشفت سره، واجهني ولم أواجهه، وسعى لعلاجي ولم أفعل، كيف رضيت أنا بسره ولم يرضه سري؟ كيف تصورت الحياة بوجوهنا ووجودنا الأربعة، وأراد هو الاحتفاظ بسره؟ وحين قابلتك، لم أعد أعرف هل أنا الحقيقية التي ستبقى، أم أنا الوهم الذي ستفيق منه الأخرى، ربما دفعني هذا للقدوم اليوم، ليس لمعرفة حقيقتي فقط، بل لمعرفة حقيقة عبد الله، هل هو مثلي حائر لا يعرف حقيقة وجوده أم أن الأمر برمته لا يعنيه؟ - سنتحدث عن عبد الله كثيرا، لكن أريد أن تطمئني؛ فكلما زادت رغبتك في الشفاء كان وشيكا، سأجيب أسئلتك بعد أن تفرغي من روايتك، أريدك أن تشعري بالراحة ولا تنتقي كلماتك، فقط دعيها تخرج من عقلك كما هي؛ فما زال لدي وأعتقد لديك أيضا الكثير لنعرفه. - هل لي في المزيد من القهوة؟
الإسكندرية، تلك المدينة الساحرة، ميناء الحضارات ومنارتها، بيتي الذي يحتضنه البحر ويحرسه سيرابيس، اليوم يبدو الحذر في أمواجها، ويفوح من نسماتها الترقب، حتى الشمس كانت تطل باستحياء التلصص من خلف تلك الغمامة التي حوت إسكندريتي وعزلتها عن زرقة السماء، كان اليوم رماديا بلمعة فضية، وكنت كما أنا الآن أزيد معطفا بنيا فوق فستاني وبجيبه عنوان عبد الله حسين مسعود، رئيس مجلس الإدارة.
أعرف المكان جيدا، بناية قديمة لكنها فاخرة، تطل مباشرة على البحر، قرب حديقة المنشية، مكان معروف بتجمع أصحاب الأموال لقربه من بناية البورصة، سألني حارس البناية فأخبرته أنني أريد الدكتور عبد الله مسعود؛ فأجاب الأستاذ عبد الله بالطابق الثالث، وفتح لي المصعد الخشبي، لكنني فضلت السلم، شكرته وصعدت، لا يختلف عن سلم بيت جدتي، نفس الجدران المحيطة به، حتى الأبواب لا تختلف كثيرا، التشابه يشعر بالألفة، والألفة كانت أكثر ما أحتاجه.
وصلت لطابق المؤسسة القانونية الضخمة، حركة في كل مكان، تشبه البنوك التي لا أحبها كثيرا، رجال بملابس رسمية وسيدات أيضا، كأنني انتقلت لفيلم أمريكي لا ينقصهم إلا القبعات، وقفت أراقب بعيني خلية النحل القانونية، ويبدو أنني أطلت الوقوف حتى لاحظ البعض وجودي، بدأت الملاحظة بنظرات الاستنكار ربما لا أشبه عملاءهم الأغنياء، كنت واضحة لهم كعشبة ضارة بين أغصان الزهور، بينما كنت أشعر أنني زهرة برية صغيرة في صحراء لا أشعر بمحيطي بأي من أنواع الحياة، اقتربت مني سيدة بابتسامة استقبال الفنادق الكبرى، وسألتني بتأدب كيف يمكنها خدمتي؟ طلبت مقابلة عبد الله؛ فسألت عن وجود موعد مسبق، لم أفهم أهمية كل هذا، فأجبتها أنني أريد مقابلته لأمر شخصي الآن وليس بعد دقيقة من الآن، لا أعرف سبب حدتي، لكنني لم أكن مرتاحة في هذا المكان القاسي لي. •••
أمام حدتي وجدتني في مكتب صغير وسيدة تبتسم تلك الابتسامة الفندقية وطلبت مني الجلوس، رفضت الجلوس، فقامت من مكتبها واقتربت مني بود تطلب مني الجلوس لأرتاح حتى تبلغ الأستاذ بوجودي، جلست أمام ذوقها، حاولت الابتسام، لكن كان التوتر باديا في ملامحي، سألتني عن سبب المقابلة، فلم تنل مني سوى اسمي وانصرفت لغرفة أخرى عبر باب داخلي، غابت للحظات ثم عادت تدعوني للدخول عبر نفس الباب. •••
كانت رحلتي الأطول عبر هذا الباب، غرفة كبيرة مثل غرفة نوم جدتي مرتين ويزيد، رائحة أخشاب الورد العجوز تفوح من مكتبات تغطي الجدران، والثرايا الذهبية تتدلى من السقف المرتفع المرسوم الأركان، صالون فرنسي من القرن الخامس عشر، وأمامهم مكتب فرنسي أمامه كرسيان من نفس طرازه وخلف المكتب الأنيق كان عبد الله جالسا، ملابس رسمية، رابطة عنق، شعر مهندم لامع، عينان من الزجاج، لم يعرفني! حقا؟ ألا يعرف من أنا؟ وقف مبتسما، ومد يده لمصافحتي، يد باردة لم أعرفها، طلب مني الجلوس مرحبا، جلست ودهشتي تتحول للذهول وتنتهي بالحزن، عرفني بنفسه، مؤسسة قانونية دولية تتولى قضايا الشركات الكبرى وذوي الشأن الرفيع من الأشخاص، شعرت من طريقته التي تحاول التظاهر بالأدب أنه يخبرني بأنني في المكان الخاطئ، فلا يبدو علي أنني صاحبة شركة كبرى أو من ذوي الشأن الرفيع. •••
تبدد حزني دون سبب واضح وحلت الرغبة في اكتشاف حقيقة ما يحدث؛ فعرفته بنفسي دكتورة أمل خطاب، أستاذ تاريخ الفن بكلية الفنون الجميلة بجامعة الإسكندرية، وابنة الدكتور إسماعيل خطاب صاحب مراكز الاستشفاء المنتشرة بالقاهرة والإسكندرية، ترحم هو عليه ولم أعلق، واسترسلت بأن لدي مشكلة في الميراث مع أعمامي وأبنائهم لكوني الابنة الوحيدة لوالدي الراحل، ترحم مرة أخرى ولم أعلق أيضا، بدا أنني تحولت لذوي الشأن بمجرد ذكر أملاك العائلة، كنت أنظر لعينيه مباشرة، وبعد أن اطمئن أن وقته لن يذهب هباء، بدأ يتفحصني بعينيه، جائع يتفحص وليمته، ربما فاته أن يلعق شفتيه، أو ربما كان مدربا ألا يفعل. •••
أكملت ما بدأت، خلعت معطفي بهدوء، فقام معتذرا أنه لم يأخذه من البداية، اقترب مني يساعدني على خلع المعطف، وهلت رائحته متخفية خلف عطر فرنسي شهير، علق المعطف وعاد لمكتبه مبتسما، سألته عن إجراءات التقاضي لحالتي؛ فرفع هاتف المكتب ليطلب السيدة بالمكتب الصغير وطلب بطاقة هويتي، أخذتها السيدة بأدب وانصرفت، لم أفهم شيئا، لكنني لم أتوقف عن إغواء هذا النمر الجائع، طلب أن يفهم طبيعة المشكلة، وشعرت أنها فرصتي، قمت وبدأت الحديث واقفة، أتحرك بالغرفة أمام المكتب وكأنني في بطولة عرض مسرحي، استخدمت كل ما يمكن استخدامه من لغة جسدي، كان يصدر بعض الأصوات والإيماءات المدللة على متابعته، لكن عينيه كانتا تتعطلان في تسلطهما على جسدي، كان يراقب كل ما ظهر مني، ساكنا أو متحركا، كان الأمر في بدايته رخيصا لي، لكنني بدأت بالاستمتاع به وأنا أراه أسيرا لرغبته في؛ فأضفت مشهدا مؤثرا للختام فانحنيت في مواجهته ومعصماي على سطح المكتب فانزلقت عيناه من رقبتي لتسرقا ما يمكنهما سرقته من خلف فستاني. - يبدو أنني لا أجيد شرح الخلافات القانونية، ربما لأنني لا أفهمها كثيرا. - بالعكس دكتورة، مما رأيت، يمكنك عرض أي شيء ببراعة. - أي شيء؟ - أين تحتفظين بأوراق أملاك والدك رحمه الله؟ - لدي الكثير من الأوراق، لا أعرف ما يخص الأملاك وما يخص أعماله، ربما. - ربما من الأفضل أن أفحصها جميعا بنفسي. - لا أريد أن أثقل عليك أستاذ عبد الله. - متى يناسبك دكتورة أن تتحملي زيارتي؟ - الليلة تناسبك؟ - حسنا، الليلة موعدنا.
تركت له عنوان بيت جدتي ونظرت لمعطفي فقام مسرعا، ساعدني في ارتدائه وضمه وضمني متنفسا في رقبتي من الخلف، وددت الالتفاف لأبكي كل شيء في صدره، لكنه ليس عبد الله الذي أعرفه، أخذت بطاقة هويتي من السيدة بالمكتب الملحق وانصرفت، خلعت حذائي وتقافزت حافية على السلم كما أفعل ببيت جدتي، وصلت لباب البناية فانتعلته مرة أخرى وعدت لبيت جدتي بالشاطبي. •••
البيت دافئ، من خلف باب الشرفة وقفت أناجي سيرابيس، ما هذا الجنون الذي أفعله؟ كانت أمواج البحر تحذرني عواقب نيتي، سيأتي عبد الله المهندم اليوم، هل سيتذكر هذا البيت؟ تلك الأريكة؟ غرفة جدتي؟ هل سيتذكر ما قضيناه من وقت سويا في هذا المكان؟ لم يتعرف علي، فكيف سيتذكر المكان؟ كان تصرفا أحمق أن دعوته، كان علي التريث، لماذا ذهبت إليه؟ تركني سيرابيس لحيرتي، قطعت الوقت بخبز بعض فطائر التفاح، المكان نظيف، الرائحة جميلة، فستان أقصر قليلا، وانتظار طويل. •••
السابعة مساء، سيارته الكبيرة تقف أمام البيت، يحمل لفافة كبيرة، يحدث حارس البناية ويصعد، إنها المرة الأولى التي يزورني شخص بتلك الهيئة ومظاهر الثراء المبالغ فيها تلك، وقفت خلف الباب وفتحته قبل أن يدق الجرس، ابتسم فقد كان يهندم ملابسه قبل طرق الباب، ابتسمت له مرحبة ودعوته للدخول، لم تنتبني حالة الإغواء الصباحية، كنت بلا حالة مزاجية معينة، علقت عنه معطفه، وبدا وسيما بملابسه الرسمية الداكنة ورابطة عنقه بلون النبيذ فوق قميصه الأبيض، كان يتحسس خطواته في المكان، كأنه لم يكن هنا منذ أيام، قبل جلوسه فك لفافته وأخرج زجاجة من النبيذ الفرنسي قائلا إنه لا يعرف ذوقي فأحضر نبيذا أحمر للعشاء، شكرته وحملتها للمطبخ.
