كلمة المؤلف
1 - حالة المسيحية في مصر قبيل الفتح الإسلامي
2 - الفتح العربي
3 - الشريعة الإسلامية وأهل الذمة
4 - أحوال الأقباط الحقيقية تحت حكم الولاة
5 - سياسة الولاة المستقلين
6 - عظمة الأقباط واضمحلالهم في عهد الفاطميين
7 - موقف الصليبيين من النصارى
8 - كارثة النصرانية في عهد السلاطين المماليك
9 - القبطي في خدمة البكوات المماليك
10 - سياسة بونابرت الإسلامية وموقف الفرنسيين من الأقباط
11 - تسامح أسرة محمد علي والاعتراف القانوني بالمساواة بين المسلمين والأقباط
12 - مسائل متنوعة
خاتمة
المراجع
كلمة المؤلف
1 - حالة المسيحية في مصر قبيل الفتح الإسلامي
2 - الفتح العربي
3 - الشريعة الإسلامية وأهل الذمة
4 - أحوال الأقباط الحقيقية تحت حكم الولاة
5 - سياسة الولاة المستقلين
6 - عظمة الأقباط واضمحلالهم في عهد الفاطميين
7 - موقف الصليبيين من النصارى
8 - كارثة النصرانية في عهد السلاطين المماليك
9 - القبطي في خدمة البكوات المماليك
10 - سياسة بونابرت الإسلامية وموقف الفرنسيين من الأقباط
11 - تسامح أسرة محمد علي والاعتراف القانوني بالمساواة بين المسلمين والأقباط
12 - مسائل متنوعة
خاتمة
المراجع
أقباط ومسلمون
أقباط ومسلمون
منذ الفتح العربي إلى عام 1922م
تأليف
جاك تاجر
كلمة المؤلف
لست مسلما ولا قبطيا، وقد تعرضت لموضوع العلاقات بين الأقباط والمسلمين بدافع المؤرخ الذي يسرد الحوادث على حقيقتها لا بشعور القاضي، الذي يحكم بين طرفين، ومن البديهي أن يثير هذا البحث بعض التعليقات غير أني أرحب بكل من يحيطني بوجهة نظره أو يتحفني برأيه.
المقدمة
بقلم جاك تاجر
عاشت المسيحية في مصر في جو ساده الاضطراب والقلق، ولا غرابة حينئذ إذا رأينا الكتاب والمؤرخين قد عكفوا مبكرين على سرد تاريخها.
ولم نعتمد في دراستنا على المؤلفات التي وضعت حديثا لتناولها بوجه عام الناحيتين الروحية والدينية من تاريخ الكنيسة المصرية، وإهمالها الناحيتين السياسية والاجتماعية من ذلك التاريخ، فهي إذا قد اقتصرت على معلومات عابرة عن العلاقات بين الأقباط والمسلمين.
وإذا استثنينا كتاب الأب «رينودو»
Renaudot ، لاحظنا أن بقية المؤلفات قد أغفلت ذكر المصادر التي استقت منها الأخبار والحوادث فأصبحت قاصرة عن توجيهنا في أبحاثنا، فضلا عن أن كثيرا من النظريات والحجج التي أريد التدليل بها أصبحت باطلة بعد أن اكتشفت حديثا أوراق البردي.
1
والواقع أن المسألة القبطية لم تدرس دراسة وافية إلا في «دائرة المعارف الإسلامية»
2
رغم اكتفاء المسيو «جاستون فييت» بطرحها على بساط البحث في أسلوب مقتضب، وعدم تناوله العصر الحديث ابتداء من الحملة الفرنسية، لضيق المقام أفرد له، إلا أنه دعم بحثه القيم بقائمة غنية بالمصادر القديمة والحديثة اتخذناها أساسا لبحثنا.
أما الكتب العربية، ونذكر منها على سبيل المثال «تاريخ الأمة القبطية» ليوسف منقريوس، وغيرها من الدراسات الثانوية المتشابهة لها، فقد كتبت بأسلوب أقرب إلى الجدل منه إلى الروح العلمية.
وخلاصة القول؛ إن شعب مصر لم يعرف تاريخ العلاقات بين المسلمين والأقباط إلا عن طريق الأقاصيص والحوادث التي شوهتها الأحقاد القديمة، ونقلها أو بالغ فيها أناس لم يعتمدوا على النطق السليم في تفكيرهم، وسنحاول اليوم بقدر الاستطاعة أن نبين بوضوح الحقيقة، مهما كانت مريرة، وفي الوقت نفسه نكشف عن الأسباب الأصلية لأهم الحوادث.
فهذه الدراسات لا تهدف كما يتصور بعض الناس، إلى إذكاء نار عداوات قديمة، لما حوته من خصومات أو أحداث أليمة؛ ذلك لأن الأهواء الدينية في الشرق لم تفقد من حدتها بين المسلمين والأقباط في الطبقتين الوسطى والسفلى، وإن كانت فاترة في الظاهر، فإن القلق المكبوت ما زال جاثما رغم التصريحات الرسمية وحسن استعداد رؤساء الأمة وقاداتها في التعاون الصادق لإزالة ما في النفوس من ضغائن ليتحد العنصرين؛ إذ إن الاتحاد أول الأسس المتينة لاستقلال البلاد.
وفي هذا الوقت الذي تفكر فيه الجامعة العربية في توسيع رقعة نشاطها وضم جميع الشعوب الإسلامية تحت رايتها على اختلاف أجناسهم، وفي هذا الوقت الذي يحبذ فيه نخبة من المسلمين بعث الإمبراطورية العربية القديمة من مرقدها، فإنا لا نشك إطلاقا في ترحيب عدد كبير من أقطاب السياسة بكل ما يساعدهم على فهم الأوضاع الصحيحة، وتوجيه تفكيرهم في سبيل المحافظة على الوئام بين الأغلبية المسلمة والأقلية المسيحية، وإذا تعذر علينا اقتراح حلول لهذه المسألة، فلنحاول على الأقل دراسة بعض وجوهها.
هوامش
الفصل الأول
حالة المسيحية في مصر قبيل الفتح الإسلامي
ظهرت المسيحية في مصر قبل الفتح الإسلامي بستمائة عام، ولا نريد إعادة تأريخ ظهورها في شتى مراحلها، فمثل هذه الدراسات خارجة عن حيز موضوعنا، كما أننا لن نناقش النتائج التي خرج بها بعض المستشرقين أمثال «لوفيفر»
Lefebvre
و«شميدت»
Schmidt
و«شولتز»
Schultze
1
وقد اتفقوا على أن المسيحية ظلت غريبة على أهل مصر الأصليين، كما ادعوا أن نجاح العرب يرجع بصفة عامة إلى أن الإسلام اجتذب أقباط مصر، الذين تعبوا من تزمت كنائسهم وتضييقها عليهم،
2
ويكفينا القول بأن المسيحية المصرية قبيل الفتح الإسلامي إنما كانت بالنسبة للشعب المصري، أداة للتحرر السياسي والتخلص من نير الحكم البيزنطي.
ظل الشعب القبطي، بعد انتشار المسيحية على يد الرومان والبيزنطيين، يعبد بحرارة آلهته الفرعونية ويكرم آثار ماضيه التليد، وكان يرفض أن يقدم أي قربان للآلهة اليونانية والرومانية، كما أنه لم يقبل المسيحية إلا بتحفظ شديد؛ لأنها جاءته من الخارج، وكان الشعب يريد بذلك إقناع نفسه أنه لم يخضع لاحتلال الغزاة ما دام يقاوم شعائرهم وعقائدهم.
ترك مسيحيو مصر ديانة أجدادهم مكرهين؛ لأن ديانة الفراعنة ومعابد الفراعنة وآلهة الفراعنة كانت تذكرهم بمجد مصر في مختلف عهودها، فلا غرابة لو ظلت معتقداتهم القديمة راسخة في نفوسهم، رابضة في قلوبهم بعد اعتناقهم المسيحية، ونستطيع أن نضرب مثلا لهذا التشبث بقراءة «السيناكسار»؛ أي: تاريخ القديسين، يقول السيناكسار: «في معبد قيصرون الذي شيدته الملكة كليوباطرة، كان يوجد صنم كبير من النحاس اسمه «عطارد»، وكان يحتفل سنويا بعيده وتقدم له الذبائح، وقد ظلت هذه التقاليد معمولا بها إلى أيام حكومة الأب إسكندر؛ أي: لمدة تزيد عن ثلاثمائة عام، فلما نصب إسكندر بطريركا، قرر تحطيم هذا الصنم بيد أن شعب الإسكندرية ثار قائلا: «لقد اعتدنا إحياء هذا الصنم، ولقد تربع على هذا الكرسي اثنا عشر بطريركا، ولم يجرؤ أحد منهم أن يصرفنا عن هذه العادة.».
3
ولما زالت عبادة الأصنام وكفت السلطة الحاكمة عن حمايتها، لم يستطع المصريون تلافي المسيحية، فحاولوا، حسب تعبير جان ماسبيرو
Jean Maspero
الموفق «مصادرتها لمصلحتهم» وقرروا أن كل ما كان جميلا وعظيما في المسيحية إنما هو مصري، ومن ذلك الحين مال الأكليروس والشعب إلى القبض على زمام الحكم ثم إلى الانفصال عن حكم بيزنطيا، وقد تجلى هذا الميل بوضوح بعد مجمع نيقيا
Nicce
الديني حيث بزغ نجم كنيسة الإسكندرية ولمع.
شعر بطاركة الإسكندرية بعد مجمع نيقيا بعطف العالم المسيحي عليهم وتقديره لعلمهم ونبوغهم، فرئيس الكاثوليك «أي: بابا روما» أصبح يحيطهم بالإجلال والاعتبار، بينما أضحى إمبراطور بيزنطيا يغمرهم بالعطايا والهدايا، هذا لأنهم فندوا ادعاءات الانفصاليين وحافظوا على وحدة المسيحية، وعلى حسن العلاقات بين الإمبراطوريتين الرومانيتين، شعر البطاركة بهذا كله واغتنموا كل فرصة سنحت لهم للتخلص من وصاية الإمبراطور عليهم، كما تعاونوا على فرض وجهة نظرهم فيما يتعلق بالمسائل الدينية حتى ولو كانت مخالفة لرأي رئيسهم المباشر؛ أي: البابا.
أما الشعب القبطي، الذي كان يتحسر على عظمة الفراعنة البائدة، فقد كان يتحمل الاحتلال الروماني والاحتلال البيزنطي بعناء مشقة، وكانت الضرائب الفادحة التي تفرضها عليه السلطة القائمة تزيد من يأسه، وأراد أن يظهر رغبته في الحرية السياسية أو بالأحرى أن يثور ضد المحتل الغشوم المتعسف، ولكن أنى له هذا؟ إن الوسيلة الوحيدة التي سنحت له، وهي الانشقاق الديني، قد لجأ إليها بعد أن ظهر بطريرك الإسكندرية في المحيط الديني والميدان السياسي، إن البطريرك كان الشخص الوحيد، الذي لم تفرضه السلطات المدنية على الشعب المصري، بل كان الشعب هو الذي ينتخبه، فأصبح البطريرك من جراء ذلك ممثل الشعب المصري الحقيقي، يعبر عن طموحه وأمانيه أمام الرأي العام، وأصبح الشخص الوحيد الذي يستطيع أن يصمد ضد سلطان الإمبراطور ومن يمثلونه.
ويجمل بنا أن نذكر القارئ بأن المسائل الدينية كانت في ذلك العصر موضع المناقشة الوحيد، وبالتالي كانت الساحة الوحيدة التي يمكن أن يحتدم فيها القتال، ومن ثم أعلن الشعب القبطي، تحت قيادة رؤسائه الدينيين، عصيانه على مبدأ الكنيسة الموحدة، فالانشقاق القبطي هو ديني من حيث الحجة فقط، وبالرغم من أن الاعتبارات الدينية فقدت كثيرا من أهميتها في أيامنا الحاضرة، فيجدر بنا أن ننوه عن حوادث الانشقاق الديني؛ لأنها ستوضح لنا ما غمض من أسباب مأساة «كالسيدونيا»
Chalcedoine .
كان البطريرك «ديوسقور»
Dioscore ، الذي لا يذكر اسمه إلا مقرونا بمجمع كالسيدونيا، يصرح راضيا: «إن البلاد لي أكثر ما هي للأباطرة؛ وإني أطالب بالسيادة على مصر.»، ولم تفتر عزيمته في انتظار الفرصة طويلا ليخرج بهذا التصريح من حيز الكلام إلى حيز العمل، ولقد سنحت له هذه الفرصة في خراقة بطريرك القسطنطينية غير المقصودة.
وفعلا، عندما أعلن الراهب «أوتيشيس»
Euthyches
مذهبه الخاص بطبيعتي المسيح الإلهية والبشرية «وهو المذهب الذي ينتمي إليه الأقباط الأرثوذكس حاليا» - وكانت هذه المسألة الشائكة تثير النقاش والجدل في العالم المسيحي - بادر الأكليروس المصري إلى تفنيد مزاعمه، ولم يكن هناك ما ينذر بأحداث جسيمة، ولكن شاء القدر أن يعلن «فلافيان»
Flavient
بطريرك القسطنطينية بصفة رسمية قرار حرمان صاحب المذهب الجديد، مما جعل ديوسقور يستنكر على زميله حقه في إدانة أحد أعضاء الكنيسة علنا؛ لأن في هذا العمل إعلاء لمقام بطريرك القسطنطينية على بطريرك الإسكندرية، ولما كان فلافيان قد أدان علنا الراهب أوتيشيس، انضم ديوسقور رسميا إلى رأي الراهب.
وضع بطريرك الإسكندرية أكليروس مصر في مركز حرج، بمنطوق حكمه المتأخر المفاجئ؛ ذلك لأن الأساقفة المصريين أدانوا أوتيشيس دون أن يبدي البطريرك - وهو صاحب الرأي الأخير - أية معارضة، فكيف يستطيعون بعد ذلك أن ينقضوا حكمهم دون أن يعرضوا أنفسهم للسخرية، وبينما كان الأساقفة حائرين مترددين أمام هذا الموقف الشاذ؛ إذ يأمرهم ديوسقور أن يتضافروا معه ويؤيدوه في موقفه، ولم يكن في استطاعة الأساقفة إلا الإذعان لأمر رئيسهم، ولما ناقشهم مجمع كالسيدونيا، صاحوا جميعا قائلين: «ألم يقرر مجمع نيقيا أن تتبع مصر كلها بطريرك الإسكندرية، وألا يتصرف الأساقفة في أي موضوع دون الرجوع إليه؟» ولما أمرهم المجمع بأن يدينوا لرئيسهم، أجابوا بتململ: «إذا فعلنا ذلك لن نستطيع أن نقيم في البلاد؛ لأن سكانها سيقتلوننا، وإذا أردتم أن تحرمونا من أبروشياتنا، فاحرمونا؛ إنا فيها زاهدون وكل ما نريده هو ألا نموت.».
أما الشعب المصري، فلم يتردد لحظة واحدة في مناصرة بطريركه لاعتقاده بأن جرأة رئيسه الديني قد حققت أمانيه الغالية المنشودة، فلما حكم مجمع كالسيدونيا على ديوسقور وأمر بنفيه، رفض الشعب، متضامنا مع الرهبان، الاعتراف بسلطة البطريرك الذي أمر إمبراطور القسطنطينية بتنصيبه، وهكذا ظهر الانشقاق، وأصبحت الشقة بعيدة الغور بعد أن حاز مذهب الطبيعة الواحدة - أي: مذهب الراهب أوتيشيس - أغلب الأصوات، فقد بلغ عدد المنشقين في مصر في القرن السابع الميلادي ستة ملايين شخص يقابلهم مائتا ألف فقط ممن يدينون بالطاعة للبطريرك الكاثوليكي؛ أي: لسلطة إمبراطور القسطنطينية.
أما المنشقون، فكانوا بطبيعة الحال سكان البلاد الأصليين، بينما كان أنصار الفريق الآخر من البيزنطيين وأهل الإسكندرية المصطبغين بالصبغة اليونانية أو الموظفين الأقباط الذين قضت عليهم مصلحتهم «بأن يتناولوا القربان المقدس من أيدي حاكمهم الملحد».
ومن العبث أن نحاول إيضاح مذهب الطبيعة الواحدة؛ لأن المصريين من جانبهم لم يهتموا بصاحب المذهب أو بتعاليمه، وكان هدفهم الأساسي يرمي إلى الانفصال عن بيزنطيا، وقد اعتبروا الانشقاق الديني أول مرحلة من مراحل الارتقاء إلى التحرر.
وكانت بيزنطيا في الباطن تعرف جيدا الغرض الذي كان يهدف إليه ديوسقور، كما لم تخف عليها الأسباب التي كان الشعب يتبعه من أجلها بحماس، لذلك حاول الإمبراطور أن يقنع البطريرك المصري بالعدول عن موقفه المتطرف والعودة إلى الوئام؛ إذ كان يحز في نفسه أن تصاب وحدة الإمبراطورية بتصدع بسبب نزاع لا يرتكز إلى حجج قوية.
استعان الإمبراطور بالقوة لإبقاء الانفصاليين تحت سلطة البطريرك الكاثوليكي، ولكنه حاول في هذه الأثناء جاهدا حل الخلاف بطريقة ترضي الطرفين المتنازعين، اقترح الإمبراطور «زينون» “Zenon”
حلا معروفا باسم «هينوتيك» «هينوتيك»
Henotique ، ثم أشار الإمبراطور «هرقل» إلى حل آخر معروف باسم «اكتيز»
Ecthése ، ولكن رغم اعتراف الأكليروس اعترافا ضمنيا بالحل الأول، ورغم إنكار البابا للحل الأخير؛ لأنه يخالف العقيدة الكاثوليكية مخالفة شديدة، رفض الشعب المصري الحلين؛ لأنه لم يعد يقبل إعادة العلاقات بينه وبين الإمبراطور بعد أن بذل جهودا كبيرة لفصمهما، كما لم يعد الأكليروس المصري يسير بمفرده في ركب ديوسقور، بل كانت الأمة المصرية بأسرها تتبعه.
اضطرب السلام الداخلي في مصر بعد مجمع كالسيدونيا، وأقبلت البلاد على عهد جديد من الاضطهاد، أسماه الأقباط «الرعب الكاثوليكي»، واعتبر الشعب المصري ورهبانه البطريرك «قيرس»
Cyrus
الذي عينه الإمبراطور هرقل قبل الفتح الإسلامي، عدوا للمسيح؛ لأنه أراد أن يرغم الشعب على قبول حل «الإكتيز» الذي اقترحه عاهل القسطنطينية.
غير أن الأقباط لم يقوموا، بعد مجمع كالسيدونيا، بأية محاولة ليقطعوا مرحلة جديدة في سبيل استقلالهم ولم يواصلوا الكفاح لبلوغ غرضهم هذا، كان الدين يحتل مكانة عظيمة في كيانهم الوطني، وكانوا يعتقدون اعتقادا راسخا أنهم لو حصلوا على استقلالهم الديني لنالوا زبدة خصائص حريتهم السياسية، فلم يحاولوا توسيع شقة الخلاف التي حفروها، يضاف إلى ذلك أنهم لم يكونوا أهلا للحكم لعدم ممارستهم إياه قبل ذلك، ثم إذا كان الأقباط قد ملوا مضايقات أسيادهم البيزنطيين، فإن سنوات عبوديتهم الطويلة جعلتهم يتشككون في قدرتهم على التحرر في يوم ما من الوصاية الأجنبية، فكانوا لا يبغون في قرارة أنفسهم إلا تغييرا في السيادة عليهم يرجون منه توطيد السلام الديني ولا سيما تخفيف عبء الضرائب التي تجبى منهم، وقد أظهروا دائما استعدادهم لمناصرة أعداء السلطة القائمة، لو أظهر هؤلاء الأعداء استعدادهم لتنفيذ رغباتهم.
ففي سنة 609، عندما غزا مصر «نيكيتاس»
Nicétas
نائب هرقل الذي ثار ضد «فوكاس»
، تطوع عدد كبير من المصريين لمساعدته، دون أن يعرفوا على وجه الدقة أية منفعة قد يجنونها من الحاكم الجديد، ولم يقوموا بهذا العمل إلا بدافع كراهيتهم للسلطة القائمة.
وأراد نيكيتاس، بعد النصر الذي أحرزه، أن يتبع سياسة حكيمة نحو الشعب، فلم يتدخل في النزاع الديني من جهة، كما قرر من جهة أخرى تأجيل دفع الضرائب ثلاث سنوات، فعم الشعب فرح عظيم، وأجمع المؤرخون على أن السلام شمل البلاد بأسرها.
وفي سنة 619، غزا الفرس البلاد المصرية وارتكبوا فيها فظائع تشمئز منها النفوس، إلا أنهم لم يعيروا المسائل الدينية التفاتا، فلم يقلق الشعب القبطي من وجودهم، ولم يتذمر من عهدهم بل أسف لخروجهم، بعد أن حكموا البلاد عشر سنوات، ومما يستحق التنويه في هذا المقام أن الشعب لم يساعد الفرس ضد البيزنطيين، كما أنه لم يبد أية مقاومة عندما عاد هؤلاء إلى الحكم مرة أخرى.
وخلاصة القول؛ إن الشعب المصري لم يطمع من الناحية الوطنية إلا بشبه استقلال أساسه حرية العقيدة الدينية وخفض الضرائب، وهي السياسة التي سار عليها عمرو بن العاص عندما دخل مصر فاتحا.
نعم، إن عمرا ساعده تصرف هرقل الذي أراد قبيل الفتح الإسلامي بسنوات قليلة، أن يعيد الأقباط إلى حظيرة الكنيسة البيزنطية الكاثوليكية، مما أغضب الشعب وجعله يعطف على الغزاة، ويميل إلى مساعدتهم مع بقائه مخلصا للمسيحية إلى حد يلهم انكسار البيزنطيين بأنه عقاب المسيحيين الملحدين وتأكيد لمذهب الطبيعة الواحدة، الذي يرضى عنه الله، وقد كتب الأسقف اليعقوبي حنا النقيوسي: «لنحمد سيدنا يسوع المسيح ولنسبح اسمه القدوس في كل وقت؛ لأنه حمانا نحن - المسيحيين - حتى هذه الساعة من ضلال الوثنيين المرتدين ومن انهزام الملحدين الخونة.»
4
ويبادر المؤرخ نفسه، زيادة في الإيضاح إلى القول بأن المسيحيين المارقين أصحاب مذهب كالسيدونيا، هم الذين أسرعوا إلى اعتناق الإسلام، لا أصحاب مذهب الطبيعة الواحدة.
5
ولا نغالي إذا قلنا إن توطيد السيادة العربية مكان السيادة البيزنطية في مصر، أدخل على نفوس مسيحيي الشرق بارقة من الأمل، ولقد كتب ميخائيل السوري، بطريرك اليعقوبيين في أنطاكية، يقول: «إن رب الانتقام استقدم من المناطق الجنوبية أبناء إسماعيل لينقذنا بواسطتهم من أيدي اليونانيين وإذا تكبدنا بعض الخسائر لأن الكنائس التي انتزعت منا وأعطيت لأنصار مجمع كالسيدونيا بقيت لهم (بعد دخول العرب)، إلا أننا قد أصابنا خير ليس بالقليل بتحررنا من قسوة الرومان وشرورهم ومن غضبهم وحفيظتهم علينا، هذا من جهة، ومن جهة أخرى سادت الطمأنينة بيننا.».
6
وفعلا، بعثت الكنيسة اليعقوبية من جديد وقويت تحت حكم عمرو بن العاص، واعتقد سكان البلاد الأصليون، فترة من الزمن، بأن نصر المسلمين سيعيد للمسيحية، أو بالأحرى - إن أردنا الدقة في التعبير - لمذهب الطبيعة الواحدة سطوته الماضية.
هوامش
الفصل الثاني
الفتح العربي
استعداد العرب نحو الأقباط، وطابع غزوتهم، وموقف الأقباط منهم
استن المشرع المسلم لأهل الذمة عددا من القوانين استلهمها من تعاليم القرآن والحديث، غير أن الفقهاء لم يستطيعوا دائما فرض وجهة نظرهم على الحكام، وكان هؤلاء يحيدون عنها كلما اضطرتهم ظروفهم ومصالحهم إلى ذلك.
ولكن وجود الفروق بين المبدأ والحقيقة، وتردد الإدارة إزاء أهل الذمة في أثناء الفتوحات، كان له بعض الأثر بلا شك في العلاقات بين الشعب المقهور وسيده الجديد؛ أي: بين الأقباط والمسلمين.
ولتوضيح العلاقات بين هذين العنصرين اللذين ينتميان إلى شعب واحد، لا يكفينا الرجوع إلى أصول الفتح الإسلامي، بل يجب أن نضع أنفسنا في جو الأحداث ذاتها؛ ذلك لأننا لا نستطيع أن نفهم موقف العرب أو رد فعل الأقباط إن كنا نجهل ما ظهر من نيات الطرفين وما بطن، ثم لا نستطيع التمييز بين التدابير التي اتخذها العرب نحو الأقباط وبين التدابير ذات الطابع العام.
إن الفترة الأولى من الفتح الإسلامي كثيرة الغموض والإبهام، لذا يجمل بنا أن نلقي بعض الضوء عليها، موضحين النقط التي تبدو لأول وهلة غريبة عن الموضوع ولكن لها أثرا بينا في مجرى العلاقات بين المسلمين والأقباط. (1) استعداد العرب نحو الأقباط (1-1) النبي يعطف على الأقباط
يبدو أن فتح العرب لمصر كان مقررا قبل وفاة النبي، وعلى كل فكانت مصر تحتل مكانا مرموقا في خطط توسع الإسلام العسكري، ألم يشاطر المقوقس، حاكم مصر، ملك الفرس والنجاشي وعاهل بيزنطيا، شرف استقبال الرسول الذي أوفده النبي ليدعوه إلى الإسلام؟ وعلى الرغم من أن النبي لم يزر مصر قط، فإنه كان يكن للأقباط عطفا ملحوظا، وفي الحديث: «استوصوا بالقبط خيرا، فإنكم ستجدونهم نعم الأعوان على قتال عدوكم»،
1
إن جميع المؤرخين والكتاب المسلمين يتنافسون في ذكر هذه الأحاديث المطبوعة بطابع العطف البليغ، ومنها وصيته عند وفاته: «الله، الله، في قبط مصر، فإنكم ستظهرون عليهم ويكونون لكم عدة وأعوانا في سبيل الله»، ومن حديث له أيضا: «قبط مصر فإنهم أخوال وأصهار وهم أعوانكم على عدوكم وأعوانكم على دينكم»، ولما سئل: «كيف يكونون أعوانا على ديننا يا رسول الله» قال: «يكفونكم أعمال الدنيا وتتفرغون للعبادة»، وقال النبي أيضا: «لو بقي إبراهيم، ما تركت قبطيا إلا وضعت عنه الجزية ».
2
ولا نخفي أن كلاما يقوله النبي بهذه الدقة عن شعب لا يعرفه ويفكر في غزوه، لمدعاة إلى الدهشة والاستغراب، غير أننا نستطيع الجزم بأن صاحب الدعوة الإسلامية كان يضمر كل خير لسكان مصر الأصليين، ونتساءل الآن: هل كان لمارية القبطية تأثير حسن على شعور النبي؟ هل أحيط النبي علما بعداء الأقباط لحكامهم البيزنطيين؟ وهل استنتج من هذه العداوة ميل الأقباط إلى التعاون مع الفاتح المسلم؟ لو صدقنا هذا التأويل لاستطعنا أن نفسر مغزى الرسالة التي أرسلها النبي إلى المقوقس، مع كون المقوقس مرءوسا لعاهل بيزنطيا.
وعلى كل، كانت مصر من الوجهة الجغرافية بعيدة عن جزيرة العرب، فكان لزاما على العرب، وهم لا يملكون أسطولا بحريا لاجتياز البحر الأحمر، أن يقطعوا على أقدامهم أراضي سوريا ولبنان لغزو مصر، ثم لما انتصر النبي على قريش ودخل مكة ظافرا، اهتم أولا بتوحيد جزيرة العرب وإدارتها، ولم يفكر جديا في بسط سلطانه على أراض جديدة، وقد صرف من بعده خليفته أبو بكر معظم سني حكمه في تدعيم وحدة القبائل العربية وتطهير أوكار المقاومة بين القبائل الثائرة، ولم يشعر العرب فعلا بقدرتهم على إظهار نشاطهم الحربي خارج الجزيرة إلا في خلافة عمر بن الخطاب. (1-2) العرب لا يجدون مبررا سياسيا لفتح مصر
تساءل كثير من الكتاب عن الأسباب التي دعت العرب إلى فتح مصر، وحاول بعضهم أن يجد حلا لهذه المسألة، غير أنه من الصعب الوصول إلى مبرر سياسي لهذه الفتوحات، لا سيما وأن المؤرخين المسلمين وفروا على أنفسهم مشقة البحث في هذا المضمار.
والواقع أن الفرس والروم كانوا ينشدون الراحة؛ لأن الحروب التي وقعت بينهم أنهكتهم، ثم لم يتوجسوا خيفة من القبائل التي تسكن الفيافي العربية المترامية الأطراف، وإذا اقتفينا آثار المؤرخين العرب الذين اهتموا بالرسالتين التي قد أرسلهما النبي إلى عاهلي إمبراطورية الفرس وإمبراطورية بيزنطيا، وجدناهم متفقين على أن عاهل بيزنطيا لم يبال قط بالرد على الدعوة التي وجهت إليه، كما أن ملك الفرس مزق علانية الرسالة، معلنا احتقاره للجنس العربي.
نقول هذا كله لنقيم البرهان على أن الفتوحات العربية لم ترتكز على أغراض دفاعية، وما أسهل الكشف عن أسباب الفتوحات، لقد وحد الإسلام القبائل العربية، التي اعتادت شن الإغارات على بعضها، كما اعتادت السلب والنهب لسوء أحوالها الاقتصادية، فلما حلت بينها روح الإخاء التي نشرها الإسلام محل العداء المألوف، بحث سكان الجزيرة بطبيعة الحال عن أرض أقل جدبا ليرتزقوا منها، فلم يتردد المسلمون - وقد حفزتهم قوة إيمانهم واقتناعهم بأن الشعوب التي لا تعتنق الإسلام تضمر لهم العداء - أقول لم يتردد المسلمون إلى الخروج عبر حدود بلادهم لينتزعوا من المشركين والوثنيين بقاعهم الغنية.
قيل: إن الحاجة تبرر كل عمل عدائي، ويحدثنا التاريخ بأن قبل ظهور الإسلام بعهد بعيد، قام العرب بأعمال عدائية بحثا عن القوت؛ فغزوا مصر في عهد الفراعنة، واستقروا فترة من الزمن في «آشور» كما توصلوا إلى دخول الحبشة، ولم يتفق حدوث هذه الغزوات مع ظهور ديانة أو رسالة جديدة، ويقول الدكتور سليمان حزين، العالم الجغرافي: إنه توجد علاقة بين هذه الغزوات المتكررة والأحوال الجوية، ودافع بدوره عن نظرية التغييرات الجوية، ويقول أيضا: إنه يوجد ما يثبت أن مناخ بلاد العرب الشمالية والجنوبية في الفترة الواقعة بين القرن الثاني عشر قبل الميلاد والقرن الثالث بعد الميلاد، كان أشد رطوبة مما هو عليه اليوم، وأن الأمطار بدأت تخف ابتداء من القرن الثالث، ثم تناقصت تدريجيا إلى بداية القرن السادس، حيث وصل الجفاف إلى الذروة، ولكنه يبادر بالإضافة قائلا: إنه من المبالغ فيه تعليل توسع العرب إلى جفاف مناخ الجزيرة، ومع كل فلا بد أن يكون هذا الجفاف قد أثر في هذا التوسع.
3 (1-3) أسباب الفتح الإسلامي لم تكن دينية فحسب
يميل بعض المفكرين إلى تصوير الغزاة العرب الأولين بمظهر المبشرين المسلمين، الذين دفعهم إيمانهم إلى فتح العالم بأسره.
ولا شك أن للحماس الديني عامله الكبير بين معتنقي الدين الجديد، ولكنا لا نستطيع الجزم بأن الرغبة في التبشير كانت السبب الرئيسي لهذه الفتوحات، ويقول لنا ابن خلدون: إنه عندما بويع عمر بن الخطاب بالخلافة على المسلمين ، وقف يخطب في الجمع حاثا المؤمنين الصادقين على فتح العراق قائلا: «إن الحجاز ليس لكم بدار إلا على النجعة، ولا يقوى عليه أهله إلا بذلك، أين القراء المهاجرون عن موعد، سيروا في الأرض التي وعدكم الله في الكتاب أن يورثكموها.».
4
تغيرت سياسة قواد العرب تغييرا شاملا بعد اتصالهم بالعالم الخارجي، فقد رأينا النبي يهنئ نفسه علانية لما انتصر الإمبراطور المسيحي هرقل على الفرس الوثنيين دون أن يبالي بما قد تجره هذه الانتصارات من نتائج سيئة على الدين الإسلامي، وقد رأيناه أيضا في موقعة بدر في السنة الثانية للهجرة ينازل ألف قريشي وهو على رأس ثلاث مئة محارب فقط، ولكن مسئولية الحكم جعلت خلفاءه يحسبون لكل قدم حسابه، وكانت الاعتبارات السياسية قد حلت محل الاعتبارات العاطفية.
إن اتساع رقعة الإمبراطورية العربية شرقا وغربا قللت فعلا من شأن العامل الديني، فاضطر الخليفة عمر بن الخطاب أن ينتهج سياسة حكيمة تتنافى مع الحماس والجرأة التي اتصف بها أول من اعتنق الدين الجديد، هذا ما فهمناه على كل حال مما كتبه المؤرخون المسلمون، فقد وصفوا لنا فتح مصر كأنه عمل حربي قرره الزعماء العرب بعد تردد طويل، وهم أيضا يؤكدون أن موافقة عمر لم تعط بسهولة بل انتزعت منه انتزاعا، وقد اعترض أحد الكتاب المعاصرين على حقيقة هذه التفاصيل محتجا بأنها مخالفة لطباع الخليفة المشهورة، فهو يقول: «لا يعقل أن عمر الذي أخضع بلاد الفرس والروم، وفر من جيوشه أعظم ملوك الأرض، يأذن للجند بالمسير إلى الغزو والجهاد، ثم يتراجع ويوقف السير وهو يعلم ما يترتب على ذلك من الوهن في عزيمة الجند وطمع العدو.».
5
ولكن عمر، الذي اشتهر بحكمته وتبصره، لم يستطع أن يخوض عن طيب خاطر غمار حرب حامية الوطيس، هل كان العرب يعرفون شيئا عن مصر؟ كانوا يجهلون غالبا كل ما يتعلق بتلك البلاد، ولما كانوا لا يملكون الخرائط الجغرافية، فقد سلكوا طريق الغزوات الذي اتخذه غيرهم، والذي تعرف عليه عمرو بن العاص في أثناء رحلاته إلى مصر، ألم يقل لنا المؤرخون: إن القوات العربية كانت تجهل تماما منطقة الفيوم، وإن الذي كشف لهم عن طريقها هو دليل اتبعوه على غير هدى؟ ألم يذهب حنا النقيوسي إلى جد الإثبات بأن المسلمين لم يكونوا يعرفون مدينة مصر؟
6
ونعتقد أنه لولا إلحاح عمرو، لتأخر فتح مصر وقتا طويلا؛ لأن عمرا كان في الواقع أول من حرض العرب على فتحها ودخولها ظافرين منتصرين، كان عمرو بن العاص، في عصر الجاهلية، يقوم بالتجارة مع مصر،
7
وقد أضفت الأسطورة جمالا على الحقيقة فادعت أن إحدى المقابلات التي حدثت له صدفة في فلسطين جعلته يستأنف سيره إلى الإسكندرية؛ حيث شاهد فيها حفلة قام المدعوون في أثناءها بلعبة تقليدية تتلخص في إلقاء كرة على الحاضرين، فمن تقع عليه يعتبر حاكم مصر القادم، ولقد سقطت الكرة على عمرو الذي حضر متفرجا، فأثار هذا الحادث عجب اللاعبين، وكانوا صفوة شعب الإسكندرية.
درس عمرو دون شك أحوال البلاد في أثناء أسفاره المتكررة، ولعله لاحظ روح الكراهية التي كان يضمرها الأهالي لحكامهم البيزنطيين، ولمس الفوضى المتفشية في الإدارة وضعف القوات المناط بها الدفاع عن البلاد، وبهره خصب التربة وكثرة الخيرات التي كان يراها، فراح يصف، في الوقت المناسب، للخليفة عمر هذه البلاد بقوله: «إن فتحها كانت قوة للمسلمين وعونا لهم، وهي أكثر الأرض أموالا وأعجزها عن القتال والحرب.».
8
ولما خضعت أرض فلسطين للحكم العربي، خلا عمرو بعمر فاستأذنه في المضي إلى مصر قائلا: «إني عالم بها وبطرقها، وهي أقل شيء منعة وأكثر أموالا، فكره أمير المؤمنين الإقدام على من فيها من جموع الروم، وجعل عمرو يهون أمرها.»
9
هذا ما قاله الكندي حرفيا، ونستنتج من ذلك أن عمر رفض بادئ ذي بدء طلب عمرو، «ولم يزل عمرو يعظم أمرها عند عمر بن الخطاب ويخبره بحالها ويهون عليه فتحها حتى ركن لذلك عمر، فعقد له على أربعة آلاف رجل كلهم من عكا، ويقال: بل ثلاثة آلاف وخمس مئة.».
10
وينقل لنا أيضا ابن الحكم كلام عمر هذا: «سر وأنا مستجير الله في مسيرك.»
11
ويضيف إلى ذلك أن عمرا لم يتوان لحظة واحدة في الرضوخ للأمر، فلما خيم الليل قام بجيشه إلى مصر دون أن يشعر به أحد، ويقول لنا ابن عبد الحكم أيضا:
12
إن عثمان بن عفان دخل بعد ذلك عند عمر، فأخبره عمر بزحف عمرو نحو مصر، ويقال: إن عثمان عقب على هذا الخبر قائلا: «يا أمير المؤمنين، إن عمرو لمجرؤ وفيه إقدام وحب للإمارة، فأخشى أن يخرج في غير ثقة ولا جماعة، فيعرض المسلمين للهلكة رجاء فرصة لا يدري تكون أم لا.»، فندم عمر بن الخطاب على كتابه إلى عمرو إشفاقا مما قال عثمان، فكتب إليه: «إن أدركك كتابي قبل أن تدخل مصر، فارجع إلى موضعك، وإن كنت دخلت، فامض لوجهك.».
13
وذكر السواد الأعظم من مؤرخي العرب كيف تسلم عمرو الرسالة التي تلقاها من عمر، وقالوا: إن عمرا لم يفضها إلا بعد أن وطأ بقدميه أرض مصر خوفا من أن تكون الرسالة متضمنة إلغاء الأمر بالزحف.
إن كانت هذه الوقائع صحيحة، فهي تدل على أن العرب عندما احتكوا بالعالم الخارجي أخذوا يعملون على التوفيق بين مبادئهم الدينية وغاياتهم العسكرية والاقتصادية، وأن حروب الجهاد لم تعد سببا للفتح، بل أصبحت نتيجة له، وسوف نرى، عند التحدث عن الإدارة العربية، أن الحكام كانوا يهدفون إلى النفع المادي بجانب حض الشعوب المغلوبة على اعتناق الإسلام. (1-4) التفوق العنصري عند العرب
وهناك نقطة ثالثة يجدر بنا توضيحها لنفهم مغزى الحوادث التي أعقبت فتح مصر، وهذه النقطة هي شعور العرب بتفوقهم العنصري بالنسبة للشعوب المغلوبة، كان عرب الجزيرة شديدي التعصب لأصلهم، وكانوا يمنعون الأجانب من الانتساب إلى قبائلهم، ويقول المستشرق «بولياك»
في دراسة له، دعمها بالحجج القوية وبأسانيد أبي يوسف الفقيه: «إن الإقامة في شبه جزيرة العرب والتفوه باللغة العربية لم يكونا كافيين لاعتبار القاطنين فيها عربا إذا كانوا من المهاجرين، حتى لو كانت هجرتهم ترجع إلى عدة قرون، كما أن العربي الأصيل، من ناحية، لم يفقد جنسيته بعد إقامته في بلد أجنبي، حتى لو طالت إقامته عدة قرون .»،
14
ويقول المستشرق بعد ذلك: «إن كلمة «عربي» لم يكن يراد بها المعنى الوطني كما هو منصوص عليها الآن؛ ذلك لأن العرب كانوا يجهلون ما هو التجنس وما هو فقدان الجنسية، وكان المسلم الذي عاش قبل الثورة العباسية،
15
يعتبر العرب قبيلة اجتماعية متوارثة تضمن لأعضائها بعض الامتيازات بقدر ما تقيدهم به من واجبات، ولم يكن الأصل سببا لوحدتها، بل كان الموطن الواحد (أي: جزيرة العرب) سبب هذه الثورة.».
وبقي عرب شبه الجزيرة متمسكين بهذا المبدأ حتى قبض العباسيون على زمام الحكم، ويلاحظ الكاتب الأب «جانو»
Janot
أن معتنقي الإسلام من الموالي، والمسيحيين، واليهود، والسامرين الذين لم ينحدروا من أصل عربي، كانوا لا يدخلون المجتمع العربي الإسلامي دخولا كليا بمجرد إسلامهم، بل كان عليهم أن يلتمسوا انتسابهم من إحدى القبائل العربية، وكانوا يدفعون غالبا ثمن الانتساب، ومع ذلك لم يكونوا يعتبرون إلا مسلمين من الدرجة الثانية.
16
ونستنتج من ذلك أن الشعوب المغلوبة التي اعتنقت الإسلام في السنوات الأولى من الدعوة الإسلامية، لم يستقبلهم العرب بعاطفة الفرح والأخوة، ولكنهم وضعوهم في مركز أدبي وضيع بالنسبة إليهم، وتأخذنا الدهشة أيضا لو قارنا بين وضاعة مركز المسلمين غير المنتسيبن إلى أصل عربي، وبين المعاملة الممتازة التي كان يخص بها المسلمين القبائل العربية الأصلية التي ظلت مسيحية بعد ظهور الإسلام، وكانت هذه المعاملة استمرارا منطقيا لحالة واقعية ترجع إلى عصر الجاهلية، ويلاحظ الأب «لامنس» في هذا الصدد: «أن التجار السوريين في المدينة كانوا يعملون علانية في سبيل الدعاية لمعتقداتهم ... وكان يرى محمد وهو يتردد بحرية على الأوساط المسيحية ... ولم يسمع أبدا أن نقابة التجار القريشيين أوجست خيفة من وجود الرهبان بينهم ومن دعايتهم الدينية في أثناء إقامة الأسواق بالقرب من مدينتهم، وظل العدد القليل من القريشيين المسيحيين يتمتعون بالمركز الذي يؤهله لهم مولدهم وبراعتهم، والدليل على ذلك أن قبيلة بني أسد - التي أظهرت بوجه خاص عطفها على المسيحية - قد ظلت مساكنها بجوار الكعبة، بينما انتقل الأجانب «أي: العرب غير الأصليين» إلى الأحياء المتطرفة من المدينة أو في الضواحي.».
17
ولما سيطر النبي على شبه جزيرة العرب، أراد أن يضم إليه القبائل المسيحية، فأثار عفوا مشكلة المسيحيين العرب؛ لم يستطع أحد أن يطعن في جنسيتهم العربية بينما صممت تلك القبائل على أن تحتفظ بمنزلتها وعزتها، ورفضت كلية أن يعاملها المسلمون معاملة العرب من الدرجة التالية.
وكان النبي أول من كتب إلى مسيحيي نجران يدعوهم إلى إبرام ميثاق معه، وكان ذلك في السنة العاشرة من الهجرة، فأرسلت قبيلة نجران وفدا ليفاوض النبي للحصول على أحسن الشروط ولإفهامه أن القبيلة لن تتنازل عن عقيدتها مهما كان الثمن.
وقد ذهب الوفد إلى مكة، وبمجرد وصوله دخل المسجد؛ حيث كان النبي، وأخذ الأعضاء يصلون على الطريقة المسيحية ... متجهين عكس القبلة، فاغتاظ المسلمون لهذا المسلك ولكن محمدا أمرهم بأن يتركوهم وشأنهم، وعندما انتهوا من الصلاة توجهوا إلى النبي، ولكنه أدار لهم ظهره ورفض أن يجيبهم محتجا بأنهم وارفون في حلل غالية الثمن.
وفي اليوم الثاني، قابلوا النبي الذي دعاهم إلى اعتناق الإسلام، ولما احتد النقاش، صرفهم بعد أن عيل صبره، غير أن الوفد عرض عليه إبرام معاهدة على أساس منح صاحب الدعوة الإسلامية بعض الفوائد المادية.
ولم يجرؤ أحد أن يفرض الجزية على هؤلاء العرب، ولكن قبيلة نجران وافقت على بعض الشروط، التي فرضت فيما بعد على الشعوب المغلوبة، ومع ذلك حرص المسلمون أشد الحرص، عند تحرير الميثاق، على عدم جرح عواطف مواطنيهم المسيحيين، فلم يعطوا لهذا الاتفاق قوة التنفيذ، ولدينا بعض الأمثلة: (1)
كان للنبي أن يتصرف في أملاك وعبيد القبيلة، ولكنه في الواقع ترك لها حق استثمارها مقابل دفع ضريبة سنوية قدرها ألف حلة. (2)
وكان على أهل نجران المسيحيين أن يستضيفوا مبعوثي النبي «لا يذكر الجند بوجه التحقيق» وذلك لمدة ما بين عشرين يوما فما دون ذلك، ولا تحبس رسل فوق شهر. (3)
وإذا نشبت الحرب في اليمن، كان عليهم أن يقرضوا ثلاثين جملا وثلاثين حصانا. (4)
وكان عليهم أيضا أن يكفوا عن مزاولة الربا. (5)
ولا يستطيع أحد أن يكره رجال القبيلة على ترك دينهم وذلك مهما كانت الظروف.
18
وكذلك لم يفكر أحد في فرض الجزية على مسيحيي قبيلة بني تغلب، وطلبوا منهم فقط أن يدفعوا ضعف ما كان يدفعه المسلمون من الزكاة، على أن تشمل الضريبة نساءهم، ويستنتج من ذلك أن ما فرضه المسلمون على هؤلاء العرب على أنه زكاة، كانوا يفرضونه على مسيحيي البلاد المغلوبة على أنه جزية.
19
وإذا تركنا جانبا تلك الشروط، نقول: إن المسيحيين العرب نعموا مدة طويلة بامتيازات أنكرها العرب على الشعوب الأخرى التي اعتنقت الإسلام، ومثال ذلك انخرط المسيحيون العرب في سلك الجيش، وقاتلوا ضمن الفرق التي غزت بلاد الفرس وزحفت على مصر، في حين أن الأقباط الذين اعتنقوا الإسلام لم يقبلوا في الحال في صفوف الجيش العربي، وعندما قبلوا فيما بعد، أدخلوا في فرق المشاة، وهذا يعني أنه في حالة انتصار الجيش، لم يكن لهم الحق إلا في نصف نصيب الفرسان في الغنائم،
20
وأخيرا نقول: إن إسلام العرب الوثنيين كان فرضا واجبا يعاقب مخالفه بالموت، إن كان ذكرا بالغا، وبالعبودية، إن كان صبيا أو امرأة، أما العرب المسيحيون، فكان في استطاعتهم البقاء على دينهم، غير أن السلطات كانت تبذل جهدها في سبيل إسلامهم.
21
ولا ننكر أن استمرار وجود العناصر المسيحية بين الجماعات الإسلامية في شبه جزيرة العرب أصبح غير مرغوب فيه، ويقال: إن النبي، قبل وفاته، عبر عن رغبته في ألا يكون في بلاد العرب دينان، وقد قلق مسيحيو نجران لهذا النبأ، فأرسلوا في الحال وفدا إلى أبي بكر، ولكن الخليفة أكد لهم أن الاتفاق الذي أبرموه مع النبي لم يزل قائما.
أما عمر بن الخطاب، فقد اتبع سياسة أخرى نحو العرب المسيحيين وبدأ يناصبهم العداء بحجة أنهم يزاولون الربا،
22
وهاجم بعد ذلك بني تغلب وأراد أن يفرض عليهم الجزية، فما كان منهم إلا أن غادروا بلاد العرب ولجئوا إلى العراق، وفي هذا الأثناء قصد الخليفة شخص يدعى النعمان بن زرعة بن النعمان، وعاب عليه سياسته إزاء المسيحيين قائلا: «أنشدك الله في بني تغلب، فإنهم قوم من العرب نائفون من الجزية وهم قوم شديدة نكايتهم، فلا يغن عدوك عليك بهم.»،
23
ولما سمع عمر هذا الكلام، أرسل في طلبهم واشترط عليهم ألا «يصبغوا صبيا وألا يكرهوه على دينهم وعلى أن عليهم الصدقة مضاعفة.».
ولا نعلم إذا كان أفراد القبيلة رضوا بهذا الشرط، والواقع أنهم لم يبالوا به، مما دعا علي بن أبي طالب أن يصرح التصريح التالي: «لأن تفرغت لبني تغلب ليكونن لي فيهم رأي، لأقتلن مقاتلتهم ولأسبين ذريتهم فقد نقضوا العهد وبرئت منهم الذمة حين نصروا أولادهم.».
24
وهكذا فإن العرب المسلمين مع أسفهم لبقاء بعض مواطنيهم على ديانتهم المسيحية، لم يحاولوا أن يمسوهم بأدنى سوء، غير أن هذا الموقف المتناقض أخذ يتلاشى شيئا فشيئا، ولما أخذت انتصارات المسلمين تتوالى وتزداد أهمية، اعتبر العرب الغزاة إخلاص بعض إخوانهم للعقيدة المسيحية بمثابة تحد لهم، لقد هدد علي بن أبي طالب ووعد أكثر من مرة، ولكنه لم يستطع أن يضع تهديداته ووعيده موضع التنفيذ، إلا أن الأمويين حققوا ما عجز علي عن تنفيذه، ومن الغريب أن معاوية فكر جديا في أن يمنع أقباط مصر من اعتناق الدين الإسلامي بدعوى أن انتقالهم دفعة واحدة إلى الدين الحنيف قد يكبد خزانة الدولة خسائر جسيمة؛ لأنه سيخفض إيراد الجزية، ولكن بعد بضع سنوات - أي: في عهد الخليفة الوليد بن عبد الملك - «أراد محمد، قائد الطائيين،
25
بعد أن عاث في بلاد ما بين النهرين فسادا وأشبع أهلها تقتيلا، أراد هذا القائد أن يعتنق العرب المسيحيون الديانة الإسلامية، فأمر بإحضار رئيس التغلبيين واسمه «معاذ» وطلب إليه أن يرتد عن دينه، فأبى معاذ بالرغم من تملق القائد له، فأمر القائد بإلقائه في حفرة مليئة بالوحل، ثم قتله ومنع دفنه.».
26
إلا أننا لم نجد أبدا هذا اللون العنيف من الدعاية الدينية عند العرب وقتئذ، أما موقفهم الشاذ إزاء العرب والمسيحيين، فيرجع إلى الشعور بالتفوق الجنسي الذي كان سائدا عند العرب، والفقرة التالية التي اقتبسناها من تاريخ ميخائيل السوري تثبت هذا القول، ونصها: «قال الوليد للراهب «سمع الله التغلبي »: «إن عبادتك للصليب، مع كونك رئيسا لقبيلة عربية، تجعلهم يخجلون منك.».
27 (2) هل كان انتصار العرب رائعا؟
نريد، قبل أن نحدد موقف الأقباط من الفتح الإسلامي، أن نجرد الأعمال الحربية التي قام بها عمرو من المبالغات التي أسندت إليها.
صور لنا المؤرخون والمستشرقون فتح العرب لمصر على أنه عملية حربية سهلة في بلاد منيعة، تدفع عنها فرق عديدة، مدربة أحسن تدريب على القتال، ولكن أليس من المبالغ أن يقال: إن هذا الفتح «تحقق بسرعة فائقة» أو أنه «معجزة من المعجزات»؟
28
قد نحاول عبثا أن نجد عند المؤرخين العرب هذا الحماس المتدفق عندما يصفون الانتصارات الإسلامية في مصر.
ولما دونوا هذه الأحداث، لم يحاولوا أن يقللوا من الصعاب التي حاقت بهم، ولا بالخسائر الباهظة،
29
ولم يدعوا أبدا أن مقاومة الأعداء لهم كانت غير ذات بال، أو أن زحف جيوشهم كان خاطفا، أو أن السكان كانوا يبادرون إلى عقد الاتفاقات مع الفاتح، نعم إنهم كانوا يميلون حقا إلى المبالغة في ذكر قوة أعدائهم العددية، ولكنهم كانوا يفعلون ذلك بحسن نية؛ لأنهم كانوا يجهلون حالة الإمبراطورية البيزنطية على حقيقتها، أما المؤرخون البيزنطيون، فقد ظلوا متكتمين النكبة التي أحاقت بجيوشهم، إلا أننا نستطيع اليوم أن نوضح حالة الفريقين على وجه التقريب. (2-1) مقارنة بين الإسكندر المقدوني وعمرو بن العاص
وادي النيل فريسة سهلة ومغرية لكل من يريد غزوها، وقد انتهزت الدول المجاورة مرارا فرصة ضعف السلطة المركزية لاجتياح هذا الوادي، فغزاه الهكسوس، ثم الليبيون فالأحباش والآشوريون والفرس.
غير أن غزوة الإسكندر كانت بدون شك أكثر هذه الغزوات نجاحا، وخلاصة الرواية أن الإسكندر وصل إلى الفرما بعد أن فتح مدينتي صور وغزة وتقدم منها إلى مدينة منف «أي: العاصمة»، دون أن يقذف بسهم واحد، وطرد الفرس، ففرح لذلك الأهلون الذين كانوا يرزحون تحت نير هؤلاء الطغاة، وأظهروا حماستهم للغازي الجديد، وتوجه الإسكندر بعد ذلك نحو الشمال وأسس مدينة الإسكندرية، ثم سار على ساحل البحر الأبيض المتوسط حتى بلغ مرفأ مرسى مطروح، وتوغل نهائيا في واحة سيوة قبل أن يعود إلى منف، وقد استطاع الإسكندر، في أقل من سنة، أن يفتح مصر وينظمها.
ويشبه الفتح العربي الفتح المقدوني إلى حد كبير، كان عمرو بن العاص يعلم، كما كان يعلم بذلك الإسكندر، أن الشعب يرغب في حكام جدد، وكان يعلم أيضا أن البلاد خالية من وسائل الدفاع المتينة، وأن في استطاعته أن يقتحمها بسهولة، لذلك رضي أن يقوم بفتحها ومعه 3500 أو 4000 جندي، وضعهم الخليفة عمر تحت تصرفه، غير أنه يبدو أن عمرا لم يكن مستعدا لخوص غمار حرب تحصينات، وعلى الرغم من النجدات التي أرسلها الخليفة إليه مرتين من بلاد العرب، لم يقض على المقاومة إلا بعد قتال دام ثلاث سنوات، وفوق ذلك، يظهر أن الغزو العربي لم يكن نزهة عسكرية كما يتصوره البعض، ولم تكن الروح المعنوية بين المقاتلين عالية، ويقول لنا ابن كثير فيما يقول: «إن عمرو بن العاص، لما التقى بالمقوقس، جعل كثيرا من المسلمين يفر من الزحف، فجعل عمرو يأمرهم ويحثهم على الثبات، فقال له رجل من أهل اليمن: إنا لم نخلق من حجارة ولا حديد.»، فقال له عمرو: «اسكت، فإنما أنت كلب.»، فقال له الرجل: «فأنت إذا أمير الكلاب.».
30
وإذا درسنا أهمية القوات التي أرسلت إلى مصر، رأينا أن عمرا كان على حق في شكواه من بطء سير العمليات الحربية في الجبهة المصرية.
31 (2-2) الجيش العربي
إن البيانات التي تحصلنا عليها فيما يختص بعدد الفرق العربية التي قامت بفتح مصر تعوزها الدقة، ولكن لم يعترض عليها مؤرخ إلى الآن.
كانت الفرق العربية مكونة أول الأمر من أربعة آلاف محارب، وضعهم الخليفة تحت إمرة عمرو بن العاص، ولكن ما لبث أن ظهر عدم كفايتها للقيام بالمهمة التي أسندت إليها، ففي أثناء حصار قلعة بابليون، طلب عمرو بن العاص إلى الخليفة المدد مرتين، وقد أرسل له عمر ثمانية آلاف مقاتل على دفعتين بقيادة الزبير بن العوام، فبلغ عدد المقاتلين الذين تحت قيادته اثني عشر ألف مقاتل، وتقول بعض المصادر التي اعتمد عليها الكندي أن عدد القوات بلغ 15500 جندي.
32
وما من أحد يستطيع أن يشك في قيمة هؤلاء المحاربين وشجاعتهم؛ إذ كانت هذه الصفات من أهم الأسباب التي أضعفت الروح المعنوية للقوات البيزنطية، كانوا فرسانا جسورين يجيدون استخدام السلاح، ولكنهم مع ذلك لم يكونوا يبلون أحسن البلاء إلا في ساحات القتال المنبسطة أمامهم، فإذا اعترضتهم الأسوار المحصنة، وقفوا أمامها لمدد طويلة أو قصيرة حسب الظروف.
فقد اضطروا مثلا إلى القتال أمام الفرما شهرا تقريبا، وصمد حصن بابليون أمامهم سبعة أشهر، وظلت الإسكندرية تقاوم أربعة عشر شهرا.
أما قواد الحملة، ولا سيما عمرو والزبير، فلم يتخذوا من الحرب صناعة، إلا أنهم تدربوا على أساليب القتال في سوريا ولم تنقصهم سعة الحيلة. (2-3) الجيش البيزنطي
لم نكن نعرف الشيء الكثير عن نظام الجيش البيزنطي قبل أن يقدم لنا جان ماسبيرو كتابه عن «النظام العسكري لمصر البيزنطية»،
33
وبالفعل، فإن المستشرق «ألفرد بتلر»
34
كان يؤكد - قبل ظهور كتاب جان ماسبيرو بعشر سنوات - في مؤلفه الذي يضم معلومات كثيرة عن هذا الجيش، أن في العصر الذي غزا فيه العرب مصر «لم يكن يوجد قبطي واحد في ساحة القتال، وأنه من الخطأ أن يدعى أن الأقباط كان في استطاعتهم في ذلك الوقت أن يجتمعوا أو يقاتلوا أو يفاوضوا العرب.».
وقد استطاع جان ماسبيرو أن يقدم لنا، بفضل دراسته لأوراق البردي، معلومات في غاية الأهمية والدقة، فإن مؤلفه هو المرجع الصحيح فيما يختص بحالة الجيش البيزنطي.
أعاد الإمبراطور «جوستنيان»
Justinien
تنظيم الجيش البيزنطي بمصر على أساس إلغاء القيادة الموحدة، خوفا من أن يقوم قائد جيش الاحتلال بإعلان الثورة على الحكومة المركزية، وكذلك حطم وحدة البلاد الإدارية التي حافظ عليها الرومان طوال أيام حكمهم، وأنشأ بدلا من أبروشية
Diocése
مصر، خمس «دوقيات»
Duchee
يحكمها خمسة محافظين أو «دوقات»
Ducs
يعينهم الإمبراطور رأسا ويكونون مسئولين أمامه مباشرة، وكان هؤلاء المحافظون في البداية من الأجانب، ثم ما لبث أن حل مكانهم الوطنيون، وكان المحافظون يجمعون بين السلطتين المدنية والعسكرية.
ويتبين من ذلك جليا المهمة التي وكلت إلى هذا الجيش الذي كان يرأسه المدنيون ، نعم إنه كان مكلفا بالدفاع عن أراضي مصر، إلا أنه قصر في ذلك أيما تقصير عندما دخل الفرس مصر عام 619؛ أي: قبل الفتح الإسلامي بزمن قليل.
وسبب ذلك أن الجيش كان مرهقا بأعمال بوليسية، كالضرب على أيدي اللصوص والمحافظة على الأمن ومساعدة محصلي الضرائب، والتدخل لصالح الإمبراطورية في الخلافات المذهبية، فلم يوجد جيش بمعنى الكلمة يتفرغ للقتال، وأن ما كان يطلق عليه خطأ هذا الاسم لم يكن إلا قوة بوليسية ليس لها قيادة موحدة، ولا قائد عسكري، بل كانت موزعة على خمسة رؤساء مدنيين يتمتعون بسلطات مماثلة.
ويقول ماسبيرو: إن هذا الجيش كان يتألف من 23 ألف رجل، وإن هذا العدد كان كافيا أو قل - أكثر من الكافي - لصد الاثني عشر ألف أو الخمسة عشر ألف مقاتل الذين وضعوا تحت إمرة عمرو، ولا سيما أنه كان يحتمي وراء تحصينات، ولكن بينما كان العرب كلهم تحت قيادة مركزة وكانوا يهجمون على العدو بقوات كبيرة، لم يفكر البيزنطيون قط في وضع خطة للدفاع مبنية على التعاون، وهكذا، بينما كان العرب يشددون الخناق على حصن بابليون، لم يأت محافظ واحد لنجدة المحاصرين، فقد كان كل واحد منهم ينتظر بدوره هجمات العدو، مما جعل العرب يتفرقون دائما على البيزنطيين من حيث العدد.
ويجمل جان ماسبيرو أسباب الانتصارين الفارسي والعربي بقوله: إن كانت مصر قد انهارت أمام غزوات القرن السابع، فلا يرجع ذلك إلى افتقار الجيش إلى الرجال، ثم إن التحصينات التي أقيمت في الأماكن المعرضة للغزو على حدود البلاد كانت في حالة تسمح لها بالصمود.
كان جيش مصر مجزأ، وكانت القيادة موزعة على عدة قواد، كل واحد منهم يقاتل لمصلحته، ومن المؤكد أيضا أن محافظ ليبيا لم يسهم في القتال إلا عندما هاجمه العرب رأسا بعد احتلال وادي النيل بأسره.
ثم اشتهر البيزنطيون بعدم مبالاتهم بالصالح العام وعداوتهم الشخصية وعدم تعاونهم، ولم يكن هناك ضباط صناعتهم الحرب».
ولم يكن في الجيش المصري إلا عدد قليل جدا من الجنود الأعجميين المرتزقة، وكان معظمه مؤلفا من سكان مصر «أي: من الأقباط» الذين فقدوا صفاتهم الحربية منذ قرون مضت.
ويستنتج مما ذكره المؤرخ حنا النقيوسي أن الجيش البيزنطي كان عبارة عن رؤساء يعوزهم الفن العسكري والخبرة الحربية، يفقد معظمهم أعصابهم أمام الخطر ويعجزون عن اتباع خطة منسقة، حيث كان كل واحد منهم يقاتل لحسابه الخاص غير متبع لنظام، كما أن الجنود كانوا غير مدربين وغير مخلصين لرؤسائهم.
والسبب الرئيسي لانكسار البيزنطيين في وادي النيل، هو هبوط مستوى الجيش، هذا الجيش الذي قام تحت ضغط الظروف بمهمة الدفاع عن مصر.
35 (2-4) انحطاط روح البيزنطيين المعنوية
وهناك عامل آخر لم يذكره ماسبيرو، بل تركنا نستنبطه من سياق الكلام، ألا وهو انحطاط روح البيزنطيين المعنوية بعد انتصارات العرب على الفرس، فإذا سلمنا بما ورد في تاريخ ميخائيل السورى، لاحظنا أن هرقل بدلا من أن يعسكر في الأراضي المعرضة للخطر لينظم الدفاع عنها ويرفع روح جنوده المعنوية، يئس من النصر قبل أن يلتقي بالعدو على ساحة القتال، ولما رأى امتداد التخريب والدمار، رحل حزينا عن أنطاكيا قاصدا القسطنطينية، ويروى أن كلمة وداعه كانت: «ابق بسلام يا سوريا.»، ثم كتب إلى ما بين النهرين ومصر وأرمنيا وإلى جميع الرومان الموجودين فيها يحذرهم من أن يشتبكوا في معارك مع العرب وأن الذي يستطيع أن يحتفظ بوظيفته فليبقى هناك.
36
هل فهم البطريرك قيرس، محافظ الإسكندرية، من هذه الرسالة أن الأمر متروك لتقديره الشخصي فانتهز الفرصة ليتفاوض مع عمرو؟ هل عدل القائد العربي، في وقت من الأوقات، عن غزو مصر مقابل جزية قدرها مئتا ألف دينار يسددها المصريون سنويا؟ لا يجوز على كل حال أن نهمل هذا الافتراض، فقد وردت في تاريخ محبوب
37
تفاصيل كثيرة عن هذه المسألة، ويقول المؤلف - ونحن نسوق ما جاء فيه دون أن نتمكن من التحقق من صحته - إنه عندما أبرم الاتفاق، حكم قيرس البلاد بحزم مدة ثلاث سنوات لم تطأ فيها قدم عربي أرض مصر خلالها، غير أن عددا من أهالي مصر ذهب يشكو إلى الإمبراطور هرقل هذا البطريرك قائلا: إنه يأخذ مال المصريين ليعطيه للعرب، فأقال هرقل البطريرك وأقام القائد «مانويل» محله، ولما طالب العرب مانويل بالجزية، قال لهم: «لست بالأسقف قيرس الذي كان يعطيكم الذهب ليأمن من شركم، فهو راهب كرس حياته لخدمة الله، أما أنا فإني رجل نزال وحرب وشجاعة.»، ونستطيع تفسير إقالة قيرس بأن الإمبراطور قد عاوده حزمه مؤقتا ورغب في استئناف القتال.
وفعلا، شعر الفرس والبيزنطيون بهبوط روحهم المعنوية عندما سمعوا بانتصارات العرب الأولى، ويقص علينا ميخائيل السوري قصة تفسر لنا حالة تلك الشعوب عندما خاضوا غمار الحرب، فيقول: «كان أحد الأبطال، وهو يرتدي درعه وحاملا أسلحة كثيرة، يفر أمام عربي يلاحقه، وكان هذا العربي خاليا من السلاح ما عدا حربة كان يمسكها بيده، ومرتديا ملابسه الخفيفة، وما أن وصل الفارسي إلى قرية، حتى وجد رجلا في حقل فطلب إليه أن يدله على مكان يختبئ فيه حتى لا يراه مطارده، فأخفاه الرجل معتقدا أن عدد الذين كانوا يتبعونه كبير، وبعد فترة، وصل رجل ليس عليه ما يدل على أنه جندي، وكان يركب حصانه بطريقة تدل على أنه لم يتدرب على ركوب الخيل،
38
ودهش الفلاح، وازداد عجبه عندما رأى بساطة مظهر الرجل، وقال في نفسه: «كيف يفر مرتجفا، هذا الرجل ذو الجسم الضخم والمنظر المخيف والذي يرتدي درعا ويحمل أسلحة مختلفة، أمام رجل نحيف؟» وقد اغتاظ الفلاح من هذا المنظر وأخذ يضحك من الفارسي ويسخر من فراره واختبائه من العربي، وقد أجابه الفارسي: «لا تلومني علي مسلكي ولكن انتظر وأصغ بعينيك لتصدق.»، ثم أخذ سهما وصوبه بقوسه إلى مجرفة حديدية فاخترقها وقال: «لقد صوبت نحو العربي الذي رأيته مثل هذه الضربة عدة مرات، ولكنه كان يبعد عنه السهام بيديه كما لو كان يطرد الذباب عنه، ومن هنا تأكدت أن الله هو الذي منحهم النصر، وما كان مني بعد ذلك إلا أن أدرت ظهري ولذت بالفرار.».
39 (3) موقف الأقباط (3-1) مرشدو العرب من اليهود
رأى الإمبراطور هرقل في منامه، عندما أخذ نجمه في الأفول، أن شعبا مختونا سيثور عليه ويهزمه ثم يحكم العالم كله، اعتقد هرقل أن هذا الشعب ما هو إلا الشعب اليهودي، فأمر في الحال بتعميد جميع اليهود والسامريين، الذين كانوا يقطنون في مختلف ولايات الإمبراطورية.
40
ولم يكن اليهود في ذلك الوقت يفكرون في القيام بثورة، ولم تكن عندهم الوسائل التي تسمح لهم بالقيام ضد الإمبراطورية البيزنطية، ولكن عندما تغلغل العرب في أراضي العدو، تذكر اليهود أعمال العنف والاضطهاد التي تحملوها في عهد البيزنطيين، وعرضوا في الحال على العرب الغزاة خدماتهم وأعطوهم المعلومات التي تفيدهم، وبذلوا لهم المساعدة في سوريا ومصر.
هل يصح أن نعتمد على هذه الأحداث ونقول إن الأقباط، مثل اليهود، أرادوا أن ينتقموا ممن اضطهدهم في تلك الظروف الحرجة؟ لا نجرؤ على ذلك؛ لأن الأقباط فوجئوا بتقدم العرب غير المنتظر، فبقوا حيارى زمنا طويلا وتركوا الحوادث تقرر مصيرهم، ولما أرادوا أن يتخذوا موقفا إيجابيا، كان السيف قد سبق العزل؛ لأن قرارهم جاء متأخرا.
ولو تواطأ العرب مع كبار الأقباط أن يخوضوا المعركة لاستطاعوا دون شك أن يعتمدوا على تعاون الشعب لهم، ولكن الشعب كان يجهل نيات العرب، فخاف أن يظهر عداءه لبيزنطيا في أثناء المعركة، قبل أن تصبح بيزنطيا على هاوية الانكسار. (3-2) كان الأقباط يريدون تغيير حكامهم
اضطهد هرقل اليعقوبيين ليفرض عليهم الحل الذي اقترحه باسم «الإكتيز» ويعيدهم إلى الكنيسة البيزنطية، فزاد كره الأقباط لبيزنطيا، ولكن هذا الاضطهاد لم يكن السبب الوحيد، الذي دعى الشعب إلى الرغبة في تغيير حكومته، لقد كان في استطاعة هرقل أن يحد من الأثر السيء الذي أحدثته سياسته الدينية في روح هذا الشعب لو أنه خفض قيمة الضرائب، وكان القائد «نكيتاس» قد اختبر هذا الحل بعد انتصاره على «فوكاس» فأرجأ دفع الضرائب لمدة ثلاث سنوات، واعترف حنا النقيوسي «بأن المصريين أظهروا له ولاء عظيما».
41
والمعلوم أن المصري كره دفع الضرائب منذ العصور القديمة، فكان يظهر طاعته للحكام الذين كانوا يضربون صفحا، لسبب من الأسباب، عن تحصيل الضرائب المستحقة عليه، بينما كان لا يكتم عداوته للسلطة التي تفرض عليه تلك الضرائب .
وكتب «اميان مرسيلان»
Ammien Marcellin ، المؤرخ الروماني الذي عاش في القرن الرابع، يقول: «كان المصريون في العصور القديمة يعتبرون أنفسهم سذجا فيما لو سددوا ما عليهم دون أن يضطروا إلى ذلك بالقوة، أو على الأقل بالوعيد.»،
42
ويضيف «جاستون فييت» إلى ما تقدم «أنه فيما يختص بتلك المسألة المالية الحقيرة، اقتصر الكتاب على ذكر ما ورد في كتاب اميان مرسيلان أو خطاب من هادريان
Hadrien ، ولم يحاول أحد أن يلفت النظر إلى قوانين البطريرك بطرس الشهيد التي كانت تفرض بعض الواجبات على المرتدين، الذين كانوا يرغبون في العودة إلى حظيرة الكنيسة، ولكن قانونا من هذه القوانين كان غريبا في حد ذاته؛ إذ كان يرفع العقاب عن المسيحيين الذين كانوا يدفعون ضرائبهم عن طيب نفس منزهين أنفسهم باحتقارهم للمال.».
43
وذكرت «جرمين روبار»
Germaine Rouibard
أن الشعب، في القرن الرابع، كان يفتخر بالضرب الذي يناله من الجباة،
44
وأن إرادة الإمبراطور تحطمت أمام مقاومة دافع الضرائب المصري، وكانت المقاومة تزداد كلما ازدادت الضرائب المفروضة على الشعب تحت الحكم البيزنطي، وكان طبيعيا أن يصغي الشعب راضيا إلى وعود المنتصر بتخفيض الضرائب أو إلغائها جميعا، وأن الذين تعرضوا للموت والعذاب لتشبثهم بنظريتهم الخاصة بالطبيعة الواحدة، أنكروا إيمانهم بالديانة المسيحية عندما طولبوا بدفع الضرائب إلى الغزاة المسلمين.
45 (3-3) هل استقبل الأقباط المسلمين كمحررين؟
لما توغل العرب في الأراضي المصرية، كان الأقباط يجهلون كل شيء عن نواياهم، فلا يعلمون إذا كان العرب سيرغمونهم على اعتناق الإسلام، أو سيصادرون أملاكهم، أو سيحتفظون بنظام الضرائب البيزنطي، وظلت هذه المسائل محل استفهام الأقباط، فلم يدركوا أغراض العرب إلا في أثناء حصار حصن بابليون؛ أي: عندما أثيرت مسألة الهدنة بين المتحاربين، وأدرك الأقباط حينئذ أن الحاكم العربي أكثر تسامحا من الحاكم الفارسي أو الحاكم البيزنطي؛ إذ خيرهم بين حلول ثلاثة: إما اعتناق الديانة الإسلامية والامتناع عن دفع الضرائب، وإما قبول الحماية الإسلامية مع دفع دينارين عن كل رجل يصلح للقتال، وإما استئناف القتال وقبول ما يترتب عليه من نتائج.
زد على ذلك أن العرب لم يحاولوا قط أن يطمئنوا الشعب المصري على نواياهم؛ إذ كانوا يجهلون اللغتين اليونانية والقبطية، كما لم يحيطوا أعمالهم الحربية بأية دعاية، ومع أنهم قاتلوا - على عكس الفرس - بشيء من الرفق، ولم يقوموا بأعمال تخريبية منظمة أو بإراقة دماء الشعب، إلا أنهم تمادوا مضطرين في بعض الأحيان في اقتراف أعمال مشينة وحركات قمع دامية مما لم يساعدهم على كسب ثقة الشعب وعطفه عليهم.
وقد اهتم الأسقف حنا النقيوسي - وهو المصدر الوحيد المعاصر للحملة - بالشكوى من هذا التمادي أكثر من ذكر الأعمال التي تشرف الفاتح، فيطلعنا في تاريخه عن سيئات الفتح، ولم نستطع مع الأسف أن نتحقق في صحة أقواله؛ لأن المؤرخين العرب لم يتحصلوا، عندما كتبوا مؤلفاتهم، على جميع تفاصيل المعارك، ويقول مثلا حنا النقيوسي: «إن عمرا أمر بإلقاء القبض على القضاة الرومان وتكبيل أيديهم وأقدامهم بسلاسل حديدية وأتوار خشبية، واغتصب الأموال وضاعف الضرائب المفروضة على الفلاحين، وكان يضطرهم أن يحضروا علف الخيل كما أنه اقترف كثيرا من أعمال العنف.».
46
وقد يكون حماس المسلمين الديني سببا في ارتكاب بعض الأعمال العنيفة، فيقول حنا النقيوسي أيضا: «إنه عندما يدخل المسلمون المدن، ومعهم المصريون الذين ارتدوا عن المسيحية، كانوا يستولون على أملاك المسيحيين الفارين ويسمون خدام المسيح أعداء الله.».
وعلى كل، لم يستطع الأقباط أن يستقبلوا العرب كمحررين؛ ذلك لأن الغزاة كانوا يدينون بديانة أخرى، حقا، لقد حرر العرب اليعقوبيين من نير البيزنطيين، ولكن لم يكن هؤلاء اليعقوبيون يرتاحون إلى حكام آخرين عقيدتهم تخالف العقيدة المسيحية.
وإننا لو درسنا سلوك الأقباط في مختلف أدوار المعركة، لاستطعنا أن نلقي ضوءا على موقفهم، ولكن يجدر بنا، قبل ذلك، أن نذكر شيئا عن شخصية المقوقس الغامضة. (3-4) صعوبة تحقيق شخصية المقوقس
إن الشخص الذي يطلق عليه مؤرخو العرب اسم المقوقس، لم يزل غامضا هل كان قبطيا؟ هل كان من أصل يوناني؟ هل المقوقس الذي سلم القاهرة، هو نفسه الذي أبرم اتفاقية الإسكندرية؟ لم يصل المستشرقون، بعد بحث وتنقيب خلال قرن أو أكثر، إلى جواب دقيق على هذه الأسئلة. نعم، إننا اليوم أقرب إلى الحقيقة من أمثال «شامبليون فيجاك»
Figeac Champolion
47
وهو شقيق شامبليون، الذي صور لنا قيرس على أنه قس قلق ومفسد، خلف البطريرك جورج عام 630، بينما حكم مصر أحد الأقباط، كريم الأصل ومن أغنى أغنياء البلاد، اسمه المقوقس، غير أن المستندات التي تحصلنا عليها حتى الآن، لا تسمح لنا بعد بتفسير هذا اللغز التاريخي تفسيرا تاما.
استعمل المؤرخون كلمة «مقوقس» باعتبارها اسم شخص معين، على أننا متأكدون تقريبا من أصل هذه الكلمة: إن البطريرك قيرس، الذي عينه الإمبراطور هرقل محافظا على دوقية الإسكندرية، كان قبل تعيينه أسقفا لمدينة «فاز» وهي من مدن القوقاس، فلقب في مصر بلقب «قوقيوس» (القوقاسي) كما يشهد على ذلك أحد المستندات القبطية النادرة التي كشف عنها، وأشار عليها «إميلينو»
Amelineau : «... أما القوقيوس، هذا الأسقف المزعوم، فقد ترك الحقد يوغر في صدره إلى أن وصل إلى مدينة الفيوم
48 ... ولما أدرك الأب صموئيل أنه سيفارق الحياة، قال له «أي: للقوقيوس»: «أنت أيضا أيها الكلسيدوني المخادع.».
49
وإنه من المرجح أن العرب حرفوا هذا الاسم، والمسألة في ذاتها ليست خطيرة، ولكن الخطر كل الخطر هو ذلك اللبس، الذي وقعوا فيه عندما كانوا يتحدثون عن محافظي مصر المختلفين، ويبدو أنهم أهملوا هذه الحقيقة ألا وهي أن كل محافظ «دوق» كان مسئولا أمام بيزنطيا مباشرة، وعليه أن يرفع تقاريره إلى رئيس الإدارة الشرقية فقط، حقا، إن قيروس، بطريرك ودوق الإسكندرية، كان يتمتع بمركز ممتاز بالنسبة إلى سائر الدوقات؛ لأنه كان مكلفا بجباية الضرائب إلى جانب وظيفته، وبعد، إنه لم يكن يستطيع الخروج على النظام المتبع أو أن يفرض سياسته الشخصية على زملائه، أو أن يبرم اتفاقات مع الفاتح، ثم يوقعها بالنيابة عنهم.
ونميل إلى الاعتقاد - دون أن نجزم قطعيا - بأن المقوقس الذي فاوض في تسليم بابليون هو شخص آخر غير البطريرك قيرس الذي أبرم صلح الإسكندرية، بل إنه حاكم قبطي، وأمسك المؤرخون العرب عن التثبيت من شخصية هذا الحاكم، على أن المؤرخ الكاثوليكي ابن بطريق يشير إلى المقوقس على أنه «يعقوبي مبغض للروم، إلا أنه لم يكن يتهيأ له أن يظهر مقالة اليعقوبية لئلا يقتلوه.»، ويتهمه ابن بطريق، إلى جانب ذلك، بأنه «قد اقتطع، أموال «مصر» من وقت حصار كسرى للقسطنطينية،
50
فكان يخاف أن يقع في يد هرقل الملك فيقتله.».
51
ماذا كان يقصد المؤرخ من كلمة «مصر»؟ هل كان يعني بها البلاد كلها؟ لا أظن هذا، إن الذين كتبوا التاريخ باللغة العربية، كانوا يستعملون هذه الكلمة في البداية للإشارة إلى المدينة نفسها، وجاء بعد ذلك المقريزي، فأراد أن يدقق في المعنى، ففرق بين «أرض مصر» (أي: القطر كله) و«فسطاط مصر» (أي: المدينة).
والذي يحملنا أيضا على الاعتقاد بأن حاكم بابليون أيام الحملة كان قبطيا، هو الفرق الواضح بين اتفاقيتي القاهرة والإسكندرية، فبينما تعنى اتفاقية الإسكندرية صراحة بمصير اليونانيين، لم تهتم اتفاقية بابليون إلا بمصير الأهلين، وأبى ابن عبد الحكم أن يترك شكا في هذا الموضوع، فأضاف، بعد أن ذكر الاتفاقية الموقع عليها في بابليون، ما يأتي: «هذا كله على القبط خاصة»، ومن جهة أخرى، أراد المقوقس أن يخطر عمرا قبل دخول الاتفاقية في دور التنفيذ، فقال له: «إنما سلطاني على نفسي ومن أطاعني، وقد تم صلح القبط فيما بينك وبينهم ولم يأت من قبلهم نقض، وأما الروم، فأنا منهم بريء»،
52
ويحدثنا ابن بطريق عن المقوقس بأنه «احتال على الروم» وقال لعمر سرا: «أما الروم، فإني بريء منهم، وليس ديني دينهم ولا مقالتي مقالتهم، إنما كنت أخاف منهم القتل، فلذلك كنت أستر ديني ومقالتي من مقالتهم وأكتم ذلك».
53 (3-5) ريبة الأقباط وحيرتهم
إذا عجزنا إلى الآن من التأكد من شخصية الحاكم الذي قام بدور المفاوضات في أثناء حصار بابليون، وبالتالي إذا تعذر علينا وجود علاقة بين موقفه وشعور مواطنيه بالنسبة للغزاة العرب، ففي مقدورنا أن نؤكد أن موقف الأقباط خلال الغزو كان سلبيا، وقد لخص الأب «جاتو» موقفهم في قوله: «إنهم لم يقوموا بأي مجهود لوقف الكارثة، ولكنهم احتموا خلف أسوار المدن التي لم يجرؤ العرب بعد على اقتحامها، وانتظروا هجومهم عليها.».
