وجميع من قال إن النفس عن العناصر كانت، من أجل معرفتها وإدراكها الأشياء بحسها ومن حدودها بالحركة، لم يقل هذا القول فى كل نفس، لأن كل ذى حس ليس بمتحرك، فقد نرى بعض الحيوان راتبة فى أماكنها؛ والنفس لا تحرك الحيوان من جميع الحركات إلا حركة الانتقال. وعلى هذا أجرى كلام من جعل العقل والحس من العناصر، ومن الظاهر أن النبات حى وليس له حركة انتقال ولا حس، ويرى كثير من الحيوان وليس له فكرة. ولو أضرب أحد عن هذه ثم جعل العقل جزءا من النفس، وجعل القوة الحاسة كذلك، لما كان قوله قولا عن كل نفس: لا عن الكلية ولا عن الفردية. — وبهذا القول كان يقول أرفيوس، إذ زعم أن الرياح تحمل النفس من الكل فتصيرها إلى داخلها فى حال تنفسها. وليس يمكن أن يعرض هذا لذوات النبات، ولا لطائفة من الحيوان، لاسيما إذا لم يكن جميعها متنفسا، إلا أن هذا ذهب عن أصحاب هذا الرأى. — لكن ينبغى أيضا للنفس إذا فعلت أن يكون فعلها من الاسقطسات، فليس بها حاجة إلى جميعها، ولا أن يكون فعلها من جميعها، فقد تقدم جزء واحد من المختلفة بالقضاء على نفسه وعلى ما خالفه، كالذى يعرف بالخط المستقيم، فانا نعرف بالخط المستقيم نفسه والأعوج، وذلك أن المسطرة قاضية على الأمرين جميعا؛ فأما الخط الأعوج فليس يقضى على نفسه ولا على الخط المستقيم.
وقد زعم أقوام أن النفس مخالط الكل؛ وأخلق بثاليس الحكيم أن يكون على ظنه بأن الكل مملوء روحانية عالية، من هذه الجهة. — ويلزم هذا القول مسائل عدة: منها أن يقول القائل لأية علة لم تقعل النفس التى فى الجو وفى النار حيوانا، وفعلت ذلك فى ذوى الخلط من الأشياء، وهى فى المبسوطة من الأشياء أفضل وأكرم؟ (وللطالب أن يطلب أيضا فيقول: لم كانت النفس التى فى الجو أفضل من التى فى الحيوان وأشد بعدا من الموت؟). ويعرض للقولين جميعا السماجة والفظاعة، لأن من قال إن الجو والنار حيوان فقد قال فظيعا، ومن ترك إثبات الحيوان عند وجود النفس فقد فعل فعلا قبيحا سمجا. — وأخلق بهم أن يكون ظنهم بالنفس أنها فى النار وفى الجو، ومن أجل أنهما فى كلتيهما مساويان فى الصورة لأجزائهما، ولذلك اضطروا إلى أن قالوا إن النفس مساوية فى الصورة لأجزائها، إذ كان الجزء من الجو إذ صار فى الحيوان جعل الحيوان ذا نفس. فان كان الجو إذا تشرب وتفرق مساويا فى صورته وليست النفس متسابهة الأجزاء، فهو بين أن بعضها موجود وبعضها غير موجود. ويلزمها بالاضطرار إما كانت متسابهة الأجزاء، وإما ألا تكون فى جزء من أجزاء الكل.
وقد استبان مما قيل أن المعرفة لم تصر للنفس من قبل العناصر، وأن من قال إنها متحركة لم يقل حقا ولا صدقا.
صفحة ٢٦