أبطال الرواية
مراجع رواية أرمانوسة المصرية
1 - فذلكة تاريخية
2 - أرمانوسة بنت المقوقس
3 - أركاديوس
4 - المسيحيون ومظالم الرومان
5 - الاحتفال بضحية النيل1
6 - أرمانوسة في بلبيس
7 - عمرو بن العاص
8 - يوقنا وأرمانوسة
صفحة غير معروفة
9 - أركاديوس يبحث عن أرمانوسة
10 - لقاء الحبيبين
11 - العرب في بلبيس
12 - فتح الحصن
13 - عقد الصلح
14 - فسطاط عمرو
15 - فتح الإسكندرية
أبطال الرواية
مراجع رواية أرمانوسة المصرية
1 - فذلكة تاريخية
صفحة غير معروفة
2 - أرمانوسة بنت المقوقس
3 - أركاديوس
4 - المسيحيون ومظالم الرومان
5 - الاحتفال بضحية النيل1
6 - أرمانوسة في بلبيس
7 - عمرو بن العاص
8 - يوقنا وأرمانوسة
9 - أركاديوس يبحث عن أرمانوسة
10 - لقاء الحبيبين
11 - العرب في بلبيس
صفحة غير معروفة
12 - فتح الحصن
13 - عقد الصلح
14 - فسطاط عمرو
15 - فتح الإسكندرية
أرمانوسة المصرية
أرمانوسة المصرية
تأليف
جرجي زيدان
أبطال الرواية
هرقل:
صفحة غير معروفة
إمبراطور الرومانيين.
عمرو بن العاص:
فاتح مصر.
المقوقس:
والي مصر عندما فتحها العرب.
أرمانوسة:
ابنة المقوقس.
قسطنطين:
ابن هرقل وخاطب أرمانوسة.
بربارة المصرية:
صفحة غير معروفة
مربية أرمانوسة.
أركاديوس:
ابن الأعيرج القائد الروماني.
أرسطوليس:
ابن المقوقس.
زياد العربي:
صاحب يحيى النحوي.
وردان:
مولى عمرو بن العاص.
عبادة بن الصامت:
صفحة غير معروفة
أحد قواد العرب.
المندقور الأعيرج:
قائد جند الروم.
مراجع رواية أرمانوسة المصرية
هذه المراجع هي التي اعتمد عليها المؤلف في سرد حوادث الرواية:
الخطط للمقريزي.
تاريخ الطبري.
تاريخ مصر الحديث لجرجي زيدان.
تاريخ الواقدي.
تاريخ ابن هشام.
صفحة غير معروفة
تاريخ ابن الأثير.
تاريخ ابن خلدون.
حسن المحاضرة للأسيوطي.
تاريخ عبد اللطيف البغدادي.
مؤلفات: شامبليون، ومارسيل، وماريت، وولكنسن، وشارب.
العقد الفريد.
الفصل الأول
فذلكة تاريخية
فتح الرومانيون وادي النيل، وأقاموا به قرونا ظهر في أثنائها الدين المسيحي وانتشر في العالم، ودخل الديار المصرية فاعتنقه المصريون، وهم الأقباط، ثم اتخذته الدولة الرومانية دينا لها بدلا من الوثنية، وهدمت تماثيلها.
ولكن ما كادت تستقر الأمور حتى حدث نزاع ديني بين كهنة القسطنطينية عاصمة المملكة الرومانية الشرقية، وكهنة الإسكندرية عاصمة الديار المصرية، واشتد هذا النزاع حتى تسكنت الضغائن بين الرومانيين، وهم الفئة الحاكمة، وبين الأقباط وهم الشعب المحكوم، وعرف المذهب الروماني بالملكي، والمذهب المصري باليعقوبي، فآل ذلك إلى نفور الأقباط من الرومانيين واستبدادهم، وإلى رغبتهم في التخلص من نيرهم بأية وسيلة.
صفحة غير معروفة
وفي أوائل القرن السابع الميلادي ، كان يحكم مصر وال يوناني الأصل. اسمه المقوقس حنا بن قرقت، وقد يدعونه بأسماء أخرى، وكان متشيعا لأهلها ومذهبهم وتقاليدهم، وأقام بالإسكندرية شأن ولاة الرومانيين إلى ذلك العهد؛ لأنها كانت عاصمة الديار المصرية ومقر الإمارة فيها. ولم تكن القاهرة قد وجدت بعد، بل كان في مكانها بساتين وغياض يتخللها بعض الأديرة والكنائس، وقليل من البيوت مبعثرة بين جبل المقطم والنيل، وإلى جنوبها بلدة صغيرة اسمها بابل، بناها الفرس حين قدموا مصر قبل الميلاد ودعوها باسم عاصمة دولتهم، وكان موقعها فيما هو الآن دير مار جرجس وما جاوره من البيوت، وجامع عمرو بن العاص، وبعض مصر القديمة. •••
وكان في وسط تلك البلدة حصن كبير يدعى حصن بابل، أو قصر الشمع، مبني على الطراز الروماني، هو الذي يقوم في مكانه الآن دير مار جرجس، وكان النيل يجري أمامه، وتلاطم أمواجه بابا كبيرا من أبوابه، ما زال رسمه باقيا في سوره الغربي حتى الآن، وقد طمرت الأتربة أسفله حتى لم يعد ظاهرا منه إلا عتبته العليا، إلى أن أزالت الحكومة تلك الأتربة، فظهر الباب كله. وهو قائم بين برجين كبيرين مستديري الشكل، في أحدهما كنيسة المعلقة حتى الآن ولكن بناءها تهدم. •••
أما مصر القديمة - ما بين هذا الحصن إلى النيل - فلم يكن لها أثر البتة؛ لأن النيل كان يجري في موضعها بجانب الحصن كما قدمنا، وكان بين هذا الحصن وجزيرة الروضة جسر من السفن، يمر عليه الناس من البر الشرقي إلى الجزيرة، وجسر آخر من الجزيرة إلى البر الغربي يمرون عليه إلى الجزيرة ومنها يذهبون إلى منف - عاصمة مصر القديمة - حيث كان المقوقس يقيم بعض أشهر الشتاء. برغم أنها في عهده كانت قد انحطت وكادت تئول إلى الخراب.
ولم يكن للأقباط هم في تلك الأيام إلا التخلص من الرومانيين والتحدث بفظائع أعمالهم وظلمهم واستبدادهم، ولكنهم لم يكونوا يستطيعون المجاهرة بعداوتهم، خوفا من سخطهم وزيادة الضغط عليهم.
الفصل الثاني
أرمانوسة بنت المقوقس
كان للمقوقس ابنة في ريعان الشباب، جمعت بين الجمال الروماني واللطف المصري اسمها «أرمانوسة»، وقد خصها الله بلين الجانب وحسن الخلق حتى ضرب المثل بجمالها وذكائها، وكان والدها يحبها حبا جما؛ لأنه لم يكن له إلا هي وابن اسمه أرسطوليس، فأباح لها التصرف في بيته وجعل لها الأمر والنهي في خدمه وحاشيته، وكان هرقل إمبراطور الرومانيين قد سمع بها فخطبها لابنه قسطنطين، وشاع ذلك وذاع حتى تحدث به الخاص والعام وحسدها الناس عليه، لكنها لم تكن راضية بهذا الزواج وإن لم تظهر شعورها لئلا يصيبها أو يصيب والدها سوء، بل كظمت غيظها وصبرت على مضض، حتى يأتي الله بأمر من عنده.