كان عبد الله يتصرف براحة، وكان يتعامل مع الأوراق كأنه يعرفها، كان الوقت بطيئا وأنا أراقبه يفحص الأوراق، ويتوقف مع ابتسامته لي، وكان سريعا حين نتناول الشاي والفطائر أو نتحدث في أمور أخرى، لم يكن عفويا لي، كان دقيقا محددا مختصرا، لم يكن همجيا كما تعودته، لم يكن أيضا حانيا محبا، كان لي ماديا مهذبا، ينتظر فقط الفرصة، إشارة مني لينقض علي، صبورا كان أيضا.
بدأ البرق يداعب جلستنا يتبعه الرعد وانهالت الأمطار على الإسكندرية، وزحف البرد لداخل البيت، كاد الليل أن ينتصف، سألني إن كنت أنوي الاحتفاظ بالنبيذ، ابتسمت وأحضرته، حتى طريقة تناوله للنبيذ كانت مختلفة، كان يبلل شفتيه وينتظر قليلا، ثم يجرع جرعة كبيرة ويضع الكأس، ويفعل ذلك كل مرة حتى فرغت كأسه، نظر في ساعته، عبد الله يرتدي ساعة! الكثير من الدهشات في يوم واحد، وربما الأكثر منها بليلة واحدة.
تملكتني الحيرة، هل حقا لا يعرفني؟ يراني امرأة جديدة عليه؟ ينتظر بصبر الصائم أن يتذوقني؟ هل يجب علي الاستمرار؟ ألا أريد أن أتذوقه أنا أيضا؟ كم أنا حائرة الآن بين المضي للنهاية وبين الهروب للنهاية! ربما سيسقط منه قناعه ويظهر عبد الله الذي أعرفه، أو ربما أريد خيانته معه، أو ربما أريد كل شيء، ابتسم عقلي؛ فلطالما سخرت من فضول النساء، وها هو الآن يتحكم بعقلي، ويسيطر عليه، فضول قد يكون مجرد ستار لرغبتي؛ فأفعلها بدافع الفضول، وليس الرغبة؛ فأعف نفسي من التصريح برغبتي، كامرأة عاشقة تحاول استخراج حبيبها من نفسه، كيف أخجل من رغبتي فيه؟ حسنا، ليس الفضول؛ فهو عبد الله، نعم ليس كما اعتدته، لكنه هو. •••
وقف عبد الله ليستأذن بالرحيل، لم أتوقع أن أفعل ما فعلت، أسقطت فستاني أمام باب الشقة ووقفت عارية وقلت له: «إن أردت الرحيل فعليك أن تتخطاني.» كدت أن أضحك مما أصابه من ذهول، أطبقت فمي ورسمت ابتسامة تخفي ضحكتي، وأنا أراه وبعقله تحوم كل شياطين الدهشة، تردد، أصابه الخوف، ثم اقترب إلي بحذر، مد يده، بدت لي مرتعشة ليلامس التقاء رقبتي بكتفي، يد باردة، لكن وقت ترددي قد مضى؛ فمضيت أنا الأخرى قائلة: «لا، لن أقتلك اليوم هنا.» وتحركت لغرفة جدتي وهو خلفي صامت متعثر الخطا، كان يتفحص جدران البيت كأنه يراها للمرة الأولى، لا أهتم كثيرا، سأصل لتلك اللحظة التي تتحرر فيها الروح ويستحيل الكذب؛ لحظة الحقيقة المطلقة، زفرة النشوة بأناتها، بارتعاشها، بقوتها، وبصفوها، سيخرج لي كل ما بداخله، وسأعرف سره.
لا أستطيع القول بأنه تقليدي؛ فلست ذات الخبرة الكافية لذلك، لكنه لم يكن عفويا، مهندما حتى في ملامستي، لا تتحسس يداه موضعهما بل يمدهما فقط حيث يريد ، وما من لمسة أخطأت مرماها، كنت أقاوم الذوبان بين يديه، كنت أقاتل سقوطي لأذيبه، كانت معركة الخضوع والإخضاع، صرنا سويا، ملحا ذائبا في عذب شره الشوق للفناء، كذرات الملح في البحر، بأي موجة كان الفناء؟ وبأي شط لامسنا الرمال، أجسادنا تحيل البرد شمسا، وأناتنا الخافتة تعزف لحنا غجريا، وأنفاسنا تعيد ضبط الإيقاع، كلما تمادينا في جملة موسيقية ... وعند ختام المعزوفة صرخت الآلات كلها بصيحة النصر، ثم هدأ كل شيء عدا أنفاسنا المتلاحقة، وضربات قلبينا، وانتهينا، لم يكن هو عبد الله الذي أعرفه، وفي الصباح لم يكن بفراشي، لم يكن ببهو البيت، لم يكن هنا، وجدت ورقة صغيرة فوق كومة الأوراق بخط يده، قائمة بالأوراق التي أخذها للقضية، احتفظت بالورقة، وفي خيالي كنت أراه يعزف في فرقة أخرى.
اللقاء الثاني
- هل تقابلتما ثانية؟ [سألها الدكتور مراد]. - مرة واحدة أخرى، هي أيضا قابلته. - حقا؟! وما حدث بينهما؟ - أعرف ما حدث لكن لا يمكنني وصف مشاعرها أو كيف ترى ما حدث، أظن الأفضل أن تسألها دكتور. - حسنا، سأفعل، أريد أن تحدثيني قليلا عن الدكتور إسماعيل. - ماذا تريد أن تسمع دكتور؟ - أي شيء تتذكرينه دكتور أمل، ما سر العزلة التي فرضها على زوجته وابنته؟ قابلته عدة مرات لم يكن قط من هذا النوع الذي وصفته لي، كان طبيبا لامعا متفتحا، تتلمذ على يديه العديد من الأطباء والطبيبات الممتازين، ولا أستطيع فهم سر التحول.
فهل لديك ما تساعدينني به؟ - لدي الكثير، لكنني لا أذكر الكثير أيضا، نعم كان طبيبا لامعا، لم يكن زوجا ولا أبا. - إذن فأنت تتعاطفين مع الزوجة والابنة. - لا، لا يستحقان التعاطف، لا يستحقان شيئا، لا يستحقان الزوج أو الأب. - تنفسي أمل، وتحدثي أكثر فقد أثرت حيرتي. - لا أريد التحدث الآن عن هذا الأمر. - حسنا، سنتحدث في مقابلة أخرى، [قالها مبتسما]. - هل لديك تعليق دكتور حول عبد الله؟ - حدثيني أولا عن اللقاء الثاني بينكما، ربما أتمكن من معرفة المزيد.
لم يكن طقس الحزن بل كان طقس الحيرة، كان اختفاء عبد الله المهندم في الصباح مثيرا للشعور بالإهانة، لم أستسلم لها كثيرا، وعدوت منها للريبة ثم التفهم، إن كان هو ويعرف أنه هو فلم يكن تصرفه غريبا، وإن كان هو لكن لا يعلم أنه هو فتصرفه أيضا مفهوم، عندما تأتي له إحدى موكلاته لتدعوه لبيتها في أول لقاء وتنتهي الدعوة بفراشها فلا عجب أن يتصرف هذا المهندم تصرفات الثري مع بائعة الهوى، ولم تكن مشكلتي في فهم تصرفه بقدر ما كانت في فهم مشاعري تجاه مجمل الأمر. •••
قبل أن أخلع ملابسي أمامه كنت قد حسمت أمري ورجحت كفة رغبتي في التجربة، وفي اليوم التالي، حين ارتديت ملابسي، أطلت النظر لتلك التجربة، هل كنت سأفعلها لو لم يكن عبد الله؟ هل كنت أترك رجلا غيره ليروي أرضا رواها، وخصبها عبد الله؟ أليس هو من أحيا هذا الجسد وأحال تصلبه ليونة لم أظنه يعرفها قبله، لكنه لم يكن عبد الله، لم تكن لمسته الغجرية، كان يتناولني بشوك وسكين، كان يرتبني بمائدته دون تعجل، كنت أحد طقوس استمتاعه بالنبيذ، مجرد وجبة استمتعت بشوكته وسكينه، بقدر ما استمتع بمضغها، لم يكن عبد الله، لم تكن أنفاسه الحارقة، بل كانت نسمات منظمة السرعة والحرارة؛ فلا أتعرق ولا تشعرني بالبرودة، لم يكن عبد الله، لكنني رضيت بمن كان، خانته نفسي ولم أخنه؛ فقد كنت بصحبته هو، وإن لم يكن هو. •••
مرت أيام ولم أقابل عبد الله، كنت أفتقده، كنت أفكر هل سأخبره؟ هل فقد اهتمامه بي وصب شغفه بها؟ سأقبله كما هو، سأقبل شخوصه؛ من عرفت منهم ومن أجهل، سأذهب إليه وأخبره بكل ما أعرفه عني، وعنه، سنلملم جراحنا، ونداوينا بنا، التملك التام، الحرية الكاملة، كل الأضداد تجتمع في صورته، لم أكن أصدقه، بل ما أعجبني هو كذبه، والآن صدقته؟ صدقت رباط الدم بكفينا؟ صدقت نفسي؟ لم يكن لي، بل كان معي، هو معي، ولم أكن له، بل كنت معه، لا أغار منها، لكنني أخاف عليه، ستقتل تمرده، ستربطه بمقعدها، ستحيل كل تمرده لقوائم الغذاء والراحة، ستقتل فيه جرأته ، جنونه، تطفئ عينيه، وتذبل ابتسامته، سيقرأ الجرائد بدلا من الفلسفة، يشرب الحليب بدلا من النبيذ، سيكفر بكفره، ويعود متعبدا مسكينا في محرابها، سيتوب عني فأنا عنوان حريته، لن أكون هي، أنا لست هي، أنا، أنا. •••
كانت الأفكار تسابق القطار، لكنه وصل القاهرة قبل أن أصل لضالتي، وصلت لورشته «الأتيليه» كما يسميه، ابتسمت لصوته في أذني وهو يقولها، كنت أمام السلم، خلعت حذائي، وبدأت الصعود، لم أحمل نفس المشاعر التي حملتها دوما في صعودي إليه، تتجه السلمات الحجرية لأعلى بينما روحي تنزلق لأسفل، أشعر أنني خارج إطار الصورة الخشبي، لا أراني حافية تتقافز لأعلى السلم بألوان باهتة، جفت الألوان ولم أظهر بها، لم يكن يوم الصعود، انتعلت حذائي ونزلت بأحلام خافتة تتوارى بأحلام أخرى كانت صارخة، لم يسمعها أحد، كانت مجنونة سخرت منها الملابس الرسمية، ورابطات العنق، كانت طفلة تدعي الأنوثة، سلمة أخرى يهبطها الحلم، وسلمة أخيرة يتركني الحلم ويتمدد بها، لم أغادر البيت القديم كما دخلته، فقد أثقلني الفراغ، ولا يظهر من منارة ابن طولون سوى قبعة تعلوها، لا يصلها من صعد، لا يصلها من يلامس الأرض، لا يصل لقمة بالأرض إلا الهابط من السماء، أو ربما الساقط منها. •••
خرجت من البناية منادية العم نصر، أردت البقاء قليلا عند حافة السماء، لم أكن أريد التنعم بالجنة، ولم أكن أيضا مستعدة للابتعاد، لا ضير من الانتظار خلف الأسوار، قد يلحقني شهاب، يحرقني، أو ينير لي الطريق. - يا مرحب يا مرحب. - هل لديك بعض الشاي لي، عم نصر؟ - على رأسي ومن عيني.