54
وكتب أحد الأدباء المصريين المعاصرين، بعد دراسة طويلة لعصر الخلفاء الراشدين مستندا إلى النصوص العربية، يقول: «لا شك أن القبط لم يعاونوا الروم في قتال العرب إلا بالقدر الذي يضطرهم إليه خضوعهم كارهين لسلطان قيصر وعماله، ولكن لا شك كذلك في أنهم لم يعاونوا العرب، إلا أن تكون معاونات فردية، أما فيما وراء ذلك، فقد وقف شعب مصر من الفريقين المتحاربين موقف المتفرج شديد التطلع.»
55
ولما كان الشعب قد أفسدته العبودية، فكان يتحمل تبدل سادته بشيء من عدم المبالاة على الرغم من الشعور الوطني، الذي بدأ يظهر عنده. (3-6) ولنعد الآن إلى صلب الموضوع
بينما كانت جيوش عمرو تشق لنفسها طريقا إلى الفرما، الواقعة على حدود مصر الشرقية، بعد أن بذلت جهودا كبدتها خسائر في الأرواح، ظل الشعب ساكنا، أما البطريرك بنيامين، فكان يعيش مختبئا، وقد ادعى بعض المؤرخين أنه حينما علم هذا البطريرك بدخول العرب، وجه رسالة إلى جميع الأساقفة يطلب إليهم فيها أن يناصروا الغزاة،
56
ولكن الأحداث التي وقعت بعد ذلك تكذب هذا الزعم الذي أهمله المؤرخون اللاحقون.
وقد قام العرب بحصار حصن بابليون مدة طويلة، مما أرغم البيزنطيين على الدفاع دون الهجوم لقلة عددهم وضعف خططهم العسكرية، ولم تصل إلى البيزنطيين النجدة بينما كانت قوات عربية تصل باستمرار لتعزز مواقع المحاصرين، ومع ذلك لم نعثر على نص واحد يشير إلى أن الأقباط قدموا أية مساعدة إلى جيش عمرو في أثناء هذا الحصار الطويل.
ثم ظهر المقوقس، فخاطب الحامية قائلا: «إن العرب قد جاءهم نجدة وليس لنا بهم طاقة، ولا نأمن منهم أن يفتحوا القصر «حصن بابليون» فيقتلونا،
57
ولكن نسد أبواب الحصن ونصير عليها مقاتلة ونخرج من القصر إلى الجزيرة فنقيم بها ونتحصن بالبحر، فخرجوا «كذا» الروم ومعهم المقوقس وجماعة من أكابر القبط من باب القصر القبلي ودونهم جماعة يقاتلون العرب، فركبوا المراكب ولحقوا بالجزيرة وقطعوا الجسر، وكان ذلك في وقت جري النيل.»، ولعل هذا العرض كان خدعة من المقوقس ليخرج الروم من الحصن.
غير أن ابن عبد الحكم لم يتهم المقوقس بالخيانة ، بل روي أن الزبير ورجاله وصلوا إلى باب الحصن واقتحموه، «فلما خاف المقوقس على نفسه ومن معه، سأل عمرو بن العاص الصلح ودعاه إليه، على أن يفرض العرب على القبط دينارين على كل رجل منهم.»،
58
وهكذا فكر المقوقس في هذه الآونة الحجرة أن يؤمن مستقبل مواطنيه الأقباط على حساب العناصر البيزنطية.
ومهما كان من الأمر، فإن المفاوضات استغرقت وقتا طويلا، ويقول ابن عبد الحكم وابن بطريق في هذا الصدد: إن قائد الحصن حاول الحصول على صلح بأحسن شروط ممكنة، فخاطب العرب قائلا: «إنكم قوم قد ولجتم في بلادنا وألححتم على قتالنا، وطال مقامكم في أرضنا دائما، وإنما أنتم عصبة يسيرة وقد أظلتكم الروم وجهزوا إليكم ومعهم من العدة والسلاح، وقد أحاط بكم هذا النيل، وإنما أنتم أسارى في أيدينا، فابعثوا إلينا رجلا منكم نسمع من كلامكم، فلعله أن يأتي الأمر فيما بيننا وبينكم على ما تحبون ونحب وينقطع عنا وعنكم هذا القتال قبل أن تغشاكم جموع الروم.».
59
ولكن العرب لم ينخدعوا بهذا الكلام، فأرسل إليهم عمرو من يقول لهم: «ليس بيني وبينكم إلا إحدى ثلاث خصال؛ إما أن دخلتم في الإسلام فكنتم إخواننا وكان لكم ما لنا، وإن أبيتم فأعطيتم الجزية عن يد وأنتم صاغرون، وإما أن جاهدناكم بالصبر والقتال حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.».
ثم جاء عبادة، أحد المتفاوضين، فأضاف إلى العرض الثاني ما يلي: «إن أبيتم إلا الجزية، فأدوا إلينا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، نعاملكم على شيء نرضى به نحن، وأنتم في كل عام أبدا ما بقينا وبقيتم ونقاتل عنكم من ناوأكم وعرض لكم في شيء من أرضكم ودمائكم، وأموالكم، ونقوم بذلك عنكم إن كنتم في ذمتنا وكان لكم به عهد علينا.».
60
ويقول لنا المؤرخون المسلمون: إن الأقباط تلقوا هذه العروض بفتور، إن لم يكن بالامتعاض بالرغم من أنهم كانوا يشعرون بأنهم خسروا المعركة، ويقول ابن عبد الحكم: إن الذين كانوا في حاشية المقوقس أجابوه: «أويرضى أحد بهذا الذل؟ أما ما أرادوا من دخولنا في دينهم، فهذا ما لا يكون أبدا، أن نترك دين المسيح ابن مريم وندخل في دين غيره لا نعرفه، وأما أن أرادوا أن يسبونا ويجعلونا عبيدا، فالموت أيسر من ذلك، لو رضوا منا أن نضعف لهم ما أعطيناهم مرارا، كان أهون علينا.».
61
وقد حاول المقوقس أن يعقلهم قائلا: «إذا أخبركم، أما دخولكم في غير دينكم، فلا آمركم به، وأما قتالهم، فأنا أعلم أنكم لن تقروا عليهم ولن تصبروا صبرهم ولا بد من الثالثة.»، قالوا: «أفنكون لهم عبيدا أبدا؟».
قال: «نعم تكونون عبيدا مسلطين في بلادكم، آمنين على أنفسكم وأموالكم وذراريكم، خير لكم من أن تموتوا عن آخركم وتكونوا عبيدا تباعوا وتمزقوا في البلاد، مستعبدين أبدا، أنتم وأهلوكم وذراريكم.»، ولكنهم قالوا: «الموت أهون علينا.».
62
وأخيرا انتهى الأمر بقبول حماية العرب، وقد سارع عمرو إلى عقد الهدنة، فلامه على ذلك الزبير؛ إذ كان يريد اقتحام الحصن واستعباد السكان بعد توزيع أملاكهم على المجاهدين.
وبعد أن قبل الأقباط الحماية؛ أي: بعد أن شعروا بانكسارهم، عرض بعضهم خدماتهم على العرب، وتشير كتب التاريخ إلى ذلك بكل وضوح، فيقول ابن الحكم: خرج عمرو بن العاص بالمسلمين حين أمكنهم الخروج وخرج معه جماعة من رؤساء الأقباط، وقد أصلحوا لهم الطريق وأقاموا لهم الجسور والأسواق، وصارت لهم القبط أعوانا على ما زادوا من قتال الروم،
63
ويؤكد حنا النقيوسي هذا القول فبعد أن وصف احتلال بابليون والفيوم ومهاجمة الإسكندرية، كتب يقول: «وهنا بدءوا يبذلون المساعدة للمسلمين.»
64
ويتضح من ذلك أن الذين قاموا بتقديم المساعدة هم الأقباط الذين أخضعهم المسلمون؛ أي: الأقباط الذين لمسوا بأنفسهم تسامح حكامهم الجدد، أما الأقباط الباقون فلا يزالون على عدائهم لهم، ويلاحظ حنا النقيوسي أنه حدث في أثناء زحف العرب نحو الجزء الشمالي من الدلتا ذعر في جميع بلاد مصر؛ إذ كان الأهلون يفرون إلى الإسكندرية تاركين ممتلكاتهم ومواشيهم.
65
وقد صمدت الإسكندرية مدة أربعة عشر شهرا؛ وكان في وسعها أن تقف في وجه العرب أكثر من ذلك وتهزمهم لو وصلتها نجدات كاملة ولو لم يتضجر سكانها من القتال، «ولم يكن قيروس البطريرك الكالسيدوني الرجل الوحيد، الذي يرغب في السلام، بل إن السكان والحكام و«دومنسيوس» صاحب الحظوة لدى الإمبراطورة «مارتين» اجتمعوا وتشاوروا مع البطريرك قيرس لتوقيع وثيقة الصلح مع المسلمين.».
66
وعندما دخل عمرو المدينة «استقبله الأهلون بالاحترام على الرغم مما أصابهم».
وبديهي أن العرب أيضا قد تعبوا من الحرب بدليل أن عمرا أوقف رحى القتال مدة أحد عشر شهرا؛ لكي تتمكن حامية المدينة من الجلاء عنها بأسلحتها وعتادها.
67
وإذا أردنا أن نلخص رأينا في هذه المسألة أحسن تلخيص، فلنذكر النص الذي يصف به المستشرق «دي جوييه»
De Goje
موقف المواطنين السوريين من الغزاة العرب، فهو يقول: «كانوا يشاهدون كمتفرجين اجتياح القوات العربية لأراضيهم، وقد تتبعوا بشيء من الفضول الأحداث التي فرضت عليهم واحدا من الخصمين المتقابلين، وعلى أي حال، فقد أظهروا شيئا من العطف نحو العرب خاصة عندما تأكدوا من أن العرب لا يهدفون إلى السلب والنهب، وأنهم يعاملون باللين والرفق جميع الذين يخضعون إليهم بمحض إرادتهم.».
68
هوامش
الفصل الثالث
الشريعة الإسلامية وأهل الذمة
كان العرب يجهلون فن الحكم، فشغلتهم إدارة الأراضي المحتلة جديا، أضف إلى ذلك أن القرآن بتعليماته الدقيقة فيما يجب اتباعه حيال أهل الذمة لم يسهل المهنة الملقاة على عاتق الحكام، الذين اضطروا إلى تجاهل بعض تعليمات القرآن والحديث أو تفسيرها حسب أهوائهم.
وهكذا تعرضت هذه المبادئ منذ بداية الفتح، لبعض التعليقات الخطيرة، فازدادت الفوارق بين المبدأ، الذي كان يشتد أحيانا على أهل الذمة ويذلهم، وبين تطبيقه.
ويجدر بنا أن نستعرض بإيجاز الشريعة الإسلامية ولا سيما فيما يتعلق بتشغيلهم في الإدارة الإسلامية وبزيهم الخارجي حتى نجيد فهم الأحداث التي حاقت بمصر الإسلامية. (1) أهل الذمة في القرآن
تحدث القرآن أكثر من مرة عن أهل الذمة بأسلوب واضح وتارة بأسلوب يحتاج إلى بعض التعليقات، وهذه بعض آياته:
سورة آل عمران آية 28:
لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين .
سورة المائدة آية 51:
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين .
سورة التوبة آية 8:
كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون . (2) شروط عمر
خضع أهل الذمة أيضا إلى «شروط عمر»: إننا نجهل كيف سن هذا التشريع بالتدقيق، وكان المؤرخون أمثال ابن عبد الحكم والكندي والبلاذري لا يعلمون بها، ولا شك أن بعض نصوصها وردت في كتب التاريخ والقانون ولا سيما النصوص الخاصة بالزي الخارجي، أما القلقشندي، فهو الذي أعطاها صبغتها الرسمية عندما ذكرها في كتاب «صبح الأعشى» ومع كل، لا نستطيع إغفالها؛ لأن بعض ولاة مصر والعالم الإسلامي رجعوا إليها في ظروف مختلفة.
ولم تصطبغ هذه الشروط بالصبغة المعروفة للأوامر الإدارية، فقد وضعت على شكل خطاب حرره أهل سوريا ورفعوه إلى الخليفة عمر ليصدق عليه، وهذا هو نص الخطاب كما ورد في كتاب «صبح الأعشى»:
هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا وكذا:
إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا، وشرطنا لكم على أنفسنا أن لا نحدث في مدينتنا ولا فيما حولها ديرا ولا ولا صومعة راهب، ولا نجدد ما خرب منها ديرا «بيت عبادة» كنيسة ولا قلاية ولا كنيسة، ولا نخفي ما كان منها في خطط المسلمين، ولا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد من المسلمين ثلاث ليال نطعمهم، ولا نأوي في منازلنا ولا كنائسنا جاسوسا، ولا نكتم غشا للمسلمين، ولا نعلم أولادنا القرآن، ولا نظهر شركا ولا ندعو إليه أحدا، ولا نمنع من ذوي قرابتنا الدخول في الإسلام إن أرادوه، وأن نوقر المسلمين ونقوم لهم في مجالسنا إذا أرادوا الجلوس، ولا نتشبه بهم في شيء من لباسهم، في قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر، ولا نتكلم بكلامهم ولا نتكنى بكنيتهم ولا نركب السروج ولا نتقلد السيوف ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله معنا، ولا ننقش على خواتمنا بالعربية ولا نبيع الخمور، وأن نجز مقادم رءوسنا، وأن نلزم ديننا حيثما كنا ، وأن نشد زنانير على أوساطنا، وألا نظهر الصليب على كنائسنا ولا كتبنا في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم، ولا نضرب بنواقيسنا في كنائسنا إلا ضربا خفيفا،
1
ولا نخرج شعانين ولا نرفع أصواتنا مع موتانا ولا نظهر النيران معهم في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم، ولا نجاوزهم بموتانا ولا نتخذ من الرقيق ما يجري عليه مهام المسلمين ولا نطلع عليهم في منازلهم. «قال عبد الرحمن بن غنم: فلما أتيت عمر بالكتاب زاد عليه: ولا نضرب أحدا من المسلمين، شرطنا ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا.
وقبلنا عليه الأمان، فإن نحن خالفنا عن شيء مما شرطنا لكم وضمناه على أنفسنا، فلا ذمة لنا، وقد حل لكم منا ما يحل لأهل المعاناة والشقاق.».
2
وقام القلقشندي بعد ذلك بتلخيص الشروط المفروضة على أهل الذمة، وهي كالآتي: الجزية، والضيافة، والانقياد لأحكامنا، وألا يركبوا للحمير بأن يجعل الراكب رجليه من جانب واحد، وأن ينزلوا المسلمين صدر المجلس وصدر الطريق، والتمييز عن المسلمين في اللباس، وأنهم لا يرفعون ما يبنونه على جيرانهم من المسلمين، وأنهم لا يحدثون كنيسة ولا بيعة فيما أحدثه المسلمون من البلاد. (3) عدم إباحة أهل الذمة الانخراط في خدمة المسلمين
أهملت شروط عمر نقطة في غاية الأهمية وهي هل يستطيع المسلمون استخدام المسيحيين في أعمالهم؟ لا شك أن الخليفة لما رأى أن القرآن أجاب على هذه المسألة بالنفي، أهمل ذكرها من جديد وتمسك بتعاليم القرآن طوال مدة خلافته، ويقدم لنا أحد المتفقهين في الشريعة، وهو محمد بن علي بن عبد الواحد بن يحيى المعروف بابن النقاش
3
أمثالا عديدة: «وقال أبو موسى الأشعري للخليفة: «استخدمت رجلا نصرانيا» فأجابه الخليفة: «ماذا فعلت أيها الرجل؟ إن الله سيعاقبك، ألم تدرك معني قوله تعالى هذا:
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين (سورة المائدة الآية 51)، فقلت: «يا أمير المؤمنين، استخدمته للكتابة فقط وتركت جانبا عقيدته»، فأجابه عمر: «ليس هذا عذرا ولن أشرف أبدا الذين احتقرهم الله، ولن أرفع أبدا الذين وضعهم الله في حالة دنيئة، ولن أقترب من الذين أبعدهم الله منه.».
وكتب إلى الخليفة أحد قواده ليستعلم بخصوص إدخال الكفار في الوظائف العامة فقال: «إن الأموال تدفقت على الخزينة بكثرة ولا يستطيع غيرهم أن يقوم بالأعمال الحسابية، قل لي حينئذ ما يستحسن عمله.»، فأجابه عمر: «ولا تشركوا الكفار في أعمالكم، لا تعطوهم ما حرمه الله عليهم، ولا تضعوا ثروتكم في أيديهم، ولا تنسوا هذا المبادئ التي يجب أن يسير عليها كل رجل.».
وكتب أيضا الخليفة إلى أحد قواده: «إن الذي يستخدم كاتبا نصرانيا يجب ألا يشاطره في حياته أو يكون له عطفه أو يجلسه بجانبه أو يستشيره؛ لأن النبي والخليفة أمرا بألا يستخدم الذميين في الوظائف.».
وتلقى الخليفة رسالة من معاوية بن أبي سفيان يقول فيها: «يا أمير المؤمنين» إني استخدم في ولايتي نصرانيا لا أستطيع بدونه أن أجمع الخراج، ولكن أردت قبل أن يقوم بهذا العمل أن أنتظر أوامركم، فأجاب الخليفة: «أدعو الله أن يقيني هذا الشر! قرأت الرسالة التي وجهتها إلي بخصوص النصراني، وأعلم أن هذا النصراني قد توفي والسلام!».
أما رأي الفقيه ابن النقاش، فليس أقل صراحة من رأي عمر نفسه بالرغم من أنه صدر بعد سبعة قرون، فقد سئل الفقيه: «ما رأي علماء الإسلام، وهم قادة الشعوب، فيما يختص باستخدام الذميين وبالاستعانة بهم بصفة كتاب لدى الأمراء لإدارة البلاد أو لجباية الخراج؟ أهو عمل شرعي أم محرم؟» فأجاب ابن النقاش: اعلم أن الشرع لا يسمح باستخدام الذميين وهذا رأي جميع المسلمين، أما العلماء فقد أفتوا بعدم استخدام الذميين، فحرموه بتاتا أو أعربوا على الأقل عن عدم رضائهم، وقد علمنا الله تعالى أن أهل الكتاب «النصارى واليهود» يعتقدون أنهم لا يخطئون إذا خذلوا المسلمين أو إذا استولوا على أملاكهم، وفعلا قال الله تعالى: «قد بين أهل الكتاب من تودع عندهم قنطارا «أي ألف دينار» ثم يردونه إليك، وقد تجد بينهم من لا يردون إليك دينارا واحدا إلا إذا اضطروا إلى ذلك؛ لأنهم يقولون: «لا عهد بيننا وبين أنصار النبي»،
4
ويمكن تطبيق هذا الكلام على أقباط مصر الذين يعتقدون أنهم غير مرتبطين بعهد مع المسلمين ويظنون أنهم إذا سلبوا أملاكهم ورجالهم، فقد يستردون جزءا يسيرا من الأملاك والرجال الذين فقدوهم في الأزمنة الماضية.
فإن قيل: إن الآيات التي ذكرتها تتعلق فقط بشعور الصداقة نحو النصارى، بينما أن المسألة تتعلق باستخدامهم في الوظائف العامة، أقول: «لا يستخدم الإنسان إلا من يثق به؛ لأنه قد يحب فيه الصفات التي تدفعه إلى الأمانة، فإذا استخدمت رجلا أمينا، فأظهرت له صداقتك، وهي عنوان الثقة بينك وبينه، تكون بذلك قد توليته، وعلى أي حال، فإن الله تعالى حل المشكلة الخاصة بالذميين حلا قاطعا؛ إذ قال:
ومن يتولهم منكم فإنه منهم (سورة المائدة الآية 51).
وحاول ابن النقاش أن يواسي الذين قد يضطرون إلى الاستغناء عن مستخدميهم النصارى تنفيذا لما جاء في القرآن وأمر السلطان، فيقول لهم: «إن النصارى يجهلون مبادئ الحساب بل يجهلون مبادئه الأولية؛ لأنهم يضعون ثلاث وحدات في واحدة، ووحدة في ثلاث وحدات.» «ويلمح ابن النقاش هنا إلى مبادئ النصارى الدينية».
5
إن تفسير القرآن مهمة صعبة ودقيقة، فقد علق بعض فقهاء الإسلام على الآيات القرآنية بوجوب إبعاد أهل الذمة من المناصب الرسمية مع أن القرآن لم يذكر ذلك بصريح العبارة، ولكن ألم يكن الفقهاء مستشاري الحكومات الإسلامية؟ (4) القيود الخارجية المفروضة على أهل الذمة
توسع أشهر الفقهاء في تفسير بعض شروط عمر، فتحدث قاضي بغداد أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم، الذي عاصر الخليفة هارون الرشيد، في «كتاب الخراج»
6
عن القيود المفروضة على أزياء أهل الذمة، تلك القيود التي سنعود إلى ذكرها أثناء حديثنا، قال أبو يوسف إلى الخليفة: «ينبغي أن تختم رقابهم في وقت جباية جزية رءوسهم حتى يفرغ من عرضهم ثم تكسر الخواتيم كما فعل بهم عثمان بن حنيف أن سألوا كسرها، وأن يتقدم في ألا يترك أحد منهم يتشبه بالمسلمين في لباسه ولا في مركبه ولا في هيئته، ويؤخذوا بأن يجعلوا في أوساطهم الزنارات مثل الخيط الغليظ يعقده في وسطه كل واحد منهم، وبأن تكون قلانسهم مضربة، وأن يتخذوا على سروجهم في موضع القرابيس مثل الرمانة من خشب وبأن يجعلوا شراك نعالهم مثنية، ولا يحذوا على حذو المسلمين، وتمنع نساؤهم من ركوب الرحائل، ويمنعون من أن يحدثوا بناء بيعة أو كنيسة في المدينة إلا ما كانوا صولحوا عليه وصاروا ذمة وهي بيعة لهم أو كنيسة، فما كان كذلك تركت لهم ولم تهدم وكذلك بيوت النيران، ويتركون يسكنون في أمصار المسلمين وأمصارهم وأسواقهم يبيعون ويشترون ولا يبيعون خمرا ولا خنزيرا، ولا يظهرون الصلبان في الأمصار ولتكن قلانسهم مضربة،
7
فمر عمالك أن يأخذوا أهل الذمة بهذا الزي، هكذا كان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أمر عماله بأن يأخذوا أهل الذمة بهذا الزي، وقال: حتى يعرف زيهم من زي المسلمين.».
وقال أبو يوسف أيضا: «حدثني عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن أبيه: أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامل له، أما بعد، فلا تدعن صليبا ظاهرا إلا كسر ومحق، ولا يركبن يهودي ولا نصراني على سرج وليركب على إكاف، ولا يركبن امرأة من نسائهم على رحالة وليكن ركوبها على إكاف، وتقدم في ذلك تقدما بليغا وامنع من قبلك فلا يلبس نصراني قباء ولا أثوب خز ولا عصب، وقد ذكر لي أن كثيرا ممن قبلك من النصارى قد راجعوا لبسي العمائم وتركوا المناطق على أوساطهم، واتخذوا الجمام والوفر وتركوا التقصيص، ولعمري لئن كان يصنع ذلك فيما قبلك إن ذلك بك لضعف وعجز ومصانعة، وأنهم حين يراجعون ذلك ليعلموا ما أنت، فانظر كل شيء نهيت عنه، فاحسم عنه من فعله والسلام.».
وإن هذه الفقرة لتدل بوضوح على أن هذه القيود قد خرقت أحيانا بعد ظهورها، وترجع أسباب هذه المخالفات أكثر ما ترجع إلى اعتبارات مالية وسياسية، وسنتحقق من ذلك بوضوح عندما نتكلم عن عهد الولاة.
هوامش
الفصل الرابع
أحوال الأقباط الحقيقية تحت حكم الولاة
(1) طابع الاحتلال العربي (1-1) حسن معاملة الفاتحين
كيف عامل العرب المصريين لما احتلوا بلادهم؟ جهل مؤرخو العرب تفاصيل هذا الموضوع، ولكن حنا النقيوسي لم يتردد في إبراز صورة كئيبة لهذا الاحتلال لم يغفل فيها حوادث القتل والسلب والنهب والتخريب ... إلخ.
لا بد أن تصحب الحملات الحربية أعمال العنف، خاصة إن كان أصحابها مدفوعين بحرارة الإيمان، ولكن بينما يؤكد أسقف نيقيا سوء استغلال العرب لانتصاراتهم، إذا العثور حديثا على بعض أوراق البردي، التي يرجع عهدها إلى الفتح الإسلامي يثبت لنا مسلك العرب المشرف حيال أهل الذمة.
ولدينا وثيقتان تنطقان بهذا، اكتشفهما البروفسور «جروهمان»:
1
يرجع تاريخهما إلى سنة 22 هجرية «642م»، وتقول الوثيقة الأولى: «باسم الله! أنا الأمير عبد الله أكتب إليكما أنتما، خريستوفوروس وتيودوراكس، باجارك
هيرا كليوبولس، قد أخذت منكما خمسا وستين نعجة لأطعم الجند الذين معي، أعيد ما قلته: خمسا وستين نعجة لا أكثر وليعلم الجميع ما فعلت، كتبت الإقرار هذا وحرره الشماس يوحنا، مسجل العقود، في اليوم الثلاثين من شهر برمودا من التوقيت الأول.».
وقد تحرر هذا النص باللغة اليونانية وألحق به نص آخر باللغة العربية يقول:
بسم الله الرحمن الرحيم؛ هذا ما أخذه عبد الله بن جابر وزملاؤه المحاربون من النعاج للذبح في هيراكليوبولس، لقد أخذنا من أحد وكلاء تيودوراكس، النجل الثاني لآباء قيرس، ومن نائب خريستوفورس، أكبر أنجال آبا قيرس، خمسين نعجة للذبح وخمس عشرة نعجة أخرى، وقد أعطاها لإطعام رجال مراكبه وفرسانه وقوات مشاته المصفحة، تحرر في شهر جمادى الأول سنة 22ه وكتبه ابن جديد.
وجاء في ظهر الورقة ما يلي:
شهادة بتسليم النعاج للمحاربين ولغيرهم ممن قدموا البلاد، وهذا خصم عن جزية التوقيت الأول.
2
وبينما نشاهد اليوم حروبا يتسابق فيها الطرفان إلى اقتراف الأعمال الوحشية، ينبغي أن نذكر أن قبائل العرب كانت تحترم الملكية الفردية وذلك أثناء قيام الحرب، وفي زمن اشتهرت فيها الأمم بالعنف والقسوة.
وهذا نص الوثيقة الأخرى:
باسم الله! أنا الأمير عبد الله أكتب إليكم يا أمناء تجار مدينة «بسوفتس» وأرجو أن تبيعوا إلى عمر بن أصلع لفرقة القوطة علفا بثلاثة دراهم ذهبية ، كل واحد منها «بعرورين» وإلى كل جندي غذاء من ثلاثة أصناف.
3
واختتم جروهمان هذا كله بقوله: «إن هذه المعاملة إزاء شعب مغلوب قلما نراها من شعب منتصر.». (1-2) افتقار العرب إلى سياسة ثابتة
ومما يؤسف له حقا أن يؤدي الجشع الذي أوجدته ثروة مصر وريبة الخلفاء في سياساتهم نحو الولاة إلى عواقب وخيمة، فالإحصاءات تدل على أن الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين منذ سنة 20ه «641م» إلى سنة 252ه «866م»؛ أي: من ولاية عمرو بن العاص إلى ولاية ابن طولون، نصبوا في بحر مئتين وخمس وعشرين سنة مئة وأحد عشر واليا، ولو أن بعض الولاة قد عينوا مرتين أو ثلاث مرات، إلا أن المدة القصيرة التي كانوا يحكمون خلالها لم تسنح لهم الفرصة لاتباع سياسة إنشائية أو على الأقل للتفكير في وضع خطة معينة.
ويقدم لنا «الأستاذ جاستون فييت»،
4
إحصاء شيقا يبدأ به بعد وفاة عمرو بن العاص؛ أي: من سنة 43ه «664م»، وهذا الإحصاء يقول: «حكم مصر أثناء خلافة الأمويين واحد وعشرين واليا، اثنان منهم وليا الحكم مرتين وواحد منهم ثلاث مرات، وقد حكم أحدهم البلاد باسم ابن الزبير، ولم يلبث أن عزله الخليفة مروان، وكان خمسة من هؤلاء من أسرة الخلفاء؛ وقد توفي ستة منهم وهم ولاة؛ ونقل الخليفة أو أقال أحد عشر منهم؛ واستقال أحدهم وطرد الجند آخر؛ لأنه خفض رواتبهم؛ أما الوالي الأخير، فالمرجح أن العباسيين قتلوه، ومكث أحدهم على كرسي الولاية ستة عشر يوما
5
بينما تربع آخر عشرين سنة، وهي أطول مدة قضاها والي مصر،
6
وإذا انتقلنا إلى الخلافة العباسية، ألفيناهم عينوا أربعة وستين واليا، تسعة منهم تولوا الحكم مرتين وواحد ثلاث مرات، وفي عهد المأمون ولت قوات الجيش التي ظلت مخلصة لذكرى الخليفة الأمين خمسة منهم، وكان اثنا عشر واليا من أسرة الخليفة، وقد توفي عشرة وهم في الحكم ونقل أو أقيل خمسون منهم، وقتل اثنان، وطرد الجنود الثائرون واحدا واستقال أحدهم لينضم إلى الثوار، ومما يلفت النظر أن عدد التنقلات قد ازداد في عصر العباسيين بالنسبة إلى ما كان عليه أيام حكم الأمويين، ويرجع السبب إلى أن السلطة المركزية كانت بعيدة جدا؛ أي: في بغداد، وكان الخليفة لا يريد أن يترك للولاة متسعا من الوقت يستطيعون خلاله استمالة قلوب الشعب إليهم، وكان الخوف من نفوذ الولاة قد طبع في قلوب الخلفاء شيئا من القلق المستديم، ويغلب على الظن أن هذا الخوف هو الذي أدى إلى قتل البرامكة، تلك المأساة التي ساءت إلى ذكرى الخليفة هارون الرشيد.».
ونضيف إلى ما تقدم أن أربعة وعشرين واليا حكموا مصر أثناء خلافة هارون الرشيد وحده؛ أي: في ثلاث وعشرين سنة.
ويواصل الأستاذ جاستون فييت بحثه قائلا: «إن عدم الاستقرار الذي لازم تعيين الولاة لم يكن في صالح البلاد على الإطلاق؛ إذ كيف يطلب من موظف جاء من الخارج ويثق من عدم بقائه في الولاية، أن يعير البلاد اهتمامه أو أن ينظم مواردها أو أن يسهر على دولاب إدارتها؟».
وهناك طابع آخر لازم الحكم العربي أثناء الفتوحات، في مصر وفي جميع البلدان التي احتلها العرب، ألا وهو افتقار الحكم إلى خطة مرسومة يسير عليها، فإن القرارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية كانت تصدر حسب الظروف وتبعا لمقتضيات الحال، ويرجع السبب إلى أنه لم يكن في نية العرب أن يقيموا في تلك البلاد ولا أن يديروها، بل كانوا يهدفون إلى غرض واحد هو المحافظة على سلامة مؤخرة جيوشهم حتى يقوموا بفتوحات جديدة، ويحصلوا على المال الكافي لمتابعة أعمالهم العسكرية الجديدة.
وعلى كل حال، لم يحاول الجنود العرب الاختلاط بالشعوب المهزومة؛ لأن رؤساءهم كانوا يمنعونهم من هذا الاختلاط منعا باتا، وينقل لنا ابن عبد الحكم ما قاله الخليفة عمر في جيش الاحتلال العربي بمصر: «إني لا أحب أن ينزل المسلمون منزلا يحول الماء بيني وبينهم في شتاء ولا صيف.»،
7
ومعنى هذا أن الجنود يجب أن يحافظوا على صفاتهم الحربية، ولا يفكروا في أن يستقروا في البلاد.
وفعلا، إذا استثنينا الأوامر الخاصة بضمان تحصيل الضرائب وإرسال المال والقمح إلى شبه جزيرة العرب، لم نعثر على أي تدبير لزيادة ثروة البلاد الاقتصادية، «وقد أعيد حفر قناة «تراجان»
Trajan
ليس لمصلحة التجارة بقدر ما أعيد حفرها حتى يستطيع الغازي أن يرسل قمح مصر إلى البلاد العربية القاحلة عن طريق سهل وفي مدة قصيرة، ولكن ما لبث أن أهملت هذه القناة فاجتاحتها الرمال مرة أخرى في أوائل القرن الثامن وردمها حكام مصر بين سنتي 144 و145ه «761-762م» كي يمنعوا إرسال الأقوات إلى المدينة عندما أصبحت مصدرا للثورات.».
8
وقد أهملت الإصلاحات العامة إهمالا تاما، ولكن لما كان من اللازم الاستفادة من مياه النيل الغنية بالطمي الخصب، لا سيما أثناء الفيضان، فقد كان الحكام يسخرون السكان لتطهير القنوات وإعادة بناء الطرق والجسور مقابل إعفائهم من قسط من الضرائب يتناسب مع المهمة التي قاموا بها.
9
ولا نجد أي أثر لنشر التعليم حتى بعد إنشاء المستعمرات العربية في الدلتا بوقت طويل، ومن جهة أخرى، أنشأ العرب نظاما للضرائب، ولكنهم لم يفكروا في تنظيم إدارة للحسابات في المدينة المنورة.
ثم بينما كان بناء الكنائس محظورا في المدن التي أنشأها العرب، سمح عبد العزيز بن مروان ببناء كنيسة في حلوان، ويعلل هذا التساهل بوجود بعض النصارى الملكيين في خدمة الوالي،
10
ولم تختلف سياسة الخليفة المأمون عند إقامته بمصر، واستخدم النصارى الذين التمسوا منه تشييد كنيسة بالقرب من قبة الهواء، فسمح لهم بذلك.
11
ويروي الأسقف ساويرس بن المقفع أنه لما هبط مستوى النيل سنة 136ه «752م»، قام المسلمون يتضرعون في صلاتهم إلى الله أن يزيد في مياه النهر حتى تفيض، ثم تبعهم اليهود، ولكن بدون جدوى، ولم تحدث المعجزة إلا عندما بدأ النصارى في الصلاة، فقرر باعون، نائب الوالي، أن يكافئهم، فخفض الجزية وأمنهم على حياتهم وأملاكهم في القطر المصري كله.
12
ويحمل بنا أن نقيم الدليل، بضرب مثل أخير، على سياسة الحكام العرب الإرتجالية وعلى اتخاذهم القرارات المتناقضة، ففي عام 169ه «785م» أمر الوالي علي بن سليمان بهدم الكنائس المحدثة بمصر وبذل له خمسين ألف دينار مقابل تركها قائمة فامتنع،
13
بينما صرح موسى بن عيسى الذي خلفه سنة 171ه «787م»، بإعادة تشييد الكنائس لاعتبارات مادية بحتة، ولم يقدم على هذا إلا بعد أن سأل الفقهاء رأيهم في هذه المشكلة، فأفتوا بأن الكنائس هي «من عمارة البلاد»،
14
ويجب ألا يكون الوالي أكثر تطرفا ممن سبقوه بدليل أن «عامة الكنائس التي بمصر لم تبن إلا في الإسلام في زمن الصحابة والتابعين،
15
وينبغي أن نلاحظ أنه حدث قبل ذلك ببضع سنوات؛ أي: في عام 117ه «735م»، أن قتل الغوغاء الوليد بن رفاعة؛ لأنه صرح للنصارى ببناء كنيسة مارمينا،
16
وربما لم تكن حاجة العرب إلى المال شديدة في ذلك الوقت.
17
ويتضح من ذلك كله، أن تقلب السلطة وعدم اهتمام العرب بالشعوب التي أخضعوها، وتخبط سياسة الولاة وتضاربها، خلقت جوا لا يساعد على حسن التفاهم. (2) طموح عمرو بن العاص ونتائجه
قالت المسز ديفو نشاير: «لا يوجد وال واحد من الثمانية والتسعين الذين عينوا على مصر
18
يستحق أن يخلد اسمه.»،
19
إن هذا الحكم الشديد على ولاة مصر يظهر لنا قوة شخصية عمرو بن العاص، ولما كان عمرو فاتح مصر وأول من حكمها، فقد أنشأها نظاما خاصا نستطيع معرفته بسهولة من مختلف أعماله وتصرفاته، لقد عرف عمرو كيف يحل المشاكل الخطيرة دون أن يعتمد على نصوص واضحة لعدم وجودها وقتذاك، ولما كانت سياسته ترمي إلى كسب مودة النصارى، فقد صبغ نظم البلاد بصبغة التسامح التي خولت للأقباط التمتع ببعض الامتيازات الجوهرية. (2-1) كان عمرو يسعى إلى حكم مصر حكما مطلقا
من الطبيعي أن تستقبل الشعوب المغلوبة قائد الجيش المنتصر بشعور يشوبه الخوف والاحترام، ويعترف حنا النقيوسي «أن مركز عمرو كان يزداد قوة يوما بعد يوم.»،
20
وبالفعل، فقد ارتفعت سمعة عمرو إلى حد أنه عندما أعادت الجيوش البيزنطية الكرة على الإسكندرية، استنجد عثمان به على الرغم من كرهه له ورميه بالطمع والمغامرة.
لبى عمرو طلب الخليفة دون تردد، ألم يكن يعتبر مصر ملكا له، سلبه الخليفة منه عندما أقاله من الولاية؟ ولا شك أن العودة إليها قد تمكنه من حكم البلاد لحسابه الخاص وإغفال سلطة الخليفة .
ولم يكن طموح عمرو جديدا، فقد ظهر لأول مرة يوم استسلام حصن بابليون، وإلا كيف نفسر عطفه على الجيوش المغلوبة؟ لماذا رغب في أن يصالح أعداءه صلحا شريفا بالرغم من معارضة الزبير وعدد وفير من جيشه، وبالرغم من مقدرة الجيش العربي على اقتحام الحصن واستغلال انتصاراته الحربية استغلالا تاما؟ ثم إذا انتقلنا إلى الإسكندرية، وجدنا أيضا نفس هذا الاستعداد للتسامح على الرغم من صمود المدينة أربعة عشر شهرا، مما اضطر الزبير ومن معه أن يرفعوا احتجاجهم مرة أخرى؛ إذ كانوا يريدون تطبيق مبادئ الشريعة الخاصة بالشعوب المهزومة.
وكان الزبير على حق
21
فيما ذهب إليه وخاصة فيما يتعلق بالبلاد، التي قاومت المسلمين بالقوة، وكان يستطيع أن يستشهد بسابقة خطيرة ألا وهي مقاومة يهود خيبر، فلما هزمهم النبي، وزع أراضيهم على أفراد جيشه المنتصر واستعبد أفراد القبيلة.
إلا أن عمرا أراد بدهائه أن يحتفظ بوحدة مصر، فكان يعرف أن البلاد غنية بمواردها، ويرى أن المصلحة تقضي بمنع توزيعها على المحاربين كغنيمة حربية، وبمعاملة سكانها ورؤسائهم الدينيين معاملة طيبة، وباحترام شعورهم الديني ... وعدم استنزاف ثروة البلاد وجباية الضرائب حتى لا تسوء حالة مصر الاقتصادية، وقصارى القول، كان يريد كسب صداقة الشعب ومحبته لا إذلاله وامتهان كرامته.
إذا، كان لعمرو سياستان: الأولى عامة، استلهمها من تعليمات الخليفة، والأخرى شخصية تستحق منا اهتماما خاصا؛ لأنها وفرت على الأقباط عدة التزامات. (2-2) عمرو يطلب تحكيم عمر لمنع توزيع الأراضي
لم يتوان عمرو في طلب تحكيم عمر بخصوص توزيع الأراضي؛ لأن المشكلة نفسها طرأت بعد فتح سوريا والعراق، «سأل بلال وأصحابه عمر بن الخطاب رضي الله عنه قسمة ما أفاء الله عليهم من العراق والشام وقالوا: أقسم الأرض بين الذين افتتحوها كما تقسم غنيمة العساكر.» فأبى عمر ذلك عليهم وتلا عليهم هذه الأحكام وقال: «قد أشرك الله الذين يأتون من بعدكم في هذا الفيء، فلو قسمته لم يبق لمن بعدكم شيء ولئن بقيت ليبلغن الراعي بصنعاء نصيبه من هذا الفيء ودمه في وجهه.»
22 «إن عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد حين افتتح العراق: «أما بعد فقد بلغني كتابك تذكر فيه أن الناس سألوك أن تقسم بينهم مغانمهم وما أفاء الله عليهم، فإذا أتاك كتابي هذا فانظر ما أجلب الناس عليك به إلى العسكر من كراع ومال، فأقسمه بين من حضر من المسلمين، واترك الأرضين والأنهار بعمالها ليكون ذلك من أعطيات المسلمين، فإنك إن قسمتها بين من حضر، لم يكن لمن بعدهم شيء.».
وقال عمر في مناسبة أخرى: «كيف بمن يأتي من المسلمين فيجدون الأرض بعلوجها قد اقتسمت وورثت عن الآباء وحيزت ما هذا برأي.»، فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه: «فما الرأي ما الأرض والعلوج إلا مما أفاء الله عليهم.»، فقال عمر: «ما هو إلا كما تقول ولست أرى ذلك والله لا يفتح بعدي بلد فيكون فيه كبير نيل، بل عسى أن يكون كلا على المسلمين، فإذا أقسمت أرض العراق بعلوجها وأرض الشام بعلوجها، فما يسد به الثغور وما يكون للذرية والأرامل بهذا البلد وبغيره من أهل الشام والعراق؟»، فأكثروا على عمر، رضي الله تعالى عنه، وقالوا: «أتقف ما أفاء الله علينا بأسيافنا على قوم لم يحضروا ولم يشهدوا ولأبناء القوم ولأبناء القوم ولأبناء أبنائهم ولم يحضروا؟».
ولكن عمر لم يقتنع بهذه الحجج وذهب به الأمر إلى أن يحكم عشرة من علية القوم في هذا الخلاف طبقا للعوائد العربية التي يستنكرها القرآن، مصدر التشريع، وقد قال هؤلاء الحكام جميعا: «إن لم تشحن هذه الثغور وهذه المدن بالرجال وتجري عليهم ما يتقوون به، رجع أهل الكفر إلى مدنهم.».
فلما سمع عمرو بن العاص إلى شكاوى الزبير ورجاله، لجأ إلى حكم الخليفة عمر فكتب إليه عمر: «أقرها حتى يغزو منها حبل الحبلة.»،
23
وصولح الزبير على شيء أرضي به وعمل على تنفيذ أوامر الخليفة.
ويمكن الجزم بأن المسألة كانت على جانب عظيم من الأهمية؛ لأن هذا «الشيء» الذي أعطاه عمرو للزبير يدل بوضوح على أن عمرو كان يشعر بضرورة التخلص من معارضة الزبير حتى لا يثير مرة أخرى مسألة المدن المحتلة بقوة السلاح. (2-3) هل فتحت مصر بصلح أم عنوة؟
أثارت هذه المسألة مناقشات حادة بعد فتح العرب لمصر؛ إذ أكد بعض الفقهاء أن البلاد فتحت بصلح، والبعض الآخر أن البلاد فتحت عنوة، بينما انضم فريق ثالث إلى الرأي الأول ولكن بشيء من التحفظ.
إلا أنه يجدر بنا أن نذكر الوقائع قبل أن نورد وجهات النظر المختلفة.
ويطلق الكتاب اليوم على فتح مصر والبلاد المجاورة لها اسم «الجهاد»؛ أي: الحرب التي قام بها المسلمون ضد الكفار، الذين رفضوا الدعوة إلى الإسلام.
أضف إلى ذلك أن السواد الأكبر من المؤرخين المسلمين لم يشكوا في صحة الرسالة، التي بعث بها النبي إلى حاكم مصر، وإذا سلمنا بأن المصريين لم يلبوا هذه الدعوة ولم يرفضوها رفضا باتا كما يدعي بعض الكتاب، فإن بطء العمليات الحربية ووجود العنصر القبطي في الجيوش البيزنطية تدل على مقاومة الأهلين للفتح العربي.
وقد أراد البعض أن يبرر تسامح عمرو بأن حاميتي بابليون والإسكندرية طلبتا وقف القتال، ولكنهما في كلتا الحالتين لم يقوما بهذا العمل إلا بعد أن شعرنا بإفلات زمام الأمر من بين أيديهما، ثم إن نصوص القرآن صريحة في هذه الحالة:
فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم (سورة محمد، آية 35).
ومع ذلك فقد حاول بعض الفقهاء فيما بعد أن يبرروا موقف القواد العرب المخالف لهذه النصوص، وقد كتب أحدهم في هذا الصدد، وهو حسين بن أحمد بن محمد القدوري، ويمكن اعتباره من علماء مذهب أبي حنيفة: «إن رأى الإمام أن يصالح أهل الحرب أو فريقا منهم، وكان في ذلك مصلحة للمسلمين، فلا بأس، فإن صالحهم مدة ثم رأى أن نقض الصلح أنفع، نبذ إليهم وقاتلهم، وإن بدءوا بخيانة، قاتلهم ولم ينبذ إليهم إذا كان ذلك باتفاقهم، إذا فتح الإمام بلدا عنوة، فهو بالخيار إن شاء قسمها بين المسلمين وإن شاء أقر أهلها ووضع الجزية عليهم وهو في الأسارى بالخيار، إن شاء قتلهم وإن شاء استرقهم، وإن شاء تركهم أحرارا ذمة للمسلمين.».
24
أما الذين يؤكدون أن مصر فتحت عنوة، فهم يستندون إلى تصريحات ووقائع دقيقة، وينقل لنا ابن عبد الحكم تصريحات بعض الشهود؛ إذ قالوا: «كان تابوت لعمر بن الخطاب فيه كل عهد كان بينه وبين أحد ممن عاهده، فلم يوجد فيه لأهل مصر عهد،
25
وينقل إلينا أيضا ابن عبد الحكم الحادثين التاليين: «خرج أبو سلمة بن عبد الرحمن يريد الإسكندرية في سفينة، فاحتاج إلى رجل يقذف به، فسخر رجلا من القبط، فكلم في ذلك فقال: إنما هم بمنزلة العبيد إن احتجنا إليهم.»، أما الحادث الآخر، فهو «أن رجلا أسلم في عهد عمر بن الخطاب، فقال: «ضعوا الجزية عن أرضي»، فقال عمر: «لا إن أرضك فتحت عنوة.»، ويستشهدون أيضا بعمرو نفسه، فقد أتى يوما إلى المسجد وقال علنا: «لقد قعدت مقعدي هذا وما لأحد من قبط مصر علي عهد ولا عقد إلا أهل أنطابلس، فإن لهم عهدا يوفى لهم به، إن شئت قتلت، وإن شئت خمست وإن شئت بعت.».
26
وقد رأى نهائيا بعض الفقهاء أنه من الأوفق أن يصرحوا أن مصر فتحت صلحا فيما عدا قرى «سلتيس» و«مازيل» و«بلهيت»، وأيضا مدينة الإسكندرية التي قاومت الفتح.
27
ويتضح من ذلك أن المسألة لم تحل إلى الآن، والذين يدعون أن مصر فتحت صلحا رجحوا رأيهم لأسباب حربية وسياسية واقتصادية، ولجئوا إلى الفقهاء لإثبات صحة نظريتهم. (2-4) تسامح عمرو في إدارته
لم نعد في حاجة إلى الإثبات بعد الآن أن العرب ساروا في سياستهم حسب مقتضيات الحال، ولدينا مثل آخر: أراد العرب أن يؤمنوا حدود مصر الجنوبية في أثناء حملتهم على ليبيا، فبادروا إلى إبرام معاهدة مع أهل النوبة المسيحيين، وأطلق المؤرخون العرب على هذه المعاهدة اسم «البقط» غير أن القواد لم يروا ما يمنعهم من نقض هذه المعاهدة بحجة أنه «ليس بين أهل مصر والأساود عهد إنما كانت هدنة أمان بعضنا مع بعض نعطيهم شيئا من قمح وعدس ويعطوننا رقيقا»، ولما غزا عقبة بن نافع أهل طرابلس وهزمهم،سألوه ان يصالحهم ويعاهدهم، فأبى عليهم وقال: «إنه ليس لمشرك عهد عندنا، إن الله عز وجل يقول في كتابه:
كيف يكون للمشركين عهد .».
28
أما في مصر فقد نفذ عمرو بن العاص أوامر الخليفة عمر؛ لأنها كانت تتفق ومطامعه الشخصية، فكان تسامحه على مصر في أثناء ولايته مثار دهشة المصريين وإعجابهم.
كان متسامحا من حيث الدين أولا، ويقول حنا النقيوسي في هذا الصدد: «لم يستول عمرو على ممتلكات الكنيسة ولم يرتكب أعمال السرقة والنهب، ولكنه كان يؤمنها ولايته.».
29
وقد أدرك عمرو منزلة البطريرك اليعقوبي بنيامين في نفوس الشعب، فسارع باستقطار أخباره من أفواه الناس ليعرف المكان الذي لجأ إليه البطريرك هربا من اضطهاد قيرس، وقال عمرو في هذا الصدد: «له العهد والأمان والسلامة من الله، فليحضر آمنا مطمئنا ويدبر حال بيعته وسياسة طائفته».
30 «ولما سمع القديس بنيامين هذا، عاد إلى الإسكندرية بفرح عظيم بعد غيبة ثلاث عشرة سنة، منها عشر سنين لهرقل الرومي الكافر، وثلاث سنين قبل أن يفتح المسلمون «كذا في النص» الإسكندرية لابسا أكليل الصبر والجهاد الذي كان الشعب الأرثوذكسي من الاضطهاد من المخالفين، فلما ظهر فرح الشعب وكل المدينة وأعلن بمجيئه، أمر الأمير «عمرو» بإحضاره بكرامة وإعزاز ومحبة، فلما رآه أكرمه وقال لأصحابه وخواصه: «إن جميع الكور التي ملكناها إلى الآن ما رأيت رجل الله يشبه هذا.»، وكان بنيامين هذا حسن المنظر جدا، جيد الكلام بسكون ورقاد، ثم التفت عمرو إليه وقال له: «جميع بيعتك ورجالك اضبطهم ودبر أحوالهم، وإذا أنت صليت علي حتى أمضي إلى المغرب والخمس مدن
31
وأملكها مثل مصر وأعود إليك سالما بسرعة، فعلت لك كل ما تطلبه مني.»، فدعا له القديس بنيامين وأورد له كلاما حسنا أعجبه هو والحاضرين عنده، فيه وعظ وربح كثير لمن يسمعه، وأوحى إليه بأشياء وانصرف من عنده مكرما مبجلا.».
وبديهي أن يقلق عمرو من الحفاوة الرائعة التي استقبل بها الشعب رئيسه الديني، فبادر إلى استشارة البطريرك في أحسن طريقة يتمكن بها من إدارة البلاد وسؤاله عن أنسب موعد لجباية الضرائب، كما أنه طلب إليه أن يبارك حملته على طرابلس؛ ذلك لأن عمرا كان يقصد من مساهمة البطريرك في نجاح هذه الحملة بأن يجعله مسئولا عن الأمن في البلاد وعن إخلاص السكان للعرب، وكافأه فعلا على هذه الخدمات؛ إذ ترك اليعاقبة يستولون على معظم كنائس الملكيين وأديرتهم.
ثم إن اهتمام عمرو باليعاقبة جعلهم يبنون الآمال الكبار على المستقبل، مما حدا بالأسقف المؤرخ ساويرس بن المقفع أن يصف شعورهم هذا بقوله: «كانت الشعوب فرحين مثل العجول الصغار إذا حل رباطهم وأطلقوا على ألبان أمهاتهم.».
وكان ساويرس على حق في وصفه؛ ذلك لأن الأقباط لم يعاملوا بهذه المعاملة اللينة منذ أمد بعيد، أضف إلى ذلك أن العرب في أثناء ولاية عمرو لم يحاولوا أن يضغطوا على الأقباط ليعتنقوا الإسلام ولم يضطهدوهم.
ولما درس عمرو حالة البلاد قرر أنه من المستحيل عليه أن يجبي الضرائب دون معاونة النصارى، فكتب إلى الخليفة يقول له: لما كان المسلمون لا يعرفون البلاد معرفة تامة فإنهم لا يستطيعون حصر المبالغ التي يمكن جمعها من الضرائب، وأنه استخدم لهذا الغرض نصرانيا قديرا ونزيها على أن يحل غيره محله عندما يعرف حالة البلاد جيدا.
وفكر عمرو أيضا في إيجاد أداة قد تكفل حسن سير العدالة وصرح بمساهمة الوطنيين النصارى فيها، فقسم البلاد إلى عدد من الدوائر وعين في كل دائرة منها قاضيا قبطيا كلفه بفض الخلافات المدنية والدينية لغير المسلمين، أما إذا كان الخلاف بين قبطي ومسلم، رفع الأمر إلى مجلس مكون من قضاة الطرفين، وكانت المسائل الجنائية من اختصاص القضاة المسلمين وحدهم. (2-5) الخلاف بين عمر وعمرو على جباية الضرائب
لما استشار عمرو الأقباط في مسألة الضرائب، نصحوا له ألا يقوم بجبايتها حسب التقويم القمري، ولكن حسب التقويم المصري الذي وضعه الفراعنة منذ أمد بعيد وفق الفصول والمواسم، وقد وافق عمرو على هذا الرأي، ولكن عمرا أنكر على عامله هذا التصرف لحاجته الملحة إلى المال، وأمره بأسلوب قاطع أن يستعجل جباية الضرائب ويرسلها إلى المدينة.
ولم يحل بخاطر إنسان أن يخالف عمرو أوامر الخليفة، ولكن ذلك الذي حدث بالفعل، وتبادل التابع والمتبوع في هذا الشأن عدة خطابات امتازت باللهجة الشديدة، ثم كان عمر لا يفهم لماذا تهبط قيمة الضرائب المفروضة على مصر سنة بعد سنة، ولكن هذا ما حدث بالفعل بعد أن شلت حركة التجارة من جراء الحروب، وبعد أن قل عدد دافعي الجزية لازدياد عدد النصارى الذين اعتنقوا الإسلام، أما أهل الذمة أنفسهم، فلم يجدوا غضاضة في الإفلات من الجباة كلما سنحت لهم الفرصة، وسنتحدث عن ذلك عند الكلام عن المالية.
لما استبطأ عمر بن الخطاب الخراج من قبل عمرو بن العاص، كتب إليه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى عمرو بن العاص، سلام الله عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد؛ فإني فكرت في أمرك والذي أنت عليه، فإذا أرضك أرض واسعة عريضة رفيعة، وقد أعطى الله أهلها عددا وجلدا وقوة في بر وبحر، وأنها قد عالجتها الفراعنة وعملوا فيها عملا محكما مع شدة عتوهم وكفرهم، فعجبت من ذلك وأعجب مما عجبت أنها لا تؤدي نصف ما كانت تؤديه من الخراج قبل ذلك على غير قحوط ولا جدوب، ولقد أكثرت في مكاتبتك في الذي على أرضك من الخراج، وظننت أن ذلك سيأتينا على غير نزر ورجوت أن تفيق فترفع إلي ذلك، فإذا أنت تأتيني بمعاريض تعبأ بها، لا توافق الذي في نفسي، لست قابلا منك دون الذي كانت تؤخذ به من الخراج قبل ذلك، ولست أدري مع ذلك ما الذي نفرك من كتابي وقبضك، فلئن كنت مجربا كافئا صحيحا، إن البراءة النافعة، وإن كنت مضيعا لطعا، إن الأمر لعلى غير ما تحدث به نفسك، وقد تركت أن أبتلى ذلك منك في العام الماضي رجاء أن تفيق فترفع إلي ذلك، وقد علمت أنه لم يمنعك من ذلك إلا عمالك، عمال السوء، وما توالس عليه وتلفف اتخذوك كهفا، وعندي بإذن الله دواء فيه شفاء عما أسألك فيه، فلا تجزع أبا عبد الله أن يؤخذ منك الحق وتعطاه، فإن النهر يخرج الدر والحق أبلج ودعني وما عنه تلجلج فإنه قد برح الخفاء ، والسلام.»
فكتب إليه عمرو بن العاص: «بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله عمر أمير المؤمنين، من عمرو بن العاص، سلام الله عليك، فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد؛ فقد بلغني كتاب أمير المؤمنين في الذي استبطأني فيه من الخراج، والذي ذكر فيه من عمل الفراعنة قبلي وإعجابه من خراجها على أيديهم ونقص ذلك منها مذ كان الإسلام، ولعمري للخراج يومئذ أوفر وأكثر والأرض أعمر؛ لأنهم كانوا على كفرهم وعتوهم أرغب في عمارة أرضهم منا منذ كان الإسلام، وذكرت أن النهر يخرج الدر فحلبتها حلبا قطع درها، وأكثرت في كتابك وأنبت وعرضت وتربت وعلمت أن ذلك عن شيء تخفيه على غير خبر، فجئت لعمري بالمفظعات المقدعات، ولقد كان لك فيه من الصواب من القول رصين صارم بليغ صادق، وقد عملنا لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
ولمن بعده، فكنا نحمد الله مؤدين لأمانتنا حافظين لما عظم الله من حق أئمتنا نرى غير ذلك قبيحا والعمل به شيئا فتعرف ذلك لنا ونصدق فيه قلبنا معاذ الله من تلك الطعم ومن شر الشيم والاجتراء على كل مأثم، فأمضي عملك، فإن الله قد نزهني عن تلك الطعم الدنيئة والرغبة فيها بعد كتابك الذي لم تستبق فيه عرضا ولم تكرم فيه أخا، والله يا بن الخطاب؛ لأنا حين يراد ذلك مني أشد غضبا لنفسي ولها إنزالها وإكراما، وما عملت من عمل أرى عليه فيه متعلقا، ولكني حفظت ما لم تحفظ، ولو كنت من يهود يثرب ما زدت يغفر الله لك ولنا، وسكت عن أشياء كنت بها عالما، وكان اللسان بها مني ذلولا، ولكن الله عظم من حقك ما لا يجهل.»
ولما أراد عمرو أن يرد مرة أخرى على عمر، لم يستطع الخليفة أن يكتم غضبه واتهمه صراحة بأنه لا بد أن اختلس مبالغ كبيرة من المال،
32
ولم يلبث أن بعث إليه محمدا بن مسلمة الأنصاري ليتسلم منه نصف المستحق له.
33
وليس بمستغرب أن يغترف عمرو المال، وهو العربي البدوي الذي وجد نفسه بين عشية وضحاها أمام ثروة كبيرة، ثم إن المؤرخين العرب لم يفندوا هذه التهمة، التي وجهت إليه بل نقل إلينا بعضهم أن الخليفة استجوب أحد أقباط مصر عن خراجها قبل الإسلام، فقال القبطي: «يا أمير المؤمنين، كان لا يؤخذ منها شيء إلا بعد عمارتها وعاملك لا ينظر إلى العمارة إنما يأخذ ما ظهر له كأنه لا يريد إلا لعام واحد».
34
وإذا تركنا هذه التهمة جانبا، ألقينا عمرا يريد المحافظة على ثروة البلاد والحيلولة بين الشعب وطمع الحكام، ويجمل بنا أن نورد الرد المفعم الذي أجاب به عمرو على الخليفة عثمان، فقد حدد عمرو الضرائب باثني عشر مليونا من الدينارات، بينما رفعها عبد الله بن سعد إلى أربعة عشر مليونا، فقال عثمان لعمرو: «يا أبا عبد الله، درت اللقحة بأكثر من درها الأول.»، قال عمرو: «أضررتم بولدها».
35
وإلى جانب إهماله مسألة الجزية، فإن عمرا لم يهتم بتعليمات عمر الخاصة بمظهر الذميين على الرغم من إلحاح بعض الأشخاص لوضع هذه التعليمات موضع التنفيذ، نعم إن عمرا أصدر أوامر تقضي بعدم إظهار الصلبان «ولكن بطل العمل بهذا الأمر، وقد عاد النصارى إلى عمل الصلبان في أفراحهم ومآتمهم، أما في حمص ودمشق، فلم يصرح لهم أبدا بذلك منذ أن نصت شروط عمر على هذا الحرمان»،
36
وأخيرا، صرح عمرو للأقباط بالإقامة في مدينة الفسطاط.
لقد أوجد هذا التسامح سوابق خطيرة بالنسبة للعرب، غير أن الأقباط استفادوا كثيرا منه، ويرجع الفضل، دون شك، إلى موقف عمرو الذي كان يبغي من وراء ذلك أن يصبح حاكم مصر المطلق، وأخيرا أراد أن يجعل الإسكندرية حاضرته بحجة أن المساكن التي تركها اليونانيون تصلح لإيواء جيش الاحتلال، ولما رفض عمر أن يصرح له بالإقامة حيث كان يريد، صدع عمرو للأمر وعاد إلى الفسطاط.
ولما تولى علي بن أبي طالب الخلافة وانقسم العالم الإسلامي إلى معسكرين متخاصمين، حكم عمرو مصر باسم معاوية، إلا أنه اشترط عليه، إزاء هذه الخدمة العظيمة، أن يتعهد له بتركه واليا على مصر طوال حياته، ومن الواضح أن عمرا كان يتحين الفرص ليعلن استقلاله، وينادي بنفسه أول خليفة على مصر بعد أن يفصلها تماما عن بقية الإمبراطورية، العربية. (3) الولاة يتبعون سياسة أساسها المنفعة
لم يحاول خلفاء عمرو أن ينهضوا بالبلاد، فقد اقتصر عملهم على المحافظة على الأمن وإرسال الجزية للخلفاء الأمويين ثم إلى الخلفاء العباسيين، ولما كانت مدة ولايتهم على وجه العموم قصيرة، فقد أرادوا أن يحققوا بعض المكاسب الشخصية.
وكيف يتبعون سياسة أخرى ولم يترك لهم الخلفاء الوقت الكافي لوضع برنامج إيجابي! وإذا قاموا بأي عمل لمصلحة البلاد، كانوا يثيرون شكوك السلطة المركزية وقلقها، وما حركة التنقلات التي كانت تشملهم إلا الدليل البين على عدم اهتمام الخليفة بما قد يقوم عملاؤه به من مجهود في مصلحة هذه الولاية. (3-1) المال أساس العلاقات بين المنتصر والمهزوم
وصف عبد الله بن صالح مصر بجملة في غاية الإبداع، قال: «من أراد أن يذكر الفردوس أو ينظر إلى مثلها في الدنيا، فلينظر إلى أرض مصر حين يخضر زرعها وتنور ثمارها».
37
ولا نكون مبالغين إذا قلنا إن صيحة الإعجاب هذه قد رددها كل أعرابي وطئت قدماه وادي النيل، وكان من الطبيعي أيضا أن يعمل رجل الصحراء، الذي خرج منتصرا من حرب شنها على إمبراطوريتين، على الاستفادة من انتصاراته، وأصدق دليل على ذلك هو إلحاح الجيوش المنتصرة في سبيل توزيع الأراضي الواسعة أمثال العراق وسوريا ومصر.
ولما حاقت المجاعة بالمدينة المنورة، طلب عمر أن يستعجل إرسال القمح اللازم للسكان وصاح بهذه المناسبة: «أخرب الله مصر في عمران المدينة وصلاحها».
38
وقال هذا الخليفة أيضا عندما تكلم عن المهزومين: «يأكلهم المسلمون ما دموا أحياء، فإذا هلكنا وهلكوا، أكل أبناؤنا وأبناؤهم ما بقوا».
39
وهذه التصريحات تفضح جليا عن نيات الفاتح. (3-2) الضرائب الأولى التي فرضت على الأقباط
لما اجتمع مندوبو الفريقين حول قلعة بابليون ليحددوا شروط التسليم، كان أكثر اهتمام العرب منصبا على قيمة الجزية التي ستفرض على المغلوب.
ولما كان العرب في حالة لا تسمح لهم بابتكار أي نظام للضرائب، فقد نقلوا النظم المتبعة عند البيزنطيين، إلا أن الأهليين استفادوا من خفض محسوس في الضرائب، ثم إن نظام الضرائب أعيد إلى أبسط قواعده في بادئ الأمر، ويقول المستشرق «فان برشيم»
Van Berchem : «إن دافعي الضرائب كانوا يدفعون ضريبتين رئيسيتين: الجزية، وهي ضريبة مرتفعة جدا تدفع نقدا، و«الضريبة» وهي حصيلة عينية تجبى من الحنطة، وكان يقابل هذا الدخل في ميزانية الدولة مصروفان متميزان: فكانت تدفع رواتب الجند من الجزية، وكان ما يجمع من الحنطة يوزع على الجند وأسرهم.»، وتقدم على سبيل المثال رقمين يوضحان العلاقة بين هاتين الضريبتين: «شهر صفر سنة 91 «709م»، من قرة بن شريك إلى أهالي شبرا بسيرو في مديرية إيشكو، أن الحصة التي يجب أن تدفعوها نقدا لتسددوا جزية عام 88 هي 104 دينارات وثلثا الدينار، بينما حددت ضريبة الغذاء بأحد عشر أردبا وثلث من القمح
40
ومن الطبيعي أن الضرائب العينية لم تقتصر فقط على القمح والدقيق، بل تعدتها إلى الخضراوات والقمصان وغيرها من الأشياء.
41
إلا أن هذا المبدأ الخاص بطريقة توزيع وجباية الضرائب لم يستمر مع الأسف إلا فترة قصيرة جدا مما سبب التباين فيما نقله المؤرخون العرب، هذا التباين الذي يرجع جزئيا إلى تعارض التدابير التي فرضتها الإدارة، فالنصوص العربية تفرق بين الجزية والخراج مع أن هاتين الكلمتين تنطبقان على نوع واحد من الضرائب، ومن حسن الحظ أن نصوص المؤرخين العرب المبهمة قد عوضها اكتشاف ورق البردي، الذي يرجع تاريخه إلى القرون الأولى للهجرة.
ومن ناحية أخرى، بينما يدعي هؤلاء المؤرخون أن ضريبة قدرها ديناران فرضت على أهل الذمة جميعا فيما خلا الشيوخ والنساء والأطفال والمتوسلين والمشوهين، اتضح لنا أن هذا الرقم ما هو إلا متوسط ما يؤديه كل دافع ضريبة ليس إلا.
وكانت الجزية والضريبة حصيلتين تؤديهما الجماعة كلها وتحددهما السلطة المركزية لكل قرية، ثم توزع على دافعي الضرائب على أن تحصلها من كل فرد حسب ثروته، وأن قوائم الضرائب المكتوبة باللغة اليونانية والتي يرجع تاريخها إلى القرن الأول للهجرة تدل على أنه كانت تحصل مبالغ أقل من دينارين، «وكان مبلغ الدينار الواحد»، وهو الحد الأدنى الذي أشار إليه الفقه للشخص الواحد، قد هبط إلى أقل من ذلك في غالب الأحيان في القرون التالية، كما يتبين ذلك من الإيصالات التي صدرت وقتئذ،
42
وعلى العموم، فإنه في الوقت الذي فرضت فيه هذه الضريبة، كان يحصل اثنا عشر درهما من الطبقة الوسطى وأربعة وعشرون درهما أو ديناران من الطبقة العليا وأربعة دنانير من ذوي الثراء.
أما ضريبة العقار المعروفة بالخراج، فلم ينص عليها أي اتفاق بين الطرفين، وكان كل ما يهم العرب هو جباية ضريبة توازي دينارين عن كل ذمي، وكانت تدفع نقدا أو عينا، ويلاحظ أنه فيما عدا الإسكندرية وبابليون وبعض المدن الأخرى «كان لا بد من تحويل الجزية إلى ضريبة عقارية، ثم إن قيمة الضريبة التي حددت بعد تعداد السكان كان يجب أن توزع على القرى حسب الأراضي المغمورة بالمياه لا حسب السكان، الذين يدفعون الضريبة».
43 (3-3) تدهور الحالة الاقتصادية والضرائب التي نتجت عنها
لم تمض سنوات معدودات على انتشار الإسلام، حتى شعر العرب بأن الضرائب التي أمر بها القرآن لا تكفي حاجات إمبراطوريتهم العظيمة، فقد تفاقمت الحالة المالية في مصر لعدة أسباب ذكر بعضها المؤرخ «هايد»
Heyd ؛ إذ قال: «لا ينكر أحد أن النشاط التجاري في بداية الإسلام تعرض لعدة طارئة؛ إذ إن الجهاد استنفد قوى المسلمين كلها وتوقفت من جراء ذلك حركة نقل البضائع، كما توقفت حركة التجارة الخارجية».
44
فقد أدت هذه الحالة الخطيرة إلى نتائج وخيمة في ميناء الإسكندرية مثلا حيث شلت الحركة ويأس سكانها، الذين كانوا يعيشون من التجارة مع الخارج، زد على ذلك عدم اهتمام السلطات برفاهية مصر وازدهارها، فكانت تكلف الشعب بالسهر على سلامة السدود والترع بدلا من أن توليها عنايتها، فأهملت إهمالا خطيرا ولم يستفد الشعب إلا قليلا من فيضان النيل، ولم يتردد المقريزي في تعليقه على هذا الأمر بالتصريح بأن سبب نقص الخراج كان ناتجا عن تزايد الخراب والتلف عاما بعد عام.
ولما ساء المحصول الزراعي، رفض دافعوا الضرائب أن يسددوا المفروض عليهم كله، وحاولوا بطبيعة الحال أن يتحايلوا على الخزينة، وقد نعم المصريون من هذه الناحية بمزية لم يكونوا يتوقعونها، فبينما كان الحكام البيزنطيون يلجئون عادة إلى الضرب لحمل الشعب على دفع الضرائب، أعلن الإسلام بأنه إذا كان شخص في حالة لا تسمح له بدفع الجزية، فلا يجوز للحاكم أن يكرهه على ذلك بالعقاب البدني؛ أي: باستعمال العصا، أو بتعريضه لأشعة الشمس الملتهبة، أو رش جسمه بالزيت المغلي، وإنما الوسيلة الوحيدة المصرح بها هي السجن لعدم دفع الديون.
وقال أبو سيف صراحة في هذا الصدد: «ولا يضرب أحد من أهل الذمة في استيدائهم الجزية ولا يقامون في الشمس ولا غيرها، ولا يجعل عليهم في أبدانهم شيء من المكاره، ولكن يرفق بهم ويحبسون حتى يؤدوا ما عليهم ولا يخرجون من الحبس حتى تستوفى منهم الجزية».
45
وكان الأقباط يفضلون الحبس على دفع الضرائب كما كان بعضهم يلتجئ إلى الأديرة؛ حيث كانت الرهبنة تعفيهم من الجزية مدى الحياة، ويقول المؤرخ «رينودو»: «إن عدد الرهبان ازداد إلى درجة جعلتهم يقيمون كل يوم صوامع جديدة».
46
وقد اكتفى بعضهم بتغيير محال إقامتهم بعد أن انتهت السلطات من تعداد السكان وأقاموا في نواح أخرى لم تدرج أسماؤهم في قوائم الضرائب، هذا عدا الأقباط الذين كانوا يعتنقون الإسلام هربا من دفع الجزية، وكان عددهم يزداد سنة بعد أخرى.
صرح مؤرخو العرب أن مجموع الضرائب الذي بلغ في الماضي عشرين مليون دينار، هبط في عهد عمر بن الخطاب إلى اثني عشر مليونا، ثم ارتفع إلى أربعة عشر مليونا إبان ولاية عبد الله بن سعد،
47
وما لبث أن هبط بسرعة بعد ذلك، ففي خلافتي الأمويين والعباسيين، لم تصل قيمة الضرائب المجموعة على الثلاثة ملايين.
48
وبينما كان الدخل ينقص أخذت المصروفات تزداد، فكانت الرغبة في القيام بفتوحات جديدة وضرورة تأمين سلامة الإمبراطورية تقتضيان الاحتفاظ بجيوش وفيرة وكاملة العتاد، كما اقتضت المحافظة على الأمن الداخلي إنشاء قوة بوليسية منذ الساعة الأولى.
وكانت المسائل المالية شغل الخلفاء الشاغل، فقد حاولوا أول الأمر أن يضغطوا الميزانية، ولما كان الجيش يستنفد الجزء الأكبر من الدخل، حاولوا تخفيض أجور الجند، إلا أنهم باءوا بالفشل الذريع أربع مرات متتالية في القرن الأول للهجرة، ولم يكن أمامهم بعد ذلك سوى البحث عن حلول أخرى لا تعرضهم للخطر، فلجئوا إلى زيادة الضرائب على المدنيين.
49 (3-4) الإجراءات في سبيل زيادة الدخل
احتفظ الأقباط بذكريات حسنة عن حكم عمرو بن العاص لهم، رغم أنه لم يتردد في اتخاذ إجراءات مخالفة للقانون في سبيل مضاعفة الإيراد، ويقول ابن عبد الحكم في ذلك: «إن عمرو بن العاص لما فتح مصر قال لقبط مصر: إن من كتمني كنزا عنده فقدرت عليه قتلته»، وأن نبطيا من أهل الصعيد يقال له: بطرس «ذكر لعمرو أن عنده كنزا، فأرسل إليه، فسأله، فأنكر وجحد فحبسه في السجن وعمرو يسأل عنه: «هل تسمعونه يسأل عن أحد» فقالوا: «إنما سمعناه يسأل عن راهب في الطور»، فأرسل عمرو إلى بطرس، فانتزع خاتمه من يده، ثم كتب إلى ذلك الراهب أن ابعث إلي بما عندك وختمه بخاتمه، فجاء رسوله بقلة شأمية مختومة بالرصاص، ففتحها عمرو، فوجد فيها صحيفة مكتوبة فيها: «مالكم تحت الفسقية الكبيرة» فأرسل عمرو إلى الفسقية، فحبس عنها الماء ثم قلع البلاط الذي تحتها، فوجد فيها اثنين وخمسين أردبا ذهبا مضروبة، فضرب عمرو رأسه عند باب المسجد، فذكر ابن رقية أن القبط أخرجوا كنوزهم شفقا أن يبقى على أحد منهم فيقتل كما قتل بطرس.».
ونعلم من جهة أخرى أن بعض الأقباط القاطنين في الإسكندرية أو في الأراضي المجاورة لها ساعدوا البيزنطيين الذين نزلوا بمراكبهم إلى الساحل عام 23 أو 25 من الهجرة، ولم يستغرب المؤرخون العرب إطلاقا لهذه المساعدة ويعللونها بالحادث الآتي: «كان سبب نقض الإسكندرية هذا أن صاحب إخنا قدم على عمرو بن العاص فقال: «أخبرنا ما على أحدنا من الجزية فيصير لها»، فقال عمرو وهو يشير إلى ركن كنيسة: «لو أعطيتني من الركن إلى السقف ما أخبرتك، إنما أنتم خزانة لنا، إن كثر علينا كثرنا عليكم، إن خفف عنا خففنا عنكم»، فغضب صاحب إخنا فخرج إلى الروم».
50
لم يفه الخلفاء بتصريحات حاسمة كالتي فاه بها عمرو، ولكنهم حرصوا على أن تكون للقوانين تفسيرات مطاطة تطاوع حاجتهم إلى المال، نعم لم يريدوا أن يتخطوا حدود القوانين، ولكنهم ذهلوا لنقص دخلهم بهذه السرعة، ولما كانوا غير مستعدين في أي وقت من الأوقات لوقف سيل فتوحاتهم أو الحد من ترف معيشتهم، فقد أرغموا على اتخاذ إجراءات مالية انتهت بإثارة موجة من السخط بين أفراد الشعب النصارى والمسلمين على السواء.
وإليك بعض الأمثلة، كان يوجد في مصر في العصر البيزنطي؛ أي: قبل أن يفرض المسلمون الجزية على البلاد، مساحات كبيرة من الأراضي الصالحة للزراعة قد هجرها أصحابها من الأقباط الذين رفضوا أن يسددوا الضرائب المفروضة عليها، ولما جاء العرب، ترك السكان أراضي أخرى صالحة للزراعة للسبب نفسه، فأصبحت السلطة لا تجني أية فائدة منها.
وقد عرض الوالي الوليد بن رفاعة في سنة 109ه «727م» على الخليفة هشام بن عبد الملك هذه الحالة المحزنة التي آلت إليها بعض الأراضي في مصر، والتمس منه أن يصرح بهجرة بعض القبائل العربية إلى مصر لتسد الفراغ الذي يشكو منه، وقد صرح الوالي أن استقرار العرب في هذه الأراضي لن يلغي خراجها «وهو ضريبة الخمس» ليفرض مكانه العشورية «وهي ضريبة العشر» وعلى كل، فإن هذه الهجرة قد تؤدي إلى ازدهار البلاد؛ إذ إن الأراضي المذكورة لم تسدد الخراج ولا العشورية.
وصرح هشام بن عبد الملك، عملا بمشورة الوليد بن رفاعة، لثلاثة آلاف فرد من قبيلة قيس بالنزوح إلى مصر والإقامة فيها، وقد اشترط عليهم شرطا واحدا، وهو ألا يقيموا في الفسطاط وأن يستقروا في الحوف الشرقي، وسرعان ما اغتنى من أقام منهم في مدينة بلبيس لقيامهم بنقل البضائع الصادرة إلى بلاد العرب، وسرعان ما أخبروا سائر أفراد قبيلتهم بثرواتهم، فخف إلى مصر خمسمائة آخرون، فقدمت أفواج أخرى طلبا لثراء ونزلت في الأراضي التي هجرها سكان البلاد الأصليون .
على أنه يجدر بنا أن نذكر أن هؤلاء العرب لم يحضروا إلى مصر لأغراض اقتصادية بحتة؛ إذ إن الوالي الوليد بن رفاعة لم يقدم اقتراحه إلى الخليفة إلا بعد ثورة الأهالي الأولى في الحوف الشرقي، وأن أول فوج من المهاجرين قطن في مدينة بلبيس؛ أي: في المكان الذي نشبت فيه الثورة.
وقد تمكن هؤلاء العرب من التوغل تدريجيا في البلاد كلها، وأصبحنا نراهم في الوجه البحري والوجه القبلي ومصر الوسطى، وقد تزوجوا من نساء قبطيات اعتنقن الإسلام، لم يعد أحد يستطيع أن يفرق بينهم وبين سكان البلاد الأصليين الذين اعتنقوا الإسلام، وقد حصل السواد الأكبر منهم على أراض مما أدى إلى ظهور مشكلة البحث من نوع الضريبة التي يجب أن يؤديها هؤلاء الملاك الجدد، وتدخل المشرع لمصلحة السلطة، فأفتى بأن تستمر الأراضي الخاضعة للخراج في تأدية هذه الضريبة عنها حتى لو نقلت ملكيتها إلى مالك مسلم، وحجة المشرع أن أراضي البلاد المحتلة ملك المسلمين جميعهم، وأنه ليس بالإمكان تضحية المصلحة العامة في سبيل المصلحة الخاصة.
51
يتضح من هذه الفتوى أن السلطة استغلت لمصلحتها هذا الخطأ في ذلك العصر؛ إذ إنها تجاهلت عدم وجود أي فارق بين الجزية التي كانت تجبى نقدا وبين الخراج، الذي كان يجمع عينا، وهاتان الضريبتان كانتا مفروضتين، على أي حال، على أهل الذمة دون سواهم.
وإن اضطرت السلطات إلى إعفاء سكان المدن الذين يعتنقون الإسلام، فإنها استمرت في جباية الخراج من الملاك الزراعيين جميعا على الرغم من أن الخارج ليس إلا جزية مفروضة على الأراضي الزراعية واشتراك أهل القرية في دفعها، ولما رأى سكان الأقاليم أن ليس أمامهم أية فائدة مادية من دخولهم في الإسلام، تلكأوا في اعتناق الدين الجديد بخلاف الحال مع سكان المدن، ويقول المستشرق «دي ساسي»: «لعل ذلك أحد الأسباب التي دعت إلى بقاء المسيحية في الأقاليم مدة أطول منها في الأقاليم».
52
وعندما اتضح أن هذا الإجراء لا يكفي لسد عجز الميزانية، فكرت السلطات في زيادة نسبة الجزية، ويقول لنا المقريزي: «كتب معاوية بن أبي سفيان إلى وردان وكان قد تولى خراج مصر، أن زد على كل رجل من القبط قيراطا، فكتب إليه وردان كيف نزيد عليهم وفي عهدهم ألا يزاد عليهم شيء، فعزله معاوية».
53
وحاول أبو يوسف بعد ذلك أن يبرر رفع الجزية والخراج، فقال: «إن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رأى أن الأرض في ذلك الوقت محتملة لما وضع عليها، ولم يقل حين وضع عليها ما وضع من الخراج أن هذا الخراج لازم لأهل الخراج وحتم عليهم، ولا يجوز لي ولمن بعدي من الخلفاء أن ينقص منه، ولا يزيد فيه».
54
وقد فكرت السلطة أن تحمل الأحياء على دفع الجزية عن الأموات، ويقص ابن الحكيم علينا: «كتب حيان إلى عمر بن عبد العزيز يسأله أن يجعل جزية موتى القبط على أحيائهم، فسأل عمر عراك بن مالك، فقال عراك: «ما سمعت لهم بعهد ولا عقد وإنما أخذوا عنوة بمنزلة العبيد»، فكتب عمر إلى حيان بن شريح أن يجعل جزية موتى القبط على أحيائهم».
55
ويدل هذا الإجراء - حسب ما يقول المقريزي - على «أن عمر كان يرى أن أرض مصر فتحت عنوة، وأن الجزية إنما هي على القرى، فمن مات من أهل القرى، كانت تلك الجزية ثابتة عليهم، وأن من مات منهم لا يضع عنهم من الجزية شيئا».
56
إلا أن عمر بن عبد العزيز رفض أن يعمل بمشورة ولاته الذين نصحوه، أمام زيادة عدد الذين يعتنقون الإسلام فيمتنعون عن دفع الجزية، بأن يأمر بجباية الجزية من هذه الطبقة من المسلمين، فأجاب الخليفة: «إن الله إنما بعث محمدا
صلى الله عليه وسلم
هاديا، ولم يبعثه جابيا، ولعمري لعمر أشقى من أن يدخل الناس كلهم الإسلام على يديه».