وفي سنة 640 للميلاد كان المقوقس مقيما بالإسكندرية على عادته ومعه حاشيته، وكلها من المصريين والمصريات وبعض الأحباش، وليس فيها أحد من الروم، وكانت أرمانوسة في قصره بمنف، في البر الغربي من النيل وراء الجيزة، وكان ذلك القصر فخما عظيما أقيم بأنقاض بعض هياكل المصريين القدماء ويشرف على النيل، وتحف به حديقة غناء، وفيها من أغراس الكرم والنخيل والشجر ذي الثمر والرياحين ما يبهج النظر، وبينا هي في قصرها ذات ليلة صافية الجو إذ أحبت الخروج للتنزه في النيل، فكلفت خادمتها الخاصة - واسمها بربارة - أن تكلف بعض الخدم بإعداد قارب تنزل فيه، فأعدوه لها، ونزلت وقد لبست ثوبا سماوي اللون يجر ذيله وراءها، وضفرت شعرها من أعلاه ضفيرة واحدة بإكليل صغير من الحجارة الثمينة مصنوع على شكل رأس الحية مثلما صنع قدماء المصريين، وأرخت الضفيرة على كتفيها، والجواري محدقات بها، وخادمتها الخاصة تحمل طرف ثوبها من ورائها لئلا يمس الأرض، ولو أنه مسها لا خوف عليه؛ لأنها مرصفة بالرخام النقي، ولأن طرق الحديقة مرصوصة بالفسيفساء، فتجاوزت الحديقة إلى بابها الشرقي، وكان شاهقا قد نقش على عتبته العليا رسم أوزيريس باسطا جناحيه، ومصراعاه من خشب الجميز الصلب، وعليه من النقوش البديعة ما يشغل النظر، وأمامه من الناحيتين تمثالان كبيران لأبي الهول، وسارت بين صفين من شجر الجميز حتى أتت الشاطئ، فنزلت إلى القارب على رصيف قديم البناء عليه نقوش هيروغليفية، وكان القارب مفروشا بالبسط المزركشة، فجلست في صدره وبين يديها جواريها، وقد أرخى النوتية الشراع فسار القارب الهوينى يخترق عباب النيل، والجو صاف وأشعة القمر تنعكس على سطح الماء وتتكسر وتتلألأ، وإلى كل من جانبي النيل غياض ومغارس للنخيل والدوم، ومن ورائها كروم العنب وغيرها، تتخللها قرى صغيرة وأبنية فخمة معظمها من الهياكل والتماثيل، وأعظمها قصور منف تتخللها الهياكل والأصنام العظيمة؛ لأن هذه المدينة برغم عوامل الحدثان كانت ما زالت أبنيتها شامخة تناطح السحاب، وبخاصة أهرامها المعروفة الآن بأهرام سقارة.
وسار القارب بأرمانوسة وجواريها بين يديها، وقد أخذن يعزفن على الآلات، وعلى ضفة النيل شجر البردي متكاثف يتمايل كالسكارى، ولم يكن يسمع عند مسير القارب إلا صوت الموسيقى يتخلله حفيف ورق البردي ونقيق الضفادع بين أغصانه، وقد اختفى بين هذا وذاك صوت القارب في اختراقه عباب الماء، والطبيعة هادئة والنسيم لطيف، وبربارة لا تفتر لحظة عن تسلية سيدتها بطريف حديثها وغريب قصصها. أما أرمانوسة فكانت مضطربة البال لا تبتسم إلا تكلفا، كأنها تريد نسيان ما يخامرها من الهواجس، وتود الانشغال عنها بمناظر الطبيعة، فلما أدركت وصيفتها ذلك جعلت تبالغ في تسليتها، تارة بالأحاديث المضحكة، وطورا بالإطناب في جمالها، وقد لحظت انقباضها من قبل وحاولت استطلاع كنهه فلم تستطع.
وبعد أن سار القارب مسافة، رأت أرمانوسة أنها قد بعدت عن المدينة فخافت أن يهاجم التمساح القارب فأمرت النوتية بالرجوع، فأداروا الدفة وعادوا، وكفت العازفات عن العزف فاستولى السكون على الجمع كأنهن شاركن الطبيعة صمتها، وكل منهن تنظر إلى ما حولها من الماء والشاطئ، تتأمل ذلك المنظر وتستأنس بنقيق الضفادع، وعلى وجوههن أمارات السرور إلا أرمانوسة، فإنها ما برحت منقبضة النفس، ثابتة النظر إلى جهة من جهات الشاطئ عن بعد، وبربارة تسارقها اللحظ وتراقب حركاتها وسكناتها، فإذا بها قد أخرجت منديلا من جيبها مسحت به عينيها وهي تحذر أن يراها أحد، فأمعنت بربارة النظر في تينك العينين المكحلتين بالسواد فإذا بهما تتلألآن وقد تناثرت الدموع منهما بغتة، فاضطرب قلبها وأرادت الاستفهام منها عن السبب، ولكنها أمسكت حتى لا تحرجها، وعولت على استطلاع الحقيقة عند عودتهن إلى القصر، على أنها أخذت تتقاذفها الهواجس؛ إذ لم تدر موجبا لبكاء سيدتها وقد توافرت لها كل أسباب السعادة، وليس في وادي النيل فتاة أحسن حالا ولا أسعد حظا منها؛ فإنها ابنة الحاكم الآمرة الناهية، وكل أهل البلاد في خدمتها، وقد خصتها العناية الإلهية بجمال وصحة وسعة عيش حتى نالت حظوة في عيني إمبراطور الرومان فخطبها لابنه، فخافت بربارة أن يكون أمرا ذا بال. •••
صفحة غير معروفة
عاد القارب إلى منف ورسا بهن إلى جانب القصر، فنهض الجميع ونزلت أرمانوسة وسارت بين شجر الجميز، والخدم بالمصابيح أمامها حتى أتت باب الحديقة فوقفت لحظة مسندة يدها إلى أحد التمثالين، والتفتت إلى النيل كأنها لم تشبع بعد من منظره، ثم دخلت الحديقة وتحولت إلى بعض طرقها ففهمت الجوار أنها تريد التجوال بين الأزهار والرياحين قبل دخول القصر، فتحولن كل إلى مخدعها، إلا بربارة فقد رافقت سيدتها وهي لا تزال تراقب حركاتها وسكناتها، فرأتها قد مشت في الحديقة لا تدري إلى أين تسير، ولا يلفتها صوت النعام السارح ببعض جوانب الحديقة، ولا أصوات الكراكي وغيرها من الطيور هناك، ثم تحولتا إلى القصر فدخلتاه وسارتا توا إلى غرفة النوم، وكانت الجواري قد أضأنها بالشموع والمصابيح، وجعلن إكليلا من الزهور في إناء على مائدة فاخرة في وسط الغرفة مصنوعة في سوريا، من خشب الأرز، تفوح منها رائحة ذكية، كان قد أهداها إلى أبيها بعض أصدقائه الرومانيين في صيدا.
لكن أرمانوسة ما لبثت أن انسلت من الغرفة إلى شرفة مطلة على الحديقة والنيل وراءها، ورائحة الأزهار قد ملأت الجو، وهناك كرسي مجلل بالحرير جلست عليه، ووقفت بربارة تنتظر أمرها وتسترق النظر إليها فلاحظت أنها لا زالت مضطربة، لم تزدها تلك النزهة إلا انقباضا، وبعد قليل قامت أرمانوسة إلى سريرها، ونزعت حليها بمعاونة بربارة ثم استلقت تبغي الراحة لا النوم، فلبثت بربارة واقفة، تهم بسؤال سيدتها عن سبب اضطرابها فيمنعها التأدب، ثم نظرت إليها فإذا هي تتلهى بالنظر إلى ما على جدران الغرفة من الصور الملونة، وفيها رسوم الطير والحيوان، ثم رأتها أطرقت تنظر إلى أرض الغرفة كأنها تتأمل أشكال الرسوم الجميلة المطرزة على الأبسطة، وهي تردد الزفرات وتتنهد خفية وقد أعياها الانقباض، فلم تستطع بربارة مغالبة البكاء لفرط حبها لسيدتها وغيرتها عليها، فجعلت تمسح عينيها حتى أدركت أرمانوسة ذلك، وخافت افتضاح أمرها فخاطبت بربارة قائلة: «ما بالك يا بربارة؟ هل تبكين؟»
فتقدمت بربارة إلى جانبها تحاول مغالطتها وقالت: «ليس هناك يا سيدتي ما يبكيني وأنت بنعمة الله في صحة تامة وعيش رغيد، إني سعيدة ما دمت أنت كذلك.»
قالت: «ولكنني أراك تبكين.»
قالت: «كلا يا سيدتي، وإذا رأيت في عيني دموعا فإن هي إلا دموع الفرح؛ إذ كل ما من الله به عليك من أنعامه وبركاته إنما هو مدعاة لفرحي، ألا تعلمين أن أصدقاءك يغبطونك وأعداءك يحسدونك على ما قدر الله من وقوعك موقع الاستحسان لدى مولانا الإمبراطور حتى خطبك لابنه؟ ولا ريب عندي أنك أهل له وهو أهل لك؛ فإن قسطنطين من أحسن الناس جاها، وكفاه فخرا أنه ابن الإمبراطور هرقل، وعما قليل يعود من حروبه مع العرب فتتم سعادتك بالاقتران به.»