أحضر كرسيا متهالكا لأجلس عليه وجلس بحافة الرصيف الحجري يعد الشاي، أقسم لي أن الأكواب نظيفة، أزحت الكرسي جانبا وجاورته على حافة الرصيف، لا أعرف من أي عصر أتى هذا العجوز الصامت الثرثار، لا يتوقف عن الحديث في اللاشيء، ويحل به صمت القبور إن اقتربت في الحديث من أي شيء.
أحاديث القاهرة، وأربعين عاما قضاها أسفل تلك البناية، يعرف عدد أحجار الرصيف حتى القلعة من هذا الطريق وحتى مسجد السيدة زينب في هذا الاتجاه، يعرف أسرار ابن طولون، من تبارك به، من عتب عليه، ومن أثناه، ويعرف عبد الله، عشرين عاما قضاها الأخير بسطح البناية، كان العجوز يعرف ما أريد سماعه، لكنه في حاجة لدافع يكسر صمته، «هل تزوجه ابنتك يا عم نصر؟»
ابتسم العجوز لحيرتي، ربما أشفق على توسلي بسؤالي الأخير، كان مهذبا، لطيفا، كان أيضا حنونا، عجوز ريفي، سطرت الدنيا بوجهه ما سطرت، وبلغ من الحكمة حد الصمت، لكنه سيكسر صمته متحسسا كلماته لي، سيخبرني عن عبد الله، سيطفئ ناري، سيمنحني سببا للاستمرار للنهاية أو للاختفاء التام، أشعر بقرب النهاية.
الدكتور عبد الله رجل طيب، غني لكنه رحيم، ربما يمتلك قصرا لكنه يحب هذا المكان، يتحرر فيه من ثرائه ويتصرف بلا تكلف، يأتي إليه الكثير من تلاميذه يعلمهم الرسم، ونعم، تأتي له الكثير من الفتيات، هو شاب يحب الجمال، لكن لم تخرج من عنده فتاة باكية، الجميع يخرج من عنده مبتسما.
تبدين فتاة بسيطة من أصل طيب، فلا عجب أنك لا تعرفين شيئا عن الأغنياء، أما أنا فقد كنت أعيش في قصر حين كنت في العاشرة، لا تتعجبي، نعم كنت أعيش في قصر، شرفته تمتد من مجلسنا حتى تلك المئذنة، [مشيرا بيده لمئذنة ابن طولون] هم يرتدون أوجها كثيرة يخفون بها ما بداخلهم، يبتسمون ليخفوا غيظهم، يبكون ليخفوا أحقادهم، يظهرون قوتهم ليخفوا ضعفهم، يحتاجون لبعض الوقت دون أقنعة، هنا في هذا السطح يسكن الدكتور عبد الله دون قناع، إنسان بسيط، يشعر بمن حوله، يسعدهم، ويشاركهم أوجاعهم، لكن هل يفعل هذا في قصره؟ في عمله؟ لا أعلم يا بنيتي، ربما يسخر من الفقراء كما كانوا يسخرون مني حين كنت صغيرا.
كنت ابن كبير الطباخين، أعجبتهم سمرتي، فكان على أبي إحضاري في كل الحفلات، لأرتدي الزي الرسمي وأقف بجوار الباب، غير مسموح لي بالكلام أو الحركة، أقف كباقي التماثيل المتناثرة، ولن أحدثك بنيتي عن ممارساتهم الغريبة؛ فلا يليق إخبارك كل ما يفعلون.
أخجل أن أسألك عن المشكلة، لكن إن كنت تحبين هذا الرجل، أو هناك مشكلة لا يمكنك البوح بها؛ فاعلمي أنك لن تعيشي معه في القصر؛ فكما عرفك هنا، ستعيشين هنا، ولا تطمعي في أكثر من هذا.
لم يكن حديث العم نصر مفيدا لي؛ فهو يظنني الفتاة الفقيرة التي بهرها أستاذ الجامعة، ربما يظن أيضا أنني أخفي فضيحة بأحشائي، وأبحث عن كيفية التستر عليها، أعجبني صدقه فيما يقول عما يرى، له فلسفته الخاصة في رؤية الأمور، وله نكهته الخاصة في الحكي، وبينما كنت أتعجب من جلستي، توقفت سيارة عبد الله واختفى سريعا بملابسه المهندمة داخل البناية، شكرت عم نصر وأسرعت خلف عبد الله، لن يتمكن من الإنكار الآن وعليه تقديم أسباب مناسبة لهذا العبث، تقافزت صاعدة السلم، ووصلت بأنفاس متقطعة، دفعت الباب ودخلت بسرعة، لأجد عبد الله مبتسما بملابسه الفنية! بنطاله الترابي اللون، قميصه الكتاني الأبيض مفتوح الصدر، حافيا، تعجب من نظرتي، حاول أن يفهم ما بي، صرخت، اتهمته بالتلاعب، بالكذب، احتضنني، بكيت، صرخت مرات، ومرات، حاولت فتح خزانة ملابسه لأريه ما يخفيه، كانت مغلقة، طلبت منه أن يفتحها، تعلل بفقدان المفتاح، هو يكذب، هو يحاول دفعي للجنون، سألته عن السيارة، تعجب، ولم ينته الموقف إلا حين نزل معي لعم نصر، وذهبنا جميعا للسيارة، أنكرها عبد الله، سألت عم نصر، لكن العجوز تصرف كالدجاجة، أنكر معرفته بصاحبها، تركت كل شيء ورحلت وبداخلي غضب يكفي نصف الأرض.
قررت أن أفضحه، لن يتمكن من دفعي للجنون، أنا لا أهذي، بل هو المتلاعب الحقير، لماذا يفعل بي هكذا؟ سيخطئ ويقع، وحينها سيعرف أنني كشفته، وسأفضح ألاعيبه الحقيرة مثله. - قلت لي إن الأخرى أيضا قابلته في تلك الصورة المهندمة، فما حدث معها؟ - يجب أن تسمع روايتها دكتور؛ فأنا لا أرغب في الحديث عنهما أكثر من ذلك، هل يمكنني الذهاب الآن؟ - وكيف أقابلها دكتورة أمل؟ - ستأتي إليك فور ذهابي، أحتاج بعض الراحة، أرجوك.
عبد الله الثاني
- آسفة. - لم الأسف دكتورة؟ - لست دكتورة، أنا أمل فقط، لست هي دكتور مراد، ولم أعد أندهش كيف أجدني في عيادتك دون أن أجيء إليك.
عرف الدكتور أحمد أنها ربة القمر كما سماها الدكتور عبد الله الذي بدأ بالفعل يثير حفيظته، كان يريد معرفة المزيد عنه، فما عرفه حتى الآن يظهر الكثير من التناقض، قد يكون مرضيا، وقد يكون أخطر، أكثر ما يخشاه أن يكون أمام شخصية «سيكوباتية» قد تكون أكبر ضررا على أمل الآن. - أرجو أن ترتاحي بنيتي، ليس لدينا اليوم سوى بعض الأحاديث عن دكتور عبد الله. - أعرف الكثير عن عبد الله، أعرف الكثير عن هؤلاء الفنانين والفلاسفة، هم يحتاجون دوما لتلك الدماء الحارة في حياتهم، تدفعهم لحافة الجنون، وكلما بردت بحثوا عن الأحر، ربما هي تناسبه؛ فهي تتجول أمامه عارية بحرارتها، وتتركني لأفيق بعريها، أما أنا فسأظل كأمي، بدمائها الزرقاء، تحب، تعطي؛ فيصيبها النسيان قبل أن يصيبها الحظ. - لكنكما قضيتما بعض الوقت الممتع سويا، إن صح وصفي له بالممتع.
المتعة دكتور ليست في الوقت الذي نمضيه، المتعة الحقيقية في الإحساس بالرغبة، شعوري بأنني مرغوبة، مطلوبة، وكل ما يأتي بعد ذلك هو ثمن هذا الشعور، كنت معه باختياري مرات قليلة، وأفقت مرات أخرى برفقته بعد أن انتهى منها، لا أعرف ما يحدث بينهما، كل ما أعرفه أنه حتى خيانته لا يمكنه إخفاؤها. - ولم عليه أن يخفيها؟ - نوع من الاحترام دكتور، أنا احترمت ما عرفته عنه بالصدفة، احترمت ما لا يعرفه عن نفسه، ربما قبلت أنا التخلص من علتي، لكنني لا أملك أن أفرض عليه التخلص من علته. - وما علته؟ - هو مثلي له جانب آخر لا يعرفه هو، لم أفهمه في البداية، لكن حين أدركت أنني أحتاج لعلاج، أدركت أن ما به يحتاج أيضا للعلاج، كنت أتمنى أن نشفى سويا، لكن لا أعرف الكثير عن حالته، لا أعرف الكثير عن حالتي أيضا، كل ما أعرفه أنني فهمت الآن أشياء عديدة لم أكن أفهمها، أو أعرف سببها. - أريد أن أعرف المزيد عنه بنيتي.
