أرمانوسة المصرية

جرجي زيدان ت. 1331 هجري
126

أرمانوسة المصرية

تصانيف

وفي الصباح التالي أرسل المقوقس أرمانوسة وبربارة، ومعهما بعض الحاشية والخدم، في سفن تسير في النيل، على أن يوافيهم إلى مريوط، وفي الضحى أقلع العرب والمقوقس وحاشيته قاصدين الإسكندرية، وكان المقوقس يتقدم العرب مسافة يوم أو نحوه ليصلح الجسور ويسهل الطرق ويهيئ ما يحتاجون إليه من المئونة ووسائل الحمل، والروم يفرون أمامهم إلى الإسكندرية، وهي آخر ملجأ يلجئون إليه، فإذا أخرجوا منها لم يبق لهم مقر. •••

أما أركاديوس فتنكر بلباس جند القبط، واصطحب مرقس إلى حجرته التي كان ينام فيها بالقرب من كنيسة المعلقة، فمرا بالكنيسة، وكان أركاديوس يتوقع أن يراها خرابا محطمة الأيقونات متهدمة المذابح، ولكنه بغت لما رآها لا تزال سليمة، والمسلمون والأقباط يدخلونها ويخرجون منها باحترام ووقار، فعظم أمر المسلمين في نفسه، ولم يكن مرقس أقل استغرابا منه؛ لأنه لم ينس ما فعله جند الروم في تلك الكنيسة يوم جاءوا لاحتلال الحصن منذ بضعة أشهر، وأركاديوس معهم، فحدثته نفسه أن يذكر أركاديوس بذلك، ومشيا في الكنيسة لا يعترضهما أحد؛ لأن أكثر الناس هناك يعرفون مرقس لعلاقته بالمقوقس ولدخوله معسكرهم مرارا، وفيما هما ماشيان لقيتهما الراهبة التي كانت قد حفظت كتاب البطريرك بنيامين للمقوقس حتى أخذته بربارة لتوصيله إليه، فلما رأت مرقس هشت له واستقبلته محيية وهي تبتسم مستبشرة، فسلم عليها وسألها عن حال الراهبات، فقالت: «نشكر الله على نجاتنا من الروم (ولم تكن تعلم أن رفيقه رومي) وأبشرك يا بني بأن البطريرك بنيامين حبيبنا التقي الورع سيأتي عما قليل.» فتجاهل مرقس قولها إخفاء لقصة البطريرك، فقال لها: «كيف هؤلاء العرب معكن؟» قالت: «إنهم من خيرة الناس وقد كنت أخشى أن يفعلوا بنا في هذه الكنيسة ما فعل الروم يوم دخلوها، فما شعرت إلا والأمير نفسه قادم إلينا يطمئننا ويخفف عنا، ويقول: «لا بأس عليكن»، فلما آنست فيه هذا اللطف دعوت له وطلبت إليه أن يستقدم إلينا البطريرك بنيامين، فوعدني خيرا، حفظه الله وأدام سلطة العادلين.»

وكان أركاديوس يسمع كلامها وهو يتقد غضبا، ولكنه علم أن إطلاعها على أمره لا يخلو من الخطر الشديد فسكت، وقد شعر بما كان يقاسيه الأقباط من العنف والاستبداد في أيام دولتهم. وظلا سائرين حتى دخلا الغرفة، وبحثا فيما بقي من الأثاث، فوجدا السلسلة والصليب في بعض أركان الحجرة، لم يمسهما الفاتحون، فتناولهما أركاديوس وقفل راجعا، وكان الليل قد أسدل نقابه، وفي اليوم التالي أنفذ مرقس إلى أرمانوسة، وكانت قد خرجت من منف، فلا تسل عن حاله لما عاد مرقس وأنبأه بالخبر، فإنه استعاذ بالله، واسودت الدنيا في عينيه، فقال له مرقس: «لا تجزع؛ إن سيدتي أرمانوسة في حفظ وأمان، لا خوف عليها في صحبتها والدها، فإذا رأيت أن تسير إلى الإسكندرية فتلقى أباك وتخبره بما أنت عازم عليه فافعل، فلعل القلوب تصفو، وأنا ذاهب إلى سيدتي أرمانوسة لأكون بمعيتها حيثما توجهت، وآتيك بأخبارها وآتيها بأخبارك، حتى ينقضي أمر الإسكندرية، فتكون مصر إما للروم وإما للعرب، وفي الحالين أنت لأرمانوسة وهي لك، فهي لا تلام على ذهابها مع أبيها، وهو لا يعلم شيئا من أمركما، فأرجو أن تتدبر الأمر حتى يرتاح ضميرها.»

فقال أركاديوس: «لا لوم عليها ولا تثريب.» ثم فكر قليلا وقال: «إني أعهد في أمر أرمانوسة إليك، وما دمت الواسطة بيني وبينها، فإنك لا شك تقوم بما فيه نفعنا.»

قال: «إني عبدكما، وكل ما أتيته فهو منكما وإليكما، ولم يكن لي في الدنيا مأرب غير اجتماعكما على سكينة وطمأنينة.»

فقال أركاديوس: «بورك فيك، وها أنا ذا ذاهب إلى الإسكندرية لعلي ألقى أبي هناك، أو ألقاه قد يئس من حياتي وسافر إلى القسطنطينية، وعلى كل حال فإني سأقيم في معسكر الروم لعلي أشفي غليلي من العرب، وأما أنت فجئني بخبرها ومكانها بعد أن يصل العرب إلى الإسكندرية.»

فقال مرقس: «ولكن كيف أستطيع الوصول إليك ، والأقباط الآن أعداء للروم؟ على أن في استطاعتك أن تحل هذه المشكلة، ومشكلة غيابك عن الحصن معا، فتذكر لهم أني جاسوس على المقوقس، وأني أنبأتك بخيانته فلم تصدق وخرجت معي متنكرا لتتحقق الأمر، فسقط الحصن خلال ذلك.» فوافقه أركاديوس على هذا الرأي.

الفصل الرابع عشر

فسطاط عمرو

امتطى أركاديوس جواده وسار قاصدا الإسكندرية في غير طريق الجند، وقد امتلأ بالفوز على العرب والأخذ بالثأر، وكلما تخيل ذلك انتعشت آماله، وآثر أن يرى أرمانوسة وقد كلله الظفر، على أن يفر بها خلسة إلى حيث لا يعلم.

صفحة غير معروفة