فتنهدت أرمانوسة تنهدا خفيا كأنها تذكرت مصائبها، وأسفت لما هي فيه من الكدر مع ما خصتها به العناية من أسباب الرفاهية، ومالت إلى مكاشفة وصيفتها بمكنونات قلبها عساها أن تفرج كربتها، وكانت تثق بها كل الوثوق لأنها ربتها منذ نعومة أظفارها، وقد اختبرت صداقتها وإخلاصها، ولكن الحياء غلب عليها فأمسكت عن التكلم لحظة وهي شاخصة إلى نافذة غرفتها المشرفة على النيل، وقد امتلأ بضوء القمر، ولكنها ما لبثت أن أجهشت بالبكاء على غير إرادتها.
فتقدمت بربارة إلى جانب السرير وجثت على ركبتيها، وأمسكت يد أرمانوسة بين يديها وجعلت تقبلها تكرارا ودموعها تتساقط عليها وهي تقول: «من منا الباكية يا حبيبتي؟ أتسألينني عن سبب بكائي وأنت تبكين؟ أستحلفك بالله أن تطلعيني على سبب اضطرابك، فقد ضاق صدري وأنا ممسكة نفسي عن الاستفهام حتى عيل صبري .» قالت ذلك ونظرت إلى سيدتها فإذا بها قد أغرقت في البكاء، وجعلت المنديل على عينيها لتخفي ذلك عليها، فأمسكت بيدها الثانية وألحت عليها وقبلت يديها، ثم قبلتها بين عينيها وترامت على قدميها وقالت لها: «أستحلفك بحياة سيدي أبيك أن تخبريني عن سبب بكائك ولا تخفي علي شيئا، وأنت تعلمين تعلقي بك وإخلاصي لك، لعلي أستطيع تفريج كربتك. أم أنت لا تثقين بي؟»
قالت: «إني واثقة بك كل الوثوق يا بربارة، وأنت تعلمين ذلك، ولكن ليس ثمة ما أخفيه عليك وما أنا باكية ولا ...»
فقطعت عليها الكلام قائلة: «كفى إخفاء ومغالطة، رأيت منك هذا الانقباض منذ أيام، وكنت أخشى أن أثقل عليك بالاستفهام، أما الآن وقد عيل صبري وصرت أخاف عليك فلن أسكت حتى تخبريني أو تطرديني من هذه الغرفة.»
فأمسكت أرمانوسة بيدها وهمت بالجلوس قائلة: «حاشا لي أن أهينك بمثل ما تقولين؛ فإنك بمنزلة الأم عندي؛ فقد ربيتني منذ طفولتي، ولكن ليس عندي ما أخبرك به، أو لعلي إذا أطلعتك عليه تضحكين مني أو تهزئين بي.» فوقفت بربارة قائلة: «معاذ الله أن يصدر مني ذلك وأنت سيدتي ومصدر نعمتي، بل أنت روحي وحياتي، فلا تخشي بأسا من مكاشفتي بما في قلبك، وسأكون مفرجة لكربك بإذن الله، فثقي بي، واكشفي لي عن سر هذا الاضطراب؛ فقد نفد صبري.»
صفحة غير معروفة
فصمتت أرمانوسة لحظة ثم وقفت ودنت من المنضدة وجعلت تتشاغل بتقليب ما كان عليها من التماثيل الصغيرة، وفيها أشباه أبي الهول والجعلان من الذهب والفضة، ثم عادت إلى السرير مرتبكة تتلهى بتثنية منديلها بين أناملها، وهي تنظر إليه وتحاول التكلم ويمنعها الحياء. فنهضت بربارة وقبلتها وقالت لها: «تكلمي يا حبيبتي لا تخفي علي شيئا، وأنا أقسم لك بمريم العذراء صاحبة هذه الكنيسة (وأشارت إلى جهة حصن بابل حيث كنيسة المعلقة) أن أحفظ سرك في قلبي، وأكون لك عونا في كل ما تريدين.»
فنظرت أرمانوسة إليها من طرف عينها، وهمت بالكلام فأرتج عليها ثم قالت: «انظري هل لا يزال أحد من الخدم مستيقظا؟»
قالت : «لا تخافي فليس من يتجرأ على الدنو من غرفتك، وسأذهب لأستطلع الأمر.» وخرجت والمصباح في يدها تاركة سيدتها وحدها في الغرفة.
لبثت أرمانوسة تنتظر عودتها، فلما رأتها أبطأت شغل بالها واستولى عليها القلق، ولما ملت الانتظار نهضت من السرير ودنت من الشرفة، وأطلت على الحديقة فسمعت ضوضاء الناس عند الضفة فازداد اضطرابها، فأصغت فإذا بأصوات رجال، ولمحت عند الشاطئ قوارب عديدة وقد خرج منها نفر يسرعون نحو القصر، وأرادت أن تنادي أحدا تستطلع منه الخبر، فإذا ببربارة قد عادت وعلى وجهها أمارات الدهشة، فابتدرتها أرمانوسة قائلة: «ما سبب هذه الجلبة، ومن هم هؤلاء الرجال يا بربارة؟ أخبريني.»
قالت: «طيبي نفسا يا سيدتي ولا تضطربي؛ فليس ثم غير الخير إن شاء الله.»
قالت: «قولي ما الخبر، وما الداعي لهذه الجلبة؟»
فقالت: «إنها من دواعي سروري وسرورك؛ فإن سيدي أباك قد بعث بجماعة من خاصته بمعدات الاحتفال، ليذهبوا بك إلى عين شمس حيث يوافيهم أبوك لكي تسيروا جميعا إلى بلبيس، فتقيمي في انتظار خطيبك ريثما يسير بك إلى القسطنطينية.» •••
اضطربت أرمانوسة عند سماعها الخبر، واشتد بها اليأس حتى تناثرت الدموع من عينيها وغلبها البكاء، فازداد تعجب بربارة وهي لا تفهم لهذا البكاء سببا، فتقدمت إليها وقبلتها وضمتها إلى صدرها، وجعلت تتوسل إليها أن تخبرها بكنه الأمر إلى أن قالت: «لعلك شعرت بالوحشة عندما علمت بالسفر ومفارقة أبيك ومنزلك، ألا تعلمين يا سيدتي أنك ستنتقلين من قصر إلى قصر أعظم منه، ومن بيت مجد إلى بيت مجد أرفع منه؟»
وكانت أرمانوسة تمسح دموعها بيدها، فلما سمعت كلام بربارة مدت إليها يدها وقبضت على ذراعها وقالت: «لا تذكري القصور والمنازل؛ فإن السعادة ليست في الأبنية ولا في العواصم، ولكنها في القلوب والعواطف. دعيني يا بربارة من هذه الأوهام وعزيني بغيرها.»
فعجبت بربارة من هذا الكلام واستغربته ولم تفهم ما وراءه، وقالت: «بالله يا سيدتي أفصحي عن حقيقة أمرك، فقد أشكل علي فهم الواقع، هل تكرهين الأسفار أم ...»
صفحة غير معروفة
فقطعت أرمانوسة الكلام قائلة: «ليس ذلك ما يكدرني، ولكنني لا أريد السفر إلى بلبيس.»
قالت: «وهل تكرهينها؟ قولي لأبيك فلا يبعث بك إليها، ويكتب إلى الإمبراطور أن تنتقلي رأسا من هنا إلى القسطنطينية.»
فصاحت أرمانوسة: «لا، ولا أحب القسطنطينية ولا ساكنيها ولا من تسمى باسمها، ولا أحب البقاء في الدنيا من أجلها.»
فأدركت بربارة أن سيدتها لا تريد الاقتران بقسطنطين، ولكنها تجاهلت وأعادت السؤال بإلحاح قائلة لها: «إلى هذا الحد تخفين مقاصدك علي؟ أم لعلك لا تريدين قسطنطين؟»
فأجابتها على الفور: «نعم لا أريده. لا أريده.»
فبهتت بربارة عند سماعها ذلك وقالت: «ولماذا يا مولاتي؟»
فابتدرتها أرمانوسة قائلة: «لا تسأليني، فإني لا أريده، ولن أريده.»
وأجهشت في البكاء حتى علا صوتها، فجعلت بربارة تخفف عنها وتهون عليها إلى أن قالت: «إذا كنت لا تريدينه فدعيه وشأنه، ولا تحزني ولا تكدري نفسك.»