هدأت أمل أكثر، كانت تريد الحديث، لم تكن تقاوم كما كانت من قبل، هي تتحدث بحرية أكثر كلما بعد الحديث عن أمها وأبيها، دون دكتور أحمد مراد ملاحظاته وهو يدخن غليونه، وأمل تتحدث بصوت هادئ.
أن يأتي لي ساعي البريد، فهي الزيارة غير المرحب بها؛ فعادة ما يحمل أخبارا غير سارة، لست في انتظار خطاب من حبيب غائب، أو قريب مسافر، وقعت له بعلم الوصول، واستلمت دعوى! هل قرر أبناء أعمامي الاستيلاء على ما بقي لنا من الإرث؟ هل يريدون كل شيء؟ لقد تركت لهم الكثير بالفعل، ماذا يريدون بعد الآن؟ كان علي الذهاب لمكتب محاماة في الإسكندرية، حتى أفهم سر تلك الدعوى، فكرت في الاتصال بمحامي أبي، لكن فضلت الذهاب أولا، ولن أوقع أية أوراق قبل الرجوع إليه. •••
طلبت من عامل الجراج إعداد السيارة، وأعددت ما يكفيني لعدة أيام بالإسكندرية، وأوصيت الممرضتين بأمي، وانطلقت، كانت المسافة طويلة، لكني اعتدت قطعها، لم تعد تضايقني، أتوقف في منتصف الطريق عند استراحة بفندقها المتواضع، ومطعمها الأكثر تواضعا؛ فأتناول القهوة وأترك العمال يهتمون بالسيارة.
البعض من الراحة يأتي في منتصف الطريق، هكذا فكرت وأمامي قهوتي، لماذا لم يمنح أبي تلك الراحة لأمي في منتصف طريقهما؟ كان دائم الضغط، كثير التطلب، لم يكن ليرضى إلا برؤيتها مقهورة، حتى دفعها للنسيان، حتى اسمها، هل كان صعبا حقا توفير بعض الراحة؟ فقط القليل منها، كان سينقذها، لكنه كغيره، سياراته أهم لديه من زوجته.
رشفت مرارة أمي بقهوتي، رشفت حيرتي أيضا، ورشفت شوقي لعبد الله، رشفت غيرتي وغضبي، وأكملت رحلتي للإسكندرية، كان الوصول لهذا المكتب سهلا، بناية لا تختلف كثيرا عن بنايات الإسكندرية، صعدت للمكتب وقدمت لموظفة الاستقبال الورقة التي تسلمتها من ساعي البريد، طلبت مني الانتظار وهي تتفحصني بدهشة أعرفها جيدا، واعتدتها فلم تعد تضايقني.
مر بعض الوقت حتى دعتني للدخول لمكتب أكبر، كان عبد الله واقفا في انتظاري! لم أكن الوحيدة المصابة بالذهول في المشهد، كان هو أيضا، كان مختلفا، لم يكن ذلك الفنان العفوي الحافي القدمين، بل كان يشبه رجال السياسة بأناقته المصطنعة وشعره المهندم.
وقفنا لحظات نتطلع بتعجب، كل منا يجوب الآخر بعينيه، نسيت سبب مجيئي حين دعاني للدخول، وددت احتضانه، لكن عينيه منعتني، مددت يدي فتلقفها بيد باردة، لم أعرفها من قبل، بدا إطراؤه على ملابسي ساخرا، شعرت أنه يكرر نفسه، يعيد تصدير دهشته، أو ربما صار يستمتع بالسخرية من ملابسي، أخرستني برودته، تلمست له بعض العذر، ربما لأننا في مكان عمله. - كنت أظنك أستاذا بالجامعة. - تحدثنا من قبل في هذا الأمر وقلت لك إنني لم أكن أستاذا بالجامعة قط.
صدمني رده، لم أسأله من قبل، وبالطبع لم يجبني من قبل، زادني من الشك أضعافا، سألته هل يعرفني جيدا؟ فأجاب بأنه بالطبع يعرفني، وأنني أوكلته في قضيتي لتصحيح أنصبة الميراث عن والدي! كانت صدمتي الكبرى، إلى هذا الحد أراد التخلص مني؟ أنا، «أمل خطاب» التي طاردها لبيتها لينال منها؟ الآن أصبحت مجرد «زبونة» لديه؟ كم استيقظت عاريا في أحضاني؟ هل كل هذا بسبب ثورتي؟ لم تتحمل ما أصابني من غيرة وخوف فقررت الهروب من كل شيء بتلك الحيلة الرديئة؟
لم أكن أدري أكنت أحدث نفسي، أم أحدثه، لكنه أجاب ما لم أسأله أو ربما سألته، لا أدري. - أعتذر عن اختفائي المرة السابقة، كان علي الرحيل قبل استيقاظك. - عن أي شيء تتحدث؟ - يوم أتيت لبيتك، مراجعة الأوراق؟ النبيذ؟ لا أظنك نسيت. - لا بالطبع، كيف أنسى؟! أنت أتيت لتراجع الأوراق وقضيت الليلة معي ثم رحلت قبل أن أستيقظ، أليس هذا ما تحاول قوله؟ - لم كل تلك الثورة؟ أحاول فقط الاعتذار.
كان متفاجئا بثورتي، يتصرف كأنها المرة الثانية التي يقابلني، ومرتنا الأولى يذكرها ولا أعرف عنها شيئا، روايته كانت الأغرب لي، يظنني تغيرت، يرى أنني كنت أكثر نضارة وبساطة، كنت أكثر أنوثة، وأنه كان ينوي تكرار زيارته لي بعد أن ينهي بعض الأعمال.
فهو لم ينس الليلة التي قضاها معي.
كنت ثائرة، لم أكن لأقبل ما يقول، لست رخيصة ومتساهلة إلى هذا الحد، إن كان لا يذكر شيئا عني سوى تلك الليلة فهو يراني مستهترة بلا شك، لقاء أول في بيتي ، نبيذ، قضاء الليل، أنوثة ملفتة؛ فالطبيعي أن يجيء اختفاؤه في اليوم التالي، بينما أذكر الكثير عنا، وأراه الآن ينكر كل ما أنكره أنا، لم يبق لي سوى إلغاء كل الإجراءات التي لا أعرف عنها شيئا، وألملم أوراق أبي وأخرج من مكتبه ثائرة لأجد موظفيه أمام المكتب كالجيران المتطفلة، صحت بهم: «لست زوجته، ولم يضربني، إلام تنظرون؟!»
خرج خلفي لم يكن يفهم سبب ثورتي، يتصور أنني غضبت لأنه رحل وأنا نائمة! يردد الاعتذارات، حاول تهدئتي، حتى جلسنا في مقهى بفندق يواجه البحر بمحطة الرمل، طلب لي عصير الليمون المثلج، وتناول هو القهوة.
روى لي ما حدث في اليوم الذي لا أعرف عنه شيئا، قال بأنني كنت مختلفة، أظهر تفهما، يصدقني، ولم أفهم أيضا سر تفهمه، جعلني أروي له كل شيء منذ عرفته، بدت عليه الدهشة، لكنها لم تكن بقدر دهشتي، وكأنه سمع ما قلته من قبل.
جلسنا نتلحف صمتنا، يقينا قليلا من برودة تلك الحقائق التي لا نعرفها، تدهشنا ولم نعد ننكرها، يصدقني ويصدق روايتي، وأصدقه وأصدق روايته، تحول الغضب لخوف، وتحولت الاتهامات باندفاعها لتراجع بعيد ببئر من الخواء، هل أصابنا جميعا ما أصاب أمي؟ داء النسيان؟
ودعني وهو يقبل بعينيه الأخرى، وودعته وأنا أشتاق بروحي للآخر، ما كنت أدركت بعد أننا صرنا أربعة.
كنت أفكر وأنا راحلة عنه، نعم أشتاق للآخر، لكني أريد معرفة الثاني، لا أفهم ماذا أريد؟ أو من أريد؟ وحين بدأت أفهم ما يحدث له، وعرفت بوجودها أدركت ما قد تكون عليه حالته، هل يمكن أن أترك لها الأول فهو يشبهها، وتترك لي الثاني فهو يشبهني، لكنني أخاف المزيد من التعلق، تكفيني حيرتي، وتكفيه حيرته، أهكذا كان أبي؟ مبتسما للجميع، قاسيا حادا مع أمي، هل كان أيضا مزدوج المشاعر؟ هل هذا عذر لأبي؟ لا، الجميع يدعي الحسن بينما ينضح قبحا، لا يستحقني، كما كان أبي لا يستحق أمي. - اهدئي أمل، هل تريدين بعض القهوة؟ - لا، شكرا دكتور، أريد فقط الذهاب الآن، هذا ما أحتاجه الآن. - حسنا، يمكنك الآن الذهاب لحجرتك.
أغمضت أمل عينيها والدكتور أحمد ينظر بتعجب لكل تلك المعلومات والملاحظات، عاد لكل ما يعرفه عن الأب، لم يكن سيئا على الإطلاق، كان يعتقد أن مفتاح العقدة في والديها، وضع ملاحظة أخرى، وأعد ملفا آخر للدكتور عبد الله مسعود قبل أن تفيق أمل، إلهة الصيد. - هل تعرف أن عبد الله المنمق أكثر إثارة من الفنان الفيلسوف؟ - لم يكن هذا رأيك من قبل. - هل قلت لك رأيي من قبل؟ - أعتقد، لكن يسعدني أن أسمع أكثر منك. - أنا متعبة الآن سآتي لك قريبا.
ودعت الدكتور أحمد مراد ورحلت أمل، وتركته وسط الكثير من علامات الاستفهام.
عذراء الأوليمبس
جاء بوجه آخر، لم يكن الفنان، لم يكن المنمق، جاء بوجه التائه، سئمت منه ومنها، أعلم جيدا أنه لا يراها الآن، رغم غيبته الطويلة عاد لي، تركته ووقفت بباب الشرفة، أتطلع للبحر، أسقطت ملابسي؛ فهو يعشقني عارية، سيرابيس، كم كنت أرى عبقرية بطليموس وكهنة آمون في هذا الإله الذي جمع الحضارتين، التفت لعبد الله، أتأمله، وهو يتفحصني بعينيه، جالسا وبيده كأسه. - لماذا لا تحب سيرابيس؟ - لا أصدقه، مصنوع من العبث ليوحد قطبين، الحقيقة، لا يرتقي للاحترام كي أحبه.