57
ثم إن جميع الطبقات التي كانت قد أعفيت من دفع الجزية منذ الفتح فقدت مع مرور الزمن هذا الامتياز الممنوح لها، وقد فقد الرهبان على الأخص جميع الامتيازات التي كانوا يتمتعون بها، مما أدى إلى ازدياد عدد معتنقي الإسلام ونقص عدد الرهبان، فهجرت الأديرة شيئا فشيئا وأصبحت خرابا.
58
وقد كان عبد العزيز بن مروان أول من فرض على الرهبان جزية قدرها دينار في عام 65ه (685م)، وبرر هذا الإجراء بأنه ليس من العدل أن تدفع الطبقات الفقيرة الضرائب ويعفى عنها الرهبان والمطارنة والبطاركة، الذين يملكون ثروات عظيمة، ولما صار عبد الله بن عبد الملك واليا على مصر في سنة 68ه (686م)، اعتقد الأقباط أن السلطة ألغت الأمر الآنف الذكر، ولكن الوالي خيب آمالهم، فحمل عليه المؤرخون النصارى وأظهروا كراهيتهم له.
ومع ذلك كانت إيرادات الدولة في نقصان مخيف بالرغم من زيادة الضرائب، فقرر عبيد الله بن الأحدث، بعد مضي ثمانين سنة على الفتح العربي، أن يقوم بمسح الأراضي مسحا دقيقا بما في ذلك الأراضي البور، وقد نفذ قراره هذا في عام 106 أو 107ه (724 أو 725م) وجلب إلى الخزينة أربعة ملايين دينار على الرغم من هبوط سعر الحنطة.
واتضح بعد ذلك أن المساحين لم يكونوا على جانب كبير من الدقة في عملهم؛ إذ وضعوا نصب أعينهم تخليص الدولة من المأزق المالي الحرج، الذي وقعت فيه على حساب الشعب، ونستخلص ذلك من قراءة إحدى أوراق البردي المعروفة اليوم باسم أوراق «رينييه»، أن أحد المساحين قدر عقارا بمائتي فدان، غير أن صاحبات العقار عارضن في هذا الرقم، وقلن إنهن مسحن الأرض كلها بما يقتضيه ضميرهن، فبلغت مساحتها 931 فدانا من الأراضي الزراعية، وبعد فحص الأوراق والمستندات المتعلقة بهذه الأرض فحصا دقيقا، وصلت السلطة إلى تقدير مساحته ب 841 فدانا فقط، وعلق الأستاذ «جروهمان» على هذا الحادث قائلا: «إذ وردت مثل هذه الأخطاء في الحجج الخاصة بالأبعديات الكبيرة، فما بالك بالقضايا التي كان يتعرض لها صغار الفلاحين الذين يفتقرون إلى وسائل الدفاع الناجحة».
وفي سنة 186ه «802م»؛ أي: في عهد الخليفة هارون الرشيد، قام الليث بن الفضل الوالي على مصر بمسح أراضي الحوف الشرقي، وقد استعمل المساحون قياس أقصر من القصبة، مما أثار شكوى السكان، ولكن الكندي يقول: إن الوالي رفض أن يستمع إلى شكواهم.
59
ثم لجأ الوالي إلى إجراء كان البيزنطيون قد فرضوه، منذ أواخر القرن الثالث الميلادي، وهو نظام العمل الإجباري للمصلحة العامة “Liturgie”
وهذا دليل آخر لحيرة السلطة إزاء الحالة المالية، ويقول «جروهمان» اعتمادا على أوراق البردي: «كانت السلطة تطبق مبدأ تكليف الشعب القيام بالأعمال العامة لصيانة الأسطول البحري خاصة، فكان الجزء الأكبر من هذا الأسطول يعتمد على موارد مصر، وكان أيضا يسلح في الديار المصرية، ولم يكن تسخير الأيدي العاملة المصرية موقوفا على صيانة الأسطول وتموينه فحسب، بل كان يتعداه إلى أصحاب الحرف والصناع، الذين قاموا أيضا ببناء قصر للخليفة ببابليون وبأعمال أخرى خارج القطر،
60
كما كان الجند والموظفون المرسلون من قبل الولايات يتسلمون أجورهم من خزينة بلادهم الأصلية.»
61
وفي سنة 256ه «869م»، وصل مصر قائم جديد على شئون بيت المال، ألا وهو أحمد بن المدبر، وقد انتقده المؤرخون المسيحيون والمسلمون لصرامته مر الانتقاد، ولكن السياسة التي سار عليها ابن المدبر، كان لا بد منها في تلك الظروف، ويقول ساويرس بن المقفع في شأنه: «كان رجلا شديدا، صعبا في أفعاله مخوفا عند كل أحد، لا يغلب، ففعل أفعالا لم يفعلها أحد قبله، وكان قد أقام بفلسطين مدة كبيرة وأذاق أهل تلك البلاد صعوبة وبلايا، فلما سمع أبونا البطرق بوصوله مصر، حزن، وعند وصوله إلى مصر، وضع يده على المسلمين والنصارى واليهود وأضعف عليهم الخراج، فقوم لكل دينار دينارا وقوم للدينار ثلاثة حتى ملأ الحبوس في كل الأماكن، وأنفذ إلى الديارات في كل موضع وأحصى الرهبان: التي فيها وطالبهم بالجزية والخراج ...».
62
وخصص أحمد بن المدبر ديوانا للمراعي بعد أن كانت معفاة إلى تاريخه من الضرائب، ومنع أيضا حرية التجارة بها وفرض عليها ضريبة أسماها «المراعي».
وهذه الضريبة التي ذكرت مرارا في القوائم المدونة على أوراق البردي كانت تفرض على الأرجح على رءوس الأغنام، كما فرضت فوق ذلك ضريبة على المروج أشارت إليها أوراق البردي دون أن تحدد طبيعتها؛ أما ضريبة الصيد، فهي ترجع أيضا إلى عهد ابن المدبر.
وقد ذكرت هذه الضرائب كلها باسم «الضرائب الهلالية»؛ لأنها كانت تجبى على حساب الشهر القمري، بعكس الخراج الذي كان يجبى على حساب السنة الشمسية، يضاف إلى هذه الضرائب ضريبة أخرى معروفة باسم «الصدقة» وقد أصبحت في هذا العهد حسنة قانونية إجبارية على شكل ضريبة يدفعها المسلمون غير المسيحيين على السواء، ورد ذلك في أوراق البردي.
وقد تطورت الرسوم المفروضة على بعض الخضراوات المزروعة وأصبحت ضريبة قائمة بذاتها، وفرضت السلطات بعد ذلك ضريبة على أشجار النخيل والكروم، وإلى جانب ذلك، قام السكان بدفع الجزء الأكبر من المصاريف الخاصة بتحسين الأراضي الزراعية، وكان الصناع هم أيضا يسهمون في هذا العمل، وعلى كل حال، فإن الضرائب شملت الصناعات على اختلاف أنواعها، غير أننا لم نعرف إلى أي حد رفعها ابن المدبر، وكل ما وصل إلى علمنا، أنه أعاد نظام الاحتكار وقرر رسوما على الإيصالات ولوازم المكاتب «ثمن الصحف» وغيرها.
63
ويعتبر ابن المدبر آخر من حكم في مصر لحساب حكومة بغداد، فقد تولى من بعده ابن طولون، الذي بادر إلى إلغاء الرسوم والضرائب الجديدة، التي فرضها ابن المدبر، وكان لها أسوأ أثر في البلاد.
تلك هي الإجراءات الثابتة التي اتخذها الولاة بالاتفاق مع الخلفاء لزيادة دخل بيت المال، نضيف إليها المظالم، التي وقع الأقباط تحت طائلتها، وفي بعض الأحيان المسلمون، وذلك إثباتا لشهوة الولاة الذين حكموا مصر لمدد قصيرة فأرادوا ألا يغادروها دون أن يغتنموا، مهما كان الثمن، ويقول المستشرق «مارسيل» في هذا الصدد: «ولما كان الوالي على يقين من أنه سيقال من منصبه ليحل وال آخر محله، فقد كان يعتني بما يجلب الفائدة إليه دون البلاد، وكان همه الوحيد أن يثري إبان ولايته القصيرة المدى وبأية وسيلة، حتى يعوض الخسارة التي تنتج عن إقالته، لذلك كان كل وال يزيد الضرائب التي يفرضها سلفه.».
64 (3-5) جشع أم تعصب؟
نعتقد شخصيا أن العامل الديني لم يكن إلا وسيلة تذرع بها الولاة لينالوا الثروة، ولا شك أن العقيدة الدينية، أو بعض الأسباب الأخرى، حملت بعض الولاة على سلوك مسلك آخر، ولكن لا يجوز أن نستند إلى سياسة الولاة وإجراءاتهم في مصر، لنقرر إذا كانوا يعملون بدافع التسامح أو بدافع التعصب.
وعندما نتكلم عن الحالات الشاذة، نقصد خاصة عبد العزيز بن مروان الذي ولي شئون مصر عشرين سنة متتالية، وعلى الرغم من أن المؤرخين النصارى لم يغتفروا له الضريبة التي فرضها على الرهبان، فإنه كان حاكما عادلا طيبا، ويقول أحد الأساقفة الأقباط: إن عبد العزيز كان يدعو إليه من وقت إلى آخر يوحنا رئيس الأساقفة لما بينهما من أواصر المودة والمحبة، وكان الوالي يبالغ في تكريم البطريرك إسحق ويحميه من الوشاة الحاقدين،
65
ويعزى هذا التسامح إلى أن الذي قام بتربية عبد العزيز هو أحد النصارى اسمه «أنستاس» أو «بار جومي»، ويقول ميخائيل السوري عنه: «إنه ذكي وكثير الاطلاع.»
66
وأكبر الظن أن هذه النشأة كان لها أثرها في عطفه على الأقباط.
وبالعكس يصور الرواة النصارى أخاه عبد الله في أبشع الصور؛ إذ لم يكتف هذا الوالي بإقرار ضريبة الدينار على رجال الدين، بل سجن أيضا البطريرك اليعقربي ليرغمه على إعطائه جزءا من ثروته، ويحدثنا عنه ساويرس قائلا: «لما وصل عبد الله بن عبد الملك إلى كورة مصر، فعل أيضا أفعال سوء، وكان جميع الأراخنة خائفين لفعله الذي حسنه له الشيطان ... وفي تلك الأيام، خرج الطوباني الإكسندروسي وسار إلى مصر ليسلم عليه كالعادة من البطاركة والولاة، فلما نظر إليه قال: «من هو هذا؟» قالوا له: «هذا أب وبطرك جميع النصارى»، فأخذه وسلمه لواحد من حجابه وقال له: «أفعل به ما تريد من الهوان إلى أن يقوم بثلاثة آلاف دينار»، فأخذه وأقام عنده ثلاثة أيام فلما نظر ذلك جرجه الشماس النمراوي، أنه ما يفرج عن البطرك إلا بعد أن يأخذ المال، تقدم إليه وقال له: «يا سيدنا تطلب نفس البطريك أو مال؟» فقال له: «أريد المال» فقال له الشماس جرجه: «ضمني إياه مدة شهرين أنحدر به إلى بحري أطلب له من الأراخنة والنصارى وأقوم لك عنه بثلاثة ألف دينار»، فسلمه إليه، فطاف به المدن والقرى على المؤمنين بالمسيح حتى حصل المال وجمعه.».
67
ويتهم ساويرس الوالي عبد الله بأنه حصل من أهل الذمة ثلثي دينار زيادة عما كانوا يدفعونه من قبل ويصفه الأسقف بأنه «كان محبا للمال جدا». «ويتهمه الكندي بأنه شجع الرشوة وملأ جيوبه بمال الجزية .».
68
ولم يكن قرة بن شريك، الذي خلف عبد الله في ولاية مصر، أقل حبا للمال من سلفه، ويقص علينا ساويرس أنه لما ذهب البطريرك اليائس إلى قرة ليهنئه بالولاية، كما جرى العرف، قبض عليه قرة وقال له: «الذي قبضه منك عبد الله بن عبد الملك تحتاج أن تقوم لي بمثله.» ويحكى المؤرخ عن قرة أيضا أنه اقتحم كنيسة الفسطاط مع نفر من الفساق المقربين إليه وبعض المهرجين، ومكثوا أمام الهيكل في أثناء أداء الصلاة.
إنها سنة استنها أحد الولاة الجشعين، فأصبح من المتعذر بعد ذلك أن يحال بين الولاة اللاحقين وبين نهجهم على منوال هذا السلف، وقد أرسل الخليفة سليمان بن عبد الملك إلى مصر أسامة بن زيد ليقوم على بيت المال، ويبدو أن هذا الرجل كان أكثر جشعا ممن سبقه، ويقول المؤرخون المسلمون والنصارى: إنه قام بمصادرة الأملاك بغير حق كما أسرف في القتل بصورة وحشية، ولقد جمع الرهبان وأخبرهم بوجوب الإبقاء على الرسم الذي فرضه عبد العزيز عليهم، كما أجبرهم على أن يطلبوا من رجال الضرائب خاتما من حديد تنقش عليه أسماؤهم وموعد دفع الضرائب، على أن يضعوا هذا الخاتم في أحد أصابعهم حتى إذا ما قبض على راهب وكانت يده عاطلة منه قطعت في الحال.
ويظهر أن أمر أسامة هذا دخل في دور التنفيذ، أما الرهبان الذين لجئوا إلى الأديرة واعتقدوا أنهم تمكنوا بهذه الطريقة الهرب من دفع الضريبة دون أن ينالهم أي عقاب، فقد قام رجال الشرطة بالبحث عنهم والقبض عليهم، ثم حكم عليهم بقطع رءوسهم أو جلدهم حتى الموت، وإلى جانب ذلك، أصدر أسامة أمرا يحتم على السكان، الذين يسافرون بطريق النيل شمالا أو جنوبا أن يحملوا جواز سفر مدموغا.
وقد كان لهذه الإجراءات أسوأ وقع في النفوس، إلا أن وفاة الخليفة حال في الوقت المناسب دون قيام ثورة في البلاد، لهذا لم يتوان عمر بن عبد العزيز بعد توليته الخلافة في سنة 101ه «719م» في عزل أسامة وتعيين أيوب بن شرحبيل مكانه بعد أن كلفه بتهدئة الخواطر وباستعمال اللين مع السكان، ثم أمره الخليفة بإلقاء القبض على أسامة ووضع حلقة من الحديد حول عنقه وتكبيل يديه وقدميه بأوتار خشبية، وسيق أسامة، وهو على هذه الحال، إلى مكان إعدامه، ولكنه مات في أثناء الطريق.
وقام عمر بن عبد العزيز بعمل آخر على جانب عظيم من الأهمية أكسبه عطف الأهالي وحبهم؛ إذ إنه أمر بإلغاء الجزية على الرهبان والأساقفة،
69
ولم يلبث أن أعيدت الضريبة مرة أخرى في عصر يزيد، وعاد الأقباط إلى سيرتهم الأولى من الشكوى من جور الولاة.
وفي خلافة هشام، أعيد تعيين حنظلة بن صفوان على مصر «119ه/736م»، وكان قد تولى هذا المنصب من قبل في عهد الخليفة يزيد، ولم يتبع حنظلة الخطط الحكيمة التي رسمها له الخليفة هشام، بل رفع الضرائب ولم يقتصر على فرض رسوم على الآدميين، بل تعداه إلى الحيوانات بعد أن أجرى إحصاء عاما لها، وفرض أيضا ضريبة الدمغة على الإيصالات.
وكانت للخليفة هشام سياسة حكيمة تخالف سياسة عامله السيئة، فقد كان يحاول كسب عطف الأقباط، الذين لم يفقدوا بعد نفوذهم في البلاد بدلا من إثارة غضبهم بفرض ضرائب جديدة، ولما ظلوا بدون بطريرك مدة من الزمن، أمر الخليفة بتنصيب رئيس ديني عليهم، وأمر أيضا بتسليم كل شخص سدد ضرائبه براءة رسمية باسمه حتى «لا يظلم أحد ولا يكون في مملكته ظلم»، ذكر الأسقف ساويرس كل هذا، ثم أردف قائلا: «كان هشام رجلا خائفا من الله على طريق الإسلام وكان محبا لسائر الناس.».
ويتضح من سرد هذه الحوادث أن ظلم الولاة للشعب كان في معظم الأحيان ناتجا عن أمور شخصية بحتة، ولم يلبث الولاة أن وجدوا من يقلدهم في تصرفاتهم، فلقد حذا حذوهم الموظفون الذين يعملون تحت إمرتهم، ويقول لنا ميخائيل السوري: «لما غادر المأمون مصر، تعددت المصائب على المصريين، وكان الفرس يدخلون القرى ويكبلون الذين يقاومونهم، كل عشرة أو عشرين معا، ويرسلونهم إلى الفسطاط دون أن يتأكدوا إذا كانوا مذنبين أم لا، وقد زهقت أرواح الكثيرين دون أن يقترفوا أي ذنب، وطلب بعض المقبوض عليهم، وهم في طريقهم إلى الهلاك، أن يقبل جلادهم منهم رشا في مقابل إطلاق سراحهم، وحينما صرفوا له المبلغ، قال لهم الرجل: انتظروا ريثما نقابل أناسا آخرين في الطريق فأكبلهم بالسلاسل مكانكم. ولم يلبثوا أن صادفوا ثلاثة رجال: كاهنا وعربيين كان أحدهما إمام مسجد فأطلق سراح الذين أعطوه الرشا، وألقى القبض على هؤلاء مكانهم.».
70
وكان استهتار الولاة بمصلحة مصر واضحا لدرجة أنه عندما اشتدت الدسائس والمؤامرات في بلاط بغداد في القرن الثالث الهجري، كان من النادر أن يترك شخص ذو نفوذ بلاط الخليفة ويعيش بعيدا عنه، وإذا اختير واليا على قطر من الأقطار، عين وكيلا عنه يدير شئون الحكم باسمه ويخصه بجزء من الدخل مقابل هذا التعيين.
وكان جمع المال هو الهدف الأول للولاة، ولذلك عانت البلاد أزمة اقتصادية شديدة قبل ظهور الدولة الطولونية؛ إذ قل المحصول بسبب استنزاف الحكومة لمواردها جزافا.
على أن معاملة الأمويين للشعوب المغلوبة كانت بصفة عامة أحسن من معاملة العباسيين لهم، فكثيرا ما استعمل هؤلاء القوة والعنف لابتزاز الأموال، وأكبر الظن أن حاجتهم الملحة إلى المال حالت دون اتباعهم سياسة اللين، وعلى كل، فإن تاريخ البطاركة اليعاقبة ما هو إلا سلسلة طويلة من الشكاوى، ابتدأت من عهد البطريرك الثاني والخمسين بعد القديس مرقص، وقد بلغ اليأس بأحد الأساقفة، واسمه قزمان، إلى حد جعله يتنازل عن سلطته لعلية القوم من طائفته، فجعلهم مسئولين عن تأدية المبالغ المستحقة للحكومة ثم انسحب إلى مدينة «دمرو». (4) ثورة الأقباط
أدرك الأقباط أنهم بالغوا في تفاؤلهم؛ لأن الحكومة مهما كانت متسامحة لا تستطيع أن تعيش دون جباية الضرائب، وزادت خيبة أملهم عندما أدركوا أن الفاتح الجديد كان يريد أن ينعم بثمرة انتصاره، لذلك لم يلبثوا أن وضعوا نصب أعينهم هدفا واحدا هو تغيير حكامهم الجدد والتحرر من ربقتهم.
وقف الشعب في أثناء الفتح موقف المحايد، الذي يعطف على العرب، ولكن بعض الأقباط الذين يسكنون ضواحي الإسكندرية انحازوا إلى البيزنطيين، وانضموا إلى صفوفهم عندما قام هؤلاء بهجوم مضاد على العرب ، وسبب هذا الانحياز - كما سبقت الإشارة إليه - أن عمرا أجاب بخشونة على صاحب «إخنا» عندما طلب إليه تحديد قيمة الضريبة الواجب دفعها للخزينة.
غير أن الأقباط لم يحركوا ساكنا بعد مقتل عثمان والانشقاق الذي حدث بين أنصار علي بن أبي طالب وأعدائه، وقد أثار هذا الموقف دهشة المستشرقين، ولكن الأكليروس القبطي - وكان وقتئذ هو الذي يمكنه إشعال نار الثورة - كان راضيا كل الرضا عن الاحتلال العربي؛ لأن عمرو أكرم بطريركهم كل الإكرام وأحاطه بالإجلال والاعتبار وطلب إليه نصائحه وبركته، وأمر بإعفاء رجال الدين من الجزية.
ولما قامت ثورة العباسيين على الأمويين، كان الموقف في مصر قد تغير كل التغير؛ لأن خلفاء دمشق فرضوا الجزية على رجل الدين وزادوا نسبتها على الشعب؛ وذلك لحاجتهم إلى المال مما أغضب الشعب لهذين الإجراءين فثار عام 107ه «725م» في أثناء خلافة هشام بن عبد الملك، وهذا دليل على عدم رضاء الأقباط - وعلى رأسهم رجال الدين - عن حكامهم.
وقد شاء القدر أن يلجأ مروان بن محمد، آخر الخلفاء الأمويين إلى مصر حيث اضطهد البطريرك قبل أن يكبله بالحديد، وكان هذا العمل بمثابة إيذان لانضمام النصارى كلهم إلى صف العباسيين «الخراسانيين كما كان يسميهم ساويرس بن المقفع»، وقد زودنا هذا المؤرخ بمعلومات على جانب عظيم من الأهمية عن أبناء ملته فقال: «كان بقية النصارى بمصر قالوا للخراسانيين: «هذا أبونا البطرك عند مروان ولا ندري ما يصنع به»، وكان البشامرة «أهل البشمور» قد لقوهم من الفرما وقالوا للخراسانيين: إن بطركنا قد أخذه مروان ليقتله بسبب أنا قاتلناه وقتلنا عسكره قبل مجيئكم إلينا، وكان الناس يقولون إن يد الرب مع الخراسانيين، وكانوا إذا وجدوا قوما عليهم علامة الصليب، يخففون عنهم الخراج ويرفقون بهم ويعملون معهم الخير في جميع البلاد، وصلبوا مروان منكسا بعد أن قتلوه، وجلب الخراسانيون أنبا خيال وأكرموه كرامة عظيمة.
71
ولما كان العباسيون أكثر دراية من عمرو، فقد عرفوا كيف يستعينون بالأهالي، الذين كانوا على استعداد لمساعدتهم ضد حكام البلاد، إلا أن كثيرا ما يعيد التاريخ نفسه؛ إذ قد وجد العباسيون أنفسهم مضطرين إلى فرض ضرائب باهظة، ويقول ساويرس في ذلك: «ولما كان في ثالث سنة من مملكة الخراسانيين، أضعفوا الخراج وأكملوه على النصارى ولم يوفوا لهم بما وعدوهم.».
72
وأدت هذه السياسة إلى تعدد الثورات في البلاد واستفحال أمرها، فقد قامت خمس ثورات مهمة بين سنة 121ه «739م» وسنة 156ه «773م».
ولكن نشبت أكبر ثورة في عام 216ه «831م» أيام خلافة المأمون؛ إذ سالت فيها الدماء وترتبت عليها نتائج رهيبة، وقد لوحظ انضمام عدد كبير من المسلمين إلى النصارى في ثورتهم، واختار الثوار أنسب الأوقات للقيام بحركتهم، حيث كان عدد كبير من الولايات في حالة ثورة، وإذا كانت الأطماع السياسية في الخارج هي التي حركت هذه الثورات، فإنها لم تقم في مصر إلا بسبب الضرائب كسابق عهدها، وكتب المقريزي في هذا الصدد: «لما كان في جمادى الأولى سنة 216، انتقض أسفل الأرض بأسره عرب البلاد وقبطها وأخرجوا العمال وخلعوا الطاعة لسوء سيرة عمال السلطان فيها، فكانت بينهم وبين عساكر الفسطاط حروب.».
73
وكان وجود البشموريين
74
في صفوف الثوار جعل القتال بدون هوادة، ويقول كاتب عربي ذكره المقريزي: إن هؤلاء القوم أكثر توحشا وتعنتا من سائر سكان مصر، وقد أقلقوا السلطات، ألم يناصبوا العرب العداء سبع سنوات بعد سقوط الإسكندرية في أيدي عمرو؟ ألم يكونوا أول من قام بإعلان الثورة ضد جباة الضرائب؟
ويذكر المستشرق «كاتريمير»
Et. Quatremere ، ضمن بحثه مخطوطا عربيا عن حياة ميخائيل، فيأتينا بتفاصيل وافية عن استعداد هؤلاء القوم للقتال، ويقول هذا المخطوط: «قام البشموريون بالثورة ضد عبد الملك وكان يقودهم مينا بن بكيرة، وقد انضموا إلى أهل شبرى سنباط واستولوا على هذه الناحية ورفضوا أن يدفعوا الجزية للحاكم وللقائم العام على شئون الضرائب، وقد سار إليهم عبد الملك على رأس جيش ، ولكنه لاذ بالفرار بعد مذبحة كبيرة، فأرسل إليهم عبد الملك جيشا وأسطولا ولكنهما باءا بالفشل الذريع، وعندما قدم الخليفة مروان مصر وأخبر بما حدث، كتب إلى البشموريين يعرض عليهم العفو العام ولكنهم رفضوا هذا العرض، فسير إليهم جيشا قويا مكونا من جنود مصريين وسوريين ، إلا أنها لم تستطع أن تلتحم بالثوار الذين اعتصموا في منطقة المستنقعات ذات الطرق الضيقة التي لا يمكن أن يمر خلالها سوى شخص واحد، إذا انزلقت قدمه في الوحل غاص فيه ومات حتما، واستطاعت الجيوش العربية أن تحاصر هذا المكان، ولكن عندما أسدل الليل ستاره، خرج البشموريون من معاقلهم وساروا في الممرات التي انفردوا بمعرفتها وما لبثوا أن انقضوا انقضاض الصاعقة على المسلمين فقتلوا منهم ما وسعهم القتل وسلبوا نقودهم وخيولهم.». «ولما دخل الكوثر بن الأسود - قائد قوات مروان - الإسكندرية، وأمر بسجن البطريرك ميخائيل بعد أن ضربه ثم أمر بقطع رأسه، وكان الأمر ينفذ وكانت يد الجلاد مرفوعة لتهوى على رقبة البطريرك، عندما اختلج قلب كوثر بعاطفة الشفقة وقال لصحبه: «ماذا نجنيه من قتل هذا الشيخ العجوز؟ لقد كتب إلى البشموريين يطلب إليهم الكف عن محاربتنا ولكنهم أبوا أن يعملوا بنصيحته، فلنأخذ معنا إلى رشيد ليكتب إلى هؤلاء القوم أنه بسببهم ما ناله من سوء المعاملة، وبينما كان الأمير في طريقه إلى رشيد، علم أن المدينة، وقعت في أيدي البشموريين الذين خربوها وأحرقوها بعد أن قتلوا من فيها من المسلمين.».
75
ولو كانت الثورة اندلعت في القطر المصري وحده بسبب الخلاف حول دفع الضرائب، لما قام الخليفة بالسفر إلى مصر لقطع دابرها، ولكن صادف أن أعلن نصر بن شباث في الوقت نفسه الثورة على الخلافة، واعتمد في حركته على السوريين الذين ظلوا مخلصين لبني أمية، كما وصل أسطول حربي من الأندلس ورسا في ميناء الإسكندرية، فقلق المأمون كثيرا وخشي استفحال الصورة؛ لأن المصريين لا يتورعون على الاتفاق مع الأمويين، الذين لجئوا إلى إسبانيا كما اتفقوا مع العباسيين ضد الأمويين.
ولا بد أن ميخائيل السوري كان يعني ما يقوله عندما كتب: «أعلن نصر وصحبه الثورة في الشام وحثوا في آن واحد المصريين على الثورة.».
76 «واستولى عليها رجلان هما سري وجوري،
77
وبعد أن جلبا الذهب بمقدار الأحجار، أخذا يحصلان الجزية «باسمهما»، ولما توفيا خلفهما ولداهما: فتولى عبيد بن ساري على الفسطاط والجنوب، وحكم أحمد
78
الشمال، أما الإسكندرية، فقد استولى عليها قوم جاءوا من بلاد الأندلس.».
79
وعلى الرغم من أن البطريرك يوساب عمل جاهدا لإقناع البشموريين على عدم ارتكاب أعمالهم العدوانية، نرى ساويرس يبرر ثورتهم فيقول: عامل العرب البشموريين على الأخص في غاية من القسوة، فقد ربطوهم بسلال إلى المطاحن وضربوهم بشدة ليطحنوا الغلال كما تفعل الدواب سواء بسواء، فاضطر البشموريون أن يبيعوا أولادهم ليدفعوا الجزية ويتخلصوا من آلام العذاب، ولما اقتنعوا نهائيا أن هذا الظلم لا يحده إلا الموت، وأن بلادهم كلها مستنقعات تخللها الطرق الضيقة التي ينفردون بمعرفتها، وأنه يعد من المستحيل على جيوش المسلمين أن يغزوها، فقد اتفقوا جميعا على إعلان الثورة ورفضوا دفع الجزية ... وكان البطريرك يوساب يذوب حسرة على رعيته التي تحالف على إفنائها الطاعون والمجاعة والحرب، غير أن البشموريين وطدوا عزمهم على مواصلة القتال وأخذوا يصنعون لأنفسهم الأسلحة وحاربوا الخليفة علانية ورفضوا دفع الجزية على الإطلاق، ووصلت بهم الحال أنهم قتلوا كل من جاء إليهم ليقوم بعمل الوسيط بينهم وبين السلطة، وقد تحسر البطريرك عليهم؛ لأنهم خاضوا غمار الحرب ضد عدو يفوقهم في العدد والعتاد.
وتعرضوا للموت بحكم إرادتهم، فكتب إليهم خطابا حاول فيه أن يقنعهم بعدم قدرتهم على مقاومة الخليفة بالسلاح، ويصف لهم المصائب التي ستحيق بهم ويطلب إليهم أن ينصرفوا عن عزمهم، ولما اتضح له أن هذا الخطاب لم يؤثر فيهم، أرسل الخطاب تلو الخطاب ملحا في رجائه، ثم لما قدم الأساقفة حاملين معهم هذه الرسائل، انقض عليهم البشموريون وجردوهم من ملابسهم وأمتعتهم وطردوهم بعد أن أوسعوهم سبا وشتما، ولما عاد هؤلاء الأساقفة إلى البطريرك وقصوا عليه كل ما حدث لهم، قرر البطريرك أن يترك هذا الشعب لمصيره.
80
وكان المأمون في ذلك الحين قائما في سوريا، فخف إلى مصر بعد أن منح عفوه إلى نصر الثائر، وكان بطريرك «تل مهرة» «ديونيسيوس» نازلا في دمشق، فأرسل إليه المأمون خطابا يقول فيه: «امكث هنا لتأتي معنا إلى مصر؛ لأننا نريد منك أن تذهب كسفير عند «البياماي»
81
في مصر السفلى وتقنعهم بالكف عن القتال والعودة إلى الطاعة.».
82
ولنترك الآن ديونيسيوس يحدثنا بنفسه عما طرأ: «عندما وصلنا إلى مدينة الفرما، استدعاني الملك وقال لي: «لقد علمت أيها البطريرك بنبأ ثورة النصارى المصريين المعروفين باسم البياماي، وأنهم لم يكتفوا بالخراب الذي أصابهم من جراء هجومنا الأول عليهم، ولولا تسامحي وعدم تفكيري في القضاء عليهم لما أرسلت إليهم رجلا مثلك، خذ معك المطارنة الذين بصحبتك وسائر المطارنة المصريين واذهب لمقابلتهم وفاوضهم بشرط أن يسلموا الثوار، وليأتوا معي ومع جيشي إلى المكان الذي أعينه فأسكنهم فيه، فإذا رفضوا فإني سأقتلهم بالسيف.»، ولما حدثت الخليفة طويلا على أساس أن يخضع البشموريين لحكمه ويتركهم في بلادهم أجاب بالنفي وقال: «لا! فليخرجوا من البلاد أو يتعرضوا للقتل.».
ثم يستأنف ديونيسيوس قصته قائلا: «لقد وجدناهم مجتمعين وقد احتموا في جزيرة محاطة بالمياه والخيزران والغاب من كل جهة، فخرج إلينا رؤساؤهم وتقدموا نحونا، ولما وجهنا إليهم اللوم على الثورة التي أشعلوها والمذابح التي اقترفوها، أنحوا باللائمة على من كان يحكمهم.»
83
إلا أنهم عندما علموا بوجوب الخروج من بلادهم، حزنوا حزنا شديدا، ورجونا أن نبعث إلى الملك برسالة نطلب إليه فيها أن يسمح لهم بالمثول بين يديه ليقصوا عليه كل ما احتملوه من الهوان. «وقالوا: إن أبا الوزير الوالي
84
كان يرغمهم على دفع جزية لا يستطيعون تحملها، وكان يسجنهم ويربطهم إلى الطواحين ويضربهم ضربا مبرحا ويضطرهم إلى طحن الحبوب كالدواب تماما، وعندما كانت تأتي نساؤهم إليهم بالطعام، كان خدمه يأخذونهن ويهتكون عرضهن، وقد قتل منهم عددا كبيرا، وكان عازما على إبادتهم عن بكرة أبيهم حتى لا يشكوه إلى الملك ... ولما عدنا إلى الملك، أخبرناه بالظلم الواقع على المصريين وجور الوالي، وبعد أن قدمت له تقريري قال لي: أنا غير مسئول عن سياسة ولاتي؛ لأني لم أمل عليهم هذا الموقف الذي اتبعوه، أنا لم أفكر قط في إرهاق الناس، وإذا كنت قد أشفقت على الروم وهم أعدائي، فكيف لا أشفق على رعيتي؟».
85
ويحدثنا المؤرخون المسلمون على أن المأمون، حينما وصل إلى مصر، عنف الوالي عيسى بن منصور تعنيفا شديدا وعزله قائلا: «لم يكن هذا الحادث العظيم إلا عن فعلك وفعل عملك، حملتم الناس ما لا يطيقون وكتمتوني الخبر حتى تفاقم الأمر واضطربت البلاد.».
86
وعلى الرغم من نصائح رجال الأكليروس المتلاحقة، رفض البشموريون التسليم، فلم يكن من المأمون إلا أن سحقهم سحقا وقتل عددا كبيرا منهم، ثم أرسل في طلب رؤسائهم «وأمرهم أن يغادروا هذه البقعة غير أنهم أخبروه بقسوة الولاة المعينين عليهم، وأنهم إذا غادروا بلادهم لن تكون لهم موارد للرزق؛ إذ إنهم يعيشون من بيع أوراق البردي وصيد الأسماك، وأخيرا رضخوا لأمره وسافروا على سفن إلى أنطاكية حيث أرسلوا إلى بغداد
87
وكان يبلغ عددهم ثلاثة آلاف مات معظمهم في الطريق، أما الذين أسروا في أثناء القتال، فقد سيقوا عبيدا ووزعوا على العرب، وبلغ عدد هؤلاء خمسمائة فأرسلوا إلى دمشق وبيعوا هناك.».
88
واستطاع المأمون أن يطفئ جذوة الثورة الوحيدة المستقرة في البلاد، وكتب المقريزي في هذا الشأن: «ومن حينئذ أذل الله القبط في جميع أراضي مصر وخذل شوكتهم فلم يقدر أحد منهم على الخروج ولا القيام على السلطان، وغلب المسلمون على القرى فعاد القبط بعد ذلك، إلى كيد الإسلام وأهله بأعمال الحيلة واستعمال المكر وتمكنوا من النكاية بوضع أيديهم في كتاب الخراج.».
89
ويجدر بنا أن نذكر هنا أنه بينما كان البشموريون يقاتلون قتال اليائس في ثورتهم الأخيرة التي يخرج منها المقريزي بنتائج عن جانب عظيم من الخطورة، لم يسجل المؤرخون أية ثورة للأقباط في أية بقعة أخرى من القطر، والواقع أن الأقباط لم يلجئوا بعد ذلك إلى أسلوبهم القديم، كما يقول المقريزي؛ لأنهم لم يكن لديهم أبدا غير هذا الأسلوب، ولما قامت الثورات، اشترك فيها الأقباط بتشجيع من العناصر الأجنبية سواء كانت هذه العناصر من المسلمين أو من البشموريين «وهم مزيج من الأقباط واليونانيين»، ولما أبيد البشموريون عن بكرة أبيهم، لم يحاول الأقباط القيام بأية حركة ثورية عامة. (5) الفوائد التي جناها الأقباط (5-1) الأقباط يحتكرون الأعمال الإدارية
إن الأحداث التي ذكرناها لا تعني بأن الأقباط كانوا تعساء تحت حكم الولاة العرب، بل كانوا أسعد كثيرا مما كانوا عليه أيام البيزنطيين، وبالرغم من جهود الخلفاء واهتمامهم بتطبيق تعاليم القرآن، فإن الأقباط لم يقتصروا على شغلهم معظم الوظائف الإدارية فحسب، بل كان لهم الأمر والنهي في بعض الأحيان، وبقي نظام الضرائب والحسابات بين أيديهم مما أتاح لهم الفرصة لتحقيق مكاسب كبيرة، وكذلك يمكننا أن نقول إنه فيما يتعلق بالأقباط ظلت تعاليم القرآن غير معمول بها.
وقد أظهر الخلفاء مرارا رغبتهم في إبعاد الأقباط من الوظائف الإدارية، كما أنهم أظهروا خيبة أملهم - شفهيا إن لم يكن كتابيا - كلما وجدوهم في مناصبهم، ولكن دراية عمرو بن العاص السياسية تغلبت على تزمت عمر الديني، ولما تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة بعد مضي قرن من فتح مصر، ذكر حكام الأقاليم بواجبهم، ووجه إليهم رسالة قوية قال فيها: «عمر بن عبد العزيز يقرأ لكم كلمات الله هذه «وهنا ذكر بعض الآيات القرآنية الخاصة بالذميين»، لقد سمعت أنه فيما مضى، عندما كانت الجيوش الإسلامية تدخل البلاد، كان المشركون يذهبون لمقابلتهم وأن المؤمنين يطلبون معاونتهم في إدارة البلاد لسدادة رأيهم ودرايتهم في الشئون الإدارية وجباية الضرائب، ولكن لا يوجد الرأي السديد ولا الدراية عند الذين يستأثرون غضب الله ورسوله، ثم إن الله أمر بنهي هذه الحالة، ولا أود أن يخبرني أحد بأن واليا ترك في ولايته عاملا يدين بعقيدة غير العقيدة الإسلامية، وأني سأقبل هذا الوالي في الحال، وأنه من الواجب علينا أن نبعد الذميين من الوظائف كما أنه من الواجب علينا أن نقضي على دينهم، فليخبرني كل وال عما فعله في ولايته.
90
ولما تلقى أيوب بن شرحبيل هذه الرسالة، ألغى امتياز الأقباط الخاص بإدارة أموال المقاطعات وأحل المسلمين محلهم.
91
ومع ذلك، لم يمض خمسة وثلاثين عاما على إصدار هذا الأمر حتى أخطر الخليفة العباسي المنصور بوجوب إصدار أوامر دقيقة بخصوص إبعاد الذميين من الوظائف، نعم إن هذا الإجراء لم يمهد له من قبل، بل كان ابن ساعته، فقد حدث أن تقدم إلى الخليفة بعض المسلمين، في أثناء حجة له، والتمسوا منه أن يحميهم من جور النصارى، بعد أن أذن لهم الخليفة بأن يتدخلوا في شئون المسلمين وأن يخبروه بكل ما يعلمونه خاصة بالأمويين، فما كان من المنصور إلا أن قال لكاتم أسراره: «هذا ختمي، خذه وابعث بأمره لطلب جميع المسلمين الذين لهم دراية في العمل، واكتب إلى جميع الولاة لكي يفصلوا الذميين من الخدمة.»، ولما كان كاتم أسراره مقتنعا من أن هذه الأوامر لن تدخل في دور التنفيذ، أجاب الخليفة بقوله: «لم أفعل شيئا مما أمرتني به؛ لأني على يقين من أن الذميين إذا أثير غضبهم، فعلوا الدسائس ضدنا.».
92
والواقع أن الذميين لم يقالوا أبدا دفعة واحدة من وظائفهم، بل أصبحوا في خلافة المهدي أصحاب الأمر والنهي، وأظهروا كبرياءهم حتى سخط عليهم المسلمون واحتجوا على ذلك: فأمر الخليفة حينئذ ألا يترك الوالي بجانبهم أي كاتب ذمي، وأمر أيضا بقطع يد المسلمين الذين يستعينون بكاتب نصراني
93
أما الخليفة المهدي الذي كان يوصي حكامه بأن يتخلصوا من موظفيهم الذميين، فلم يحاول قط تطبيق المبدأ الذي كان ينادي به، وقد استمر النصارى يتمتعون بشغل الوظائف الإدارية كما كان حالهم في الماضي، وأحسن دليل على ذلك ما صرح به المأمون لكاتم سره لما كان في مصر؛ «سئمت من الشكاوى التي أتلقاها ضد النصارى بخصوص اضطهادهم المسلمين، وعدم نزاهتهم في إدارة الشئون المالية.».
94
وكذلك اكتفى عمر بن عبد العزيز والمنصور والمهدي وهارون الرشيد والمأمون والمتوكل والمقتدر بالله بأن يعزلوا اسميا النصارى من الوظائف العامة، ولكنهم في الواقع تركوهم في مراكزهم. (5-2) امتناع تنفيذ الأوامر الخاصة بزي النصارى
أذن عمرو للأقباط بارتداء زي المسلمين،
95
فلم ينلهم من ذلك الحين أي ضغط من هذه الناحية، والواقع أن الخليفة والوالي لم يفكروا حتى عام 233ه «848م» في إلغاء هذا الإذن، وقد رأى عمر بن عبد العزيز في الوقت الذي أمر فيه بعزل أهل الذمة من الوظائف العامة أن يذكروا ولاته بشروط عمر، فيقول لنا ابن البطريق: «لم يزل النصارى يلبسون السواد ويركبون الخيل في أيام المتوكل، أما المتوكل، فكتب إلى جميع البلدان أن يأخذوا النصارى بلباس العيار والرقاع في الدراريع رقعة من قدام ورقعة من خلف، وأن يمنعوا من ركوب الخيل،
96
وأن تصير في سروجهم أكر ويركبون بركب خشبي، وتصور على أبواب دورهم صور الشياطين، وفي نسخة أخرى صور «الخنازير القرود» فقال النصارى من هذا إذاء شديد وحزن وغم.».
97 (6) اتجاه العرب إلى اتباع سياسة استعمارية
أظهرنا كيف تأثر العرب والأقباط على السواء بالاعتبارات المالية، وقد ظل المال في الواقع مدة طويلة العامل المهيمن على علاقاتهم، ويقول المستشرق جاستون فييت: «كان الخلفاء الأولون يعتقدون، في الخمسين سنة التي تلت وفاة النبي، بعدم استطاعتهم تكوين إمبراطورية إسلامية.»
98
لذا وجدنا أن المال، خلال هذه الفترة التي كان العرب في حاجة ماسة إليه، أصبح الرائد لسياستهم حيال الشعوب المغلوبة، ولم تمكنهم عدم خبرتهم انتهاج سياسة استعمارية سليمة، كما أن المنازعات الداخلية التي قامت مبكرة في الإمبراطورية الجديدة لم تسمح لهم باتباع سياسة بعيدة المدى.
بزغت شمس الإمبراطورية العربية في عهد الأمويين، فلما أصبحت حدودهم في مأمن من الخطر، أخذ الخلفاء يعملون على طبع البلاد المحتلة بطابع عربي إسلامي.
والأمثلة عديدة، لما وضع عمرو نظاما للعدل في مصر، احترم إرادة الأقباط بأن جعلهم يحاكمون أمام قضاة من جنسهم ودينهم فيما عدا الحوادث الجنائية، ولكن ما أن تولى معاوية بن أبي سفيان الخلافة عام 60ه «664م» إلا وعين إلى جانب القاضي القبطي قاضيا مسلما ليحكم في القضايا المدنية الخاصة بأهل الذمة، وفي عام 124ه «745م»، قرر حفص بن الوليد توزيع ميراث الذميين حسب تعاليم الشريعة الإسلامية لا حسب قوانينهم الخاصة،
99
وقرر عمر بن عبد العزيز أنه إذا قتل عربي نصرانيا، لن يحكم عليه بالإعدام، بل يطلب إليه أن يدفع فدية قدرها خمسة آلاف «زوزة» ثم منع خصم مبالغ على إيراد المساكن والمواريث والأراضي لمصلحة الكنائس والأديرة والفقراء.
100
وما هذه إلا أمثلة تدل دلالة واضحة على الروح التي كانت سائدة في هذا العصر، وهذه الروح أخذت تزداد قوة؛ إذ كان العربي المنتصر يريد إظهار تفوقه على الذمي المقهور.
ولكن الأمر الذي كان له أكبر أثر في حياة الأقباط الاجتماعية، هو القرار الخاص باستعمال اللغة العربية في المعاملات الرسمية، وقد صدر هذا القرار عام 85ه «705م» في ولاية عبد الله بن عبد الملك،
101
فأخذ الأقباط يهملون تدريجيا دراسة اللغتين اليونانية والقبطية وتعلموا اللغة العربية التي أصبحت لغة الأعمال، وقبيل ذلك، كان العرب قد اتخذوا قرارا عمليا في هذا المضمار، فتعلم بعضهم اللغة القبطية، ويذكر لنا الكندي مثل القاضي خير بن نعيم «120-738» الذي «كان يسمع كلام القبط بلغتهم ويخاطبهم بها، وكذلك شهادة الشهود منهم ويحكم بشهادتهم.»
102
مما جعلنا نفرض أن بعض الموظفين درسوا اللغة القبطية ليوطدوا الصلة بينهم وبين الشعب. ويذكر «رينودو» أن «البطريرك يوساب عندما وجه كلامه باللغة القبطية إلى المطارنة الذين جاءوا يتهمونه، فهم بعض المسلمين ما قاله البطريرك ونقلوه إلى القاضي.».
103
قلق العرب من سرعة إقبال الأقباط على دراسة اللغة العربية وخاصة القرآن؛ إذ كانوا يعتقدون أنهم سيضطرون الأقباط إلى ترك وظائفهم إذا أمروهم باستعمال لغة القرآن في الأعمال الرسمية، ولذلك أصدر الخليفة المتوكل في سنة 235ه «849م» نشرة يحذر فيها من توظيف النصارى واليهود ومن تعليمهم اللغة العربية،
104
ويضيف أبو الفرج بن الجوزي في تاريخه لعام 240ه «854م» أنه طلب إلى الذميين أن يعلموا أبناءهم اللغتين العبرية والسريانية بدلا من اللغة العربية.
105
زد على ذلك أنه كلما تضخم عدد الذين اعتنقوا الإسلام، ظهر للأغلبية أن النصارى ما هم إلا عنصر مناوئ في وسط المجتمع الإسلامي، وكان المسلمون يميلون إلى اعتبارهم حلفاء طبيعيين للإمبراطورية البيزنطية المسيحية، فتحملوا لذلك رد فعل العرب بين حين وآخر، ويؤكد ميخائيل السوري أن عمر بن عبد العزيز أساء معاملة النصارى؛ لأن جيوشه اضطرت إلى رفع حصار القسطنطينية بعد أن تحملت خسائر فادحة.
106
وغضب أيضا المهدي على النصارى؛ لأن بعض الفرق البيزنطية هزمت ابنه هارون الرشيد وقائدين من قواده، «وقد أرسل المهدي أيضا محتسبا لهدم الكنائس التي بنيت في عهد العرب، وأمر ببيع العبيد النصارى وخرب عددا كبيرا من المعابد.».
107
ثم جاء هارون الرشيد ففرض على الذميين زيا خاصا؛ ذلك لأن سكان الحدود كانوا يتجسسون لمصلحة الإمبراطور «نقيفور» البيزنطي، ولكن يلوح أن الإجراء لم ينفذ إلا في مدينة بغداد، أما أقباط مصر، فلم ينلهم منه شيئا.
ولما انتقل الحكم إلى الولاة المستقلين وضعوا حدا للسياسة التي كان يتبعها الخلفاء، ونعم النصارى مرة أخرى بشيء من التسامح للأسباب التي سنبينها في الباب التالي.
هوامش
الفصل الخامس
سياسة الولاة المستقلين
الدولة الطولونية والدولة الإخشيدية
استقبل الطولونيون والإخشيديون حكومة مصر مع أنهم ظلوا اسما تحت سلطان الخلافة العباسية، ويقول المستشرق «بيكر» في هذا الصدد: «يبدأ التاريخ الخاص بمصر الإسلامية بالطولونيين، ولما كان أحمد بن طولون مستقلا عن السلطة المركزية، فلم يعمل فقط على استغلال البلاد، بل حرص دائما على أن تنتج هذه البلاد باستمرار حتى يعلو صيت أسرته، وبذلك تحولت مصر من ولاية بسيطة إلى مركز لإمبراطورية عظيمة، وتحسنت أحوال الإدارة، وارتفع مستوى المعيشة كما هي الحال في مختلف العصور التي كان لمصر خلالها حكومة ثابتة الأركان.»
1
وكان لهذا الوضع الجديد نتائجه الطبيعية، ومن ضمن النتائج البارزة أن الولاة المستقلين لم يعتمدوا على الخليفة بل كانوا على أهبة الاستعداد لمواجهة أعدائه، فأرادوا أن يكتسبوا عطف عناصر الشعب، ومن بينهم الأقباط.
على أننا لا نستطيع التقدير، على وجه التدقيق، الحد الذي وصلوا إليه في تسامحهم؛ ذلك لأن عهد الطولونيين والإخشيديين كان قصيرا للغاية؛ حيث لم يمتد إلى أكثر من خمسين سنة، بينما لا تعطينا المصادر التي عثرنا عليها إلا معلومات يسيرة عن العلاقات بين المسلمين والأقباط.
ومع ذلك، فإننا نعلم أن ابن طولون بدأ عهده بإجراء حاز قبول المسلمين والنصارى على السوء، فقد قرر إلغاء جميع الضرائب الهلالية التي فرضها صاحب الخراج أحمد بن المدبر، ولما أبعده ابن طولون، جمع بين يديه السلطات المدنية والعسكرية والإدارة السياسية والمالية، وعني الوالي أول ما عني بإلغاء الضرائب وإبطال طرق العنف، التي كانت تصحب جبايتها، ولا غرابة إذا نقصت حصيلتها مائة ألف دينار منذ السنة الأولى.
وقد اطمأن الشعب لهذا الإجراء وعاد إلى عمله، ويؤكد بعض رواة العرب أن قيمة الضرائب، التي جلبت إلى بيت المال لم تبلغ سوي ثمانمائة ألف دينار في أول هذا العهد بينما بلغت أربعة ملايين وثلاثمائة ألف دينار قبل وفاة ابن طولون، وقدرت ثروة الوالي الشخصية بأكثر من عشرة ملايين دينار.
وفي هذا العهد لم يعامل النصارى واليهود معاملة سيئة بوجه عام، ولم يشتكوا من أحد، هذا مع العلم بأن بطريرك اليعاقبة دخل السجن لعدم دفعه غرامة حكم عليه بها.
إذا كيف نستطيع أن نعلل تسامح ابن طولون مع أهل الذمة وقسوته على بطريرك الأقباط؟ نقرأ في مخطوط قبطي يرجع إلى هذا العهد
2
أن ابن طولون لم يكن يعامل جميع طبقات الشعب على قدم المساواة، فكان يفضل الأتراك على بقية المسلمين، والملكيين على سائر النصارى، وكان يميل إلى اعتبار بطريرك اليعاقبة خصما خطيرا له، وكان ينتهز كل فرصة تسنح له ليوقع عليه الغرامات حتى تظل كنيسته في حالة فقر مدقع.
وهذه المعاملة تجعلنا نعتقد أيضا أن البطريرك أبى أن يحرج مركزه بتقديم ولائه الكلي إلى ابن طولون منذ اللحظة الأولى؛ لأن الخليفة لم يعترف بابن طولون كوال شرعي على مصر.
وعلى أية حال، لم يشك النصارى من معاملة ابن طولون لهم، وينقل لنا المؤرخ البلوي حديثا دار بينه وبين رهبان دير القصير
3
نقتطف منه ما يلي: «كان الأمير أحمد بن طولون كثيرا ما يتردد علينا ويعتكف في صومعة من صوامعنا ويتأمل، وكان يتحدث بصفة خاصة مع راهب اسمه أنطون.»
4
وقد استفاد الرهبان بطبيعة الحال من هذه العناية ولما تقدموا إلى ابن طولون بالشكوى من ثقل الجزية المفروضة عليهم، منحهم بعض الامتيازات، ثم كف أيدي رجاله عنهم، ويحكى أن ضابطا سلب من راهب، بطريق التهديد، خمسمائة دينار، فاشتكى الراهب أمره إلى الوالي، فأمره بإعادة المبلغ إليه.
5
وكان ابن طولون لا يأنف من إلحاق بعض الجنود المرتزقة من اليونانيين بجيشه، ولا يستنكف إذا ما أصيب بمرض عضال، أن يطلب من أفراد شعبه على اختلاف أديانهم الابتهال إلى الله ليمن عليه بالشفاء، ويقول والمؤرخ البلوي في هذا الصدد: «لما رأى ابن طولون اشتداد العلة، أحضر خواصه وقال لهم: استهدوا لنا الدعاء من الناس كافة وسلوهم الخروج إلى الجبل والتضرع إلى الله جل اسمه بالمسألة له في عافيته لنا، فشاع هذا القول منه في الناس، فخرج المسلمون بالمصاحف إلى سفح الجبل وتضرعوا إلى الله في أمره بنيات خالصة لمحبتهم له ... فلما رأى اليهود والنصارى ذلك من المسلمين، خرج الفريقان، النصارى معهم الإنجيل، واليهود معهم التوراة ... وارتفعت لهم ضجة عظيمة هائلة حتى سمعها في قصره، فبكى لذلك.».
6
وقد زاد هذا العطف في عهد خمارويه الذي أراد، عندما جلس على أريكة الحكم، أن يصحح خطأ والده، وكان البطريرك القبطي ميخائيل، عندما توفي ابن طولون، لا يزال سجينا لوشاية من بعض أفراد الطائفة القبطية نتيجة إقالة البطريرك أسقف اسمه «سقا» لسوء سلوكه وخروجه على النظم الكنسية، فحقد الأسقف على رئيسه وأراد أن ينتقم منه فاتهمه بأنه يملك ثروة طائلة، وكان ابن طولون في ذلك الوقت يعد حملته على سوريا، ولما كانت خزانته خالية من المال، فقد استدعى هذا البطريرك، وأمره بأن يودع ما عنده من الكنوز في خزينة الدولة، محتجا بأن الرهبان النصارى لا يجوز لهم إلا الاحتفاظ بالمال الذي يقوم أودهم ويستر عوراتهم طبقا لشريعتهم، كما أكد له ذلك الأسقف «سقا»، وحاول البطريرك عبثا أن يبرهن على افتراء الأسقف فيما ادعاه، ولكن ابن طولون زجه في سجن ضيق ظل فيه سنة كاملة، وتمكن يوحنا وإبراهيم بن موسى كاتما سر ابن طولون من إطلاق سراح البطريرك تحت ضمانتهما، على أن يدفع النصارى التابعين له مبلغا كبيرا من المال، فاضطر البطريرك إلى توقيع سند عليه بعشرين ألف دينار، تعهد بسدادها على دفعتين، ولكنه لم يستطع دفع القسط الأول إلا بصعوبة، وبعد أن قام بعقد القروض وبيع الأراضي التابعة للكنيسة؛
7
ذلك لأن المبالغ التي فرضها البطريرك لهذه المناسبة على كل نصراني كانت بعيدة من أن تفي بالمطلوب، ولما كان البطريرك في حالة لا تسمح له بدفع ما تعهد به، فقد أعيد إلى السجن بعد أن اعتكف في دير القديسة مريم، بالقرب من قصر الشمع في ضواحي الفسطاط، وظل في السجن إلى أن توفي ابن طولون، ولما تولى خماروية الحكم، أمر بإطلاق سراح البطريرك من السجن وأعفاه من التزاماته.
وحذا خمارويه حذو أبيه بزياراته لدير القصير التابع للملكيين وأمر ببناء منظرة فيه، ويقول أبو صالح الأرمني:
8
إن خمارويه كان يطيل التأمل في صناعة الفسيفساء في هذا الدير، وهي تمثل صور العذراء والمسيح وصور التلاميذ الاثني عشر.
ولم يشد المؤرخون النصارى بتسامح الإخشيديين كما أشادوا بتسامح الطولونيين، فهم يتهمون مؤسس هذه الأسرة، محمد بن طغج الإخشيدي، بأنه عندما عجز عن دفع مرتبات الجنود، اضطهد أهل الذمة وابتز منهم المال الكثير، مما اضطرهم إلى تصفية بعض أملاك الكنائس، لذلك امتنعوا عن الكلام عن حادث من أهم حوادث تاريخ مصر الإسلامية ألا وهو اشتراك أمير مسلم، بصفة رسمية، في حفلة دينية مسيحية؛ أي: عيد الغطاس، الذي كان يحتفل به الأقباط احتفالا فخما عظيما، وقد ترك لنا المسعودي وصفا دقيقا لهذا الحادث، قال: «لقد حضرت سنة 330 ليلة الغطاس بمصر والإخشيد محمد بن طغج، أمير مصر، في قصره المعروف بالمختار في جزيرة الروضة الراكبة للنيل والنيل يطيف بها، وقد أمر فأسرج في جانب الجزيرة وجانب الفسطاط ألف مشعل غير ما أسرج أهل مصر من المشاعل والشمع، وقد حضر في النيل في تلك الليلة ألوف من الناس من المسلمين والنصارى، منهم في الزوارق ومنهم في الدور المشرفة على النيل، ومنهم على الشطوط لا يتناكرون كل ما يمكنهم إظهاره من المأكل والمشرب وآلات الذهب والفضة والجواهر والملاهي والعزف والقصف، وهي أحسن ليلة تكون بمصر وأشملها سرورا، ولا تغلق فيها الدروب ويغطس أكثرهم في النيل ويزعمون أن ذلك أمان من المرض ونشر الداء.».
9
نعم، إن عهد كافور قد تخللته الحروب التي شنها الإمبراطور البيزنطي «نيقفور فوكاس» على حدود سوريا، فأصاب فيها نصرا كبيرا، ولكن بالرغم من أن الأغلبية في مصر كانت تحقد على هذا العمل كل الحقد، وبالرغم من أن الشعب كان يثير الشغب بعد كل موقعة يشترك فيها البيزنطيون ويهاجم النصارى ويخرب كنائسهم، فإن هذه المظاهرات لم تشجعها السلطات التي كانت تلجأ في الحال إلى القوة لإخمادها، ويؤيد هذا المستشرق جاستون فييت عندما يقول: إن الحكومة لم تكن لها يد في هذه الاضطرابات الشعبية
10
بل بالعكس فإن الخليفة أصدر عام 313ه «925م» مرسوما لتهدئة النفوس في أنحاء الإمبراطورية الإسلامية أعلن فيه أن الجزية لن تفرض على الأساقفة والرهبان والعلمانيين المعوزين.
ولسوء الحظ، أن قوة الإخشيديين أخذت تضعف، فلم يتمكنوا من حماية الأقليات حماية جدية في سوريا، وعلى الرغم من المساعدات التي قدموها لبطريرك مدينة القدس ضد بعض القواد الطامعين، فإنهم لم يستطيعوا إنقاذه من القتل،
11
غير أن سقوط الإخشيديين وظهور الفاطميين جعل النصارى يتمتعون بالنفوذ والرغد لبضع سنين.
هوامش
الفصل السادس
عظمة الأقباط واضمحلالهم في عهد الفاطميين
بينما كانت سياسة الولاة نحو الأقباط تقوم على قواعد واستثناءات معينة، تعرضت سياسة الفاطميين، التي كانت مبنية بوجه عام على التسامح، لتغييرات محسوسة جدا حسب الاستعداد الشخصي للولاة، الذين تبوأوا الحكم، وكان الفاطميون ينتقلون من التسامح الكامل إلى الاضطهاد الشنيع، فبعد أن مهدوا لأهل الذمة عصرا زاهرا، لم يكونوا يتوقعونه، عادوا فقضوا عليهم قضاء نهائيا.
وليس بعجب إبداء هذا التسامح من خلافة مستقلة وطدت أركانها في مصر من قريب، وكان لها أعداء أقوياء بيزنطيا وبغداد، ولا سيما أنه لم يكن في استطاعتها الاعتماد على مساعدة السنيين المخلصة، ولقد انتهج الطولونيون والإخشيديون هذه السياسة لمصلحتهم الشخصية، وعلى أية حال، فإن استيلاء الفاطميين على الحكم أثار كالعادة آمال الأقباط ، مما جعلهم يقدمون إليهم يد المساعدة.
على أن الفاطميين، لما وصلوا إلى مصر، عملوا في الحال على كسب عطف السنيين وتقديرهم، وكان هذا إجراء عمليا من لدنهم، فإن أول خطبة ألقاها الخليفة المعز لدين الله، وذكرها معظم المؤرخين، تتضمن هذا الاتجاه، فقد صرح الخليفة للجموع التي خفت لاستقباله بالقرب من منارة الإسكندرية «أنه لم يسر إلى مصر لازدياد في الملك أو المال، وإنما سار رغبة في الجهاد ونصرة المسلمين وإقامة الحق والسنة.».
1
ولم يتردد المعز ومن جاء بعده أن يستعينوا بالنصارى واليهود أو بالذميين، الذين اعتنقوا حديثا الديانة الإسلامية، ليبلغوا هدفهم المقدس، وكان جوهر القائد المظفر، عبدا يونانيا قدم كهدية إلى الخليفة المعز، ومن هنا كني بالرومي، أما اليهودي يعقوب بن كلس، فقد اعتنق الإسلام في ظروف لا تؤيد بأي حال صدق عواطفه الدينية، كان أصله من بغداد وقدم إلى مصر في عهد كافور الإخشيدي، ويصفه لنا المؤرخ «ابن القلانسي» أنه رجل واسع الحيلة وذكي، ويقص علينا أن كافور قال عنه في يوم من الأيام: «ولو كان مسلما لاستوزرته.» فلما سمع يعقوب هذا الحديث، دخل مسجدا في يوم الجمعة ونطق بالشهادتين، ولما رأى ذلك ابن حنزابة، الوزير في الحكم، أراد أن يقتله قبل أن يصبح منافسا خطيرا له، ففر ابن كلس إلى المغرب وعاون الفاطميين معاونة صادقة على فتح مصر، وقد جعله المعز أكبر مستشاريه وعينه أمينا على بيت المال، ولما جاء العزيز، جعله وزيرا، ومن جهة أخرى عين العزيز عيسى بن نسطورس الملكي وزيرا، كما عين اليهودي منشى حاكما عاما على سوريا.
وأبطل هذا التقليد الحاكم بأمر الله بعد أن اضطهد الذميين، ولكنه لم يستغن أبدا عن جميع الموظفين النصارى، ولما تولى المستنصر الخلافة، عاد إلى خطة الفاطميين الأولى، فاستعان بالأرمني بدر الجمالي إنقاذا لعرشه، فحكم بدر البلاد حكما مطلقا وعين ابنه الأفضل شاهنشاه ليخلفه في الوزارة، أما الخليفة الحافظ لدين الله، فلم يتردد في الاستعانة بالنصراني «بهرام» وهو من طائفة الملكيين، بعد أن منحه لقب «سيف الإسلام».
إن وجود النصارى في وظائف الدولة الرفيعة دليل قاطع لتسامح الفاطميين، ثم إن هذه الفترة من تاريخ مصر مليئة بالأحداث المتعلقة بأهل الذمة، غير أن كل خليفة اتبع سياسة تختلف عن سياسة سلفه، لذلك رأينا أنه من المنطق أن ندرس كل عهد على حدة لنستطيع أن نبين كل دور من أدوار هذه الفترة الخطيرة من تاريخ الأقباط، وأن نخرج بالنتائج المترتبة عليها. (1) المعز لدين الله 358-365ه «969-976م»
شرع القائد جوهر ببناء الجامع الأزهر الذي يعد من أعظم الأدلة لكرم الخليفة؛ إذ زوده بمكتبة عامرة، وأقيمت به الدروس لتعليم فقه الشيعة، وكان المدرسون الملحقون به والطلبة يأخذون أجورهم من الخليفة العزيز بالله.
وكان المعز يدرك تماما أنه لن يستطيع حكم البلاد وهو أمام تيار من العداء العام، ولما كان الشيعيون غير محبوبين في مصر وسوريا، فقد حاول أن يتقرب إلى السنيين وذلك بإظهار شيء من النفور إزاء الذميين، فألغى التقليد الذي بدأه الإخشيديون من حضور الحفلات الخاصة بالنصارى، ومنع الأقباط في عيد النيروز من جمع الحسنات من العظماء، ومن رش المارة بالماء العكر أو إشعال الصواريخ في هذه المناسبة، كما حرم عليهم نصب الخيام والتنزه بالزوارق على النيل بالقرب من المقياس في ليلة الغطاس، وهدد بالإعدام شنقا كل من يخالف أوامره، فكف النصارى عن الاحتفال بهذه الأعياد طوال عهده.
2
وأطلق المعز، إلى جانب ذلك، سراح الإخشيديين الذين اعتقلهم جوهر.
3
على أن نفوذ ابن كلس كاد يؤدي - إذا صدقنا رواية المؤرخين النصارى - إلى حادث في غاية الغرابة، فقد أراد هذا الرجل أن يقلل من شأن الديانة المسيحية في نظر الخليفة، فطلب أن تجري أمامه مناقشات دينية،
4
وسمع الخليفة في أثناء هذه المناقشات أن الرجل المؤمن يستطيع بإيمانه أن يزحزح الجبال.
فأرسل في طلب البطريرك «أفرام» وسأله فيما إذا كان الإنجيل يحوي مثل هذا الكلام، فرد البطريرك بالإيجاب، فما كان من الخليفة إلا أن أمره بالقيام بمهمة نقل الجبال وإلا «محا من الأرض اسم النصرانية.».
5
ذهل الرهبان الأقباط عندما أخبروا بأوامر الخليفة، فأخذوا يصلون ويبتهلون في الكنيسة المعلقة، وبعد مضي ثلاثة أيام، رأى البطريرك في منامه السيدة العذراء تطمئنه، فتوجه بسرعة، يحيط به عدد كبير من النصارى يحملون الصلبان والأناجيل إلى المكان الذي عين له، حيث كان الخليفة ورجال حاشيته في انتظاره.
ويؤكد المؤرخون النصارى أن المعجزة حدثت بالفعل، وأن الخليفة أبدى دهشته وأمر بإعادة بناء جميع الكنائس المخربة، ثم أرسل في طلب كبار الأقباط والعلماء المسلمين وأمر بقراءة الإنجيل والقرآن أمامه، ولما استمع إلى النصين، ما كان منه إلا أن أمر بهدم المسجد القائم أمام كنيسة أبي شنودة وبناء كنيسة مكانه أو توسيع كنيسة أبي سيفين.
6
وقد يتساءل الناس لماذا لم يخط الخليفة الخطوة الأخيرة باعتناقه الدين المسيحي؟ وفعلا لم ير المؤرخ القبطي مندوحة في ذلك، فأكد أن الخليفة المعز تعمد في المكان القريب من كنيسة القديس يوحنا، وتنازل بعد ذلك عن كرسي الخلافة لابنه العزيز بأمر الله، وصرف أيامه الأخيرة في العبادة في أحد الأديرة، وقد أعاد ذكر هذه القصة مرقس سميكة باشا، أحد مؤسسي المتحف القبطي بالقاهرة، ولكن أحمد زكي باشا والأستاذ عبد الله عنان احتجا بشدة على هذه الرواية.
7 (2) العزيز بأمر الله 366-386ه «976-996م»
ينقل إلينا جميع المؤرخين المعتد بأقوالهم أحداثا دقيقة عن حكم الخليفة العزيز بالله تدل على الرعاية التي شمل بها النصارى الملكيين واليعاقبة، وكان الناس يعتبرون، حتى خلافة العزيز، أن الوالي متسامح إذا أعطى تصريحا بترميم كنيسة أو ببنائها مقابل هدية تساوي بعض مئات من الدنانير، ولكن في خلافة العزيز وبعدها نرى السلطة هي التي تولي العمل ببناء الكنائس للنصارى وتسهر على حراسة العمال، إذا اقتضى الحال ذلك، وبينما كان المؤرخون النصارى يهللون لوال لم يظلم أبناء جلدتهم، عمل العزيز على إلغاء الفوارق الاجتماعية بين المسلمين والذميين.
ومن المشاهد أن خلافة العزيز تعد تحولا مهما في تاريخ مصر الإسلامية؛ ذلك لأن الخليفة دعا لأول مرة لمبدأ المساواة الكاملة بين عنصري الأمة.
كان العزيز قد تزوج من امرأة نصرانية من طائفة الملكيين وأنجب منها ضمن ما أنجب بنتا أسماها «ست الملك» وكانت أخلاقها تشبه أخلاق والدتها أو بمعنى آخر، كانت تعطف كثيرا على النصارى، وكان العزيز يحب زوجه وابنته حبا جما ويعمل برأيهما إلى حد جعله يصدر أمرا مخالفا للقانون، وهو تعيين نسيبيه «أرسين» و«أرستيد» بطريركين، أحدهما على الإسكندرية والآخر في أنطاكية.
هل يدل ذلك على أن عزيزا كان ضعيفا؟ كلا! فإن عهده امتاز بالحروب الدفاعية، التي قام بها على الحدود الشرقية لإمبراطوريته، وبتنظيم إدارة حازمة داخل البلاد، ولكي تستطيع الدولة أن تواجه المصروفات الضخمة التي كانت تتطلبها الحاجة، فقد وضع بيت المال تحت رقابة شديدة، وحدد مرتبات ثابتة لموظفيه ومنعهم منعا باتا من قبول أي رشا أو هدية، وأمر بألا يصرف شيء إلا بمقتضي وثيقة مكتوبة.
8
وأنشأ العزيز جيشا قويا جمع فيه بعض العناصر التركية والزنجية واشتبك في عدة معارك ضد بيزنطيا، وقد وصلت الخلافة الفاطمية في عهده إلى أوج عظمتها.
ويرى المسلمون أن العزيز أخطأ خطأ فاحشا باعتماده على الذميين وغيرهم ممن لا يمتون إلى الإسلام إلا اسميا، فقد استمر يعقوب بن كلس خمس عشرة سنة الساعد الأيمن للخليفة، قام خلالها بشتى الإصلاحات، ويذكر لنا الأنطاكي أنه لما مات يعقوب «ركب العزيز إلى داره» وصلى عليه، وكشف عن وجهه، وبكى عليه بكاء شديدا،
9
ويضيف ابن القلانسي أن العزيز أمر «أن يدفن في داره بالقاهرة في قبة كان بناها لنفسه، وحضر جنازته وأغلق الدواوين وعطل الأعمال أياما.»
10
وبعد وفاة يعقوب، منح العزيز ثقته لعيسي بن نسطورس النصراني، الذي ما لبث أن أصبح وزيرا، ثم ألحق بخدمته أبا المنصور، طبيب المعز النصراني، وأعطاه مركزا ممتازا.
وقد لاحظ الخليفة أن الرعايا المسلمين لم يعتادوا رؤية النصارى يشغلون الوظائف الكبرى في الدولة ويتمتعون بشتى الاحترامات، حتى إنهم كانوا ساخطين على هذه التعيينات وبينما كان يتنزه في المدينة ذات يوم؛ إذ لمح في طريقه شبحا يشبه امرأة
11
كانت تحمل عريضة هذا نصها: «بالذي أعز اليهود بمنشا، والنصارى بعيسى بن نسطورس، وأذل المسلمين بك».
12
وأراد العزيز أن يحد من غضب الشعب ، فاضطر إلى الاستغناء عن عدد من الموظفين النصارى، ولكنه كان لا يلبث أن يعيدهم إلى مراكزهم، إما تحت ضغط حريمه عليه، أو لأنه كان يرى استحالة الاستغناء عن خدماتهم.
ولجأ المتذمرون آخر الأمر إلى السكوت؛ إذ كانوا يواجهون إدارة تعتمد على قوة مسلحة كبيرة، وعلى كل، يلاحظ أن شغل الذميين للوظائف العليا لم يكن أمرا ذا بال إذا قسناه بالإجراءات الأخرى التي عادت عليهم بالفائدة في ذلك العهد.
أولا: على الرغم من المصاريف الباهظة التي أثقلت كاهل الميزانية لبذخ الخلفاء من جهة، وتسليح عدد كبير من الفرق استعدادا للحروب من جهة أخرى، فإن العزيز لم يعد العمل بالضرائب الهلالية التي فرضها ابن المدبر وألغاها ابن طولون «ومع ذلك فإن مجموع الخراج والجزية كان في هبوط بالنسبة للعهد السابق»، وقدر الشعب هذا الاعتدال في فرض الضرائب حق قدره في كل زمن وعهد.
وكان اليعاقبة، فيما يخصهم، يرون بمزيد الفرح أن البطريرك أفرام كان موضع احترام وتقدير الخليفة، ففي هذا العهد قرر البطريرك، لأول مرة، نقل كرسيه من الإسكندرية إلى القاهرة، ويظهر أن العزيز سمح للبطريرك، بإصلاح الكنائس المهدمة دون أن يستأذن في ذلك، ومما يعزز اعتقادنا بصحة هذا الإجراء، الحادث الذي وقع عند بدء الأعمال في كنيسة القديس مكاريوس، ويقول أبو صالح: «ما أن بدأ البطريرك هذه الأعمال حتى هاجمه المسلمون، وما لبث أن أسرع الخليفة، فأصدر أمره باستئناف عملية الترميم، على أن يقوم بتسديد المصاريف اللازمة، وتسلم بعد ذلك البطريرك الأمر الصادر بهذه المناسبة «الذي يقضي بالتصريح ببناء الكنيسة» ولكنه رفض المال، راجيا العزيز في ألا يلح عليه بقبوله، ووافق العزيز على إعادة المال إلى الخزينة، ولكنه أمر فرقة من الجيش أن تحرس البناء طوال مدة العمل، وأن تقبض على كل من يحاول عرقلة تنفيذ هذا الأمر ومعاقبته، ولما علم الشعب بنيات الخليفة، لم يعاود عدوانه، وهكذا تمت أعمال البناء.».
13
ونرى مبالغة العزيز في إظهار عطفه على النصرانية، في رفضه معاقبة من يهجر الإسلام ويعتنق الديانة المسيحية، ومجمل الرواية أن أحد كبراء المسلمين، واسمه «وساع»
14
اعتنق المسيحية، فقبضت عليه السلطات بتهمة الردة، ولكن بعض الشخصيات الكبيرة تدخلت لصالحه كما توسطت له زوجة العزيز لدى الخليفة الذي أطلق سراح «وساع» دون أن يناله أي سوء أو أذى، واعتكف في دير بالصعيد حيث قضى بقيت حياته.
وأخيرا، وقع في هذا العهد حادث لو حصل في عهد آخر لجلب للنصارى المصائب، ولكنه انتهى على غير ما يشتهي المسلمون، يروي سعيد بن يحيى الأنطاكي في هذا المقام: «كان العزيز قد اعتزم أن يغزو بلاد الروم وأمر عيسى بن نسطورس بإعداد الأسطول ... وعزم على تسييره بعد صلاة الظهر من نهار الجمعة، فوقع فيه نار في ذلك اليوم وأحرق منه ستة عشر مركبا، واتهم الرعية بحريقه تجار الروم الواردين بالبضائع إلى مصر، فثار عليهم الرعية والمغاربة وقتلوا منهم مائة وستين رجلا ونهبت كنيسة ميخائيل التي للملكية بقصر الشمع، ونهبت كنيسة النسطورية، وركب ابن نسطورس وقت النهب ونزل إلى مصر وتقدم بكف الأذى على الروم والمنع من معارضتهم، ونودي في البلد بأن يرد كل واحد من النهابة جميع ما أخذه، فرد البعض من ذلك، وأحضر من سلم من التجار الروم من القتل، ودفع لكل واحد منهم ما اعترفه وقبض على ثلاثة وستين رجلا من النهابة واعتقلوا، وأمر العزيز بالله بإطلاق ثلثهم وضرب ثلثهم وقتل ثلثهم، فكتب رقاع منها «تضرب» ومنها «تقتل» ومنها «تطلق» وتركت تحت إزرار، وتقدم كل واحد منهم وأخذ رقعته، كان يعمل به بحسب ما يخرج فيها.».
15
وكان من شأن هذه الإجراءات زيادة غضب المسلمين، وإذا كان الحاكم بأمر الله قد اضطهد النصارى يوما، فلم يكن ذلك إلا إرضاء لروح الانتقام، التي استفزت قلوب الشعب، أما القسوة التي امتاز بها الاضطهاد في هذا العهد، فسببها ميل الحاكم إلى سفك الدماء. (3) الحاكم بأمر الله 386-411ه «996-1020م»
بينما كان العزيز بالله في مدينة بلبيس يستعد لاستئناف القتال ضد البيزنطيين، وافته المنية وهو في الحمام، فخلفه نجله الصغير الذي أنجبه من زوجته المسيحية، وكان عمره إذ ذاك إحدى عشرة سنة، ولقب عند اعتلائه العرش بالحاكم بأمر الله.
ولم يكن هناك ما ينذر بوقوع الأحداث المفجعة التي خضبت عهده بالدماء وأدخلت الذعر في نفوس النصارى والمسلمين على السواء، والواقع أن الحاكم، حينما بلغ رشده، سارع إلى اطمئنان كل الموظفين النصارى على مراكزهم واهتدى بنصائح أخته «ست الملك» التي كانت تعطف على النصارى عطفا شديدا.
16
ولما كان الحاكم قاصرا عند وفاة والده، فقد وضع تحت وصاية «برجوان» الخص السلافي، وقد عم الاضطراب البلاد خلال هذه الوصاية بسبب العداوة القائمة بين الوصي وابن عمار، قائد جيش الخليفة، الذي قتل بعد أن هزمت القوات التركية قواته المكونة من قبائل شمال إفريقيا، وكان ابن عمار قد قتل ابن نسطورس قبل أن يلاقي حتفه، ولم يمض وقت طويل حتى لحق «برجوان» بخصمه، فقد أمر الخليفة عام 390ه «1000م» باغتياله لتكبره عليه ونعته بألقاب مهينة.
ولما أمر الخليفة الشاب بقتل برجوان، أقلق الشعب وأضجره وحمله على التوجه إلى مقر الخلافة، ولم يستطع الحاكم الإفلات من ثورة شعبه إلا بالبكاء والعويل والتحجج بشبابه وعدم درايته بالحكم. ونتساءل: هل خجل بعد ذلك من إظهار ضعفه، فقرر فيما بينه وبين نفسه أن يثأر من هذا الشعب؟ نسوق هذا الفرض ولا نستبعده.
17
ومهما يكن من الأمر، فإننا لا نستطيع أن نحمله وحده مسئولية الأحداث الدامية التي استهدف لها النصارى.
والواقع أن بعض الدساسين عملوا على التخلص من النفوذ الذي ناله الذميون في عهد العزيز فاستغلوا ميل الخليفة إلى سفك الدماء، ومن الخطأ أن نعتقد أن الحاكم كان يكره الذميين، وكيف يكون ذلك ووالداه اللذان يحبهما حبا شديدا كانا متسامحين كل التسامح؟ فلما تولى الخلافة عين قبطيا، اسمه «فهد بن إبراهيم» كاتم سره ومنحه ثقته وأعطاه لقب «الرئيس»، ولما اغتيل برجوان، أرسل الحاكم في طلب فهد وخلع عليه أحسن الحلل وقال له: «لا تقلق أبدا لما حدث»، ويقص علينا ابن القلانسي ما دار بين الحاكم وكاتم سره، فيقول: «جلس الحاكم وقت العشاء الأخير واستدعى الحسين بن جوهر وأبا العلاء بن فهد بن إبراهيم الوزير، وتقدم إليه بإحضار سائر الكتب، الدواوين والأعمال، ففعل وحضروا وأوصلهم إليه وقال لهم: «إن هذا فهد، كان أمس كاتب برجوان عبدي، وهو اليوم وزيري، فاسمعوا له وأطيعوا ووفوه شروطه في التقدم عليكم، وتوفروا على مراعاة الأعمال وحراسة الأموال»، وقبل فهد الأرض وقبلوها وقالوا: «السمع والطاعة لمولانا»، وقال لفهد: «أنا حامد لك وراض عنك وهؤلاء الكتاب خدمي، فاعرف حقوقهم وأجمل معاملتهم وأحفظ حرمتهم وزد في واجب من يستحق الزيادة بكفايته وأمانته.».
18
وسرعان ما أصبح فهد هدفا للدسائس؛ إذ خشي الحاسدون أن الثقة التي حازها تزيد من نفوذه ونفوذ النصارى، فأوعزوا على الوشاية به عند مولاه ليضعفوا ثقته فيه، فاتهمه أبو طاهر وابن عداس الكاتبان باختلاس الأموال، غير أن الحاكم لم يحسن استقبالهما، فحملا آخرين على تقديم شكاوى مماثلة ضده.
فهم الحاكم مغزى هذه الشكاوى: ولكنه اضطر إلى السماح باغتيال فهد ممالأة للظروف، ثم أفهم حاشيته أنه أصدر أمره هذا تحت ضغط شديد، ثم أرسل في طلب أنجال القتيل وخلع عليهم خلعة وأمر بألا يمسهم أحد بسوء، وألا ينهب منزلهم، وقد أراد الحاكم بذلك أن يتحدى أبا طاهر وابن العداس اللذين أوعزا بهذه الجريمة، واللذان توصلا إلى أعلى المناصب لتنفيذ خطتهما المعادية للنصارى في مصر وسوريا.