فتنفست أرمانوسة الصعداء وقالت: «نعم لا أريده، ولكنني لا أستطيع التخلص منه، وأبي قد اتفق مع أبيه على أن يلقيني بين يديه، ولست أفقه غرضه من ذلك.»
فقالت بربارة: «إذا أصر أبوك على عزمه، ولم تري سبيلا للخلاص فأرى أن تطيعيه، وأنا واثقة كل الوثوق أنه لم يقبل زفافك إلى قسطنطين إلا وهو يرى ذلك سببا لسعادتك، ولا أظن تمنعك إلا خوفا من الاغتراب والابتعاد عن البيت الذي ربيت فيه، وهذا ما تشعر به كل فتاة تنتقل من بيت إلى آخر، أو من مدينة إلى أخرى عند الزواج. أما إذا تم الأمر وصرت كنة الإمبراطور، فسيذهب عنك هذا الخوف ويسكن روعك.»
صفحة غير معروفة
فتنهدت أرمانوسة وقالت: «كيف يسكن هذا القلب وهو ليس معي؟! فإذا سافرت إلى القسطنطينية فإني أسافر بلا قلب.»
فأدركت بربارة أنها عالقة بغير قسطنطين، وأن هذا سبب عزوفها عن الاقتران به، وأرادت استطلاع مكنونات قلبها فأمسكتها بيدها وخرجت إلى الشرفة لتلهيها عن هواجسها، ثم تعود فتستطلعها حقيقة أمرها.
وكان النيل قد انعكس نور القمر على صفحته حتى تلألأت كالبلور، وظلال شجر البردي والنخيل قائمة على الشاطئ كأنها سابحة في الماء، فلبثت أرمانوسة صامتة مأخوذة، غارقة في بحار الهواجس، لم يشغلها شاغل، ولا انتبهت لحركة القوارب الراسية هناك، ولا إلى لغط الذين جاءوا لحملها إلى بلبيس. أما بربارة فصمتت هي الأخرى ولبثت تنتظر ما يظهر من سيدتها وهي تتأمل حالها وتجول بأفكارها، وتراجع سيرة حياتها لعلها تتذكر حكاية تكشف لها عن هذا اللغز فلم تهتد، فعادت إلى حديثها فقالت وقد أرادت أن تمازحها: «ولكنني لم أفهم مرادك من قولك أنك تسافرين بلا قلب، فأين تتركين قلبك؟ ألا تخافين عليه العدو ونحن في حرب؟»
فقالت: «لا أخاف عليه الحرب، ومهما يكن من أمره فإنه يصبح في حال آمن له من حاله في القسطنطينية.»
فأرادت مداعبتها ثانية فقالت: «ولكن القسطنطينية آمن لك؛ فالبلاد هنا بين خطرين عظيمين، إذا سلمت من أحدهما لا تسلم من الآخر.»
فوقع قول بربارة من أرمانوسة موقعا غريبا فأحبت معرفة حقيقة الواقع، وسألتها: «وكيف ذلك؟»
قالت: «هل يخفى على سيدتي حالنا مع الروم واضطهادهم إيانا، وما بين أبيك وبينهم من الضغائن، وكم سامونا نحن الوطنيين أنواع العذاب، لما بيننا وبينهم من اختلاف في المذهب؟ إنهم يقتلون كهنتنا وينفون بطاركتنا ونحن كاظمون الغيظ، صابرون على البلوى، حتى لقد سمعت سيدي والدك يتمنى أن يأتينا من يخلصنا من جور هؤلاء الحكام.» فقطعت عليها أرمانوسة الكلام وقالت: «إنني أعجب لشكوانا وشكواكم، وأنت المصريون أهل البلاد أكثر عددا من هؤلاء الروم وهم غرباء قليلون، فلماذا لا تخرجونهم من بلادكم؟»
فتبسمت بربارة وقالت: «صدقت يا حبيبتي إننا أكثر عددا ولكنهم أصحاب السلطة، وفي أيديهم الحصون والمعاقل، وهم الحاكمون ومنهم العساكر والقواد، ولا تظني أن المصريين لم يحاولوا هذا الاستقلال، ولكن دولة الروم كبيرة فكانت تبعث إلينا بجنود لا قبل لنا بهم، وأنت تعلمين أن أباك يوناني الأصل ولكنه يحب أبناء البلاد ويميل إلى الأحزاب الوطنية لأنه يراهم على حق. وخلاصة القول إننا أبناء وادي النيل لا نحب هؤلاء الرومانيين مهما يبالغوا في إكرامنا، فقد كرهتهم نفوسنا؛ وبخاصة لأنهم أهانوا بطاركتنا، ولا يزال بطريركنا بنيامين فارا من وجوههم لا يعرف مقره إلا القليلون، وكلنا نشكو جور البطريق الروماني المقيم بالإسكندرية مع رجاله وجنده، على أني سمعت سيدي والدك مرارا يتحدث عن قرب الفرج والتخلص من نير هؤلاء، ومما حكاه مرة لرجال مجلسه - وقد سمعته خفية - أنه جاءه منذ سنين رجل من بلاد العرب الذين يسكنون جنوبي هذه البلاد يحمل رسالة مكتوبة باللغة العربية ترجمها الترجمان إلى لغتنا القبطية فإذا هي من كبير العرب، وهو رجل عظيم سن دينا جديدا وتبعه جمع غفير، وكل رجاله أشداء أقوياء، وقد طلب منه في ذلك الكتاب أن يترك ديانة السيد المسيح ويتبع ديانته، وبينما كان سيدي يروي قصته أخرج الكتاب من جيبه فإذا هو جلد جاف مكتوب بلغة القوم، وقد سر سيدي بمجيء هذا الكتاب ولكنه لم يرد أن يغير دينه، فبعث إلى ذلك العربي الكبير هدايا من بينها ثلاث جوار إحداهن مارية، التي كانت عندك وكنت تحبينها، ومعهن أيضا مقدار من العسل الذي يحمل إلينا كل سنة من مدينة بنها، وأرسل إليه يقول إنه لا يستطيع أن يسلمه البلاد بلا أمر من صاحبها هرقل ملك الرومانيين وهو في القسطنطينية. وبعد أن أتم سيدي قصته، ذكر أنه يفضل أن يستولي العرب على هذه البلاد لينجو من هؤلاء الظالمين، وسمعت جميع الحاضرين يصوبون رأيه، ولكنهم أصروا جميعا على أن يبقوا على دينهم.
وقد مضى على ذلك عدة سنوات، إلى أن حدث منذ بضعة أشهر أن جاء قارب فيه رسول من البدو قد التف بالشملة وعلى رأسه ثوب مطوي، وطلب مقابلة سيدي فأذن له، فدخل وأعطاه كتابا، ولا أدري ما دار بينهما، ولكنني رأيت سيدي قد سافر إلى الإسكندرية في اليوم التالي وطلب إلى كل من رأى ذلك البدوي ألا يذكر عنه شيئا، ولبثت من يوم ذهابه أفكر في سبب قدومه، وظننته جاء في مهمة خاصة، وقد فهمت من بعض هؤلاء القادمين أن العرب قد قاموا من بر الشام ولعلهم قادمون إلى مصر، ولكننا لا نعلم من أي طريق يأتون، وفهمت من هؤلاء الرجال أيضا أن مولاي أمر الجند الذي تحت إمرته أن يذهبوا مع قائدهم الرومي (المندقور الأعيرج) ويقيموا في حصن بابل مقابل الجيزة، ولعله يريد بذلك أن يمنع العرب إذا قدموا من دخول عاصمة البلاد.»
وكانت أرمانوسة أثناء كلام خادمتها مصغية كل الإصغاء وعلى وجهها أمارات الوجل، فلما وصلت إلى قولها: «وأمر الجند أن يذهبوا مع قائدهم الرومي الأعيرج ...» علا وجهها الاحمرار بغتة، ولكنها أخفت ذلك وقالت: «كيف تقولين إن أبي يريد أن يسلمهم البلاد ليخلص من الروم، ثم تقولين إنه يستعد لقتالهم ودفعهم؟» فقالت بربارة: «نعم إنه يود ذلك، ولكنه لا يصرح به، بل يسره في ضميره؛ لأن القوة الظاهرة هنا كلها للروم، وكل جند القطر المصري منهم، فإذا علموا قصده فلا شك أنهم يقتلونه ويقتلوننا كلنا.»
