فازدادت أرمانوسة كدرا لتلك الملاطفة وودت أن ترفض ذلك الاقتراح، ولكنها لم تستطع إلا إظهار الارتياح، فصفقت المرأة وإذا بجارية حبشية قد حضرت، فأمرتها باستدعاء السيدة قسطنطينية، فجاءت تجر ذيل ثوبها الأرجواني، وكانت قد خاطته خصيصا لتلبسه يوم مقابلة أرمانوسة عندما سمعت بقدومها إلى بلبيس، وجعلت عليها كل حليها، فحيتها أرمانوسة وبشت في وجهها وأظهرت الائتناس بحضورها، فجلست الفتاة متأدبة تعد نفسها سعيدة بالمثول بين يدي ابنة المقوقس، وكانت قد سمعت بجمالها وتعقلها، وأخذت تتأملها وتنظر إلى ملابسها وحليها، وكانت تسمع بحسن زي أهل منف ولا سيما ابنة حاكم البلاد.
أما أرمانوسة فحالما رأت الفتاة وتذكرت أن اسمها مثل اسم من تكرهه نفر قلبها منها، وتشاءمت من رؤيتها، وندمت على قبولها دخولها عليها، ولكنها تجلدت وأخذت تحادثها وتلاطفها، وأفكارها مشغولة بأمر بربارة وأركاديوس، ثم بدأت قسطنطينية حديثها وقد وجهته إلى والدتها قائلة: «هل سمعت يا أماه على من يقع الاختيار هذه السنة لتكون ضحية النيل؟»
قالت أمها: «سمعتهم يتحدثون في ذلك، وقد فهمت من أبيك أنهم اختاروا المعلم اسطفانوس من قرية ... وقد قضي الأمر على عجل بغير استعداد.»
فقالت أرمانوسة: «وما هذه العادة القبيحة التي جرينا عليها في هذه البلاد؟! هل يحسبون النيل ذا عقل يغضب ويرضى حتى يقتلوا بنات الناس من أجله؟! إني لم أنفك أكلم أبي في أمر هذه العادة وحثه على إبطالها، وهو يعتذر بأنها عادة متمكنة من أهل هذه البلاد فلا يستطيع نزعها، على أني حينما أتصور ذلك العمل الفظيع يقشعر بدني.»
قالت الفتاة: «الحقيقة يا سيدتي أنه عمل فظيع وبخاصة لأن هذه الفتاة مخطوبة وكانت تتأهب للاقتران، فكيف يكون حال خطيبها إذا علم بأمرها؟»
فلما سمعت أرمانوسة ذلك انفطر قلبها على تلك الضحية، وودت لو تستطيع إنقاذها من ذلك المهلك، ولكنها عادت إلى هواجسها، وأرادت قطع الحديث لتخلو إلى نفسها وتفكر في حبيبها على انفراد، فقضت برهة في مثل تلك الأحاديث حتى آن وقت الرقاد، فذهبوا بها إلى غرفة أعدوا لها فيها سريرا مجللا بالأغطية الثمينة، فأوت إليه وهي تخاف ألا تستطيع رقادا تلك الليلة؛ لفرط ما بها من القلق وما يتقاذفها من الهواجس، ولكن تعب الطريق سهل عليها النوم فنامت حتى الصباح، ولم تفق إلا على صوت أهل القصر وهم يرحبون ببربارة، فنهضت من فراشها مذعورة وأخذ قلبها يخفق مسرعا شوقا إلى معرفة ما تم من أمر أركاديوس، ثم سمعت قارعا يقرع الباب فأذنت، فإذا ببربارة تدخل عليها وهي لا تزال بثياب السفر، فقالت لها أرمانوسة: «أغلقي الباب وراءك وتعالي.» فأغلقت الباب وأخذت تقبل سيدتها والدموع تسيل من عينيها، وبشائر الخير على وجهها.
فقالت أرمانوسة: «أخبريني يا بربارة عما فعلته فإني قد قلقت لغيابك.»
قالت: «لا تقلقي يا مولاتي فإني جئت بالأخبار الطيبة، وأبشري بنجاتك ونيل مرامك، فإن البطل أركاديوس حبيبك أمين في حبك ثابت على ودك لا يستصعب أمرا في سبيل قربك.»
قالت: «اصدقيني الخبر يا بربارة، واشرحي الحكاية كما هي.» فمدت بربارة يدها إلى جيبها وأخرجت الخاتم وقالت: «خذي هذه الأمانة أولا.»
فتناولته أرمانوسة، ولما قرأت اسم أركاديوس عليه جعلت تقبله وهي تقول: «اعذريني يا بربارة إذا استسلمت إلى عواطفي، وهذا خاتم حبيبي فكيف لا أقبله؟! ولكن كيف سلمه إليك وهو خاتم لا غنى له عنه في أعماله؟»
صفحة غير معروفة