وبالرغم من ذلك، اضطر الحاكم أن يأمر بقتل عدد آخر من أعيان القبط فيما بعد، ولقد شعر هؤلاء بالخطر المحدق بهم منذ مقتل فهد، حتى إنه عندما أمر الخليفة أحدهم، واسمه أبو نجاح، باعتناق الإسلام، طلب من الخليفة أن يمهله يوما يفكر فيه، ثم ذهب إلى أصحابه وحثهم على أن يستشهدوا، قائلا: «إن المسيح قد منحنا من خيرات الأرض الشيء الكثير وها هو ذا اليوم قد رأف بنا وهو ينادينا إلى ملكوت السماء.».
19
وأخذ اضطهاد النصارى يزداد عنفا يوما بعد يوم منذ ذلك الحين، وأول من استهدف له موظفو الدولة، حيث فصل الخليفة عددا كبيرا منهم، ولم يترك إلا الذين اتضح له عدم الاستغناء عن خدماتهم،
20
غير أن خروج أغلب الموظفين أتى على البقية الباقية من نفوذ الذميين، الذين كان لهم الأمر والنهي في مختلف المصالح.
21
ثم أصبح الاضطهاد عاما سنة 395ه «1004م» وسلط الحاكم غضبه على النصارى والسنيين،
22
فأمر الأولين أن يضعوا ملابس تميزهم عن سواهم، كما كتب على المساجد عبارات مهينة للنيل من أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة، ومنع السكان من تناول بعض الأطعمة التي كان يفضلها رؤساء العرب السنيون.
وفي عام 399ه «1008م» فرض الحاكم قيودا أخرى على الزي ثم منع الأثرياء من النصارى من امتلاك العبيد واستخدام المسلمين، وأصدر أمره في نفس السنة بهدم كنائس القاهرة ونهب كل ما فيها، ولما علم بأن النصارى يطوفون خارج أسوار كنيسة القيامة بالقدس، في أثناء الاحتفالات الدينية، وخاصة يوم أحد الشعانين وفي عيد الفصح، أمر بهدم الكنيسة، وكان لهذا الإجراء الأخير دوي هائل، لا في الشرق فحسب، بل وفي الغرب؛ إذ «بكى المسيحيون جميعهم»،
23
ولا بد أن يكون هذا الإجراء أحد الأسباب المهمة لقيام الحروب الصليبية، وتقول الرواية: إن الكاتب الذي نسخ هذا الأمر كان نصرانيا، وإنه مات حزنا بعد أيام قلائل.
وفي عام 400ه «1009م»، صدرت أوامر مشددة تقضي بإلغاء الأعياد المسيحية ومنع الاحتفال بها في أنحاء البلاد، وصودرت أوقاف الكنائس والأديرة لحساب بيت المال، ومنع أيضا ضرب النواقيس، كما نزعت الصلبان من قباب الأجراس، ووصل الحال إلى أنه طلب إلى النصارى أن يمحوا الوشم من أيديهم وأذرعتهم.
وفي عام 402ه «1011م» شاءت إرادة الحاكم أن يعلق النصارى حول عنقهم صلبانا من الخشب طول الصليب ذراع ووزنه خمسة أرطال، ونفذت مشيئة الحاكم بحذافيرها وخاصة بالنسبة إلى الموظفين، الذين لم يتيسر الاستغناء عنهم «لمضايقتهم».
24
وفي ربيع عام 403ه «1013م»، صدر أمر بهدم وسلب الكنائس والأديرة الموجودة في الأراضي المصرية بدون استثناء، وكان على كل موظف نيط به هذا العمل أن يتأكد من هدم الأبنية الموجودة في المنطقة التابعة له هدما تاما، ويقال: إن عدد الكنائس والأديرة التي هدمت في ذلك الحين بلغ ثلاثين ألفا.
ومما زاد الحالة سوءا، وحشية الرعاع، والسوقة الذين ما لبثوا أن هبوا هبتهم ليحققوا إرادة مولاهم، فمحوا الكنائس محوا ووصلت بهم ثورة الانتقام إلى نبش القبور واستخراج عظام الموتى لاستعمالها وقودا للحمامات.
25
وصدر بعد ذلك أمر إلى المكاريين والنوتية بأن يرفضوا نقل الذميين.
وأخيرا، وضع الحاكم أهل الذمة بين أمرين: إما الموت وإما الارتداد عن دينهم، فأسلم عدد كبير من الناس اجتنابا لهذا الإرهاق، كما هجر بعضهم دورهم سرا ولجئوا إلى المناطق التابعة للإمبراطورية البيزنطية، أما الذين كتموا إيمانهم، فكانوا يجتمعون في ندوات خاصة؛ حيث كانوا يخفون الآنية والذخائر المقدسة التي أفلتت من المصادرة والنهب والسلب.
ويذكر المقريزي أمرا قضى بنفي جميع النصارى إلى أراضي الروم،
26
وأن النصارى التمسوا عفو الحاكم بأمر الله، فأذن لهم بالبقاء في مصر،
27
ويصف لنا الأنطاكي مشهدا وقع بالقاهرة عام 403ه «1012م» يدل على اليأس الذي ملك قلوب النصارى، فيقول: «اجتمع سائر من بمصر من الكتاب والعمال والأطباء وغيرهم مع أساقفتهم وكهنتهم وتوجهوا إلى قصره وكشفوا عن رءوسهم في باب القاهرة ومشوا حفاة باكين مستغيثين إليه يسألونه العفو والصفح، ولا يزالوا في طريقهم يقبلون التراب إلى أن وصلوا إلى مقره، وهم في تلك الحال، فأنفذ إليهم أحد أصحابه وأخذ منهم ورقة كانوا كتبوها يلتمسون عفوه عنهم وإزالة سخطه، فأعاد إليهم الرسول ورد عليهم ردا جميلا.».
28
لم يتحمل نصارى مصر من الاضطهاد، منذ دخول العرب أرض مصر، أكثر مما تحملوه في عصر الحاكم، ولم يحاول مؤرخ مسلم واحد أن يبرر هذه الأعمال الوحشية، لقد أراد بعض الذين دونوا تاريخ هذه الفترة أن يخففوا من مسئولية الحاكم بحجة ضعف قواه العقلية، غير أنه لا يوجد ما يؤكد أن الحاكم كان مجنونا، لعله كان شرس الطباع، فكان يجد لذة في تعذيب غيره، ولكنه كان يعي كل أفعاله حتى الغريبة منها، وأكثر من ذلك، لقول إن كل أمر كان يصدر عنه، إنما كان استجابة لفكرة معينة سواء كانت هذه الفكرة حسنة أم سيئة، وإن إغلاق الأماكن العامة ومنع النساء من الخروج إلى الطريق، والعبارات المهينة التي كتبها على جدران المساجد، ما كانت إلا تنفيذا لخطة مرسومة.
وهكذا استمر الحاكم يعبث بخضوع شعبه له، إلى أن جاء أحد المغامرين من الأندلس اسمه «أبو ركوة» وكان يدعي أنه من بني أمية، فرفع علم الثورة فاجتمع حوله عدد كبير من الناقمين على أفعال الحاكم بأمر الله، فما كان من الحاكم - وهو الخليفة الواقعي الذي يعي تماما كل أفعاله - إلا أن كف عن تحدي السنيين، كما كف عن إيذاء الناس، ثم إنه ألغى بعض الطقوس الخاصة بطائفة الإسماعيلية ، كما أدخل بعض التقاليد السنية.
ولم يكن ادعاء الحاكم بأنه إله، إلا نتيجة منطقية لمذهب طائفة الإسماعيلية الشيعي، لا مظهرا من مظاهر جنونه، ونحن نتساءل، هل كان ادعاؤه الألوهية مقدمة لتسامحه الديني الذي عمل به في آخر عهده، كما يؤكده بعض المستشرقين؟ ليس هناك ما يحملنا على أن نثق بهذا القول، بل يخيل إلينا أن حادثا خطيرا حدث في ذلك الحين، فأجبره على التسامح.
إن تعاليم مذهب الإسماعيلية لم تكن جديدة على الفاطميين الذين كانوا يستوحونها في كل وقت، ويتضح من هذا أنها لم توضع موضع الاعتبار فقط منذ أعلن الحاكم دعوته، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فقد مضت أربع سنوات بين إعلان الدعوة وبين إجراءات العفو التي اتخذها الحاكم نحو النصارى.
كنا نفهم أن يعفو الحاكم عن الذين يعترفون بدعوته ويجزل لهم العطاء، ولكننا نلاحظ عكس ذلك، نراه يسمح للذميين أن يتعبدوا علانية، بل يذهب إلى حثهم على إعادة بناء كنائسهم وأديرتهم وزيارة رهبانهم.
إن الحوادث التي وقعت في آخر خلافته تلقي ضوءا على ما قدمناه، يذكر لنا الأنطاكي أنه في عام 411ه «1028م» توجه الأنبا «صلمون» رئيس دير طور سينا، إلى الحاكم وبسط إليه حالة فقر رهبان الدير المذكور، والتمس منه إعادة الأراضي الموقوفة التي صادرها، فلبى الحاكم طلب رئيس الدير، وفي نفس السنة، استأذن الأنبا صلمون بعمارة دير القصير وبإعادة الرهبان إليه وإقامة الصلوات فيه، فأجابه إلى طلبه، وصدر «سجل» بهذا المعنى إلى «صلمون بن إبراهيم» في شهر ربيع الآخر من عام 411ه،
29
وفي جمادى الآخرة من نفس السنة، صدر سجل بإعادة بناء كنيسة القيامة.
وتبع هذا الأمر أوامر أخرى مماثلة شملت الكنائس والأديرة، وتشجع النصارى وأخذوا يطالبون بامتيازات أخرى، ويقول سعيد الأنطاكي: «لما تسامح الحاكم بعمارة الكنائس وتحديدها ورد أوقافها، لقيه جماعة من النصارى، الذين كانوا قد أسلموا في وقت الاضطهاد وطرحوا أنفسهم عليه بين يديه وهم مسترسلون للموت، وقالوا له: إن الذي دخلنا فيه من التظاهر بدين الإسلام، لم يكن باختيارنا ولا برغبة منا، فنحن نسأل أن تأمرنا بالعود إلى ديننا، إن رأيت ذلك، أو تأمر بقتلنا. فأمرهم للوقف بلباس الزنانير ولباس السواد وحمل الصلبان، وكان كل منهم قد أعد عدة غيار ثيابه.»
30
ثم يقول المؤرخ المذكور: إن عددا قليلا من الناس حذا حذوهم خوفا من أن يكون الحاكم يريد الإيقاع بهم؛ ذلك لأن الديانة الإسلامية تمنع الردة، ولكن بناء على اقتراح الأنبا صلمون، أكد الحاكم حسن استعداده نحو النصارى.
وأبرز سعيد الأنطاكي صداقة الحاكم؛ لأنبا صلمون، فروى لنا كيف كان الخليفة يخف إلى تحقيق أماني الراهب جميعها، وكيف كان يقابله كل يوم في الطريق الصحراوي المؤدي إلى دير القصير على جبل المقطم ويسأله عما هو في حاجة إليه حتى إن ألسنة السوء، من بعض المسلمين تناولته بالتشنيع لها، وزعمت أن الخليفة أصبح مريدا لأنبا صلمون، خاصة بعد أن لبس الحاكم زي الرهبان.
إن هذه التفاصيل وما يليها لها أهمية بالنسبة إلى الأحداث المقبلة، ويواصل الأنطاكي حديثه قائلا: «وكان في كثير من الأيام يقصد دير القصير ويشاهد عمارته ويحث الصناع على الفراغ منه، وأطلق له دنانير تصرف عليه، ودفع أيضا إلى الرهبان المقيمين فيه دنانير ورسم لهم مساعدة البنائين لتروج عمارته،
31
وكان يعدل أيضا إلى ديارات جددها اليعاقبة بالقرب من القرافة الكبرى، وإذا أراد الدخول إلى الجبل أو الطلوع إلى دير القصير
32
أو غيره من الديارات، تتأخر الركابية عنه في الموضع المعروف بالقرافة وإلى الساقية، ويمضي وحده.».
وقد اختفى الحاكم نهائيا في إحدى الجولات وظل اختفاؤه سرا غامضا، هل قتل بإيعاز من أخته «ست الملك» التي هددها بالموت لسوء سلوكها، كما يؤكد بعض المؤرخين؟ إن الأنطاكي لم يستبعد أمر قتله ولكنه لم يعلق عليه، بل اكتفى بالقول بأن ست الملك عندما علمت باختفاء شقيقها، أسرعت فأمرت بالبحث عنه في دير القصير «لئلا يكون مستترا فيه».
وجاءت أخبار المؤرخين المسلمين متأخرة ومدعاة للشك، ويذكر لنا أبو المحاسن بن تغري بردي أن الحاكم، قبل أن يترك قصره للمرة الأخيرة، أعطى والدته ثلاثين ألف دينار ليؤمنها من العوز، وتقول الرواية نفسها: إن الحاكم كان يرصد النجوم وينتظر أن يظهر في السماء نجم معين يعلن بنهاية عمره، فلما رآه ليلة اختفائه، أذاع الخبر بصوت مرتفع يسمعه من حوله، ولكنه قام بجولته الليلية كعادته بعد أن صفى أعماله الشخصية كأنه لن يعود أبدا،
33
أما الأسقف ساويرس بن المقفع، الذي دون تاريخه ثلاثين سنة بعد وفاة الحاكم، فإنه لم يذكر ست الملك، بل اكتفى بالقول بأن الخليفة صرف الخادمين اللذين كانا برفقته بعد أن أمرهما بعقر الحمار، ثم اختفى.
34
زد على ذلك أن الشعب كان مقتنعا بأن الحاكم لم يزل على قيد الحياة حتى إن أحد الدجالين، واسمه «سكين» ادعى في سنة 434ه «1041م» أنه الخليفة، وكان يشبهه شبها كبيرا، وصدقه عدد كبير من سكان الفسطاط فتبعوه ويمموا معه شطر قصر الخليفة وهم يصيحون: «ها هو الحاكم!».
35
وسواء قتل الحاكم، أم اختفى، أم لجأ إلى دير من الأديرة، فإن هناك حقيقة واقعة لا سبيل إلى إنكارها وهي أنه، قبل أن يترك عرشه، قضى على نفوذ النصارى في مصر، ومنذ ذلك الحين، أصبح الأقباط مهملين في الدولة، وأصبح تاريخهم عبارة عن جملة أحداث ثانوية، وفقدوا بعد ذلك شخصيتهم تدريجيا ليندمجوا في سواد الشعب الذي كان يحتقرهم. (4) الظاهر لإعزاز دين الله 411-427ه «1020-1036م»
أخذ نفوذ ست الملك ينبعث من جديد بعد اختفاء الحاكم، وكانت تعطف دائما على النصارى فكانت تشجعهم علانية بإرسال الهدايا والعطايا للأسقف الملكي مثلا.
36
وبعد مضي بضع سنوات؛ أي: في عام 418ه «1027م» «وقعت الهدنة مع صاحب الروم، وخطب للظاهر في بلاده، وأعاد الجامع بقسطنطينية وعين فيه مؤذنا، فأعاد الظاهر كنيسة القيامة بالقدس، وأذن لمن أظهر الإسلام في أيام الحاكم أن يعود إلى النصرانية، فرجع إليها كثير منهم.».
37
وهكذا أقر الظاهر الردة مستصدرا سجلا يقول فيه: «إن الدخول في دين الإسلام يجب أن يكون اختياريا لا تحت تأثير القوة.»، فصرح بمقتضاه للنصارى بالعودة إلى عقيدتهم الأصلية،
38
لعل هذا الأمر فريد في نوعه في تاريخ الإسلام، وهو أهم حادث في عهد الظاهر، أضف إلى ذلك أنه «عاد من بلاد الروم جماعة من النصارى الذين أسلموا وتظاهروا بالنصرانية، ولم يتعرض لهم أحد، وأخذ منهم وممن عاد من النصارى بمصر أيضا، الجزية من السنة التي انتهى استخراجها منهم إلى السنة التي عاد فيها كل واحد منهم.».
39
ويقال: إن الظاهر سمح للأقباط بالاحتفال بعيد الغطاس، وبأن يقيموا الملاهي العامة بهذه المناسبة،
40
ويبدو بصفة عامة أن الأقباط استعادوا شيئا من الثقة والطمأنينة في هذا العهد، مما جعل الرحالة المسلم «ناصري خسرو» يقول عن زيارته لمصر عام 1035م: «لم أعرف بلاد تتمتع بالأمن والطمأنينة كبلاد مصر، لقد رأيت نصرانيا كان أغنى رجال مصر، ولم يستطع أحد أن يحصي عدد المراكب التي كان يملكها، ولا أن يقدر عدد أملاكه ولا قيمتها فاستدعاه الوزير وقال له: «إن الحالة في هذه السنة غير مرضية وتثقل آلام الشعب على حاشية السلطان، قل لنا ماذا تستطيع أن تعطينا من القمح سواء بعته لنا أو أقرضته لنا؟» فأجاب النصراني: «الحمد لله أني، بفضل ثروة السلطان ووزيره، أملك الآن من القمح مقدرة عظيمة حتى إني أستطيع أن أمد مصر به لمدة ست سنوات.».
41
لا شك أن في قصة خسرو شيئا من المبالغة، ولكن إغفاله ذكر الاضطهاد ونقله عن لسان قبطي عبارات بهذه الصراحة، لدليل على أن النصارى كانوا يعيشون في أمان في هذا العهد. (5) المستنصر بالله 427-495ه «1036-1101م»
حكم الخليفة المستنصر البلاد مدة طويلة؛ إذ ارتقى العرش في السابعة من عمره، ولكن خلافته لم تكن مجيدة، فإن اضمحلال الفاطميين الذي بدأ في العصر السابق، ازداد بسبب الفوضى الداخلية، وقد نهب المرتزقة الأتراك قصر الخليفة، ولما جردوه من ثروته، اضطر الخليفة أن يفترش حصيرة في قصره الذي كان خاليا من كل أثاث، حتى إن أعداءه اللدا رثوا لحالته التعسة وذرفوا الدموع عليها.
لم يؤثر المستنصر على مجرى الحوادث، وبينما كان الجند الأتراك والجند السود يشتبكون في قتال دموي عنيف، وبينما حل في البلاد قحط شديد جعل الشعب يأكل الجثث وأجياف الحيوانات، كان الوزراء يتتابعون على كرسي الحكم، ولم يكن نتيجة ذلك سوى استمرار حالة الفوضى التي انغمست فيها البلاد.
ونحن نذكر هذه التفاصيل الخارجية نوعا ما عن الموضوع، لنظهر فقط كيف أرسل الخليفة - وقد أعيته الحيلة - في طلب الأرمني بدر الجمالي. وقد استتب الأمن في البلاد، وخاصة بالنسبة للأقلية، في عهد الوزير الذي كان عبدا، ثم أسلم فأصبح وزيرا عظيما.
وقبل وصول بدر إلى مصر، كانت الأقلية تتحمل الشيء الكثير من غضب الوزير «اليازوري» و«نصر الدولة»، ففي وزارة اليازوري، تحولت أنظار الفاطميين نهائيا نحو الشرق، ولما ثارت تونس على خلافة مصر، لم يجهز اليازوري حملة ضد الثوار، بل لجأ إلى قبيلتي «بني هلال» و«بني سليم» العربيتين حليفتي الفاطميين، وكانت لهما شهرة واسعة في أعمال السلب والنهب على الحدود الغربية للدلتا، وقال لهما: «لقد تركنا لكما ولاية تونس، فاجتاحوها وخربوها»، هذا لأن الفاطميين كانوا وقتئذ يساعدون بأموالهم ثورة أحد القواد الأتراك ضد خلافة بغداد (450ه/1059م)، فلم يهتموا إطلاقا بمصير بلادهم الأصلية، ولما فشلت الثورة ضد العباسيين، أقيل اليازوري.
وكان من البديهي أن يعتمد حكام مصر في مثل هذه الظروف الحرجة على مؤازرة جميع طبقات الشعب أكثر منه في أي وقت آخر، ولكن يبدو حقا أن نفوذ الأقباط تلاشى منذ خلافة الحاكم؛ لأن اليازوري أظهر عدوانه لهم طوال مدة حكمه، وكان ينتهز كل فرصة ليغتصب منهم المال، «فلما اتهم البطريرك خريستودولوس بتحريض ملك النوبة النصراني بعدم القيام بواجباته نحو الخليفة الفاطمي، ألقى اليازوري القبض على البطريرك دون أن يقوم بأي تحقيق، وأمره بدفع مبلغ مائة دينار، ولما جيء به إلى القاهرة، أرسل إلى «عبد الدولة» محافظ منطقة مصر السفلى الذي اقتنع ببراءته، فذهب إلى اليازوري «وأخذ منه في الحال تصريحا بإطلاق سراحه.».
42
وإلينا مثل آخر «كان رأس القديس مرقس الإنجيلي موضوعا في الإسكندرية، في منزل أبي يحيى بن زكريا، فلما مرض يحيى مرضه الشديد، خشي عشرة من النصارى - في حالة موته - أن توضع ممتلكاته وأمواله تحت الحراسة، وأن تقع هذه الذخيرة المقدسة بين أيدي المسلمين، فما كان منهم إلا أن نقلوا الصندوق الذي كان يحوي رأس القديس إلى منزل أبي الفتاح والد المؤرخ الذي أتم تاريخ البطاركة، ولكن سبق أن ذاق أبو الفتاح هذا نير الاضطهاد والتغريم، فخشي أن يغضب عليه الخليفة ورفض حفظ هذه الوديعة لديه، وعندئذ نقل الرأس عند «سرور» الذي كان يسكن أمام أبي الفتاح، فلما بلغ الوزير الخبر، أمر بإلقاء القبض على أبي الفتاح وعلى جميع النصارى الذين اشتركوا في نقل الصندوق، وحتم «كوكب الدولة» محافظ الإسكندرية، أن يعاد إليه رأس القديس مرقس ومبلغ العشرة آلاف دينار التي كانت مع الرأس، ونجح المتهمون في نيل الإفراج عن أنفسهم ما عدا أبا الفتاح الذي أرسل إلى الفسطاط حيث اعتقلته السلطات ليضطر إلى دفع المبلغ الذي حدده المحافظ، وبعد مضي ثلاثة أيام، أطلق سراح أبي الفتاح بعد أن دفع مبلغ ستمائة دينار فقط.».
وهناك حوادث أخرى تثبت عدم اهتمام اليازوري ورجاله بالأقباط، يحدثنا في هذا الشأن صاحب تاريخ البطاركة، فيقول: «إن أبا الحسين الصيرفي، الذي شغل عدة وظائف، ومنها وظيفة قاضي الإسكندرية، عين آخر الأمر رئيسا لمجلس العقود، وحدث أن مر بمدينة «دمرو» مقر البطاركة، فادعى أنه لم يحط بالإجلال والاعتبار المناسبين لمركزه، فكتب إلى الوزير خطابا وجه فيه شتى الاتهامات ضد البطريرك، وذكر فيه أن «دمرو» أصبحت قسطنطينية أخرى؛ إذ يوجد فيها سبع عشرة كنيسة معظمها حديثة البناء، هذا فضلا عن عدد كبير منها بنيت حديثا في القرى المحيطة بالمدينة، وقد بنى البطريرك لنفسه قصرا نقش عليه عبارات مهينة للديانة الإسلامية.»، وختم القاضي خطابه مقترحا على الوزير أن يغلق كل الكنائس وأن يأمر بهدم تلك التي بنيت حديثا، وأن يعمل خاصة على إلزام النصارى بدفع مبالغ كبيرة في الحال، فأمر الوزير اليازوري بناء على هذا الخطاب، بإغلاق الكنائس في جميع أنحاء مصر، ونفذ نصر الدولة، محافظ مصر السفلى، الأمر، فألقى البطريرك والأساقفة في السجن، وحتم على النصارى أن يدفعوا عشرة آلاف دينار.
43
وقد مد المسلمون يد المساعدة أحيانا إلى الأقباط الذين لم يكونوا يتوقعون ذلك ممن ناصبهم العداء ردحا من الزمن، لقد ذكرنا قصة عبد الدولة الذي أفرج عن البطريرك بعد أن اقتنع ببراءته، ويبدو أن «حصن الدولة» كان أكثر غيرة منه على حماية الأقباط، فلما أمر الوزير بإغلاق كنائس الإسكندرية ومصادرة كل ما فيها من نفائس، وفرض غرامة على نصارى المدينة تبلغ عشرة آلاف دينار، ما كان من هذا الحاكم إلا أن أرسل في طلب «موهوب» مؤرخ سيرة البطاركة، وعمه «صدقه» الذي كان يعمل تحت إمرته، وقال لهما: «هذا كتاب يخصكما، إنه يحوي أوامر يجب أن أضعها موضع التنفيذ غدا، فاذهبا في الحال وجردا كنائسكم سرا من الأواني والحلي وكل ثمين فيها.»
44
إلا أن أحد الرهبان - كما كان يحدث ذلك عادة في مثل هذه الأحوال - وشى بالبطريرك انتقاما منه؛ لأنه لم يرفعه إلى درجة أسقف.
ثم إن الفوضى التي عمت البلاد بعد وفاة اليازوري، حالت بين النصارى وبين تحسين حالتهم، ولقد انتهز رجال قبيلة البربر المعروفة باسم «اللواتة» فرصة هزيمة جيش المستنصر أمام قوات القائد التركي نصر الدولة، فألقوا القبض على البطريرك خريستودولوس، وبعد أن ذاقوه ألوان العذاب، نهبوا منزله، فأسرع أبو الطيب الزراوي، كاتم سر نصر الدولة، يرجوه أن يفاوض اللواتة ففعل وتمكن من إطلاق سراح البطريرك بعد أن دفع فدية قدرها ثلاثة آلاف دينار،
45
غير أن هذا الاتفاق لم يضع حدا لأعمال السلب التي كانت تقوم بها هذه القبيلة، فقد اجتاحت مصر السفلى ونهبت أديرة وادي حبيب، وقتلت معظم رهبانها وفرقت شمل الباقين.
46
ومما زاد الطينة بلة، أن انتشرت المجاعة في البلاد وكان نصر الدولة في هذه الأثناء يتحدى الخليفة، مدفوعا بالنجاح الذي لقيه النصر الذي أحرزه، فلم يكن من هذا الأخير إلا أن استدعى بدر الجمالي، وكان عبدا أرمنيا عند الأمير السوري جمال الدولة بن عمار، اشتهر بقوة شكيمته وحدة ذكائه وحسن إدارته، وكان يعتمد على قوة من الأرمن وبعض الفرق المخلصة له.
ويرى المسيو جاستون فبيت في بدر الجمالي أقوى شخصية في مصر الإسلامية، بيد أنه يمتاز أيضا بطباعه الغريبة عن طباع أهل الشرق «وقد أراد أن يكون دكتاتوريا منذ الساعة الأولى، ولما عرض الخليفة عليه الحكم، أملى شروطه ولم يقبل النقاش.»
47
وفعلا، أجاب بدر المستنصر بأن التمرد قد تفشى بين الجند في مصر إلى درجة يستحيل عليه معها أن يعيدهم إلى النظام، وأنه لن يطيع أوامر الخليفة إلا إذا سمح له باستبدالهم بجنود آخرين من سوريا، وفي هذه الحالة يضمن للبلاد الأمن والسلام،
48
وسلمه الخليفة حينئذ براءة مزينة بالألقاب الآتية: «السيد الأجل أمير الجيوش سيف الإسلام ناصر الإمام كافل قضاة المسلمين وهادي دعاة المؤمنين.».
وبدأ بدر عمله باغتيال أمراء الأتراك في أثناء مأدبة أعدها لتكريمهم، فلما خلا الجو من المعارضين، أخذ يعمل بكل ما أوتي من نشاط لإنماء موارد البلاد والمحافظة على الأمن داخل الحدود وخارجها.
ولم تذكر لنا المصادر العربية تفاصيل إدارته، واكتفت بالإشارة إلى الهدوء والرخاء وإنماء الزراعة وزيادة الدخل السنوي في عهده.
ومن الطبيعي أن تميل العلاقات بين المسلمين والنصارى إلى الاعتدال في ظل حكومة حكيمة، وكان النصارى، على الأخص، ينظرون بعين الرضا إلى هذا الأرمني الذي حكم البلاد حكما مطلقا؛ ذلك لأنهم كانوا يعتبرونه، رغم اعتناقه الإسلام، واحدا منهم، كما كان هو أيضا يشملهم بعطفه ويفصل بالعدل في الشكاوى المقدمة منهم،
49
ولم يترددوا في طلب تحكيمه في منازعاتهم الدينية البحتة، ويؤيد ذلك، الحادث الذي رواه الأب رينودو في تاريخه: «في عام 475ه «1082م»، جاء اثنان وخمسون أسقفا مصريا إلى بدر الجمالي يشكون إليه البطريرك كيرلس، وبعد أن حثهم الوزير على العيش في وئام واتحاد، وطلب إليهم أن يحترموا رئيسهم الديني، أوصاهم بعدم جمع الأموال وتكديسها وأبان لهم أفضلية صرف الإيرادات المتحصلة على أسقفياتهم في أوجه البر، ثم صرفهم بعد أن سلم إلى كل واحد منهم جوازا يحميهم من كل جور.
50
وكان عطف بدر الجمالي على النصارى لا يدل على تحيز أو ممالأة: شكا له بعض التجار المسلمين أن «فكتور»، أسقف النوبة، قد هدم مسجدا، ما كان منه إلا أن أمر في الحال بإلقاء القبض على البطريرك خريستودولوس وحمله مسئولية هذا العمل، ثم يذكر لنا «رينودو » أن بدر الجمالي أصدر مرسوما سنة 479ه يأمر النصارى واليهود أن يتمنطقوا بزنار أسود، وأن يدفعوا ضريبة استثنائية قدرها دينار وثلث الدينار عن كل فرد،
51
والحقيقة أن هذه الضريبة لم تكن إلا حجة تقليدية لملء خزينة الدولة.
توفي بدر سنة 487ه «1094م»، فعين الخليفة من تلقاء نفسه الأفضل ابن المتوفى، وزيرا، وقد أخذ لقب شاهنشاه، وتوفي الخليفة بعد وفاة بدر ببضعة شهور، ونشبت أول الحروب الصليبية في حكومة الأفضل شاهنشاه، وسنتكلم عنها في الباب التالي.
لقد ثبت بدر وابنه النفوذ الأرمني في مصر، وامتد هذا النفوذ إلى عهد «بهرام» الوزير النصراني للخليفة الحافظ لدين الله، الذي جاء بعد الخليفة الآمر بأحكام الله. (6) الآمر بأحكام الله 395- 525ه «1102- 1131»
هو ثالث الخلفاء الفاطميين الذين تولوا الحكم في مصر وهم في سن صغيرة؛ إذ كان عمره خمس سنوات حينما توفي والده، ولما كان الأفضل، ثم المأمون، قد رفضا التنازل عن حكمهما المطلق، انتهز الآمر أول فرصة سنحت له في عام 519 - وكان عمره آنذاك 29 عاما - ليستدرج سلطته، ورفض أن يعين وزيرا خلفا للمأمون، بل اكتفى بتعيين رئيسين هما جعفر بن عبد المنعم وأبو يعقوب إبراهيم السامري، وكان يشرف على أعمالهما راهب قبطي اسمه ابن أبي النجاح،
52
وأبو النجاح هذا بالغ في محاباة النصارى على حساب المسلمين،
53
ويذكر لنا القلقشندي بعض التفاصيل التي تدل على أن الأقباط نسوا بسرعة الأسباب التي أدت إلى اضطهادهم في عهد الحاكم بأمر الهت، وكتب صاحب «صبح الأعشى» ما يأتي: «في أيام الآمر بأحكام الله الفاطمي بالديار المصرية، امتدت أيدي النصارى وبسطوا أيديهم بالخيانة وتفننوا في أذى المسلمين وإيصال المضرة إليهم، واستعمل منهم كاتبا يعرف بالراهب ولقب بالأب القديس الروحاني النفيس أبي الآباء وسيف الرؤساء، مقدم دين النصرانية وسيد البطريركية، صفي الرب ومختاره، وثالث عشر الحواريين، فصادر اللعين عامة من الديار المصرية: من كاتب وحاكم وجندي وعامل وتاجر، وامتدت يده إلى الناس على اختلاف طبقاتهم، فخوفه بعض مشايخ الكتاب بخالقه وباعثه ومحاسبه وحذره من سوء عواقب أفعاله، وأشار عليه بترك ما يكون سببا لهلاكه، وكان جماعة من كتاب مصر وقبطها في مجلسه، فقال مخاطبا ومسمعا للجماعة: «ونحن ملاك هذه الديار حرثا وخراجا، ملكها المسلمون منا وتغلبوا عليها واغتصبوها واستملكوها من أيدينا، فنحن مهما فعلنا بالمسلمين، فهو قبالة ما فعلوا بنا، ولا يكون له نسبة إلى من قتل من رؤسائنا وملوكنا في أيام الفتوح، فجمع ما نأخذه من أموال المسلمين وأموال ملوكهم وخلفائهم حل لنا، وهو بعض ما نستحقه عليهم، فإذا حملنا لهم مالا، كانت المنة لنا عليهم.»، فاستحسن الحاضرون من النصارى والمنافقين ما سمعوه منه واستعادوه.».
54
إذا لم نستطع أن نجزم بصحة هذه الرواية، فإننا نستطيع أن نؤكد أن ابن أبي النجاح كان مكروها من الشعب، وقتل فعلا سنة 523ه «1129م»، أما الخليفة فقد أحب شعبه ومات في السنة التالية مقتولا هو أيضا.
كيف نعلل العودة إلى التسامح الديني في عهد الآمر بأحكام الله؟ يرد المسيو فييت على ذلك قائلا: «هناك عدة فروض تتصل بهذا الأمر: فربما وجدنا في مصر رابطة تشبه الاتحاد المقدس الذي يعقب عادة النكبات الوطنية، ولقد نكب الشعب بسبب المجاعة التي حلت في عصر المستنصر، ويجب ألا ننسى أن التجارة والزراعة كانتا بين أيدي النصارى تقريبا، ويمكننا أن نفرض أيضا أن مبادئ الإسماعيلية التي انتشرت منذ عهد المستعلي، أغضبت عددا كبيرا من المسلمين وأبعدتهم عن حكومتهم، فنهج وزراء الآمر سياسة التوازن الطبيعية، ويبدو أنهم وجدوا عند النصارى الحظوة التي فقدوها عند غيرهم.».
55
وفي رأينا أن سياسة بدر الجمالي والأفضل شاهنشاه لم تكن غريبة عن هذا الجو المشبع بالعطف على النصارى، ومن المحتمل أيضا أن يكون الآمر قد أصدر، اطمئنانا للرأي العام الإسلامي، مرسوما يأمر فيه حكام الولايات بعدم إعفاء الذميين من الجزية حتى ولو كان الذمي من علية قومه، وعدم السماح له بإرسال جزيته عن طريق شخص آخر، حتى لو كان من أعيان أو رؤساء ملته، وإنما تؤخذ الجزية منهم مباشرة، إذلالا لهم وتمجيدا للإسلام والمسلمين، وأن يدفع جميع الذميين الجزية بدون تحقيق أو استثناء.
56
لولا الجملتان المهمتان اللتان يحويهما هذا المرسوم، لما كانت له قيمة تاريخية، ففي عهد الفاطميين، حظي النصارى بكل التسهيلات اللازمة لدفع الجزية حفظا لكرامتهم، كما أعفوا كلية في بعض الحالات من سداد هذه الضريبة، وفعلا، كيف يتصور وزيرا يهيمن على شئون الإمبراطورية الفاطمية بأسرها، ثم يقوم بنفسه لدفع جزيته؟ ولا شك أن هذا وضع قد يقلل من شأنه أمام مرءوسيه، فالوثيقة التي ذكرها ابن النقاش تلقي ضوءا على ناحية غامضة من التاريخ الإسلامي.
وقد اشتهر الآمر بميله إلى زيارة الأديرة، وكان يبني بجوارها المناظر ليمضي فيها ساعات طويلة.
57
وقد لامه المسلمون، فيما لاموه عليه، إهماله الشديد للحرب المقدسة وللحملات ضد الصليبيين مما جعل الإفرنج يستولون في عهده على جزء كبير من ساحل سوريا وعلى مواقع حصينة أخرى.
58 (7) الحافظ لدين الله 525-544ه «1131-1149م»
لم تمنع نهاية الآمر المحزنة خليفته وابن عمه، الحافظ لدين الله، من أن يولي ثقته أحد الأرمن النصارى، واسمه «بهرام»، وكتب المؤرخ يوسف بن مرعي، معلقا على هذا التعيين، أن الشعب قبل على مضض هذا التعيين المنافي للنظم المتبعة والذوق السليم، وأن بعض رجال الحاشية احتجوا على ذلك وأخبروه بأنه لا يليق أن يتولى نصراني الوزارة؛ لأن من واجب الوزير أن يكون في معية الخليفة في صلاة الجمعة، ولكن الحافظ أصر على رأيه، وقرر أن ينوب قاضي القضاة عن بهرام في هذه المناسبة.
59
كما أن الأقباط لم يرتاحوا لوزارة بهرام؛ ذلك لأنهم كانوا ينظرون بعين القلق إلى ازدياد عدد الأرمن في مصر، والواقع أن هذا الوزير لم يكتف بإحضار أقاربه وإسناد الوظائف المهمة إليهم، ومنحهم دخلا كبيرا، بل شجع هجرة أكثر من ثلاثين ألف أرمني إلى مصر، «وإلى جانب قلق الأقباط وغيرتهم، كان المسلمون حاقدين ومذهولين من ازدياد نفوذ النصارى؛ إذ تعدد بناء الكنائس والأديرة حتى خيف على مستقبل الديانة الإسلامية».
60
ولما انتزع رضوان السلطة من بهرام، نجح في كسب عطف الجماهير باستغلال شعورهم الديني، وقال المقريزي في هذا الشأن إن رضوان «أوقع بالنصارى وأذلهم فشكره الناس.»
61
فأخرج الموظفين النصارى وخاصة الذين عينهم بهرام، ثم أراد أن يحكم البلاد حكما مطلقا، ولكن الحافظ لم يسمح له بذلك، وبعد أن كان يتحداه باستقبال بهرام في مقره، أثار جنده عليه غير أن مركز بهرام ازداد سوءا، فاضطر أن يرحل إلى أسوان؛ حيث قضى بقية أيامه في دير مجاور لهذه المدينة، وبرحيله زال النفوذ الأرمني من مصر. (8) آخر الخلفاء الفاطميين 544-567ه «1149-1171م»
تعود أهمية تاريخ هؤلاء الخلفاء إلى ارتباطهم ارتباطا وثيقا بتاريخ الحروب الصليبية، وفي اليوم الذي استنجد الخليفة العاضد لدين الله بجيوش نور الدين لينقذه من الصليبيين، حكم على أسرته بالزوال.
الخلفاء الفاطميون والأعياد المسيحية
لم يقتصر عمل الخلفاء الفاطميين على إسناد وظائف الدولة الرئيسية إلى الذميين، بل أعادوا التقليد الذي سنه محمد الإخشيدي بالاشتراك في الحفلات الدينية المسيحية، ولكن بينما كان الإخشيديون يشتركون في هذه الأعياد بصفتهم الشخصية، صبغها الفاطميون بالصبغة الرسمية، فلم يعودوا يحضرونها بصفتهم الشخصية، بل الدولة نفسها هي التي أصبحت تحتفل بهذه الأعياد.
وقد وصفنا من قبل عيد الغطاس، نقلا عن المسعودي، ولما جاء المعز، ألغى هذا العيد، ولكن لم يلبث أن أعاد العزيز الاحتفال به احتفالا عظيما، وفي عام 388ه؛ أي: في أوائل عصر الحاكم، ذكر المقريزي، نقلا عن المسبحي، أن السلطة استمرت تحتفل بهذا العيد بالأبهة نفسها، برئاسة فهد بن إبراهيم، كاتم أسرار الوزير برجوان، وفي سنة 401ه ألغى الحاكم هذا الاحتفال بعد أن شرع في حركة الاضطهاد الكبرى التي قام بها، ولما خلفه الظاهر، صرح بإقامة العيد ثانية سنة 415ه، ولكن اشتراكه فيه كان اشتراكا سلبيا، إن صح هذا التعبير، وقال المقريزي: «نزل أمير المؤمنين، الظاهر لإعزاز دين الله بن الحاكم، لقصر جده العزيز بالله لينظر الغطاس ومعه الحرم، ونودي ألا يختلط المسلمون مع النصارى عند نزولهم إلى البحر في الليل، وأمر الخليفة الظاهر لإعزاز الدين بأن توقد المشاعل والنار في الليل، فكان وقيدا كثيرا، وحضر الرهبان والقساوسة بالصلبان والنيران، فقسسوا هناك طويلا إلى أن غطسوا.».
وكان الملكيون واليعاقبة يحتفلون معا بهذا العيد، وكان الملكيون يخرجون من كنيسة القديس ميخائيل بقصر الشمع، فإذا ما وصلوا إلى ضفة نهر النيل، وعظهم أسقفهم باللغة العربية ثم استنزل نعم الله على الخليفة وأفراد البلاط، الذين يريدونه، ثم كانوا يقفلون عائدين إلى كنيستهم بنفس الطريقة التي جاءوا بها حاملين الشموع والصلبان حيث كانوا يختمون صلواتهم.
62
ويروي لنا ابن إياس عن هذا الاحتفال تفاصيل غريبة، فيقول: إن «البحر كان يمتلئ بالمراكب والزوارق، ويجتمع فيها السواد الأعظم من الخاص والعام من المسلمين والنصارى، فإذا دخل الليل تزين المراكب بالقناديل وتشعل فيها الشموع، وكذلك على جوانب الشطوط من بر مصر والروضة، وكان يشعل على الشطوط في تلك الليلة أكثر من ألفي مشعل وألف فانوس وتنزل رؤساء القبط في المراكب، وكان ينفق في تلك الليلة من الأموال ما لا يحصى من مأكل ومشرب، وتتجاهر الناس بشرب الخمر، وتجتمع أرباب الملاهي من كل فن، ويخرج الناس في تلك الليلة عن الحد في اللهو والفرجة، ولا يغلق في تلك الليلة دكان ولا درب ولا سوق، وكانوا بعد العشاء يغطسون في بحر النيل، النصارى مع المسلمين معا، ويزعمون أن من يغطس في تلك الليلة يأمن من الضعف في تلك السنة.».
وهناك عيد آخر في أهمية هذا العيد، ألا وهو النيروز؛ أي: رأس السنة القبطية، وشكا كبار المؤرخين المسلمين من أن الأقباط كانوا في هذه المناسبة يفرطون في استغلال الحرية التي كانت تمنح لهم، فيضرون بالأخلاق كل الضرر، وكان المحتفلون بهذا العيد يلهون بصب المياه القذرة على المارين، فيقول المقريزي عندما وصف لنا عيد نيروز سنة 517ه «1123م» في خلافة الآمر: «وصلت الكسوة المختصة به من الطراز وثغر الإسكندرية مع ما يبتاع من المذاب المذهبة والحريري والسوادج، وأطلق جميع ما هو مستقر من الكسوات الرجالية والنسائية والعين والورق وجميع الأصناف المختصة بالموسم على اختلافها وأسماء أربابها، وأضاف النوروز البطيخ والرمان، وعراجين الموز وأفراد البسر وأقفاص التمر القوصي وأقفاص السفرجل، وبكل الهريسة المعمولة من لحم الدجاج ولحم الضأن ولحم البقر من كل لون بكلة مع خبز بر مارق، وأحضر كاتب الدفتر الإثباتات بما جرت العادة به من إطلاق العين والورق والكسوات على اختلافها في يوم النيروز، وغير ذلك من جميع الأصناف، وهو أربعة آلاف دينار وخمسة عشر ألف درهم فضة.».
63
ويضيف المقريزي إلى ما تقدم أن الأسواق كانت تقفل في هذه المناسبة، ويكاد لا يمر أحد في الشوارع، وكانت توزع النقود على موظفي الدولة وعلى نسائهم وأولادهم.
وكان عيد الميلاد ثالث عيد يحتفل به احتفالا عظيما في عهد الفاطميين وكان من رسوم الدولة الفاطمية فيه تفرقة الجامات المملوءة من الحلاوات القاهرية والمقارد التي فيها السمك وقرابات الجلاب وطيافير الزلابية والبوري، فيشمل ذلك أرباب الدولة،
64
أصحاب السيوف والأقلام، بتقرير معلوم، ويقول المقريزي أيضا: «أدركنا الميلاد بالقاهرة ومصر وسائر أقاليم مصر موسما جليلا يباع فيه من الشموع المزهرة بالأصباغ المليحة والتماثيل البديعة بأموال لا تحصى، فلا يبقى أحد من الناس أعلاهم وأدناهم حتى يشتري من ذلك لأولاده وأهله، كانوا يسمونها الفوانيس واحدها فانوس، ويعلقون منها في الأسواق بالحوانيت شيئا يخرج عن الحد في الكثرة والملاحة ويتنافس الناس في المغالاة في أثمانها.».
وهناك عيد آخر كان المحتفلون به يتجاوزن حدود اللياقة، ألا وهو عيد الشهيد،
65
وقد ألغي في عهد المماليك، وفي هذا العيد، كانوا يغمسون في النيل أصبع قديس، وكان الشعب يعتقد أن النيل لا يفيض إلا إذا غمس فيه سنويا أصبع هذا القديس، ويؤكد المؤرخون أن فلاحي شبرى كانوا يعتمدون على بيع المشروبات الروحية في أثناء هذا الاحتفال لدفع الضرائب المقررة عليهم.
وكانت الحكومة، في عهد الفاطميين، تصك أيضا خمسمائة دينار ذهبا بمناسبة عيد العهد، وكان هذا المبلغ يوزع على جميع أرباب الرسوم.
ومن عادة النصارى في أخميم «إذا عملوا عيد الزيتونة، المعروف بعيد الشعانين، أن يخرج القساوسة والشمامسة بالمجامر والبخور والصلبان والأناجيل والشموع المشعلة ويقفوا على باب القاضي، ثم أبواب الأعيان من المسلمين فيبخروا ويقرءوا فصلا من الإنجيل، ويطرحوا له طرحا، يعني يمدحونه».
ولما تولى الأيوبيون الحكم، أبطلوا جميع هذه العادات. •••
لقد ذكرنا الحوادث العديدة والمتنوعة التي تتعلق بالعلاقات بين الأقباط والمسلمين في هذه الفترة، وأشرنا إلى أهميتها، ولكننا نشعر بعدم اهتدائنا إلى الطريق إذا أردنا الكشف عن الأسباب التي وجهت سياسة هذا الخليفة أو ذاك.
وهناك نقطة من شأنها أن تلقي بعض الضوء على أبحاثنا، ذلك أن نظام الفاطميين كان يشبه إلى حد غريب الماسونية في أيامنا هذه، وكان أتباعهم يحاطون بأسرار طقوسهم شيئا فشيئا، كما كانوا يجتمعون في محافل حسب درجاتهم.
ولا بد أن تكون هناك - كما هو الحال في الماسونية - كلمات مصطلح عليها، بعضها معروفة لدى الجميع وبعضها لا يعرفها إلا كبار الرؤساء، ومن البديهي ألا نعرف هذه المصطلحات، كما أنها ستظل في عالم الغيب إلى الأبد، لذلك فإن بعض مظاهر السياسة الفاطمية ستبقى مجهولة، فلن نستطيع أن نجزم بأن العزيز أو الحاكم أو من جاء بعدهما من الخلفاء كانوا يستوحون أوامر المحافل الكبرى، أو أنهم كانوا يعملون وفق ميولهم الشخصية ومصلحة البلاد.
لقد حاول الفاطميون الغرباء عن بلادهم أن يحققوا الوحدة القومية والتعاون الخالص لجميع المسلمين، كما تدل على ذلك، بصفة قاطعة، تصريحات المعز وأعمال قائده جوهر، ولكن يبدو أن الخلفاء عدلوا مبكرين عن التقرب من السنيين بعد أن قاموا بمحاولات فاشلة، ولما أصبح تحت تصرفهم جيش كبير من أهل شمال إفريقيا، ولما عززوه بالعناصر التركية والجنود السود، فضلوا كسب عطف الذميين، الذين لم يزالوا في ثرائهم ونفوذهم حتى قدوم الفاطميين لانتمائهم إلى الطبقة المثقفة المسيطرة على الأداة الحكومية.
وهذا الفرض، لا يمكن إهماله؛ لأن تاريخ الفاطميين يدل على طموحهم، وهم حكام مصر الإسلامية، الذين قطعوا علانية، دون سواهم، صلتهم بمركز الخلافة العباسية، وأعلنوا سيادتهم السياسية والدينية، وكل حاكم في أسرتهم أراد أن يوسع رقعة إمبراطوريته، وكل واحد منهم أراد أن يخلد ذكرى عهده ببناء مسجد في غاية الروعة أو قصر فخم، وكل واحد منهم عاش عيشة كلها ترف ورفاهية، وإذا أحصينا مع المقريزي ثروة الخليفة المستنصر أو خزائن الفاطميين وتحفهم التي نهبها الثوار، يخيل إلينا أننا نقرأ كتاب ألف ليلة وليلة.
وكان الفاطميون لهذه الأسباب في حاجة ملحة إلى المال؛ أي: إلى إدارة منظمة تقوم على عاتق موظفين أكفاء ومخلصين، يقومون بجباية الضرائب في مواعيدها، ويعملون جاهدين على إنماء الثروة الاقتصادية، وكان الأقباط على استعداد تام للقيام بهذا الدور خير قيام.
فلما يأس الفاطميون من استمالة السنيين إلى جانبهم، لجمودهم نحوهم، ولمسوا إخلاص النصارى، الذين كانوا يجمعون بين الكفاءة في الأعمال الحسابية وجباية الضرائب وبين المهارة في إتقان الصناعة، أرادوا أن يردوا جميل الأقباط إليهم، فأظهروا لهم تسامحا لا حد له.
غير أن هناك نقطة ما زالت تقلقنا: لقد أثار المعز، وهو أول خليفة نزل مصر، إشاعات حول وفاته، ولم يتردد فيها التاريخ القبطي؛ حيث يقول: إن هذا الخليفة ترك الحكم بعد أن اعتنق المسيحية؛ ومن جهة أخرى، بلغ تسامح العزيز مع النصارى درجة تدعو إلى الدهشة بالنسبة إلى عصره؛ أما الحاكم، فإنه اختفى بعد أن تردد آخر شهور خلافته على الرهبان وأصلح الأديرة والكنائس؛ ثم يأتي الظاهر، فيضع قانونا للردة، ويليه المستنصر الذي أرسل في طلب الوزير الأرمني بدر الجمالي؛ أما الآمر فقد زار الأديرة وزينها وأهمل محاربة الصليبيين، وأخيرا خاطر الحافظ بحياته ليحمي وزيره بهرام النصراني، هل نستطع أن نجزم بأن الإفراط الذي وقعت فيه هذه الأسرة كان يبرره فقط إخلاص النصارى لها؟
وقد نال الأقباط في هذا العهد المجد والثروة والحظوة والسلطان إلى أن أدى غضب الشعب عليهم إلى اضمحلال نفوذهم؛ ذلك لأن الأقلية الدينية استغلت ثقة الخلفاء لهم ليفوزوا بأكبر نصيب من التسامح للذميين، بينما أظهروا عدم مبالاتهم، بل جهروا بعداوتهم للأغلبية الدينية.
وقد استطعنا بفضل كتاب «قانون ديوان الرسائل» لابن الصيرفي، أن نكون فكرة عن طريقة العمل في المصالح الأميرية، وهذا ما يقوله المؤلف عن التأشيرات التي كانت تكتب على العرائض: «فلعهدي بالتوقيعات، يكتب على بعضها «يعرض» وعلى أكثرها «يجدد عرضها» وما أشبه ذلك من الفوارغ التي لا معنى لها وتعاد إلى أصحابها، فإذا كتبوا غيرها وقع عليها مثل ذلك أيضا، وأما «لا سبيل إلى ذلك» فهي لفظة قد اعتادها حتى لو التمس نصراني أن يسلم أو مسلم أن يبني مسجدا من ماله في أرض مباحة لا مالك لها، لوقع على رقعته: «لا سبيل إلى ذلك» ولا يوقع إلا فيما كان تخطيطه الجزية على الذمة أو عمارة الكنائس، وما أشبه ذلك لكون بعض من يوقع فيها نصرانيا.».
66
ولا عجب لذلك، فإن الأقباط كانوا يأملون في ذلك الوقت باسترداد النفوذ، الذي كانوا يتمتعون به عندما فتح العرب مصر، فلما اضطهدهم الحاكم فكروا فيما آلوا إليه من بؤس وأسفوا على المجد الذي بلغوه قبل أن ينحدروا إلى الظلام الحالك.
67
هوامش
الفصل السابع
موقف الصليبيين من النصارى
سياسة صلاح الدين والأيوبيين إزاء الأقباط
إن ضخامة الوسائل التي أعدها الصليبيون وتعدد هجماتهم تدل بلا شك على أن الحروب الصليبية كانت محاولة لمحو نفوذ الإسلام في الشرق، فقد شنت هذه الحروب أول ما شنت لانتزاع حماية القبر المقدس من الخلفاء، ولكنها ما لبثت أن تحولت إلى قتال عام بين جيوش الإسلام وجيوش المسيحية؛ أي: بين الشرق المسلم والغرب المسيحي.
لما تحدثنا عن الفتح الإسلامي، حاولنا أن نحدد موقف الفاتح واستعداد الشعوب المهددة بالغزو، كذلك سنحاول أيضا تحديد سياسة الغزاة؛ أي: الصليبيين، نحو النصارى في مصر، وموقف النصارى منهم، غير أن المستندات التي عثرنا عليها قليلة؛ ذلك لأن النصارى في الشرق، وخاصة النصارى في مصر، فقدوا نفوذهم، كما بينا ذلك، مما دعى مؤرخي الحروب الصليبية، سواء الشرقيين منهم أم الغربيين، إلى أن يصرفوا عنايتهم إلى غير مصير الأقليات الدينية، فلم يذكروها إلا مصادفة، كما أنهم لم ينوهوا إلا بمعلومات سطحية.
لذلك نرى أنفسنا مضطرين إلى الالتجاء إلى طريقة الاستنتاج، ومع كل، فسنحاول بما تحت أيدينا من وثائق قليلة، أن نعطي فكرة دقيقة إلى حد ما عن هذا الموضوع. (1) جهل الصليبيين وخشونتهم
كان الصليبيون فرسانا لا يخشون الموت، مهروا في فنون المبارزة والقتال، وكانوا يرتكزون على شجاعتهم وغلظتهم للظفر بالعدو والانتصار عليه، وكانوا يأنفون، لزهوهم وكبريائهم، الالتجاء إلى الطرق السلمية أو الدبلوماسية ليصلوا إلى رغباتهم، ويقول المؤرخ «ميشيو»
Michaud : «كان البارونات والنبلاء يجهلون، لغلظتهم، الكلمات المعبرة عن حقوق المرء، وكان أفق علمهم قاصرا على ميادين الحروب، وهي سياسة الأمراء والدول في ذلك العصر.»
1
وينقل إلينا «ميشو»، من بين الروايات القديمة، هذه القصة التي تكشف لنا عن عقلية هؤلاء الفرسان في القرون الوسطى، «بينما كان عدد من الأمراء الفرنسيين يقومون بفروض الاحترام للإمبراطور «الكسيس» ساعة استقبالهم لهم، ذهب الكونت «روبير دي باري» وجلس بجانبه فأمسكه «بودوان دي هينو» من ذراعه وقال له: «اعلم أنه يجب احترام تقاليد البلاد التي نقدم إليها.» فأجابه «روبير»: «أحقا تقول؟ كيف يجلس هذا الفلاح بينما يقف هذا العدد الكبير من القواد العظام؟» وأراد الإمبراطور أن يفهم معنى هذا الحديث، فلما انصرف النبلاء من عنده، استبقى «روبير» وسأله عن أصله وعن وطنه، فأجابه: «إني فرنسي ومن أعرق النبلاء، وإني لا أعرف إلا شيئا واحدا، ذلك أن يوجد بالقرب من كل كنيسة ساحة يذهب إليها كل من يحترق شوقا لإظهار شجاعته، وقد ذهبت إليها عدة مرات، فلم يجرؤ أحد على منازلتي.».
2
فالصليبيون إذا ورطوا أنفسهم في مغامرة خطيرة للغاية لاعتمادهم على السيوف فقط، وإذا أدى الحماس إلى زيادة عددهم بكثرة، فإن الجيوش تحركت دون أن تتخذ أية حيطة، وقد تقدمها جمع غفير من الحجاج غير المسلحين، فهبوا متأثرين بخطب بطرس الراهب وبتعصبهم الديني، فواجهوا الموت بارتياح، وقد أبادهم الأتراك تقريبا عن آخرهم.
وسافرت بعد ذلك جيوش البارونات المسلحة، وقد بلغ عدد جنودها نصف مليون تقريبا غير أن النظام كان ينقصها، ولم يكن عليها قائد واحد، وكان الخلاف في كثير من الأحيان يدب بينهم، وكان كل فريق يميل إلى العمل حسب هواه، فتحمل الجيش من جراء ذلك مضايقات خطيرة وخسائر فادحة رغم تفوق قواته على قوة المدافعين المسلمين، كما أن ملابس الجند كانت ثقيلة بالنسبة لمناخ بلاد حارة كفلسطين، ثم إنهم لم يفكروا في استقدام أسلحة للحصار، بل عرقلوا عملياتهم الحربية بجيش من النساء، عطل حركاتهم وأبطأ تقدمهم واستهلك مؤنهم.
ثم إن الصليبيين كانوا يجهلوا طبيعة البلاد التي اجتاحوها، وكانوا لا يستعينون في أغلب الأحيان بالمرشدين أو الأدلاء، وهناك رواية، نجهل مصدرها، تقول: إن الوطنيين، واسمه قراقوش «؟»، هو الذي لفت نظر «فيليب أوغست» إلى أن مصر مفتاح سوريا، ومن ذلك الحين، تعددت حملات الصليبيين على وادي النيل بقصد قطع دابر هجمات العرب والاستيلاء على بلاد مشهورة بتربتها الخصبة،
3
ولما دخلوا الأراضي المصرية، كانوا أبعد الناس معرفة بأحوال فيضان النيل وما يترتب عليه، فتقدموا غير مبالين بالعواقب، حتى حان موعد فتح السدود ففاضت الترع والقنوات وحاصرت جيوشهم واضطرتهم إلى التسليم، وبلغ بهم الجهل بنظم البلاد السياسية حد إطلاقهم على الوزير الأفضل شاهنشاه لقب «ملك بابليون».
4
زد على ذلك أن عدم استعدادهم الدبلوماسي كان أشد خطورة عليهم من عدم استعدادهم العسكري، فقد هب الصليبيون لإنقاذ «الكسيس» إمبراطور بيزنطيا من الخطر العثماني، ولكن فاتهم أن يأخذوا منه الضمانات الكافية، فلما وصلوا إلى ضفاف البسفور، فاجأهم الإمبراطور بسياسته المائعة، حتى نفد صبرهم منه، ولم يتخذوا الحيطة بعقد معاهدة مع الإمبراطورية البيزنطية لتنظيم مرورهم بأراضيها إلا قبيل الحملة الثالثة.
ثم كان الصليبيون يجهلون كل شيء عن البيزنطيين الذين اشتهروا بسعة الحيلة بقدر ما مهروا في فن الدبلوماسية، وكانوا يعتبرون شعوب أوروبا شعوبا بربرية، ويعتزمون التخلص من الصليبيين بعد أن يأمنوا خطر المسلمين ويجنوا ثمرة انتصاراتهم، ولما رأوا أن قوات الغرب لا تكفي لدرء الأخطار عن إمبراطوريتهم، أسرعوا إلى ترضية الفريقين المتحاربين، فعقد «إسحاق الملاك» معاهدتين في وقت واحد: الأولى مع فريدريك الثاني، والثانية مع صلاح الدين الأيوبي.
وكيف يطلب إلى رجال عسكريين، جل همهم التباري في ساحات القتال، كيف يطلب إليهم أن يحلوا رموز السياسة المعقدة أو أن يستغلوا العروض التي تقدم إليهم من شعوب أخرى، كالتتر مثلا، لعقد محالفات؟
أكان في استطاعتهم أن يدركوا أن الشرق الإسلامي لم يكن متحدا حينما فيه؟ وكيف يدركون، مع جهلهم التام بالديانة الإسلامية، أن خلافتين، ما زالتا قويتين، تتنازعان السيطرة على العالم الإسلامي: الأولى في مصر، وهي الخلافة الفاطمية الشيعية، والأخرى في بغداد وهي الخلافة العباسية السنية؟
ومع ذلك، فإن الصليبيين كان في مقدورهم الانتصار بلا شك ولا عناء ، لو كان أمامهم العرب دون سواهم، ولكن الأتراك القادمين من آسيا تدخلوا في الأمر لرفع مستوى قوة الخلفاء المتخاذلة، فرجحوا بذلك كفة الإسلام هذا بالرغم من أن انضواءهم تحت لواء العباسيين جلب عليهم عداوة الصليبيين والفاطميين وبعض الإمارات السورية التي استغلت الفوضى السائدة لإعلان استقلالها.
حقق الفاطميون ما لم يخطر ببال الصليبيين، فأرسلوا إليهم وفدا لعقد تحالف بينهم، ولما وصل الوفد الفاطمي عند الصليبيين كانوا وقتئذ يحاصرون أنطاكية، وترك لنا «روبير لوموان»
5
قصة رائعة عن هذه المقابلة، ويقول: «حاول الجنود المسيحيون أن يخفوا عن المسلمين ما تحملوه من بؤس وشقاء، فتزيوا بأزيائهم النفيسة وحملوا أجمل أسلحتهم ... واستقبل رؤساء الجيش الوفد المصري تحت خيمة بديعة، وقال الوفد صراحة في خطابه: إن الخليفة لم يفكر أبدا في إبرام محالفة مع المسيحيين، إلا أن انتصارات الصليبيين على الأتراك، وهم أعداء سلالة علي بن أبي طالب اللدا، جعل الخليفة يعتقد أن الله تعالى قد أرسلهم إلى آسيا قصاصا وعدلا.
وكان الخليفة المصري على استعداد ليتقرب من المسيحيين المنتصرين، ويدخل فلسطين وسوريا بجيوشه، ولما علم أن كل ما يرجوه الصليبيون هو الاستيلاء على القدس، وعد بأن يعيد الكنائس إلى سابق مجدها وإقامة الشعائر فيها، وفتح أبواب المدينة المقدسة لجميع الحجاج على أن يأتوا مجردين من الأسلحة وألا يقطنوا فيها أكثر من شهر.
كان يمكن أن يعتبر ما عرضه الوزير الأفضل شاهنشاه أساسا للمفاوضات؛ إذ كان الفاطميون يهتمون خصوصا بحماية حدود مصر الشرقية باستعادة فلسطين التي وقعت بين أيدي الأتراك، ثم كان نفوذ الأقليات الدينية، أو بالأحرى النفوذ الأرمني في مصر، قويا في ذلك الوقت؛ لأن سلطة الخليفة كانت معدومة، وليس بمستبعد على الفاطميين الذين ذهبوا بتسامحهم إلى ترقية النصارى إلى رتبة الوزارة، أن يتحالفوا عسكريا مع المسيحيين لإنقاذ عرشهم المتداعي.
غير أن الصليبيين لم يكونوا في مستوى يسمح لهم أن يسلكوا سياسة واسعة، ولا نعجب إذ رأيناهم بأسلوبهم الخشن: «لم نقدم إلى آسيا لنخضع لأوامر المسلمين أو نتقبل حسناتهم، وعلى كل، فإننا لم ننس إهانات المصريين للحجاج الغربيين، وما زلنا نذكر أن النصارى في خلافة الحاكم، سلموا إلى الجلادين، وأن كنائسهم هدمت، ولا سيما كنيسة القيامة من أعلاها إلى أسفلها ... إن المسيحيين يريدون أن يتولوا بأنفسهم حراسة القدس ويتحكموا فيها، اذهبوا وقولوا لمن أرسلكم أن عليه أن يختار الحرب أو السلم قولوا له: إن المسيحيين المعسكرين أمام أنطاكية لا يهابون شعوب مصر ولا الحبشة ولا بغداد، وإنهم لا يتحالفون إلا مع الدول التي تحترم القوانين العادلة وأعلام يسوع المسيح.»
6
ومن عجب، رغما عن خشونة الإجابة، فإن المفاوضات لم تقطع، بل صاحبت بعثة مسيحية الوفد الإسلامي إلى مصر.
ونقول بعد ذلك: إن الحلف الذي عرضته مصر على الصليبيين شيء لا يذكر بالنسبة للذي عرضه، فيما بعد، التتر على الملك لويس التاسع، والواقع أن عددا كبيرا من التتر اعتنق الدين المسيحي تحت تأثير القساوسة النسطوريين، ثم إن زوجة جنكيز خان المسيحية لم تزل تطالب زوجها بالتسامح مع أبناء دينها، والتحالف مع الصليبيين، ولو أن هذا التحالف قد أبرم، لما استطاع الأتراك أن يصمدوا طويلا أمام القوات المتحالفة، ولكن الصليبيين أهملوا هذا العرض الذي كان من شأنه أن يدعم الإمبراطورية اللاتينية الشرقية الآيلة للسقوط، بل عمدوا دائما على زيادة أعدائهم وإشعال نار البغضاء في قلوب حلفائهم، وهكذا نراهم في أثناء الحرب الصليبية الثانية، ينقلبون على والي دمشق، حليفهم الطبيعي؛ لأنه كان عدو الأتراك، بدلا من أن يهاجموا قوات نور الدين.
ولا يعنينا أن ندخل في تفاصيل الحروب الصليبية، وكل ما نرجوه من عرض الحوادث السابقة، أن نبين عدم استعداد الصليبيين عسكريا وسياسيا قبل دخولهم في هذه المغامرة الكبرى، وذلك بسبب جهل تنظيمها التام، ويقول المؤرخ الحديث «رينيه جروسيه»
Groussct
في هذا الشأن: «لقد توغل البارونات الفرنجة بدون استعداد في هذا العالم الإسلامي المترامي الأطراف والمعقد أشد تعقيدا، وكان عليهم أن يرتجلوا النظم لإنشاء دولة، ويتبعوا سياسة ثابتة إزاء الأهلين، ويبتكروا نظاما إداريا ينسجم مع البيئة.»
7
وكلمة الارتجال هي خير ما يعبر بها في هذه المناسبة؛ لأن الصليبيين لم يكونوا قد أعدوا أية خطة، ولكن الظروف هي التي أملت عليهم موقفهم، فكانوا أبعد الناس عن التفكير في الاستعانة بنصارى الشرق قبل بدء الحملة، وعلينا حينئذ أن نقتصر في بحثنا على دراسة علاقة الصليبيين بالأقليات الدينية، وهو ما يهمنا. (2) الصليبيون والنصارى الشرقيون
ليس بالإمكان أن ننظر إلى موقف النصارى من الصليبيين نظرة عامة، ويجب ألا يكون التمييز بين اليعاقبة والملكيين، ولكن بين اليعاقبة وبين سائر الجاليات المسيحية في الشرق؛ ذلك لأن اليعاقبة السوريين الذين لجأوا إلى مصر عند اقتراب الصليبيين من سوريا، خوفا منهم، لم يلبثوا أن عادوا إلى بلادهم بعد أن استقر الموقف في القدس.
8
ليس من العسير أن ندرك سبب ذلك، ففي أوائل القرن العاشر الميلادي اجتاح البيزنطيون بقيادة «نقيفورفوكاس» ونائبه «جان تزيميسيس» مقاطعة صقلية وشمال سوريا، ثم لبنان، حيث أوقف الفاطميون تقدمهم، واحتفظ البيزنطيون بأكبر جزء من الأراضي التي احتلوها مدة مائة وخمسة عشر عاما، وأخذوا يحلون بالتدريج العناصر المسيحية في تلك الجهة محل العناصر الإسلامية، وحدث قبل ظهور الصليبيين بخمس عشرة سنة أن انتزعت القبائل التركية، تحت قيادة طغرل بك، هذه الممتلكات من البيزنطيين، فمن الطبيعي إذا أن تخف الشعوب المسيحية في أرمينيا وآسيا الصغرى وسوريا إلى استقبال الصليبيين، خاصة وأنهم لم يأتوا إلى الشرق إلا تحقيقا لهدف ديني، وهو تحرير القدس، موضع تقديس المسيحيين أجميعن، وتلبية لدعوة الإمبراطور البيزنطي «الكسيس كومنين».
وكان الأرمن أول من ساعد الصليبيين في أثناء اجتيازهم آسيا الصغرى، ويقول «ميشو»: لم يكن «بودوان» في حاجة إلى مرشدين في بلاد كان سكانها يعرضون عليه مساعدتهم،
9
وقد انتخبه سكان الرها المتحمسون ملكا عليها، ولما قدم إليها، ذهب إليه أسقفها واثنا عشر من وجهائها وأخذوا يحدثونه عن ثروة الأردن تحريضا له على افتتاحها.
وحذا اللبنانيون حذو الأرمن، فقدموا مساعدتهم للفاتح وكانوا له خير معين،
10 «وكان يوجد وقتئذ ببيروت عدد كبير من النصارى الملكيين واليعاقبة، ولم يترددوا جميعا في مناصرة الصليبيين وصاهروهم عن طريق الزواج، فزاد عدد الأسر الأوروبية، وكانوا يؤلفون أغلبية الأطباء والصيادلة في الجيش وفي معسكرات الصليبيين، أضف إلى ذلك أنهم كانوا يضطلعون بأعمال الترجمة في مختلف الدواوين.».
11
وقد ارتاح الصليبيون واطمأنوا لموقف هذه العناصر؛ إذ إنهم وجدوا فيهم حلفاء مخلصين في قلب الإمبراطورية الإسلامية، وعلى أي حال، فإن الصليبيين أظهروا شعور العطف نحو جميع النصارى على حد سواء، فلم يكن أمامهم إلا عدو واحد، وهو المسلم.
وكتب ميخائيل السوري، الأسقف اليعقوبي، في هذا الصدد قائلا: «لما اجتاز الصليبيون البحر، اجتمعوا وأخذوا عهدا على أنفسهم أمام الله بأنهم لو دخلوا القدس سيعيشون بسلام مع مختلف المذاهب المسيحية وسيوزعون الكنائس والأديرة على جميع الطوائف المسيحية.»
12
غير أن نشوة النصر جعلتهم ينقضون بعض وعودهم، «فلما احتل الصليبيون مدينة أنطاكية، طردوا الأروام من كنائسهم الكبرى، وطردوا أساقفهم، ثم عينوا بطريركا وعدة أساقفة من اللاتين.»
13
ويؤيد متى الرهاوي هذه القصة ويتهم اللاتين المنتصرين بالاستيلاء على أديرة الأرمن والروم والسوريين والجورجيين،
14
ولكنها أعيدت إليهم بعد ذلك، ثم حدثنا ميخائيل السوري عن العلاقات بين مسيحيي الشرق والغرب، فقال: «كان يوجد أساقفة من اللاتين في أنطاكية والقدس بعد أن احتل الصليبيون هاتين المدينتين، ولكن أساقفتنا كانوا يعيشون بينهم دون أن يضطهدهم أحد أو يسوء إليهم، ولم يشر الإفرنج صعوبات فيما يختص بعقيدة سائر النصارى، ولم يحاولوا أن يفرضوا حلا واحدا لاتحاد جميع الشعوب التي تعتنق المسيحية، بل كانوا يعتبرون كل من يعبد الصليب مسيحيا، وذلك بدون تحقيق ولا امتحان سابق.».
15
ومما يدل أيضا على تسامح الصليبيين مع النصارى الشرقيين، الخطاب الذي أرسله وجهاؤهم إلى البابا «أوربانوس» يدعونه فيه إلى زيارة القدس، وقالوا في هذا الخطاب: «... لقد هزمنا الأتراك والوثنيين، ولكنا لا نستطيع أن نستعمل العنف مع الملحدين من الروم والأرمن والسريان واليعاقبة ... تعال وحطم بنفوذك الذي لا مثيل له الإلحاد كله.».
16
أضف إلى ذلك أنه على أثر قيام المذابح العظيمة التي كانت سببا في إخلاء مدينة القدس من سكانها المسلمين الذين سبق لهم إبادة العناصر النصرانية، قرر «بودوان» تعميرها بالنصارى الشرقيين، فعرض على السريان والروم القاطنين في الأردن أن يقيموا في القدس دون أن يهتم بالمذهب الذي يعتنقونه، وكذلك كان الوئام تاما أو يكاد يكون بين مسيحيي الشرق والغرب فيما عدا يعاقبة مصر.
ومن جهة أخرى، يشهد الرحالة ابن جبير، المعروف بعدم ميله للنصارى، أن الصليبيين كانوا يعاملون المسلمين معاملة حسنة؛ إذ قال: «المسلمون مع الإفرنج على حالة ترفيه، نعوذ بالله من الفتنة.».
17
بقي علينا أن نبحث موقف اليعاقبة في مصر، ويبدو أن قلة المستندات والخلط بين الملكيين واليعاقبة في روايات المؤرخين لا تمكنا من الوصول إلى رأي قاطع في هذه المسألة، إلا أن أحد القرارات التي اتخذها الصليبيون إزاء الأقباط يلقي شيئا من الضوء على هذه المسألة، لما احتل الصليبيون القدس، منعوا النصارى المصريين من الحج إلى هذه المدينة بدعوى أنهم ملحدون، وكتب أحد المؤرخين الأقباط يشكو من هذه المعاملة قائلا: «لم يكن حزن اليعاقبة بأقل من المسلمين.»، ثم قال متحسرا: «بأي حق يمنع النصارى الأقباط من الحج إلى القدس أو الاقتراب من المدينة؟ إن الصليبيين يكرهوننا كما لو كنا ضللنا عن الإيمان القويم.».
18
وقد ذكرنا أن الصليبيين لم يظهروا أي تعصب نحو المذاهب المسيحية الأخرى، فلماذا أظهروا هذا التعصب نحو المصريين وحدهم؟ هل لمسوا في أثناء وجودهم في الشرق حقد اليعاقبة إزاء الملكيين؟ إن هذا الحقد الذي بدأ منذ حركة ديوسفوروس، وامتد إلى نهاية القرن التاسع عشر يجعلنا نميل إلى الاعتقاد بأن اليعاقبة المصريين لم يرتاحوا كثيرا لوجود الجيوش الكاثوليكية في الشرق.
19
ولكن، هل وجهة نظرهم هذه أعفتهم من عنت المسلمين؟
لما نشبت الحرب الصليبية الأولى، لم يسجل التاريخ أية مظاهرة ضد الأقباط، بالرغم من اشتراك الجيوش الفاطمية في القتال دفاعا عن القدس التي انتزعتها من الأتراك قبل ظهور الصليبيين؛ ذلك لأن الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي كان يحكم البلاد تحت حكم الفاطميين.
ولما عرف الصليبيون طريق مصر، توالت اعتداءاتهم على الأراضي المصرية، وفي هذا الأثناء أخذ سلطان الفاطميين في الأفول، وبلغ الضعف بالخلفاء مبلغا جعلهم يخضعون لحكم الوزراء إلى أن جاء اليوم الذي استنجد فيه العاضد بنور الدين ، فما كان من صلاح الدين قائمقام نور الدين إلا أن دخل بعساكره الأكراد وادي النيل ليطرد منه الفاطميين والصليبيين.
ويقول تاريخ البطاركة: «إن فترة الانتقال والفوضى والحروب التي أعقبت طرد الفاطميين، عمل الأكراد ثانية بالقوانين الخاصة بزي الذميين ولطخت الكنائس بالوحل وكسرت الصلبان، وتدل كثرة الذين اعتنقوا الديانة الإسلامية من المسيحيين في هذا العصر على حدوث اضطهادات.».
20
ويحق لنا أن نتساءل: هل كان صلاح الدين هو ذلك القائد الذي اشتهر في الغرب بالتسامح مع رعاياه المسيحيين؟ هذا رأيهم إلى الآن؛ إذ يذكرون له ما كان يكنه من احترام لأعدائه الإفرنج، ولكنهم يعوزهم البرهان، وأخيرا أراد أحمد زكي باشا
21
أن يظهر التسامح الديني لمؤسس الدولة الأيوبية، فذكر لنا أن اليعاقبة في مصر كانوا يتجسسون لحساب صلاح الدين، ولكن هذا الدليل يعزز فقط وجهة نظرنا عن كراهية اليعاقبة لشعوب الغرب.
ولا ننسى أن صلاح الدين أصدر، في اليوم الذي عينه الخليفة العاضد وزيرا بدلا من «شيركوه»، أمرا يحرم على الذميين شغل وظائف الدولة، ولما كان صلاح الدين متدينا، فلم يحاول تحرير مبادئه، وكان يحذو في ذلك حذو أخيه الأكبر نور الدين، الذي كتب ذات يوم إلى الخليفة العباسي: «إن المسلمين حكموا خمسمائة عام ولم يسوءوا خلالها إلى النصارى في الإمبراطورية الإسلامية، ومن لم يسلم منهم يقتل، «فأجاب الخليفة: «إنك لم تفهم تماما أقوال النبي
صلى الله عليه وسلم
وأن الله لا يأمرنا أن نقتل من لم يرتكب السوء.».
22
ولا نستطيع الجزم بأن صلاح الدين كان متعصبا أو أنه كان يضطهد النصارى، غير أننا نعتقد أنه كان لا يميل إليهم بأي حال من الأحوال، وذلك رغم استخدامه لعدد من الكتاب النصارى، خصوصا وأنه لم يمنح أحدهم أي امتياز خاص.
ويصف المستشرق «رينو»
Reinaud
السلطان صلاح الدين بالعبارة الآتية: «لقد تنازع حكمه عاطفتان: الطموح وكرهه للنصارى، والغريب أنه لم يكره النصارى كأفراد بل كان يكرههم كأمة، فلما هزمهم سرعان ما تغير موقفه نحوهم، وآية ذلك أنه لم يكتف بالتسامح مع أقباط مصر، وكان عددهم في ذلك الوقت كبيرا نوعا ما، ولكنه احترم عهدهم وجعل بعضهم في خدمته.».
23
كتب «رينو» رأيه هذا اعتمادا على موقف صلاح الدين من النصارى بعد فتحه مدينة القدس، وقد نصت شروط التسليم على أن المسيحيين الإفرنج يعتبرون وحدهم أسرى حرب، وعليهم دفع الدية الحربية إذا أرادوا فك هذا الأسر.
ويضيف ابن الأثير، الذي عاصر الحروب الصليبية، إلى ذلك قوله: «أما الفرنج من أهل القدس، فإنهم أقاموا وشرعوا في بيع ما لا يمكنهم حمله من أمتعتهم وذخائرهم وأموالهم وما لا يطيقون حمله وباعوا ذلك بأرخص الثمن، فاشتراه التجار من أهل العسكر واشتراه النصارى من أهل القدس، الذين ليسوا من الفرنج، فإنهم طلبوا من صلاح الدين أن يمكنهم من المقام في مساكنهم ويأخذ منهم الجزية فأجابهم إلى ذلك، فاستقروا فاشتروا حينئذ من أموال الفرنج.».
24
على أن تسامح صلاح الدين مع النصارى الشرقيين يعود إلى أن هؤلاء النصارى سهلوا له مهمة الاستيلاء على بيت المقدس؛ وذلك بإلحاحهم على الصليبيين بأن يسلموا المدينة، ولما كان عددهم يفوق عدد الصليبيين فقد تمكنوا من تحقيق رغبتهم.
25
وبالاختصار نقول: إن صلاح الدين رفض الاعتراف بالامتيازات التي حصل عليها النصارى في عهد الفاطميين، ومن المحتمل أن يكون إخراجه الذميين من وظائفهم هو، كما يقول المسيو فييت، «بمثابة حركة تطهير أجريت ضد الفاطميين أكثر منها بغضا ضد النصارى.»، ولكن صلاح الدين لم يتوان في إلغاء اشتراك الخلفاء في الأعياد المسيحية، ذلك التقليد الذي كان رسخت جذوره في البلاد،
26
ومهما يكن من أمر، فقد بدأ السلطان في نظر الأقباط حاكما عادلا ورءوفا؛ إذ إن وجوده في الحكم منع عنهم بلاء كثيرا وأوقف حركة التخريب، ولولاه لاستمرت الفوضى في البلاد، ثم إن الأقباط فرحوا؛ لأن صلاح الدين ألغى الضرائب الهلالية العديدة التي أعادها آخر الخلفاء الفاطميين.
بعد أن توفي صلاح الدين، واجه الأيوبيون حملتين صليبيتين خطيرتين على مصر؛ «الحملة التي شنها «جان دي بريين»
Brienne
وحملة الملك لويس التاسع».
لما نزل «جان دي بريين» على ساحل دمياط واحتل المدينة، قلقت السلطات المصرية وأخذ أولياء الأمر يتساءلون عما إذا كان النصارى في مصر سيستقبلون الإفرنج بحفاوة، كما استقبلهم النصارى الأرمن والسوريون، وتساءلوا أيضا هل من الحكمة أن يحولوا دون هذا التعاون الذي قد يؤدي إلى عواقب خطيرة بالنسبة إلى المسلمين، ومما زاد المشكلة تعقيدا أن كان في دمياط نفسها عدد كبير من النصارى الملكيين، والدليل على ذلك ما ذكره الأنطاكي عن وجود أسقف خاص بهذه المدينة في عهد الظاهر لدين الله.
27
وكان هذا القلق وحده كافيا لبعث الاضطرابات في القاهرة خاصة: «وقد شمل الذهول والفزع جمع السكان، وراجت الإشاعات حول موقف النصارى فأصبحوا موضع الريبة، وثار ضدهم عدد كبير من الناس ... وأصدر السلطان أمره بتعبئة نصف سكان مصر والقاهرة مختارين أو مكرهين لمقاتلة الصليبيين ... أما النصارى القاطنون في القاهرة، فقد فرضت عليهم ضريبة وكذلك سائر الأغنياء».