صفحة غير معروفة
فلما سمعت أرمانوسة ذلك صمتت لا تبدي حراكا وكانت قد جفت دموعها وزالت هواجسها، ولكنها عندما ذكرت بربارة الحصن والأعيرج عاودتها تلك الهواجس وعاد الانقباض إلى وجهها، وقالت بلهفة: «وهل أتى الأعيرج الآن إلى الحصن؟»
قالت: «نعم أظنه قدم ومعه كل رجاله.» قالت: «وهل جاء معه أولاده أيضا؟»
قالت: «لا أعلم، وفي كل حال، ماذا يهمنا من أولاده؟! لا أبقاه الله ولا أبقى أولاده؛ فإنهم يستوجبون النار.»
فأمسكتها أرمانوسة من يدها وقالت: «لا تلعني ولا تسخطي.»
وترقرقت الدموع في عينيها، فعجبت بربارة لهذه المظاهر ولكنها حملتها على محمل الخوف، وأنها أبت اللعن تورعا لكيلا يصاب والدها بسوء فقالت لها: «ألا تجوز اللعنة على القوم الظالمين يا بنيتي؟»
قالت: «هبي أنها تجوز ولكن ...» وصمتت وراحت تبكي.
فقالت بربارة: «ما بالك تبكين يا سيدتي؟ وما الذي حملك على البكاء ونحن لم نكد نصدق أنك كففت عنه؟»
فتنهدت تنهدا عميقا وألقت بنفسها على صدر بربارة، وقد خارت قواها وأخذ منها الهيام مأخذا عظيما، ثم تحولت إلى الغرفة وهي تقول: «إني أنشد نصحك يا خالتي فدبريني برأيك، واكتمي أمري، وساعديني في مصيبتي، فإن كانت حالتي تستحق البكاء قبل أن رويت لي حكايتك هذه، فإنها الآن تستوجب النوح والندب. آه من هذا القلب ، آه يا أركاديوس!»
فنهضت بربارة وضمتها إلى صدرها وقبلتها، ومسحت دموعها وعرقها المتساقط من جبينها، وأخذت تهون عليها، وفهمت من حديثها أنها مولعة بأركاديوس بن الأعيرج الروماني، وهو شاب جميل شجاع يحبه كل من عرفه، وكان يأتي أحيانا لزيارة المقوقس مع ما بين هذا والرومانيين من التنافر، وكان إذا التقى بأرمانوسة تسارقا اللحظ وتراسلا بالرموز وقلما تكلما. لكن بربارة تجاهلت فضمت أرمانوسة إلى صدرها قائلة: «مرحبا بك يا سيدتي وحبيبتي، إني رهينة أمرك، قولي ما بدا لك، واشرحي حالك، لا تخافي على سرك، فقد قلت لك مرارا إن هذا الصدر خزانة أسرارك، وهذه الحواس كلها تقوم على خدمتك، لا أراك الله ضيما.»
فجلست أرمانوسة على مقعد وتناولت المنديل بيدها ومسحت عينيها ووجهها، وأرسلت شعرها إلى الوراء، وكان قد استرسل على خديها عندما ترامت على مربيتها، وأجلست بربارة إلى جانبها ونظرت إليها بطرف ذابل قد تكسرت أهدابه من البكاء وغلب عليها الحياء وقالت: «ماذا أقول لك وحالي ظاهرة مع مبالغتي في إخفاء حقيقتها عنك، آه من الحب ما أحلاه وما أمره!»
صفحة غير معروفة
فأمسكتها بربارة بيدها وأخذت تقبلها قائلة: «قولي يا حبيبتي، ليس في الحب عار، ألم أقل لك إنك بمنزلة ابنتي، وقد ربيتك وعقدت النية على خدمتك إلى آخر حياتي؟»
فتنهدت أرمانوسة وأسندت رأسها إلى كتف بربارة برهة في صمت، ثم عادت فقالت لها: «إني قد وقعت في الحب، ولكن لا سبيل إلى بلوغ مرامي؛ لأني أحب عدوا لوالدي كما نطقت أنت، إني أحب أركاديوس بن الأعيرج، فكيف لا أندب حظي؟!»
فقبلتها بربارة وجعلت تخفف عنها قائلة: «لا تيأسي يا بنيتي من نعمة الله، فأنا نصيرة لك ولحبيبك إلى الممات. أما أنت فإنك بالغة المراد بإذن الله فلا تخافي، وعلي تدبير هذا الأمر، طيبي نفسا ولا تجزعي.»
فانتعشت أرمانوسة وصاحت قائلة: «أصحيح ما تقولين؟ هل تسمح الأيام بذلك؟ آه، إني إن نلت مرامي أكن أسعد فتاة على وجه هذه البسيطة، وإلا فأنا أشقى خلق الله.»
فقالت لها: «لا سمح الله بما يضرك . قري عينا واعتصمي بالصبر الجميل، وعلي ضمان ما تريدين، ولكن أخبريني كيف عرفت هذا الشاب وكيف علقت به؟ وهل هو يحبك مثل حبك له؟»
فتأوهت أرمانوسة وقالت: «لا تسألي عما جرى كيف جرى، فهذا هو الواقع. أما حبه لي فلا أشك فيه، وربما كان عنده ضعف ما عندي، وقد عرفت ذلك جيدا، فدبري الأمر بحكمتك.»
فقالت بربارة: «سكني روعك الآن، ولنعمل الفكرة في وسيلة توصلنا إلى المرام، فاتركي هذه المخاوف، وهلمي الآن إلى الفراش فقد آن وقت الرقاد، وفي الغد نرى ما يكون.»
فقالت أرمانوسة: «من أين يأتيني الرقاد وأنا على هذه الحال؟! ولكنني سأذهب إلى فراشي التماسا للراحة، وأرجو أن تتحققي أكان أركاديوس في جملة من دخلوا الحصن مع المدافعين أم هو باق في الإسكندرية أو في مكان آخر؛ لنرى ماذا يكون من أمره وأمر أبي وذلك الخطيب، آه منه!»
فقالت: «طيبي نفسا وقري عينا وتوكلي على الله. أما أبوك فلا تعارضيه واذهبي إلى بلبيس كما أراد، وسنرى كيف ينتهي الأمر، ولا تظهري شيئا من نفورك لئلا يزداد الخرق اتساعا.»
فقالت أرمانوسة: «كيف أستطيع الرضا بهذا الحكم الجائر؟! وكيف أذهب وأنا أخشى ألا أعود؟!» قالت ذلك وأخذت في البكاء، فضمتها بربارة إلى صدرها وأخذت تطمئن بالها وتعدها بإنقاذها من كل شر تخافه وأن تدبر ذلك بنفسها، وكانت أرمانوسة شديدة الاعتماد عليها فأجابت طلبها وذهبت إلى فراشها، ولكنها لما خلت بنفسها عادت إليها هواجسها ولم تستطع الرقاد تلك الليلة قبيل الفجر.
صفحة غير معروفة
أما بربارة فذهبت إلى غرفتها وهي تعجب لما وقفت عليه من أمر أرمانوسة، وقد خافت عليها من وطأة الحب، ولا سيما أن حبيبها من أعداء أبيها، والبلاد في حالة حرب لا تتيح لها السعي فيما تريد، ولكنها وطنت النفس على ما في وسعها خدمة لسيدتها.
وكانت بربارة ذات رأي صائب وحيلة محكمة، وسيطرة على من في القصر من الخدم؛ لأنها من أكثر الناس تقربا من المقوقس الذي كان يحترمها ويصغي إلى مقالها، وكانت هي تحب أرمانوسة كثيرا ، فلما أقبل الصباح جاءت إلى سيدتها وقد استيقظت من رقادها فأعدت لها ثيابها وأمرت الخدم أن يهيئوا معدات السفر فأعدوا المراكب وأنزلوا فيها المؤن، وجاءوا بقارب خاص لأرمانوسة وحاشيتها، ومضى ذلك اليوم في الاستعداد وأرمانوسة لم تذق طعاما، فلما جن الليل أظلمت الدنيا في عينيها، وهاج بلبالها لعلمها أنها تاركة قصر والدها في الصباح وقد لا تعود له، فقضت الليل في البكاء خفية، وأهل القصر فرحون بسفرها لملاقاة خطيبها، وهم لا يعلمون بمكنونات قلبها إلا بربارة فإنها سألتها قائلة: «أأذهب معك أم أبقى هنا لأستطلع أمر أركاديوس؟» قالت: «إن ذهابي وحدي يشق علي كثيرا؛ إذ ليس بين هؤلاء من أركن إليه فأبثه شكاتي، ولكنني كذلك أود ذهابك إلى الحصن لتري أركاديوس. لعله إذا علم بما سيحل بي شاركك في تدبير وسيلة لإنقاذي، وأنا أعلم أنه باسل، إذا أراد أمرا لم يرجع حتى يناله، وها إني ذاهبة إلى عين شمس لأرافق أبي إلى بلبيس، وسأنتظر خبرا منك قبل وصول ذاك الذي لا أحبه ولا أريده. فإذا أبطأ الفرج فقد تسمعين ما لا يسرك.» قالت ذلك وترقرقت الدموع في عينيها، فبكت بربارة لبكائها وهونت عليها قائلة: «لا، لا سمح الله بأن يحدث غير ما يسرك، فاذهبي على بركة الله وعلي تدبير الأمر ...»