ولم أصدقه أيضا، وأقصد عبد الله، كنت أراه كاذبا، ليس ذلك الكذاب اللطيف، خذلته عفويته، وخانته نزعاته البرية هذه المرة، كان صيدي اليوم، لم أكن فريسته، بل كان هو الضحية، أسيرا بين امرأة عارية حافية، وبين مئات الأسئلة، كانت ليلة عصيبة، يحاول الهروب لجسدي فتلاحقه الأسئلة، ويزحف جسدي متواريا، وفي كل جولة يتخلص من بعض قشرته، ويقترب عريه من عريي، تزداد إثارته، وتقل مقاومته، لكنه لم يعترف أبدا بعبد الله الثاني، كان يراه محاولة مني للهروب، كان يراه إنكارا لحالتي، وكنت أراه كاذبا، تحول ضعفه لغضب، وتحول غضبه لرغبة، وأفرغ رغبته بداخلي، وادعى النوم مصلوبا بجسدي، ورغم يقيني من كذبه لم أفك صلبه حتى الصباح؛ فحتى أنفاسه الكاذبة رغم كل شيء تشعرني بالدفء.
كانت روح جدتي تحلق في الغرفة، تطرد ألفتي به، تلامس الدفء فيتثلج، تركت صدره العاري لأنتظر الصباح في ركن الغرفة، أحاور جدتي بصمتي وصمتها، أراقب نومه الكاذب، لم أعرف رائحة أنفاسه من قبل، لم أعرف طعم قبلاته، كان حضوره مسكرا، ولم يعد الآن يسكرني؛ فصرت أراه، أسمعه، أشم رائحته، أتذوقه، لم أكن أنا أنا فقط، ولم يعد هو هو فقط، صرنا كثيرين، يملؤنا الصراع بين الغربة والهروب من غربتنا لغربتنا الأخرى، لم أعد في حاجة للبحث عنه، العمر يمضي ولم أجدني، سألملم أخشاب مظلتي التي ظللته بها وأصير جسرا يعبرني لامرأة أخرى، ثم أحيل جسري قاربا لأبحث عني بين تلك الأمواج المتناطحة، إما أنا أو هي، وأما هو فعليه أن يجده، سأعود عذراء قبل الفجر، وسأنساه عند الظهيرة، ولن يبقى سوانا، أنا وهي.
لم يغب الصباح عني، جاء كما اشتهيته، أعددت قهوتي وقهوته، وقام مختالا بجسده، قبل جبهتي وشرب قهوته ثم انصرف، لم أودعه؛ فقد ودعته بالأمس، لم أره منذ ذلك الصباح، ولم أعد أشتاق لرؤيته كنصف امرأة تغار من نصفها، أحاول التذكر، متى انقسمنا أنا وهي؟ كيف بدأت أنا في الظهور؟ أو كيف بدأت هي؟ لم يعد يهمني أيضا من منا ستبقى.
ربما عرف أيضا عبد الله أن رحلتنا قد انتهت؛ فقد ذهبت إليه فأخبرها العم نصر الدجاجة أنه سافر لأوروبا، الجميع يتنكر للجميع ليحافظ على مساحة ضيقة تسع لقدميه، يطرد كل من يحاول التعدي على تلك المساحة، لا ألوم عليه؛ فهذا ما فعلته بالضبط، طردت كل دخيل في مساحتي الضيقة لأجد نفسي؛ لأشفى، ومن ستبقى فعليها معرفة ما تريد، ومن تريد، أما الآن فكل المتاح تعلوه سحابة رمادية تنذر بالمطر ولا تمطر أبدا، الآن أريد أن أشفى. - متى انتقلتم لبيت الدقي؟ - ... لا أذكر ... لا أذكر. - ما أول ما تتذكرينه في هذا البيت إذن؟ - لا أعرف حقا، لا أذكر الترتيب، أذكر الصياح والصراخ، أذكر البكاء، أذكر خضوعها وخنوعها وأمها. - أين كنتم قبل الذهاب لهذا البيت؟ - يقول أعمامي إننا كنا في بيت العائلة بجوار قصر الخديوي بعابدين؛ فقد كان جدي من حاشيته. - أعرف عمك جيدا، عبد الرحمن باشا خطاب. - هل ما زالت الألقاب سارية؟ ظننت أنها ألغيت بعد الثورة، لا أظنها عادت مرة أخرى بعد ست سنوات، وبالمناسبة هو عمها وليس عمي [قالتها مبتسمة]. - عمك من رجال الصناعة الوطنية، وما زال الضباط ينادونه بلقبه إن كنت لا تعلمين، هل لديك أي اعتراض أن أتحدث معه؟ - لا أعرف، افعل أي شيء دكتور وخلصني من هذا الأمر. - حسنا أمل، سأفعل.
جلسة جديدة تنتهي وأمل أقرب للشفاء برغبتها، كانت أيضا أقل حدة مع قرينتها، أمل الأخرى، سارت بمحاذاة البحر، طريق تود ألا ينتهي أبدا، كانت تفكر في الدوران حول البحر، حتى تصل لإسبانيا، ثم تعبر المضيق وتعود للإسكندرية مرة أخرى، هل تثق حقا في الدكتور أحمد؟ لا تعرف، لا تثق، لكنه الملاذ الوحيد، ما زال يطلق الألقاب، عمها الباشا، وجدها أيضا، لم تكن السياسة من اهتماماتها، قامت حروب وثورات وتغيرت الأنظمة ولم تر من كل ذلك سوى موجة فنية يسجلها التاريخ، الحداثة القهرية، تغزو المدن والريف، المرأة تودع بؤسها المعتاد لتغزو عوالم جديدة من البؤس الذي لم تعتده بعد، تحدثت كثيرا مع طلابها عن دوافع الإبداع، كانوا يكررون ما في المراجع، وهي دائما تقول لهم: «الإبداع هو قول ما لا يقال.» فإن قيل فالإبداع تأكيد وتكرار، وليس كل مكرر رتيبا، وليس كل فريد مميزا، الرغبة والخوف، العشق والخوف، التمرد والخوف، الثورة والخوف، الخوف والخوف، الخوف دائما يحيط بالإبداع، يغلفه، الخوف من الرفض، الخوف من الفكرة، أسباب كافية لظهور الرمزية، الخوف من التصريح.
النحت، عشقها الأبدي، محراب قاس، أحجار صلبة ورخوة، خشنة وناعمة، وأزاميل حادة، الصبر في النحت، الهروب في النحت، كم جرح أصاب يد أنجلو وهو ينحت ذكر ديفيد! كم سال من الدماء والعرق على فخذ التمثال! هل خرج ماء ديفيد من ذكره ليطهر جروح أنجلو؟ تنظر لكفها تبحث عن جرحها، بيدها، بيد ديفيد، عبد الله، رحلت عنه أم رحل عنها؟ لا تعرف، لكن الجرح اندمل، بعض دماه في عروقها ملح، وبعض دماها في عروقه سم، هل ستنساه؟ هل ستقابل غيره؟ هل سيرويها غير ديفيد؟ غزاها الخوف مرة أخرى، الخوف من الأسئلة، والخوف من الأجوبة، لكن جسور الهروب هدمتها يوم ودعته، لم يعد لديها سوى الاستسلام للمواجهة، مواجهة أكبر مخاوفها، مواجهة الحقيقة التي لا تتذكرها. •••
توقف الدكتور أحمد عن الحديث، ونظرات الجميع معلقة بوجهه، تحاول دفعه للاستمرار في الحديث، استمرت ملاحقة أعينهم له لحظات، بدت لهم ساعات، حتى تحدثت «أمينة المنسترلي» بعربيتها المطعمة بالفرنسية. - نعلم أن الوقت تأخر، دكتور أحمد، ونقدر أنك تعبت، لكن لا أظن أننا سنتركك قبل أن نعرف ماذا حدث ل «أمل»، سأعد بعض الشاي والفطائر المحلاة ونتبادل الحوار قليلا قبل أن تكمل لنا.
ابتسم الدكتور «أحمد» موافقا، لم ينس حرفا نطقته الدكتورة «أمل»، ولم يمل أبدا من تذكر تلك الحالة الفريدة، ويتابع انطباعات الأصدقاء بمنزل «أمينة»، التي لا تنتهي لقاءاتهم بمنزلها إلا وقد اشترى أحدهم عقارا منها أو استأجره، تابعها بعينيه صامتا مبتسما، تحول كل شيء لنقود، وتحول كل النقود لعقارات، ثم تؤجرها أو تبيعها لتعيد الكرة كما بدأتها، لذلك لا يجتمع الأصدقاء بدون «عادل صديق» المحامي الشهير، والشاعر المتميز، كان أبوه يقول دائما: «أبناء العائلات لا ينظمون الشعر وإن استدلوا به.» ولم يثن على شعر «عادل» حتى غنت السيدة أم كلثوم إحدى قصائده الوطنية، لم يكن ثناء «محمد باشا صديق» لجمال القصيدة، بل لأنها كانت سببا في إنقاذ أملاك العائلة من التأميم الذي التهم بعض العائلات الأخرى.
قطعت صمت الجميع الصحفية «فريدة النعمان» ابنة فارس الصحافة «صلاح النعمان»، وبرغم كونها الأصغر سنا، فإنها كانت ذكية وصاحبة حضور يليق بصاحبة واحدة من كبريات المؤسسات الصحفية. - دكتور أحمد، هل عالجت عبد الله أيضا؟ - لا، دكتور عبد الله لم يطلب العلاج. - هل يحتاج إليه؟ - ومن لا يحتاج للعلاج؟! [قالها مبتسما] الحديث البسيط عن أحلامنا وأوجاعنا ومخاوفنا هو علاج وقائي. - لا، أقصد هل توجد ضرورة لعلاجه؟ هل هو خطر؟ - لا، لا، لم تظهر عليه أي مؤشرات خطرة، ربما يحتاج مثلنا جميعا للحديث.
ابتسم الجميع وقام الفنان التشكيلي «سعيد غالب» لمساعدة «أمينة» في إحضار الفطائر والشاي، و«سعيد» هو من يساعد «أمينة» في عمل الديكورات الخاصة بعقاراتها وتجهيزها للإيجار، أما باقي الحضور فهم يتغيرون دائما؛ فهم زبائن «أمينة». وبرغم تنوع الأحاديث في لقاءاتها ما بين السياسة والفن والموضة، فإن جميع الأحاديث ممتعة وجميع اللقاءات تنتهي بصفقة مرضية لها ولجميع شركائها، لكن حديث اليوم كان مختلفا، وتنوعت الآراء رغم أن الدكتور «أحمد» لم يكمل روايته، البعض تعاطف مع «أمل» وكال الاتهامات ل «عبد الله» والبعض تمنى مقابلة «عبد الله» والبعض يظن أنها قصة من خيال الطبيب العجوز لتسليتهم.
