أرمانوسة المصرية

جرجي زيدان ت. 1331 هجري
134

أرمانوسة المصرية

تصانيف

قال: «وما ظنك بالإسكندرية؟»

فأطرق أركاديوس برهة يفكر، وهو يحاذر أن يبوح بضعف أمله لئلا يكون الرجل جاسوسا، ثم قال: «لو اجتمعت قلوب القواد واتحدت كلمتهم وثبتت أقدامهم فإنها تمتنع عن جند العرب، ولو كانوا ألوف الألوف.»

قال: «ذلك ما نشكو منه، ولكنني أسألك عن رأيك؟ هل تقوى على دفع العرب؟» فقال: «أظنها تقوى.»

فقال الشيخ: «وما دليلك على ذلك وأنت ترى الناس يهجرونها؟ وقد تفرقت كلمتهم وضعف أمرهم، وما ضعفهم إلا من اختلال حكومتهم وانقسام حكامهم.»

قال وقد تجاهل حقيقة الواقع: «وأي انقسام تعني؟»

قال: «أعني الانقسام الذي وقع بعد وفاة الإمبراطور هرقل في هذه الأثناء وكثرة من ادعوا الحق في الملك وقاموا يطالبون به، فأفضى الأمر إلى قسطنطين بن هرقل، فقتلوه بالسم بعد مائة يوم ، سقته إياه مارتين امرأة أبيه.»

فلما سمع أركاديوس اسم قسطنطين، وأنه مات، تذكر أنه مناظره القديم على أرمانوسة، وأتم الشيخ كلامه قائلا: «وعقد الملك بعده لهرقلينة ابنة مارتين هذه، ولم تمض مدة حتى نصب قسطان بن قسطنطين، وهم مع ذلك في نزاع دائم؛ فقد تولى كرسي القسطنطينية ثلاثة أباطرة في وقت واحد. أليس ذلك مضعفا للعزيمة موهنا للقوى؟! ما الذي ترجوه من جند هذه حال دولته؟ كيف يثبت في ساحة القتال؟ وكيف يقاوم العدة والرجال؟ إن الخلل تمكن من هذه الدولة حتى كاد يذهب بها. أقول ذلك والأسى ملء فؤادي لأني ولدت رومانيا، والدم الروماني في عروقي، والحمية الرومانية في كل جوارحي، ولكنني أرى المستقبل أمامي رأي العين، وهذا شأن الدول منذ أول العمران وهب أن الإسكندرية دافعت العرب ولم يفتحوها، فهل يستطيعون إخراجهم من مصر والأقباط عون لهم؟»

وكان أركاديوس مطرقا يسمع حديث الشيخ ولا يرى ما يدفع به حجته، فلما وصل إلى ذكر القبط خفق قلبه لتذكره أرمانوسة فقال: «لا تذكر القبط، فإني لا أحب ذكرهم؛ لأنهم هم الذين أخرجوا البلاد من أيدينا إلى أيدي العرب، وهم الذين باعوا دولتهم ووطنهم للغرباء، ولولا ذلك ما استطاع العرب سبيلا إلى وادي النيل. تبا لك يا مرقس.» قال ذلك وحرق أسنانه.

فتبسم الشيخ والتفت إلى أركاديوس كأنه يستمهله إتمام حديثه ثم قال: «نعم يا ولدي، إن المقوقس خان دولته وسلم البلاد لعدوها، ولكنك لو أنصفته لالتمست له عذرا.»

فقال: «وأي عذر ألتمسه وقد خان البلاد خيانة صريحة؟!»

صفحة غير معروفة