هكذا انتهزت الحكومة فرصة الفزع الذي حل في البلاد لتملأ خزائنها التي تأثرت من الحرب القائمة، والذي يجب الإشارة إليه هي الطريقة التي توسل بها رجال الحكم ليأخذوا من النصارى أكثر قدر من المال دون أن يلجئوا إلى العنف، ويدلي «رينودو» عن هذا الحادث تفاصيل شيقة: قال: «أرسل حاكم مصر، بعد أن استشار رجال القانون، في طلب قساوسة الأقباط اليعاقبة والملكيين وقال لهم: «سافروا «مع المسلمين» وإمعانا في تخويفهم قال: «لأجل الحرب اخرجوا مع المسلمين! غير أنكم لن تصلوا إلى باب المدينة حتى يقتلوكم، وما من أحد يستطيع أن يلومهم في الظروف التي نحن فيها»، وكان يقصد بكلامه هذا الملكيين؛ إذ كان المسلمون يأخذون عليهم حبهم للفرنج ومحاكاة عوائدهم وطريقتهم في تصفيف شعرهم، وعدم إجرائهم عملية الختان وغيرها من الأشياء المماثلة، فخاف القساوسة من هذا الكلام خوفا شديدا، فأسرع أحدهم إلى القول: «لدينا مبلغ ألف دينار» فأجاب الحاكم، «حسنا اذهبوا وأحضروا هذا المبلغ»، ثم قيل للقساوسة الأقباط الذين كانوا حاضرين: «إن هؤلاء القوم ليسوا بمرتبتكم، إنكم تساوون أربعة وعشرين واحدا منهم، ولكن إذا فرضنا أنكم لا تساوون إلا عشرة فقط، فعليكم أن تدفع ثلاثة آلاف فقط»، ووضعت الأختام على الكنيسة المعلقة وكنيسة الملكيين ومعبد اليهود.».
28
ويضيف «رينودو» على ما تقدم أن جنود القاهرة، وهم في طريقهم إلى دمياط، نهبوا كنائس اليعاقبة والملكيين التي صادفتهم، وأصدر السلطان أمرا بهدم كنيسة القديس مرقس بالإسكندرية، بدعوى أنها تتحكم في الميناء، وأنه إذا ما استولى عليها الفرنج استطاعوا أن ينصبوا فيها آلات الحرب ويسيطروا على الخليج، وحاول النصارى عبثا دفع ألفي دينار لإنقاذ الكنيسة ولكنها خربت عن آخرها.
ويبدو أن الاضطهاد كان عنيفا؛ إذ يقول المؤرخ «كولبو»
Coulbeaux
في كتابه «تاريخ الحبشة»:
29
إن النجاشي «لابيليلا»
Labilela
صرح عام 1218 بدخول عشرة آلاف قبطي فروا من أعمال المسلمين الانتقامية، إلا أن ليس هناك ما كان يبرر هذا الاضطهاد بدليل أنه لا يوجد مستند عربي واحد يتكلم عن مساعدة النصارى للصليبيين، ولكن كان ظهور الصليبيين كافيا وحده لإثارة الشك في قلوب المسلمين، وهذا حدث أيضا في جميع البلدان التي ظهر فيها الصليبيون.
وقد أظهر الملك الكامل الذي خلف والده العادل عطفا على النصارى إلى درجة أن الرواية الفرانسيسكانية تدعي أنه أمضى بقية حياته في دير «وهو ما نستبعده»، ويبدو أن تهديد التتار الزاحفين من الشرق قد أثر في سياسته نحو الصليبيين، وتقول إحدى الوثائق المسيحية: إنه منع سب المسيحيين بالكلمات وحتى بالإشارات،
30
وهدد من يخالف الأمر بالعقوبة الصارمة ، غير أنه لم يستطع أن يمنع البدو من الإساءة إلى النصارى بعد أن أمر البدو باجتياح المناطق المجاورة لمدينة دمياط.
31
فقدت الحروب الصليبية، في عهد فريدريك الثاني والملك الكامل، صبغتها الدينية بعد أن مد إمبراطور ألمانيا يده إلى الملك المسلم، الذي ترك له القدس بدون قتال، ولكنها أصبحت في عهد لويس التاسع حرب إبادة، وقد أمدنا المقريزي بالخطاب الذي أرسله لويس التاسع إلى الملك الصالح،
32
وهذا نصه: «أما بعد؛ فإنه لم يخف عليك أني أمين الأمة العيسوية كما أنه لا يخفى علي أنك أمين الأمة المحمدية، وغير خاف عليك أن عندنا أهل جزائر الأندلس وما يحملونه إلينا من الأموال والهدايا، ونحن نسوقهم سوق البقر، ونقتل منهم الرجال ونرمل النساء ونستأسر البنات والصبيان ونخلي منهم الديار، وأنا قد أبديت لك ما فيه الكفاية وبذلت لك النصح إلى النهاية، فلو حلفت لي بكل الأيمان وأدخلت علي القساوسة والرهبان وعملت قدامي الشمع طاعة للصلبان لكنت واصلا إليك وقاتلك في أعز البقاع إليك، فإما أن تكون البلاد لي فهي هدية حصلت في يدي، وإما أن تكون البلاد لك والغلبة علي فيدك العليا ممتدة إلي، وقد عرفتك وحذرتك من عساكر حضرت في طاعتي تملأ السهل والجبل وعددهم كعدد الحصى، وهي مرسلون إليك بأسياف القضاء.».
ولم يكن جواب الملك الصالح على هذه الرسالة بأقل غطرسة منها؛ إذ جاء فيه: «أما بعد؛ فإنه وصل كتابك وأنت تهدد فيه بكثرة جيوشك وعدد أبطالك، فنحن أرباب السيوف، وما قتل منا فرد إلا جددناه، ولا بغي علينا باغ إلا دمرناه، ولو رأت عيناك أيها المغرور حد سيوفنا وعظم حروبنا، وفتحنا منكم الحصون والسواحل وتخريبنا ديار الأواخر منكم والأوائل، لكان لك أن تقض على أناملك بالندم، ولا بد أن تزل بك القدم في يوم أوله لنا وآخره عليك، فهنالك تسيء الظنون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، فإذا قرأت كتابي هذا فتكون فيه على أول سورة النحل
أتى أمر الله فلا تستعجلوه ، وتكون على آخره سورة ص
ولتعلمن نبأه بعد حين ، ونعود إلى قول الله تعالى وهو أصدق القائلين:
كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ، وقول الحكماء: إن الباغي له مصرع وبغيك يصرعك وإلى البلاء يقلبك، والسلام.».
وأكبر الظن أن كان لتبادل الرسائل هذه أثره على موقف الحكام بالنسبة للنصارى في مصر، إلا أن التاريخ لا يعطينا أية معلومات عن هذه النقطة.
على أننا نستطيع أن نقدم بعض التفاصيل عما حدث في دمياط بفضل التقرير الذي وضعه «الكونت دي شامباني» عن هذه الحملة،
33
وعلمنا أنه بينما كان لويس التاسع يستعد لمحاصرة دمياط، قام المسلمون بقتل جميع النصارى القاطنين بالمدينة بلا شفقة ولا رحمة، وفي اليوم التالي وجد الصليبيون مدينة دمياط خاوية، أما النصارى الذين فروا من المدينة ونجوا من القتل، فقد عادوا إليها وأعملوا سيوفهم في رقاب المسلمين، الذين لم يساعدهم كبر سنهم أو مرضهم من اللحاق بالجيش الإسلامي المتقهقر، فإن هؤلاء النصارى خفوا إلى استقبال الصليبيين الذين اعتبروهم كأخوتهم، وأشركوهم في موكب انتصاراتهم.
هل كان يوجد في القاهرة في هذه الظروف شبكة للجاسوسية لحساب الصليبيين؟ إن التاريخ الإسلامي لا يذكر إلا حالة فردية واحدة؛ وهي حالة أبي الفضائل بن دوخان، كتب عنه ابن النقاش: «كان أكبر الكتاب نفوذا، وكان قذى في عين الإسلام والخراج الذي يشوه وجه الدين، وكانت سلطته قوية لدرجة أنه أرسل ذات يوم إلى نصراني اعتنق الإسلام أمرا وقع عليه السلطان ليحثه على العودة إلى المسيحية، وكان لم يزل يراسل الفرنج ويخبرهم عما كان يحدث عند المسلمين والحكام والأعيان، وكان مبعوثو الفرنج والنصارى يقتحمون دائما مكتبه، فكان يستقبلهم بحفاوة ويصفي أعمالهم قبل أعمال غيرهم.».
34
هل اعتنق بعض المسلمين الديانة المسيحية في أثناء الحروب الصليبية؟ لمح إلى ذلك بعض مؤرخي الغرب، وجاء في كتبهم أن أحد الصليبيين قال: لدينا بعض المؤمنين الشرقيين الذي يمكنا الاتكال عليهم، فهم يعرفون البلاد من أقصاها إلى أقصاها، وكذلك الأخطار التي قد نصادفها فيها، وأنهم تلقوا سر العماد بتقوى حقيقية،
35
ولا نعلم بالضبط إذا كان يقصد صاحب هذا القول أفراد طائفة اليعاقبة الذين عادوا إلى حظيرة الكنيسة الكاثوليكية أو بعض المسلمين الذين اعتنقوا المسيحية.
ومن الغريب أيضا أن نرى، بعد النكبة التي حلت بجيوش لويس التاسع وإبادتها عن بكرة أبيها، عددا من الصليبيين قد أربكهم الفزع وبلبل أفكارهم، فأخذوا يشكون في إيمانهم، ولما خيروهم بين اعتناق الإسلام والموت لم يترددوا في اعتناق الإسلام.
ومهما كان الأمر، فإن الحروب الصليبية تركت أثرا مشئوما، وإذا كانت العلاقات بين الشرق والغرب قد امتازت بالمعرفة والاعتبار، فلا شك أيضا أن هذه الحروب حفرت هوة عميقة بين الإسلام والمسيحية.
أما فيما يختص بأقباط مصر أي اليعاقبة، فقد رأوا في هزيمة الفرنج عقابا جديدا أنزل على أنصار كنيسة روما، وعلى الرغم من الاضطهادات التي عانوها فإنهم ظلوا المحور الأساسي الذي ارتكز عليه أعظم الحكام المسلمين.
هوامش
الفصل الثامن
كارثة النصرانية في عهد السلاطين المماليك
إن قصة الحروب الصليبية جعلتنا نلمس عن قرب اضمحلال العنصر القبطي منذ اضطهاد الحاكم بأمر الله له، وقد استمرت هذه الحالة في عهد سلاطين المماليك والأتراك؛ إذ كانوا لا يأبهون مطلقا بهذه الأقلية، كان السلاطين يعتبرون الأقباط جزءا لا يتجزأ من الأمة؛ لأنهم كانوا يقدمون لهم خدمات قيمة فيما يختص بجباية الضرائب، أضف إلى ذلك أن الحكام كان يمكنهم ابتزاز أموال الأقلية بسهولة دون أن يخشوا من قيامها بأية حركة ثورية جديدة، فرتبوا مصير الأقباط حسب هواهم أو هوى الشعب.
وقد استطاع بعض الكتاب الأقباط أن يشغلوا بعض المراكز الكبيرة في الدولة، ولكن الشعب كان يظهر غضبه بمجرد ما يرى قبطيا له نفوذ، وكان لم يعد يقبل أن يكون لأقلية دينية صغيرة حقوق عليه.
وتمكن القبطي، وسط هذه الاعتبارات كلها، أن يسير قدما؛ ذلك لأن مواطنه المسلم لم يكن حائزا، أو قل إن شئت لم يكن يريد أن يحوز الصفات اللازمة للقيام بجباية الضرائب، وفيما خلا هذه الوظيفة، شعر القبطي أنه غير مرغوب فيه، وبذا أصبحت الأمة القبطية جماعة مهمتها تدريب الأخصائيين في شئون الضرائب والمال.
لم تتغير حالة القبطي خلال ستة القرون التي سبقت عهد محمد علي الكبير، ولم يقع حادث يستحق الذكر عدا بعض أعمال الاضطهاد الطارئة، التي كانت تؤثر في سير حياته المطموسة التي لم يكن أمامها إلا هدف واحد هو الاحتفاظ بالعمل الوحيد الذي صرحت له به السلطات المدنية، وكان هذا العمل - أي: جباية الضرائب - سبب كيانه وأمله الوحيد في الثراء.
وسنقتصر فيما يختص بالعلاقات بين المسلمين والأقباط في هذه الفترة الطويلة على ذكر بعض الأحداث المتفرقة التي لا يجمعها أي ارتباط، ومتبعين طريقة المؤرخين العرب في سرد الحوادث مكتفين بذكر بعض التفاصيل عن الأحداث القليلة التي لها بعض الأهمية. •••
بينما كان الملك لويس التاسع يجلو عن مصر مع فلول جيشه، اعتلت عرش البلاد أسرة جديدة ألا وهي دولة المماليك البحرية، وكانت المهمة الملقاة على هذه الأسرة ليست هينة؛ إذ كان عليها أن تقوم بتصفية ما تبقى من الدولة اللاتينية في الشرق، وأن تستعد خصوصا لمواجهة خطر الغزو المغولي، ويجب أن نعترف بفضل مصر التي أنقذت العالم الإسلامي من تلك الكارثة، وذلك بشجاعة الملك المظفر قطز ومماليكه.
قال عربي يمدح الملك الظاهر بيبرس خلف قطز: «كان يوما في مصر ويوما في الحجاز ويوما في دمشق ويوما في حلب.»، وكانت تكاليف الحرب باهظة وكان ملوك هذه الدولة في حياتهم الخاصة يعيشون عيشة مترفة، ولذا كانوا دائما في حاجة إلى المال، وكانوا إلى جانب الضرائب العادية والاستثنائية لم يتوانوا في اغتصاب أموال الذميين.
1
ومن الملاحظ أن الملكيين كانوا مميزين عن اليعاقبة؛ ذلك لأن الغرب تذكر الخدمات التي أداها له هؤلاء الملكيون خلال الحروب الصليبية، ولما كانت العلاقات التجارية قد نمت وازدهرت بين العالم الإسلامي والعالم المسيحي، فقد استطاعت دول الغرب أن تضغط على البلاد الإسلامية كلما كان الملكيون معرضين للاضطهاد، وكان من النادر ألا يأبهوا بهذه «الإنذارات».
أما اليعاقبة، فقد بقوا في عزلة عن سائر العالم، وكان يحدث بين حين وآخر أن يهدد ملوك الحبشة مماليك مصر حتى يعود هؤلاء إلى شيء من التسامح، وقد خصصنا بابا لهذه التدخلات الخارجية، ولنعد الآن إلى الأحداث الداخلية.
نجد أولا أن هناك أمرا له أهميته، ذلك أن السلطان «أيبك» وهو أول من تولى الحكم في دولة المماليك البحرية، استوزر قبطيا اسمه شرف الدين أبو سعيد هبة الله ومنحه سلطة واسعة للغاية،
2
ويحق لنا أن نعجب بعد ما أحدثته جيوش الفرنج من فوضى واضطراب في البلاد، وبعد الاضطهادات التي تحملها النصارى من أجل ذلك، أن يفكر أصحاب السلطان في تعيين قبطي وزيرا على مصر، غير أن المقريزي، الذي يروي لنا هذا الأمر، يضيف أن هذا الوزير أسرع في وضع ضرائب جديدة أسماها «الحقوق السلطانية» فحصل للناس منها ما لا خير فيه.
3
وهكذا لما رأى السلطان أن خزائنه خالية من المال ، ولما أراد أن يزيد دخله وينظم مالية البلاد، لم يتوان لحظة في طلب مساعدة أحد الفنيين في المسائل المالية، ولم يكن هذا الفني إلا قبطيا.
غير أن بيبرس لجأ في سنة 663ه «1265م» إلى طرق عاجلة إذا صدقنا المؤرخ النصراني المفضل بن أبي الفضائل
4
وقد كتب يقول: «لما قدم السلطان من الشام، أمر بالنصارى واليهود، فمسكوا عن بكرة أبيهم وأوقدت لهم النار بالأحطاب في جورة كانت بالقلعة التي بناها دارا للملك السعيد وأراد إحراقهم، فاشتراهم الحبيس بخمسمائة ألف دينار يقومون منها في كل سنة بخمسين ألف دينار، وكان هذا الحبيس في مبتدأ أمره كاتبا في صناعة الإنشاء، ثم ترهب وانقطع في جبل حلوان فيقال: إنه وجد في مغارة مالا كان للحاكم العبيدي، أحد الخلفاء المصريين، فلما حصل له هذا المال وفد به الفقراء والصعاليك من سائر الأديان، فاتصل خبره بالسلطان الملك الظاهر فأحضره وطلب منه المال، فقال له: إن طلب السلطان مني شيئا ادفعه من يدي فلا، ولكنه يصل إليك من جهة من تصادره وهو لا يقدر على ما يطلب منه فإني أعطيه وأساعده على خلاص نفسه منك، فلا تعجل، فلما كانت هذه الواقعة، ضمنهم من السلطان بذلك المال المقرر على النصارى، وكان يدخل الحبوس ويطلق منها من كان عليه دين وهو عاجز عن وفائه، ثقيلا كان أو خفيفا، وكذلك لما طلب من أهل الصعيد المقرر من أهل الذمة، سافر إليهم وأدى عنهم ما طلب منهم،وكذلك سافر إلى الإسكندرية فرأى أهلها منه ما هالهم ... وقيل: أحصي ما وصل إلى بيت المال من جهته على تلك الوجوه المقدم ذكرها في مدة سنتين فكان ستمائة ألف دينار مصرية خارجا عما كان يعطيه من يده سرا للناس، وما خلص به من الحبوس.».
5
هذه هي الرواية المسيحية، وهي تدعو إلى الاعتقاد بأن بيبرس أراد الحصول على كنز الراهب بتهديد النصارى، وتختلف رواية المقريزي بعض الشيء عن تلك التي قصها علينا المفضل، قال: «كان قد كثر الحريق بالقاهرة ومصر في مدة سفر السلطان، وأشيع أن ذلك من النصارى، ونزل بالناس من الحريق في كل مكان شدة عظيمة ووجد في بعض المواضع التي احترقت نفط وكبريت، فأمر السلطان بجمع النصارى واليهود، وأنكر عليهم هذه الأمور التي تفسخ عهدهم وأمر بإحراقهم، فجمع منهم عالما عظيما في القلعة، وأحضرت الأحطاب والحلفاء، وأمر بإلقائهم في النار، فلاذوا بعفوه وسألوا المن عليهم، وتقدم الأمير فارس الدين أقطاي، أتابك العساكر، فشفع فيهم، على أن يلتزموا بالأموال التي احترقت، وأن يحملوا إلى بيت المال خمسين ألف دينار، فأفرج عنهم السلطان وتولى البطرك توزيع المال، والتزموا ألا يعودوا إلى شيء من المنكرات، ولا يخرجوا عما هو مرتب على أهل الذمة، وأطلقوا.».
6
وفي عام 678، أقيل جميع النصارى الذين كانوا يعملون في ديوان الحرب وحل محلهم المسلمون، وفي نفس اليوم الذي قامت السلطة بتنفيذ هذا القرار، هدم دير الخندق الكائن خارج القاهرة بالقرب من باب الفتوح ولم يترك فيه حجرا على حجر، وقد اشترك جمع غفير في أعمال التخريب.
وتدل الدلائل كلها على أن السلطان قلاوون وابنه الأشرف خليل أعادا النصارى إلى وظائفهم بعد أن عزلهم منها، ويقول المقريزي: إن هؤلاء النصارى أصبحوا يعاملون المسلمين بأنفه، وأرادوا أن يظهروا أهميتهم بارتداء الأزياء الثمينة، ويروى أن أحد النصارى، واسمه «عين الغزال» صدف يوما في طريق مصر «سنة 682ه» سمسار شونة مخدومة، فنزل السمسار عن دابته وقبل رجل الكاتب، فأخذ يسبه ويهدده على مال قد تأخر عليه من ثمن غلة الأمير وهو يترفق له ويعتذر، فلا يزيده ذلك عليه إلا غلظة، وأمر غلامه فنزل وكتف السمسار ومضى به والناس تجتمع عليه حتى صار إلى صليبة جامع أحمد بن طولون ومعه عالم كبير، وما منهم إلا من يسأله أن يخلي عن السمسار وهو يمتنع عليهم، فتكاثروا عليه وألقوه عن حماره وأطلقوا السمسار، وكان قد قرب من بيت أستاذه، فبعث غلامه لينجده بمن فيه، فأتاه بطائفة من غلمان الأمير وأدجاقيته فخلصوه من الناس وشرعوا في القبض عليهم ليفتكوا بهم، فصاحوا عليهم ما يحل ومروا مسرعين إلى أن وقفوا تحت القلعة واستغاثوا : نصر الله السلطان، فأرسل يكشف الخبر فعرفوه من كان من استطالة الكاتب النصراني على السمسار وما جرى لهم، فطلب عين الغزال ورسم للعامة بإحضار النصارى إليه، وطلب الأمير بدر الدين بيدرا النائب والأمير سنجر الشجاعي، وتقدم إليهما بإحضار جميع النصارى بين يديه ليقتلهم، فما زالا به حتى استقر الحال على أن ينادي في القاهرة ومصر ألا يخدم أحد من النصارى واليهود عند أمير، وأمر الأمراء بأجمعهم أن عرضوا على من عندهم من الكتاب النصارى الإسلام، فمن امتنع من الإسلام ضربت عنقه ومن أسلم استخدموه عندهم، ورسم للنائب بعرض جميع مباشري ديوان السلطان ويفعل فيهم ذلك فنزل الطلب لهم وقد اختفوا فصارت العامة تسبق إلى بيوتهم وتنهبها حتى عم النهب بيوت النصارى واليهود بأجمعهم، وأخرجوا نساءهم مسبيات وقتلوا جماعة بأيديهم، فقام الأمير بيدرا النائب مع السلطان في أمر العامة وتلطف به حتى ركب والي القاهرة ونادى من نهب بيت نصراني شنق، وقبض على طائفة من العامة وشهرهم بعدما ضربهم فانكفوا عن النهب بعدما نهبوا الكنيسة المعلقة بمصر وقتلوا منها جماعة، ثم جمع النائب كثيرا من النصارى كتاب السلطان والأمراء واوقفهم بين يدي السلطان عن بعد منه، فرسم للشجاعي وأمير جاندار أن يأخذا عدة معهما وينزلوا إلى سوق الخيل تحت القلعة، ويحفروا حفيرة كبيرة ويلقوا فيها الكتاب الحاضرين ويضرموا عليهم الحطب نارا، فتقدم الأمير بيدرا وشفع فيهم، فأبى أن يقبل شفاعته وقال: «لا أريد في دولتي ديوانا نصرانيا.» فلم يزل به حتى سمح بأن من أسلم منهم يستقر في خدمته، ومن امتنع ضربت عنقه، فأسلموا.
7
ولم يرق في نظر المقريزي إسلامهم وقال: «صار الذليل منهم بإظهار الإسلام عزيزا يبدي من إذلال المسلمين والتسلط عليهم بالظلم ما كان يمنعه نصرانيته من إظهاره.»، ولكن لم تمنع هذه الاعتبارات القيمة المسلمين من استعمال القسوة في معاملتهم الذميين، وكانوا أيضا ينتقمون؛ لأنفسهم من النصارى كلما غزا بعض قراصنة البحر الأوروبيين سواحلهم.
8
وفي شهر رجب من عام 700ه «1301م» حدثت مأساة في القاهرة غريبة في نوعها، ففي هذا التاريخ وصل القاهرة وزير صاحب المغرب حاجا، «وبينما هو ذات يوم يسوق الخيل تحت القلعة؛ إذ هو برجل راكب على فرس وعليه عمامة بيضاء وفرجية مصقولة وجماعة يمشون في ركابه وهم يسألونه ويتضرعون إليه ويقبلون رجليه وهو معرض عنهم وينهرهم ويصيح بغلمانه أن يطردوهم عنه، فقال له بعضهم: «يا مولاي الشيخ، بحياة ولدك النشو تنظر في حالنا»، فلم يزده ذلك إلا عتوا وحمقا، فرق المغربي لهم وهم بمخاطبته في أمرهم، فقيل له: «وإنه مع ذلك نصراني»، فغضب لذلك وكاد أن يبطش به، ثم كف عنه وطلع إلى القلعة.» ويستطرد المؤرخون قائلين: إن الوزير المغربي «اجتمع بالملك الناصر محمد بن قلاوون ونائبه يومئذ الأمير سلار، فتحدث الأمير معه ومع الأمير بيبرس الجاشنكير في أمر اليهود والنصارى، وأنهم عندهم في غاية الذلة والهوان، وأنهم لا يمكن أحد منهم من ركوب الخيل ولا الاستخدام في الجهات الديوانية، وأنكر حال نصارى الديار المصرية ويهودها بسبب لبسهم أفخر الملابس وركوبهم الخيل والبغال واستخدامهم من أجل المناصب وتحكيمهم في رقاب المسلمين، وذكر أن عهد ذمتهم انقضى من سنة 600 الهجرية النبوية،
9
فأثر كلامه عند أهل الدولة ولا سيما الأمير بيبرس الجاشنكير، فأمر بجمع النصارى واليهود، ورسم ألا يستخدم أحد منهم في الجهات السلطانية ولا عند الأمراء، وأن تغير عمائمهم فيلبس النصارى العمائم الزرق وتشد في أوساطهم الزنانير، ويلبس اليهود العمائم الصفر والتزام العهد العمري.».
10
ويذكر الرواة المسلمون أن كنائس القاهرة أقفلت مدة أيام، ويقول أبو الفضائل: إن هذه الكنائس ظلت مغلقة لمدة قصيرة، وإن الأديرة الموجودة في الضواحي وغيرها لم تمس بسوء، فضلا عن كنائس الأقاليم،
11
ولكن إذا انتقلنا إلى الإسكندرية، وجدنا أن حين وصول الأوامر إليها، بوشر في هدم الكنائس ومنازل النصارى.
وفي عام 702ه «1303م» ألغى الملك محمد بن قلاوون والأمير بيبرس الجاشنكير عيد الشهيد، وقد سبق التكلم عن هذا العيد في عهد الفاطميين، وها هو ذا ابن إياس يقدم لنا تفاصيل جديدة عنه، في الثامن من شهر بشنس «15 مايو» من كل عام، كان الأقباط يخرجون من صندوق مودع في كنيسة شبرى أصبع أحد الشهداء ويغطسونه في النيل، وكان النصارى يحتفلون في هذه المناسبة احتفالا عظيما فيتوجهون من كل جهة لزيارة كنيسة شبرى، وكان يشترك في هذا الاحتفال عدد كبير من الراقصين والراقصات، فكان يجتمع في هذا المكان خلق عظيم فيصرفون أموالا طائلة على الملاهي، ويرتكبون أعمال السوء ويشربون الخمر حتى يسكروا، وكان يذهب عدد كبير من الناس ضحايا لأعمال القتل والاغتيال؛ إذ لا يوجد هناك حاكم ولا شرطة لمنع هذه الجرائم.
وقد سبق القول: إن سكان القاهرة كانوا يشتركون في هذا العيد منذ أمد بعيد ويقال: إن في أيام العيد الثلاثة كان يباع في شبرى من النبيذ ما يزيد عن ألف دينار «وكان اعتماد فلاحي شبرى دائما في وفاء الخراج على ما يبيعونه من الخمر في عيد الشهيد، فعشق ذلك على أقباط مصر كلهم، وكان منهم رجل يعرف بالتاج بن سعيد الدولة يعاني الكتابة، وهو يومئذ في خدمة الأمير بيبرس، وقد احتوى على عقله واستولى على جميع أموره، كما هي عادة ملوك مصر وأمرائها من الأتراك الانقياد لكتابهم من القبط،
12
وما زال الأقباط بالتاج إلى أن تحدث مع مخدومه الأمير بيبرس في ذلك وخيل له من تلف مال الخراج إذا أبطل هذا العيد، فإن أكثر خراج شبرى إنما يحصل من ذلك.
ومن ذلك الوقت استمر هذا العيد منقطعا حتى سنة 738؛ إذ وقع فيها حادث غريب كان سببا في إعادة الاحتفال بعيد الشهيد من جديد، ذلك «أن الأمير يلبغا اليحياوي والأمير ألطبغا المارديني طلبا من السلطان أن يخرجا إلى الصيد ويغيبا مدة، فلم تطب نفسه بذلك لشدة غرامه بهما، وتهتكه في محبتهما، وأراد صرفهما عن السفر فقال لهما: «نحن نعيد عمل عيد الشهيد فيكون تفرجكما عليه أنزه من خروجكما إلى الصيد.».
ولكن في 755ه
13 «تحرك المسلمون على النصارى ... وهدمت كنيسة النصارى «بشبرى» وأخذ منها أصبع الشهيد في صندوق، وأحضر إلى الملك الصالح وأحرق بين يديه في الميدان من قلعة الجبل، وذرى رماده في البحر حتى يأخذه النصارى، فبطل عيد الشهيد من يومئذ.».
14
كان عام 720ه «1320م» خرابا على الأقباط، ولم يعرف ما حدث بالضبط ولكن، بمجرد إشارة، اعتدى الشعب على الأقباط في جميع أنحاء البلاد مما يجعلنا نعتقد أن هذه الحركة قد دبرت منذ أمد بعيد، ولم يدرك محمد بن قلاوون في بادئ الأمر خطورة هذه الحركة التي كانت تدبر في الخفا، ولما طغت عليه، اضطر مرغما أن يساير الجماهير، ويقوم هو أيضا باضطهاد النصارى، ويذكر المقريزي
15
هذه الاضطهادات بتفاصيلها، قال: «إن الملك الناصر محمد بن قلاوون، لما أنشأ ميدان المهاري لقناطر السباع في سنة عشرين وسبعمائة، قصد بناء زريبة على النيل الأعظم بجوار الجامع الطيبرسي، فأمر بنقل كوم تراب كان هناك وحفر ما تحته من الطين لأجل بناء الزريبة، وأجرى الماء إلى مكان الحفر، فصار يعرف إلى اليوم بالبركة الناصرية، وكان الشروع في حفر هذه البركة من آخر شهر ربيع الأول 721ه، فلما انتهى الحفر إلى جانب كنيسة الزهري، وكان بها كثير من النصارى لا يزالون فيها وبجانبها أيضا عدة كنائس في الموضع الذي يعرف اليوم بحكر اقبغا، أخذ الفعلة في الحفر حول كنيسة الزهري حتى بقيت قائمة في وسط الموضع، الذي عينه السلطان ليحفر، وهو اليوم بركة الناصرية، وزاد الحفر حتى تعلقت الكنيسة، وكان القصد من ذلك أن تسقط من غير قصد لخرابها، وصارت العامة من غلمان الأمراء العاملين في الحفر وغيرهم في كل وقت يصرخون على الأمراء في طلب هدمها وهم يتغافلون عنهم إلى أن كان يوم الجمعة التاسع من شهر ربيع الآخر من هذه السنة وقت اشتغال الناس بصلاة الجمعة والعمل من الحفر بطال، فتجمع عدة من غوغاء العامة بغير مرسوم السلطان وقالوا بصوت عال مرتفع: «الله أكبر»، ووضعوا أيديهم بالمساحي ونحوها في كنيسة الزهري وهدموها حتى بقيت كوما، وقتلوا من كان فيها من النصارى وأخذوا جميع ما كان فيها، وهدموا كنيسة «بومينا» التي كانت بالحمراء، وكانت معظمة عند النصارى من قديم الزمان، وبها عدد من النصارى قد انقطعوا فيها، ويحمل إليهم نصارى مصر سائر ما يحتاج إليه الشعب ويبعث إليها بالنذور الجليلة والصدقات الكثيرة، فوجد فيها مال كثير ما بين نقد ومصاغ وغيره، وتسلق العامة إلى أعلاها وفتحوا أبوابها وأخذوا منها مالا وقماشا وجرار خمر فكان أمرا مهولا، ثم مضوا من كنيسة الحمراء بعدما هدموها إلى كنيستين بجوار السبع سقايات، تعرف إحداهما بكنيسة البنات كان يسكنها بنات النصارى وعدد من الرهبان، فكسروا أبواب الكنيستين وسبوا البنات وكن زيادة على ستين بنتا، وأخذوا ما عليهن من الثياب ونهبوا سائر ما ظفروا به وحرقوا وهدموا تلك الكنائس كلها، هذا والناس في صلاة الجمعة، فعندما خرج الناس من الجوامع شاهدوا هولا كبيرا من كثرة الغبار ودخان الحريق ومرج الناس وشدة حركاتهم ومعهم ما نهبوه، فما شبه الناس الحال لهوله إلا بيوم القيامة، وانتشر الخبر وطار إلى الرميلة تحت قلعة الجبل، فسمع السلطان ضجة عظيمة ورجة منكرة أفزعته، فبعث لكشف الخبر، فلما بلغه ما وقع انزعج انزعاجا عظيما، وغضب من تجرأ العامة وإقدامهم على ذلك بغير أمره، وأمر الأمير أيدغمش أمير آخور أن يركب بجماعة الأوشاقية ويتدارك هذا الخلل، ويقبض على من فعله، فأخذ أيدغمش يتهيأ للركوب، وإذا بخبر قد ورد من القاهرة أن العامة ثارت في القاهرة وخربت كنيسة بحارة الروم وكنيسة بحارة زويلة، وجاء الخبر من مدينة مصر أيضا بأن العامة قامت بمصر في جمع كثير جدا وزحفت إلى كنيسة المعلقة بقصر الشمع، فأغلقها النصارى وهم محصورون بها وهي على أن تؤخذ، فتزايد غضب السلطان وهم أن يركب بنفسه ويبطش بالعامة، ثم تأخر لما راجعه الأمير أيدغمش ونزل من القلعة في أربعة من الأمراء إلى مصر، وركب الأمير بيبرس الحاجب والأمير ألماس الحاجب إلى موضع الحفر، وركب الأمير طينال إلى القاهرة، وكل منهم في عدة وافرة، وقد أمر السلطان بقتل من قدروا عليه من العامة بحيث لا يعفو عن أحد، فقامت القاهرة ومصر على ساق وفرت النهابة فلم يظفر الأمراء منهم إلا بمن عجز عن الحركة بما غلبه من السكر بالخمر الذي نهبه من الكنائس، ولحق الأمير أيدغمش بمصر وقد ركب الوالي إلى المعلقة قبل وصوله ليخرج من زقاق المعلقة من حضر للنهب فأخذه الرجم حتى مر منهم، ولم يبق إلا أن يحرق باب الكنيسة، فجرد أيدغمش ومن معه السيوف يريدون الفتك بالعامة فوجدوا عالما لا يقع عليه حصر، وخاف سوء العاقبة فأمسك عن القتل وأمر أصحابه، بإرجاف العامة من غير إراقة دم، ونادى مناديه من وقف حل دمه، ففر سائر من اجتمع من العامة وتفرقوا، وصار أيدغمش واقفا إلى أن أذن العصر خوفا من عود العامة، ثم مضى وألزم والي مصر أن يبيت بأعوانه هناك وترك معه خمسين من الأوشاقية، وأما الأمير ألماس، فإنه وصل إلى كنائس الحمراء وكنائس الزهري ليتداركها، فإذا بها قد بقيت كيمانا ليس بها جدار قائم، فعاد وعاد الأمراء فردوا الخبر على السلطان وهو لا يزداد إلا حنقا، فما زالوا به حتى سكن غضبه.
وكان الأمر في هدم هذه الكنائس عجبا من العجب وهو أن الناس لما كانوا في صلاة الجمعة من هذا اليوم بجامع قلعة الجبل، فعندما فرغوا من الصلاة قام رجل موله وهو يصيح من وسط الجامع: «اهدموا الكنيسة التي في القلعة، اهدموها.»، وأكثر من الصياح المزعج حتى خرج عن الحد ثم اضطرب، فتعجب السلطان والأمراء من قوله ورسم لنقيب الجيوش والحاجب بالفحص عن ذلك، فمضيا من الجامع إلى خرائب التتر من القلعة، فإذا فيها كنيسة قد بنيت فهدموها، ولم يفرغوا من هدمها حتى وصل الخبر بواقعة كنائس الحمراء والقاهرة، فكثر تعجب السلطان من شأن ذلك الفقير وطلب، فلم يوقف له على خبر، واتفق أيضا بالجامع الأزهر أن الناس لما اجتمعوا في هذا اليوم لصلاة الجمعة، أخذ شخصا من الفقراء مثل الرعدة، ثم قام بعد ما أذن قبل أن يخرج الخطيب وقال: «اهدموا كنائس الطغيان والكفرة، نعم الله أكبر وفتح لله ونصر.» وصار يزعج نفسه ويصرخ من الأساس إلى الأساس، فحدق الناس بالنظر إليه ولم يدروا ما خبره وافترقوا في أمره، فقائل: هذا مجنون، وقائل: هذه إشارة لشيء، فلما خرج الخطيب، أمسك عن الصياح وطلب بعد انقضاء الصلاة، فلم يوجد، وخرج الناس إلى باب الجامع فرأوا النهابة ومعهم أخشاب الكنائس وثياب النصارى وغير ذلك من النهوب، فسألوا عن الخبر فقيل: قد نادى السلطان بخرائب الكنائس، فظن الناس الأمر كما قيل حتى تبين بعد قليل أن هذا الأمر إنما كان من غير أمر السلطان، وكان الذي هدم في هذا اليوم من الكنائس بالقاهرة كنيسة بحارة الروم وكنيسة بالبندقانيين وكنيستين بحارة زويلة.
وفي يوم الأحد الثالث من يوم الجمعة الكائن فيه هدم كنائس القاهرة ومصر ورد الخبر من الأمير بدر الدين بيلبك المحسني والي الإسكندرية بأنه لما كان يوم الجمعة تاسع ربيع الآخر بعد صلاة الجمعة، وقع في الناس هرج وخرجوا من الجامع وقد وقع الصياح «هدمت الكنائس»، فركب المملوك من فوره، فوجد الكنائس قد صارت كوما وعدتها أربع كنائس، وأن بطاقة وقعت من والي البحيرة بأن كنيستين في مدينة دمنهور هدمتا والناس في صلاة الجمعة من هذا اليوم، فكثر التعجب من ذلك إلى أن ورد في يوم الجمعة سادس عشر الخبر من مدينة قوص بأن الناس عندما فرغوا من صلاة الجمعة في اليوم التاسع من شهر ربيع الآخر قام رجل من الفقراء وقال : «يا فقراء، أخرجوا إلى هدم الكنائس.»، وخرج في جمع من الناس فوجدوا الهدم قد وقع في الكنائس، فهدمت ست كنائس كانت بقوص وما حولها في ساعة واحدة، وتواتر الخبر من الوجه القبلي والوجه البحري بكثرة ما هدم في هذا اليوم وقت صلاة الجمعة وما بعدها من الكنائس والأديرة في جميع إقليم مصر كله، ما بين قوص والإسكندرية ودمياط، فاشتد حنق السلطان على العامة، خوفا من فساد الحال، وأخذ الأمراء في تسكين غضبه وقالوا: «هذا الأمر ليس من قدرة البشر فعله، ولو أراد السلطان وقوع ذلك على هذه الصورة لما قدر عليه وما هذا إلا بأمر الله سبحانه وبقدره لما علم من كثرة فساد النصارى وزيادة طغيانهم ليكون ما وقع نقمة وعذابا لهم.»، هذا والعامة بالقاهرة ومصر قد اشتد خوفهم من السلطان لما كان يبلغهم عنه من التهديد لهم بالقتل، ففر عدد من الأوباش والغوغاء، وأخذ القاضي فخر الدين ناظر الجيش في ترجيع السلطان عن الفتك بالعامة وأخذ كريم الدين الكبير، ناظر الخاص، يغريه بهم إلى أن أخرجه السلطان إلى الإسكندرية بسبب تحصيل المال وكشف الكنائس التي خربت بها، فلم يمض سوي شهر من يوم هدم الكنائس، حتى وقع الحريق بالقاهرة ومصر في عدة مواضع وحصل فيه من الشناعة أضعاف ما كان من هدم الكنائس، فوقع الحريق في ربع بخط الشوابيين من القاهرة في يوم السبت عاشر جمادى الأولى، وسرت النار إلى ما حوله واستمرت إلى آخر يوم الأحد، فتلف في هذا الحريق شيء كثير، وعندما أضفئ، وقع الحريق بحارة الديلم في زقاق العريسة بالقرب من دور كريم الدين ناظر الخاص ... وبلغ ذلك السلطان فانزعج انزعاجا عظيما لما كان هناك من الحواصل السلطانية وسير طائفة من الأمراء لإطفائه، فجمعوا الناس لإ طفائه وتكاثروا عليه، وقد عظم الخطب من ليلة الاثنين إلى ليلة الثلاثاء، فتزايد الحال في اشتعال النار وعجز الأمراء والناس على إطفائها لكثرة انتشارها في الأماكن وقوة الريح التي ألقت بإسقاف النخل وغرقت المراكب فلم يشك الناس في حريق القاهرة كلها، وصعدوا المآذن وبرز الفقراء وأهل الخير والصلاح وضجوا بالتكبير والدعاء وجاءوا، وكثر صراخ الناس وبكاؤهم وصعد السلطان إلى أعلى القصر فلم يتمالك الوقوف من شدة الريح ... فما هو إلا أن كمل إطفاء الحريق ونقل الحواصل وإذا بالحريق قد وقع في ربع الظاهر خارج باب زويلة، وكان يشتمل على مائة وعشرين بيتا، وهب مع الحريق ريح قوية فركب الحاجب والوالي لإطفائه، وهدموا عدة دور من حوله حتى انطفأ فوقع في ثاني يوم حريق بدار الأمير سلار في خط بين القصرين وحريق بحارة الروم وعدة مواضع حتى أنه لم يخل يوم من وقوع الحريق في موضع، فتنبه الناس لما نزل بهم وظنوا أنه من أفعال النصارى، وذلك أن النار كانت ترى في منابر الجوامع وحيطان المساجد والمدارس فاستعدوا للحريق وتتبعوا الأحوال حتى وجدوا هذا الحريق من نفط قد لف عليه خرق مبلولة بزيت وقطران.
فلما كان ليلة الجمعة النصف من جمادى، قبض على راهبين عندما خرجا من المدرسة الكهارية بعد العشاء الآخرة، فكان وقد اشتعلت النار في المدرسة ورائحة الكبريت في أيديهما، فحملا إلى الأمير علم الدين الخازن، والي القاهرة، فأعلم السلطان بذلك، فأمر بعقوبتهما، فما هو إلا أن نزل من القلعة وإذا بالعامة قد أمسكوا نصرانيا وجد في جامع الظاهر ومعه خرق على هيئة الكعكة في داخلها قطران ونفط، وقد ألقى منها واحدة بجانب المنبر وما زال واقفا إلى أن خرج الدخان، فمشى يريد الخروج من الجامع، وكان قد فطن به شخص وتأمله من حيث لم يشعر به النصراني، فقبض عليه وتكاثر الناس، فجروه إلى بيت الوالي وهو بهيئة المسلمين، فعوقب عند الأمير ركن الدين بيبرس الحاجب، فاعترف بأن جماعة من النصارى قد اجتمعوا على عمل نفط وتفريقه مع جماعة من أتباعهم، وأنه ممن أعطي ذلك وأمر بوضعه عند منبر جامع الظاهر، ثم أمر بالراهبين فعوقبا فاعترفا أنهما من سكان دير البغل، وأنهما هما اللذان أحرقا المواضع التي تقدم ذكرها بالقاهرة غيرة وحنقا من المسلمين لما كان من هدمهم للكنائس ، وأن طائفة النصارى تجمعوا وأخرجوا من بينهم مالا جزيلا لعمل هذا النفط.
واتفق وصول كريم الدين ناظر الخاص من الإسكندرية، فعرفه السلطان ما وقع من القبض على النصارى، فقال: «النصارى لهم بطريرك يرجعون إليه ويعرف أحوالهم»، فرسم السلطان بطلب البطريرك عند كريم الدين ليتحدث معه في أمر الحريق وما ذكره النصارى من قيامهم في ذلك، فجاء في حماية والي القاهرة في الليل خوفا من العامة، فلما أن دخل بيت كريم الدين بحارة الديلم وأحضر إليه الثلاثة النصارى من عند الوالي، قالوا لكريم الدين بحضرة الوالي والبطرك جميع ما اعترفوا به قبل ذلك، فبكى البطرك عندما سمع كلامهم وقال: «هؤلاء سفهاء النصارى قصدوا مقابلة سفهاء المسلمين على تخريبهم الكنائس»، وانصرف من عند كريم الدين مبجلا مكرما فوجد كريم الدين قد أقام له بغلة على بابه ليركبها فركبها وسار، فعظم ذلك على الناس وقاموا عليه يدا واحدة، فلولا أن الوالي كان يسايره وإلا هلك، وأصبح كريم الدين يريد الركوب إلى القلعة على العادة، فلما خرج إلى الشارع صاحت به العامة: «ما يحل لك يا قاضي تحامي للنصارى وقد أحرقوا بيوت المسلمين وتركبهم بعد هذا البغال»، فشق عليه ما سمع وعظمت نكايته واجتمع بالسلطان، فأخذ يهون أمر النصارى الممسوكين ويذكر أنهم سفهاء وجهال، فرسم السلطان للوالي بتشديد عقوبتهم، فنزل وعاقبهم عقوبة مؤلمة فاعترفوا بأن أربعة عشر راهبا بدير البغل قد تحالفوا على إحراق ديار المسلمين كلها وفيهم راهب يصنع النفط، وأنهم اقتسموا القاهرة ومصر فجعلوا للقاهرة ثمانية ولمصر ستة، فكبس دير البغل وقبض على من فيه وأحرق من جماعته أربعة بشارع صليبة جامع ابن طولون في يوم الجمعة، وقد اجتمع لمشاهدتهم عالم عظيم، فضرى من حينئذ جمهور الناس على النصارى وفتكوا بهم وصاروا يسلبون ما عليهم من الثياب حتى فحش الأمر وتجاوزوا فيهم المقدار، فغضب السلطان من ذلك وهم أن يوقع بالعامة واتفق أنه ركب من القلعة يريد الميدان الكبير في يوم السبت، فرأى من الناس أمما عظيمة قد ملأت الطرقات وهم يصيحون : «نصر الله الإسلام، أنصر دين محمد بن عبد الله.». ... واتفق مع هذا مرور كريم الدين، وقد لبس التشريف من الميدان، فرجمه من هناك رجما متتابعا وصاحوا به: «كم تحامي النصارى، وتشد معهم.» ولعنوه وسبوه، فلم يجد بدا من العود إلى السلطان وهو بالميدان، وقد اشتد ضجيج العامة وصياحهم حتى سمعهم السلطان، فلما دخل عليه وأعلمه الخبر، امتلأ غضبا واستشار الأمراء، وقال للأمير ألماس الحاجب: «امض ومعك أربعة من الأمراء وضع السيف في العامة في حين تخرج من باب الميدان إلى أن تصل إلى باب زويلة، واضرب فيهم بالسيف من باب زويلة إلى باب النصر بحيث لا ترفع السيف عن أحد البتة.»، وقال لوالي القاهرة: «اركب إلى باب اللوق وإلى باب البحر ولا تدع أحدا حتى تقبض عليه وتطلع به إلى القلعة، وحتى لم تحضر الذين رجموا وكيلي يعني كريم الدين، وإلا وحياة رأسي شنقتك عوضا عنهم.»، فما غربت الشمس حتى أحضر ممن أمسك من العامة نحو مائتي رجل، فعزل منهم طائفة أمر بشنقهم وجماعة رسم بتوسيطهم وجمع رسم بقطع أيديهم، فصاحوا بأجمعهم: «يا خولد ما يحل لك ما نحن الذين رجمنا.» ... وما زالوا بالسلطان إلى أن قال للوالي: «أعزل منهم جماعة وأنصب الخشب من باب زويلة إلى تحت القلعة بسوق الخيل وعلق هؤلاء بأيديهم.»، فلما أصبح يوم الأحد، علق الجميع من باب زويلة إلى سوق الخيل، وجلس السلطان في الشباك، وقد أحضر بين يديه جماعة ممن قبض عليهم الوالي، فقطع أيدي وأرجل ثلاثة منهم، والأمراء لا يقدرون على الكلام معه في أمرهم لشدة حنقه، فتقدم كريم الدين وكشف رأسه وقبل الأرض وهو يسأل العفو، فقبل سؤاله.
وعندما قام السلطان من الشباك، وقع الصوت بالحريق في جهة جامع ابن طولون وفي قلعة الجبل وفي بيت الأمير ركن الدين الأحمدي، وفي صبيحة يوم هذا الحريق قبض على ثلاثة من النصارى وجد معهم فتائل النفط، فأحضروا إلى السلطان واعترفوا بأن الحريق كان منهم فلما ركب السلطان إلى الميدان على عادته، وجد نحو عشرين ألف نفس من العامة قد صبغوا خرقا بلون أزرق وعملوا فيها صلبانا بيضاء، وعندما رأوا السلطان صاحوا بصوت عام واحد: «لا دين إلا دين الإسلام، نصر الله دين محمد بن عبد الله، يا ملك الناصر يا سلطان الإسلام انصرنا على أهل الكفر ولا تنصر النصارى.»، فارتجت الدنيا من هول أصواتهم وأوقع الله الرعب في قلب السلطان وقلوب الأمراء، وسار وهو في فكر زائد حتى نزل بالميدان وصراخ العامة لا يبطل، فرأى أن الرأي في استعمال المداراة، وأمر الحاجب أن يخرج وينادي بين يديه من وجد نصرانيا فله ماله ودمه ... فخرج ونادى بذلك، فصاحب العامة وصرخت: «نصرك الله.»، وضجوا بالدعاء، وكان النصارى يلبسون العمائم البيض، فنودي في القاهرة ومصر من وجد نصرانيا بعمامة بيضاء، حل له دمه وماله، ومن وجد نصرانيا راكبا، حل له دمه وماله، ومنع الأمراء من استخدام النصارى وأخرجوا من ديوان السلطان، وكتب لسائر الأعمال بصرف جميع المباشرين من النصارى، وكثر إيقاع المسلمين بالنصارى حتى تركوا السعي في الطرقات وأسلم منهم جماعة كثيرة، وكان اليهود قد سكت عنهم في هذه المدة، فكان النصراني إذا أراد أن يخرج من منزله يستعير عمامة صفراء من أحد من اليهود ويلبسها حتى يسلم من العامة.
وأخيرا نودي في الناس بالأمان وأنهم يتفرجون على عادتهم عند ركوب السلطان إلى الميدان؛ وذلك أنهم كانوا قد تخوفوا على أنفسهم لكثرة ما أوقعوا بالنصارى وزادوا في الخروج عند الحد، فاطمأنوا وخرجوا على العادة إلى جهة الميدان ودعوا للسلطان وصاروا يقولون: نصرك الله يا سلطان الأرض، اصطلحنا، اصطلحنا، وأعجب السلطان ذلك وتبسم من قولهم.
ويحصي المقريزي بعد ذلك الخسائر التي سببتها هذه الكارثة فيقول: إن عدد الكنائس التي خربت بمصر أربع وخمسون كنيسة فضلا عن عدة أديرة هدمت عن آخرها، وقتل عدد كبير من الناس وحدثت خسائر لا تحصى في الأموال.
نستخلص من هذه الحوادث بعض الاستنتاجات، فلسنا نعد في حاجة إلى الإشارة إلى موقف السلطان محمد بن قلاوون، فقد كان يعطف على النصارى ويرغب في حمايتهم ، ولكنه اضطر أخيرا إلى مسايرة الجماهير الخانقة، ولسنا في حاجة أيضا إلى الإشادة إلى حكمة أولياء الأمور وكره الأعيان من المسلمين والأقباط لأعمال العنف.
ولا شك أن هذه الحركة قد دبرتها في الخفاء جمعيات لها صبغة دينية؛ لأنها كانت حانقة على استمرار نفوذ النصارى في البلاد، ومن ناحية أخرى، فإن الأعمال الانتقامية التي قام بها الأقباط قد دبرتها سرا رءوس جامحة كانت تعتقد أنها بعملها هذا قد تستطيع أن تقنع الأغلبية بالعودة إلى اعتدالهم في معاملتهم، ولكن استنكار البطريرك للأعمال الإرهابية كان دليلا على أن هذه الأعمال غير مرغوبة لدى الأقباط عامة، وعلى أي حال، فإن تدخل السلطات أنقذت الأقباط مرة أخرى من استفحال الكارثة.
وفي عام 728 «رفع النصارى قصة للسلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون يسألون الإذن في إعادة ما تهدم منها «أي: كنيسة الست بربارة»، فأذن لهم في ذلك، فعمروها أحسن ما كانت، فغضبت طائفة من المسلمين ورفعوا قصة للسلطان بأن النصارى أحدثوا بجانب هذه الكنيسة بناء لم يكن فيها، فرسم للأمير علم الدين سنجر الخازن، والي القاهرة، بهدم ما جددوه، فركب وقد اجتمع الخلائق فبادروا وهدموا الكنيسة كلها في أسرع وقت، وأقاموا في موضعها محرابا أذنوا وصلوا وقرءوا القرآن، كل ذلك بأيديهم، فلم تمكن معارضتهم خشية الفتنة، فاشتد الأمر على النصارى وشكوا أمرهم للقاضي كريم الدين، ناظر الخاص، فقام وقعد غضبا لدين أسلافه وما زال بالسلطان حتى رسم بهدم المحراب، فهدم وصار موضعه كوم تراب ومضى الحال على ذلك.».
16
وبعد سنين، اتهم أحد النصارى أنه حفيد رجل كان قد اعتنق الإسلام، فحكم القاضي على هذا النصراني بأن يدخل الإسلام، وألقاه في السجن ليجبره على ذلك ... فذهب النصارى جميعا لمقابلة الحاكم وتمكنوا من إطلاق سراح الرجل في حلكة الليل، وفي اليوم التالي توجهت الجماهير إلى منزل القاضي ... وكان الحاكم قد استدعاه ولامه لوما شديدا على ما اتخذه من إجراء غير أن الجماهير أيدت صراحة موقف القاضي، وأغلقت الحوانيت وأخذت تقذف الحاكم بالحجارة فاضطر إلى مغادرة المدينة، ثم توجهت الجماهير نحو الكنيسة التي بجوار هذه المنطقة فخربتها وأحرقت الصلبان والصور التي بها، ونبشت القبور وأخرجت الجثث وألقتها في النيران، وبعد ذلك قررت مهاجمة النصارى القاطنين في تلك المقاطعة، وفي هذا الأثناء، شكا الحاكم للقاضي من هذه الإجراءات العنيفة التي اتخذت ضد النصارى؛ إذ أشاعت الفوضى في البلاد وسببت للسلطان خسارة في فرع من فروع دخله يبلغ خمسمائة ألف درهم.
17
وفي سنة 755ه «1354م»، «رفعت قوائم إلى الأمير صرغتمش من ديوان الأحباش فيها عدة حصص جارية على منافع الكنائس والديور، فكان قدر تلك الحصص خمسة وعشرين ألف فدان بيد النصارى، فلما سمع الأمير صرغتمش بذلك، حنق وطلع إلى القلعة وشاور السلطان على ذلك، فرسم السلطان بأن يخرج ذلك من يد النصارى، وكتب بذلك مربعات وأنعم بها على الأمراء زيادة على إقطاعاتهم ... ثم إن السلطان رسم بهدم الكنائس والديور.».
18
وهنا نتساءل، ما الحوادث التي أدت إلى اتخاذ هذه الإجراءات التعسفية ضد النصارى؟ لا يذكر لنا التاريخ عنها شيئا، ويحتمل أن تكون الخزانة العامة في حاجة إلى المال، ويحتمل أيضا أن السلطان أراد بذلك تهدئة خواطر المسلمين ومنع قيام حركة ثورية أخرى.
ويبدو أن عيل صبر النصارى من هذه الحال، فطرحوا جمودهم جانبا، وهبوا يحاولون النيل من ممتلكات المسلمين وحرق مساجدهم على الأخص معرضين بذلك أنفسهم للاستشهاد، ويذكر لنا المقريزي حالات بعض الذين وصل بهم اليأس إلى هذا الحد، ففي عام 754ه «1353م» وقع حادث فردي مؤداه أن نصرانيا من مواليد مدينة الطور وكاتب في أحد الدواوين قصد القاهرة ووقف يخطب ضد الديانة الإسلامية، فلما قدم للتحقيق قال للقاضي: «إن هدفي الحصول على شرف الاستشهاد.»، وفي عام 791ه قدم القاهرة جماعة من الرجال والسيدات وأعلنوا على الملأ خروجهم عن الإسلام وعزمهم على العودة إلى حظيرة المسيحية، وقالوا: «لقد جئنا هنا لكي نغتفر الخطايا التي اقترفناها، فنقدم حياتنا على مذبح التضحية لننال نعم سيدنا المسيح.»، فقطعت رءوسهم جميعا، وفي عام 795ه «1392م» قام في القدس أربعة من الرهبان وتحدوا علانية فقهاء الإسلام وتكلموا عن الإسلام بأسلوب ملؤه الاحتقار، فحكم عليهم بالحرق أحياء.
19
غير أن هذه الحوادث التي تدل على استياء النصارى لم تتعدد، ولم يكن لها تأثير على الشعب.
وفي عام 787ه «1385م» «رسم السلطان الملك الظاهر برقوق بإبطال ما كان يعمل في يوم النيروز، وأرسل الحجاب مع جماعة من المماليك السلطانية ووالي الشرطة، فطافوا في أماكن المتفرجات وفي الطرقات، فمن وجدوه يفعل ذلك يضربونه بالمقارع، وصاروا يقطعون أيدي جماعة ممن كان يفعل ذلك، وقاموا في ذلك قياما عظيما حتى بطل ذلك من القاهرة وأشهروا النداء بمن يفعل ذلك بالشنق، فانكف الناس من يومئذ عن ذلك.».
20
وفي عام 803ه «1400م»، هدم الأمير يلبغا السالمي كنيسة للنصارى بجوار شبرا الخيمة، وحطم أكثر من أربعين ألف جرة نبيذ، وكان عازما على اضطهاد النصارى، ولكن حال سائر الأمراء بينه وبين تنفيذ أغراضه.
21
وفي عام 818ه «1415م»، أراد الأمير سيف الدين أن يفرض غرامة على النصارى، ولكن السلطات عارضت في ذلك، فما كان منه إلا أن توجه مغضبا إلى الحي الذي كان يباع فيه النبيذ، وأمر بإهراق عدة آلاف جرة منه، وأخذ من النصارى عنوة بعض المال.
22
وفي عام 822ه «1419م»، أرغم النصارى واليهود على زم أكمامهم وتقصير عمائمهم بحيث لا تتجاوز سبعة أذرع طولا، وطلب إليهم أيضا أن يعلقوا جرسا صغيرا في عنقهم عند دخولهم الحمام، وأمرت نساءهم بارتداء فساتين صفراء، وفي نفس السنة، أخذ على النصارى عدم مبالاتهم بالقوانين الجديدة الخاصة بأزيائهم، وبعد نقاش طويل تقرر طردهم من الدواوين، وقد ألقي في السجن كاتم أسرار الوزير النصراني أبو الفضائل، ثم جلد بالسياط وطيف به شوارع القاهرة يتبعه محتسب يصيح بأعلى صوته: «هكذا نعامل النصارى الذين يشتغلون وظيفة في دواوين السلطان.»، فلم يجرؤ أحد من النصارى بعد ذلك على شغل أية وظيفة رسمية.
23
ومنع النصارى فيما منعوا من ركوب البغال في مدينة القاهرة، أما في خارجها فقد صرح لهم بركوبها ولكن على طريقة النساء، مما اضطر بعضهم إلى اعتناق الإسلام هربا من هذا الإذلال، فانتقلوا من جحيم الذلة إلى نعيم الإجلال والإكرام، وقد امتطوا الجياد بدل البغال، وأخذوا ينظرون إلى المسلمين شزرا وينعمون برؤيتهم وهم يعملون على كسب رضائهم بالخضوع لهم والتشفع عندهم.
24
وفي عام 846ه «1442م» «حصل على النصارى واليهود من الذل والخزي والإهانة والتغريم ما يفوق الوصف.»
25
بسبب الترميمات التي قام بها الملكيون سرا في كنيستهم، ورسم السلطان بعقد مجلس بحضرته بالقضاة الأربعة وغيرهم من مشايخ الإسلام وأركان الدولة من المباشرين وغيرهم، وأحضرهم مؤنس بطريرك النصارى اليعاقبة، وفليوثاؤس بطريرك النصارى الملكيين، وعبد اللطيف، من طائفة اليهود الربائيين، وفرج الله، أحد مشايخ اليهود القرائيين، وإبراهيم، كبير طائفة اليهود السامرة وسئلوا عن العهد المكتتب على أسلافهم، فلم يعرفوه، ودار الكلام في المجلس فيما يؤمرون إلى أن اقتضت الآراء السعيدة تجديد العهد عليهم على وفق المنقول عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.
وفي سنتي 849 و850ه، هدمت بضع كنائس وأرسلت أنقاضها إلى السلطات المختصة، ويذكر السخاوي أنه لم يبق في عام 852ه كنيسة واحدة لم يلحق بها ضرر.
لقد ذكرنا الأحداث البارزة التي وقعت في هذا العصر، وهي تظهر لنا إلى أي حد وصل انحلال الأمة القبطية، وكيف عمل المسلمون على ضعف النفوذ القبطي في البلاد، ومن جهة أخرى، نشاهد شدة حرج السلاطين؛ إذ إنهم أبقوا على الدجاجة ذات البيض الذهبي «وفي الحقيقة كان إنتاج هذه الدجاجة ضعيفا جدا» ولم يستغنوا عن خدمات الأقباط، فعملوا على الحد من غضب الجماهير قدر المستطاع.
هوامش
الفصل التاسع
القبطي في خدمة البكوات المماليك
حالته قبيل الحملة الفرنسية
دخل السلطان سليم الأول مصر عام 923ه (1517م) بعد أن تغلب على قوات طومان باي، ويصف ابن إياس هذا الفتح وصفا شائقا ومفصلا، ولكنه لم يذكر الأقباط في هذه المناسبة إلا مرة واحدة في مجرى حديثه عن انتقال بعض الصناع، الذين انتقاهم السلطان للسفر إلى الآستانة، ويقول ابن إياس: إن الفاتح أخذ جماعة من طائفة اليهود والسامرية والنصارى ويذكر لنا أسماءهم، ومن بينهم شيخ الملكيين الإسكندري.
1
وبعد مضي أربع سنوات يروي لنا المصدر نفسه حادثا يبرهن على أن العدالة في مصر لم تفقد سيرها العادي تحت الحكم العثماني، ذلك أنه لما انتصر السلطان سليم على الإفرنج ووردت البشائر بذلك، أقيمت معالم الزينة في القاهرة سبعة أيام متوالية، وحدث أن «أتى إلى بيت القاضي بشر ثلاثة مباشرين من النصارى ليتفرجوا على الزينة، فسكروا هناك سكرا فاحشا وتجاهروا بالمعاصي حتى خرجوا عن الحد، فأرسل القاضي بشر ينهاهم عن ذلك فما سمعوا له كلاما وتزايد منهم الحال، فجاء بنفسه وأغلظ عليهم في القول وسبهم فسبوه وأفحشوا في السب له وسبوا دين الإسلام على ما قيل، فأرسل القاضي بشر من قبض عليهم وتوجه بهم إلى المدرسة الصالحية وحضر قضاة القضاة الأربعة، وكان ذلك اليوم يوم الجمعة قبل الصلاة، فلما حضر قاضي المالكي محي الدين الدميري، قامت عنده البينة بما وقع من النصارى في حق القاضي بشر الحنفي، فتوقف القاضي المالكي في قتل النصارى، ثم قال: «يجب عليهم الحد والتعذير ، فإنهم كانوا سكارى.» وكذلك قال بقية القضاة، فلما سمع القاضي بشر بذلك ... كبر على القضاة وأغلظ في القول على قاضي القضاة المالكي واجتمع بالمدرسة الصالحية الجم الكثير من العوام، فهموا بأن يرجموا القضاة في ذلك اليوم ... ثم إن بعض الانكشارية قبض على النصارى وأخرجهم من المدرسة الصالحية فلما خرجوا بهم، قطعوهم بالأطبار قطعا قطعا ... فلما قطعت النصارى اجتمع السواد الأعظم من العوام بباب المدرسة الصالحية وأخذوا رمم النصارى وأطلقوا فيها النار، وأخذوا السقائف التي تقع على الدكاكين ووضعوها عليهم وأشعلوها بالنار، فاحترقوا وصاروا كالرماد.».
2
وينقل إلينا ابن إياس حادثا مماثلا وقع عام 928ه «1521م» يبرهن على أن المباشرين الأقباط لم يزالوا وقتئذ يتمتعون بنفوذ عظم، يمكنهم إذا ما دعت الضرورة أن يدافعوا عن مصالح أبناء دينهم، فقد حدث «أن جماعة من النصارى كانوا يسكرون في بيت عند جامع المقس، فلما قوي عليهم السكر، تزايد منهم الضجيج والتجاهر بالسكر، وكان في جامع المقس ابن الشيخ محمد بن عنان مقيما به، فثقل عليه أمرهم، فأرسل إليهم من ينهاهم عن ذلك، فأغلظ عليهم في القول وقال لهم: «أما تستحيون من الشيخ ابن عنان؟» فسبوا الشيخ ابن عنان سبا قبيحا، فطلع الشيخ إلى ملك الأمراء وشكا له من النصارى، فأمر ملك الأمراء بالقبض على النصارى، فهربوا وقبضوا على واحد منهم، فرسم ملك الأمراء بحرقه، فلما رأى النصرانى عين الجد، أسلم خوفا من الحرق فألبسوه عمامة بيضاء، فلما جرى ذلك خاف بقية النصارى على أنفسهم واختفوا عند يونس النصراني.»،
3
الذي يقول عنه ابن إياس إن خاير بك «جعله متحدثا على الدواوين وصار المسلمون يقفون في خدمته ويخضعون له.».
4
غير أن الحادث التاريخي البارز في العصر العثماني، هو بدون شك محاولة اليعاقبة اعتناق المذهب الكاثوليكي.
أظهرت الكنيسة الكاثوليكية، منذ الفتح العربي، عدم اهتمامها ظاهريا بعلاج انشقاق الأقباط عنها لعجزها عن القيام بهذه المهمة إلا أنها في الواقع لم ينقطع اهتمامها بمصير اليعاقبة في مصر.
وقد قامت محاولة لمصالحة الأقباط اليعاقبة والكاثوليك في عهد البطريرك كيرلس الثالث؛ أي: في خلال العصر الأيوبي، ولكنها باءت بالفشل.
وفي عام 1439، في مجمع «فلورنسا» حيث اتحد البيزنطيون واللاتين مرة أخرى بعد انشقاقهم، أرادت الكنيسة المصرية أن تكون ممثلة في هذا المجتمع.
5
وبعد مضي قرن من الزمن؛ أي: في عام 1560م، قدم روما قسيسان قبطيان يحملان عريضة تشهد برغبة رؤسائها والشعب القبطي بأسره في العودة إلى حظيرة الكنيسة الكاثوليكية والخضوع لسلطة البابا نائب المسيح، فأجاب البابا بيوس الرابع إلى هذا الطلب وأمر قسيسين يسوعيين «كريستوفر دي رودريكس» و«جان باتيست اليانو» بالسفر إلى مصر والتحدث إلى البطريرك القبطي والتأكد من نياته، فسافر اليسوعيان وجرت محادثات بينهما وبين عضوين من الطائفة القبطية عينهما البطريرك جبرائيل للقيام بهذه المهمة، ولكنهما لم يصلا إلى ما كان يرجوان في الوصول إليه؛ إذ اعترف محدثاهما القبطيان بأن الأقباط لقبوا حقا البابا في الكتاب المرسل إليه بقلب «أب الآباء» و«راعي الرعاة» و«رئيس جميع الكنائس» إلا أن هذه الألقاب لم يقصد منها إلا الإكرام، وقد جرت العادة أن تحرر الخطابات إلى الأصدقاء بهذا الأسلوب، ثم أضافا إلى ما تقدم أن كل بطريرك له السلطة التامة على كنيسته وذلك منذ مجمع كالسيدونيا ويتعين عدة بطاركة مستقلين عن بعضهم بعضا.
6
وبعد مضي عشرين سنة على هذه المحاولة؛ أي: في عام 1582م، عاود اليعاقبة مسعاهم لدى الكرسي الرسولي، وطلبوا إيفاد الأب جان باتيست اليانو إلى مصر «وكان آنئذ في سوريا» ليتحقق بنفسه من صادق نياتهم وليعطوه البرهان الملموس على إيمانهم وخضوعهم.
وأمر البابا الأب اليانو بالسفر إلى القاهرة حيث اجتمع بالطائفة القبطية بحضور البطريرك وكاد يتم الاتفاق، إلا أن البطريرك توفي فجأة، ويدعي الكاثوليك أنه مات مسموما، وعلى أي حال، فإن المجلس انفض بعد وفاة البطريرك، وألقي القبض على مندوب البابا باعتباره جاسوسا أجنبيا، واضطر البابا إلى دفع فدية قدرها خمسة آلاف دينار لإطلاق سراح ممثله وتمكينه من العودة إلى بلاده.
وأعيد النظر في هذه المسألة مرة أخرى عام 1597م؛ إذ أوفد البطريرك جبرائيل الثامن مبعوثين يحملان إقرارا بالإيمان وعليه توقيعه، وذكر في هذا الإقرار أنه يؤمن إيمانا ثابتا بقوانين مجمع نيڨيا وبقانون مجمع القسطنطينية، ويعترف بأن أحدا من الذين خارج الكنيسة الكاثوليكية لن يستطيع أن ينال الحياة الأبدية، غير أن هذا التصريح لم يذكر القرارات التي اتخذت في مجمع كالسيدونيا، ولم يكن في استطاعة البابا أن يحصل على كل شيء دفعة واحدة، فقرر السكوت عن هذه المسألة.
وبينما كان المندوبان القبطيان في روما، أرسل لهما البطريرك التعليمات الآتية: «لا تدعوا أحدا يخدمكم من المتراجمين «كذا» إلا من تراجمين كتاب جبل لبنان الذين هم المارونيون فإنهم من أقاربنا وعارفين بلساننا وأصحابنا، ثم إنكم تقبلوا لنا أيادي السيد البابا وتسألوا من تفضلاته وإحسانه بأن ينعم علينا ويتصدق في كل سنة بترتيب جامكية «عطية» فإننا في غاية الضيق والشدة، وما تحتاجه كنائسنا وأديرتنا والفقراء والمساكين والأرامل والأيتام والذين بالسجون والحديد لسبب الجوالي وغيرهم ... وأنتم يا أولادي تعرفوا ذلك أكثر مني ومن عملكم تعرفوا السيد البابا عن ذلك، فإن السيد المسيح أعطاه السلطة على سائر المسيحيين وأبوهم وأبونا نحن أيضا، وحيث ما هو أبونا، فيساعدنا في ضيقنا الذي نحن فيه.».
وقد أرسل البابا مشكورا بعض المساعدات.
7
وتكشف لنا هذه الوثيقة عن بعض ما كان يهدف إليه الأقباط كان للمسألة المالية علاقة وثيقة بالمسائل الدينية، وربما كان الأقباط يؤملون أيضا أن تتدخل أوروبا الناهضة لمصلحتهم، كما تدخلت لمصلحة الملكيين إذا انضموا إلى صفوف الكاثوليك، ولكن ليست هناك أية وثيقة معروفة تسمح لنا أن نؤيد هذه النظرية.
وقد دام الاتحاد مع روما قرنا ونصف قرن، ويدعي «رينودو» أن هذا الاتحاد قد زال؛ لأن الكنيسة القبطية كانت في حاجة إلى اكتساب تأييد الباشوات الأتراك.
8
وإذا تركنا جانبا هذا الحادث، نلاحظ أنه لم يحدث في تاريخ الأقباط في القرنين السابع عشر والثامن عشر ما يسترعي النظر، ما عدا الغرامات التي كانت تفرض عفوا على الأقباط والكنائس التي كانت تغلق إلى أن يسدد دافعوا الضرائب ما عليهم.
وقد شعرت مصر بالهدوء الداخلي والعظمة في عهد علي بك، ثم عادت الفوضى إليها ثانية وتعرض الأقباط بطريقة غير مباشرة للاضطهاد، ذلك أنه لما قدم إلى مصر عام 1200ه «1785م» القبطان حسن باشا ليؤكد سيادة الباب العالي على مصر، أبى أن يغادر البلاد قبل أن يملأ جعبته الخاصة بالنقود، فقام بعدة إجراءات تعسفية ضد النصارى تحقيقا لمأربه، قال الجبرتي: «نودي على طائفة النصارى بألا يركبوا الدواب وألا يستخدموا المسلمين وألا يشتروا الجواري والعبيد، ومن كان عنده شيء من ذلك باعه أو أعتقه، وأن يلزموا زيهم الأصلي من شد الزنار والزنوط، وأرسل حسن باشا إلى القاضي، وأمره بالكشف عن جميع ما أوقفه المعلم إبراهيم الجوهري على الديور والكنائس من أطيان ورزق أملاك، والمقصود من ذلك كله استجلاب الدراهم والمصالح، و«في اليوم التالي» نودي على طائفة النصارى بالأمان وعدم التعرض لهم بالإيذاء وسببه تسلط العامة والصغار عليهم.».
وبعد ذلك «نودي على النصارى واليهود بأن يغيروا أسماءهم التي على أسماء الأنبياء كإبراهيم وموسى وعيسي ويوسف وإسحاق، وأن يحضروا جميع ما عندهم من الجواري والعبيد، وإن لم يفعلوا، وقع التفتيش على ذلك في دورهم وأماكنهم، فصالحوا على ذلك بمال، فحصل العفو وأذنوا لهم في أن يبيعوا ما عندهم من الجواري والعبيد ويقبضوا أثمانها لأنفسهم ولا يستخدمون المسلمين، فأخرجوا ما عندهم وباعوا بعضه وأودعوه عند معارفهم من المسلمين.».
وبعد يومين نودي على النصارى بإحضار ما عندهم من الجواري والعبيد ساعة تاريخه، ثم نزلت العساكر وهجمت على بيوت النصارى لإحضار ما فيها، فكان شيئا كثيرا، وأحضروهم إلى القبطان، فأخرجوهم إلى المزاد وباعوهم واشترى غالبهم العسكر وصاروا يبيعونهم على الناس بالمرابحة، وقرر على بيوت النصارى الذين خرجوا بصحبة الأمراء المصريين مبلغ دراهم مجموع متفرقها خمسة وسبعون ألف ريال، وأمر أيضا بإحصاء بيوت جميع النصارى ودورهم وما هو في ملكهم وأن يكتب جميع ذلك في قوائم، ويقرر عليها أجرة مثلها في العام، وأن يكشف في السجل على ما هو جار في أملاكهم، ثم قرر أيضا خمسمائة كيس، فوزعوها على أفرادهم، فحصل لفقرائهم الضرر الزائد، وقرر أيضا على كل شخص دينارا جزية، العال كالدون، وذلك خارج عن الجزية الديوانية المقررة. «وقبض قبطان باشا أيضا على راهب من رهبان النصارى واستخلص منه صندوقا من ودائع النصارى، وقبض القبطان على المعلم واصف وحبسه وضربه وطالبه بالأموال، وواصف هذا أحد الكتاب المباشرين المشهورين، ويعرف الإيراد والمصاريف وعنده نسخ من دفاتر الروزنامه ويحفظ الكليات والجزئيات، ولا يخفى عن ذهنه شيء من ذلك ويعرف التركي، وقبض على بعض نساء المعلم إبراهيم الجوهري من بيت حسن أغا كتخدا علي بك، أمين احتساب سابقا، فأقرت على خبايا أخرجوا منها أمتعة وأواني ذهب وفضة وسروجا وغيرها.».
9
وبعد سفر القبطان باشا واقتسام البكوين عبدي بك وإسماعيل بك السلطة، تعرض الأقباط للاضطهاد مرة أخرى، ويروي الجبرتي أن «حضر عبدي باشا وإسماعيل بك إلى بيت الشيخ البكري باستدعاء بسبب المولد النبوي، فلما استقر بهم الجلوس، التفت الباشا إلى جهة حارة النصارى وسأل عنها فقيل له: إنها بيوت النصارى، فأمر بهدمها وبالمناداة عليهم من ركوب الحمير، فسعوا في المصالحة وتمت على خمسة وثلاثين ألف ريال، منها على الشوام سبعة عشر ألف وباقيها على الكتبة.».
10
وبالرغم من هذا كله، لم يتوان الأب «برنا» اليسوعي من الكتابة إلى الأب «فليريو» عام 1711م يقول: «مصر هي البلد الوحيد في الإمبراطورية الإسلامية، الذي تقام فيه شعائر الدين المسيحي بحرية أكثر من أي بلد آخر، ولهذا السبب فإن عددا كبيرا من نصارى البلاد الأخرى يلجئون إليها.» فيجدر بنا إذا إعادة النظر في حالة الأقباط في مصر قبيل قدوم الحملة الفرنسية. (1) الأقباط قبيل الحملة الفرنسية
كان من شأن القرن التاسع عشر حدوث تطورات ذات شأن في مصر، فما كان استعداد الأقباط لتلقي هذه التطورات؟ وما كانت أهميتهم من حيث العدد؟ وما حالتهم المعنوية؟ يمكننا أن نجيب جزئيا على هذه الأسئلة بعد الاطلاع على روايات الرحالة أو مذكرات القناصل التي نشرت حتى الآن.
ترك الأقباط بصفة عامة أثرا سيئا في نفوس الأجانب، وكان نفوذهم قد اضمحل وعددهم نقص، ولم يكن لهم أثر إلا في القاهرة والإسكندرية؛ حيث كانوا يحترفون الصناعة والحسابات، وفي الصعيد حول مدينة أسيوط وإلى جنوبها في اتجاه أسوان، ففي هذه المناطق البعيدة عن العاصمة كان الشعور أقل عنفا، فكان الأقباط يعيشون في أمن نسبي.
11
ولم يكن في مصر، في مطلع القرن التاسع عشر، سوى مائة وخمسين ألف قبطي على ثلاثة ملايين من السكان، وكان يقطن القاهرة وحدها عشرة آلاف قبطي، وتذكر إحصائية مسيحية أن ستمائة ألف شخص كانوا يدفعون رسما للبطريرك عند الفتح الإسلامي، وأن هذا العدد نقص إلى عشرة آلاف وخمسة عشر ألف شخص عندما كان الأب «فانسليب» في زيارة مصر عام 1671م
12
ومن جهة أخرى، يذكر الرحالة «نيبوهر» عام 1760 أنه لم يكن يوجد في مصر إلا اثنا عشر مطرانا معظمهم في الوجه القبلي، بينما كان عددهم عند الفتح الإسلامي سبعين.
13
وكان عدد الرهبان صغيرا جدا، وهم موزعون بين أربعة أو خمسة أديرة مثل دير القديس مكاريوس ودير القديس أنطونيوس ... وهي كلها في حالة يرثى لها، وكان القساوسة - وكلهم متزوجون - يهتمون بحاجاتهم المادية أكثر من اهتمامهم برغبتهم وبواجباتهم الدينية، لقد استبد بهم الجهل إلى حد كان يصعب معه انتخاب بطريرك من بينهم،
14
ولكننا مع ذلك لا نستطيع أن ننكر عليهم بخاصة على الرهبان منهم، شيئا من التقوى، غير أنهم كانوا يعتقدون أن الدين ما هو إلا مجرد تلاوة الصلوات وملاحظة أيام الصوم المتعددة.
وإذا كان الأجانب يعتبرون الأقباط «قوما جهلاء وغير متمدينين»
15
فعذرهم في ذلك أن مظهر النصارى الذي اتصف بالتواضع والفقر كان يوحي بالاحتقار، أما المؤرخون المسلمون، فقد تجاهلوا في عصر المماليك هذه الأقلية التي لا غنى لهم عنها مع ما تسبب لهم من مضايقات على الرغم من حالة الضعف التي وصلت إليه.
ولم يعد القبطي إلا مباشرا عرضة للاضطهادات وللإهانات، ويكتب «فانسليب» قائلا: «نقرر أنه لا توجد طائفة بمصر معرضة للاضطهاد كالأمة القبطية؛ ذلك لأنه لم يعد من بينهم من يستطيع أن يكون موضع احترام الأتراك لعلمه، أو موضع خوفهم لسطوته، فكان الأتراك يعتبرونهم حسالة العالم وأقل منزلة من اليهود، وقد كانوا يسيئون معاملتهم عند ما يحلو لهم ذلك، ويغلقون لهم كنائسهم وأبواب منازلهم حين يروق لهم الأمر ولأتفه الأسباب وأبعدها عن العدل لكي يغتصبوا منهم بعض المال.»
16
إلا أن الوظائف الإدارية التي كان المماليك يضطرون إلى إسنادها إلى الأقباط قد أعطت لهؤلاء الأقباط فرصة الانتقام من الظلم، الذي كان ينزله عليهم أسيادهم وإعادة جمع ثروتهم بسرعة، أضف إلى ذلك أن الاضمحلال الذي أصاب الأقباط حدث على دفعات، فقد بدأ قبل دخول العرب؛ أي: في عهد الرومانيين والبيزنطيين، ومن هنا يتضح لنا أن الأقباط اعتادوا على هذا اللون من الحياة منذ أمد بعيد وارتضوا لأنفسهم حياة متواضعة، فلم يبدوا أية شكوى لاعتقادهم أنهم الطبقة المفكرة التي لا يمكن للأمة أن تستغني عن معارفها وخبرتها في الأعمال إذا أرادت أن تضمن حسن سير الإدارة في البلاد، وعلى أي حال، لم يكن المسلمون أنفسهم بأحسن حال من الأقباط تحت حكم البكوات المماليك.