بادرت «أمينة» كعادتها بعد أن استقر الجميع يرتشفون الشاي ويتناولون الفطائر المحلاة: «هل قابلت عمها فعلا دكتور أحمد؟» - بالطبع قابلته، لم يكن لدي بد سوى السعي خلف معرفة ما حدث لأمل وما سر انتقالهم من سراي العائلة لمنزل الدقي، كنت أعتقد أنني سأجد الكثير من المعلومات لدى «عبد الرحيم باشا»، فقط إن رغب في الحديث وإطلاعي عليها، لا أدعي أنني أعرفه جيدا؛ فقد قابلته في ثلاثين عاما مرات معدودة، ولا أذكر أن كان بيننا أي نوع من الاستلطاف؛ فهو يراني طبيبا للمجانين، لا أعالج أحدا، بل أزيدهم جنونا، وغير انتقاده لي، لم أسمعه يتكلم بشغف إلا عن أثواب النسيج، والماكينات العملاقة، ومشاكل العمال، لكن كنت على استعداد للمغامرة، ومحاولة دفعه للحديث.
سراي خطاب باشا، لم تتغير اللافتة النحاسية اللامعة المزججة، لم يتغير شكل الخدم، ملابسهم المتنوعة، عبيد عتقوا بالقانون، لكنهم لم يطلبوا هذا العتق الذي فرضه عليهم القانون؛ وبالتالي لم ينفذوا القانون، حديقة متوسطة بها طريق للسيارة يصل بها مرتفعا لباب البيت الضخم حيث تركت سيارتي لينحدر بها إلى الطريق الموازي، الذي يصل لحظيرة السيارات حيث أخذها السائق الواقف بالباب في انتظاري، وبوابة الخروج.
البيت من الداخل أصغر من قصر عابدين، لكنه لا يقل فخامة عنه بأثاثه الفرنسي، وحلياته النادرة الطراز، والبديعة الهيئة، قادني من بهو السراي إلى صالون جانبي أحد الخدم بملابسه التركية المميزة، أغلق الباب بعد أن جلست، وقال إنه سيبلغ الباشا، قمت أتأمل لوحات مرسومة ومصورة للعائلة، الملابس الرسمية المرصعة بالنياشين، الزوجات والأمهات، والأطفال، الجميع بملابسهم الرسمية، توقفت عند صورة دكتور إسماعيل وزوجته، كاميليا، وتحمل طفلا بيديها، لا بد أنها أمل، أعرف دكتور إسماعيل، وأعرف أمل التي لا تكاد تظهر ملامحها في الصورة، لكنها المرة الأولى التي أرى فيها كاميليا، كانت تفوق أمل جمالا وإشراقا، تبدو فرنسية، لم تكن طويلة القامة، لكنها متناسقة القوام، تشبه نجوم المسرح والسينما، ثابتة الابتسامة تكاد تشع بهاء من الصورة، ما الذي حدث لتلك الأسرة؟ كيف تحولت كاميليا لما هي فيه الآن؟ أسئلة كثيرة أعيد ترتيبها برأسي، وأنا أتحرك ببصري عبر العائلة حتى توقفت عند أم إسماعيل، جدة أمل، لم أرها الملاك الحارس كما وصفتها أمل، كانت تبدو قوية، حادة النظرة، مرسومة الابتسامة، كانت جميلة، جمالا مهيبا وليس مبهجا، قطعني صوت عبد الرحيم باشا من خلفي: «هذه أمي، ثريا هانم السلحدار.»
سراي خطاب
استقبلني عبد الرحيم باشا بترحاب ووجه باسم. - أهلا دكتور المجاذيب، أرجو ألا تكون طامعا في علاجي. - العفو يا باشا، بل جئت لأعرف كيف تبدو أصغر سنا مني بعشرة أعوام وقد كنت باشا قبل أن أحصل على الشهادة الإلزامية. - إذن فأنت تعرف [قالها بخبث]. - أعرف ماذا؟ أنك ما زلت باشا في نظام اشتراكي؟ [قلتها بطريقة أخبث].
ضحك كثيرا عبد الرحيم باشا وعيناه تلمعان ثم تحولت ضحكته لابتسامة هادئة قائلا: تتحدث عن الاشتراكية والرأسمالية الطبقية وأنت طبيب المجاذيب؛ فدعني أخبرك، الاشتراكي هو «رأس» يقرأ ويفهم ولا يملك المال فيشارك ويتشارك ويهاجم من يملك المال حتى يملكه، ويتذوق قيمة إضافة المال للرأس، وحينها يصبح «رأسماليا» ولأزيدك غيظا فوق غيظك، لم أحتفظ فقط بباشويتي رغم إلغاء الألقاب، بل أنتظر من ألغاها ليحظى بها.
ثم ضحك مرة أخرى وضحكت معه فقد راقتني رؤيته الساخرة، تحدثنا في موضوعات عامة أذابت بعض الجمود، وكانت مفاجأتي الكبرى حين صرحت له بأنني طبيب أمل ابنة أخيه، قال لي: «تقصد الدكتورة أمل ابنة دكتور إسماعيل خطاب ، أخي؟» - دكتورة أمل؟ - نعم أليست دكتورة؟ - بالطبع عبد الرحيم باشا، بالطبع، أعتقد أنني أريد معرفة الكثير منك.
كانت مفاجأتي الثانية شعوري بأن عبد الرحيم باشا كان ينتظر تلك اللحظة، كان ينتظر أن يحكي كل شيء، يتخلص من شعور بالذنب ربما، لكن معرفته بكون أمل دكتورة بالجامعة يجعلني أتشوق لأعرف ما يعرفه، تركته يبدأ من حيث يريد ولم أقاطعه، دونت استفساراتي، واستمعت بإنصات.
كنت تنظر لصورة أمي - رحمة الله عليها - ثريا هانم السلحدار، صخرة هذا البيت التي تحطمت عليها آمال الكثيرين، كان الجميع يحارب الجميع ليظهر أكثر جمالا، أو ولاء، لينعم برضاها، إلا كاميليا؛ فقد كانت تحارب الجميع لتحتفظ بعاديتها، عاديتها التي أثارت حقد الجميع، حتى ثريا هانم كانت تغار من احتفاظها بتلك العادية، لم تخالف تقاليد البيت ولم تتطبع بها، تلك الفتاة الصغيرة التي لم تتجاوز الثالثة والعشرين، حين أتت بوليدتها لمنزلنا، كانت تصغر إسماعيل بثمانية عشر عاما.
ولد إسماعيل وقت هوجة عرابي، تفاءل أبي كثيرا به، نعم كان أبي من الأعيان لكن دماء الصعيد الحارة كانت تجري في عروقه، لكن فرحة أبي لم تتم بدخول الإنجليز مصر؛ فكان الثناء عليه بذكر أحمد عرابي، وكان عقابه بذكر دخول الإنجليز، عادة في أسرتنا ربما من جذور أبي الصعيدية، نحدد الأعوام بالأحداث، حتى نسينا التاريخ ولم ننس الأحداث، بقيت تاريخا لنا. - هل تريد التدخين؟ لدي تبغ ممتاز، يمكنني أن أدعوك لكأس من الكونياك الفرنسي وندخن بعض السيجار سويا بغرفة المكتب. - حسنا.
لم ينتظر إجابتي كاملة، بل قام وبدأ التحرك، لم يتحرك لباب الغرفة، بل اقترب مني وهمس لي: «يمنعونني من الشرب، لكنني أحتفظ بمخزون يكفي لتموين جيوش المملكة المتحدة في غرفة المكتب.» ثم ضحك ببراءة لا تتناسب مع هيئته، قمت معه، سرت خلفه إلى غرفة المكتب، ويا لها من مكتبة ضخمة ومكتب عتيق! جلست على كرسي جلدي ضخم أراقبه، وهو يفتح جزءا من المكتبة ليظهر خلفه خزانة ضخمة أضاءت حين فتحها، أرفف زجاجية، وزجاجات الخمور بألوانها المتعددة، سحب زجاجة من الكريستال، وكأسين من الرف العلوي المليء بالكئوس وأعاد المكتبة كما كانت، وضع الزجاجة والكأسين على منضدة القهوة أمامي، ثم أحضر صندوق تبغ خشبيا، وصببنا الكونياك الفرنسي، وأشعلنا السيجار الكوبي القادم من المملكة المتحدة، وأنا مبتسم لسعادته.
يبدو وحيدا بلا أصدقاء، يريد الحديث، يريد بقائي أطول مدة، أن أسمعه يتحدث، نهر حبيس، وجد شقا ينفذ منه، لا أظنه سيهدأ قبل انهيار السد، تركته يتحدث، وتركت قرار بقائي رهنا بما يقول، ولم أكن أتوقع أن يبقيني كل هذا الوقت؛ فقد غادرت بيته في صباح اليوم التالي، القهوة والكونياك والسيجار وحديث عبد الرحيم باشا خطاب. - كان إسماعيل ابن أبيه، وسر أبيه، لم يكن مثلي، وباقي إخوتنا، كان الأقرب لوالدي والأبعد عن أمي، لم يكن يهتم بالمظاهر أيضا، يبني لغيره، كان وسيما، ذكيا، وكثير العراك مع أمي، كان يدافع عن أبي ويرد غيبته، منذ كان طفلا، ذات مرة كانت أمي تتحدث مع أقاربها عن عناد أبي وإصراره على تحدث الفرنسية بلكنة شعبية تصفها أمي بلكنة الفلاحين، رغم أنه يتحدثها بطلاقة فإنه يصر على إحراجها أمام أقاربها، كانت متعته الظهور أمامهم بمظهر الفلاح الجاهل، يومها قال لها إسماعيل بفرنسية واضحة: «أبي ليس فلاحا، أنت أقاربك الفلاحون، أنا أبي يملك مصانع الغزل والنسيج.» وبعد إطراء ضيوفها على لغته، انطلقت في وجهه اللعنات، ومن خلفه، ولاحقته حتى غرفته: «ستصبح فلاحا مثل أبيك، ستتزوج فلاحة من الخدم، ستسكن مع الخيل وتأكل معهم، أنت لست ابني، أنت ابن أبيك الفلاح.»
