ولا شك أن للحماس الديني عامله الكبير بين معتنقي الدين الجديد، ولكنا لا نستطيع الجزم بأن الرغبة في التبشير كانت السبب الرئيسي لهذه الفتوحات، ويقول لنا ابن خلدون: إنه عندما بويع عمر بن الخطاب بالخلافة على المسلمين ، وقف يخطب في الجمع حاثا المؤمنين الصادقين على فتح العراق قائلا: «إن الحجاز ليس لكم بدار إلا على النجعة، ولا يقوى عليه أهله إلا بذلك، أين القراء المهاجرون عن موعد، سيروا في الأرض التي وعدكم الله في الكتاب أن يورثكموها.».
4
تغيرت سياسة قواد العرب تغييرا شاملا بعد اتصالهم بالعالم الخارجي، فقد رأينا النبي يهنئ نفسه علانية لما انتصر الإمبراطور المسيحي هرقل على الفرس الوثنيين دون أن يبالي بما قد تجره هذه الانتصارات من نتائج سيئة على الدين الإسلامي، وقد رأيناه أيضا في موقعة بدر في السنة الثانية للهجرة ينازل ألف قريشي وهو على رأس ثلاث مئة محارب فقط، ولكن مسئولية الحكم جعلت خلفاءه يحسبون لكل قدم حسابه، وكانت الاعتبارات السياسية قد حلت محل الاعتبارات العاطفية.
إن اتساع رقعة الإمبراطورية العربية شرقا وغربا قللت فعلا من شأن العامل الديني، فاضطر الخليفة عمر بن الخطاب أن ينتهج سياسة حكيمة تتنافى مع الحماس والجرأة التي اتصف بها أول من اعتنق الدين الجديد، هذا ما فهمناه على كل حال مما كتبه المؤرخون المسلمون، فقد وصفوا لنا فتح مصر كأنه عمل حربي قرره الزعماء العرب بعد تردد طويل، وهم أيضا يؤكدون أن موافقة عمر لم تعط بسهولة بل انتزعت منه انتزاعا، وقد اعترض أحد الكتاب المعاصرين على حقيقة هذه التفاصيل محتجا بأنها مخالفة لطباع الخليفة المشهورة، فهو يقول: «لا يعقل أن عمر الذي أخضع بلاد الفرس والروم، وفر من جيوشه أعظم ملوك الأرض، يأذن للجند بالمسير إلى الغزو والجهاد، ثم يتراجع ويوقف السير وهو يعلم ما يترتب على ذلك من الوهن في عزيمة الجند وطمع العدو.».
5
ولكن عمر، الذي اشتهر بحكمته وتبصره، لم يستطع أن يخوض عن طيب خاطر غمار حرب حامية الوطيس، هل كان العرب يعرفون شيئا عن مصر؟ كانوا يجهلون غالبا كل ما يتعلق بتلك البلاد، ولما كانوا لا يملكون الخرائط الجغرافية، فقد سلكوا طريق الغزوات الذي اتخذه غيرهم، والذي تعرف عليه عمرو بن العاص في أثناء رحلاته إلى مصر، ألم يقل لنا المؤرخون: إن القوات العربية كانت تجهل تماما منطقة الفيوم، وإن الذي كشف لهم عن طريقها هو دليل اتبعوه على غير هدى؟ ألم يذهب حنا النقيوسي إلى جد الإثبات بأن المسلمين لم يكونوا يعرفون مدينة مصر؟
6
ونعتقد أنه لولا إلحاح عمرو، لتأخر فتح مصر وقتا طويلا؛ لأن عمرا كان في الواقع أول من حرض العرب على فتحها ودخولها ظافرين منتصرين، كان عمرو بن العاص، في عصر الجاهلية، يقوم بالتجارة مع مصر،
7
وقد أضفت الأسطورة جمالا على الحقيقة فادعت أن إحدى المقابلات التي حدثت له صدفة في فلسطين جعلته يستأنف سيره إلى الإسكندرية؛ حيث شاهد فيها حفلة قام المدعوون في أثناءها بلعبة تقليدية تتلخص في إلقاء كرة على الحاضرين، فمن تقع عليه يعتبر حاكم مصر القادم، ولقد سقطت الكرة على عمرو الذي حضر متفرجا، فأثار هذا الحادث عجب اللاعبين، وكانوا صفوة شعب الإسكندرية.
صفحة غير معروفة