وفي صباح اليوم التالي ارتدت أرمانوسة أفخر ثيابها، وأحاط بها الخدم والجواري، وأنزلوها إلى زورقها الخاص بين الألحان والأنغام، وهي تجر ذيل ثوبها المزركش بألوان تبهج الناظرين، وقد ضفرت شعرها وزينته، وتقلدت حليها الفاخرة وفيها رأس الثعبان المرصع على رأسها، والأقراط في أذنيها، وجعلت على صدرها قلادة من الذهب تتدلى منها زوائد من الذهب، وفي يدها سواران من الذهب الخالص كذلك على شكل ثعبانين ملتفين على معصميها، وفي موضع عيونها حجارة من الزمرد الثمين، وتمنطقت بمنطقة من الحرير المزركش بالقصب النقي، وأرخت طرفيه إلى جنبيها.
فلما وصلت إلى الزورق أجلسها البحارة في مكانها، وجواريها بين يديها فيهن الحبشيات والنوبيات وبعض الروميات، ونزل الرجال في زوارقهم وقد نشرت الشراع وتحركت المجاديف ، حتى إذا مرت الزوارق بالقرب من حصن بابل وقفت برهة ريثما يفتح لها الجسر الموصل بين الحصن وجزيرة الروضة، وهو مصنوع من قوارب مشدود بعضها إلى بعض، تغطيها ألواح غليظة من الخشب، فتلفتت أرمانوسة نحو باب الحصن الجنوبي لعلها ترى حبيبها مارا أو واقفا ولكن القوارب مرت دون أن تراه.
الفصل الثالث
أركاديوس
مكثت بربارة بقية ذلك اليوم في القصر، وهمت في اليوم التالي بالمسير إلى الحصن قبل قدوم الجيش، فركبت سفينة حتى أتت الجسر الممتد بين الجيزة والروضة فقطعته على قدميها إلى الجزيرة، ثم عبرت الجسر الآخر الممتد بين الجزيرة والحصن، فدخلت من بابه الجنوبي الكبير فلم يعترضها الحرس لأنهم يعرفونها، فصعدت إلى كنيسة المعلقة، فلاقتها الراهبات هناك واحتفين بقدومها لما يعلمن من منزلتها عند المقوقس، فتظاهرت برغبتها في زيارة الكنيسة وتقبيل الأيقونات، ثم أخذت تفكر في طريقة توصلها إلى مرامها، فلما كانت الظهيرة انتشر خبر قدوم الجنود في الحصن، وأخذت الراهبات يتساءلن عن سبب ذلك، فلما علمن بحقيقة الحال جعلن يصلين ويتضرعن إلى الله تعالى أن يلطف بهن ويهيئ ما فيه الخير، ورأت بربارة أن تمكث هناك تلك الليلة تنتظر ما يكون، فلما كان المساء وصل الجنود مدججين بالسلاح، وفي مقدمتهم موكب يرأسه أركاديوس بن الأعيرج وعليه لباس قواد الرومانيين، فلما رأته خفق قلبها قلقا على سيدتها ومكثت تلك الليلة ساهرة تدبر الحيلة، بينما الجند يعدون معدات الدفاع من هدم وبناء، والراهبات يتضرعن إلى الله أن ينجيهن من عاقبة تلك الحرب.
ولما خيم الغسق، سمعن طرقا عنيفا على باب الدير، وجلبة وقرقعة نصال، ففرغت الراهبات، وذهبت أحداهن لفتح الباب وفرائصها ترتعد، فلم تكد تفتحه حتى دخل منه جماعة من الجند الرومان يتقدمهم شاب في لباس فاخر على رأسه الخوذة الرومانية وإلى جانبه السيف الصقيل، وقد تقلد الخنجر في منطقته وارتدى طيلسانا يجر ذيله وراءه، فلما رأته بربارة عرفت أنه أركاديوس، وسمعتهم يكلمونها بلسانهم فلم تفهم مرادهم، ثم تقدم واحد منهم وكلمها بالقبطية قائلا: «إن القائد يأمركن بإخلاء هذا المكان ليجعله معقلا لفرقة من الجند؛ لأنه واقع فوق باب الحصن.» فنادت بربارة رئيسة الدير وأفهمتها الأمر، فتضرعت هذه إليهم أن يختاروا مكانا غير الدير لأنهن لا يعرفن مكانا يلتجئن إليه سواه، ولكنهم أصروا على عزمهم، ولم ينتظروا رضاءهن بل جعلوا ينتهرونهن ويصيحون بهن، فخرجن يولولن ويصحن باكيات، وخرجت بربارة معهن، ولم يكن أحد من هؤلاء الرومانيين يعرفها، ولو عرفها أركاديوس أو عرف ما جاءت من أجله لأذعن لما أرادت، فذهبت الراهبات وبربارة معهن إلى مأوى تحت الكنيسة كن يدخرن فيه مئونتهن من الطعام والشراب. فجلسن هناك وقد علا صياحهن وعويلهن، فدنت بربارة من الرئيسة وخاطبتها على انفراد، ووعدتها بإعداد وسيلة تنجيهن من تلك الحال.
فقالت الرئيسة: «وما الوسيلة وقد أصبح هؤلاء الجند أبغض إلينا من عدو يغتالنا؟! أما كفانا ما يسوموننا من الخسف والجور وإهانة رجالنا وقتل بطاركتنا، حتى جاءوا يخرجوننا من هذه الكنيسة ليجعلوا أماكن العبادة معاقل وحصونا؟!»
فقالت بربارة: «طيبي نفسا، ولا بد من أن يقتص الله من أهل الجور والفجور، ولا بد لحكمهم من نهاية، وأرجو أن يكون ذلك بخروج هذه البلاد من أيديهم، وما على الله عسير.»
صفحة غير معروفة
فوقفت الرئيسة وقد خنقتها العبرات، وقالت وهي تمسح دموعها بمنديلها: «أطلب من الله بكرامة العذراء مريم صاحبة هذا الدير أن يسقط في أيديهم ويخرجوا من هذه البلاد على أعقابهم؛ فإن أية أمة تحكمنا بعدهم أخف وطأة علينا منهم.» فقالت بربارة: «آمين، وكل آت قريب.»
وكن أثناء ذلك يسمعن جلبة الجند فوقهن، ينقلون العدة والذخيرة وأدوات الحرب، أما بربارة فما فتئت تفكر في وسيلة تضمن لها الفوز بقضاء مهمتها، وتذكرت سيدتها والحالة التي فارقتها عليها فانفطر لها قلبها، وجعلت تبحث عن طريقة توصلها إلى أركاديوس، ثم رأت أنها إن وصلت إليه فلن تستطع مخاطبته؛ لأنها لا تعرف اللغة اللاتينية، ثم تذكرت أنه ربي في مصر وتعلم لغتها وهو يفهمها ويحسن التكلم بها، خلافا لبقية أبناء جلدته فقد كانوا يحتقرون لغة الوطنيين وينفرون ممن تعلمها، أما هو فكان ميالا إلى معرفة تاريخ البلاد، كما كان يحب أهلها إكراما لحبيبته، ولكن كيف تصل إليه وهو فيما هو فيه من الانهماك والتأهب للحرب؟
وقضت معظم الليل في هذه الهواجس لا تستطيع رقادا.
