لنا جارة وحيدة، السيدة سناء، دائما أراها كأمي، كنت أظن أنها أمي القوية التي تعيش بالطابق الأرضي، بينما أمي الضعيفة هي من تعيش معي بالمنزل، ألجأ دوما للعمة سناء، هي وحيدة مثلي، حتى قابلت عبد الله لديها، في الحقيقة قابلته عند بيت جدتي بالإسكندرية، خاطبني عند مدخل المنزل، ردد اسمي؛ فصحت به [قالتها مبتسمة بخجل]، ثم وجدته يجلس بشرفة السيدة سناء، وددت أن أجالسه وأحدثه، كأنني أعرفه من قبل، هو ذكي وحنون. - سنأتي له لاحقا، حدثيني عن حجرتك. - الحجرة! الحجرة! أي حجرة؟ - التي بها الوسادة. - هي الغرفة التي أهرب لها كلما غضبت، كلما أصابني الخوف أدخلها وأضع الوسادة فوق رأسي، حتى أنام. - تنامين لوقت طويل؟ - أحيانا لحظات، وأحيانا لأيام، لا أعرف كيف، لكنني أستيقظ بألم في الرأس رهيب، وكلما خرجت من الغرفة أواجه نقضا أو ثناء، لأفعال لا أذكر منها شيئا. - هل تريدين الذهاب للحجرة الآن؟ - هل يجب أن أذهب إليها؟ [قالتها بخوف يشبه التوسل]. - نعم، اذهبي إلى الحجرة.
كان الطبيب ينظر لها نظرة ثابتة ، وهي ترخي جلستها وتحني رأسها، تغمض عينيها باستسلام، يطيل الطبيب نظرته إليها، ينحني قليلا ليقترب منها، يمسك معصمها، يقيس نبضها، هي نائمة. - أمل؟ أمل؟
يهز كتفها برفق مرددا: «ابنتي، ابنتي.» تفيق أمل، بعين لامعة مشرقة تختلف عن تلك النظرة الخجولة، تبتسم بثقة قائلة: «لست ابنتك، أنت لا تعرفني لتناديني ابنتك.» - أود أن أعرفك إذن. - ألم تقل لك هي من أنا؟ - من هي؟ - كف عن تلك الألاعيب، سأريحك، أنا أمل خطاب، أستاذة تاريخ الفن بكلية الفنون الجميلة بجامعة الإسكندرية.
نظرت لملابسها بحنق مرددة بصوت بالكاد يمكن سماعه: «لا أعرف كيف تختار ملابسها، لن أتمكن من التخلص منها الآن، تستمتع هي بإحراجي دوما، أف لها.» - أهلا دكتورة أمل، أنا دكتور ... - أعرفك دكتور أحمد مراد، صديق والدها.
ابتسم لها الطبيب، ودون بعض الكلمات في دفتره، ولم تفارقه ابتسامته، وربما لم يتمكن من إخفاء دهشته. - وهل تعرفين لماذا أنت هنا؟ - بالطبع أعرف، هي تريد التخلص مني، وعبد الله يريد التخلص من الأمر برمته، وأنت تريد التعامل مع حالة فريدة من ازدواج الشخصية؛ فبرغم سطوع اسمك في علم النفس، فإنك لم تحظ بحالة مماثلة، وهذا ما ذكرته في كتابك الأخير، حول أمراض الهيستريا. - تقرئين كتبي أيضا، هذا مثير حقا، تحدثت عما تريده هي، وما يريده دكتور عبد الله، وما أريده أنا أيضا، ماذا عما تريدينه أنت؟ - لا أريد شيئا، سأمنحك الفرصة دكتور، ليس لمراقبة حالة واحدة من الازدواج، بل حالتين. - ماذا تقصدين بحالتين؟
أطلقت ضحكة رقيقة، ولمعت عيناها أكثر، واقتربت منه لتهمس في أذنه «دكتور عبد الله مسعود أستاذ الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة، هل تعرف أي شيء عن حياته الأخرى؟»
وتحكي إلهة الصيد
كان الطبيب مندهشا، لم يكن بعد متأكدا من حالة أمل، وبعد أن فجرت مفاجأة أن عبد الله أيضا مزدوج، هل تدرك حقا ما تقوله هذه السيدة الشابة؟ قد سمع عبد الله لفترة طويلة، له بعض الملاحظات على شخصيته، لكنها في حدود المقبول نفسيا وإنسانيا، بدا الطبيب مترددا بين إنهاء الجلسة وبين سماع المزيد من شخصية أمل الأخرى، وفي النهاية انتصر فضوله العلمي، وقام ليعد القهوة له ولأمل ليسمع منها المزيد. - شكرا على القهوة. - أتمنى أن تعجبك، أفضل أن أفعل كل شيء بنفسي. - رائحتها ذكية، لي سؤال دكتور، وبعدها أعدك بالمساعدة. - تفضلي دكتور أمل. - ماذا سيحدث لي إن شفيت هي مني؟ أو ماذا سيحدث لها إن شفيت أنا منها؟ - دعيني أحاول توضيح الأمر بشكل مبسط، قد تكون الحالة حقيقية ولدينا شخصية منبثقة عن شخصية أخرى، هناك مراحل وأنواع مختلفة من الازدواج، في النهاية الشفاء يأتي باتفاق أو اتساق العقل الواعي بالعقل الباطن، فلا يحتاج الشخص لعدد من الشخصيات لتعبر عما داخله، سواء من مخاوف أو أحلام أو رغبات. - قد أعتبر هذا الرد دبلوماسيا من طبيب مهذب. - أن يقبلك عقلها، أو يقبلها عقلك، أو تصلا لدرجة من التسوية. - أراه أسعد حالا بكثير الآن، وأنا امرأة تحفظ وعدها، ماذا تريد أن تعرف دكتور؟ - كل شيء عنك، إذا أذنت لي بالطبع؛ فبقدر المعرفة يمكنني النصح أو المساعدة.