وأحسن برهان على تسليم الأقباط بالأمر الواقع، أنهم لم يفكروا أبدا في الهجرة «إلا في عصر الحاكم ومحمد بن قلاوون»، بل كانوا متعلقين ببلادهم تعلقا شديدا، وكتب القنصل الفرنسي «دي ماييه» في هذا الصدد: «في شهر سبتمبر سنة 1699، تلقيت أمرا من ملك فرنسا باختيار ثلاثة من أولاد الأقباط لإرسالهم إلى فرنسا وتربيتهم هناك على النحو الذي كان يربى عليه أولاد بعض الأمم الشرقية، وحاول القساوسة عبثا إقناع الموسرين لإرسال أولادهم ولم يكونوا أكثر توفيقا مع الأسر الفقيرة مهما كان عدد أولادها، وعمد بعض الآباء والأمهات إلى سحب أولادهم من مدارس الإرساليات والتضحية بالمساعدات المالية التي كانت تعطى لهم على الرغم من شدة حاجتهم إليها، وذلك خوفا من أن ينتزع أولادهم رغم إرادتهم، مما يدل على إجلالهم لوطنهم وشدة تعلقهم به ويعلق «دي ماييه» على هذا الحادث قائلا: «يعتقد الأقباط أن بلادهم لا مثيل لها وهم في ذلك على حق، ومن يستطع أن يعيب عليهم حبهم لبلد وصفها الأجانب بأنها الفردوس الأرضي؟».
17
وإذا تركنا جانبا المبالغ التي كانت تؤخذ عنوة من الأقباط، يجب أن نلاحظ أنهم كانوا يعيشون منسيين، بل كانوا ينعمون بهدوء نسبي وخاصة في الأقاليم، نعم أن بعض الرحالة يحدثوننا أحيانا بشيء من السخط عن القيود المفروضة على النصارى فيما يختص بملابسهم، كما يقولون أيضا: إن ركوب الخيل كان محرما على غير المسلمين إلا أن هذه القوانين كانت تطبق في المدن الكبرى دون سواها، أما فيما عدا ذلك، فلم يكن الإنسان يستطيع أن يميز بين القبطي وغيره ويكتب «تيفينو» قائلا: «لا يستطيع المسيحيون سواء كانوا من الإفرنج أو غيرهم، أن يمتطوا الجياد في المدن، ولكنهم يستطيعون ذلك في الأرياف إذا أرادوا.».
18
ولا ننسى أن الأقباط المتعلمين والمثقفين قد نالوا الحظوة لدى أسيادهم مثال ذلك أن المعلم رزق، مباشر علي بك وكاتم أسراره، كان يتمتع بسلطة واسعة جدا، وهناك أيضا المعلم إبراهيم الجوهري الذي توفي عام 1209ه «1797م» والذي ميزه الجبرتي عن غيره من النصارى، فذكره ضمن وفياته، وهذا الحادث مما يلفت النظر؛ ذلك لأن المؤرخ المسلم لم يكن يهتم عادة بوفاة النصراني مهما علت مرتبته، ونحن نورد هنا ما قاله الجبرتي في رثائه له: «مات الذمي المعلم إبراهيم الجوهري، رئيس الكتبة الأقباط بمصر، وأدرك في هذه الدولة بمصر من العظمة ونفاذ الكلمة وعظم الصيت والشهرة مع طول المدة بمصر ما لم يسبق لمثله من أبناء جنسه فيما نعلم، وأول ظهوره في أيام المعلم رزق كاتب علي بك الكبير، ولما مات علي بك وترأس إبراهيم بك، قلده جميع الأمور، فكان هو المشار إليه في الكليات والجزئيات، حتى دفاتر الروزنامه والميري وجميع الإيراد والمنصرف وجميع الكتبة والصيارفة من تحت يده وإشارته، وكان من دهاقين العالم ودهاته، لا يغرب عن ذهنه شيء من دقائق الأمور ويداري كل إنسان بما يليق به من المداراة، ويحابي ويهادي ويواسي، ويفعل ما يوجب انجذاب القلوب والمحبة ويهادي ويبعث الهدايا العظيمة والشموع إلى بيت الأمراء، وعند دخول رمضان يرسل إلى غالب أرباب المظاهر ومن دونهم الشموع والهدايا والأرز والسكر والكساوي، وعمرت في أيامه الكنائس وديور النصارى، وأوقف عليها الأوقاف الجليلة والأطيان، ورتب لها المرتبات العظيمة والأرزاق وحزن إبراهيم بك لموته، وخرج في ذلك اليوم إلى قصر العيني حتى شاهد جنازته وهم ذاهبون به إلى المقبرة.».
19
على أن المباشرين الأقباط في جملتهم لم يتمتعوا بالنفوذ الذي حازه الجوهري، وكانت غايتهم الوحيدة جمع المال «وأصبحوا لا يهتمون بما يعلي من شأن وطنهم، بل كان يدفعهم الحرص والبخل في كل أعمالهم وينأى بهم عن العلوم والفنون، فلم يعودوا يشعرون بأي ميل إلى النبوغ فيها.».
20
هوامش
الفصل العاشر
سياسة بونابرت الإسلامية وموقف الفرنسيين من الأقباط
إن الحملة الفرنسية على مصر تهمنا لعدة أسباب، فهي أول محاولة منذ الحروب الصليبية قامت بها دولة غير مسلمة لغزو وادي النيل، وهي أيضا أول مرة منذ الفتح العربي تحكم مصر دولة مسيحية، كما أنه لأول مرة منذ ظهور الإسلام يحاول بعض مسيحيي أوروبا التعاون مع مسلمي مصر.
لذلك تحتل هذه الفترة مكانا عظيما في تاريخ العلاقات بين المسلمين والأقباط؛ إذ كان هذان العنصران أمام مشكلة جديدة، فما كان موقفهما من هذا الفاتح؟ (1) بونابرت، حامي الإسلام
في 28 يونيو عام 1798؛ أي: قبل نزول القوات الفرنسية إلى الساحل المصري، وصل الأميرال «نلسون» أمام الإسكندرية، وكان جادا في البحث عن أسطول بونابرت فلما لم يجده هناك، أراد أن يحذر المصريين من هجوم فجائي يشن عليهم، ولكنهم رفضوا الاستماع إليه لعدم ثقتهم بالأجنبي على الإطلاق، وطلبوا إليه أن يغادر مياه الإسكندرية على وجه السرعة.
وكان بونابرت يعلم أن العمارة الفرنسية قد تستقبل استقبالا عدائيا، إذا ما وصلت إلى الساحل المصري، ولكنه كان شديد الثقة بسياسته الجديدة، وكان يعتقد أنها سوف تزيل الحواجز القائمة منذ أجيال بين الشرق المسلم والغرب المسيحي.
وكانت الحملة الفرنسية في نظر مماليك مصر معاودة للمحاولات التي قام بها «بودوان» و«أموري» و«جان دي بريين» و«لويس التاسع» في سبيل القضاء على الإسلام، أو هي على الأقل غارة من غارات القرصان الأوروبيين أوسع مدى من سابقاتها.
1
أما بونابرت فقد تقدم إلى أسوار الإسكندرية على أن حامي الإسلامي، بل بطل من أبطاله فقال: «لسنا كفار العصور الهمجية الذين يأتون إليكم لمحاربة إيمانكم، إننا نعترف بأن إيمانكم رفيع القدر، وسوف نعتنق دينكم إذا حلت الساعة التي يصبح فيها الفرنسيون الراشدون مؤمنين حقيقيين.».
2
لم يعلن بونابرت أهمية تذكر لاعتماد الأهالي على القوة في صد العدوان الفرنسي ولعدم تصديقهم خطبه الحماسية؛ ذلك لأنه كان يأمل أملا كبيرا في أنهم سوف يصغون إلى صرخته عاجلا أم آجلا، فلم يدخر وسعا إلى أن يحين هذا الموعد في إظهار عطفه عليهم وإخلاصه لهم، ويكتب «فرنسوا شارل رو» في هذا الصدد قائلا: «لم يتقدم قط مستعمر أوروبي إلى البلاد الإسلامية وهو مشبع بروح التسامح والاحترام والعطف مثل بونابرت، خصوصا وإن لم يفكر أبدا في أعمال التبشير لصالح الديانة المسيحية، وكان بعيدا كل البعد عن أي اعتبار ديني يسيء إلى الإسلام ... ولم يأت قط أي مستعمر أوروبي مثل بونابرت بهذا الاستعداد الطيب، ولم يدل بتصاريح أكثر علانية وأكثر صراحة، ولم يقدم البراهين المتعددة والمقنعة.».
3
وكانت باكورة أعمال بونابرت تصريحه للقوات الفرنسية المتأهبة لغزو مصر، وذلك قبل نزولها إلى البر؛ أي: في أول يوليو: «إن الشعوب التي سوف نعيش معهم يدينون بالإسلام، وأول ما يؤمنون به هو أن «لا إله إلا اله ومحمد رسول الله» فلا تنازعوهم في ذلك، بل عاملوهم كما عاملتم اليهود والإيطاليين، واحترموا رجال الدين كما احترمتم الحاخامات والمطارنة، وأظهروا للمواسم التي أمر بها القرآن والمساجد نفس التسامح الذي أظهرتموه إزاء الأديرة والمعابد وإزاء ديانة موسى والمسيح.».
ولما كانت الثورة الفرنسية قد أبعدت الفرنسيين عن الديانة، فقد اكتفى بونابرت بتوصية رجاله أن يظهروا احترامهم للمسلمين، أما تصريحه الذي وجهه إلى الشعب المصري، فكان أكثر وضوحا؛ إذ كشف فيه نواياه الحقيقية وعن السياسية التي سوف ينتهجها إزاءهم وقد ظلت هذه السياسة رائدة مدة إقامته بينهم. قال بونابرت في ندائه للمسلمين: «أيها المشايخ والقضاة والأئمة والجربجية وأعيان البلاد، قولوا لأمتكم إن الفرنساوية هم أيضا مسلمون مخلصون، وإثبات ذلك أنهم قد نزلوا في رومية الكبرى وخربوا فيها كرسي البابا الذي كان دائما يحث النصارى على محاربة الإسلام، ثم قصدوا جزيرة مالطة وطردوا منها الكواللرية «الفرسان» الذين كانوا يزعمون أن الله تعالى يطلب منهم مقاتلة المسلمين، ومع ذلك الفرنساوية في كل وقت من الأوقات صاروا محبين مخلصين لحضرة السلطان العثماني، وأعداء أعدائه أدام الله ملكه.».
ولما احتل القائد الفرنسي البلاد، أسرع إلى تنفيذ ما وعد به، فلم ينقض شهر على نزوله الإسكندرية، حتى أمر بالاحتفال بالمولد النبوي احتفالا عظيما وصفه لنا المؤرخ «أميدي ريم» معاصر الحملة، وصفا رائعا، فقال: «كان بونابرت يرتدي زيا شرقيا جميلا، ولبس عمامة، وانتعل بابوجا، وصحبه جميع ضباطه وقواده إلى المسجد الرئيسي؛ حيث كان مجتمعا حوالي المائة شيخ، فجلس بونابرت بينهم على وسادات منثورة على الأرض، ثم شبك ذراعيه وأخذ يتلو معهم تواشيح تقص حياة النبي منذ مولده إلى وفاته، ويؤر مثلهم أعلى جسده ويحرك رأسه مما لفت أنظار رجال الدين الذين أعجبوا بتقواه.».
4
ولما كان يريد أن يقوم بأكبر دعاية حول موقفه هذا، فقد كتب إلى الجنرال «مارمون» بتاريخ 28 أغسطس 1798 يقول: «... قابل من طرفي الشيخ المسيرى وقل له فيما تقوله كيف احتفلنا بمولد النبي، قل له: إني في القاهرة أجتمع برؤساء القضاء وكبار القوم ثلاث أو أربع مرات كل عشرة أيام، وإني أكثر الناس اقتناعا بصفوة الديانة الإسلامية وقداستها.».
وفي اليوم نفسه، كتب إلى الشيخ المذكور رأسا يقول له: «... أرجو ألا يتأخر الوقت الذي أستطيع فيه جمع العناصر الحكيمة والمثقفة في البلاد، ووضع نظام ثابت يرتكز على مبادئ القرآن الحقة الوحيدة التي تستطيع إسعاد البشر دون سواها.».
هل كان بونابرت صادقا في دعواه؟ إن كانت الاعتبارات السياسية هي في رأينا التي أملت عليه موقفه هذا، يجب ألا نستبعد أن الشرق قد أثر فيه تأثيرا عميقا، وأنه كان يكن للإسلام عطفا كبيرا، فلم يمل من الاجتماع بالعلماء. أما العلماء، فعلى الرغم من أن الفاتح الفرنسي كان يثير ظنونهم، وأنه لم يكن في نظرهم إلا كافرا، فكانوا يرتاحون لإثارة المناقشات الدينية في حضرته، وكانوا يعجبون إعجابا شديدا بعقليته الجبارة مما جعلهم يأملون سرا بأنه سينضم إليهم يوما من الأيام رافعا لواء الإسلام.
وقع بونابرت في الشباك التي نصبها هو نفسه، ألم يقل ذات يوم لمن حوله بعزمه على ارتداء الملابس الشرقية وربما على اعتناق الديانة الإسلامية؟ ولما كان بونابرت لا يحترف دينا ولا يعترف بوجود الله، فلم يكن من المنتظر أن يثير اعتناقه الإسلام قلق في نفسه فضلا عن أن إسلامه قد يخدم مراميه السياسية، ولكن قواده سخفوا الفكرة ثم اعترضوا عليها صريحا.
وها هو ذا بونابرت يرجئ مؤقتا تنفيذ رأيه، إلا أنه عاد إلى التفكير فيه جديا بعد انهزامه أمام عكا، ولما عاد من سوريا، أذاع على الشعب «أنه يتلقى عدة دروس في القرآن، فأخذ يجيده ويحبه»، وأضاف إلى ذلك «أنه ينوي بناء مسجد كبير ثم اعتناق الإسلام»، وها هو يعود إلى مباحثة العلماء ومناقشتهم ويسألهم ما الشروط المتوفرة عند المسلم الصادق، فهو يطرح أمامهم المشكلة بكل صراحة ويريد أن يجيبوا عليها بدقة، ولما كان يشك في شعور رجال جيشه، كان يسائل نفسه إن كان اعتناق الإسلام وحده سيحدث الانقلاب الذي يرجوه من الناحية السياسية، ولكن عواقب اعتناق الجنرال عبد الله مينو الديانة الإسلامية لم تشجعه على ذلك.
لقد غرق الأسطول الفرنسي في أبي قير، ولم يبق لدى القائد العام إلا بضعة آلاف من الجند، ولما قطع خط المواصلات بينه وبين فرنسا، وفقد كل أمل في وصول النجدات لم يستطع، وحوله شعب يكن له العداء، إلا أن يأمل - وإن كان هذا الأمل بعيدا - في قدرته على كسب عطف هذا الشعب الذي تدين غالبيته بالإسلام.
ولكن كيف عامل الأقباط والنصارى عامة؟ (2) بونابرت يضحي بالأقباط ليناصر الإسلام؟
ولما كان بونابرت متشبعا بروح المساواة والإخاء، فقد أبى أن يقع فريق من الشعب تحت نير الاضطهاد، وأن يمنع من الحياة الحرة ويقول «تيودو»: «على الرغم من أن بونابرت أراد أن يظهر ميله إلى الإسلام أمام المسلمين، فإنه لم يتقاعس في حماية العقائد المختلفة.».
5
غير أننا لاحظنا عدم اهتمامه لمنح الأقباط دفعة واحدة جميع حرياتها وبخاصة حرية العبادة ... ولما طلب الأقباط إليه أن يلغي القيود التي فرضها المماليك على شعائرهم الدينية، أجاب المعلم الجوهري بخطاب مؤرخ 7 ديسمبر سنة 1798م: «استلمت الكتاب الذي أرسلته الأمة القبطية وأنه من دواعي سروري حماية هذه الأمة التي لن تكون من الآن فصاعدا موضع الاحتقار، وعندما تتيح الظروف، الشيء الذي لا أراه بعيدا، قد أسمح لها بأن تقيم شعائرها الدينية علانية كما هو الحال في أوروبا؛ حيث يتابع كل إنسان عقيدته.»، ولكنه أضاف إلى ذلك: «سأعاقب بشدة القرى التي قتل فيها الأقباط في أثناء الثورات التي نشبت، بينما أنك تستطيع من الآن أن تخبر أبناء طائفتك بأني أسمح لهم بأن يحملوا السلاح ويركبوا البغال والخيول ويضعوا العمامات على رءوسهم ويتزيوا بما يشاءون.».
وتعد هذه الرسالة الإجراء العملي الوحيد الذي استفاد منه الأقباط في عهد بونابرت الذي ما لبث أن ألغى ما وعدهم به، ويقول الجبرتي: «إن النصارى الشوام رجعوا عاداتهم القديمة في لبس العمائم السود والزرق، وتركوا لبس العمائم البيض والشيلان الكشمير الملونة والمشجرات ، وذلك بمنع الفرنسيين لهم من ذلك، ونبهوا أيضا بالمناداة في أول رمضان بأن نصارى البلد لا يتجاهرون بالأكل والشرب في الأسواق ولا يشربون الدخان ولا شيء من ذلك.»
6
ثم يقص الجبرتي الحادث الآتي: «إن بعض الرعية من الفقهاء مر على بعض النصارى وهو يشرب الدخان فانتهره، فرد عليه ردا شنيعا، فنزل ذلك المتعمم وضرب النصراني، واجتمع عليه الناس وحضر حاكم الخط فرفعها إلى قائمقام، فسأل النصارى الحاضرين عن عادتهم في ذلك، فأخبروه أن من عادتهم القديمة أنه إذا استهل شهر رمضان لا يأكلون ولا يشربون في الأسواق ولا بمرأى من المسلمين أبدا، فضرب النصراني وترك المتعمم لسبيله.».
ولو أن عداء بونابرت للأقباط لم يذهب به إلى حد الاضطهاد، فإنه - على أي حال - لم يكن رفيقا بهم، ويقول نقولا ترك: «طلب الجنرال بونابرت من تجار البهار الإسلاميين مائتي ألف فرانسا سلفة، ثم طلب من طائفة لأقباط مباشرين الأقاليم وكتبة البلاد مائتي ألف فرانسا سلفة، ثم طلب التجار الشوام مائة ألف فرانسا.».
7
وكذلك صار الأقباط في عهد بونابرت من خيبة أمل إلى خيبة أمل، نعم أنه استعان بهم في جباية الضرائب، كما فعل المماليك من قبله، ولكنه اتخذ هذا الإجراء مرغما؛ إذ كان يتكلم عنهم بقسوة شديدة فيقول: «إنهم لصوص مكرهون في البلاد غير أنه يجب مراعاتهم؛ لأنهم يعرفون الأصول العامة لإدارة البلاد دون سواهم».
لذلك عين المعلم جرجس الجوهري مباشرا عاما وخوله السلطة على سائر المباشرين، ولكنه حرص على أن يكون معه موظف فرنسي لمراقبته، ثم لم يزل بونابرت منذ هذه اللحظة يترقب أول فرصة للتخلص من الجوهري، ولما ترك القائد الفرنسي مصر، أرسل إلى الجنرال «كليبر» كتابا مؤرخا يوم 22 أغسطس عام 1799م يقول له فيه بصراحة: «... كنت مزمعا، إن سارت الأمور سيرها الطبيعي، أن أضع نظاما جديدا للضرائب يجعلنا نستغني تقريبا عن خدمات الأقباط.».
وأخيرا، بالرغم من حاجته إلى زيادة عدد جيشه، لم يفكر بونابرت قط في الاستعانة بالأقباط، كما أن الأقباط أنفسهم لم يظهروا حماسا زائدا في طلب تجنيدهم ، فلم تؤلف الفرقة القبطية - كما سنبينه فيما بعد - إلا في عهد الجنرال «كليبر»، وفي ظروف خارجة تماما عن إرادة الأقباط.
وكان بونابرت يأمل من وراء استغنائه عن خدماتهم، مراقبة دخل الضرائب مراقبة فعلية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنه كان يرغب خاصة في ترضية المسلمين. وكتب إلى قواده في عدة مناسبات يقول لهم: «مهما فعلتم، تأكدوا من أن النصارى في صفكم، فلا تترددوا إذا في تفضيل المسلمين على النصارى.» وكرر هذا القول على الجنرال «كليبر» قبل رحيله إلى فرنسا، ولما انتصر على القوات العثمانية في أبي قير وأراد أن يطمئن الأعيان والعلماء عن نياته، صرح علانية: «نعم، أني أكره النصارى لقد سحقت ديانتهم وحطمت هياكلهم وقتلت قساوستهم، وهشمت صلبانهم ونكرت إيمانهم، وعلى الرغم من ذلك فإني أراهم يفرحون لفرحي ويتألمون لألمي فهل من المعقول أن أعتنق من جديد الدين المسيحي؟ وما الفائدة التي سأجنيها من هذا العمل؟». (3) موقف المسلمين
لقد أتيح لنا بفضل المستندات الثابتة التي ذكرناها، أن نجزم بأن بونابرت حاول بأقواله وأعماله كسب عطف المسلمين، ولم يذهب طبعا لإرضائهم إلى حد اضطهاد النصارى، ولكنه لم يبد لهؤلاء ما يدل على عطفه عليهم.
ولكن بونابرت لم يوفق في إزالة البغضاء من قلوب المسلمين، بسبب وجوده بينهم، ذلك بالرغم من المظاهر المواتية، فكان يشعر أن الشعب يتحمل حكمه كارها، وأنه يترقب الفرصة التي تتاح له للتخلص منه، ولما تحدث الجبرتي عن زيارة القواد الفرنسيين للأعيان بمناسبة الأعياد الإسلامية، أصرح بأن الأعيان كانوا يستقبلونهم بشيء من الترحيب المصطنع.
وقد مزقت ثورة القاهرة الأولى الستار الذي كان يخفي وراءه مهزلة التعاون بين المسلمين والفرنسيين، وقد دبرت المؤامرة في الأزهر، حيث أظهر بونابرت منذ فترة وجيزة مزيد عطفه على الإسلام «وفي ذات يوم، نهار الأحد في عشرين ربيع آخر، نزل أحد المشايخ الصغار، وكان من مشايخ الأزهر، وبدأ ينادي في المدينة أن كل مؤمن موحد بالله عليه بجامع الأزهر «يعني نقولا ترك: عليه أن يتوجه إلى الجامع الأزهر»؛ لأن اليوم ينبغي لنا أن نغاري في الكفار.»
8
وقد أخذ الفرنسيون على غرة بينما كانوا يطوفون في شوارع العاصمة بدون أسلحة، وقد قتل الغوغاء جميع الذين تعاونوا مع الفرنسيين سواء كانوا مسلمين أم نصارى.
ولما قرر بونابرت أن يعطف على الثوار، لم يصدقه أحد، ولما أراد بعض النصارى المطالبة بتعويض عما لحق بهم وبمساكنهم من أضرار، رفض المسلمون التقدم بمثل هذا الطلب لاعتقادهم الراسخ أن أحدا لن يستمع إلى شكواهم، كما ورد ذلك في تاريخ الجبرتي ولما علم الناس بعد أسابيع، أن القوات العثمانية احتلت قلعة أبي قير «أظهروا البشر وتجاهروا بلعن النصارى.»
9
ولكن الجنرال بونابرت انتصر على العثمانيين وعاد إلى القاهرة، فاضطر الأعيان والعلماء وأعضاء الديوان أن يتوجهوا إلى داره ليقدموا له فروض التهاني بمناسبة عودته السعيدة، ولاحظ بونابرت مرة أخرى حزنهم وخيبة أملهم، ولكنه لم يحاول الانتقام منهم أو تعديل سياسته إزاءهم، فنهج السياسة التي سار عليها غداة ثورة القاهرة، غير أنه لامهم بلهجة هادئة على موقفهم، فقال: «أيها العلماء والأعيان، إني أتعجب من حزنكم لانتصاري، إنكم لم تقدروا موقفي إزاءكم حتى الآن، مع أني كررت لكم أنني مسلم وأني مؤمن بأن لا إله إلا الله وأني أجل النبي وأحب المسلمين.».
ويتضح من ذلك أن العلاقات مع المحتل لم تكن طيبة إلا في المظهر، وإذا كان بونابرت قد استمر في إظهار صداقته نحو المسلمين، إلا أنه شعر بفشله في إقناعهم بحسن نياته، وبأن القوة لا بد منها لإقرار النظام؛ إذ كان الشعب ينظر إليه كرجل كافر يقود جيشا من الكفار وأن قيامه بمصر كان يشجع النصارى على حساب المسلمين غير أنه أمل، حتى آخر لحظة، في قدرته على إزالة عداء الشعب نحوه، وكان إصراره هذا يستحق كل الإعجاب، ولا سيما أن قواده كانوا يكظمون غيظهم من هذه السياسة، ولما آل الحكم إلى الجنرال «كليبر»، لم يتردد هذا القائد في محاباة النصارى ويأذن للجنرال المعلم يعقوب تكوين «الفرقة القبطية».
وقبل أن نتناول الكلام عن هذه الفرقة التي انتقدها بعض المؤرخين الوطنيين، وكانت موضع لاتهامات لا أساس لها من الصحة، يجدر بنا أن نبسط سياسة الأقباط إزاء الفرنسيين. (4) موقف الأقباط
كان المصري المسلم يعتقد أن القبطي الذي استعبده المماليك وأذلوه تأثر بوجود الجيوش المسيحية في الأراضي المصرية، وأنه أظهر استعداده للانضمام إليهم لذلك لما وصلت العمارة الفرنسية إلى مياه الإسكندرية، ظل الفرنسيون والأقباط موضع شك السلطات، وتعرضوا من جراء ذلك إلى أعمال السوء، طلبت السلطات إلى بعض القائمين الفرنسيين ألا يغادروا مساكنهم بينما أرسلت البعض الآخر إلى القلعة، ويقال: إن مراد بك قرر قطع رءوسهم، إلا أنه أرجأ تنفيذ خطته إلى ما بعد انتصاره بناء على مشورة «كارلوروستي»، قنصل النمسا، وكان الأقباط ينتظرون نفس المصير، ولكن الباشا توسط لهم وأنقذهم من مصيرهم المحتوم. ويكتب نقولا ترك في هذا الشأن: «قال الوزير وشيخ البلد إبراهيم بك، غير ممكن أننا نسلم في هذا العزم والرأي؛ لأن هؤلاء رعية مولانا السلطان صاحب النصر والعز والشأن، وكان الوزير وشيخ البلد كل يوم يرسلون إليهم «أي: إلى النصارى» سليم أغا، مستحفظان آغات الانكشارية، حالا يطمئنهم في محلاتهم على أرواحهم وأموالهم، ويطلق المناداة في كل البلد على حفظ الرعايا وعدم المعارضة لهم.».
10
على أن الجبرتي يضيف إلى ذلك قوله: «صار الأمراء يفتشون في محلات الإفرنج على الأسلحة وغيرها، وكذلك يفتشون بيوت النصارى الشوام والأقباط والأروام والكنائس والأديرة على الأسلحة، والعامة لا ترضى إلا أن يقتلوا النصارى واليهود، فيمنعهم الحكام عنهم ولولا ذلك المنع، لقتلتهم العامة وقت الفتنة.».
11
هل كان في موقف الأقباط ما يبرر هذه الروح الانتقامية؟ لا. ومن المحتمل أن يكون الأقباط قد وجدوا في قدوم الفرنسيين أبناء دينهم ما يلطف من مصيرهم، ولكن موقفهم من الأوروبيين فيما مضى والوثائق التي عثرنا عليها عن الحملة الفرنسية، لا تسمح لنا من الجزم بأن الأقباط حاولوا مساعدة الغزاة.
هل نستطيع أن نأخذ عليهم موقفهم السلبي وقت الخطر؟ ولكن هل كان في استطاعتهم أن يقوموا بعمل ما بعد أن جردتهم السلطات من سلاحهم؟
إننا نميل إلى الاعتقاد بأن النصارى كانوا أضعف من أن يستطيعوا اتخاذ أي قرار، فرضخوا لأوامر الأغلبية، وكانوا في أثناء القتال يعتبرون أنفسهم متضامنين مع مواطنيهم المسلمين.
على أن انتصار الفرنسيين وفرار المماليك، لم يؤثرا على سلوك الأقباط وعندما وصف الضباط «ريشاردو» أحد رجال الحملة دخول الجيوش الفرنسية المنتصرة مدينة القاهرة، اعترف بأن «دخولها ظافرة إلى العاصمة الحديثة لمصر القديمة لم يحدث ما يلفت النظر، ولم يهتم بها سكان المدينة ولم يخرج الجماهير إلى الطرقات، فلم يشاهد فيها جماعات من الرجال ولا حتى من الأطفال، وبالاختصار لم يبد الجمهور أي اهتمام لهذا الحادث.».
12
والملاحظة أن بونابرت أول من أرسل في طلب المعلم جرجس الجوهري الذي قدم إلى الجنرال الفرنسي أعيان الأقباط، ومن الطبيعي أن ينتهز الأقباط هذه الفرصة ليقدموا فروض الطاعة والخضوع للرجل الذي جلس على أنقاض المماليك ورسخت قدمه في البلاد، وكان أعضاء الوفد يرتدون الكساوى ذات الأكمام المذهبة، المزدانة بالوريدات الذهبية، وعلى رءوسهم العمائم الكشمير وأعربوا لبونابرت عن خالص ولائهم.
13
وقلق المسلمون لعمل الأقباط هذا مما دعا الجبرتي إلى اتهام النصارى صراحة بالتعاون مع الفرنسيين، وأخذ يشهر بالنساء السوريات واليونانيات اللواتي كن يدخلن الحريم لإلقاء الرعب في قلوب نساء البكوات المماليك وحملهن على دفع الضرائب التي فرضها الفرنسيون، ثم يحمل على المباشرين الأقباط الذين يقومون بجباية الضرائب «على طريقة كبار الموظفين»؛ أي: باستعمال السوط، وقال أخيرا الجبرتي: إن الأقباط والسوريين واليونانيين واليهود أصبحوا لا يحتملون؛ لأنهم يركبون الخيل ويحملون السلاح.
ولكن سبق أن قلنا كيف كان بونابرت يعامل الأقباط بالقسوة، وأنهم لم يفوزوا بمعاملة استثنائية إلا بعد أن تولى الجنرال «كليبر» الحكم، وبعد أن ثار سكان القاهرة مرة أخرى على الفرنسيين ما لبث أن ألغيت الإجراءات الاستثنائية بعد مقتل القائد الجديد.
ولما طلب ثوار القاهرة الأمان، لم ير «كليبر» مانعا من منحهم إياه، ولكنه أثقل كاهل البلاد بالضرائب بعد ذلك، ثم أرسل في طلب العلماء والأعيان وألقى فيهم خطبة ملأها بعبارات التهديد والوعيد ووصفهم بالرجال الأشرار الجاحدين، وأخبرهم بفرض ضريبة استثنائية على جميع السكان، ما عدا النصارى الذميين.
14
إلا أن هذا الإجراء الذي يتفق تماما مع روح «كليبر» القاسية، كان يعتبر عملا غير سياسي؛ إذ أوجد فرقا بين المسلم عدو الفرنسي، والقبطي الذي يدين بدينه، ثم إن النصارى الذين عوملوا معاملة سيئة في أثناء ثورتي القاهرة، اعتقدوا بعد انتصار «كليبر» في سهول عين شمس وقضائه على الثورة الداخلية، أن أركان حكم الفرنسيين قد وطد إلى الأبد، وأنهم سيظلون أسياده «دون منازع، وقد استغلوا حظوة المحتل فتغطرسوا وتعجرفوا، وكتب الجبرتي في هذا الصدد: «تطاولت النصارى من القبط والنصارى الشوام على المسلمين بالسب والضرب، ونالوا منهم أغراضهم وأظهروا حقدهم ولم يبقوا للصلح مكانا، وصرحوا بانقضاء ملة المسلمين وأيام الموحدين ... وأمر الفرنسيون بجمع البغال، ومنعوا المسلمين من ركوبها مطلقا سوى خمسة أنفار من المسلمين؛ وهم: الشرقاوي والمهدي والفيومي والأمير وابن محرم، والنصارى المترجمين وخلافهم لا حرج عليهم.».
15
ولما اغتال سليمان الحلبي الجنرال «كليبر» تحرك نار الانتقام في قلوب الجنود الفرنسيين واشتعلت فجأة، وقال نقولا ترك: إنه كان في نية العساكر الفرنسية أن يبيدوا جميع سكان القاهرة من مسلمين ونصارى.
وخلف «مينو» الجنرال «كليبر» ولما كان «مينو» رجلا إداريا، أظهر ريبته من المباشر القبطي، ولما كان القبطي غير محبوب من الفرنسيين، فقد تحمل مضايقات لا حصر لها ولا عداد، بينما تعرض المباشرون لرقابة شديدة «وكان الفرنسيون يعاقبون بقسوة المباشرين الأقباط الذين اختلسوا الأموال، وكانوا يتربصون الفرصة للاستغناء عن هؤلاء الموظفين غير المخلصين، وفي شهر فاندميير عام 9 من الثورة، اتهم «استيف» الأقباط باختلاس 1.293.143 جنيها على حساب دافعي الضرائب، فأمر «مينو» بالقبض على المباشر أبي طاقية وتغريمه 750 ألف جنيه لتعويض الخسائر.».
16
ونقرأ أيضا في البند الرابع من الأمر المؤرخ 10 فاندميير عام 10، الخاص بإعادة تنظيم الإدارة المصرية: «أن الأقباط ما هم في مصر إلا أقلية مكروهة من المسلمين؛ لأنهم يعملون على إثارة هذا الحقد عليهم، إنه يجب علينا أن نضمن لهم العدل والحرية، ولكن ليس من الحكمة بل من الخطر أن نتحالف معهم ونمنحهم الامتيازات؛ لذلك سيحضر رؤساؤهم ورؤساء الأمتين اليونانية والسورية جلسات الديوان على أن يكون رأيهم استشاريا فقط.».
وعمل «مينو» على تحقيق مشروع بونابرت الخاص بتجريد الموظفين الأقباط من امتيازاتهم، وقد ألغى فعلا وظائف المباشرين في النظام الإداري الجديد، واستثنى من ذلك المعلم يعقوب «الذي لا مراء في كفاءته وإخلاصه للفرنسيين، وقد يبقى في الديوان بصفه مستشار لمدير الإيرادات العامة، وطلب إليه أن يقدم إلى الجنرال «استيف» المشايخ الذين سيقومون بجباية الضرائب، ويكون لهم لقب المباشر، وكذلك الأقباط الذين سيعملون تحت إمرة هؤلاء الشيوخ».
وكتب «مينو» إلى الجنرال المعلم يعقوب يبسط له الأسباب التي جعلته يتخذ هذا القرار فقال: «أنت تعلم أنني قليل الثقة في عدد كبير من مواطنيك الأقباط، فراقبهم بعناية فائقة؛ إذ إنهم غير مرتاحين إلى الإجراءات الإدارية التي اتخذتها والتي ترمي إلى إعادة النظام الذي لا يحبوه.».
17
أما الأقباط، فقد اتهموا بدورهم الفرنسيين أنهم يريدون التخلص منهم كي يختلسوا مال الخزينة العامة، وعلى العموم فإن هذه الإجراءات التعسفية الموجهة ضدهم جعلتهم يتمنون جلاء الفرنسيين عن الأراضي المصرية، نعم أنهم كانوا يعلمون أن مواطنيهم المسلمين سوف يحاولون الانتقام منهم، إذا ما رحل الفرنسيون عن البلاد، ومع ذلك اختاروا أقل الضررين، وفضلوا أن يقاسوا العذاب على أيدي المسلمين مدة من الزمن على حرمانهم من وظائفهم إلى الأبد. (5) الجنرال يعقوب وتكوين الفرقة القبطية
على أن هناك نقطة لم تزل غامضة ألا وهي تعاون الأقباط العسكري مع المحتل.
في نظر بعض الكتاب الوطنيين لا تحتمل مسألة المعلم يعقوب أية مناقشة: إنه خائن تعاون مع الفرنسيين وأسهم في ذل الشعب المصري، ولم يحاول الكتاب الأقباط أنفسهم أن يفرقوا بين موقف المعلم يعقوب وبين موقف سائر الأقباط، وذهب أحدهم إلى حد كتمان هذه المسألة مما ضاعف كبر ذنب الأقباط في عيون الوطنيين.
18
واعتمد المؤرخ «جورج دوان» على حديث جري بين القبطان «جوزيف إدموندس» وبين الجنرال يعقوب وصديقه «لاسكاريس» على ظهر السفينة «بلاس» وهما في طريقهما إلى فرنسا، فأكد أن يعقوب كان يهدف إلى تحقيق استقلال مصر،
19
وقد أيد هذا الرأي المؤرخ المصري شفيق غربال بك .
20
واعتمد سلامة موسى على هذه المذكرات ليكتب في جريدة «مصر» القبطية عدة مقالات يمجد فيها أعمال الجنرال يعقوب الذي اعتبره أول من رفع صوته في مصر وفي أوروبا مطالبا بحرية البلاد واستقلالها.
على أننا نرى شخصيا أن مختلف النظريات التي قيل بها حتى الآن نظريات خاطئة، ونقول: إن الجنرال يعقوب أنكر وطنه إن لم يكن قالبا فقلبا منذ اللحظة التي كون الفرقة القبطية، وسنرى من جهة أخرى أن الأمة القبطية استقبلت عمل الجنرال يعقوب بفتور.
ولكن هذا لا يعني أن يعقوب كان خائنا؛
21
إذ لم يكن وقتئذ جنسية مصرية محدودة، وكيف نلومه على موقفه هذا بينما طلب العثمانيون مساعدته لهم عند انسحاب الفرنسيين؟
فإذا أردنا أن نفهم نفسية هذا الرجل، يجب أن نلقي نظرة عن أعماله قبل الاحتلال الفرنسي.
كان يعقوب زكيا وصحيح البدن، وقد اشتهر بمهارته في ركوب الخيل كان يشغل كسائر أبناء طائفته وظيفة المباشر، ولكنه لم يكن مسالما مثلهم؛ إذ إنه انضم، قبل وصول الفرنسيين بزمن طويل، إلى صفوف إبراهيم بك ومراد بك في المعركة الكبرى التي دارت بين جيوش المماليك وجيوش القبطان باشا، وقد شكره البكوان لشجاعته وأغدقا عليه النعم، وفي سنة 1798، أصبح يعقوب وجيها وثريا يحترمه ويعتبره الجميع.
ولما قدمه جرجس الجوهري إلى الجنرال «بوسييلج» كتب هذا الأخير إلى بونابرت قائلا: «يقول الجوهري: إنك لن تجد إنسانا أكثر غيرة منه على مصالحنا، وإنه يضع رأسه بين يديك راجيا أن تأمر بقطعها إن بدا من المعلم يعقوب أدنى خيانة.».
22
ونشعر هنا أن يعقوب المقاتل أعجب بقوة هؤلاء الجند الشبان الذين هزموا مماليك مراد بك وإبراهيم بك الذين عرف عنهم أنهم لا يكسرون، ثم إن يعقوب عرف عنه أن إخلاصه لرؤسائه يذهب به إلى حد إنكار الذات، وكان المماليك هم رؤساءه بالأمس، أما اليوم فكان الفرنسيون رؤساءه.
وقد ألحق يعقوب الجنرال «ديزيه» مباشرا، وأعجب إعجابا شديدا بهذا القائد الشاب لشجاعته الفائقة ومهارته الحربية، فما كان منه إلا أن ألقى بدواته المعلقة بزناره واستل سيفه من غمده وخاض غمار معارك طاحنة، وعرض نفسه للهلاك أكثر من مائة مرة، هذا لأنه كان يعتبر نفسه جنديا من جنود بونابرت، وأخذ ينسى شيئا فشيئا أصله المصري القبطي.
ولما سافر «ديزيه» إلى فرنسا مع بونابرت، استقر يعقوب بالقاهرة حيث كان يحيط الفرنسيين بمعلومات مفيدة، غير أن رائحة البارود ما زالت به حتى جذبته إليها، فلما حاصره الثوار في ثورة القاهرة الثانية، برهن أكثر من مرة على مهارته في الفنون الحربية، الشيء الذي جعله يستطيع أن يطلب إلى «كليبر» السماح له بتجنيد فرقة من الأقباط يتولى قيادتها، وقد أجاب «كليبر» إلى طلبه ومنحه رتبة أغا، وفرح يعقوب لذلك وأراد أن يعترف بالجميل، فقام بتجهيز وتسليح فرقته على جيبه الخاص، وكان يبلغ عدد أفرادها ثمانمائة رجل وصفهم الجبرتي كما يلي: «إن يعقوب القبطي لما تظاهر مع الفرنساوية وجعلوه ساري عسكري القبط، جمع شبان القبط وحلق لحاهم وزياهم بزي مشابه لعسكر الفرنساوية مميزين عنهم بقبع يلبسونه على رءوسهم مشابه لشكل البرنيطة، وعليها قطعة فروة سوداء من جلد الغنم في غاية البشاعة، مع ما يضاف إليها من قبح صورهم وسواد أجسادهم وزفارة أبدانهم.».
23
إن تحيز الجبرتي ضد هذه الفرقة يكشف لنا عن شعور بعض المعاصرين العدائي، على أن الأقباط لم يكونوا أول من زود الجيش الفرنسي بالرجال فقد سبقهم إلى ذلك عمر القلقجي الذي «توسط لمغاربة الفحامين وجمع منهم ومن غيرهم عدة وافرة وعرضهم على ساري عسكر، فاختار منهم الشباب وأولى القوة وأعطاهم سلاحا وآلات حرب ورتبهم عسكرا ورئيسهم عمر المذكور وسكن العسكر المغربي بدار عند باب سعادة، ورتبوا له من الفرنسيس جماعة يأتون إليهم في كل يوم، ويدربونهم على كيفية حربهم وقانونهم ومعنى إشاراتهم في مصافاتهم، فيقف المعلم والمتعلمون مقابلين له صفا وبأيديهم بنادقهم فيشير إليهم بألفاظ بلغتهم،
24
ثم انضم المماليك إلى الفرنسيين بعد المغاربة، أما الأقباط فكانوا آخر من التحق بالجيوش الفرنسية، وعلى أي حال، كان مجهودهم محدودا جدا، على خلاف المغاربة، فلم يشتركوا حتى في المعارك التي سبقت تسليم الجيوش الفرنسية، ولكن فرقتهم بقيت معسكرة في القاهرة وأخذ يفكر أفرادها في حلها، والواقع أنه بينما كان يعقوب يستعد للإبحار إلى فرنسا، ركن جنده إلى الفرار أو الاختباء منه على الرغم من ضغطه عليهم».
لا يترك الإنسان بلاده باحثا عن المغامرة إلا بدوافع قوية، وكان الأقباط لم يدركوا أبدا السبب الذي جندوا من أجله، أما يعقوب، فكان عالما بما فعل، أنه نسي وطنه ووهب نفسه لخدمة رؤسائه الجدد منذ الأيام السعيدة التي تعاون خلالها مع «ديزيه»، ولكن كيف يكسب تقديرهم وهو مباشر؟ لذلك انتسب إلى الجيش وساعدته أعمال البطولة التي قام بها على اكتساب عطف الفرنسيين، وتسلم قبل الجلاء بعشرة أيام رتبة جنرال خطابا يعبر فيه بونابرت عن خالص شكره على الخدمات التي أداها لفرنسا، فحال هذا التقدير دون اهتمامه بعروض الصدر الأعظم الذي منح له الأمان ووعده بإعادته إلى وظيفته السابقة، أما المعلم جرجس الجوهري، فقبل عروض الصدر الأعظم واستأنف نشاطه الخاص بجباية الضرائب تحت الحكم العثماني، ذلك لعدم وجود رباط الود بينه وبين الفرنسيين، بخلاف المعلم يعقوب الذي تعلق من زمن بالجنرال «ديزيه»، وكان يكن لهذا البطل حبا شديدا لم يحاول أن يخفيه أبدا، ولما خر «ديزيه» صريعا في ساحة القتال الأوروبية، حياه جنوده المقيمون في مصر «وكان المعلم يعقوب حاضرا بملابسه العسكرية الفاخرة وقد التف حوله حرس الشرف وفرقة من جنوده، وكان حزنه يفوق كل حزن، ولما فكر الفرنسيون في عمل نصب تذكاري له، أسرع يعقوب بالكتابة إلى الجنرال «مينو» قائلا: «يا ديزيه! سيقام لك نصبا في فرنسا! إن يعقوب الذي كنت تحبه وكان يدللك كنفسه سيدفع ثلث التكاليف مهما بلغت ... وهكذا سوف تعلم الأجيال القادمة أن يعقوب الذي حارب بجانبك كان يستحق تقديرك ... يا للحسرة! لقد وهبك قلبه منذ زمن طويل.».
وهو كما نرى شعور لم نعهده في أقباط هذا العهد! لقد امتاز يعقوب عن سائر أفراد أمته، وأراد أن يهدف مثل «ديزيه» إلى الفخر على ساحة القتال، ولكن شاء القدر أن يصاب على السفينة التي كانت تقله إلى فرنسا بمرض مجهول قضى نحبه على أثره، ولم تكن آخر كلماته عن مصر ولا عن أسرته ولا عن أفراد فرقته الذين ساروا في ركابه، وبينما كان يحتضر، طلب إلى الجنرال «بليار» الذي كان بجواره، أن ينعم عليه بدفنه في قبر «ديزيه» نفسه، ولكن لم تنفذ رغبته؛ لأنه توفي على ظهر الباخرة فألقي جسده في عرض البحر. (6) الأقباط بعد جلاء الفرنسيين
عمل الفرنسيون في الاتفاقية التي وقعوها على تأمين النصارى والمسلمين الذين ساعدوهم، فاشترطوا في المادة الثانية عشرة أن لكل من يقطن مصر مطلق الحرية، مهما كانت جنسيته، في اللحاق بالجيش الفرنسي دون أن تتعرض أسرته للاضطهاد أو توضع ممتلكاته تحت الحراسة، وفي المادة الثالثة عشرة أنه لن يضطهد الذين يقطنون مصر، مهما كانت ديانتهم، في أشخاصهم أو في ممتلكاتهم بسبب علاقاتهم مع الفرنسيين في أثناء احتلالهم مصر، على أن يتبعوا من الآن فصاعدا قوانين البلاد.
ولكن على الرغم من هاتين المادتين الصريحتين، فقد أرهق الشعب الفرنسيين في أثناء انسحابهم، ثم وجه غضبه إلى النصارى.
وهكذا لم تحاول الإجراءات التي اتخذها رجال الشرطة ولا تصريحات الوالي دون التخفيف من نار الانتقام المتأججة في قلوب الشعب إلا بعد مضي وقت طويل. (7) دروس الحملة
دام احتلال الفرنسيين لمصر أقل من ثلاث سنوات، ولكن هذه الفترة الوجيزة كانت حافلة بالأحداث ومليئة بالعظات.
جاء بونابرت إلى مصر مشبعا بأحسن الشعور نحو المسلمين، وكان يريد أن يحابيهم على حساب النصارى إلا أن المسلمين أساءوا الظن به ثم عادوه، وأخيرا كرهوه، إنهم نسوا تصريحات بونابرت المفعمة بالعطف على الإسلام، وظلوا يتذكرون دخول الفرنسيين ساحة الأزهر حيث كان يعتصم ثوار القاهرة.
أما شعور النصارى، فكانت أكثر تعقيدا وقد رحب البعض؛ أي: اليونانيون والسوريون والأوروبيون، باحتلال الجيوش الأجنبية لمصر بينما أن البعض الآخر؛ أي: الأقباط، كبت شعوره ولم يظهروا عداءهم كما حدث عندما نزل الصليبيون إلى السواحل المصرية؛ ذلك لأن حملة بونابرت كانت خالية من الطابع الديني، ثم إنهم كانوا يرحبون أن يرفع الفرنسيون من شأنهم حتى شعروا بأن المحتل كان يقصد تجريدهم من وظائفهم التقليدية؛ أي: وظائف المباشرين، وعندئذ تمنوا عودة رؤسائهم الأتراك.
ولم يصف أحد شعور بونابرت نحو الفرنسيين أحسن من بونابرت ذاته؛ إذ قال في جزيرة سانت هيلينا بحضور «لاس كازبس»: «كنت أسيطر على جنودي إلى درجة يكفي معها أن أصدر إليهم أمرا يوميا عاديا لأجعلهم يعتنقون الإسلام، وكان الشعب يرضى عن هذا العمل، وحتى النصارى أنفسهم قد يجدون في هذا العمل أحسن حل لمشكلتهم، ولكانوا أقروني لاعتقادهم أنني لا أستطيع أن أفعل لنا ولهم أحسن من ذلك.».
وبالاختصار، فإن الأقباط كانوا يتمنون رحيل هذا الأجنبي الذي لم يفدهم بشيء، بل كان وجوده بينهم يزيد كره المسلمين لهم.
ويمكننا أن نستنتج من حوادث هذه الحملة ثلاث مسائل مهمة:
أولا:
أن احتقار المسلمين للأقباط جعل التفاهم بين هذين العنصرين من أعسر الأمور.
ثانيا:
أن وجود أمة مسيحية في مصر أساءت إلى العلاقات بين الأقباط والمسلمين بالرغم من أن هذه الأمة كانت مشبعة بروح العطف على الأغلبية.
ثالثا:
أن الأقباط الذين اضطهدهم المماليك واحتقروهم أصبحوا يرحبون بأمم أوروبا المسيحية على شرط أن تكون هذه الأمم منزهة عن كل غرض ديني.
هوامش
الفصل الحادي عشر
تسامح أسرة محمد علي والاعتراف القانوني بالمساواة بين المسلمين والأقباط
في هذه الحقبة المضطربة من حياة مصر؛ أي: في فجر القرن التاسع عشر، لم يكن يتصور الإنسان أن ضابطا ألبانيا قدم البلاد حديثا، يستطيع بمحض إرادته أن يعدل القوانين، التي سنت منذ أجيال لتحديد حالة الذميين الاجتماعية في العالم الإسلامي، وكان من الصعب أن يتصور أن حاكما مجهولا، يخضع لسيادة السلطان، قد يشرع في حركة إصلاحية جريئة فيلقي على السلطان والعالم أجمع درسا جميلا في التسامح.
قد يقول البعض: إن محمد علي اتبع هذه السياسة لشدة رغبته في إرضاء الأجانب، وحرصه على خلق جو ملائم لتعاونهم معه؛ إذ كان تعاونهم لا بد منه لعدة اعتبارات لنسلم جدلا بهذا الرأي، ولكن لماذا تسامح أيضا مع رعاياه النصارى؟ ومن كان يجبره على ذلك؟ ليس الأجانب على كل حال؛ لأنهم كانوا يحتقرون الأقباط، ولا الباب العالي الذي أشعل نار الثورة في أنحاء الإمبراطورية لصلابته نحو الذميين.
ثم إن ولاة مصر الحديثة، لما انتهجوا سياستهم القومية، لم يخلطوا بين الأقباط ومسيحيي الغرب في حين أن الأقباط أنفسهم لم يرغبوا في ربط مصيرهم بمصير الأجانب لكرههم لهم، ففي منتصف القرن التاسع عشر ظهرت - بفضل سياسة الأسرة الملكية وبتأثيرها - تيارات جديدة كان من شأنها أن تحطم نهائيا النظم الاجتماعية العنيفة التي كان يعمل بها.
وهذا التطور البطيء الوطيد الأركان كلل بالفوز بفضل تعاون الأسرة المالكة مع الأعيان، فعلينا أن نحدد الدور الذي لعبه كل من الطرفين قبل أن ندرس الأحكام الرسمية، التي قررت المساواة السياسية والاجتماعية بين جميع العناصر التي تتألف منها الأمة المصرية. (1) روح التسامح في الأسرة الملكية
مما لا شك فيه أن محمد علي خلق في مصر جوا اجتماعيا جديدا، ولما كان خلفاؤه مشبعين بهذه الروح، فقد انتهجوا سياسة رفعت مصر في نظر الأمم الغربية، وليس في استطاعتنا أن نعدد مآثر العائلة الملكية في هذه الناحية؛ لأن الأمثلة كثيرة جدا على عكس العصور السابقة.
وفضل مؤسس الأسرة المالكة كبير جدا؛ ذلك لأنه تولى السلطة في عصر مضطرب غاية الاضطراب، في عصر كانت الخزينة المصرية خاوية من المال بينما كانت مصاريف الدولة باهظة والأقلية الدينية معرضة دائما لاضطهاد الحكام، ومما يزيده فضلا أنه كان أول حاكم مسلم اتبع سياسة تسامح حقة، أما السلطان محمود الثاني، الذي تولى عرش الإمبراطورية العثمانية عام 1808، فقد اكتفى بحذو محمد علي بالكلام، لا بالأعمال، كان يقول: «لا أريد أن تكون هناك فوارق بين أفراد شعبي المنتمين إلى أجناس أو أديان مختلفة، ويجب ألا يختلفوا إلا في طريقتهم الصلاة في معابدهم.» غير أن هذه التصريحات لم تكن قاطعة إلا من حيث الشكل ولم تطبق تطبيقا عمليا، وبعد إحدى وعشرين سنة انتزعت الدول من السلطان فرمان الكلخانة سنة «1839م»، وهو عبارة عن تصريح شفاهي كتب بأسلوب مبهم، وبعد سبع عشرة سنة أخرى، انتزعت منه وعدا شفاهيا آخر دون في الخط الهمايوني المؤرخ سنة 1856.
وفي هذا الأثناء كانت مصر تسرع الخطى تحت إشراف ولاتها في سبيل الوصول إلى المساواة السياسية والاجتماعية بين أبنائها، والفضل في الحصول على هذه النتيجة يعود بلا شك إلى إرادة وقوة عزم مؤسس الأسرة الملكية.
فلما جلا الفرنسيون عن مصر، تركوا الأقباط لا حول لهم ولا قوة، وتركوا المسلمين في حالة هياج شديد، اتهم القبطي بالتعاون مع المسيحي الأجنبي مع أن الأقباط - كما بيناه - لم يرغبوا في وجود الأجانب بينهم بل تمنوا رحيلهم، ولكن المسلم الذي تحمل السوء من جراء أعمال القمع في أثناء ثورتي القاهرة، حاول أن يثأر لنفسه من النصارى، فأهان الأقباط وفرض عليهم الغرامات وحكم على بعض أعيانهم بالقتل.
ولا غرابة حينئذ إذا كان الأقباط، في تلك الحقبة التعسة من تاريخهم، نظروا إلى الأجنبي برهة، وكتب المستر وليم هاملتون، قائد الأسطول البريطاني عام 1801، من مدينة أثينا بتاريخ يوليو 1802: «يميل الأقباط كثيرا إلى الإنجليز وهم في هذه الآونة شديدو الاستعداد لإجابة مطلب الحكومة البريطانية.»
1
ولما أهمل البريطانيون هذه العروض، تحول الأقباط إلى الفرنسيين، وكتب الجنرال سيبستياني بدوره في التقرير الذي رفعه إلى بونابرت بتاريخ يناير عام 1803، يقول: «اقترح المباشر القبطي أن يراسلني ليطلعني على الحوادث المهمة في مصر وسوريا، وعرض خدماته وخدمات أمته في حالة تطلعنا إلى الشرق، وتدل جميع المظاهر على شدة إخلاصه لنا، ولكني أجبته بأن ليس عندي تعليمات بهذا الشأن.».
2
ولم يعطف محمد علي نفسه على الأقباط قبل أن يستتب الأمن في البلاد، ولما كان همه الأول دفع رواتب جنوده وإحباط دسائس أعدائه، فقد اعتمد أول الأمر على الطريقة التقليدية، وهي فرض غرامات على الأقباط الذين أفلحوا في أن يصرفوا الأنظار عنهم في أثناء المعارك بين الأتراك والمماليك بعضهم بعضا، ثم في أن يعينوا مباشرين ويغتنوا.
ولما استقرت الأمور، ترك محمد علي جانبا نظم الحكم العتيقة ومن اللحظة التي قرر فيها استخدام المصريين والاعتماد عليهم، قضى مبدئيا على التفرقة بين القبطي والمسلم؛ لأن كليهما يستطيعان أن يقدما له أحسن الخدمات، ورأى أيضا أنه لا داعي لتحقير الأقباط بدون سبب؛ لأن الشخص، إذا أريد أن يؤدى واجبه على أحسن وجه، وجب أن يكون محترما من الناس، ومضمون «التذكرة» الآتية هو أحسن دليل على صدق نيات الباشا، وبها: «إن يوسف الذي يشتغل في الجبخانة في خدمة الدولة، وقد حررنا له هذه التذكرة الصادرة من ديواننا وسلمناها إليه حتى لا يتعرض لأية ملحوظة بسبب زيه.».
3
لقد كان الأمر صريحا، ولما كانت مسألة الأزياء، حتى أوائل القرن التاسع عشر، لم تفقد من حدتها التي كانت عليه في أوائل الفتح الإسلامي، فقد غضب المسلمون لموقف محمد علي بدليل أن الجبرتي يحدثنا عن الأمر الذي صدر عام 1233ه «1817م» «إلى الأقباط والأروام بأن يلزموا زيهم من الأزرق والأسود، ولا يلبسون العمائم البيض؛ لأنهم خرجوا عن الحد في كل شيء ويتعممون بالشيلان الكشمير الملونة والغالية في الثمن، ويركبون الرهوانات والبغال والخيول وأمامهم وخلفهم الخدم بأيديهم العصى يطردون الناس عن طريقهم، ويلبسون الأسلحة، وتخرج الطائفة منهم إلى الخلاء، ويعملون لهم نشانا يضربون عليه بالبنادق الرصاص .»
4
إلا أن الجبرتي كان يشك في إمكان تنفيذ هذه الأوامر، وها هو يسارع فيضيف إلى ما تقدم: «فما أحسن هذا النهي لو دام».
ومن جهة أخرى، فإن محمد علي لم يحل بين النصارى وبين ممارستهم لطقوسهم الدينية، ولم يرفض للأقباط أي طلب تقدموا به لبناء أو إصلاح الكنائس، وتحوي مخطوطات قصر عابدين عددا كبيرا من الأوامر الخاصة بالكنائس، حررت بالصيغة الآتية: «أمر إلى ... بشأن التصريح لطائفة الأقباط بتعمير الكنيسة ومساعدتهم في ذلك وعدم ممانعتهم.».
5
وفي عهد سعيد باشا والخديو إسماعيل تعددت أوامر بناء الكنائس، وقد رأينا الولاة أنفسهم يستعجلون تنفيذها.
6
وكان الأقباط في عهد المماليك يعانون صعوبات كثيرة للحصول على إذن بالحج إلى الأراضي المقدسة، ولكنهم استطاعوا بعد ذلك أن يقوموا كل عام بهذا الغرض تحت رعاية السلطات، وأول وثيقة عثرنا عليها تعود إلى عام 1241ه «1825م»؛ أي: قبل فتح إبراهيم باشا بلاد الشام، ويوصي فيها محمد علي متسلم غزة «بالقبط الذين يريدون الحج إلى القدس، وألا يدع لأحد مجالا في التداخل في شئونهم.»
7
أما الوثائق المؤرخة عامي 1827 و1828، فكانت موجهة إلى متسلمي غزة والقدس، وكان الباشا يوصيهما بحماية الراهب القبطي والزوار الأقباط الوافدين إلى القدس كعادتهم كل سنة حاملين قفص الشموع إلى كنيستهم التي بالقدس وبصيانتهم وإكرامهم عند وصولهم إلى غزة والقدس،
8
وكان محمد علي أول حاكم مسلم منح الموظفين الأقباط رتبة البكوية، واتخذ له مستشارين من النصارى.
ولم يكتف محمد علي بخلقه جوا من التسامح وتحسينه لحالة الأقباط، بل ذهب إلى حد عدم تردده في مؤازرتهم أحيانا، فقد حدث عام 1230ه «1814م»، في أثناء تمرد حامية القاهرة، أن اعتصم النصارى، وقد استبد بهم الرعب في أحيائهم، وأقاموا عليها المتاريس وأغلقوا بعض الأبواب، وتسلحوا بالبنادق «وأمدهم الباشا بالبارود وآلات الحرب دون المسلمين حتى إنهم استأذنوا كتخدا بيك في سد بعض الحارت النافذة التي يخشون وقوع الضرر منها، فمنع ذلك.».
9
وقد حدث عام 1845م شجار بين حمار ومزارع قبطي، فسب المزارع الحمار الذي ذهب يشكو أمره إلى السلطات، فما كان من حاكم دمياط إلا أن أمر بضرب القبطي خمسمائة ضربة، والطواف به في الحي النصراني ليهان من الجميع، ولما علم محمد علي بهذا الحادث، أرسل أحد كبار ضباطه الذي أمر بسجن حاكم دمياط خمس سنوات في قلعة أبي قير وتغريمه مبلغا كبيرا من المال.
10
أضف إلى ذلك أن مطران الأقباط الكاثوليك صرح للدكتور «بورنج» أنه يتجول في أنحاء المدينة معلقا صليبه على صدره بحيث يراه الجميع، ولم يحاول أحد سبه أو إهانته، وأن الأقباط جميعهم يستطيعون ممارسة طقوسهم الدينية بحرية تامة.
11
وكانت السلطات نفسها تحترم الدين المسيحي، فقد أمر محمد علي عام 1225ه «1810م»، كما فعل من قبله ابن طولون، أن تقام الصلوات لترتفع مياه النيل «وخرج النصارى الأقباط يستسقون أيضا، واجتمعوا بالروضة وصحبتهم القساوسة والرهبان وهم راكبون الخيول والرهوانات والبغال والحمير في تجمل زائد، وصحبتهم طائفة من أتباع الباشا بالعصي المفضضة.».
12
ومن البديهي أن بعض الذين اعتادوا فهم الأشياء على طريقتهم الخاصة لم يرتاحوا إلى هذا التحول الكبير في معاملة النصارى، وقد نقل إلينا الجبرتي الذي كان يعبر إلى حد ما عن شعور أبناء دينه، شكاوى الشعب بأسلوب لاذع، فقال: «كتبوا أوراقا لمشاهير الملتزمين مضمونها أنه بلغ حضرة أفندينا ما فعله الأقباط من ظلم الملتزمين والجور عليهم في فائظهم، فلم يرض بذلك، والحال أنكم تحضرون بعد أربعة أيام وتحاسبوا على فائظكم وتقبضونه، فإن أفندينا لا يرضى بالظلم وعلى الأوراق إمضاء الدفتر دار، ففرح أكثر المغفلين بهذا الكلام واعتقدوا صحته، وأشاعوا أيضا أنه نصب تجاه قصر شبرا خوازيق للمعلم غالي وأكابر القبط.».
13
هل يفهم من ذلك أن محمد علي لم يكن مهتما بالناحية الدينية؟ لا بالطبع، بدليل أنه نراه يكافئ الذين يعتنقون الإسلام منحا نقدية، ويعينهم في الوظائف الحكومية ... إلخ،
14
ولم يتردد معاقبة المسلمين المرتدين علانية،
15
ولكنه لم يعط نفس الأهمية للخلافات التي كان مصدرها التقاليد البالية العتيقة.
وعلى الرغم من دلائل التسامح الواضحة التي امتاز بها عصر محمد علي، لم يكن في استطاعة النصارى أن يدعوا بأنهم على قدم المساواة مع المسلمين، فقد حث والي مصر الكولونيل «سيف» «سليمان باشا» إلى اعتناق الإسلام؛ حيث لا يجوز لغير المسلم بأن يتولى قيادة الجيش، ولا شك أن الوالي كان يعلم أن الوقت لم يحن بعد ليقطع صلته كلها بالتقاليد القديمة، وقد أفهمنا الجبرتي في معرض رثائه لأحد المباشرين النصارى يدعى عبود أن «الباشا كان يحبه ويثق به ويقول: لولا الملامة لقلده الدفتردارية.»
16
وهذا الاعتراف الصريح يحدد بوضوح موقف الوالي من الذميين، ولكن يجب أن نلاحظ أيضا أن محمد علي كان هو الآخر لا يرى في الأقباط إلا مباشرين ومحاسبين ممتازين، فلم يحاول أن يدخلهم الجيش النظامي «وعلى كل فإن رغبة الأقباط عن الجندية كانت ظاهرة بوضوح، ونفورهم من حياة المعسكرات كان من غنى عن الدليل»، ولا أن يعلمهم التعليم الحديث، ومن الملاحظ أن أول بعثة علمية إلى فرنسا كانت خالية من الطلبة الأقباط مع أنها كانت تجمع عددا من المسيحيين.
وصفوة القول، فقد أجمع نقاد هذا العصر على تقدم العلاقات بين المسلمين والأقباط، تقدما محسوسا، ولكنهم أخذوا على الحكومة عدم اعترافها إلى ذلك الوقت بالمساواة علنيا بين الدين المسيحي والإسلام.
وقد وصف المؤرخون الأجانب عصر عباس باشا بأنه عصر رجعي، والواقع أن عباس باشا كان ضد الأوروبيين أكثر منه ضد النصارى، وإذا استغنى عن عدد كبير من الموظفين الفرنسيين على وجه الخصوص، فقد عين وزيرين للخارجية من أصل أرمني، وهما أرام بك واسطفان بك، كما أنه لم يفكر في التخلص من المباشرين الأقباط، لقد علل بعض المؤرخين الأوروبيين كرهه للأوروبيين إلى نفوره من المسيحيين، غير أننا لا نذكر أي أمر عدائي أصدره عباس باشا ضد الطوائف النصرانية.
ويعود الفضل في إدخال النصارى، وبخاصة الأقباط، في صلب الأمة المصرية إلى الوالي سعيد باشا والخديوي إسماعيل.
كان سعيد يرغب في إشراك الأهالي في حكومة البلاد، بل كان يريد على الأخص إخراج الأتراك من سلك الوظائف المدنية والحربية، وأن الخطبة الوطنية التي ألقاها في الضباط المصريين في أواخر عهده قد أثرت فيهم تأثيرا كبيرا، ويقال: إنها من الأسباب التي أدت إلى الحركة التي قاموا بها تحت إشراف عرابي باشا.
وكان من الطبيعي حينئذ ألا يحافظ سعيد باشا على روح التسامح التي أوجدها محمد علي الكبير إزاء النصارى، بل يعمل على إزالة آخر العواقب نحو اندماجهم في صلب الأمة، فقطع كل علاقة بينه وبين القديم بقراره قبول النصارى في الجيش، وتطبيق قانون الخدمة العسكرية عليهم، وكان يعتقد سعيد أن النصارى إذا حملوا السلاح للدفاع عن وطنهم وخضعوا إلى نفس الواجبات التي يؤديها المسلمون، اكتسبوا نفس الامتيازات التي يتمتع بها مواطنوهم، وينص الأمر العالي الصادر في جمادى الأولى عام 1272ه «يناير 1856م» على أن أبناء أعيان القبط سوف يدعون إلى حمل السلاح أسوة بأبناء أعيان المسلمين، وذلك مراعاة لمبدأ المساواة،
17
إلا أن الأقباط وقد أعفتهم السلطة منذ أجيال من الخدمة العسكرية رأوا في هذا الإجراء عملا ملتويا يهدف سعيد من ورائه إلى اضطهادهم، فلم يترددوا في تقديم شكواهم إلى بعض أفراد الجالية البريطانية؛ أي: الإرساليات البروتستانية التي أجازها بطريرك الأقباط، فضغطت هذه الإرساليات على الوالي كي يعفي الأقباط من الخدمة العسكرية، أما تفاصيل هذه المسألة، فقد سردها علينا مؤرخان إنجليزيان معاصران،
18
وهما يصرحان أن التجنيد كان أداة لاضطهاد النصارى الذين قد يعرضون بعد تجنيدهم إلى مختلف ألوان الاضطهاد، وأضافا إلى ذلك أن المراد هو إكراههم على اعتناق الإسلام؛ إذ يكون إسلامهم شرطا أساسيا لترقيتهم في سلك الجيش، فوسط البطريك كيرلس الملقب بالمشرع، بعض الإنجليز فاستطاع هؤلاء أن يحملوا سعيد على إعفاء الأقباط من الخدمة العسكرية، ولكن يبدو أن البطريرك دفع عمله غاليا؛ إذ مات بعد ذلك بقليل بتأثير السم، ومن جهة أخرى، أقال سعيد عددا كبيرا من الموظفين الأقباط.
إنه يصعب علينا، بما لدينا من المستندات، أن نؤكد هذا الحادث أو نكذبه، وليس من المستحيل أن الأقباط تحملوا بعض الظلم، وهذا أمر طبيعي إذا قدر أن المسلمين لم يعتادوا بعد إلى اعتبار الأقباط على قدم المساواة، ولا سيما في سلك الجندية.
وعلى كل، فهناك أمر صريح ألا وهو انتظام الأقباط في سلك الجيش في عهد إسماعيل ، وإذا كنا لا نحتاج أن نثبت نفور المصريين المسلمين والأقباط على السواء من الخدمة العسكرية في ذلك الوقت، إلا أن كلا الطرفين أدركا أنهما خاضعان لقانون التجنيد، وبينما كان الكاتب الفرنسي «جبرائيل شارم»
Charmes
يتحدث إلى الخديوي إسماعيل في قصر عابدين، مرت كتيبة من الحرس أمام القصر، فقال إسماعيل لمحدثه: «انظر إلى هذه الكتيبة أن فيها عربا وأقباطا، ومسلمين ونصارى، وهم يسيرون في صف واحد، وإني أؤكد لك أنه لا يوجد بينهم من يهتم بديانة جاره، وأن المساواة بينهم تامة.».
19
وهكذا كان سعيد باشا أول من دعى النصارى إلى حمل السلاح بمحض إرادته وقبل أن يخضع السلطان نفسه إلى مطالب الدول الأجنبية فيعلن الخط الهمايوني المؤرخ 18 فبراير 1856، وإذا لم تتأثر مصر بحركة الإصلاح في تركيا ولم تنتظر إصدار تعليمات الآستانة للقيام بعمل مماثل.
والآن، وقد وضحنا بعض النقط الخاصة بتجنيد الأقباط، فإنه يجدر بنا أن نبرئ سعيد باشا من التعصب الذي أريد اتهامه به، ألم نشاهد في عصره موظفين رأوا التقرب إليه بمنع إقامة الأفراح في حالة اعتناق قبطي الديانة الإسلامية؟ وقد كتب الوالي إلى مدير جرجا في هذا الشأن يقول: «علمت بأنه لسبب إسلام أقباط سوهاج، تجمع بعض الأهالي والشباب وتوجهوا عند القاضي وأخذوا المذكور ومروا به بالأسواق متظاهرين ومفتخرين بإسلامه، وبما أن هذا العمل كدر خواطر الأقباط والأجانب، فعند وصول علم بذلك قمتم بتفريق المتظاهرين تهدئة لخواطرهم ثم عزلتم عمدة الناحية لسبب تساهله وتسامحه في ذلك أيضا، ثم حيث إن هذه الإجراءات، ولو أنها أوجبت الممنونية، وإنما يجب أيضا بحسب التنبيهات بأنه عند حدوث مثل هذا الأمر ينبغي إفادة هذا الطرف.».
20
أضف إلى ذلك أن سعيد باشا هو الذي ألغى الجزية المفروضة على الذميين بأمر أصدره في ديسمبر سنة 1855
21
وكتب المؤرخ «بول مريو»
في هذا الصدد: «إن الحد الذي وضعه الإسلام بين مختلف طبقات الشعب قد زال فعلا بعد أن تولى سعيد الحكم، فإن روح تسامحه ظهرت في سلسلة من أعماله قد يطول بنا سردها، فقد عين مسيحيا حاكما للسودان،
22
وهو إجراء يميز عهده أحسن تمييز؛ إذ إن هذا التعيين خطوة جديدة في طريق التسامح، وهذا التسامح يهدف إلى إفادة البلاد بكل الكفاءات مهما كانت الديانة التي تنتمي إليها، ونضيف إلى ذلك أن سعيد باشا سمح للجنود المصريين أن يمارسوا ديانتهم المسيحية علانية.».
23
أما الخديو إسماعيل، الذي تلقى علومه في فينا ثم في باريس، فقد وجد عند عودته إلى بلاده أن الجو يصلح لاتباع سياسة من التسامح على أوسع نطاق، وقد أراد كأسلافه ألا تسبب المسائل الدينية أي احتكاك بين العنصرين، وعبر عن خطته بوضوح في الأمر الصادر عند توليه السلطة ردا على سؤال وجهه إليه أحد كبار الموظفين، قال في الإفادة المؤرخة 10 محرم 1280ه «1863م»: «إن خليل عوض الحاوي، من أهالي السلمية ومن طائفة الأقباط، قدم عرضا يطلب فيه الخروج عن الدين المسيحي، برغبته وبدون إجبار، واعتناقه الدين الإسلامي، فإنه يجب استحضاركم قسيسا من قساوسة الأقباط، وكم عمدة من عمد الأقباط لأجل إقرار خليل عوض الحاوي أمامهم بأنه راغب اعتناق دين الإسلام من غير أن يجبره أحد في ذلك لأجل ألا تكون هذه المسألة وسيلة فيما بعد للتشكي، وبعد إقراره أمامهم يصير التصديق منهم على الإقرار ويحفظ بالمديرية.»
24
ولم تكن هذه الإجراءات الدقيقة تتبع في مصر قبل ذلك التاريخ، بل كانت الإجراءات في مثل هذه الأحوال بسيطة للغاية.
ثم كانت العلاقات بين الخديو وبطريرك الأقباط على خير ما يرام، ويقص علينا قليني فهمي باشا في مذكراته أنه «عندما أريد تنظيم شوارع مصر وفتح شارع كلوت بك، كانت يقضي النظام لجعل هذا الشارع قويما أن يمر بكنيسة الأقباط، فعرض على الأنبا ديميتريوس البطريرك آنئذ أن تبنى له كنيسة أفخر من هذه الكنيسة وكذا دارا للبطريركية أفخر من دارها الحالية، كل ذلك على نفقة الحكومة في نظير مرور الشارع معتدلا، فأجاب البطريرك قائلا: «إني أتشاءم من هدم معبد ديني ليكون طريقا، كما أنني لا أرضى لجناب الخديو أن يوافق على هذا العمل، ولما عرض الأمر على الخديو قال: لتكن إرادة البطريرك وليبق المعبد قائما كما هو.».
25
ولأول مرة أيضا نرى حاكما مسلما يشجع أديبا ويدعم ماديا التعليم الطائفي، وفي أمره العالي المرسل إلى نظارة المالية، طلب الخديو منح المدارس القبطية الأرثوذكسية إعانة مالية فقال: «إنه نظرا لما علم لدينا من حصول السعي والاجتهاد من بطركخانة الأقباط في استعداد وانتظام مكاتب ومدارس وإيجاد معلمين بها لتعليم الأطفال ما يلزم من العلوم واللغات الأجنبية ونحو ذلك، وسعيها في هذا النوع أوجب الممنونية عندنا، فلأجل مساعدتها على ذلك وتوسعة دائرة التعليم الجارية بمكاتبها، قد سمحت مكارمنا بالإحسان على تلك البطركخانة بألف وخمسمائة فدان عشورية من أطيان المتروك والمستبعدات الموجودة بالمديريات على ذمة الميري.».
26
ذلك لأن الخديو كان يؤمن بأن القبطي مصري كالمسلم على حد سواء، وكان لا يرتاح إلى الذين كانت تستهديهم الإرساليات الإنجليزية أو البروتستانتية، ولقد ذهب إلى حد وضع مركب بخاري تحت إمرة البطريك ديميتريوس ليطوف برعيته ويحثها على البقاء في كنف الكنيسة القبطية.
27
وقرر إسماعيل بعد ذلك علانية ورسميا المساواة بين الأقباط والمسلمين، وذلك بترشيح الأقباط لانتخابات أعضاء مجلس الشورى، ثم بتعيين قضاة من الأقباط في المحاكم.
ولما تحدث الخديوي إلى نوبار باشا عن انتخابات مجلس شورى النواب، قال له: «عندنا أقباط أيضا بين المنتخبين وقد فتحنا الأبواب للمسلمين والأقباط بدون تمييز.»
28
مع العلم أن قانون سنة 1866 الخاص بإنشاء مجلس الشورى كان لا يفرق بين المصريين، وتنص المادة الثانية منه على أن «كل شخص بلغ من عمره الخامسة والعشرين يمكن ترشيحه على شرط أن يكون أمينا ومخلصا، وأن تتأكد الحكومة من أنه ولد في البلاد.»، أضف إلى ذلك أنه لما كان مجلس الشورى في أول عهده يستوحي إرشادات الخديو إسماعيل، فقد أجمع النواب، بمناسبة مناقشة سياسة الحكومة التعليمية، على أنه يجب على المدارس الأميرية أن تقبل أولاد النصارى والمسلمين بدون تفرقة، وقال بهذه المناسبة أحد أعضاء المجلس من المسلمين: «محمد الشواربي»: إن الأقباط ما خرجوا عن كونهم من أبناء الوطن، ولذلك يجب أن يكونوا ضمن المدارس التي تعمل بالمديريات، ولا يكونون خارجا منها متى أرادوا الدخول فيها.
29
ويجب نهائيا ألا ننسى أن الخديو إسماعيل هو أول حاكم طلب رتبة الباشوية لرجل مسيحي،
30
وكان الأقباط يصرحون بفخر، بعد وفاة هذا العاهل، بأن حالتهم تحت حكمه كانت أحسن مما هي عليه تحت الاحتلال البريطاني، وقد ذكروا أن في عهد إسماعيل كان بينهم عدد كبير من ذوي الرتب، وأن واصف باشا عزمي كان يشغل وظيفة مشرفة للغاية؛ إذ كان كبير التشريفاتية، وبالرغم من أن البعض كذب هذه الإدعاءات وقالوا: إن هؤلاء الأقباط كانوا يشغلون في الواقع وظائف أقل أهمية من التي ذكرت، فإن الأقباط على الأقل لم ينكروا ضمنا شدة تسامح الخديو، وكتب «ساشو»
Sachot
المبعوث إلى مصر من لدى الحكومة الفرنسية إلى «دروي»
Duruy
وزير معارف فرنسا قائلا: «ليس رعايا مصر من المسلمين فحسب! فمن المعلوم أن من أهلها عددا غير يسير من المسيحيين الأقباط، وإني انتهز هذه الفرصة؛ لأنوه بالتسامح الديني المنتشر في أنحاء القطر المرفرف على الجميع دون استثناء مما يشرف قوانين البلاد وشمائل أهلها.».
31
ولكن أجمل مدح هو الذي فاه به إسماعيل باشا نفسه، فقد قال يوما لجبرائيل شارم: «يعيش المسيحيون في تركيا في جو من التسامح المشوب بالاحتقار! وأما في مصر فإنهم يعيشون في جو من التسامح المقرون بالاحترام.».
32
ولم ينأ خلفاء إسماعيل عن هذه السياسة، بل كانت الأقلية ترى وجودهم على رأس الدولة ما يضمن سلامتهم، وعلى كل فقد ظهرت في أواخر عهد إسماعيل قوة جديدة هي الرأي العام، وكانت المسائل الوطنية الكبرى تناقش بحرارة في الصحافة وفي الاجتماعات وفي مجلس شورى النواب، وبالرغم من أن السلطة التنفيذية كانت تسيطر على جميع المسائل التي تهم الدولة، فقد اضطرت أكثر من مرة أن تعمل حسابا لهذه القوة الجديدة.
والآن، وقد بينا موقف الحكام، يجدر بنا أن نتبع رد فعل الرأي العام والأعيان أمام سياسة الحكام الجديدة.
لقد ذكرنا طوال دراستنا انتقادات الجبرتي للإجراءات التي اتخذها محمد علي لصالح الأقباط، وأن ما لدينا من المستندات لا يسمح لنا بتسجيل غير هذه الانتقادات، أما الرحالة الذين تحدثوا عن تسامح محمد علي، فقد اقتصروا على ذكر الوقائع دون أن يخبرونا إذا كانت الأكثرية اعتادت هذه الأمور.
ولا يعقل أن نتوقع تغيير عقلية الشعب - أو على الأقل الطبقة المستنيرة بين عشية وضحاها - بأمر محمد علي، ولكننا نستطيع أن نؤكد - مستندين إلى بعض الأدلة - أن العلاقات بين العنصرين تحسنت تحسنا ملحوظا، وأن مبدأ المساواة السياسية والاجتماعية أصبح شيئا فشيئا أمرا مألوفا، وكتبت «لوسي دوف جوردون»
Lucy Duff-Gordon
تقول: «إن أهالي ببا، ومعظمهم من المسلمين، انتخبوا جرجس القبطي عمدة لهذه البلدة ... ومما أثار إعجابي، روح التسامح التي أجدها في كل مكان، ويظهر أن المسلمين والأقباط على وئام تام، ويوجد في ببا ثلاث عشرة أسرة قبطية مقابل عدد كبير جدا من المسلمين، ومع ذلك انتخب الأهالي جرجس عمدة لهم، وكانوا يقبلون يده طائعين بينما كنا نمر في طرقات القرية.».
33
ومما كان يلفت النظر أيضا، وجود رؤساء الوزارات النصارى كنوبار باشا وبطرس باشا غالي، في الاحتفال بسفر المحمل، مندوبين عن الخديو.
ويقول القاضي «فان بيميلين»
Van Bemelen
إن الأزمة المالية التي حلت بالبلاد قبيل عزل إسماعيل وطدت شعور التضامن بين عنصري الأمة «ومنذ اليوم الذي تحمل فيه المصريون المسلمون والأقباط النصارى المتاعب من عدم دفع الحكومة للمرتبات ومن ضرائبها الجائرة، نما بين هذين العنصرين شعور إخوة.».
34
وكان أول اختبار لوجود هذا الاتحاد ثورة عرابي باشا التي قامت للقضاء على الضباط الجراكسة والتخلص من المراقبين الأجانب والنهوض بالعنصر المصري، ألم تكن هذه الأوقات العصيبة فرصة للمسلمين والأقباط ليظهروا تضامنهم وتعاونهم؟ قد اتفق فعلا جميع المراقبين على الإشادة بروح التعاون التي نشأت قبيل الحوادث الدامية التي وقعت في شهري يونيو ويوليو من عام 1882، بل من قبل عزل إسماعيل عام 1879، وأن الالتماس الذي رفع إلى الخديو للمطالبة بإقالة «ريفرس ويلسن»
Rivers Wilson
وتأليف وزارة وطنية ودعوة مجلس الشورى قد وقع عليه الضباط والأعيان وبطريرك الأقباط وشيخ الإسلام، ولا يتردد الكاتب الإنجليزي «ولفريد سكان بلنت» الذي شاهد هذه الحوادث، في التصريح بأن العلاقات بين المسلمين والأقباط لم تكن أحسن مما هي عليه اليوم.