أما أركاديوس فقد دخل الكنيسة مع رجاله ليجعلوها معقلا لهم وتركهم ينزعون الأيقونات، ويحطمون كل ما في طريقهم من الآنية أيا كان نوعها، وأخذ هو يهيئ منازل رجاله ويرتب فرقهم، فجعل كلا منهم في موقفه بسلاحه، ثم نزل إلى الأماكن الأخرى يرقب الجند بالنيابة عن أبيه إلى منتصف الليل، فلما انتهى من مهمته هذه عاد إلى كنيسة المعلقة، وكان الجند قد أعدوا فيها غرفة مشرفة على النيل من نافذة صغيرة، فدخل الغرفة ونزع خوذته وسلاحه، وجلس بجانب النافذة وأطل على النيل وهو يجري بجانب الحصن من غربيه، ويحيط به من الجهات الأخرى البساتين والغياض، وفيها شجر النخيل والكرم، وقد امتد شجر الدوم على ضفاف النيل يتخلله البردي، ومد بصره إلى البر الثاني عن بعد فأشرف على ضفته الغربية، بر الجيزة وما وراءها، وكانت الليلة مقمرة كما قدمنا فوقع نظره على الهرم المدرج في جهات سقارة بقرب منف فاستأنس به لقربه من مقام حبيبته، فتذكر حاله معها وحبه لها، فهاجت عواطفه، وود لو كانت له أجنحة تحمله إليها، وهو على يقين أنها تحبه مثل حبه لها، ولولا ما بين أبيه وأبيها، وبين طائفته وطائفتها من النفور لهان عليه الأمر، ولكن المركب خشن ودون بلوغ المنى خرط القتاد. •••
لبث أركاديوس على تلك الحال حينا لا يتحرك، وقد هدأ الجو ورق النسيم، واستولى السكون على الحصن فلم يكن يسمع فيه صوت غير خرير الماء وملاطمة مجراه لجدار الحصن من جهة، وحفيف سعف النخل على ضفاف النيل من جهة أخرى، ثم هب من غفلته بغتة فتذكر صديقه أرسطوليس شقيق أرمانوسة وما بينهما من الود والألفة، فقال في نفسه: «لماذا لا أكاشف هذا الصديق بما في قلبي من لواعج الغرام؛ لعله يفرج كربتي أو يرفع عني أثقال هذا الكتمان، فإذا عرف قوة حبي لأخته فقد يأخذ بيدي وينصرني.» وفيما هو في تلك الهواجس إذ سمع وقع أقدام قرب الغرفة، وإذا القادم واحد من رجاله جاء ليخبره بأن القائد أرسطوليس بالباب، فعجب لهذه المصادفة وأذن بدخوله، فلما دخل تصافحا وتعانقا، ثم سأل أركاديوس صديقه أرسطوليس عن سبب مجيئه في ذلك الوقت، فقال: «إنما جئت أيها الصديق ملتمسا منك أمرا لا يصعب قضاؤه.»
قال: «قل ما شئت، إني فاعل ما تريد.»
قال: «جاءني بعض من كن في هذا الدير من الراهبات يشتكين مما قاسينه من الإهانة بإخراجهن من بيتهن، وأنت تعلم أنهن محترمات لانقطاعهن للعبادة والتقشف، وقد كان في إمكانكم حفظ كرامتهن، فأرجو أن تخلي لهن مكانا يقمن فيه أو يخرجن من هذا الدير بإكرام.»
فقال أركاديوس: «ولكننا لم نخرجهن إلا لنتخذ هذا المكان حصنا ندفع به الأعداء عنا وعنهن، وهن إذا بقين فيه لا يعملن عملنا أو يدفعن مهاجما.»
قال: «لا يدفعن مهاجما ولكن كدرهن ونقمتهن على الجند لما لاقينه من الإهانة، ودعائهن على المسيء إليهن، يقف عثرة في سبيل دفاعنا؛ فإننا نعتقد أن دعاءهن مجاب.»
قال: «نحن لا نرى ذلك، ولكني على استعداد للقيام بما تشير به، على شرط ألا يكون في ذلك ضرر على الجند. أما هذا المكان الحصين فلا نتخلى عنه لأحد، فإذا رأيت أن يخترن لهن مكانا غيره فإني أساعدهن في الحصول عليه.»
صفحة غير معروفة
قال: «سأستخيرهن في مكان يخترنه غير هذا المكان، وإذا رأين الخروج من الحصن فإني أرسل معهن من يوصلهن إلى حيث شئن.»
ثم أمر أركاديوس بإخلاء مكان لهن بالقرب من الدير أقمن فيه، وعاد إلى صديقه فقال: «وأنت ماذا فعلت؟ هل أعددت العدة لجندك؟»
قال: «أعددت كل شيء تقريبا، ومتى جاء والدانا فإننا نتم تدبير الأمر، فمتى يأتيان؟»
فقال أركاديوس: «أما أبي فأظنه يصل إلى الحصن غدا، وأما أبوك فلا أدري يوم مجيئه، ولا ريب أنك أعلم مني بأمره، ولا أراه إلا مترددا في شأن هذه الحرب، ولم يغرني منه التظاهر بالاستعداد وإدخالك في هذه الحملة، ولا أنه يوناني الأصل ، فإن ماضي أعماله يخالف كل ذلك؛ فهو قبطي المشرب قائم بدعوة الوطنيين، لا يريد سلطانا عليهم.»
فوقف أرسطوليس بغتة وهو يحاول دفع هذه التهمة عن أبيه فقال: «كيف تقول ذلك وأبي أول مدافع عن دولتنا، فحالما سمع بقدوم العدو أخذ في التأهب للدفاع، ووجودي في جندكم أكبر دليل على رغبته هذه؟»
فتبسم أركاديوس مستخفا بتلك الحجة، وقال له: «مهلا أيها الصديق، فأنت تعلم حبي لك، ولا تجهل أني أحترم قدر أبيك، ولا أنكر عليك تحامل رجالنا ودولتنا على جماعة الأقباط، وما أنا بناس نفورهم؛ لأن نفور أصحاب البلاد من فاتحيها أمر طبيعي لا مفر منه، وبخاصة إذا لقوا منهم ما لقي أهل مصر من تحامل بعض حكامنا، وما سبب ذلك إلا الاختلاف في المذهب الديني الذي تعلمه، ولكنني لا أسلم بأن والدك المقوقس غير قائل بقولهم، وأنه يود من صميم فؤاده خروج هذه البلاد من حوزتنا ودخولها في حوزة غيرنا مهما يكن جنسهم. أما دخولك في جندنا فلا تتخذه حجة لدفع هذه التهمة عنه، بل قد يكون مؤيدا لها، ولكن ما لنا ولذلك الآن؟ فسوف يظهر الحق ويزهق الباطل. أما نحن فسندافع عن هذه البلاد جهد طاقتنا إلى آخر نسمة من حياتنا، وفي أيدينا أوامر مشددة بالمحافظة على هذا الحصن ودفع العرب عنه، وأظنهم يحسبون الظروف تساعدهم هنا كما ساعدتهم في بلاد الشام وبيت المقدس، ولو كان في رءوس حامية تلك البلاد الشهامة الرومانية ما سلموا منها حجرا، ولكنهم فسدوا وغدروا، ولم يكن عندهم مثل هذا الحصن المنيع ولا رجال مثل رجالنا.» قال ذلك وكأنه شعر بما يتخلل عبارته هذه من الحدة فصمت برهة ريثما خفت حدته، ثم عاد فخاطب أرسطوليس قائلا: «أخبرني الآن هل أنفذت الرجال لعمل التحصينات كما أخبرتك؟»
قال أرسطوليس: «وقد بدءوا بعملها منذ وصولنا، ولكنهم ناموا الآن التماسا للراحة، ولا يقبل الصباح إلا وهم قيام على إتمامها، وقد جئت بكل معدات التحصين وفي جملتها حسك الحديد لنبذره في قنوات الخندق فلا يستطيع البدوي عبوره قبل أن تدمى قدماه ويعجز عن المشي، هذا إذا لم نقتله بسهامنا عند الأسوار قبل وصوله إلى الخندق.»
فقال أركاديوس: «وأين هم الأعداء الآن؟»
قال: «أنبأنا الجواسيس أنهم قاموا من العريش بعدتهم ورجالهم، ولكن دون وصولهم إلى هذا الحصن خرط القتاد.»