أعرف أنها لم تكن طفلة مدللة على الإطلاق، كانت تشبه دليل إدانة يذكر والدها بجريمته، هي لم تدرك ما أصاب أمها؛ فكانت تحذو حذوها، حتى اقتربت من فقدان عقلها هي الأخرى، كنت أثور كلما أخفت رأسها بوسادتها، كانت تقاوم ثورتي في طفولتنا، كانت توافقني في عقلها فقط، وعند التنفيذ كانت تهرب لتلك الحجرة، لم أتحمل تلك الدرجة من الخنوع، وكان صدامي معها حين أجبرها هو على دخول كلية الطب، ربما كان هذا هو ميلادي الحقيقي خارجها، هي قبلت بخضوع، وأنا رفضت بثورة، وبدأت الصدام بوالدها، تزوجت من بليد غبي لأخرج وأخرجها من بيته، لكنها خذلتني ووافقت على الإقامة بمبناه تحت عينه، في لحظة تحول البليد لنسخة مشوهة ممسوخة وحقيرة من والدها، صفعها، اغتصبها بكل وحشية؛ فلم أصمت وقتها، خرجت وسحبت أوراقها من الجامعة وقدمتها في كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية، وأقمت ثلاثة أشهر كاملة ببيت جدتي، لا تتعجب دكتور، ليست جدتها، هي جدتي أنا، نعم هي منها من ذات دمائها، لا أنتمي لتلك الذليلة المثيرة للشفقة، وأمها، لا أنتمي لهذا الرجل القاسي، وحين علمت بوفاة والدها عدت لأنهي علاقتها بهذا البليد، لكنها خذلتني مرة أخرى، حين تركت لأعمامها أكثر بكثير مما يستحقون من ميراث أبيها.
لم أكن أرغب في أكثر من دراسة تاريخ الفن، كان التاريخ هو بوابة حريتي، لم أتورط في علاقات، لم أنفصل عنها طمعا في رغبات ترفضها، لم أكن أرغب إلا بحياة سوية أحقق فيها حلمي، لم أكن أتركها إلا لحضور محاضراتي حتى أتممت دراستي وعينت في الجامعة، كان أساتذتي يقدرون مجهودي، كنت أدعي مرض أمها ليسمحوا لي برعايتها، وانتهيت من دراساتي العليا، وناقشت الدكتوراه، وقاربت الأستاذية، والآن هي تريد أن تأخذ كل شيء؟! أين كانت هي وأنا أحارب الجميع من أجلها؟ كانت تخفي رأسها بوسادتها، وحين رفعت الوسادة تريد كل شيء؟ - ما هو ال «كل شيء» الذي قصدته؟ - كل شيء، أعنى كل شيء. - تظنينها تريد الحصول على وظيفتك مثلا؟ درجتك العلمية؟ - لا، لا، بالطبع لا يمكنها، ستطرد بعد أول مناقشة. - مسكنك؟ - أقيم في بيت جدتي لا يمكنها طردي منه. - دكتور عبد الله؟ - ماذا عنه؟ - هي تريد دكتور عبد الله؟ هل هذا ما قصدته؟ - ربما. - ربما هذا ما قصدته، أم ربما دكتور عبد الله هو كل شيء؟ - [ابتسمت أمل قائلة] أعرف أنني لن أسلم من مكر الأطباء، حسنا دكتور أحمد، أتحدث عن دكتور عبد الله، هو من تسبب في كل هذا، راقبني، راقبها، ولم يعرف أنني أيضا راقبته، ولم يعرف أنني أعرف عنه أشياء ربما لا يعرفها هو عن نفسه، كما قلت لك من قبل، هو أيضا له حياتان. - إذن لو لم يراقبك دكتور عبد الله لما حدث شيء؟ - دكتور مراد لقد عشت عشرين عاما، بين الأبحاث والدراسات والمراجع والرسائل العلمية، لم تحدث مشكلة، ولي سمعة طيبة بالجامعة، منذ دفعتها للانفصال عن ذاك البليد ولم يكن هناك رجل في حياتي، ليس لدي مشاكل دكتور. - وماذا عنها؟ - ماذا عنها؟! - نعم، هل حدث لها مشاكل طوال تلك الفترة ؟ - هي تسير في طريق أمها نحو فقدان العقل، أفيقها من وقت لآخر لكن ليس دائما ما تستجيب. - وإن فقدت عقلها مثل أمها، فهل تفقدين عقلك أنت الأخرى؟
صفحة غير معروفة