رشفت مرارة أمي بقهوتي، رشفت حيرتي أيضا، ورشفت شوقي لعبد الله، رشفت غيرتي وغضبي، وأكملت رحلتي للإسكندرية، كان الوصول لهذا المكتب سهلا، بناية لا تختلف كثيرا عن بنايات الإسكندرية، صعدت للمكتب وقدمت لموظفة الاستقبال الورقة التي تسلمتها من ساعي البريد، طلبت مني الانتظار وهي تتفحصني بدهشة أعرفها جيدا، واعتدتها فلم تعد تضايقني.
مر بعض الوقت حتى دعتني للدخول لمكتب أكبر، كان عبد الله واقفا في انتظاري! لم أكن الوحيدة المصابة بالذهول في المشهد، كان هو أيضا، كان مختلفا، لم يكن ذلك الفنان العفوي الحافي القدمين، بل كان يشبه رجال السياسة بأناقته المصطنعة وشعره المهندم.
وقفنا لحظات نتطلع بتعجب، كل منا يجوب الآخر بعينيه، نسيت سبب مجيئي حين دعاني للدخول، وددت احتضانه، لكن عينيه منعتني، مددت يدي فتلقفها بيد باردة، لم أعرفها من قبل، بدا إطراؤه على ملابسي ساخرا، شعرت أنه يكرر نفسه، يعيد تصدير دهشته، أو ربما صار يستمتع بالسخرية من ملابسي، أخرستني برودته، تلمست له بعض العذر، ربما لأننا في مكان عمله. - كنت أظنك أستاذا بالجامعة. - تحدثنا من قبل في هذا الأمر وقلت لك إنني لم أكن أستاذا بالجامعة قط.
صدمني رده، لم أسأله من قبل، وبالطبع لم يجبني من قبل، زادني من الشك أضعافا، سألته هل يعرفني جيدا؟ فأجاب بأنه بالطبع يعرفني، وأنني أوكلته في قضيتي لتصحيح أنصبة الميراث عن والدي! كانت صدمتي الكبرى، إلى هذا الحد أراد التخلص مني؟ أنا، «أمل خطاب» التي طاردها لبيتها لينال منها؟ الآن أصبحت مجرد «زبونة» لديه؟ كم استيقظت عاريا في أحضاني؟ هل كل هذا بسبب ثورتي؟ لم تتحمل ما أصابني من غيرة وخوف فقررت الهروب من كل شيء بتلك الحيلة الرديئة؟
لم أكن أدري أكنت أحدث نفسي، أم أحدثه، لكنه أجاب ما لم أسأله أو ربما سألته، لا أدري. - أعتذر عن اختفائي المرة السابقة، كان علي الرحيل قبل استيقاظك. - عن أي شيء تتحدث؟ - يوم أتيت لبيتك، مراجعة الأوراق؟ النبيذ؟ لا أظنك نسيت. - لا بالطبع، كيف أنسى؟! أنت أتيت لتراجع الأوراق وقضيت الليلة معي ثم رحلت قبل أن أستيقظ، أليس هذا ما تحاول قوله؟ - لم كل تلك الثورة؟ أحاول فقط الاعتذار.
كان متفاجئا بثورتي، يتصرف كأنها المرة الثانية التي يقابلني، ومرتنا الأولى يذكرها ولا أعرف عنها شيئا، روايته كانت الأغرب لي، يظنني تغيرت، يرى أنني كنت أكثر نضارة وبساطة، كنت أكثر أنوثة، وأنه كان ينوي تكرار زيارته لي بعد أن ينهي بعض الأعمال.
فهو لم ينس الليلة التي قضاها معي.
كنت ثائرة، لم أكن لأقبل ما يقول، لست رخيصة ومتساهلة إلى هذا الحد، إن كان لا يذكر شيئا عني سوى تلك الليلة فهو يراني مستهترة بلا شك، لقاء أول في بيتي ، نبيذ، قضاء الليل، أنوثة ملفتة؛ فالطبيعي أن يجيء اختفاؤه في اليوم التالي، بينما أذكر الكثير عنا، وأراه الآن ينكر كل ما أنكره أنا، لم يبق لي سوى إلغاء كل الإجراءات التي لا أعرف عنها شيئا، وألملم أوراق أبي وأخرج من مكتبه ثائرة لأجد موظفيه أمام المكتب كالجيران المتطفلة، صحت بهم: «لست زوجته، ولم يضربني، إلام تنظرون؟!»
خرج خلفي لم يكن يفهم سبب ثورتي، يتصور أنني غضبت لأنه رحل وأنا نائمة! يردد الاعتذارات، حاول تهدئتي، حتى جلسنا في مقهى بفندق يواجه البحر بمحطة الرمل، طلب لي عصير الليمون المثلج، وتناول هو القهوة.
روى لي ما حدث في اليوم الذي لا أعرف عنه شيئا، قال بأنني كنت مختلفة، أظهر تفهما، يصدقني، ولم أفهم أيضا سر تفهمه، جعلني أروي له كل شيء منذ عرفته، بدت عليه الدهشة، لكنها لم تكن بقدر دهشتي، وكأنه سمع ما قلته من قبل.
صفحة غير معروفة