وكان أرسطوليس عالما بمقاصد أبيه حق العلم، وقد تحقق أن الحامية لا يمكنها دفع العرب، وكان يحب أركاديوس كثيرا فأراد أن يكاشفه بذلك لئلا يكون في جملة من تقع عليهم المكيدة، ولكنه خاف افتضاح الأمر قبل أوانه فتضيع أعمال والده سدى فأبقاه مكتوما إلى حين، ونهض فودع صديقه وخرج يلتمس الرقاد بقية ذلك الليل فودعه أركاديوس وعاد إلى مقعده فعادت إليه هواجسه.
صفحة غير معروفة
أما أرسطوليس فتحول عن الغرفة إلى السلم وهو يفكر في شأن أبيه مع الرومانيين، وقد حمل سيفه بيده لئلا يصطدم بجدران السلم فيوقظ أحدا من الجند، فلما بلغ آخر درجة سار في زقاق ضيق مظلم قاصدا إلى غرفته، فسمع صوتا منخفضا يناديه من جانب الزقاق، فنظر فإذا شبح قادم إليه أمسك بيده وهو يقول: «لعلك سيدي أرسطوليس؟» فجذب أرسطوليس يده قائلا: «نعم، ومن أنت؟» فسمع صاحب الصوت يقول: «أنا خادمتك بربارة يا سيدي.» وعرف صوتها فقال لها: «وما الذي جاء بك إلى هنا؟ وكيف تركت البيت؟» قالت: «جئت لأمر ذي بال سأطلعك عليه إذا أذنت لي بخلوة.» قال: «تعالي معي إلى غرفتي.»
وسارا حتى دخلا بعض جوانب الحصن وأرسطوليس يحاذر أن يراها أحد خوفا من وقوع الشبهة عليه، فلما دخلا الغرفة وأضاء المصباح تأمل في وجهها فإذا هي بعينها فقال لها: «ما خبرك؟»
قالت: «جئت بالأمس لزيارة كنيسة المعلقة كعادتي ففوجئت بالجنود يدخلون الحصن ويخرجون من في الكنيسة من الراهبات فخرجت معهن يا سيدي، وكان من أمرنا ما قد علمت، فلبثت في ذلك الممر أنتظر الصباح لأعود إلى منف، وفيما أنا أخاطب رئيسة الدير أخبرتني أن راهبا جاء في صباح الأمس يسأل عن سيدي المقوقس ومعه كتاب، فسألتها عن ذلك الراهب فذكرت أنه خرج من الكنيسة في ضحى هذا اليوم ولم تعد تراه ولا تعلم أين هو، ولكنه من رهبان دير في برية تيبايس يحمل كتابا من البطريق بنيامين الذي فر من بطريق الإسكندرية إلى هناك، ولما علم بقدوم الجند الرومانيين إلى الحصن خاف أن يفتضح أمر الكتاب، فدفعه إلى الرئيسة لتخفيه ريثما يستطيع حمله إلى أبيك، فأخفته في صندوقها بين ثيابها ولم تكن تعلم أنهم سيخرجونها مع الرهبان، فلما جاءوا الدير وأخرجوهن منه لم تستطع لسرعتها ودهشتها أن تخرجه، فبقي في الصندوق، وأخاف أن يصل إلى أيديهم، وربما كان فيه ما يؤاخذ سيدي عليه.»
فلما سمع أرسطوليس كلامها سكت لحظة وهز رأسه كأنه أدرك المراد من قدوم الراهب بذلك الكتاب، ولكنه خاف سوء العاقبة فاختلط عليه أمره وقال لبربارة: «وما السبيل إلى الحصول على الكتاب الآن وأنا لا أستطيع أن أطلبه من أركاديوس صريحا؟»
قالت: «إذن أعطني كتابا إلى أركاديوس تقول فيه إن رئيسة الدير تود أخذ أيقونة من صندوقها للصلاة، وتطلب منه أن يأذن لي في الدخول إلى الكنيسة لإخراج تلك الأيقونة فقد تنفع هذه الحيلة.»
فسر أرسطوليس بحيلتها وأخرج قطعة من ورق البردي كانت معه ثم ناولها إياها بعد أن كتب عليها ما أشارت به عليه، وقال لها: «لا تطيلي الغيبة فإني في انتظار رجوعك.» فقالت: «طب نفسا؛ إن غيابي لا يتجاوز فجر الغد.»
وهنا تذكر أرسطوليس شقيقته، فاستوقف بربارة وقال لها: «هل سافرت سيدتك أرمانوسة إلى بلبيس؟» قالت: «نعم يا سيدي.»
قال: «ولماذا لم تذهبي معها؟» قالت: «استأذنتها في البقاء بضعة أيام لأفي نذرا علي ثم ألحق بها.» وودعته وذهبت مسرعة.
ولبث أرسطوليس بعد ذهابها وحده، فنزع خوذته وسلاحه وتوسد مقعدا يلتمس الراحة بعد ما قاساه من التعب في تصفيف الجند أثناء النهار، وأخذ يفكر في أمر الراهب وكتابه فأدرك أن الكتاب مرسل من بنيامين بطريرك الأقباط إلى والده، يحثه فيه على مسالمة العرب وبذل الجهد في التخلص من نير الرومانيين.
أما بربارة فسارت توا إلى الرئيسة فتناولت منها مفتاح صندوقها ومضت إلى كنيسة المعلقة ، فاعترضها الحراس فأرتهم كتاب أرسطوليس إلى أركاديوس فأذنوا لها في المرور.
صفحة غير معروفة
وكان أركاديوس لا يزال غارقا في هواجسه وقد أطل من النافذة على النيل يفكر في محبوبته ويبحث عن وسيلة توصله إليها، وظل مترددا بين اليأس والأمل لا يدري كيف يبلغها قصده، وكان أكبر همه أن يطلعها على شدة حبه لها، ويقنعها أن ما بين أبيه وأبيها لا يحول دون اقترانهما إذا بادلته هي حبه. على أنه كان يخشى عاقبة أمره إذا أطلع أباه على ذلك؛ لعلمه بما في قلبه من الضغائن على المقوقس، وما بين الأمتين من النفور، ولكن الحب سهل عليه كل عسير حتى إنه أحب أمة الأقباط كلها من أجل محبوبته، ومال إلى التشيع لهم رغبة في مرضاتها، ونقم على الساعة التي ولد فيها رومانيا، وعلى الأحوال التي جعلت أباها يتشيع للأقباط؛ لأن كلا الأمرين حائل بينه وبينها.
وفيما هو في ذلك إذ دخل عليه أحد رجاله يخبره بأمر بربارة وكتابها، فعجب لأمرها وقال: «هات الكتاب منها» فقال: «إنها لا تريد أن تسلمه إلا بيدها.» قال: «فلتدخل.» فدخلت وحدها وقبلت يد أركاديوس، فحالما رآها استأنس بمنظرها، وخيل إليه أنه رآها مرة من قبل، ولكنه لم يتذكر اسمها ولا الموضع الذي رآها فيه، على أنه ابتسم لها وتناول الكتاب منها وسألها عن أمرها فقالت: «نسينا الأيقونة يا سيدي في الصندوق، وهذا هو المفتاح، فهل تأذن لي بفتحه وإخراجها؟» فلما سمع أركاديوس كلامها ازداد استئناسا بها، وأحب استطلاع حقيقة حالها فقال لها: «كيف تدخلين وحدك بين الجنود وهم يملئون الغرف؟»
قالت: «وماذا يخيفني إذا كنت قادمة إلى سيدي أركاديوس؟»
وكانا يتخاطبان باللغة القبطية، فقال لها: «لعلك من أهل هذا الدير، ولكني لا أرى عليك لباس الراهبات.»
قالت: «إنما أنا نزيلة جئت للصلاة ووفاء بعض النذور، فلما جاء الجنود خرجت مع الراهبات، وقد كلفتني رئيسة الدير أن آتيها بالأيقونة.»
فقال: «ولماذا لم تأت بنفسها أو ترسل إحدى راهباتها؟»
قالت: «إنها لا تجرؤ على مخاطبة سيدي أرسطوليس في شأنها، فبعثت بي لأكلمه في شأنها، فأعطاني هذه التوصية.»
فقال: «وكيف تجرأت أنت على ذلك؟»
قالت: «لأني من بعض خدم قصره.»
فلما سمع أركاديوس ذلك خفق قلبه، وتوسم الخير من حديثها، فعول على تنسم أخبار محبوبته منها فقال: «وأي قصر تعنين؟»
صفحة غير معروفة