35
ولكن وجود عرابي باشا على رأس الثوار والخطاب الذي أرسله إلى «جلادستون»
Gladstone
عندما كان الإنجليز يهددون بضرب الإسكندرية فهددهم بإعلان الجهاد بعد سقوط أول قذيفة بريطانية بناء على تعليمات النبي،
36
ثم توزيع الأسلحة على أفراد الجاليات الأجنبية استعمالها ضد أفراد الشعب، كل هذه الأسباب أثرت تأثيرا على مجرى الحوادث، وحدث أن المتظاهرين والقوات المتقهقرة كانوا يخلطون كثيرا بين الأجانب والنصارى الوطنيين.
وقد اتهم بعد ذلك السلطات وقيل: إنها هي التي حرضت الثوار على مهاجمة الأقلية المسيحية كي تحط من شأن حركة عرابي الذي اعتبر ثائرا على الخديو، وقد قيل أيضا: إن الخديو إسماعيل عمل على تحريك تعصب الجماهير فأمر وحبذ القيام بقتل جميع النصارى،
37
وسواء كانت هذه الإشاعات حقيقية أم كاذبة، فإننا لا نستطيع أن ننتفع بها في المشكلة التي نحن بصددها إلا إذا كانت تدل على أنه كان في استطاعة الناس الصيد في الماء العكر في هذه الآونة، وبعث المعتقدات القديمة التي كانت في طريقها إلى الزوال.
وجاء الاحتلال البريطاني في أعقاب ثورة الضباط، وبتعبير آخر، احتلت دولة مسيحية بلدا إسلامي، وفي أثناء هذا الاحتلال، اجتمع الأقباط عن هيئة مؤتمر في مدينة أسيوط وتقدموا بمطالب عديدة باسم «الأمة القبطية»، وما لبث أن اجتمع أعيان المسلمين في مؤتمر عقد لهذا الغرض وأنكروا على الأقباط مطالبهم.
وأخذ الناس يتحدثون عن الخيانة وعن محاولة الأقلية المسيحية استغلال وجود دولة أوروبية لمصلحتها، أما المعتدلون فقد تأسفوا على عمل الأقباط بأسيوط وقالوا: إنهم وقعوا ضحية دسيسة إنجليزية كان يقصد منها بذر التفرقة في البلاد للسيطرة عليها عن طريقها، والواقع أنه لم تكن هناك أية خيانة؛ ذلك لأن الأقباط الذين كانوا على كرههم الشديد للأجنبي لم يرتاحوا لدخول الإنجليز، وقد اعترف اللورد كرومر نفسه ضمنا بذلك،
38
ولم تكن هناك أيضا أية دسيسة إنجليزية بدليل أن الإنجليز أنفسهم فوجئوا بهذا المؤتمر، وأن قليني فهمي باشا الذي عاصر هذه الأحداث أكد أن الذي أوحى به هو الخديو عباس الثاني الذي أراد إقلاق المحتل من جراء ذلك.
إن انعقاد مؤتمر أسيوط في أثناء الاحتلال البريطاني يعد من الصدفة؛ ذلك لأن الأقباط لم يكونوا يتوانون في يوم من الأيام عن التعبير عن عدم رضاهم لعواقب تقدم التعليم في مصر، لماذا؟ قبل أن نجيب على هذا السؤال نعود إلى تسلسل الحوادث.
كانت لمصر، وهي بلاد غنية وحديثة العهد بالمدنية، عدة مرافق لاستغلال كفاءة شبابها المتعلمين، وكانت إلى عهد توفيق باشا في حاجة إلى موظفين يديرون مصالحهم؛ إذ إن الطلبة الذين تخرجوا في المدارس التي أنشأها محمد علي وأصلحها إسماعيل لم تكف لسد حاجات البلاد، فقد كانت هناك وظائف لجميع أصحاب الشهادات لم يوجد واحد يعترض على حق الآخر في شغل الوظائف، وهكذا استطاع الأقباط أن يديروا مالية البلاد وحدهم دون شريك لهم.
ولكن ما لبثت الديون التي اقترضها إسماعيل أن خلقت أزمة اقتصادية خطيرة، وقد استغرق تسديد الديون موارد الميزانية، وكان من الطبيعي ألا تستطيع الحكومة الصرف على جيش كبير ولا استبقاء العدد اللازم من الموظفين، فأحال الخديوي مئات الضباط إلى الاستيداع، أما الطلبة الذين غادروا المدرسة قبل إتمام دروسهم للالتحاق بالوظائف الحكومية، فقد وجدوا بعض الصعوبات لتحقيق أغراضهم.
ومن ناحية أخرى، استطاع الأقباط - منذ الفتح الإسلامي - احتكار إدارة البلاد المالية والاحتفاظ بها بفضل طريقة شخصية للمحاسبة كانوا يحتفظون بسريتها، ويقول الدوق «داركور»
39
Duc d’Harcourt ، في هذا الصدد: إن براعتهم الحسابية فريدة في نوعها وهم، دون أن يستعينوا بكتابة الأرقام وبطرق اعتادها منذ نعومة أظفارهم، يعملون حسابات في غاية التعقيد على أساس ، ، ، ،
من
ويصعب علينا أن نتابع عملهم الحسابي؛ لأنهم يقومون به بسرعة فائقة مستعينين ببعض اختصارات غير مفهومة يدونونها على الورق، إننا نستطيع بدون شك أن نصل أسرع منهم إلى الحل الدقيق، وذلك بالطرق الحسابية المتبعة في أوروبا، ولكن لما كانت طرقهم موضوعة حسب المقاييس المستعملة في البلاد، ولما كانوا لا يلجئون إلى الحساب العشري، فإن السرعة التي كانوا يعملون بها الحسابات في مصر تفوق سرعتنا، وبفضل هذه الطرق المعقدة التي يعرفونها وحدهم، أصبح العرب لا يستغنون عنهم ، وإن كانوا قد اضطروا إلى أن يسلموا بتفوق الأوروبيين عليهم إلا أنهم ظلوا أصحاب الأمر والنهي دون منازع أمام الوطنيين المسلمين.
وأعتقد «دور بك»
Dor Bey ، مفتش التعليم بمصر، أنه قد يكتشف في المدارس القبطية على منهج خاص لدراسة الرياضيات، ولكنه لم يلبث أن قال: «لا يوجد من ذلك شيء، فإن الأولاد الأقباط يصلون إلى هذه المهارة في الحسابات بعد تمرينات عملية؛ إذ يصحبون غالبا آباءهم إلى دواوين الحكومة ويجلسون بجانبهم أو تحت أقدامهم، ويبدءون التدريب عليهم ثم يلتحقون بعد ذلك بدون أجر في خدمة الدولة.».
40
ولسنا في حاجة إلى القول إن هذه الملاحظات كان لها قيمة إلى ما قبل فترة الاحتلال، ولكن لما شرع البريطانيون في تجديد طرق العمل الحكومي، ولما منعوا الآباء من استصحاب أولادهم إلى مكاتبهم ولما تشددوا في تعيين ذوي الشهادات، ولما عمموا التعليم، شعر الأقباط، أنهم سيفقدون الامتياز الذي مكنهم إلى ذلك الوقت من العيش عيشة رغدة ألا وهو إدارة مالية البلاد، ويذكر هذا السبب بحذافيره الكاتب القبطي توفيق حبيب في مقدمة تقريره عن مؤتمر أسيوط، فهو يقول: «كان الحكام يختصمون بالوظائف العمومية فئات أو طوائف معينة سواء بحكم الميل أو الضرورة، ومن هذا القبيل نجد جميع الحكام والولاة الذين تقدموا محمد علي، بل محمد علي نفسه وبعض خلفائه قد اختصوا الأقباط بمعظم مصالح الحكومة في القاهرة والأرياف، كما اختصوا الأتراك بالمناصب العسكرية والإدارة، ولو قرأت أقوال المؤرخين المسلمين لما وجدت اسم المصري المسلم في غير وظائف القضاء الشرعي إلا نادرا.»،
41
ويستطرد الكاتب بذكر هذا القول المنسوب إلى اللورد كرومر: «لما احتل الإنجليز مصر، كانت المصالح المصرية كلها تقريبا في أيدي الأقباط.»، ثم قال: «قد أباح رجال الاحتلال للمسلمين، بل أعدوهم لدخول جميع الوظائف الكتابية والحسابية وغيرها مما كاد أن يكون محتكرا للأقباط، إن الاحتلال البريطاني قضى على احتكار الأقباط لبعض الوظائف.».
ليس الاحتلال البريطاني الذي ألغى احتكار الأقباط للأعمال الحسابية بفضل طرقهم القديمة، إن إدخال الطرق الحديثة في العمل هي التي أدت إلى إلغاء هذا الاحتكار ، ويقول «هامون»
Hamont : «بحق إن كل نظام كفيل بتسهيل العمل الإداري، كان يرفضه الأقباط؛ إذ كانوا يعيشون في الفوضى ومن الفوضى.».
42
لم يستطع أحد أن يلومهم؛ لأنهم دافعوا بجميع الطرق عن مصدر كسبهم الوحيد على ما يعتقدونه، ولكن نستطيع أن نلومهم؛ لأنهم احتفظوا في عصر التقدم والمدنية بعقليتهم التي كانوا عليها في الأزمنة الغابرة، ونذكر أن هناك سندا رسميا يكشف عن نية محمد علي، بعد مصرع المعلم غالي، تعيين خبير فرنسي لينظم مالية البلاد.
43
والواقع أن الأقباط منذ الاحتلال البريطاني كانوا مشغولين بمستقبلهم أكثر من حاضرهم؛ إذ كانوا على غير حق عندما تقدموا بشكواهم إلى اللورد كرومر وعقدوا مؤتمرا في أسيوط يتبادلون فيه الرأي، عن مخاوفهم، وأقطع برهان لما نقدمه هو الإحصائيات التي أرسلها السير «الدون جورست»
E. Gorst
المعتمد البريطاني إلى حكومته في تقريره عن سنة 1901، وهذا الإحصاء يدل على أن الأقباط ، الذي كان عددهم لا يزيد عن عشر سكان القطر، كانوا يحتلون 45,32 في المائة من الوظائف ويقبضون 40 في المائة من المرتبات في حين أن نصيب المسلمين لم يكن يتجاوز 44 في المائة والأجانب 6 في المائة.
هل كانت مسألة الوظائف الدافع الوحيد لعدم رضا الأقباط؟ بالطبع لا ذلك لأننا لا نستطيع إهمال العامل النفساني، فإذا تعمقنا في البحث، وجدنا أن غضب الأقباط يقابل إلى حد بعيد غضب عرابي باشا وصحبه، لقد حلل القاضي «فان بميلين» بدقة موقف عرابي، وأننا لا نعد أنفسنا مخطئين إذا أرجعنا عدم رضا الأقباط إلى نفس الأسباب التي أدت إلى ثورة عرابي باشا، ويكتب «فان بميلين» قائلا: «على الرغم من التقدم الذي وصل إليه المصريون.»
44
فإنهم كانوا أقل رضا عن ذي قبل، فقد حدث لهم ما يحدث عادة لشعب مظلوم تحسنت حالته وفكت القيود عنه، فيتذمر هذا الشعب بدلا من أن يظهر امتنانه، والواقع أننا نشعر في هذه الحالة بحدة الآلام التي ما زالت فينا، وبالنير الذي ما فتئنا نحمله، ونحترق شوقا إلى امتلاك الأشياء التي تذوقنا جزءا منها، وكنا فيما مضى نرضخ بحكم العادة لما لا بد منه ولمصيرنا المحتوم، ولكن إذا كانت التجارب تدل على استطاعتنا التحرير من هذه القيود، طلبنا بفارغ الصبر الحرية التامة والمستعجلة، وبينما كنا لا نجرأ بالمطالبة بشيء في الماضي تزداد جرأتنا كلما تتحقق مطالبنا وتزداد رغبتنا فيما نجرؤ على المطالبة به
45
إلا أن الأقباط لم يظهروا استياءهم قبل عام 1908م عندما رفع أعيانهم إلى كل من مصطفى فهمي باشا واللورد كرومر عريضة طلبوا فيها المساواة الكاملة فيما يختص بالتعيين في الوظائف الإدارية، وإغلاق المحاكم يوم الأحد وتعيين عضو آخر في الجمعية الاستشارية، وأخيرا تعليم الدين للطلبة المسيحيين في المدارس الأميرية.
وقد قبلت السلطات المطلبين الثاني والثالث بينما طرحت المطلبان الآخران على بساط البحث، وقد تبادلت جريدتا «المؤيد» لصاحبها الشيخ علي يوسف «واللواء» التهاني بتلك الخطوة نحو المساواة الاجتماعية، غير أن جريدة الحزب الوطني نشرت للشيخ عبد العزيز جاويش مقالة عنوانها: «الإسلام غريب في بلاده»، كانت فاتحة نزال عنيف بين الصحافة الإسلامية والصحافة القبطية.
وفي هذا الأثناء ترك مصطفى فهمي باشا الوزارة، فحل محله بطرس باشا غالي في 13 نوفمبر 1908، ولسنا بحاجة إلى القول إن الرئيس الجديد استقبل استقبالا فاترا، ولاحظ محمد بك فريد بشيء من التهكم، في مقال له، إن بطرس باشا غالي هو الوزير الوحيد الذي لا يحمل شهادة عالية، واختتم مقالة بقوله: إنه سيحكم على الوزير الجديد على ضوء أعماله.
ارتاح الأقباط لتعين بطرس باشا غالي رئيسا للوزراء وكفوا عن التذمر، وعقدوا آمالا كبيرة على تعيينه، وقد ذهب أحد الأقباط إلى الرئيس الجديد وقال له: «إن شاء الله يا باشا تنظر لمطالبنا القديمة، وتساعدنا على نيل المساواة في عهدك.»، ولكن بطرس باشا غالي، الرجل السياسي المحنك الحريص على مصالح الطائفة القبطية أكثر من سواه، قاطعه قائلا: «إني لا أنوي التدخل في هذه المسألة فابعدوا عنكم كل هذه الآمال الآن.».
ولكن بطرس باشا وقع مع الإنجليز اتفاقية السودان، فما كان من أحد الشبان المنتمين إلى الحزب الوطني إلا أن اعتدى عليه وقتله، ويمكننا أن نتصور انفعال الأقباط وغضبهم لهذه الفعلة، وأصبح أقل الناس تطرفا مستعدين للموافقة على أشد المقترحات تطرفا.
وكان قد ظهر منذ بضع سنوات على مسرح السياسة خطيب شاب درس في جامعات مصر وفرنسا وتنبأ بالخطر الذي ينجم عن تعادي عنصري الأمة، ولما كان وطنيا مخلصا، فقد أدرك أن الوقت غير مناسب للمجادلات الدينية، وكانت الأمة المصرية قد أدركت في عهد الاحتلال البريطاني بأنه لم يعد من الحكمة أن تقوم مشادات لا فائدة منها تحول أنظار الرأي العام إلى أهداف أخرى، وبأن العداء بين المسلمين والأقباط يساعد الأمة المحتلة على ترسيخ أقدامها.
هذا الشاب هو مصطفى كامل مؤسس الحزب الوطني، وهو أول من جمع تحت لواء الوطنية المسلمين والأقباط، وضم إلى حركته عددا كبيرا من أعيان الأقباط نذكر منهم ويصا واصف ومرقس حنا، وقد لعبا فيما بعد دورا سياسيا خطيرا.
ومن خطب مصطفى كامل العديدة نختطف هاتين الجملتين: «إن المسلمين والأقباط شعب واحد مرتبط بالوطنية والعادات والأخلاق وأسباب المعيش، ولا يمكن التفريق بينهما مدى الأبد.»، «الأقباط إخوة لنا في الوطن.».
ولما توفي مصطفى كامل عام 1908، وهو في عنفوان الشباب، بكاه المصريون جميعا، ومن ضمن ما قيل في رثائه، نذكر كلمة مرقس حنا باشا: «كون الفقيد الوحدة الوطنية وأرانا طريق الإخاء والحرية، إن الشبيبة المصرية لا تعرف غير أنها الشبيبة المصرية ولا واجب عليها سوى خدمة مصر والمصريين بلا تخصيص ولا تقسيم، هذا بناء مصطفى كامل وهذا عمل مصطفى كامل، وقد بدا لنا جني ثمره من الآن؛ لأن الاتحاد هو السلم الأول للوصول إلى الحرية والاستقلال.».
ولكن كانت هناك نقطة في برنامج الحزب الوطني قللت من حماس الأقباط، لقد دأب مصطفى كامل على تأييد أحقية المسلمين دون سواهم بحجة أنهم يدينون بدين الدولة الرسمي، ولم يخف اهتمامه بتجديد سياسة الجامعة الإسلامية، لذلك لم يوافق الأقباط على نقط برنامجه كلها.
وعلى كل، لم تلبث أن ساءت العلاقات بين الأقباط وخلف مصطفى كامل محمد بك فريد. كان محمد فريد وطنيا مخلصا، ولكن يعوزه اللين، ففقد تأييد جميع الأقباط لحزبه، وكان استقباله لوزارة بطرس غالي استقبالا فاترا، بل لم يفه بكلمة واحدة تعبر عن تأثيره الحقيقي وعن تأسفه لحادث اغتياله، ولما فقد كل أمل في معاونة الأقباط له، هاجمهم هجوما عنيفا، وتراجع بعد ذلك وأكد أن القاتل كان مدفوعا إلى اقتراف فعلته بعاطفته السياسية لا الدينية، لكن الأقباط شهروا سياسة الحزب وطلبوا إلى أبناء طائفتهم ألا يسهموا في أعمالهم.
ألم يفهم من هذه الظروف أن مؤتمر أسيوط قام بتأثير شعور الانتقام؟ لذلك أنكره عدد كبير من أعيان الأقباط وعلى رأسهم بطريرك الأقباط وواصف غالي باشا نجل بطرس باشا، فكتب في عدد 23 يناير من جريدة «الريفورم» الفرنسية يقول: إن التفاهم تام بين عنصري الأمة، وأصدر بعد ذلك نداء يدعو فيه إلى الوحدة لمجابهة المستقبل.
أما الطلبات التي اتفق عليها خلال مؤتمر أسيوط، فلا تختلف عن الطلبات التي قدمت إلى مصطفى فهمي باشا واللورد كرومر، ويمكن تلخيصها فيما يلي: (1)
راحة يوم الأحد. (2)
المساواة في الوظائف. (3)
تشخيص العناصر المصرية في الهيئات النيابية. (4)
التعليم في مجالس المديريات (أو ضريبة الخمس في المائة لإعانة مدارس الأقباط في المديريات). (5)
الإنفاق من الخزينة المصرية على جميع المرافق المصرية على السواء.
وقد احتج المؤتمر الإسلامي الذي عقد في مصر الجديدة، بتشجيع من السير الدون جورست وبرئاسة رياض باشا، على محاولة الأقباط «تقسيم الأمة المصرية باعتبارها نظاما سياسيا إلى عنصرين دينيين، أكثرية إسلامية وأقلية قبطية.».
46
وقد لعب أعضاء هذا المؤتمر على وتر وحدة الأمة السياسية واستطاعوا بذلك أن ينتصروا على منافسيهم، ويقول تقرير هيئة تنظيم المؤتمر: «إن مثل هذا التقسيم يستتبع تقسيم الوحدة السياسية إلى أجزاء دينية؛ أي: تقسيم الشيء إلى أقسام تخالفه في الجهر ... إن لكل أمة دينا رسميا وذلك ضروري بل مشخص من مشخصاتها، ودين كل أمة هو دين حكومتها أو دين الأكثرية فيها، ولكن من غير المفهوم بالمرة أن يكون في الأمة أكثر من دين رسمي واحد، وعليه فلا معنى للاعتراف بأقليات دينية تعمل في السياسة بهذه الصفة أو تكسب حقوقا عامة أكثر من أن تخلي بينها وبين القيام بواجباتها الدينية عملا بحرية الاعتقاد ... وبعد ذلك كيف يمكن الاعتراف بأن أقلية دينية تباشر بهذه الصفة الأعمال العمومية، ويكون لها مطالب خاصة كأنما هي أقلية سياسية؟ لا يمكن الاعتراف بذلك إلا إذا أمكن أن يكون للأمة دينان في آن واحد، وأن يكون أساس الأعمال في المصالح العامة هو الدين ... فمن الخطأ أن يكون من الأشياء المسلم بها اعتبار أن الأمة السياسية تتألف من عناصر دينية.».
ولسنا في حاجة إلى ذكر ردود مؤتمر مصر الجديدة على مطالب مؤتمر أسيوط، بعد أن عرضنا المبادئ التي سار على نهجها المؤتمر الإسلامي، وقد خفت حدة المجالات بعد عقد مؤتمر مصر الجديدة، وعلى الرغم من عدم رضا الطرفين عن بعضهما، فقد حاولا جاهدين نسيان الماضي.
ثم ما لبث أن اعترف مؤتمر الصلح المنعقد بباريس بحقوق بريطانيا على مصر، فهب الوطنيون المصريون جميعا ليحتجوا على هذا الاعتراف ، وهنا أدرك سعد زغلول، زعيم الحركة الوطنية، خطر إبعاد الأقباط عن عمل يتوقف نجاحه على اتحاد الأمة جمعاء، وكان يصرح دائما أن مصر للأقباط وللمسلمين على السواء، وأن الجميع يتمتعون بنفس الحرية وبنفس الحقوق، ومن جهة أخرى بينما كان مصطفى كامل مصريا وداعيا للوحدة الإسلامية اقتصر سعد على أن يكون وطنيا فقط.
فلا عجب إذا رأينا الأقباط ينضمون إلى حركته بحماس، ونستطيع أن نؤكد أنهم نافسوا بغيرتهم مواطنيهم المسلمين ووضعوا نصب أعينهم تحقيق الأماني الوطنية، وكتب المؤرخ محمد صبري في هذه الحركة قائلا: «كان الأقباط - حسب اعتراف جريدة «المورننج بوست» الصادرة بتاريخ 9 أبريل سنة 1919 - أكثر تحمسا للملكية من الملك نفسه «وهي ترجمة لتعبير فرنسي
Roi Plus Royaliste que »، لقد كانوا بين أشد الناس تحمسا للدفاع عن الفكرة الوطنية وكانوا أول ضحايا الاستقلال، وكان القساوسة يحضون على حب الوطن من فوق المنابر وفي المساجد وفي الأزهر، وكان المشايخ والعلماء من جانبهم يخطبون في الكنائس، وكان أشد المشاهد تأثيرا ظهور الأعلام، وقد رسم عليها الهلال كأنه يعانق الصليب، إن هذا الحدث ما هو إلا ثورة سياسية ودينية.».
47 (2) الاعتراف القانوني بالمساواة السياسية والاجتماعية
هيأ محمد علي جوا اجتماعيا جديدا؛ هذه حقيقة لا مفر منها، وقد اقتفى خلفاؤه أثره وأتموا العمل الذي بدأه، ولم يلبث هذه التسامح، الذي ظهرت آثاره في حياة الأفراد العامة أولا، أن أثر في قوانين البلاد، وهكذا انتصر في أقل من قرن مبدأ المساواة المطلقة بين المسلمين وغير المسلمين.
وكان أول مظهر قانوني لهذا المبدأ، إلغاء الجزية المفروضة على الذميين.
لم يكن محمد علي ينوي قط إلغاء الجزية؛ لأن كانت مصدر إيراد للخزينة، وذلك على الرغم من فرمان الكلخانة «1839م» الذي كان يتضمن إلغاء هذه الضريبة، وقد ظل حبرا على ورق في جميع أنحاء الإمبراطورية العثمانية، على أن الجزية التي كان يدفعها الأقباط في عصر محمد علي تكاد لا تذكر بالنسبة للمرتبات التي يتقاضونها من الوظائف التي كانوا يشغلونها في الدولة، وإذا أخذنا مثلا ميزانية عام 1832م «1249ه»، وجدنا أن الجزية التي كان يدفعها الأقباط بلغت ستمائة كيسة أي ثلاثة آلاف من الجنيهات، بينما كانوا يتقاضون مرتبات بلغت عشرين ألف كيسة؛ أي: ستين ألفا من الجنيهات.
48
ومن جهة أخرى، فإن محمد علي باحتفاظه بالجزية لم يكن يهدف إلا لزيادة موارده لا التقليل من شأن رعاياه الذميين، وعلى كل، فقد كان محمد علي أول حاكم مسلم فتح باب الاستثناء صراحة، ليس للأعيان فحسب، بل ولعامة الشعب الذين كانوا يؤدون له خدمات ذات شأن، وهكذا عندما ألحق نحوا من مائة قبطي بالعمل في ترسانة الإسكندرية، ونظرا لكفاءتهم، فقد أشار بإعفائهم من دفع الجزية، والأمر الصادر في 22 ربيع الآخر عام 1252 «مايو 1836م» يقول: «ويقتضي اتباع الأصول المدونة بها وربط ماهية ومرتب الصنف الذي يستحقه الأقباط الذين يؤخذون للجهادية لكونهم يؤدون مصالح الميري، ومن اللزوم رعايتهم ورفاهيتهم كمطلوبه.»
49
وقد ألغيت الجزية نهائيا في عصر سعيد باشا عام 1272ه «1855م» ويفهم من أمر صدر قبل ذلك التاريخ أن سعيد باشا لم يتشدد أبدا في جباية هذه الضريبة بطريقة عملية حيث إنه في عام 1271ه «1854م» تنازل عن مبالغ متأخرة قدرها خمسة عشر ألفا من الجنيهات،
50
والأمر الصادر بتاريخ 21 صفر 1272ه «1855م» يشمل رغبة الوالي في التلطف مع الذميين المشمولين برعايته ويلغي الجزية فعلا،
51
ولم تثر هذه المسألة مرة أخرى في عهد الخديو إسماعيل.
وكان من الطبيعي، وقد رفعت عن الذميين القيود الخاصة بالضرائب والزي، أن يعاملوا شيئا فشيئا على قدم المساواة بالمسلمين، وبالفعل، عندما أدخل الولاة النظام الدستوري بمصر لم يسعهم إلا أن يعتبروا الذميين جزءا لا يتجزأ من الدولة والاعتراف لهم على هذا الأساس بنفس الحقوق والامتيازات التي يتمتع بها المسلمون.
وتنص المادة الخامسة من البرنامج الذي وضعه «بلنت» ونشرته جريدة التيمس الصادرة في أول يناير 1822 على أن «الحزب الوطني حزب سياسي لا ديني، فإنه مؤلف من رجال مختلفي العقيدة والمذهب وأغلبيته مسلمون؛ لأن تسعة أعشار المصريين من المسلمين وجميع النصارى واليهود وكل من يحرث أرض مصر ويتكلم بلغتها منهم إليه؛ لأنه لا ينظر لاختلاف المعتقدات، ويعلم أن الجميع إخوان وأن حقوقهم في السياسة والشرائع متساوية.».
والدساتير المختلفة التي وضعت فيما بعد كانت أكثر صراحة ووضوحا في هذا الشأن، وإننا نذكرهم على سبيل المعرفة:
مشروع إصلاح قدمه إلى حضرة صاحب السمو توفيق باشا خديو مصر اتحاد الشباب المصري سنة 1879، وكان يقترح هذا المشروع «المساواة التامة بين جميع المصريين أمام القانون واستعدادهم لشغل جميع مناصب الدولة دون تفرقة بسبب أصلهم أو ديانتهم.».
52
مشروع دستور مصري «والمعتقد أن واضعه اللورد كرومر» بتاريخ 1908 يقترح أن «جميع رعايا الخديو هم مصريون بغض النظر عن دينهم أو عقيدتهم.».
53
على أن القانون النظامي والانتخابي الصادر في 21 يوليو سنة 1913 كان يعبر عن الاضطراب الذي كان سائدا منذ انعقاد مؤتمري أسيوط، ومصر الجديدة، فقد حتم القانون تعيين أربعة نواب من الأقباط ضمن الأعضاء المعينين والبالغ عددهم خمسة عشر، وكتب اللورد كنشنر إلى حكومته بتاريخ 6 يوليو 1913 معلقا على هذا البند بقوله: «إن وجود تمثيل الأقليات هو دليل قاطع على رغبة الحكومة في منح طبقات الشعب هذا اللون من التمثيل الذي من حقها تماما.».
وقد أثار بعض أعضاء اللجنة التي شكلت لوضع المبادئ العامة لدستور عام 1922 مشكلة التمثيل النسبي لجميع الطوائف الدينية، ويؤكد أنصار هذا النظام أنه إذا ضمنوا للأقليات الدينية تمثيلا ثابتا في الجمعية الوطنية، فإنهم يمنعون بذلك الإنجليز من التدخل في شئون مصر الداخلية بدعوى حمايتهم للأقليات، وأن في ذلك الاحتفاظ بالوضع الذي ينص عليه القانون النظامي المعمول به «1913»، وبالرغم من تأييد بعض الأعضاء المسلمين والأقباط لهذا المبدأ، فإن أغلبية الأعضاء عارضوه بشدة، فاستبعد، ويقول لنا قليني فهمي باشا في مذكراته: إن الملك فؤاد - على الرغم من التسامح الديني الذي أظهره طوال حياته - كان يعارض كل المعارضة إبقاء التمثيل النسبي على أساس التفرقة الدينية؛ ذلك أن هذا المبدأ قد يبقي على الانقسامات القديمة التي يترتب عليها إضعاف الوحدة القومية.
غير أن دستور عام 1922 ينص على المساواة التامة بين جميع المصريين أيا كان دينهم أو عقيدتهم، كما ينص على حريتهم في ممارستهم لشعائر دينهم وقبولهم بالوظائف الحكومية إلخ ... وجرت التقاليد فوق ذلك على أن يكون دائما ضمن أعضاء مجلس الوزراء وزير قبطي.
وهكذا؛ بعد جهود دامت قرنا من الزمن، جاء دستور الأمة ليتوج أعمال أسرة محمد علي الكبير.
هوامش
الفصل الثاني عشر
مسائل متنوعة
(1) الدور الذي لعبه بطريرك اليعاقبة تحت الحكم الإسلامي
أصبح بطريرك الأقباط، على أثر الحفاوة التي أظهرها له رعاياه عند دخول العرب مصر، مصدر قلق لعمرو بن العاص وسائر الولاة؛ إذ أدركوا مدى نفوذ هذا الخبر وعملوا في الحال على وضعه تحت رقابة شديدة ومطالبته بالخضوع للسلطة الشرعية، وبمعنى آخر أنهم منعوه من اتخاذ أي إجراء، حتى في محيطه الديني، دون استئذانهم.
وأرادوا أولا إقرار انتخاب البطريرك، فألزموه أن يقيد اسمه في سجلات الديوان قبل أن يباشر أعماله، وقد استطاع أحد الشمامسة الكاثوليكيين يدعى جرجس أن يفوز في عهد عبد العزيز بن مروان بالكرسي البطريركي، وذلك بتأييد بعض أساقفة الإسكندرية، ولكن اليعاقبة اعترضوا على صحة انتخابه بدعوى أنه لم ينتخب في يوم الأحد، فأولى عبد العزيز بن مروان هذه المشكلة اهتمامه وأرسل في الحال بعض جنوده للمحافظة على النظام، ثم دعا الطرفين المتخاصمين للمثول بين يديه،
1
وكان عبد العزيز قلقا - بوجه خاص - عندما وصل إلى الإسكندرية لتولي مهام منصبه، لم يرحب البطريرك الراحل بقدومه بحجة أن موعد وصول الوالي لم يعلن بعد، ويتهم ساويرس الملكيين بإثارة غضب عبد العزيز، وعلى أي حال استدعى هذا الأخير البطريرك وسلمه إلى جنده، وأمرهم بألا يطلقوا سراحه إلا بعد أن يدفع غرامة قدرها ألف دينار،
2
واعتزم الوالي بعد ذلك أن يضع البطريرك رهن إشارته دائما وأن يلازمه في جميع رحلاته، ويقال: إنه سمح بتشييد كنيسة في حلوان لسبب وضع البطريرك تحت رقابته.
3
ويبدو أن هذا التقليد تطور في عام 184ه «799م» وأصبح قانونا، ويروى لنا ساويرس بن المقفع أنه بعد أن اجتمع الأساقفة على هيئة مجلس الإسكندرية، واتفقوا على تعيين مرشح لهم، عادوا إلى القاهرة ليقابلوا الوالي فلما رآهم سألهم: «ما حاجتكم؟» فقال له أنبا ميخائيل: «نعلم رئاستك لأجل أن أبا المذهب الذي كان لنا قد توفي ... لأجل ذلك أردنا أن تقيم آخر عوضه يدير البيعة والشعب» ولما سألهم الوالي عن اسم المرشح، قالوا: «مرقس» فأمر الوالي بتسجيل اسمه في الديوان، ثم أذن لهم بأن ينتخبوه بدلا من البطريرك يوحنا.
وكان اسم الوالي، هذا الليث بن الفضل وتصفه سيرة البطاركة بأنه كان رفيقا بالأقباط، كما تروى لنا بعد ذلك أول زيارة قام بها البطريرك للسلطة المدنية، قال: «لما تم عيد الفصح، دخل الأب البطرك أنبا مرقس إلى فسطاط مصر ليسلم على الوالي، فلما وصل مصر، أعلموا الأب ميخائيل الأسقف والشعب بوصوله، فخرجوا إليه بالأناجيل والصلبان والمجامر ولقوه بفرح عظيم وتهليل وقراءة، وكانوا يقولون نعم وحسن وصولك إلينا يا مرقس بن مرقس، فمضى لمنزله ليستريح؛ لأنه كان آخر النهار، وبالغداة قام البطرك الأسقف أنبا ميخائيل وباقي الأساقفة المجتمعين معهما ليجتمعوا بالوالي، فلما وصلوا إلى داره استأذنوا عليه فأمر بدخوله، فلما دخل وسلم على الوالي، التقاه ودعا له ... فأمره الوالي أن يجلس وساواه في المخاطبة.».
4
وقد ظن البطريرك أنه يستطيع بعد الفتح العربي أن يوصل علاقاته الدينية مع اليعاقبة القائمين خارج الحدود المصرية، وفي عهد عبد العزيز بن مروان، حدث أن كتب البطريرك إلى النجاشي وإلى ملك النوبة وكلاهما كانا وقتئذ مسيحيا وتابعا لبطريركية الإسكندرية لحملهما على الصلح وتسوية النزاع القائم بينهما، فأخبر الدساسون الوالي بذلك، فغضب وقرر إعدام البطريرك، ولكن الكتاب الأقباط - وكانوا آنئذ المتصرفين في الإدارة - أرادوا إبعاد هذه الكارثة، فحرروا في الحال خطابات تختلف تماما عن الخطابات التي سلمت إلى المندوبين المسافرين إلى الحبشة وسحبوا التي كتبها البطريرك، ثم أخبروا الوالي بأن المبعوثين موجودون ومعهم الخطابات التي كانوا يحملونها، فأمر عبد العزيز بإحضارهم فورا وأخذ منهم الخطابات، ولما قرأها لم يجد فيها أية إشارة إلى ما نقل إليه؛ أي: أنه لم يجد دعوة صلح موجهة إلى الأميرين المسيحيين، فهدأت ثورة غضبه وسمح للبطريرك بالعودة إلى الإسكندرية.
5
وفي سنة 71ه «691م» استقبل البطريرك سمعان رسولا من بلاد الهند
6
يطلب إليه تعيين أسقف وكاهن، ولما كان البطريرك عالما بنية الوالي، امتنع عن إجابة هذا الطلب قبل الحصول على تصريح من السلطة، ولكن الرسول لم يصبر وتوجه بطلبه إلى أسقف آخر حقق رغبته، وكان لهذا التصرف أسوأ النتائج حسب ما جاء عن لسان الرواة، ثم إن الكرسي البطريركي ظل شاغرا لمدة ثلاثة أعوام بعد وفاة البطريرك سمعان.
وهكذا أخذت شخصية البطريرك تتلاشى كلما توطدت أركان الإمبراطورية العربية، ولم يعد هذا الرئيس الديني سوى آلة يديرها الحكام حسب رغباتهم بالرغم من الألقاب التي كان يمنحها لهم الولاة الفاطميون أو السلاطين المماليك، أضف إلى ذلك أنه رغم الاحترام الذي كان يظهره رعاياه، لم يحتل البطريرك في الواقع إلا المكانة الثانية في الأمة القبطية، أما المكانة الأولى، فكان يحتلها القائم على مالية الدولة أو على الأخص القبطي الذي كان يتمتع بثقة رجال الحكم.
وهذا الخلاف حول الأسبقية الأدبية سبب في أواخر القرن التاسع عشر حادثا خطيرا بين البطريرك كيرلس الخامس ولفيف من الأعيان بقيادة بطرس باشا غالي، رئيس الطائفة، وكان البطريرك يناهض حركة الإصلاح التي كانت تنادي بها جمعية التوفيق لإدخال النظم الحديثة في معاهد الطائفة، فاستطاع بطرس باشا الحصول على إذن من الخديو لنفي البطريرك، ورغم الاحترام البالغ الذي يكنه الأقباط لرئيسهم الديني، لم يتأثروا كثيرا من رؤية هذا الشيخ الجليل في طريقه إلى المنفى تحت حراسة قوة من البوليس.
ولكن لا يسعنا أن ننكر الدور المهم الذي قام به بطريرك اليعاقبة منذ الفتح العربي، وسنتكلم فيما بعد عن مساعيه المختلفة لصالح مصر الإسلامية، ويجدر بنا أن نذكر هنا أن البكوات المماليك استعانوا به في جباية الضرائب المستحقة عن الأقباط، ويبدو أنه قام بهذه المهمة خير قيام وحاز رضا جميع الحكام.
7 (2) حالة الأقباط الروحية تحت الحكم الإسلامي
سبق أن قلنا إن الأقباط، قبيل الفتح العربي، كانوا يستغلون دينهم لتحقيق أغراضهم بدلا من العمل على خدمته، ولكن مجيء العرب وتقدم الإسلام في مصر وعزلة الأقباط المعنوية وجهل الإكليروس وعدم مله إلى الثقافة؛ كل هذه الأسباب أضعفت مركز المسيحية في مصر مع مرور الزمن.
ووصف لنا البطريرك ديونيسيوس، الذي رافق الخليفة المأمون في رحلته إلى مصر إبان ثورة الباشموريين، ما وصلت إليه المسيحية المصرية من سوء حال، فقال: «لقد رأينا هناك عادات لا تتفق مع الفضيلة وتتنافى مع فضائل كيرلس وديوسقور وتيموثاوس الذين وضعوا قوانين الكنيسة المصرية، وأول ما لاحظناه أن الأقباط ولا سيما رهبانهم، كفوا عن دراسة الكتب المقدسة فلم يستغلوا منافعها، وأكثر الرهبان تقوى يحترفون الأعمال اليدوية ويسترسلون بعض فقرات من الكتب الدينية، وأن الذين يقصدون ترقيتهم إلى رتبة الأسقفية لا يبالون بتثقيف عقولهم، ولكنهم يهتمون بجمع المال ليشتروا رتبتهم، ولولا دفع مبلغ معين من المال، لما استطاع أحد أن ينازل هذه الرتبة حتى إذا كان يمتاز بعلمه وسلوكه القويم، ولما أخذنا نلومهم على موقفهم، اعتذر البابا «بطريرك الإسكندرية» وقال: «إننا نسلك هذا الطريق بسبب الديون المستحقة على كنيسة الإسكندرية، ولولا المال الذي يجيء بهذه الطريقة لعجزنا عن تسديد الديون.».
8
هذا ما وصلت إليه الكنيسة القبطية بعد مضي قرنين فقط من دخول العرب مصر، نعم إن بعض الرهبان حاولوا إصلاح النظام والقلوب، وقد اشتهر بعضهم بوضع المؤلفات العلمية والدينية، ولكنهم ظلوا أقلية ضئيلة لا يستطيع مواطنوهم أن يفتخروا بهم لقلة عددهم، أضف إلى ذلك أن مؤلفاتهم ليس فيها أصالة ولا جدة.
وتتابع البطاركة على كرسي الإسكندرية الواحد تلو الآخر دون أن يأتوا لها بمفاخر جديدة، وكان عصرهم موقوفا من حيث الهدوء والاضطراب على رضا أو عدم رضا الحكام عليهم وعلى هدوء الحالة العامة أو اضطرابها، ولم يبذل أحدهم مجهودا حقيقيا ليبث روحا جديدة في هذه الكنيسة التي كانت تضمحل تدريجيا، أما كتاب سير البطاركة، فكانوا يسردون لنا المشاكل المالية التي كانت تشغل أذهان الطائفة.
زد على ذلك أنه منذ اضطهاد الأقباط في عهد السلاطين المماليك، كانت أحيانا تمضي فترات طويلة من الزمن قبل انتخاب البطريرك الجديد،
9
وقد استفحل الأمر بعد احتلال الأتراك مصر، ولكن الرعية لم يهتموا كثيرا بهذه الحالة الشاذة، وقد حدث أيضا في عصر الفاطميين، عند انتخاب البطريرك افرام أن يقع الاختيار على مرشح علماني، إذا لم يتقدم أي مرشح له صبغة دينية.
وكان الإيمان بالمسيحية صوريا، ولما كان التعليم الديني منعدما، أصبح الإكليروس لا يفهم أصول الدين، وكان البطريرك يشبط من عزائم رعاياه بدلا من تدعيمها؛ ذلك لأن العيش في سلام كان هدفه الأول بل الوحيد. وجاء في «سيناكسار» اليعاقبة أنه حدث أن أساء أسقفان معاملة رعيتهما، فلامهما الأنبا يوساب أكثر من مرة وطلب إليهما أن يحسنا معاملتهما، ولكنهما رفضا النصيحة، فتركهما وشأنهما، واستنجدت الرعية به وقالوا له: «إذا فرضت هذين الأسقفين علينا، فإننا سنخرج من ديننا.»، فما كان من البطريرك إلا أن دعا أساقفة القطر كله ونفض يديه أمامهم من تبعة معاقبة هذين الأسقفين،
10
وفي عهد السلطان الملك الكامل، حدث أن تاجرا يدعى حنا اعتنق الإسلام ليتزوج من مسلمة، ثم ندم على عمله وأراد أن يستشهد، فقيل له: «اذهب عند البطريرك واطلب مشورته واعمل بها.»، ولكنه أجاب: «أخشى أن يخيفني البطريرك من الموت.».
11
وكانت حالة الأساقفة والقساوسة أكثر سوءا، ولما كانت حاجتهم إلى المال تفوق حاجة البطريرك إليه، صاروا يعبدون المادة، ففي عام 835م، ظل الكرسي البطريركي شاغرا منذ مدة طويلة بعد وفاة البطريرك سمعان، وهنا ظهر موظف متزوج، ومنح الأساقفة العطايا، فاتفقوا مع بعض أعيان الإسكندرية لانتخابه بطريركا،
12
وهناك دليل آخر على حب المال، ذلك أن أسقفا كان يعيش في الوجه القبلي في القرن الثامن عشر، فطلب إلى الأب الرحالة «سيكار»
Sicard
الفرنسي أن يعلمه سر صناعة الذهب.
13
أما الشعب، فكان لم يزل يعطف سرا على تراث الفراعنة الروحي، وكان قد ورث عنهم اللغة وبعض العادات، وكان يرغب أيضا في تكريم ما تبقى من آثار قديمة، وكتب الرحالة «نوردن»
Norden
في هذا الصدد يقول: «لقد عرف المصريون القدماء والمحدثون، الوثنيون والمسيحيون والمسلمون، المتعلقون بالخرافات، كيف يجمعون بين طقوس الأديان المختلفة، فلا غرابة إذا وجدنا بينهم من يجل الأهرامات وأبا الهول إجلالا ظاهريا، بل يكن لها شعورا داخليا فياضا، وكان البعض يذهب إلى حد إقامة حفلات دينية تكريما لها، فيثيرون غضب المسلمين الذين أعلنوا صراحة من عدوانهم لعبادة الأصنام.»
14
وتفسير «نوردن» هذا يوضح لنا ما جاء في تاريخ المقريزي عن سبب تحطيم وجه أبي الهول، قال: «كان شخص يعرف بالشيخ صائم الدهر قام في نحو من سنة ثمانين وسبعمائة لتغيير أشياء من المنكرات، وسار إلى الأهرام وشوه وجه أبي الهول شعثه.».
15
ولكن يجب ألا نلوم الأقباط وحدهم على ذلك، فإن الانحطاط شمل جميع مسيحيي الشرق، ويجدر بالذكر أن أبناء الطائفة الملكية بحلب في القرن السابع عشر أساءوا تفسير تعاليم الديانة المسيحية إلى حد أنهم صرحوا رسميا بتعدد الزوجات على شرط ألا يتم الزواج بامرأة ثانية إلا إذا قامت علاقات زوجية بينهما لمدة سنتين، ولا يتم الزواج بامرأة ثالثة إلا إذا قامت العلاقات بينهما لمدة خمس سنوات،
16
ويرى الأستاذ حبيب زيات الذي نشر هذه الوثيقة أن ذلك الأمر ما هو إلا نتيجة للتأثير الإسلامي، فهل تأثر الأقباط بالأغلبية؟ وإلى أي حد تأثروا؟ (3) أثر الإسلام في دين الأقباط وعاداتهم
في عام 1908 كتب اللورد كرومر، الذي تحكم في مصير مصر مدة من الزمن، يقول: «يوجد فرق ظاهري شاسع بين المسلمين والأقباط، لكن هذا الفرق لا يكاد يذكر في الواقع ، إن الضرورة تحتم على الأقلية أن تتأثر بالأغلبية، ففي الهند أصبح المسلمون براهمة إلى حد ما، في حين أن الهندوكيين الذين هم أغلبية في البلاد بنسبة 5 إلى 1 لم يأخذوا شيئا عن المسلمين، ويمكننا أن نطبق هذا المبدأ على أقباط مصر؛ إذ لم يتأثر مسلمو هذا القطر بالأقباط مطلقا، بينما أن القبطي تأثر بمواطنه المسلم دون أن يشعر بذلك.».
17
إن ملحوظة اللورد كرومر الخاصة بمصر غير صحيحة تماما، إذ وجد الإسلام في الديار المصرية وطنيين متمسكين كل التمسك بتقاليد أجدادهم ومحتفظين ببعض العادات والمعتقدات والخرافات التي كان يقدمها الفراعنة، وهكذا لم تخل تقاليد المسلمين في مصر من الأثر الفرعوني، بينما أن الإسلام شبع بروحه الأقلية القبطية التي ظلت متمسكة بالمسيحية. (3-1) ما أخذه الأقباط عن المسلمين
لما قطعت المسيحية المصرية علاقاتها بالعالم اليوناني الروماني، قبل دخول العرب مصر بمدة طويلة، فقدت الكثير من رونقها وسطوتها، ويبدو أن عدم ظهور دين جديد في تلك الفترة هو السبب في منع حدوث؛ أي: تغيير جوهري في تعاليم المسيحية، بدليل أنه عند دخول العرب، لم يتردد مسيحيو مصر - الذين ضحوا بأرواحهم في سبيل الدفاع عن مبدأ ديني لم تتسع له مداركهم - أن يخرجوا عن تعاليم المسيحية الصريحة.
ويحدثنا ساويرس بن المقفع أنه في عام 76ه «695م»؛ أي: في عهد البطريرك سمعان، كان بعض الذين يدعون أنهم مسيحيون يهجرون زوجاتهم ويضغطون على رجال الإكليروس ليحملوهم على التصريح لهم بزواج آخر، ولما أخفقوا في الحصول على مطالبهم، قدموا شكوى إلى الوالي فحواها أن رجال الدين برفضهم إجابة رغبتهم يدفعونهم إلى ارتكاب خطيئة الزنا، فغضب الوالي واستدعى الأساقفة الأربعة والستين دون أن يذكر لهم سبب هذه الدعوة،
18
ولم يبين لنا الراوي شيئا مما حدث في هذا الاجتماع، ولكننا نعرف أن الطلاق الذي كان تحرمه الكنيسة المصرية بصفة رسمية، كان يعمل به علانية بل كانت الكنيسة نفسها تعترف به وخاصة عندما اضمحل الأقباط في عهد العثمانيين، ويكتب الرحالة الفرنسي «دومينيك جونا»
D. Jauna
عام 1795: «إن عادة الطلاق ليست خاصة بالمسلمين فقط، إنها شائعة أيضا عند المسيحيين الأقباط الذين لم يهتموا بالأسباب التي نص عليها الإنجيل، ويكفي أن يقول إنسان للبطريرك إنه غير راض عن زوجته وتقول المرأة إنها على غير وفاق مع زوجها ليسمح البطريرك بالطلاق، وإذا رفض السماح لهم بالطلاق، نفذاه على الرغم منه، وكذلك لم يرفض البطريرك أبدا مثل هذه الطلبات، حيث إنه بعدم موافقته عليها يفقد أجرا كان يعطى له فيما لو سمح لهما بذلك الفراق المرذول الذي نقلته بقية الطوائف عن الأقباط.».
19
وذكر التاريخ أمثلة لبعض الأعيان الأقباط في عهد المماليك اعترفت السلطات الدينية بزواجهم من امرأتين، ولم يكلف هؤلاء الأعيان أنفسهم مشقة إلغاء زواجهم الأول، ولا سيما أنهم كانوا يملكون عددا من الجواري والعبيد أسوة بأسيادهم، ولا أدل على ذلك من المعلم غالي الذي كان ينتمي إلى العقيدة الكاثوليكية، ومع ذلك لم يتوان من اقتناء ستين جارية من البيض والسود والحبشيات، وقد عثر عليهن عندما أمر محمد علي بتفتيش منزله.
20
ولا نعلم - على وجه التحقيق - متى اتبع مسيحيو مصر عادة اقتناء العبيد، وإذا رجعنا إلى ما كتبه المؤرخون في هذا الصدد، تبين لنا أنهم اتبعوها باكرا، ففي عهد البطريرك إفرام وخلافة العزيز الفاطمي، كان معظم الأعيان يملكون الجواري، وفي عام 856ه «1460-61م»، أمر صاحب الخراج الأقباط بتسليم جواريهم المسلمات لكثرة عددهم عندهم،
21
ويذكر «ستوكوف»
Stochove
الذي هبط مصر سنة 1662 أن النصارى اكتسبوا حق شراء الجواري بكل حرية،
22
ويذكر رحالة آخرون هذه الواقعة، كما أننا نعرف من القصص التي نقلها لنا الجبرتي عن تصرفات القبطان حسن باشا أن الأقباط أسرفوا في استعمال حق اقتناء الجواري.
ويدلي لنا علماء الحملة الفرنسية بالبيان الآتي: «للنصارى في مصر حق اقتناء العبيد، وهو حق لم يتمتعوا به في سائر أنحاء الإمبراطورية العثمانية، ولكن حقهم محدود بمعنى أنه غير مصرح لهم بأن يقتنوا ذكورا في خدمتهم، وغاية ما يستطيعون هو شراء أطفال على أن يتخلصوا منهم عندما يبلغون، ويسمح لهم باقتناء عدد غير محدود من النساء، لذلك نجد لدى كل أسرة جارية أو اثنتين على الأقل للأعمال المنزلية .».
23
ومن جهة أخرى، كف الأقباط عن التكلم بلغتهم وبذا انهارت أقوى دعامة لشخصيتهم، ولم يكتفوا بتعليم اللغة العربية لقضاء حاجتهم فحسب، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك؛ إذ تركوا نهائيا اللغة القبطية واستعاضوا عنها بلغة حاكميهم حتى في كنائسهم.
ثم نقلوا عن المسلمين قواعد الذوق واللياقة وغيرها. ويلاحظ أن رواية المؤرخ «مكين» المسيحي التي ترجع إلى القرن الثالث عشر الميلادي غاصة بالألفاظ الدينية الخاصة بالمسلمين مثل «بسم الله الرحمن الرحيم» بل إنها متأثرة كل التأثر بالروح الإسلامية، مما حمل المستشرق «فاتييه»
Vattier
الذي ترجم هذه الرواية أن يقول: «من خصائص المكين أنه يتكلم بسذاجة عن كل ما يتناوله في كتابه بدرجة أنه إذا ذكر شيئا يتعلق بالإسلام اعتقدناه مسلما، وإذا تكلم عن اليعاقبة اعتقدناه يعقوبيا، وإذا تحدث عن الكاثوليك تخيلناه كاثوليكيا.».
24
وفي الرسالة التي وجهها البطريرك جبرائيل الثامن إلى البابا أكليماندوس الثامن عام 1601م بشأن اتحاد الكنيستين المصرية والكاثوليكية، لم يتوان في استعمال العبارة التي يعتز بها المسلمون، غير أنه استبدل كلمة «الرحمن» بكلمة «الرءوف»،
25
والملاحظ أن استعمال هذه العبارات الدينية لا ترجع إلى استخدام الأقباط اللغة العربية بل جاءت تدريجيا، بدليل أن ساويرس بن المقفع الذي عاصر الخلفاء الفاطميين لم يستعملها أبدا في كتاباته.
ومن العادات التي أخذها الأقباط عن المسلمين باكرا، ختان الأطفال الذي ألغته المسيحية، ولم يكن معمولا به في مصر قبل دخول العرب، وحدث بعد ذلك أن أحد البطاركة أرغم رعيته على ممارسة الختان، بل كان يهتم به أكثر من اهتمامه بالعماد، وفي عام 1120م نظم البطريرك مكاريوس هذه العادة، وأمر بختان الأطفال قبل العماد،
26
وذهب البطريرك يوحنا «1208م» إلى أبعد من ذلك حيث أصدر تعليماته المشددة بشأن جعل ختان الأطفال إجباريا، وقد ألغى هذا البطريرك أيضا الاعتراف،
27
ويقول المقريزي: إن اليعاقبة كانوا يهتمون بالختان بخلاف الملكيين.
وأدخل استعمال الحجاب في حريم النصارى بمصر «ولم يسمح الأقباط لزوجاتهم بأن يظهرن أمام رجال الدين بدون حجاب، والبطريرك نفسه لا يستطيع رؤية سيدة غير محجبة إلا إذا سمح لها زوجها بذلك.»
28
وكانت النساء القبطيات في الكنائس والاجتماعات تجتمعن فيما بينهن، وكن مفصولين عن الرجال بمقاطع صماء.
وإذا استثنينا الصلبان التي كانت تزين الكنائس والصلوات التي كانت تتلى فيها، لاحظنا أن تلك الكنائس كانت تأوي أناس يهتمون بتقليد شعائر المسلمين أكثر من اهتمامهم بتخليد شعائر المسيحيين، وقد استقينا من رواية بروتستانتية، حررت من قرن فقط، تفاصيل دقيقة في هذا الشأن، فهي تقول: إن رجال الدين اليعاقبة كانوا يوصون رعيتهم بالصلاة في منازلهم سبع مرات يوميا،
29
وكان بعض الأقباط يغسلون أيديهم وأوجههم أو أحيانا أقدامهم قبل الشروع في الصلاة، أسوة بالمسلمين، وأنهم كانوا يرتلون الصلوات وهم متجهون دائما نحو الشرق.
30
وهناك تفاصيل أكثر غرابة من تلك التي ذكرناها، وهي مدونة في كتاب الدكتور كلوت بك وفي رحلة المسيو «بللوك»
Belloc ؛ إذ يقول: إن الأقباط يخلعون أحذيتهم قبل أن يدخلوا كنائسهم كما يفعل المسلمون.
31
ويوجد وجه شبه آخر بين المسلمين والأقباط، وهو تعلق الأقباط بالحج إلى كنيسة القيامة بالقدس كي ينالوا لقب «حاج» ولا يفوتهم أن يحيطوا سفرهم إلى القدس بنفس المظاهر التي كان يحيط بها المسلمون سفرهم، فكانوا يذهبون على هيئة قوافل كبيرة العدد، وينقل إلينا الجبرتي في هذا الصدد حدثا طريفا بمناسبة حج النصارى. نعلم أن الولاة المتسامحين صرحوا وحدهم للنصارى بزيارة القدس، على أن المماليك حرموهم أحيانا من ذلك، وكتب الجبرتي في حوادث سنة 1166ه «1704-5م»: «في نحو هذا التاريخ قصد نصارى الأقباط الحج إلى بيت المقدس، وكان كبيرهم؛ إذ ذاك «نوروز» كاتب رضوان كتخدا، فكلم الشيخ عبد الله الشبراوي في ذلك وقدم له هدية وألف دينار، فكتب له فتوى وجوابا ملخصه أن أهل الذمة لا يمنعون من دياناتهم وزياراتهم، فلما تم لهم ما أرادوا، شرعوا في قضاء أشغالهم وتشهيل أغراضهم وخرجوا في هيئة وأبهة وأحمال وصواهي وتختروانات فيها نساؤهم وأولادهم ومعهم طبول وزمور، ونصبوا لهم عرضيا عند قبة العزب، وأحضروا العربان ليسير في خفارتهم، وأعطوهم أموالا وخلعا وكساوي وإنعامات، وشاع أمر هذه القضية في البلاد واستنكرها الناس، فحضر الشيخ عبد الله الشبراوي إلى بيت الشيخ البكري كعادته، وكان علي أفندي أخو سيدي بكري متمرضا، فدخل إليه يعوده، فقال له: أي شيء هذا الحال يا شيخ الإسلام - على سبيل التبكيت؟ كيف ترضى وتفتي النصارى وتأذن لهم بهذه الأفعال لكونهم أرشوك وهادوك؟ فقال: لم يكن ذلك، قال: بل أرشوك بألف دينار وهدية، وعلى هذا تصير لهم سنة ويخرجون في العام القابل بأزيد من ذلك ويصنعون لهم محملا، ويقال: حج النصارى وحج المسلمين، وتصير سنة عليك وزرها إلى يوم القيامة، فقام الشيخ وخرج من عنده مغتاظا وأذن للعامة في الخروج عليهم ونهب ما معهم، وحرك كذلك معهم طائفة من مجاوري الأزهر، فاجتمعوا عليهم ورجموهم وضربوهم بالعصي والمساوق ونهبوا ما معهم وجرسوهم، ونهبوا أيضا الكنيسة القريبة من دمرداش، وانعكس النصارى في هذه الحادثة عكسة بليغة وراحت عليهم وذهب ما صرفوه وأنفقوه في الهباء.».
32
وكانت الطقوس الدينية بمناسبة الزواج تشبه تقاليد المسلمين، وكانت الفتاة تحتجب عندما تصل إلى سن البلوغ، وكان الشاب الذي يريد الزواج يكلف إحدى قريباته للبحث عن عروس، وإذا تم الاتفاق، حرر الكاهن عقدا وقام بمراسيم الزواج، وإذا تعهد العريس بدفع مهر، كان عليه أن يقدم نصفه مقدما كما يفعل المسلمون.
33
ويروى لنا الرحالة «سانت جون»
St. John
أنه في عهد محمد علي كان القساوسة الأقباط يشجعون زواج المتعة المعروف لدى القبائل الإسلامية وبخاصة لدى الشيعيين.
34
وقد ذهب الأقباط إلى حد الامتناع عن أكل لحم الخنزير.
35 (3-2) ما أخذه المسلمون عن الأقباط
لقد أشرنا من قبل إلى بعض العادات التي كان يتبعها الأقباط والتي اتخذها مسلمو مصر دون سواهم، وأهم هذه العادات - وهي قائمة إلى يومنا هذا - جلب النادبات في المآتم، ولم تخرج هذه العادة، التي ورثها الأقباط عن الفراعنة، عن حدود مصر، وقد لاحظ الفرنسيون عند احتلالهم مصر أن الأقباط كانوا يبالغون في إظهار شعور الحزن أكثر من المسلمين.
36
ولكن إذا تحدثنا عما أخذه المسلمون عن الأقباط، قصدنا بذلك خصوصا الخرافات التي يرجع أصلها إلى العصور القديمة، ولن نطيل الكلام عن هذه العادات، ونكتفي بالإشارة إلى واقعة حديثة نسبيا ذكرها «تيفينو»
Thevenot ، وهي تدل على أن التمسك بالخرافات كان شائعا وعاديا إلى حد أن المسلمين لم يترددوا في طلب نعم الأرواح الغائبة أو في اعتناق معتقدات وهمية لم تكن موجودة في الواقع إلا في خيال النصارى، قال تيفينو: «يوجد بالقرب من مصر العتيقة، على شاطئ النهر، مقبرة واسعة دفن فيها عدد كبير من الجثث، ويعتقد سكان القاهرة، من أقباط ويونانيين وأتراك، ومغاربة، اعتقادا راسخا أن الموتى في أيام الأربعاء والخميس والجمعة المقدسة، حسب التقويم القديم، كانوا يبعثون، ولكنهم لم يتنزهوا في المقبرة كما يتبادر إلى الأذهان، بل كانت عظامهم تخرج من الأرض في هذه الأيام الثلاثة ثم تعود إليها إذا ما انقضت، فذهبت إلى هذه المقبرة ... ودهشت عندما رأيت هذا الجمع الغفير وكأنهم في سوق ... ويذهب الأتراك في موكب، حاملين راياتهم جميعا، إلى هذه المقبرة التي دفن لهم فيها شيخ يدعون أن عظامه تخرج كل عام من قبرها كعظام سائر الموتى، فيذهبون هناك ويصلون صلاة كلها تقوى وورع.».
37
ويكتب رحالة آخر اسمه «نيبوهر»
Nebuhr ، لمس بنفسه معتقدات أهل وادي النيل الخرافية، عن الأشباح التي كان يبدو لهم أنها تظهر في ثغر دمياط، فيقول: «إنها المرة الوحيدة التي لاحظت فيها هذا اللون من الخرافة بين المسلمين، ففي بلاد العرب لا يعرفون الأشباح ولا يتحدثون عنها.».
38 (3-3) هل كانت هذه التأثيرات عميقة؟
على الرغم من أن المسلمين اتبعوا بعض العادات التي يرجع تاريخها إلى العصر الفرعوني، فإنهم لم يدعوا أنفسهم يتأثرون بالمعتقدات القبطية، هل كان الأمر كذلك فيما يختص بالأقباط؟ نعم إن هؤلاء اتجهوا إلى التشبه بالمسلمين من حيث المظهر حتى إذا اعتنقوا الإسلام بعد ذلك، لم تعد هناك أية علاقة تميزهم عن عامة الشعب، ولكنهم طالما ظلوا في الدين المسيحي لم يكشف سلوكهم الخارجي أي خروج عن عقائدهم، بل إننا لا نستطيع أن ننكر على الأقباط تعلقهم بدينهم ورضوخهم لتعاليم كنيستهم، فلم يكن عندهم من منة يلتمسونها أحسن من تصريح ببناء أو إصلاح كنيسة، وهذا ما فعله المعلم الشهير إبراهيم الجوهري عندما أدى خدمات جليلة لأخت السلطان في أثناء مرورها بمصر في طريقها إلى مكة، فالتمس مكافأة له أن يصدر السلطان فرمانا بإقامة كنيسة بالأزبكية «الكاتدرائية الحالية» وإعفاء الرهبان من دفع الجزية،
39
وقد انتهز أيضا فرصة حسن استعداد السلطات نحوه وطلب إصلاح الأديرة والكنائس.
40
ونختتم هذا الحديث بقول اللورد كرومر: «الفرق الوحيد بين القبطي والمسلم هو أن الأول مصري يعبد الله في كنيسة مسيحية في حين أن الثاني مصري يعبد الله في مسجد مسلم.».
41 (4) المنافسة بين الملكيين واليعاقبة
لقد أشرنا عرضا في أثناء هذا البحث إلى المنافسة القائمة بين الملكيين واليعاقبة، وقد نشأت منذ انعقاد مجمع كالسيدونيا «453م» واستمرت طوال الحكم الإسلامي، وترتب عليها نتائج خطيرة جدا ، لذلك لا نستطيع أن نمر عليها دون أن نتحدث عنها.
ظل نفوذ بطريرك اليعاقبة كبيرا جدا داخل مصر وخارجها بالرغم من القيود التي وضعت للحد من نشاطه، وإذا كان الوالي امتنع في بادئ الأمر أن يتدخل في شئون الأقباط الداخلية؛ أي: في المسائل الدينية البحتة، فقد اضطر إلى التدخل بعد إلحاح اليعاقبة أنفسهم وخاصة بعد الدسائس التي حاكها الملكيون، ويقول ميخائيل السوري
42
في هذا الصدد: «لما عجز اليونانيون الخبثاء «يقصد هنا الملكيين» عن إساءة الأقباط، كما كانوا يفعلونه فيما مضى، لم يكفوا عن أعمالهم السيئة، وكانوا يعينون في أنطاكيا ومصر لشعوبهم بطاركة ليثيروا الفوضى بين السوريين والمصريين والأرمن، كالثعبان الذي بترت رأسه ولم يزل يحرك ذيله، وكان يوجد في سوريا وبلاد الأرمن وكذلك في فلسطين ومصر، علاوة على بطريرك وأساقفة طائفتنا، بطريرك وأساقفة للملكيين، كانوا يثيرون الفوضى بقدر إمكانهم بين أفراد هذه الأمم الثلاثة، وإذا أتيحت لهم الفرصة، بين النوبيين والأحباش.».
وكان الأقباط يستعينون بالوالي لأغراض شخصية؛ هذا قس يشكو إليه؛ لأنه لم يرق إلى درجة أسقف فيخبره بوجود كنز مخفي؛ وهذا قس آخر يسافر إلى دمشق، ويدعي أمام الخليفة بأن في استطاعته ملء خزانة الدولة الخاوية من ذهب بطريرك اليعاقبة الذي كان يصنعه بنفسه بطرق كيميائية ليزين كنائسه بالأواني النفيسة،
43
ولا تخلو سير البطاركة من القصص المماثلة، فلا داعي من الإطالة في هذا الموضع ولا سيما أن معظم هذه الحالات فردية، ولا يسعنا أن ننكر أن الرغبة في الثأر خلقت سوابق خطيرة، إلا أن توخينا الدقة يحملنا إلى القول بأن الملكيين لا اليعاقبة هم الذين حرضوا الولاة المسلمين على التدخل في المسائل الدينية البحتة.
وكان الملكيون أصحاب حظوة لدى السلطات البيزنطية لإخلاصهم لها، فلم يرضخوا للحكم العربي بمحض رضاهم، وكان الإجلال الذي أحاط به عمرو بن العاص بطريرك الأقباط بنيامين ومصادرته معظم الكنائس والأديرة لصالح اليعاقبة، بعث عند الملكيين رغبة الانتقام منهم.
ثم كانت الفوارق تزداد بين رعايا الطائفتين كلما رسخت أقدام الحكم العربي في مصر، لقد فرح اليعاقبة فرحا عظيما لتخلصهم من اليونانيين، فلم يعودوا يتوجهون إلى بيزنطيا، وإذا كانت بلاد النوبة والحبشة تخيب آمالهم ولا ترسل لهم المعونة في الأوقات الحرجة، كان الأقباط ينطوون على أنفسهم ويحاولون تهدئة غضب الحكام.
أما الملكيون، فكانوا على عكس ذلك؛ إذ إنهم لم ينقطعوا يوما واحدا عن التطلع إلى بيزنطيا، وكانت الأحداث التي تقع على ضفاف البوسفور تهمهم أسوة بالتي تقع على ضفاف النيل، وكذلك لما كتب سعيد بن بطريق تاريخه، أولى الحوادث البيزنطية والمصرية نفس الاهتمام في حين أن خصمه ساويرس بن المقفع لم يركز اهتمامه إلا في داخل الحدود المصرية ويتجاهل الحوادث الخارجية.
على أن الملكين لم يعارضوا الحكم العربي علنا، بل حاولوا أن يتفاهموا مع المحتل الجديد، ولم يكن أمامهم لتحقيق هذا الغرض سوى خطة واحدة وهي مساعدة العرب على تشديد قبضتهم على اليعاقبة، فرموا بذلك عصفورين بحجر؛ أي: نيل حظوة المنتصر وإضعاف نفوذ اليعاقبة في آن واحد.
وقاموا بعملهم هذا بعد سقوط الإسكندرية مباشرة، ويقول حنا النقيوسي في هذا الصدد: «جمع ميناس الملحد 32,057 قطعة من الذهب وسلمها للإسماعيليين «كذا» بينما كانت الغرامة التي فرضها عمرو عن المدينة لا تتجاوز 22 ألف قطعة.».
44
ونقرأ من جهة أخرى في السينكسار اليعقوبي أن البطريرك أغاتوا «لقي شدائد كثيرة من أجل الأمانة، من ذلك أن في زمانه مضى إنسان اسمه تاوداسيوس، وكان ملكي المذهب، إلى مدينة دمشق وتقدم إلى يزيد بن معاوية الخليفة بها، وقدم له أموالا كثيرة وأخذ منه منشورا بأن يتولى مدينة الإسكندرية والبحيرة، ومريوط، فلما أتى، تسلط على أبينا البطريرك ووزنه الجزية ووزن تلاميذه في كل سنة ستة وثلاثين دينارا، وألزمه بكل ما ينفق على مراكب الأسطول في كل سنة، وكان يزن عنه سبعة آلاف دينار في كل سنة، ولكثرة شره لم يختلط به أهل ملته؛ لأنهم كرهوا منه ما عمل مع البطريرك، ولا يمكن الأب أن يخرج من قلايته وقال: «كل من وجد البطريرك في الطريق يقتله، فمكث الأب في قلايته محبوسا إلى أن أهلك الله هذا المنافق .».
45
ولكن اليعاقبة لم يسلموا بهزيمتهم، وقام أحدهم، وكان كبير مستشاري قرة بن شريك، ونجح في إقناع الوالي بجعل الملكيين يدفعون ضعف الضريبة المقررة.
46
ولا شك أن الملكيين لم يزالوا يشعرون بقوة نفوذهم؛ لأنهم فكروا في ولاية عبد العزيز بن مروان في أن ينتخبوا بطريركا من بين أفراد طائفتهم ويفرضوا سلطته على أفراد الطائفتين، أضف إلى ذلك أنه عندما قال الوليد: «ما أدع بطركا يتقدم في أيامي.» كان هناك طبيب من أهل الإسكندرية اسمه «أنوبيس»، فلما وجد الوسيلة، سأل الأمير أن يأمر أن يقدمه بطركا من الإسكندرية وكان يوميا خلقدونيا، فقبل سؤاله، وكان كاتب اسمه انسطاسيوس من الإسكندرية ودفع هذا الكاتب ألف دينار للأمير جعل الفير بطرك الخلقدوني بمدينة الإسكندرية.
47
ثم حدث أن شفيت زوجة الخليفة هارون الرشيد المختارة على يد بطريرك الإسكندرية الملكي، فمنحه الخليفة مبلغا كبيرا من المال على سبيل الهدية، وأعطاه أمرا يسترد بمقتضاه من اليعاقبة جميع الكنائس التي كانوا قد صادرها لصالحهم، وعاد البطريرك إلى الإسكندرية واسترجع هذه الكنائس.
48
وكان الخلفاء يستغلون شعور الحقد بين هاتين الطائفتين، فيكلفون أصحاب الطائفة الأولى بتنفيذ الأوامر التي يصدرونها ضد أصحاب الطائفة الثانية، ولما أمر الخليفة المأمون «أن تؤخذ من البيع في كل مكان العمد والرخام، كان الواصل في هذا الطلب إنسانا مخالفا مبغضا من النسطورية اسمه العازر، فلما وصل إلى مصر، اجتمع إليه أهل مذهبه النجس الذين هم الهراقطة الخلقدونيون المقيمون بالإسكندرية.».
49
وفي خلافة عبد الله بن مروان، ذهب الملكيون واليعاقبة إلى حد التماس تحكيم قاض مسلم في مسألة خاصة بملكية إحدى الكنائس.
ومن البديهي أن الحكام العرب لم ينظروا بعين السخط إلى هذه الخلافات المستجدة؛ لأنها كانت تتيح لهم فرصة التدخل في أمور رفضوا التدخل فيها في بادئ الأمر غير أنهم كانوا يظهرون قلقهم بسبب العلاقات القائمة بين الملكيين وبيزنطيا، ثم بينهم وبين دول أوروبا الكاثوليكية، وقد احتفظ لنا القلقشندي بنصوص مستندات لها أهمية كبيرة في هذا الموضوع، وهذه المستندات خاصة بمراسيم تنصيب البطاركة الملكيين واليعاقبة بالإسكندرية، وكان الحكام يوصون البطريرك الملكي في هذا المرسوم بأن يمنع رعاياه القاطنين في المناطق الساحلية من إقامة أية علاقة خفية بينهم وبين الأجانب القادمين إلى مصر، أما المرسوم الخاص بتنصيب البطريرك اليعقوبي فإنه لم يذكر شيئا عن هذا الموضوع غير أنه يشير إلى علاقاته بالحبشة.
50
أما عن العلاقات بين اليعاقبة والملكيين، فلنذكر قصة تظهر لنا مدى الكراهية التي كانت تفرق بينهم، وهي قصة المصلح مرقس بن كنبر ولسنا في حاجة إلى الوقوف بهذه القصة طويلا، فقد ذكرها أبو صالح الأرمني بتفاصيلها، ونقول فقط: إن الإصلاحات التي كان يقترحها مرقس على البطريرك اليعقوبي للتقرب بين الطائفتين سببت طرده من الكنيسة القبطية، وكان مرقس يقترح السماح للشعب القبطي بأن يطيل شعره ومنع الختان والتوصية بالاعتراف السري، ولما بلغ الخلاف أشده، لجأ مرقس إلى ساحة السلطان، ولكن البطريرك اليعقوبي انتصر عليه؛ لأن الملكيين كانوا معدمي النفوذ في ذلك الوقت، وانتقم بعد ذلك المباشرون الأقباط أحسن انتقام بفرض جزية مضاعفة على المدن التي أطاعت مرقس بن كنبر، وكان انتقامهم هذا لمصلحة الخزينة المصرية.
واكتنف الغموض تاريخ الملكيين في العهد العثماني، فقد تركوا لمصيرهم، منذ سقوط القسطنطينية في القرن السادس عشر، يتخبطون في غياهب الفقر والجهل، وفي أوائل القرن الثامن عشر، لم يكن في القاهرة إلا ملكي واحد على خمسمائة قبطي؛ أي: حوالي عشرين نسمة، وكان يوجد ما يقرب من المائة في الإسكندرية وبعض الأسر المتفرقة في موانئ رشيد ودمياط والسويس، وغني عن البيان أنه لم يكن لهم أي نفوذ، وكان السلطان يوافق بين حين وآخر على تعيين بطريرك ملكي لكرسي الإسكندرية، ثم إنه من الصعب علينا، بما لدينا من المعلومات، أن نعرف بالتحديد عدد الملكيين الذين ظلوا خاضعين لروما، وعدد الذين انشقوا مع البيزنطيين، بيد أن اهتمام دول أوروبا بمصير الملكيين المصريين يدل على أن بعضهم جدد صلاته بالكرسي الرسولي، ولكن البابوات كانوا يهتمون أيضا بمصير اليعاقبة، الذين حولوا كراهيتهم، بعد زوال الملكيين، نحو الإفرنج.
51 (5) كراهية الأقباط للإفرنج
لم تفقد الكنيسة الكاثوليكية الأمل في إعادة يعاقبة مصر إلى حظيرتها بعد فشل المحاولة التي كان يراد بها وحدة الكنائس، وقد بذر «فرانسو داسيز»
F. d’Assisc ، مؤسس الكهنوتية الفرنسسكانية، بذور الوحدة، ولكن ثمرتها ظلت ضعيفة بالرغم من أن الإرساليات الكاثوليكية كانت تملك في عام 1731 تسعة أديرة في الوجه القبلي.
52
وكان الأقباط والمسلمون يرون أن من مصلحتهم إبقاء تلك الإرساليات بالرغم من شدة كراهيتهم للإفرنج، وكتب الرحالة «نيبوهر» في هذا الصدد: «كانت القاهرة خالية من التجار الإفرنج ولكنها لم تعدم من القساوسة التابعين للإرساليات الكاثوليكية، ويرى فيها اليسوعيين والكبوشيين والكورديلييه وآباء البروباجندة، وكان هؤلاء الرهبان يتحمسون في سبيل التبشير وكانوا يفلحون أحيانا، بطريقتهم الخاصة، في إدخال بعض المسيحيين المنشقين في حظيرة الكنيسة الرومانية، وكانت السلطات تجيز عملها؛ لأنها تستغل لمصلحتها المنازعات التي كانت تشجر بين الذين يعتنقون المذهب الكاثوليكي وبين أفراد طائفتهم الأصلية، وغالبا كان الباشا لا يكتفي بتغريم الطرفين المتنازعين، بل يذهب إلى مصدر النزاع ويطالب الرهبان أنفسهم بمبالغ كبيرة من المال.».
53
هذا ما قاله الرحالة البروتستانتي «نيبوهر»، ورأي قنصل فرنسا الكاثوليكي، «بنوادي ماييه»
B. de Mailler
لا يقل تهكما؛ إذ يقول: «يجيب المرتدون المزعومون عندما يعاب عليهم خروجهم عن مذهبهم: ما فيش فلوس، ما فيش كنيسة «كذا في النص الفرنسي»، وكنت أرى هنا كنيسة آباء الأرض المقدسة حافلة بالمرتدين الجدد وهم أفقر مسيحيي القطر المصري، وكان هذا الفقر المدقع يجعلهم طوع إرادة من يمد لهم يد المساعدة،
54
وكتب الرحالة «سونيني»
Sonnini
الإيطالي بعد القنصل الفرنسي: «إن اسم «إفرنجي» مكروه من أبناء الصعيد، وهذا الحقد يرجع إلى موقف الأقباط منهم، وكانوا يتألمون من قدوم بعض المرسلين من إيطاليا خصيصا لنقد مذهبهم واتهامهم بالإلحاد، واعتبارهم بدون إشفاق كلاب ومن الهالكين.».
55 (5-1) ما سبب هذا الحقد؟
كان الأقباط يربطون بين الإفرنج «الأوروبيين فيما بعد» والملكيين؛ ذلك لأن الغربيين كانوا حتى انفصال «لوثير»
Luthcr
عن الكنيسة الكاثوليكية، خاضعين لروما، ومن الطبيعي أن يعتبرهم الأقباط حلفاء الملكيين وبالتالي أعداءهم، ونجهل على أي أساس كان يستند ملك البرتغال عندما كتب إلى الكردينال «كسيمينيس»
Ximenes
أن «النصارى الخاضعين لسلطان مصر على استعداد تام للانضمام إلينا عندما يلمحون بريق أسلحتنا.»
56
وأما الأب اليسوعي «برنا»
Bernat ، الذي درس هذه المسائل عن كثب، فكتب إلى الأب «فليريو»
Fleuriau : «يجب أن تنزل نعم الله علينا لكي نقضي على العوائق التي يظهر لنا أنها تحول بين الأقباط وبين انضمامهم الخالص إلى الكنيسة الكاثوليكية، وأول هذه العوائق هي الكراهية المتأصلة للإفرنج.»
57
والواقع أن الكراهية التي كانوا يضمرونها للغربيين كانت مرتبطة بشعور الحقد نحو الكاثوليك، وقد أشار «نيبوهر» بوضوح تام إلى هذا الشعور؛ إذ يقول: «يكره الأقباط كنيسة روما كرها لا يمكن القضاء عليه ... ويخبئ القساوسة بعناية الكتب المحررة باللغة القبطية؛ إذ يخشون - كما يدعون - أن يستولى عليها الكاثوليك، ويطبعوها في أوروبا بعد تزوير نصوصها، فإذا أقنعنا هؤلاء القساوسة بأننا لسنا من أنصار البابا، وإذا خففنا عليهم وطأة فقرهم «بمنحهم بعض العطايا» أمكننا الحصول على بعض نسخ من هذه الكتب المدفونة.».
58
هذه الاعترافات الساذجة التي سطرت على ورق دون أية دراسة عميقة، والتي ترتكز على الملاحظة فقط، هي في نظرنا أحسن برهان على وجود هذا الشعور.
وفضلا عن ذلك، فإننا لا نجد عندهم في أي وقت رغبة صادقة في التفاهم، ولا ميل إلى بذل مجهود حقيقي لتقريب وجهات النظر، ولم يتوجهوا لحظة واحدة نحو الغرب بالرغم من اضطهاد الحاكم بأمر الله لهم وتخريب كنائسهم وتعرضهم للظلم في عهد السلطان محمد بن قلاوون وللإهانات في عهد المماليك، وإذا طلبوا الانضمام إلى روما في القرن السادس عشر الميلادي، لم يكن ذلك عن إيمان بل عن حاجة إلى المال.
ولما أراد وزير حربية الملك لويس السادس عشر، قبيل الحملة الفرنسية، أن يدرس مسألة جواز احتلال مصر، وأرسل لهذا الغرض إلى البارون «دي توت»
Tott ، الذي كان يقيم في مصر وقتئذ، بعض الأسئلة المفصلة، لم يهتم مطلقا بالمساعدة التي قد يقدمها له أقباط مصر، ولعل عدم اهتمام الوزير بالأقباط راجع إلى قلة عددهم وتلاشي نفوذهم وقوتهم، غير أنه ذكر في السؤال الثامن والعشرين حالة اليهود، فقال: «هل من المستطاع أن نجعل اليهود القاطنين في الوجه البحري يهتمون بأمرنا؟»
59
ويتضح من ذلك أن الحكومة الفرنسية كانت ترحب بمعاونة داخلية، ولكنها كانت تعلم أن الأقباط سوف يأبون عليها هذا التعاون.
وتضمن تقريرات القناصل المعتمدين كراهية الأقباط نحو الإفرنج، وكتب القنصل «دي ماييه» في هذا الشأن: «إن كراهية هذا الشعب لنا شديدة إلى درجة أنه عندما يريد أحدهم أن يقسو على إنسان في السب، ينعته «بإفرنجي». تلك هي طريقتهم في التعبير عن شدة احتقارهم لشخص ما.»