كان الحديث يجدد شباب عبد الرحيم، يتغير صوته، يقلد أمه، يقلد إسماعيل، لم يكن يفضح سر أخيه، لكنه يعطيني مفاتيح الأسرار، فإن كشفت السر فسأستحقه، وإن لم أكشفه فقد حفظه، كانت تعجبني طريقته، وكنت أتفاعل معه. - كانت أمي دائمة القسوة عليه، وكان ساخرا مثل أبي، يفجر قنابله أمام ضيوفها الدائمين، وينطلق لغرفته، حتى سافر لدراسة الطب في فرنسا، لا أذكر وقت سفره الأول، لكنه عاد طبيبا، كان له سحر العائد من السفر، سحر من يعرف ما خلف الأفق، يأتي دائما بهذا ، يفعلونه هكذا هناك، دائما لديه ال «هذا» ودائما يعرف ماذا «هناك». لكن لم يفكر أي منا أنه لديه الكثير من الأشياء هنا يحاول نسيانها، وكأن سحره كان غطاء يخفي خوفه من تذكر ال «هنا»، وكان مرض أبي الأول؛ فكان إسماعيل يصرخ: «الأمر بسيط، الأمر بسيط، لن يموت، لن يموت.» راقبته يومها، أعطى أبي دواء وذهب إلى غرفته، ذهبت خلفه لأعرف ما بأبي، كان يبكي، وذهبت دموعه عند رؤيتي، وذهب إسماعيل مرة أخرى لباريس، أذكر تلك المرة كانت وقت اغتيال بطرس باشا، أظنه كان في الثامنة والعشرين من عمره، وظل هناك لا نعرف من أخباره سوى الخطابات، وبطاقات المعايدة، والهدايا التي يرسلها مع الأصدقاء، زاره أبي عدة مرات، كان يسافر للعلاج، لكنه لم يكن مريضا، كان يسافر لرؤيته، أما أمي فحين احتاجت السفر للعلاج ذهبت إلى لندن؛ لتقسو عليه.
بالطبع كانت أمي تحبه؛ فهي أمه، لكن الأمور ساءت بينهما كثيرا، أظن بعد مرض أبي الأول، وحين سألته وقت سفره الثاني الذي نواه بلا عودة عن سبب سفره، أجابني بأنه لا يريد أن يعرف ما يحدث هنا، ولا يريد رؤية أبيه يموت، لم أفهم ولم يخبرني أكثر من هذا، وظلت الأمور على نفس الوتيرة، الخطابات، والبطاقات، والهدايا، وسفر أبي لرؤيته، حتى سمعنا عن «كاميليا» كانت ممرضة تعمل معه، تزوجا مع عودة سعد زغلول من مالطة، لم تبارك أمي زواجهما، وسافر أبي لهما.
وعاد إسماعيل وكاميليا، وجاءت معهما أمل في أشهرها الأولى، كان الجميع يحتفل بالدستور الجديد، بينما عائلة خطاب تحتفل بمولد أمل، ابنة أبيها ابن أبيه، حاولت أمي اقتراح نخب يومها، وصفه أبي بأنه أكثر هراء من تصريح 28 فبراير، ولخص نخبها بأن إسماعيل وكاميليا أسرة مستقلة لكن ثريا هانم تؤمن لهم الإمدادات، والحماية، والإقامة بسراي خطاب.
كانت كاميليا أجمل من بالمنزل، لكن حياتها لم تكن جميلة مثلها، لاحقها أمر أخفته عن إسماعيل، لم يكن بالأمر المهم وقتها، لكنه أصبح أهم الأشياء بعدها، هي ابنة لأم فرنسية وأب سوري، ولدت في باب توما بدمشق، لها أخ وحيد يدعى نزار، لا تعرف عنه الكثير، فقد رحلت مع أمها لفرنسا بعد أن انفصلت عن أبيها، ولم يحاول التمسك بها، تركها لأمها، واكتفى بنزار أخيها، وبينما كانت كاميليا تدرس في باريس، كان نزار ينخرط في تنظيمات سياسية بدمشق، ولم يكن بينهما سوى رسائل بريدية قصيرة، جاءها آخرها من صديق لنزار بأنه قبض عليه ببيروت، لم تعرف لماذا، ولم تعرف مصيره، ولم يصلها أي شيء عنه بعده.
وتزوجت، وأنجبت أمل، وعاشت بالقاهرة مع أخي، حتى جاء نزار ليزورها، جاء متخفيا ودخل البيت كاللصوص، وجدته في حجرتها، لم تتعرف عليه، حاولت الصراخ، كممها، هدأت وتذكرت، وحكى لها عن سجنه ببيروت، أنهى عقوبته، وعاهد نفسه، وعاهد قبر أبيه أن يترك العمل السياسي للأبد، وحين سافر لأمه وأخته في فرنسا، عرف بوفاة أمه، وزواج أخته، ولم يكن صعبا معرفة عنوان الدكتور إسماعيل خطاب بالقاهرة، جاء يتحسس خطاه، خاف ألا تستقبله أخته، أو يسبب لها الحرج مع أسرة زوجها التي بدت له ذات سطوة ونفوذ.
خرجت أمل من حجرتها، لتخبر إسماعيل، وباقي العائلة، لكن ثريا هانم والدتي سبقتها، واتهمتها في أخيها، وتعقدت الأمور، وهددت وتوعدت بإحضار البوليس ليقبض عليه، بدأت كاميليا في الصراخ أنه أخوها، لم يسمعها أحد، ومع صفارات البوليس هرب نزار، وجاء إسماعيل، لم يكذب كاميليا، ولم يبد أنه صدقها، ربما كانت فرصته للابتعاد عن بيت العائلة؛ فانتقل لبيته بالدقي، ولم تعد الأمور أبدا كما كانت، تغير إسماعيل، وتوفيت والدتي، سألته في العزاء عن كاميليا ولماذا لم تأت؟ لم يجبني بإجابة واضحة، لكن بدا لي الأمر أن كاميليا كانت تحت الإقامة الجبرية، هي وأمل وكأنها من وقعت اتفاقية 36، وعدت إسماعيل أن أتحقق من الأمر، وبالفعل تحققت منه. - عفوا عبد الرحيم باشا كنت أعتقد أن جدة أمل هي من ذهبت إليها بالإسكندرية، لكنك تقول إنها توفيت وأمل صغيرة. - لم تكن جدتها التي ذهبت إليها بل زوجة جدها؛ فقد تزوج أبي ممرضته بعد وفاة أمي، وكانت أمل تظنها جدتها. - أعتقد أننا سنصل لتلك النقطة لاحقا، لكن أريد معرفة ما تحققت منه بخصوص نزار.
قابلت كاميليا، لم تكن كما كانت، كانت وردة ذابلة، ناسية، حزينة، لم تتقبل شك إسماعيل بها، لم تصدق ألا يصدقها، أو يساوره أقل شك بها، بالطبع كنت أصدقها؛ فليست كاميليا من تستقبل عشيقها بغرفتها في بيت عائلة زوجها، ولست بالقليل الخبرة في الناس؛ فبدأت البحث خلف نزار، لم يكن صادقا أنه ترك العمل السياسي، كذب عليها بهذا الشأن، وأخفى كونه جاء لزيارتها فقط، في الحقيقة أنه دخل مصر بطريقة غير سليمة، وفي مهمة تخص الحزب الاشتراكي، وكان يحتاج لبعض المال منها، لهذا هرب عندما اقترب البوليس ولم يعد مرة أخرى، ولم يسأل عما جرى لأخته.
وبعد أن عرفت كل ما أحتاجه ويزيد من عبد الرحيم باشا، اتضح كل شيء، وعرفت متى بدأ كل شيء، لم يقتصر الأمر على شفاء أمل، بل أيضا كاميليا، وأخيرا قابلت أخاها نزار، أصبح لأمل خال.
فريدة النعمان :
وهل بكت أمل وانهارت؟ هل صفعتها لتتذكر؟
أحمد (ضاحكا) :
لا تتم الأمور بتلك الطريقة، فريدة.
فريدة :
كيف تتم إذن، أريد أن أعرف حقا.
أحمد :
كل إنسان لديه أماكن في عقله لا يحب زيارتها، وأعني كل إنسان، ربما تكون في تلك الأماكن أشياء مهمة، مفتاح لصندوق مهم، خريطة لكنز، لكننا لا نود تذكرها.
فريدة :
حسنا، أنت تراوغ، دكتور أحمد، هل سألتك عن سر المهنة؟
أحمد :
ليس سرا، فما أفعله عادة هو اختيار الوقت المناسب لزيارة تلك الأماكن برفقة المريض، وهذا ما فعلته.
فريدة :
الوقت المناسب؟ وما الوقت المناسب؟
أحمد :
الوقت الذي تكونين فيه مستعدة لرؤية أشياء لا تحبين رؤيتها.
سكتت فريدة، ونظرت للجميع باستنكار لقوله، شعرت أمينة بتحرجها، فسألت دكتور أحمد: «حقا دكتور، نريد أن نعرف كيف شفيت أمل؟» - تعرضت أمل لأشياء في صغرها لم تفهمها، وأشياء لم تتحملها، لكن رغبتها في البقاء والتمسك بالحياة هما ما جعلاها تلقي كل شيء في واحدة من تلك الغرف المظلمة؛ فصار بعض منها يتعاطف مع أمها، ويستنكر على أبيها ما يفعل، وصار بعض آخر يتعاطف مع صدمة الأب ويستنكر وجوده مع أمها، ربما شعرت بالغيرة من أمها أيضا. وبعض منها كان لديه حلم كبير بدراسة الفن والتاريخ، وبعض منها كان يتمنى فقط الاختفاء بوسادتها؛ لم تكن كل تلك الأجزاء سعيدة بعضها ببعض، وكان كل جزء يشعر بالضيق من وجود الأجزاء الأخرى، وكان الأقوى في كل وقت وفي كل حالة هو من يظهر، ويغلق الأبواب على باقي الأجزاء، وبمرور الوقت تجمعت الأجزاء المتشابهة، أو القادرة على التأقلم بعضها مع بعض، حتى تبقى وجهان لأمل، ولا أجد وصفا لهذين الوجهين أفضل من اختيار الدكتور عبد الله مسعود: أرتيميس إلهة الصيد، وأرتيميس ربة القمر.
قد يتعرض الكثير لمثل تلك الصراعات، وتختلف وتتباين القدرة على التكيف بين إنسان وآخر، حتى يظهر شيء يخلق لدى الإنسان الرغبة في الشفاء، لن تصدقوا أن ما جعل أمل تتعافى هو الحب؛ ظهور دكتور عبد الله في حياتها هو ما دفعها للعلاج، هو ما أيقظ رغبتها وغيرتها، غارت من نفسها، أخرجت غيرتها وجهيها، وأصبحت أرتيميس ربة القمر تغار من أرتيميس إلهة الصيد، حاولتا معرفة من منهما يريد، وتحولت تلك الرغبة لرغبة أكبر في معرفة من منهما هي أمل، وكانت تلك الرغبة نصف علاجها ونصف شفائها، لم تكن أرتيميس منحرفة، كانت إلهة الصيد أستاذة جامعية ناجحة، وكانت ربة القمر سيدة بسيطة بارة بأمها، كان لكل منهما صراعاتها الخاصة، سواء مع الأب والأم والأقارب، أو مع المجتمع، وحين تبددت الغيوم، وظهرت ملامح الحقيقة كان الصراع الوحيد الباقي هو الرغبة في معرفة «من أمل خطاب؟»
عندما ينقسم شيء لأجزاء كثيرة، ونحاول ترميمه مرة أخرى يجب أن نعرف كيف كان قبل التحول، يجب أن نعرف النقطة التي تحول عندها؛ لذا أردت معرفة متى بدأ الانقسام، وبحثت حتى وجدت جذور الانقسام؛ انقسام أمل ونسيان كاميليا، كانت نقطة التحول واحدة، لكن كلا منهما تعاملت معها بالطريقة الأكثر ملاءمة لتكوينها؛ فبينما كانت أمل تحارب للبقاء في الحياة، كانت كاميليا تحارب للخروج منها، وحين أصبحت أمل مستعدة للعودة، أمسكت يدها، وعدنا سويا برفق لتلك النقطة؛ فرأت كل شيء في أماكنها المظلمة، الفرق أنها لم ترها بعقل الطفلة الذي توقف وقتها، بل بعقل المرأة التي هي الآن؛ رأت، تذكرت، تألمت، ثم تفهمت، وحينها قبلت؛ قبلت كل ما حدث لها، قبلت نفسها، وحين قبلت توقف الصراع، وبدأت معركتها لعلاج أمها، وبالفعل شفيت كاميليا على يد ابنتها دكتورة أمل خطاب.
سعيد :
هذه القصة تصلح رواية أو فيلما دكتور أحمد.
عادل :
لا أعتقد أن هذا ممكن إلا بموافقتها، أليس لديكم حماية لسرية معلومات المرضى، دكتور؟
فريدة :
هذا ما كنت أحاول قوله منذ البداية.
أحمد :
بالطبع لا يمكن نشر أي شيء إلا بموافقتها، حتى إنني لا يمكنني أن أحكي كل ما حكيت إلا بموافقتها.
فريدة :
إذن هي موافقة.
أحمد :
وطلبت مني أيضا أن أنشر قصتها.
فريدة :
لكن النشر مهنتي دكتور [قالتها مبتسمة بدلال].
أمينة (ضاحكة) :
كنت أنتظر تلك اللحظة حين تتحول الأمسية لعمل.
أحمد :
هذا ما كنت أود طلبه منك، أستاذة فريدة، ويمكن أن تبدئي بهذا الخطاب بخط يدها.
وناولها خطابا أخرجه من جيبه والجميع ينظر للورقة المطوية، كأنها خريطة لكنز، أخذت فريدة الرسالة، لم تكن ورقة واحدة، بل أكثر، فتحتها ببطء: «لها خط جميل.» نظرت فريدة للرسالة وجرت بعينيها سريعا قبل أن تقول: «يجب أن تسمعوا تلك الرسالة؛ فلم يخبرنا الدكتور أحمد بما حدث للنهاية.» وبدأت فريدة بقراءة الرسالة بصوت هادئ.
الرسالة
من: دكتورة أمل إسماعيل خطاب
إلى: دكتور أحمد مراد
3أ عمارات الأوقاف - الشاطبي - الإسكندرية
تحياتي دكتور أحمد، شكري وامتناني لكل ما فعلت من أجلي، أرسل إليك من أثينا، بعد جولة في أوروبا، برفقة كاميليا، وتعرف من معنا أيضا؟ العمة سناء، انتقلت للعيش معنا بالإسكندرية، نقضي وقتا جميلا، في الحقيقة جئت إلى بلاد الإغريق لأقابل أرتيميس، تعرف جيدا ما يربطني بها، أردت رؤيتها على أرضها، خارج صفحات الكتب، لم أجدها كما أعرفها، إلهة الصيد وربة القمر، عرفت من عشاق الأوليمبس من كانت أرتيميس وتمنيت لو تركت القمر.
عذراء الصيادين هي ، وحاميتهم ، راعية الحيوانات، ومن تساند النساء عند الولادة. لا أعرف علاقتها الحقيقية بالقمر، لا أحد يعرف، وأعرف جيدا أن عبد الله بذل مجهودا كبيرا ليبهرني بالأساطير الدينية الإغريقية، وأظنه كان موفقا جدا في اختيار أرتيميس، لا أعرف متى ارتبطت بها رغم ثقتي في احتيال عبد الله، لكنني لا أنكر أنني أحببته، لست أنا من أحببت عبد الله، بل جزء مني، وجزء آخر، وتنافسا على حبه، وهو أيضا أحب جزءا مني وجزءا آخر، لكن أمل خطاب؟ أنا؟ لم يعرفني ولم يحبني، وأنا أيضا كنت أحتاج لوجوده أكثر من احتياجي له، الحضور، أستطيع تفهم موقفه جيدا. في نهاية رسالتي سأحكي لك عن آخر مرة رأيته.
قابلت نزار، وقابلته كاميليا أيضا، تعاتبا وثارا وتصافيا، أعطاها إرثها ورفضت معظمه، وأعطته أختا وأما، صار لي خال يا دكتور، أيضا لن تصدق ما حدث مع عمي، كان يعرف كل شيء ويراقب كل شيء، احتفظ لي بثروتي وزادها وتركني أظنه اللص الذي يحاول سرقتي وسرقة أمي، حكى لي كثيرا عن أبي، وعن جدتي، أقصد أم أبي، وليست جدتي التي ربتني، وأقصد زوجة جدي.
تعجبت كثيرا من عدم قدرتي على معرفة كل هذا، كنت أعيش حياتين؛ كلتاهما لا تعرف شيئا، توقفت عن استقبال كل ما يخص العائلة، توقفت عند صورة واحدة وليس هذا ما جعلني أتعجب، فالآن أفهمه؛ ما جعلني أتعجب هو كيف لعالمة التاريخ والفن ألا يثير فضولها أن تعرف من أين أتت؟ وكيف كانت؟ لكنك بسطت لي كل الأمور دكتور، الآن أتحدث عن أبي، وليس عن الدكتور إسماعيل خطاب، أحببت كلمة أبي، أترحم عليه كثيرا وأقبل يد كاميليا كي تسامحه، الحقيقة أنني أعرف جيدا أنها سامحته، لكنها تحب أن تبدو هكذا، ربما تظن حبها له ضعفا، وأقول لها إن ضعفها في حبه هو سر قوة هذا الحب، وسر بقاء هذا الحب.
تظاهرت أنها تعرف كل شيء عني، وتظاهرت أنها تعرف أيضا، زارتني بالجامعة، قالت لرجال الأمن إنها والدة الدكتورة أمل خطاب، كانت تشعر بالفخر والزهو، وهي تنظر لي، وكنت أشعر بالفرحة، كانوا يظنونني يتيمة في الجامعة، كنت أتجول بها بأقسام الكلية، وكلما رأيت من أعرفه قلت هذا القمر أمي، تحمر وجنتاها كالأطفال، بكينا وضحكنا وتشاجرنا، أم وابنتها، ثم نسينا الأم والابنة، وصرنا أصدقاء، لم تفارقنا العمة سناء، وصرنا الصبايا الثلاثة نجوب في الإجازات الأرض بطولها وعرضها، ونتسامر بالمساء، ونعد الشاي بالتناوب أنا وكاميليا للعمة سناء، لم أتوقف عن مناداتها العمة سناء رغم أنني أنادي أمي بكاميليا، والعمة سناء تكشر عن أنيابها ظنا منها أنني أعاملها كمسنة، وأمي كصبية، نضحك، وأقبل رأسها ولا أتوقف عن إثارتها، ولا تتوقف عن تكشيرة أنيابها.
يبقى في رسالتي شيئان؛ الأول يخصك دكتور أحمد، وهو أنني أريدك أن تنشر قصتي بالشكل الذي تراه مناسبا، وأعرف جيدا أنك لن تستخدم الأسماء الحقيقية؛ لذا أرسلت رسالتي بالأسماء التي اخترتها أنا وقت بدأنا الجلسات، أعرف أنك لا تبحث عن الشهرة أو المال، لكن الأمر لا يخص بحثك أنت، بل يخص الكثيرين ممن يبحثون عن أنفسهم، فقط أخبرهم مهما كان الأمر مظلما فسيظل بداخلنا بصيص من النور، يأخذنا للسلام والحب والأمان، لا يهم كم عاما قضيت حتى عرفت من أنا، لكنني الآن أعرف من أكون، وأحب من أكون، وأحب كل من أوصلني لتلك النقطة من ولادتي، وحتى جلوسي لأكتب لك رسالتي، اجعلها قصة عن الحب دكتور، لا أحب أن تبدو قصتي مؤلمة أو مريرة، اجعلها قصة عن الانتصار، العودة، الأمل، قصة أمل خطاب.
والأمر الثاني عبد الله، هذا المحتال الجميل، هو من أعادني لي، فجر بداخلي ينابيع من الحب، قبل أن يفجر ثورتي وغيرتي، أمشاني عارية بلا خجل، أغواني وأغويته، وبعد رحيله لا أذكره إلا بابتسامة تذكرني بغيرته من سيرابيس الغارق «الإله الذي لا يعرفه أحد» كما كان يقول عنه. وسأحكي لك عن آخر مرة رأيته كما وعدتك، كنت وكاميليا والعمة سناء نحضر أحد عروض الأوبرا، وبعد انتهاء العرض خرجنا لنمشي على البحر، رأيته، كان يفتح سيارته لبطلة الأوبرا، سمراء جميلة، وكأنها منحوتة بمعبد مصري بالصعيد ، فتح لها الباب، ركبت، ولمحت شيئا يسقط من سيارته، ثم ركب هو وانطلق، لم يرني، لم يشعر بوجودي، كانت الأميرة السمراء هي كل ما يرى، اقتربت لأرى ماذا سقط من سيارته؛ فوجدت كتابا صغيرا بعنوان «الآلهة في مصر القديمة» تذكرت أرتيميس، ابتسمت، وتحولت ابتسامتي لضحكة عالية. (تمت)
صفحة غير معروفة