60
وبالفعل، كتم الأقباط شعورهم نحو بونابرت قبل أن يظهروا له عداوتهم، أما الإدارة الفرنسية في أثناء الحملة، فلم تخف احتقارها لهم.
ولما ازداد نفوذ الأوروبيين، زادت كراهية الأقباط لهم، تلك الكراهية التي تحدث عنها كثير من الأجانب المقيمين منهم أو الرحالة، وكان «ريفو»
Rifaud ، الذي يجيد معرفة الشئون الداخلية في مصر، يوصي مواطنيه أن يلزموا جانب الحذر، فقال: «يحمل الأقباط كراهية شديدة لسائر المسيحيين، ويجب على الأجانب أن يبتعدوا عنهم، وإن كان لا بد من التعامل معهم، فبكل تحفظ.»
61
ويلاحظ «جون دوربين»
J. Durbin
الإنجليزي بدوره أن تأثير الإرساليات على النصارى من سكان البلاد كان غير ذي شأن،
62
ويذهب «شارل ديدييه»
Ch. Didier
إلى أبعد من ذلك حين يكتب: «لا يفضل الأقباط أبناء دينهم الأوروبيين على المسلمين أنفسهم، ويقال إنه إذا قامت حرب صليبية أخرى بين المسلمين والمسيحيين، فإن الأقباط سينضمون إلى صفوف الأولين.»، ويذكر «إيزانبير»
Isamberlt
في «مرشد الرحلات» إن كراهية الأقباط للأجانب تزيد بمراحل عن الكراهية التي قد يشعر بها المسلمون نحو الكفار.
63
وكانت كراهية الأقباط أشد بالنسبة لهؤلاء الذين كانوا يتركون الأرثوذكسية ويعتنقون المذهب الكاثوليكي، وقد لاحظ «سونيني» هذا الشعور؛ إذ قال: «يوجد كثير من الكاثوليك بين أقباط طهطا، والمعروف أن الأقباط ينتمون إلى أحد المذاهب التي تتهمها الكنيسة الرومانية بالإلحاد، وكثيرا ما كنت أذهب لزيارة أكابرهم حيث كنت ألتقي مسرورا بقسيس مصري أمضي خمس عشرة سنة في دير بروما، وكان يتكلم ببعض السهولة اللاتينية والإيطالية، وكنت أجد لذة في التحدث إلى رجل كنت أعتبره أوروبيا، وكان يقول لي: إن المصريين التابعيين للكنيسة اللاتينية يتعرضون لمعاملة سيئة للغاية من مواطنيهم العديدين الموصومين بالإلحاد.».
64
وكان الأقباط الذين وضع محمد علي ثقته فيهم من الكاثوليك، وقد اضطر أكثرهم نفوذا، وهو المعلم غالي، أن يدفع عن نفسه عدة دسائس حيكت ضده، وينقل لنا الجبرتي واحدة منها؛ إذ يقول: «في عام 1231ه «1816م» انتبذ طائفة من الأقباط في الحط على غالي مع الكتخدا وعرفوه أنه إذا حوسب، يظهر عليه ثلاثون ألف كيس، فقال لهم: وإن لم يتأخر عليه هذا القدر تكونوا ملزومين به إلى الخزينة، فأجابوه إلى ذلك، فأرسل يعرف الباشا بذلك، فورد الأمر بالقبض عليه وعلى أخيه وخازنداره وحبسهم، وعزله ومطالبته بالستة آلاف كيس القديمة أولا، ثم حسابه بعد ذلك، فأحضر المرافعين عليه وألبسهم خلعا على رياسة الكتاب عوضا عن غالي ومن يليه.».
65
ولم نلبث في عهد محمد علي حتى لاحظنا الفرق الواضح بين موقف رجال الطائفتين، فبينما ظل اليعاقبة وبطريركهم يعادون الأجانب كل العداء، احتمى الأقباط الكاثوليك، في القرن السابع عشر، بحماية جمهورية البندقية ثم بحماية النمسا عام 1866م، لذلك لم يتردد قنصل النمسا، عندما أنشئت المحاكم المختلطة، في طلب إعفاء الأقباط من التقاضي أمام المحاكم الأهلية، ولكن الحكومة المصرية لم تقر هذه النظرية.
ومن جهة أخرى، بينما كان عدد كبير من الرحالة يشكون من صعوبة زيارتهم للأديرة القبطية التابعة لليعاقبة، وقف الأقباط الكاثوليك موقف التآخي من اللاتين فيما يختص بالناحية الدينية، ومثلا عندما قدم الأب «دي جيرامب»
Geramb
إلى مصر، خف المطران القبطي الكاثوليكي لاستقباله،
66
ولما قدم رئيس آباء الأرض المقدسة، في أثناء دورته الرعوية، استقبله مطران الأقباط الكاثوليك ببولاق.
67
ولا شك أن روح التسامح التي غرست في مصر في عصر محمد علي، أخذت تثمر فيما بعد، وقد فتحت الأديرة أبوابها للزوار الأجانب، بل للرهبان الكاثوليك، وقد صرح لهم أيضا بدراسة المخطوطات المودعة فيها، أما البطريرك، الذي كان يضمر العداء للأجانب، فقد استقبل عام 1894 الكاردينال «لانجينيو»
Langenieux ، المندوب البابوي في المجمع المقدس الذي عقد في مدينة القدس، استقبالا حارا، «وقد قام بزيارته في اليوم الأول، ولما رد له الكردينال الزيارة في اليوم التالي في الكنيسة المرقسية، ارتدى البطريرك لاستقباله ملابسه الدينية وأمر بقرع الأجراس كما لو كان يحتفي برئيس له ... وقد تحدث الناس بعد ذلك عن اتحاد الكنيستين.».
68 (6) العلاقات بين المسيحية العالمية ومصر المسيحية تحت الحكم الإسلامي
إن الدور الذي لعبه البطريرك، والحوادث اليومية التي كانت تقع بين الملكيين واليعاقبة، جعلتنا نقتنع بأن الدول المسيحية لم تهمل تماما مصير الأقليات الدينية في مصر.
والواقع أنه لما اجتاح الإسلام الشرق، حاول النصارى القاطنون في البلاد المحتلة، مدفوعين بغريزتهم، أن يحتفظوا برباط روحي مع الدول المسيحية الكبرى، وبينما توجه الملكيون نحو بيزنطيا، اتجه اليعاقبة نحو النوبة والحبشة على الأخص؛ لأن الحبشة كانت الحصن المنيع الذي لم يجرؤ العرب على اقتحامه أبدا.
69
وكانت علاقات الأقباط بالنوبة والحبشة طبيعية؛ لأن بطريرك الإسكندرية كان الرئيس الروحي لتلك البلاد، ثم إن تدهور نفوذ البطريرك يوما بعد يوم لم يقلل من الاحترام الذي كان يتمتع به في الحبشة، وقد رأينا كيف كان النجاشي يضحي بعزة نفسه ويطلب باحترام إلى السلطات المصرية أن ترسل له مطرانا، ويصف ابن فضل الله العمري كيف كان حكام الحبشة يقابلون من يحمل رسالة من البطريرك اليعقوبي، فيقول: إن رجال الدولة والقساوسة والأراخنة كانوا يستقبلونه على حدود المقاطعات وفي أيديهم المجامر، ولما كان المندوب يصل إلى مدينة «أمهره» كان النجاشي يستقبله شخصيا ويمتنع منذ هذه اللحظة عن إصدار أوامره حتى يوم الأحد الذي يلي وصول المندوب، وعندئذ كان النجاشي ورجال الدين والدولة يعقدون جلسة في ساحة الكنيسة لإصغاء مضمون الرسالة، وكان النجاشي يستمع إليها وهو واقف.
70
كتب ابن فضل الله العمري هذه السطور في عهد سلاطين المماليك؛ أي: في الوقت الذي تزعزت فيه مكانة البطريرك بمصر، مما يجعلنا نتساءل ما سبب احترام ملك ذي سلطان واسع لشخص كان يعيش أغلب الأحيان في بؤس مادي وأدبي شديدين؟ ونجد أحسن رد على ذلك على صفحات تاريخ ابن فضل الله العمري؛ إذ يقول: إن المسيحيين اليعاقبة كانوا يعتقدون أن سر الاعتقاد لا قيمة له إلا إذا وافق عليه بطريرك الإسكندرية، لذلك يضطر النجاشي أن يلتمس تعيين الأسقف الذي يمثله البطريرك في الحبشة، وكان إرسال الخطاب إلى البطريرك يحط من شأن النجاشي إلا أن إرساله كان عملا لا مفر منه.
وقد ظلت العلاقات بين نصارى مصر وجيرانهم الإفريقيين بعد الاحتلال العربي، بل لقد زادت قوة هذه العلاقات؛ لأن ملك النوبة وإمبراطور الحبشة كانا ينتهزان حجة أي اضطهاد يقع على النصارى أو أي إجراء يصيب هيبة البطريرك ليتدخلا في شئون مصر، بينما أن الولاة العرب لم يترددوا في طلب وساطة البطريرك في سبيل تأمين حدودهم الجنوبية، إلا أن العلاقات القائمة بين البطريرك والملوك المسيحيين كانت تقلق الحكام المسلمين وخاصة بعد احتلال مصر مباشرة، بل كان حضور قسيس لطلب تعيين مطران يكفي لإلقاء الرعب في نفوس رجال الإدارة.
71
ولم تهتم الحبشة جديا بمركز الكنيسة القبطية قبل القرن الثالث عشر الميلادي، وإذا اتصلت بها قبل ذلك، كان لسبب واحد هو طلب تعيين المطران «الابونا»؛ ذلك لأن موقع النوبة المسيحية بين الحبشة ومصر كان يؤهلها لتقوم بدور المدافع الأول عن المسيحية المصرية.
وفعلا قذف ملوك النوبة عام 132ه «750م» بجيوشهم عبر الحدود المصرية انتقاما للإهانة التي لحقت بالبطريرك ميخائيل الأول، وكان ذلك أول مظهر من مظاهر التضامن بين المسيحيين وأهمها، وينقل إلينا ساويرس بن المقفع هذا الحادث، بل يحدثنا عنه بحماس، قال : «لما علم الملك قرياقوس بأن عبد الله بن مروان زج بالبطريرك في السجن سار من بلاد النوبة يريد ديار مصر في عسكر عظيم فيه مائة ألف فارس بمائة ألف فرس ومائة ألف جمل، ولقد شاهد من أخبرنا بعينه أن الخيل التي تحتهم كانت تقاتل بأيديها وأرجلها في الحرب كما يقاتل فرسانها فوقها، وكانوا خيلا قصارا مثل الحمير، فلما فربوا إلى مصر ليسبوها، ونزلوا في البركة المعروفة إلى اليوم ببركة الحبش، نهبوا وقتلوا وسبوا المسلمين، وقد كانوا فعلوا ذلك بمسلمي الصعيد، وكان الملك قبل وصوله إلى مصر قد سير رسولا اسمه الأبرخس، من كبراء المملكة، إلى عبد الله يأمره أن يطلق البطرك، فأخذه عبد الملك واعتقله مع البطرك، فلما علم بمجيء الملك ووصوله إلى مصر ولم تكن له قدرة على محاربته وخاف منه جدا، أطلق رسوله الأبرخس من السجن، فخرج في لقاء الملك بعد أن قرر معه واستحلفه أنه يرده وعساكره إلى بلاده، ولا يدعه أن يتقدم إلى حصونه ولا يحاصره، وكان المسلمون يسرقون النوبة ويبيعونهم بمصر، فعاد بعسكره بعد أن نهب من المسلمين شيئا كثيرا».
72
وكذلك ظل الأقباط يستنجدون ببلاد النوبة في أوقاتهم العصيبة طالما ظلت بلاد النوبة مسيحية، ففي أثناء المجاعة التي حاقت بمصر، في عهد الخليفة الفاطمي المستنصر بالله، استنجد النصارى بأريحية الملك جورج النوبي.
ولم تبلغ العلاقات بين مصر والحبشة درجة الخطورة، بالرغم من المظاهر التي صحبتها، هذا لأن مصر والحبشة لم تستطع أن تخوض غمار حرب لطول المسافة التي تفصلها برا وكثرة العقبات الطبيعية التي تقوم بينهما وتعدد الثورات الداخلية والأخطار الخارجية التي تهددهما، ثم إنهما لم ترغبا خوض غمار حرب بالرغم من أنهما لم تحاولا التفاهم قط ولا الارتباط بالصداقة.
73
كانت الحبشة في حاجة إلى حسن استعداد مصر بينما أن مصر كانت في حاجة إلى حسن استعداد الحبشة، ولا ننسى أن مطران الحبشة كان يتلقى تعيينه من بطريرك الإسكندرية الذي كان يخضع لسلطة والي مصر المسلم.
لذلك كان النجاشي يرغب في عدم قيام أية حرب بين الدولتين، ولا سيما أن رعاياه كانوا يحجون كل عام إلى بيت المقدس حيث أقيمت دار لإيوائهم، وكانوا يريدون القيام بهذه الرحلة الدينية وهم مطمئنون تماما.
أما مصر، فكانت تدرك أن الحبشة جارة لا يرتاح لها، بل إنها جارة خطرة كل الخطر إذا حكمتها إدارة قوية، وكانت مصر تعلم أيضا أن النجاشي يتحكم في بعض القبائل الإسلامية، وأنه ينتقم منها كلما وقع اضطهاد على الأقلية القبطية في وادي النيل، وكانت تعرف خاصة أن منابع النيل «أو أحد المنابع المهمة له» تنبع من أعالي هضاب الحبشة، فكانت تخشى في كل حين أن يقطع أو يحول مجراها.
وكانت فكرة تحويل مجرى النيل هذه تقلق بال المصريين منذ أمد بعيد، يكتب المسيو «كاميرير»
Kammerer
قائلا: «كان المسلمون ينتابهم الرعب منذ أجيال بسبب حرمانهم من مياه النيل نتيجة لتآمر جيرانهم عليهم، ولم يزل هذا الخوف ينتابهم، ولما كانوا مقتنعين، وهم على حق، بأن مصر لا تعيش إلا بفضل النيل، كانوا يرون من المحتمل جدا أن يحول مجرى النيل، وهم في ذلك مخطئون.»
74
ولم يكن الصليبيون أقل اقتناعا من المصريين، ولما فكروا في إشراك الحبشة في حروبهم ضد الإسلام، لم يكن استعمال هذا السلاح الفاصل؛ أي: تحويل مجري النيل، بعيدا عن خططهم، ولما علم سلاطين المماليك بتدبير مؤامرة لهذا الغرض، منعوا الرحالة الأجانب من دخولهم الحبشة؛ إذ كانوا يعتقدون أن هؤلاء الرحالة إنما يذهبون إلى الحبشة لحمل النجاشي على تحويل مجرى النيل الخصيب، وكان الرواة الغربيون أنفسهم يعتبرون تنفيذ هذا المشروع ممكنا إذا فكر في تنفيذه، ونقرأ في رحلة «جيلبرت دي لانوا»
G. de Lanoy «سنة 1422م» ما يأتي: «لا يسمح السلطان لأي مسيحي بالذهاب إلى الهند عن طريق البحر الأحمر ولا عن طريق نهر النيل لمقابلة القس يوحنا «النجاشي وقتئذ.» خوفا من أن يتفق المسيحيون معه على حرمانهم من هذا النهر أو على أي عمل عدائي آخر؛ ذلك لأن المسيحيين هناك والقس يوحنا يناصبون العداء. إنه ليس في استطاعة السلطان تحويل مجرى النيل، ولكن القس يوحنا يستطيع تحويله حيث يشاء، وإذا لم يقم بهذا العمل بعد، فالسبب يعود إلى عدد المسيحيين الكبير الذين يقيمون بمصر، وخوفا عليهم من الموت جوعا.».
75
وجاء الرحالة «برتراندون دي لابروكبير»
La Broquiere
بنفس الحجج بعد عشر سنوات،
76
وحوالي عام 1450م طلب ملك «أراجون» إلى النجاشي تخريب مصر بقطع ماء النيل عنها،
77
وكان الأب «فانسليب» في كتابه عن مصر يعتقد أنه من المستطاع تحويل مجرى النيل، ويذكر خطابات أرسلها النجاشي إلى سلاطين مصر يهددهم فيها بتحويل مجرى النيل إن أساءوا معاملة الأقباط،
78
وكان الرحالة «سافاري»
Savary
الذي زار مصر في القرن الثامن عشر، يؤمن بتحقيق هذه المعجزة.
79
ولعب البطريرك مرارا دور الوسيط، وكان نفوذه القوي لدى بلاط النجاشي كفيلا بأن يكلل مسعاه بالنجاح.
ويرجع أول مسعى كلف به إلى عهد المستنصر بالله الفاطمي؛ إذ أمره الخليفة بالتوجه إلى النجاشي ليخبره بأن مستوى النيل في هبوط، الأمر الذي لا بد أن يلحق ضررا بسكان مصر، وقد حمل الخليفة البطريرك هدية نفيسة ليقدمها إلى النجاشي، ويقول المقريزي: «أمر النجاشي بفتح سد يجري منه الماء إلى أرض مصر، ففتح وزاد النيل في ليلة واحدة ثلاثة أذرع، واستمرت الزيادة حتى رويت البلاد وزرعت ثم عاد البطريرك فخلع عليه المستنصر وأحسن إليه.».
80
وقد استخدم البطريرك نفوذه في مناسبات أخرى لمصلحة مصر والإسلام، ويقص ابن فضل الله العمري أن عبد الله الزيلعي، رئيس الوفد الحبشي المسلم، جاء مصر بين عامي 1332 و1338م وطلب إلى السلطان أن يحمل البطريرك رسالة يطلب فيها إلى النجاشي أن يكف عن اضطهاد المسلمين وانتزاع أراضيهم التي يقدسونها، وأمر السلطان بتحرير رسالة بليغة يلوم فيها هذه الأعمال، ويطلب منع أي: كائن من اقترافها، فحررها البطريرك، ويقول ابن فضل الله: إن الخطاب أتى بأحسن النتائج.
81
ولم يحل توسط البطريرك بين اتصال البلدين مباشرة، ولكن معظم الوفود المرسلة من لدن النجاشي كان غرضها إما طلب رسم مطران جديد، وإما تيسير مهمة الحج إلى بيت المقدس للأحباش، وفي الظروف العادية كان نص الرسالة مكتوبا كما يأتي على وجه التقريب: «نرجو السلطان أن يأمر البطريرك برسم مطران علينا يكون صالحا وعالما، لا يحب الذهب ولا الفضة».
على أن النجاشي كان ينتهز هذه الفرصة ليعطي سلطان مصر فكرة عن قوته، وكان يكتب ذلك بأسلوب في غاية من الاحترام، غير أنه كان ينتهز هذه الفرصة ليعطي السلطان فكرة مجسمة عن قوته المادية، وكان السلطان يدرك مقصد النجاشي، فيجيب عليه بخطاب آخر يعطيه فكرة مجسمة أيضا عن عدد قواته وعدتها.
وكان الوفد الحبشي يقدم دائما الهدايا للسلطان، وكانت الهدايا عبارة عن عبيد وأدوات وأسلحة مذهبة، وإذا لاحظ السلطان أن الهدية قليلة القيمة، لم يتأخر في تأنيب رئيس الوفد، وحدث في عام 922ه أن قدر السلطان قنصوه الغوري الهدايا المقدمة من الوفد بخمسة آلاف دينار أو دون ذلك، «فلما عاينها السلطان وبخ الذي طلع بها وأحضر له قوائم هدايا ملوك الحبشة إلى الملوك السالفة مثل الأشرف برسباي والظاهر جقمق والأشرف قايتباي وغير ذلك من الملوك، وأحضر عدة تواريخ يذكر فيها هدايا ملوك الحبشة إلى ملوك مصر، فقرنت بها.».
82
وكان عدد أفراد الوفد كبيرا؛ لأنه كان يشمل الحجاج الذاهبين إلى بيت المقدس، ويصف لنا المؤرخ ابن إياس «عام 922ه» طريقة استقبال هذا الوفد وصفا مفصلا؛ إذ يقول: «... كان مجموع هؤلاء الحبش الذين حضروا إلى مصر نحو 600 إنسان ... وكان صحبتهم البطرك وعليه برنس حرير أزرق، وكانت أعيانهم راكبة على خيول والبقية مشاة، فطلعوا القلعة من سلم المدرج، والبطرك ماش قدامهم، فلما وصلوا إلى باب الحوش، كان صحبتهم كراسي حديد عالية، وقصدوا أن يجلسوا عليها بحضرة السلطان، فلم تمكنهم رءوسهم النواب من ذلك، ووقع في أيام الملك الأشرف قايتباي مثل ذلك وطلعوا معهم بكراسي فما مكنوهم من الجلوس عليها بحضرة السلطان ... ولما نزلوا من القلعة، نزل معهم الوالي والمهمندار وجماعة من رءوس النواب، فوصلوهم إلى الميدان خوفا عليهم من العوام أن يرجموهم.».
83
ونرى من ذلك أن البطريرك كان يهتم شخصيا بكل ما يمس الحبشة، وتقول إحدى الروايات القديمة إنه كان يكتب للنجاشي مرتين في السنة «بموافقة السلطان»، ولكن أبطلت هذه العادة في خلافة الحاكم، ولما كان سلطان مصر يتسلم خطابا من النجاشي، كان يطلب إلى البطريرك أن يؤكد للنجاشي احترامه، ويرجوه أن يحسن معاملة مسلمي إمبراطوريته.
84
والويل كل الويل إذا فوجئ البطريرك وهو يتخاطب رأسا مع الحبشة دون تصريح من السلطات الشرعية، «وفي يوم الاثنين، العشرين من شهر جمادى الأولى، عقد مجلس بين يدي السلطان بالقضاة الأربعة وغيرهم، منهم الشيخ بدر الدين العيني، نسيب بطريرك النصارى اليعاقبة، وكان السلطان غضب عليه بحيث ضربه وحبسه في المقشرة، وأخذ منه شيئا كثيرا، فأمر بكتابة إشهاد عليه أنه لا يكتب إلى ملك الحبشة بنفسه ولا بوكيله، لا ظاهرا ولا باطنا، ولا يولي أحدا في بلاد الحبشة لا قسيسا ولا أعلى منه ولا دونه إلا بإذن من السلطان ووقوفه على كتابته، وأنه متى خالف ذلك انتقض عهده وضربت عنقه، وحكم قاضي المالكية بذلك ونفذ بقية القضاة، ثم قرئ الأشهاد بين يدي السلطان والجماعة ورسم بكتابة خمس نسخ منه ليكون عنده وعند كل من القضاة الأربعة نسخة وانفض المجلس على ذلك.».
85
غير أن البطريرك لم يكن هدفا لمثل هذه العقوبات الصارمة إلا نادرا، وكان السلطان جقمق على حق من شكواه من الأحباش؛ إذ وصله من النجاشي في ذلك الحين خطاب فيه عتاب شديد اللهجة، بل إنذار على موقفه من الأقباط، وقد تسلم هذا الخطاب عام 847ه «1443م» من وفد كان يحمل إليه هدايا، وكان أحد رئيسي الوفد مسلما يدعى عبد الرحمن ويحترف التجارة، وقد تضمنت هذه الرسالة فيما تضمنت، بعد عبارات الإكبار والإجلال المتبعة: «في أيام الظاهر برقوق ونجله الناصر فرج الدين كانا قائمين بالعدل خصوصا بإخواننا النصارى ... وقد بلغنا الآن أن هذه القواعد قد تغيرت من قبل قوم كانوا عن طريق العدل حائدين وفي طريق الظلم خائضين، والآن إذا مات أحد من إخواننا النصارى، لا يدفن إلا بعد مشقة كبيرة لأهله وأقاربه، ويؤخذ منهم ما لم تجر به عادة في أيام الملوك السالفة، والله تعالى لم يعذب أحدا من خلقه بقطع الرزق ... ثم بلغنا أن ثم من يتعرض إليهم في كنائسهم في أوقات صلاتهم وفي أيام أعيادهم بقطع مصانعاتهم وأخذ ما لا يستحقون أخذه، وإنهم في غاية الضيق في ذلك ... وأبونا البطريرك وإخواننا النصارى الذين هم الآن تحت عز سلطانكم ومملكتكم الشريفة نفر قليل جدا، ضعفاء الحال، مساكين في كل الجهات ... وأنتم حفظكم الله ليس يخفى عليكم ما في بلادنا الواسعة من المسلمين تحت حكمنا، ونحن لهم ولملوكهم مالكون ولم نزل نحسن إليهم في كل وقت وحين ... وملوكهم عندنا بالتيجان الذهب، راكبون الخيول المسومة ولا نأخذ منهم جزية ولا شيئا قليلا ولا كثيرا ... وإن كنتم في شك من ذلك، فاسألوا التجار والمترددين إلى بلادنا ليخبروكم بذلك بالحق والصدق ... وليس يخفى عليكم ولا على سلطانكم أن بحر النيل ينجر إليكم من بلادنا ولنا الاستطاعة على أن نمنع الزيادة التي تروي بها بلادكم عن المشي إليكم، ولا يمنعنا عن ذلك إلا تقوى الله تعالى والمشقة على عباد الله ... وما قصدنا بهذا إلا أن يكون بيننا وبينكم الصلح كما كان بين الملوك السالفين.»
86
ثم طلب النجاشي من السلطان إبراز أوامره لإعادة بناء الأديرة والكنائس التي هدمت، وأن يأمر ألا يقول أحد للنصارى: يا كلب.
87
وها هو ذا النجاشي يبعث بتهديداته مرة أخرى لمصر وها هو ذا السلطان وقد اعتراه الخوف، ثم حاول دحض ادعاءات النجاشي غير أنه أرسل له وفدا يحمل الهدايا، وقد حجز النجاشي هذا الوفد حتى يشاهد بنفسه كيف ينتقم الأحباش من المسلمين، كما دعاه إلى رؤية إحدى الجثث.
ولكن هذا الاقتصاص من أناس لا ذنب لهم زاد من غضب السلطان، وقد استطاع أحد الأباطرة الأحباش، واسمه سيف الأرعد، في أثناء حكمه؛ أي: فيما بين عام 1342م وعام 1370م، أن يجعل السلطات المصرية تفرج عن البطريرك مرقس بعد أن زجته في السجن، وذلك بدون أن يلجأ إلى سلاح التهديد، وكانت العلاقات التجارية بين مصر والحبشة وقتئذ مزدهرة سواء عن طريق البر أو البحر، ولما كان يتعذر على سيف الأرعد أن يقدم مساعدة مباشرة إلى البطريرك، فقد ألقى القبض على جميع التجار القادمين من القاهرة، ثم أرسل فرسانه ليبثوا الرعب بين القوافل وليعوقوا سيرها، وكتب الرحالة «بروس»
Bruce
في هذا الشأن: «ولما كانت أسباب هذه الأمور غير خافية، وكان البطريرك قد ألقي في السجن لابتزاز المال منه، اتهم سكان مصر السلطان بالظلم واضطر السلطان أن يفرج عن البطريرك بشرط أن يعيد السلام بين سيف الأرعد ومصر، وتحقق ذلك بسرعة.».
88
وعلى إثر توسع الإمبراطورية المصرية في السودان وتوطيد أركانها في عهد محمد علي وسعيد باشا والخديو إسماعيل حدثت عدة احتكاكات كانت سببا في نشوب الحرب بين الإمبراطوريتين، وكانت دوافع هذه الحروب سياسية بحتة، فلا دخل لها في موضوعنا ، ولكن يجدر بنا أن نذكر هنا عملا مشرفا قام به البطريرك اليعقوبي، فقد وفق مرة أخرى إلى منع نشوب الحرب بين مصر والحبشة في عهد سعيد.
تلك هي أبرز ما في العلاقات بين المسيحيين اليعاقبة والأحباش.
وكان يعيش إلى جانب اليعاقبة طائفة الملكيين، وقد أخذ نفوذها يتضاءل بسرعة تفوق سرعة تضاؤل نفوذ اليعاقبة، ولكنها استطاعت في عهد السلاطين المماليك أن تلفت نظر أوروبا إليها، فنرى من المناسب أن نذكر شيئا عنها.
وإذا قرأنا بعناية الحوادث المتعلقة بالكنيسة المصرية، لاحظنا أن السلاطين المماليك، ومن بعدهم الولاة العثمانيين كانوا يعاملون الملكيين معاملة خاصة وسبب ذلك يرجع خصوصا إلى العوامل الاقتصادية.
وسعت الحروب الصليبية الهوة بين الإسلام والمسيحية، غير أنها وطدت العلاقات السياسية والاقتصادية بين الشرق والغرب، وأكثرت المعاملات التجارية في حوض البحر الأبيض المتوسط، وكانت الامتيازات التي حصلت عليها جمهوريتا البندقية وجنوة من مصر تدل على مدى اهتمام السلاطين المماليك ومن بعدهم الباشوات الأتراك بإيجاد مصدر كسب ذي أهمية لبلادهم وبالتالي لأنفسهم، ومن جهة أخرى، اتحدت إسبانيا الكاثوليكية على أنقاض الإمبراطورية العربية في الغرب فاتسع سلطانها وزادت ثروتها، بينما كانت فرنسا تلعب دور حامية الكاثوليكية في الشرق.
وإن لم يستطع الكنيسة الكاثوليكية، بعد هزيمة لويس التاسع في المنصورة وتونس، أن يؤلف جيشا جديدا من الصليبيين، فإن نفوذه ظل قويا وكلمته مسموعة في أوروبا، ألم يطع أمره عندما هدد بالحرمان كل من يبيع أسلحة للدول الإسلامية؟ ألم يمل شروطه على البيزنطيين المنشقين عن روما في مجمع فلورنسا عام 1429 عندما طلبوا من ملوك الغرب مساعدتهم العسكرية ضد الأتراك؟ وكذلك رأينا البابا، بصفته حامي الكاثوليك في العالم، يهتم بمصير الملكيين المصريين، وقد أدى تدخله إلى نتائج محسوسة، لا سيما بعد الحوادث التي وقعت في عهد الناصر محمد بن قلاوون، وقبل هذه الحوادث، عندما زار القاهرة وزير المغرب وأغلقت كنائس العاصمة، استغل الملكيون هذا الإجراء للفت نظر الدول الغربية إليهم، وبينوا للحكام المصريين أن قرارهم هذا كان يتنافى مع الحكمة، ويقول المفضل بن أبي الفضائل «إن الأشكري» «عاهل القسطنطينية» سأل أجراء أهل الذمة بالديار المصرية على عادتهم وفتح كنائسهم، ففتحت ورسم لهم بالاستواء في الركوب، وكانوا قبل ذلك يركبون عرضا من جهة واحدة.
89
ويضيف المقريزي إلى ما تقدم أنه في عام 703ه «1303-1304م» أرسل ملك برشلونة وفدا حمله بالهدايا الثمينة لجميع كبار الموظفين وطلب فتح الكنائس، فوافقت السلطات على فتح كنيسة اليعاقبة بحارة زويلة وكنيسة البنادقة.
90
ثم تدخل البابا شخصيا بعد حوادث عام 721ه «1328م» الأليمة، وقدمت بعثة بابوية تحمل رسالة من البابا يطلب فيها جماعة الحكومة للنصارى، وقد صرح البابا بالنيابة عن العالم الكاثوليكي بأن الفرنج سيعاملون المسلمين الموجودين في بلدهم بنفس الطريقة التي سيعامل بها النصارى في مصر وسوريا.
وسنكتفي بهذه الأمثلة الثلاثة؛ إذ إنها توضح لنا كيف فقد اليعاقبة، الذين كانوا في عزلة تامة، الأمل في أن تساعدهم الحبشة بطريقة إيجابية، وكيف حولوا أنظارهم نحو أوروبا بعد أن لمسوا أثر تدخلها لصالح الملكيين، ونتساءل مرة أخرى إذا كان الأقباط لم يكونوا مدفوعين بعامل اليأس «الأدبي والمادي» عندما طلبوا الاشتراك في مجمع فلورنسا والانضمام إلى الكنيسة الكاثوليكية. (7) العدالة الإسلامية إزاء الأقباط
المعلومات التي لدينا عن العدالة عند العرب بالنسبة للأقباط قليلة؛ لأن التاريخ لم يسجل سوى بعض تفاصيل في هذا الموضوع، وعلى الرغم من أن العرب كانوا يميلون إلى التدخل في شئون الأقباط القضائية، كما لمحنا إلى ذلك عندما تكلمنا عن سياسة الغرب الاستعمارية، فقد تركوا إلى البطريرك سلطة واسعة نسبيا، وكتب علماء الحملة الفرنسية: «يصدر البطريرك حكمه في كل الخصومات التي تشجر بين رعاياه غير أن حكمه ليس نهائيا؛ إذ إن في استطاعة الخصمين - إذا اتفقا على ذلك - رفع أمرهما إلى القاضي الذي يثبت عادة حكم البطريرك ... ويقضي البطريرك أيضا في الجرائم الطفيفة ذات العقوبات التأديبية، وإذا اتهم قبطي مثلا بسرقة مسلم، فعلى الأخير أن يشكوه للبطريرك، وبالعكس إذا كان المسلم هو السارق، فعلى القبطي أن يشكوه أمام القاضي أو حاكم المدينة.».
91
بقي علينا أن نعرف على أي أساس كان البطريرك يصدر أحكامه ، هل كان هنا قانون؟ يقدم لنا سيزوستريس سيداروس باشا، الذي درس بالتفصيل نظام البطريركات، البيانات الآتية: «فيما يختص بالأقباط الأرثوذكس، كان البطريرك في القاهرة والمطارنة في الأقاليم مكلفين بالفصل في المنازعات التي تقوم بين رعاياهم، ولم تكن أحكامهم مقيدة بأية قاعدة، ولكن إذا اعتمدنا على بعض أجزاء من مستندات معظمها مجهولة اليوم، نميل إلى الاعتقاد بأنه كانت توجد بعض النصوص ترتكز عليها السلطات الدينية لإصدار أحكامها، كما أن هذه السلطات كانت تستشير أحيانا أعيان الطائفة قبل إصدار حكمها، ولم يكن هناك أي نص مكتوب يتعلق بتنفيذ الأحكام، فكان البطريرك أو المطارنة ينفذونها رأسا دون الالتجاء للسلطات المدنية، وكان ينتج من ذلك أن الأحكام لم تكن نافذة إلا باتفاق الطرفين المتخاصمين.».
92
ويظهر أنه لم يطرأ أي تغيير على هذا الوضع، غير أنه حدث في عام 1873، عندما توفي البطريرك ديميتويوس الثاني: «أن تشاور أعيان الأمة فيما بينهم وقرروا إعداد مشروع لإصلاح الكنيسة قبل انتخاب البطريرك الجديد ليصدق عليه حسب قوانين الكنيسة التي جمعها ابن العسال في القرن الثالث عشر، وكانت هذه القوانين تنص على أن البطريرك يجب أن يستشير ذوي العلم والتقوى من القساوسة والعلمانيين، وخصوصا الأشخاص الذين لهم علاقة بصاحب العرش، قبل البت في المسائل المهمة، وعلى هذا الأساس كون مجلس أقره الخديو بالمرسوم رقم 17 بتاريخ 6 فبراير سنة 1874م.».
93
ويتضح من ذلك أن الأعيان كانوا يعترفون ضمنا بأن الحالة ليست على ما يرام، وأن الأمة القبطية في حاجة إلى اقتفاء أثر حركة التقدم التي قامت بها الأسرة المالكة، وكان الغرض من هذا العمل أيضا الحد من اختصاصات البطريرك لمصلحة العلمانيين، فليس عجيبا إذا أن نرى البطريرك كيرلس الخامس يحاول تعطل هذا المرسوم.
وقد أنشأ القانون الحديث بجانب المحاكم الأهلية مجالس ملية لكل طائفة مسيحية يختص بالفصل في قضايا الأحوال الشخصية.
هل كان الأقباط متساوين بالمسلمين أمام القانون؟ من المرجح أن العدالة في أوائل الفتح العربي لم تشبها أية شائبة، وكانت تبحث شكاوى الأقباط بدقة وعناية، ويذكر التاريخ قصة جنود جيش الاحتلال العربي، الذين ادعوا أحقيتهم في تحصيل أموال من بعض القرى المسيحية، فطلب الوالي قرة بن شريك إلى رئيس المديرية أن يقوم بالتحقيق في مكان الحادث، أن يرسل إليه تقريره ليبت في أمر هذا الخلاف على ضوء المعلومات الأكيدة.
94
ولما كانت القضايا تنظر في المساجد، لم يكن يسمح للنصارى واليهود بدخولها، ويذكر لنا الكندي أن القاضي خير بن نعيم كان يفصل في قضايا المسلمين داخل المسجد، ثم يجلس على الباب الخارجي ليفصل في قضايا أهل الذمة.
95
وبعد مدة؛ أي: في عام 177-184ه «793-800م» سمح القاضي محمد بن قصرون بدخول النصارى، إلا أن هذا الإجراء كان يعتبر استثنائيا.
96
ومن ناحية أخرى، لم يستطع أي مسيحي أن يدلي بشهادته إذا كان أحد طرفي القضية مسلما، وكان القاضي خير بن نعيم يسمح بأن يشهد المسيحي للمسيحي واليهودي لليهودي،
97
وقد ظل هذا النظام معمولا به إلى القرن التاسع عشر، ويقص علينا كلوت بك في مذكراته
98
أنه تعرض لاعتداء أحد الطلبة، فتألفت محكمة برئاسة ناظر الحربية لمعاقبة المعتدي، وقد استمعت المحكمة إلى أقوال الطالب وزملائه ولكنها رفضت سماع رواية كلوت بك؛ لأنه مسيحيا ولا يستطيع أن يشهد ضد مسلم.
99 (8) اضمحلال اللغة القبطية
إن تاريخ اللغة القبطية ما هو إلا صورة لتاريخ الأقباط أنفسهم، احتفظ الشعب القبطي بلغته في أثناء الحكم اليوناني الروماني وتجاهل لغة المحتل، ولكنه اهتم منذ الساعات الأولى من احتلال العرب لمصر بدراسة اللغة العربية، نعم أنه درسها بدافع المصلحة الشخصية بدليل أنه عندما كان يترك المحتل العربي الإدارة بين أيدي سكان البلاد الأصليين الذين خدموا الحكومة البيزنطية لم يفكر قط هؤلاء الموظفون بدراسة لغة القرآن، بل اهتموا بإبعاد الكلمات اليونانية من لغتهم، فاختفت الأسماء اليونانية للأماكن، ومراكز المديريات «فيما عدا الأماكن التي أسسها اليونانيون»، وحلت محلها أسماء قبطية قديمة، ثم كان الكتاب المقدس يقرأ باللغة اليونانية ويشرح باللغة القبطية، ولما هزم اليونانيون لم يعد يقرأ إلا باللغة القبطية فقط، وأصبحت الكتابة بالقبطية بعد أن ظلت باليونانية حتى القرن السادس، وكذلك أخذت اللغة القبطية تتقدم وتزدهر.
ولكن هذا التقدم كان ظاهريا، والواقع أن انشقاق كالسيدونيا قد ألغى الأسباب التي أدت إلى نهوض اللغة القبطية، ونلاحظ فعلا أن اللغة القبطية وآدابها ازدهرت ازدهارا عظيما فيما بين مجمعين نيقيا وكالسيدونيا؛ أي: فيما بين القرنين الرابع والخامس، ولكن لم تلبث العبقرية أن خمدت جذوتها فلم تنتج مؤلفات جديدة، وظلت اللغة اليونانية اللغة الرسمية التي كان يتعلمها الأقباط الطموحون، وظلت أيضا لغة الدين والتعليم والتجارة، وكان المصري يستطيع أن يجهل اللغة القبطية دون اليونانية.
نعم إن طبقة الفلاحين العديدة ظلت تتكلم القبطية، كما اضطرت المسيحية أن تستخدم هذه اللغة لتنشر تعاليمها بينهم، ولكن لما فقدت اللغة القبطية ميزتها كلغة الثقافة، لجأت إلى اليونانية واستعارت عددا كبيرا من المصطلحات التي احتفظت بها حتى الآن، وفضلا عن ذلك، لم تكن اللغة القبطية في يوم من الأيام لغة الإدارة والمصالح، فالموظفون الذين حلوا محل اليونانيين بعد دخول العرب، كانوا يكتبون باليونانية على الرغم من كونهم أقباطا، وعندما أمر عبد الله بن عبد الملك في عام 87ه «706م»، أن تكون اللغة العربية لغة الدواوين، لم يحتج الأقباط على ذلك، بل أسرعوا إلى تعلم لغة المنتصرين.
وما من شك أن هذا الأمر أقلق الموظفين الذين كانوا يعملون باللغة اليونانية ولكن نعرف اليوم، بفضل أوراق البردي التي اكتشفت حديثا، أن الحاكم العربي عجز عن تطبيق هذا الأمر إثر إصداره؛ إذ وجدنا أوراقا مكتوبة كلها باليونانية حتى عام 164ه «780م» بينما وجدنا أوراقا محررة باليونانية والعربية في آن واحد.
لهذا السبب قد يصعب علينا أن نعرف تفاصيل تطور اللغة القبطية عن طريق المستندات الرسمية، ويجب أن نرجع إلى الوثائق الشخصية للوصول إلى معرفة حياة هذه اللغة واضمحلالها التدريجي. (8-1) لماذا اتجهت اللغة القبطية إلى طريق الزوال؟
كانت مصر في القرن السابع الميلادي تتكلم اللغة القبطية، وما حل القرن الثاني عشر حتى أصبحت كلها تتحدث باللغة العربية، فاستطاع العرب أن يجعلوا رعاياهم يهملون لغتهم القديمة ويستعملون بدلها لغة أخرى، الأمر الذي عجز عن تحقيقه من قبلهم اليونانيون والرومانيون ومن بعدهم الأتراك.
100
وهناك عاملان أساسيان عجلا بزوال اللغة القبطية من الحياة العامة، أولهما: إسراع الموظفين النصارى إلى تعلم اللغة العربية لكي يحتفظوا بوظائفهم، وثانيهما: ازدياد عدد الذين احتضنوا الإسلام وتركوا حال دخولهم الدين الجديد، لغة أجدادهم.
وقد عجلت أسباب أخرى زوال اللغة القبطية، ذلك أن العرب لم يكتفوا بفتح مصر بل أرادوا احتلالها واستعمارها، فامتزج المستعمرون بالأسر المصرية وشجعوا هذه الأسر على التكلم بلغتهم، أضف إلى ذلك أن اعتناق الإسلام يحتم دراسة القرآن وبالتالي اللغة العربية، ثم أخذ عدد رجال الدين الذين حافظوا على التقاليد واللغة يتضاءل بسرعة، أما الأديرة التي ازدهرت في أوائل الفتح، فما لبثت أن هجرها الرهبان حين بدأت السلطات تفرض الضرائب على نزلائها، وبعد فترة قصيرة، تعلم القساوسة اللغة العربية حتى يستطيع أن يفهم رعاياهم تعاليمهم، ولما كان مستواهم العقلي آخذ في الهبوط، فقد تركوا دراسة القبطية عندما اقتنعوا بعدم فائدتها العملية. (8-2) مراحل اضمحلال اللغة
حدث اضمحلال اللغة القبطية بالتدريج، «لقد كبتت اللغة العربية اللغة القبطية رويدا رويدا مثل النبات الذي حرم من الماء والشمس في ظل شجرة كبيرة، لقد ظلت اللغة القبطية على قيد الحياة من القرن العاشر الميلادي، بل ازدهرت في الأديرة، ولكنها، منذ القرن الحادي عشر، حرمت من العناية فذبلت بسرعة حتى إذا جاء القرن الثاني عشر كادت تلفظ أنفاسها.».
101
وهذه بعض الحوادث التي تؤيد ما نقوله، ففي إحدى المنازعات التي شجرت في عام 132ه «750م» بين الملكيين واليعاقبة بشأن ملكية بعض الكنائس، كتب البطريرك ميخائيل الأول إلى السلطات التماسا باللغة القبطية، ولكنه أرفق ترجمة عربية بالنص القبطي عملا بمشورة بعض المطارنة،
102
ويقص علينا الشماس يوحنا، الذي سرد حياة البطريرك ميخائيل، أنه بينما كان موسى مطران أوسيم، في طريقه للمثول بين يدي الخليفة مروان الذي لجأ إلى مصر في عام 132ه «750م»، ألقاه الجند أرضا وأخذوا يضربونه على عنقه وعلى أضلاعه بقطع نحاسية ويقولون له: «قدم لنا بعض العطايا لنتركك.»، ويضيف المؤرخ «أن المطران لم يجبهم بكلمة واحدة؛ لأنه لم يكن يفهم لغتهم، وكنت مضطرا أن أترجم له كل كلمة يفوهوا بها.».
103
وخلاصة القول، لم يكن إقبال الرهبان على تعلم اللغة العربية بأقل من إقبال العلمانيين؛ بدليل أنه لم يمض على الفتح قرن من الزمن حتى اضطر بعضهم أن يلجئوا إلى المترجمين لقراءة النصوص القبطية، وكثر عدد الرهبان في القرن العاشر بدليل أنه عندما كان أحد المسلمين يريد اعتناق المسيحية، درس تعاليمها على يد قسيس كان يشرح له بالعربية النصوص القبطية للكتب المقدسة.
على أن صغار رجال الإكليروس هم الذين تسرعوا بدراسة اللغة العربية وإهمال اللغة القبطية، أما كبار رجال الدين، من مطارنة وبطاركة، فأهملوا مدة طويلة تعلم اللغة العربية، وقد وجدنا بطريركا كان يجهل اللغتين العربية والقبطية، وهذا البطريرك اسمه ميخائيل الخامس، وقد عاش في منتصف القرن الثاني عشر، غير أن رجال الإكليروس عموما استعملوا اللغة العربية منذ بداية القرن العاشر لكي يفهمهم رعاياهم، ونعرف الجملة الشهيرة التي قدم بها ساويرس بن المقفع تاريخه البطاركة: «استعنت بمن أعلم استحقاقهم من الأخوة المسيحيين وسألتهم مساعدتي على نقل ما وجدناه منها «الأخبار» بالقلم القبطي واليوناني إلى القلم العربي الذي هو اليوم معروف عند أهل الزمان بأقاليم ديار مصر لعدم اللسان القبطي واليوناني من أكثرهم.»، وقد سبقه سعيد بن بطريق في هذا المضمار، وكتب الأقباط فيما بعد تاريخهم بل مقالاتهم الدينية باللغة العربية، وكان أشهر كتاب الطائفة أمثال أبي شاكر بطرس بن الراهب ومكين وأبي الفضائل إلخ ... يجهلون القبطية.
ولم يلبث أن ولي بطاركة اليعاقبة اللغة العربية بعناية خاصة، وكتب ميخائيل السوري، عن جبرائيل الثاني «1131-1146م» «أنه كان بارعا باللغة العربية وخطها، ولما رأى أن الشعب المصري يتكلم اللغة العربية ويكتب بها، نظرا لطول عهد السيادة العربية، اهتم بترجمة التوراة والإنجيل إلى العربية، وكذلك بقية كتب الطقوس الدينية الأخرى ليستطيع المؤمنون؛ أي: الشعب بأكمله، أن يفهم هذه الكتب.».
104
أما نشاط اللغويين الأقباط أمثال إخوة العسال وأبي البركات بن كبر، فيمكننا تفسيره لا برغبتهم في تيسير تعلم الشعب اللغة العربية، بل لجعله يفهم لغة القداس وطقوس العقيدة، وإذا كانت الصلوات تتلى دائما باللغة القبطية، فإن الدروس الدينية كانت تشرح بالعربية.
ويقول المقدسي: إن نصارى مصر لم يزالوا يتكلمون اللغة القبطية حتى عام 325ه «985م»
105
أما المستشرق «كاترمير»، فيقول: إن الأسر الراقية كانت تمتاز عن العامة بمعرفتها اللغة القبطية «وإن هذه اللغة كانت منتشرة في مصر كاللغة اللاتينية في أوروبا.».
106
والواقع أننا لا نعرف بالدقة تاريخ زوالها، لقد حددنا القرن الثاني عشر الميلادي؛ أي: بعد سقوط الدولة الفاطمية، ولكنا نعتقد أنها ظلت مزدهرة في صعيد مصر مدة أطول، ويذكر أبو صالح الأرمني عادة كانت متبعة في مدينة إسنا، وهي أن نصارى هذه المنطقة كانوا يحضرون حفلات وأفراح المسلمين ويطوفون في الطرقات والميادين أمام العريس وهم يهتفون بعبارات قبطية صعيدية.
107
وكان يندر أن يصادف في القرنين السابع عشر والثامن عشر شخص يتكلم القبطية، مما جعل عددا من الرحالة يؤكدون أنهم قابلوا آخر شخص يتحدث بهذه اللغة، ويقول: «فانسليب»،
108
عن قبطي يدعى المعلم انسطاس إنه «الرجل الوحيد في مصر العليا الذي كان يعرف لغة أمته؛ أي: القبطية.»، ويضيف إلى ذلك أنه لا يستفيد من معلوماته كثيرا؛ لأنه كان شيخا أصم يناهز الثمانين، ومع ذلك فقد متع نظره بمشاهدة الرجل الذي ستموت معه اللغة القبطية تماما، غير أن القنصل «دي ماييه» كتب بعد «فانسليب» أن الناس في بعض نواحي الصعيد ما زالوا يتكلمون باللغة القبطية بينما يدعي الرحالة «فورسكال»
Forskal
أنه تعرف على قبطي اسمه إبراهيم أناش ومتفقه باللغة القبطية.
109
وعلى أي حال، إذا كان يوجد في بعض قرى الصعيد النائية، حتى القرن الثامن عشر، من يتكلم اللغة القديمة، فإنه لم يعد أحد يفهم ما في الكتب ولا من يؤلفها،
110
ويحكى أن في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، استقبل البابا ليون الثالث عشر الوزير القبطي بطرس باشا غالي ووجه له بعض الأسئلة باللغة القبطية، فاضطر بطرس باشا أن يعترف بجهله لهذه اللغة، ولما عاد إلى مصر أراد أن يتعلم لغة أجداده. (8-3) قيمة المؤلفات القبطية من الوجهة الأدبية
مر الأقباط بفترة انتقال طويلة لم يحسنوا فيها التكلم والكتابة باللغة العربية ولا القبطية، وليس لدينا من المؤهلات التي تسمح لنا بتقدير المؤلفات القبطية خلال الحكم الإسلامي، ولكن «أميلينو» الذي كان مترجما ماهرا قارن بين وثيقتين، كتبت الأولى في ولاية عبد العزيز بن مروان، والثانية في القرن الثالث عشر الميلادي، في عصر الملك الكامل، ويقول «أميلينو»: «لغة الوثيقة الأولى لغة العصور المزدهرة وليس فيها ما يشعر بالاضمحلال، وتدل الوثيقة الثانية على أن اللغة القبطية قد أصابها بعض الفساد، وأصبحت خشنة عما كانت، ثم أدخلت فيها كلمات عربية، ولما كان المؤلف يخطئ غالبا في نقلها، جعل فهمها من الأمور الصعبة.».
111
أما عن اللغة العربية، فنستطيع أن نبدي نفس الملاحظات مع عكس الآية، فتاريخ البطاركة لساويرس بن المقفع مكتوب بلغة عربية ركيكة، وأخطاء أسلوب كثيرة وتركيب جملها ضعيف، وبمضي الزمن، تحسنت اللغة وأصبحت أقوى مما كانت عليه على الرغم من الأخطاء النحوية التي اعتقد ناشرو المخطوطات المسيحية بوجوب تركها سواء ارتكبها المؤلف عند كتابتها أو ارتكبها الخطاط عند نقلها. (8-4) مدارس الأقباط ودراسة اللغة القبطية
لم يترك لنا التاريخ شيئا يذكر عن نظام المدارس القبطية، وكل ما نعرفه على وجه التحقيق أن هذه المدارس كانت موجودة في مختلف العصور، ولكنا نجهل، حتى القرن التاسع عشر، نوع التعليم الذي كانت تقدمه هذه المدارس، ويقول لنا «دور بك» عن المدارس القبطية في عصر إسماعيل: «كثيرا ما اضطرت الكتاتيب القبطية أن تنزوي في الحارات وأن تختفي عن الأنظار بإقامتها داخل المنازل، واليوم، على الرغم من أن عصور الاضطهاد قد بعدت، نجد دائما المدارس القبطية منزوية في الطرق الضيقة التي تشق الأحياء المتوسطة بين طرق المواصلات الرئيسية ... ولا تلعب اللغة القبطية الدور الأول في المدرسة، ويكتفي المعلم بتلقين عدد من الأطفال الكتابة القبطية وبعض الصلوات والترانيم الدينية؛ لأنه لا يعرف شخصيا أكثر من ذلك، وهكذا يضيع معلم المدرسة وقتا ثمينا بدون فائدة تجنيها عقول هؤلاء الصغار، وأساس التعليم كله القراءة والكتابة العربية.».
112 (8-5) العرب واللغة القبطية
من الطبيعي أن يأمر العرب باكرا باستعمال لغتهم في الأعمال الرسمية، ولا نستطيع أن نقول إنهم أرادوا إبطال استعمال اللغة القبطية في مصر فيما عدا الحاكم بأمر الله الذي يقال عنه إنه أمر خلال اضطهاده النصارى بمنع استعمال هذه اللغة.
113
غير أن الفاتح كان يريد أن يحاط علما بما يقال في البلاد وبخاصة في محيط البطريرك؛ لذا نراهم يهتمون بترجمة الصلوات والدروس القبطية ليتأكدوا من خلوها من القذف بالإسلام، وقد سنحت له فرصة التدخل في الأمر، ولكن ليشجعوا الأقباط على الاستمرار في التعليم بلغتهم وليمنعوهم من دراسة اللغة العربية، وذلك عندما لاحظوا حماسهم الشديد لها احتفاظا بوظائفهم.
ويقول لنا المقريزي: إن بعض الطلبة المسلمين كانوا يتعلمون في المدارس القبطية ليدرسوا فيها الطب والرياضة، ولكن هذه وقائع حدثت في القرنين الثالث عشر والرابع عشر؛ أي: في الوقت الذي دعم فيه استعمال العربية، وذهب الأقباط إلى حد دراسة القرآن ليعتنقوا لغة أسيادهم.
114
هوامش
خاتمة
استعرضنا الحوادث التاريخية خلال ثلاثة عشر قرنا، ولكن استخلاص النتائج عملا سابقا لأوانه بالنسبة للمعلومات التي لدينا.
نلاحظ أولا أن الأقباط، لم يعرفوا شيئا عن العرب عند دخول العرب مصر، وقد استقبلوهم كمحررين بعد أن ضمن لهم العرب الحرية الدينية وخففوا عنهم الضرائب، وعندما اضطر العرب أن يجاوزوا الضرائب المعمول بها لشدة حاجتهم إلى المال، لم يتردد الأقباط في أن يظهروا خيبة أملهم، وكان في استطاعة العرب أن يحتفظوا بإخلاص الأقباط أو عدم إثارتهم إذا ما أضيفوا إلى قائمة ضرائبهم أسماء الرهبان - وكان عددهم بضعة آلاف - فاضطروهم - سواء عن دعوة أو هربا من دفع الضريبة - إلى أن يختبئوا في الأديرة، لقد خسر العرب، طمعا في بعضة دنانير يزيدون بها دخلهم، عطف الذين كانوا يؤلفون في ذلك الوقت نخبة الأمة القبطية ويؤثرون في سلوك أهل البلاد، مع أن عمرو بن العاص استطاع، نظير إعفاء رجال الإكليروس من دفع الضرائب، أن يحبط محاولة القائد البيزنطي، مانويل، غزو مصر، وذلك بدون أن يحمي مؤخرة جيوشه، في حين أن الأمويين الذين فرضوا الضرائب على الرهبان ، رأوا الأقباط ينضمون إلى العباسيين.
هل كان العرب متسامحين مع الأقباط؟ من المؤكد أن العرب لم يهتموا بالمنازعات الدينية القائمة في مصر المسيحية، وعندما لاحظوا أن اليعاقبة هم الأغلبية في البلاد، لم يترددوا في نصرتهم على الملكيين ومنحهم كل ما يرغبون على حساب أعدائهم، ومع ذلك لم يرفضوا أبدا الخدمات التي كان يعرضها عليهم الملكيون إذا رأوا فيها نفعا مباشرا يعود عليهم.
وعلى كل، فإن العرب بمرور الزمن ازدادوا مادية وانحرفوا عن مبادئهم، وقد حالت فتوحاتهم الواسعة دون تطبيقهم القانون بحذافيره، ذلك القانون الذي لم يكن يواجه التوسع الذي وصل إليه العرب ... لقد استطاع الإسلام أن يعيش قرنا ونصف قرن دون أن يخالف تعاليم الشريعة فيما يختص بجباية الضرائب، ولكنه لم يلبث أن اضطر إلى الدفاع عن إمبراطوريته المهددة من الخارج وعن الدسائس والثورات في الداخل، ومواجهة بذخ بلاط الخليفة في دمشق أولا، حيث حذا الأمويون حذو البيزنطيين، وفي بغداد ثانية حيث قلد العباسيون الفرس فليس غريبا أن يخرق الحكام أوامر النبي غير نادمين، فإنهم إذا اكتفوا بالضرائب التي فرضها القرآن، عرضوا الخزانة للإفلاس، وإذا استغنوا عن معاونة الموظفين النصارى، عرضوا الإدارة للفوضى؛ ذلك لأن العرب في أول الأمر كانوا غير مستعدين لمثل هذا العمل، بل كانوا يهتمون بصناعة الحرب أكثر من اهتمامهم بأعمال الدواوين، أضف إلى ذلك أن الأقباط في مصر استفادوا بوجه خاص من سياسة عمرو بن العاص الشخصية.
وقد يقال لنا: إن المصريين كانوا يعتنقون الإسلام، فلماذا كان العرب يستعينون بالنصارى حتى عندما كان النصارى لا يمثلون إلا أقلية صغيرة في البلاد؟ يجب أن نذكر أن الذين حكموا مصر منذ الفتح العربي لم يكونوا مصريين، بل عربا أرسلوهم الخلفاء ليحكوا مصر باسمهم، أما الطولونيون والإخشيديون والفاطميون والأيوبيون، فقد أتوا من آسيا أو من إفريقيا الشمالية، وكان السلاطين المماليك أرقاء من الجركس وغيرهم في حين أن الحكام الأتراك لم يهتموا بالشعب على الإطلاق.
وأول من اتبع سياسة وطنية حقة هو محمد علي الكبير، أما الحكام السابقون له، فكانوا يعاملون جميع المصريين بدون تفرقة ويكتفون أحيانا بإلقاء جزء كبير من الحمل المالي على كاهل الأقباط، ولكن الأقباط كانوا يحتفظون بأسرار المساحة وبفن تحصيل الضرائب ومسك الدفاتر، وبلغ بهم الأمر أن كونوا نقابة من المحاسبين، وكان الناس يحتقرونهم، ولكن لم يستطيعوا الاستغناء عنهم فاضطر الحكام إلى طلب معاونتهم.
زد على ذلك أن العرب كانوا يفتخرون بتفوقهم الجنسي ويتحمسون لدينهم الجديد، ويعتقدون أنهم إذا ماتوا في سبيل قضيتهم المقدسة اكتسبوا في الآخرة مكانا ملحوظا، وإذا خرجوا سالمين من المعركة، كان من حقهم أن يقتسموا أراضي العدو وأملاكه، ولذا لم يكن الفتح في نظر العرب سوى غارة من الغارات التي تشنها القبيلة، فإذا انتصرت تمتعت بالأسلاب ثم استأنفت غزواتها.
كان الجندي العربي يذهب إلى الحرب مدفوعا بهذه الروح، نعم إن أصحاب الشأن أبوا أن يقسموا الأراضي المفتوحة على المحاربين كما نصت الشريعة، ورغم ذلك ظلوا يحكمون البلاد كما لو كانوا غير باقين فيها، لم يناهضوا التعليم في مصر ولكنهم لم يؤسسوا مدرسة واحدة، ولم يحاولوا قط إعادة تنظيم الإدارة، بل تركوها على ما كانت عليه أيام البيزنطيين مع إدخال بعض التعديلات الشكلية.
ولما كان الخلفاء ينظرون إلى مصر كمركز لتموين إمبراطوريتهم، وافقت الدولة على صرف تكاليف إصلاح الطرق، ولكنها لم تذهب إلى أبعد من ذلك، فلم تشرف على تنفيذ هذا الإصلاح، وكان جل أمرهم أن تدفع مصر ما عليها من الضرائب، ويقول «جروهمان»: «كان الخلفاء والولاة لا يهتمون بالإدارة إلى حد أن وجد سجلا بأسماء دافعي الضرائب، من مسلمين ونصارى ، مكتوبا بكامله باللغة اليونانية وفي صفحته الأولى إشارة الصليب.».
1
وليس غريبا إذا أن يتضاءل الدخل وتفتقر مصر ماديا، ونذكر هنا بعض الأرقام التي جمعها الأمير عمر طوسون: بلغ مجموع الخراج والجزية عشرين مليونا عند دخول العرب مصر، حسب ما جاء على لسان الرواة العرب، وقد خفضه عمرو إلى أثني عشر مليونا، ثم نجح عبد الله بن سعد في رفع هذا المبلغ أربعة عشر مليونا، ولكنه هبط إلى تسعة ملايين ثم إلى خمسة ملايين في أثناء الحرب الأهلية في خلافة معاوية، وزاد فقر مصر في عصر العباسيين حتى هبط الدخل في خلافة هارون الرشيد إلى أربعة ملايين دينار، واستقر حول هذا الرقم ورفعه ابن طولون إلى خمسة ملايين، وبلغ في عهد خمارويه أربعة ملايين، ومحمد الإخشيدي مليونين، وكافور ثلاثة ملايين ونصف، والمعز لدين الله أربعة ملايين، والعزيز ثلاثة ملايين، والحاكم ثلاثة ملايين وأربعمائة ألف، والمستنصر مليونين «بما في ذلك سوريا»، والمستعلي خمسة ملايين «نتيجة حكم بدر الجمالي والأفضل شاهنشاه»، والحافظ لدين الله مليونا ومائتي ألف، وصلاح الدين خمسة ملايين ونصف مليون، وبيبرس مليونين، وعندما وصل الفرنسيون مصر، كان يبلغ الدخل مليونا ونصف مليون دينار.
ومن البديهي أن هذه الأرقام لم تعبر تماما عن درجة ازدهار البلاد؛ ذلك لأن خفض الدخل كان يتأتى أحيانا عن تخفيف عبء الضرائب كما حدث على الأرجح في عهد ابن طولون ومحمد الإخشيدي والعزيز، ولكن هناك برهانا قاطعا على فقر البلاد، ألا وهو انكماش مساحة الأراضي المنزرعة، كان مساحتها في عهد عمر بن الخطاب ستة ملايين من الأفدنة، فصارت بعد انقضاء ثلاثة أرباع قرن؛ أي: في عهد هشام بن عبد الملك، ثلاثة ملايين من الأفدنة.
ولما كان الحكام في حاجة ملحة إلى المال، لم يترددوا في أن يلجئوا إلى وسائل غير شرعية، ولم يحاول ابن جبير، الذي عاصر الحروب الصليبية، أن يكتم غضبه عما كان يراه من إساءة في معاملة الحجاج ومنع الذين لا يستطيعون أداء ما عليهم من الضرائب من دخول الأراضي المقدسة، فكتب قائلا: «بيت الله الآن بأيدي أقوام قد اتخذوه معيشة حرام وجعلوه سببا إلى استلاب الأموال واستحقاقها من غير حل.»، ثم قال: «لا إسلام إلا ببلاد المغرب؛ لأنهم على جادة واضحة ... لا عدل ولا حق ولا دين في المشرق.».
2
وفي الواقع أن الاعتبارات الدينية تفقد من قيمتها بعد أن فترت حمية الشعوب الدينية، ألم نر ابن جبير يلوم مسلمي الشرق لتعاملهم مع النصارى في أثناء قيام الحروب الصليبة؟ ألم نر البابا يهدد أكثر من مرة التجار المسيحيين في أوروبا بالحرمان؛ لأنهم كانوا يوردون أسلحة للمسلمين في الأوقات العصيبة؟ ولم يخالف «هنري لامانس» الحقيقة عندما يحدثنا عن تفضيل سياسة المصالح عن سياسة الشعور، فيقول: «إن مصر، في نظر الأمويين، لها أهمية اقتصادية فقط، فهي تنتج الحبوب وتصنع أوراق البردي وتدفع الضرائب، وهذه الاعتبارات المادية وحدها جعلت الحكام في ذلك الوقت يهتمون بها.».
3
هذه الحقائق لا بد من معرفتها إذا أردنا أن نحدد درجة تسامح العرب مع الأقباط، ومن رأينا أن نواجه هذه المشكلة على الوجه الآتي: إذا لم يكن العرب في حاجة إلى مساعدة الأقباط، وإذا لم تدفعهم المصلحة العامة إلى مراعاتهم، هل كانوا يتبعون نحوهم سياسة التسامح؟ من الواضح أن النصراني لم يكن موضع اهتمام الحكام كفرد من أفراد المجتمع، ومع ذلك خرق الحكام الشريعة وخرقوا نصائح الفقهاء وأبقوه في وظيفته؛ لأنهم كانوا في حاجة إليه، ولم يتذكروا الشريعة والفقه إلا إذا أرادوا البطش بالأقباط، سواء كان الدافع ماليا أو سياسيا، بمحض إرادتهم أو بتأثير من الرأي العام، ألم يذكر لنا المقريزي، في حوادث عام 592ه «1196م»، أن وقف الحال فيما ينفق في دار السلطان، وفيما يصرف إلى عياله وفيما يقتاب به أولاده ... فاقتضى ذلك النظر في المكاسب الخبيثة وضمن باب المزر والخمر باثني ألف دينار، وفسح في إظهاره وبيعه في القاعات والحوانيت؛ ولم يقدر أحد على إنكار ذلك، وصار ما يؤخذ من هذا ينفق في طعام السلطان وما يحتاج إليه
4 ...
وما كان موقف الشعب الذي ظل على إيمانه العميق؟ في الواقع، لم يؤثر رأيه على مجرى الأحداث سوى مرة واحدة، في عهد السلطان محمد بن قلاوون؛ إذ أكره السلطان على اضطهاد النصارى.
ولما كان موقف الولاة يحكمون باسم الخلفاء، كانت مصلحة البلاد تأتي في الدرجة الثانية، وكانت جميع الوسائل مشروعة في نظرهم لابتزاز الأموال والإثراء، وعندما حكم هؤلاء باسمهم، اهتموا في الحال بمصلحة البلاد، وتغيرت الأوضاع وأصبح الحاكم أو الوالي يبذل كل جهده في سبيل تنمية ثروة البلاد والمحافظة على مصلحة الشعب والامتناع عن اتخاذ أي إجراء يعكر صفو السلام، ثم عندما كان يضاف إلى استعداد الحكام الطيب روح تسامح حقيقية، كما هو الحال عند محمد علي وخلفائه، اختفت في الحال الاعتبارات الدينية وحلت محلها الاعتبارات الوطنية الصرفة، وكان سواد الشعب يستوحي آخر الأمر شعور الحكام أنفسهم.
بقي علينا أن نحدد موقف الأقباط خلال هذه الفترة الدقيقة من التاريخ، نستطيع أن نقارن الأقباط بهؤلاء الشعوب الذين اعتقدوا في أيامنا هذه أنهم إذا ضحوا لمصلحة الفاتح باستقلالهم الكلي أو الجزئي، ضمنوا طمأنينتهم وأملاكهم، ولكن لم يلبث أن يضيق الخناق شيئا فشيئا إلى أن يفقدوا كل روح مقاومة، لذلك لم يثر الأقباط إلا إذا ثار مواطنوهم المسلمون، وسرعان ما كانوا يخضعون إذا ما ترك المسلمون القتال، ولا يجوز اعتبار ثورة البشموريين استثناء ذلك؛ لأن هؤلاء القوم من أصل يوناني، كما بيناه سالفا.
وقد امتاز العرب، سواء عن قصد أو عن غير قصد، بعدم تعجلهم للأمور، فقد ساعدت الشريعة الإسلامية الأقباط على دخولهم الإسلام وإدماجهم في المجموعة الإسلامية بفضل إعفائهم من الضرائب، أما الذين ظلوا مخلصين للمسيحية، فقد يسر لهم العرب سبل كسب العيش سواء عن ضعف أو عن عدم مبالاة؛ إذ وكلوا لهم أمر الإشراف على دخل الدولة.
وقد تمكن الأقباط، على الرغم من الاضطهادات العديدة التي تعرضوا لها، أن يعيدوا بسرعة تكوين ثروتهم، ونادرا ما كانوا يصرحون بعدم استطاعتهم دفع ضريبة استثنائية جديدة، من العجب حقا أن يكتشف الأمير صرغتميش، بعد اضطهاد الأقباط وفرض الضرائب عليهم، أنهم ما زالوا يملكون أكثر من خمسة وعشرين ألف فدان، فيبادر إلى مصادرتها بدون مبرر.
لذلك لم يتردد المستشرقون بيكر وفييت وغيرهما في أن يصرحوا بأن تاريخ كنيسة مصر تحت الحكم الإسلامي ما هو إلا تاريخ خلاف حول المسألة المالية، وأن حب المال كان دائما من أبرز خطايا الكنيسة القبطية. •••
والآن، وقد سردنا الحوادث بكل جرأة وبقصد خدمة الحقيقة وحدها، نتساءل كيف يبدو لنا تطور العلاقات بين المسلمين والأقباط في المستقبل، هل يجب أن ننظر إليه بعين التفاؤل أو بعين التشاؤم؟ هل يجب أن يحتمي القبطي بضمانات قانونية ليعيش بين الأغلبية؟
قد نجد أحسن رد على هذه الأسئلة في محاضر اللجنة التي كلفت بوضع مشروع دستور مصر المستقلة، ففي عام 1922، ارتفعت بعض الأصوات تطالب بالإبقاء على الأوضاع الخاصة التي تنص عليها لائحة عام 1913 السياسية، فقام أحد الأعضاء، وهو عبد الحميد بدوي باشا، القاضي في محكمة العدل الدولية في لاهاي في أيامنا هذه، وقال: لئن كانت الأقليات تذكر الماضي البعيد وما كان يقع عليها من المظالم والمغارم، فلقد كانت الأكثرية والأقلية تعيشان في ظل حكومة استبدادية تظلم فيها الأكثرية كما تظلم الأقلية، ولسنا نريد أو نفكر في نظامنا الحديث أن نحيي آثار التاريخ القديم.
إن الفارق الديني أخذ يضعف حتى عندنا، ولن يطول عليه الزمن حتى ينمحي في علاقاتنا الاجتماعية وتعفى تماما جميع آثاره ... فيجب ألا تستبقي شبح هذا الخلاف محسوسا، ماثلا للعيان.
هذه المسألة، أخشى منها كثيرا في عصر قلت فيه مظاهر التفرقة الدينية، وأصبح العامل الذي يربط بين الناس في حياتهم الاجتماعية هو عامل المصلحة المشتركة بغير نظر إلى مذهب ولا دين، وإني لأتمنى أن أرى اليوم الذي يجمع كل أسباب مرافقنا حتى في الزواج والطلاق وما إلى ذلك من أحوالنا الشخصية تحت نظام واحد بحيث نعيش جميعا في ظل حياة مدنية محكمة منظمة.
نريد سياسة قومية خالصة، لا تلتفت في طريقها النبيل إلى الأديان والمذاهب، ولكنها تتجه دائما إلى مصلحة الوطن.
إننا حقا نجتاز فترة انتقال في طريقها إلى الزوال، ويتعارض فيها تياران مختلفان: يريد بعض رجال الفكر - وقد استوحوا أحداث الماضي - اعتبار مصر كأنها لم تتطور، ويرى البعض الآخر أن المدينة الحديثة ستمحو كل أثر للماضي، ولذا لهم لم يعودوا يقبلون أن يحافظ قانون أو عرف على عقلية أصبحت في نظرهم قديمة.
لقد اختارت مصر الحديثة طريقها عندما وضعت دستور عام 1922، فلندعها إذا تواصل تجربتها الدقيقة، والنتائج التي سنشاهدها هي أفصح من التخمينات السابقة لأوانها.
هوامش
المراجع
لم نذكر تحت هذا العنوان إلا الكتب التي اطلعنا عليها واستقينا منها بعض المعلومات:
المصادر القديمة (1) المصادر الإسلامية
القرآن.
صحيح البخاري.
كتاب فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم، نشره تشارلس توري عام 1922.
كتاب فتوح البلدان للبلاذري، نشره دي جوييه عام 1866.
كتاب الولاة وكتاب القضاة للكندي، نشره ريفون جيست عام 1912.
تاريخ الطبري، طبعة ليدن عام 1879-1901.
كتاب الخراج لأبي يوسف، طبعة بولاق.
سيرة أحمد بن طولون للبلوي - نشرها محمد كرد علي عام 1358ه.
ذيل تاريخ دمشق لابن القلانسي، طبعة ليدن عام 1908.
مروج الذهب ومعادن الجوهر في التاريخ للمسعودي، طبعة مصر عام 1346ه.
النجوم الزاهرة في أخبار مصر والقاهرة لابن تغري بردي، طبعة دار الكتب المصرية وطبعة كاليفورنيا.
الكامل في التاريخ لابن الأثير، طبعة مصر عام 1348ه.
البداية والنهاية في التاريخ لابن كثير، طبعة القاهرة، مطبعة السعادة.
مقدمة ابن خلدون، طبعة بولاق.
كتاب صبح الأعشي للقلقشندي، طبعة دار الكتب المصرية، عام 1337ه «1918م».
قانون ديوان الرسائل لابن الصيرفي، طبع مصر، مطبعة الواعظ، 1905.
مسالك الأبصار في ممالك الأمصار لابن فضل الله العمري، ترجمة جود فروا ديمومبين «جزء أول».
المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار للمقريزي، طبعة بولاق 1272ه.
كتاب السلوك في معرفة الملوك للمقريزي، طبعة دار الكتب المصرية «جزء أول».
تاريخ مرعي بن يوسف الحنبلي، ترجمه إلى الفرنسية فانتور دي بارادي ونشره جالياردو بك في «مجلة مصر».
التبر المسبوك ذيل السلوك للسخاوي، طبعة بولاق 1315ه.
تاريخ مصر لابن إياس، طبعة بولاق 1311ه.
تاريخ السلاطين المماليك، نشره «زبتر شتين» عام 1919.
رحلة ابن جبير، نشرها وليم رايت ودي جوبيه، طبعة ليدن.
رحلة نصيري خسرو، نشرها شارل شيفر، طبعة باريس 1881. (2) المصادر المسيحية
تاريخ حنا النقيوسي - ترجمه من اللغة الإثيوبية زونتبرج ونشره في مجموعة «محفوظات دار الكتب الفرنسية» «جزء 24».
سيرة الآباء البطاركة لساويرس بن المقفع، نشره سيبولد، طبعة بيروت عام 1904.
تاريخ سعيد بن بطريق، نشره الأب شيخو، طبعة بيروت 1909.
تاريخ سعيد بن يحيى الأنطاكي «تابع تاريخ سعيد بن بطريق».
تاريخ بطرس شاكر بن الراهب، نشره الأب شيخو، طبعة بيروت 1903.
تاريخ ميخائيل السوري، ترجمه «شابو» من اللغة السريانية ، طبعة باريس عام 1905.
التاريخ الإسلامي لجورج ماكين، ترجمة بيير فانتييه، طبعة باريس عام 1652.
كتاب الأعوان لمحبوب في سيرة الآباء البطاركة “Patrologic Oriental” «جزء سابع».
تاريخ السلاطين المماليك لمفضل بن أبي الفضائل، المصدر نفسه.
حياة إسحاق بطريرك الإسكندرية، نفس المصدر «جزء 11».
تاريخ أبو صالح الأرمني، ترجمه إلى الإنجليزية، ت. أ. إيفتس طبعة أكسفورد عام 1895.
السينكسار اليعقوبي نشره رينيه باسيه في سيرة الآباء البطاركة.
مقتطفات قبطية لتاريخ فتح العرب لمصر، أميلينو في الجريدة الأسيوية الفرنسية «نوفمبر وديسمبر 1888».
وثيقتان قبطيتان محررتان تحت الحكم العربي، نشرها أميلينو في مجلة المجمع العلمي المصري عام 1885.
وثيقة قبطية من القرن الثامن عشر، نشرها أميلينو في الجريدة الأسيوية «فبراير ومارس 1887».
وثائق نشرها الأستاذ حبيب الزيات وعلق عليها في مجلة المشرق.
المؤرخون الشرقيون للحرب الصليبية، طبعة باريس «6 أجزاء».
المصادر الحديثة (1) المصادر الرسمية
محفوظات قصر عابدين «تركية وأوروبية وعربية».
أ. جروهمان، أوراق البردي المودعة دار الكتب المصرية، طبعة دار الكتب 1934-38 «3 أجزاء».
جورج طلماس، مجموعة مراسلات محمد علي، خديوي مصر «بالفرنسية»، طبعة القاهرة عام 1913.
مضابط لجنة مشروع الدستوري المصري، طبع القاهرة؟
وثائق رسمية خاصة بالحملة الفرنسية.
تقارير اللورد كرومر والسير الدون جورست «النسخة العربية». (2) دوائر المعارف والقواميس
دائرة المعارف الإسلامية، طبعة ليدن عام 1927م، تحت إشراف بعض المستشرقين.
دون كابرول، قاموس الآثار والطقوس الدينية، مادة «الأقباط» قاموس «تريفو». (3) المجلات العلمية والدوريات
المشرق «بيروت».
مجلة المجمع العلمي المصري.
الجريدة الأسيوية الفرنسية.
مجلة الجمعية الملكية للآثار القبطية بمصر.
مجلة المعهد الفرنسي للآثار الشرقية بمصر.
مجلة البحوث الإسلامية «بالفرنسية».
مجلة «أرض الإسلام» «بالفرنسية».
جريدة «مصر» القبطية. (4) المصادر الشرقية
الخطط الجديدة التوفيقية لعلي مبارك باشا، طبعة بولاق 1889.
تاريخ الجبرتي، طبعة بولاق.
تاريخ الحملة الفرنسية لنقولا ترك، طبع المكتبة الخاصة لجلالة الملك فاروق الأول.
رسالة التوحيد لمحمد عبده.
فتح مصر والإسكندرية لمحمود عكوش، طبعة القاهرة عام 1914م.
الفاروق عمر لمحمد حسين هيكل باشا، طبعة القاهرة عام 1364ه.
فتح مصر الحديثة أو نابليون بونابرت في مصر، طبعة بولاق.
مذكرات قليني فهمي باشا، طبعة مصر «جزءان».
تاريخ مصر القديم والحديث لميخائيل شارويم بك، طبعة القاهرة «أربعة أجزاء».
بلاد العرب والشرق الأدنى لسليمان حزين، طبعة الجمعية الجغرافية الملكية المصرية 1942.
الجنرال يعقوب والفارس لاسكاريس ومشروع استقلال مصر في سنة 1801 لشفيق غربال بك، طبعة القاهرة عام 1932. (5) المصادر الأجنبية
Amelineau (E), Géographie de ľEgypte à ľépoque copte, Paris, 1893, XXXVIII + 638 pp in 4.
Butler, (A. J), The Arab conquest of Egypt and the thirty years of Roman Dominon, Oxford, 1902-XXII + 653 pp, Maps.in 8.
Butcher (E. L), The Story of the Church of Egypt, London 1897, 2 vol in - 120. (Bemelen) ĽEgypte et ĽEurope, par un ancien Juge mixte, Leiden, Brill, 1882-344, 787, pp in 8.
Blunt, W. S. Secret History of the English accupation of Egypte London, 1907, XII + 606 pp in, 8, Edit arabe Par Ahmad Hafez Awad.
Bowering (John), Report on Egypte and Candia, addressed to the R, II Viscount Palmerston, London, 1840 236 pp in 4.
Caetani (Leone), Annali delľIslam, Milano, Hoepli, 10 vo in 4.
Champollion-Figeag (J-J) Egypte ancienne, coil “ĽUnivers
Cromer (Lord), Modern Egypt, London 1908-2 vol 594 + 600 pp in 8.
Clot Bey, A-B, Aperçu général de ľEgypte, Paris, 1840..2 vol, 360, 570 pp in 8.
id; Mémories inédits, de A-B, Clot Bey-Publications de la Bibliothéque Privée de S. M. Farouk Ler, Roi ďEgypte, le Caire, 1950.
Charles-Roux (François), le Projet français de conquéle de ľEgypte sous Louis XVI, Mémoires de ĽInstitut ďEgypte, Tome XIV.
id, Bonaparte, Gouverneur ďÉgypte, Paris, Pion, 1936-383, in-8.
Duschene (Mgr), ĽEglise au Vie siécle, paris, De Boccard, 1925, in 8.
Devonshire, H, ĽEgypte musulmane et les fondateurs de ses monuments, Paris, Maisonneuve, 1926-163 pp, in 8.
Douin (Georges), ĽEgypte indépendante (Projet de 1801), Le Caire, Société Royale de Géographic, 1924 gr. in 8.
id, ĽEgypte, de 1802 à 1804, Correspondance des consuls de France en Egypte, Le Caire, S. R. G. E., 1925. & Fawtier-Jones, ĽAngleterre et ľEgypt (1801-1803) Le Caire, S. R. G. E., 1929.
Dor (E) Ľ instruction publique en Egypt, Paris, 1872 II + 399 pp, in 8.
Fowler (Montague), Christian Egypt, past, present, and future, London 1901, XIV+ 319 pp in 8.
Goeje (J. de) Mémoires sur la conquête de la Syrie, Leiden, Brill 1900-176 pp, in 8
Grousset (René), Histoire des Croisodes et du Royaume Franc de Jérusalem, Paris, plon, 1934-36. 3 vol gr. in 8.
Grohmann (Adolf), Apercu de Papyrologie arabe, Public dans les “Etudes de pap-yrolgie” de la Société Royale Égyptienne de papyrologie, Le Caire, 1932 gr. in 8.
Hamont (N), ĽEgypte sous Mémémt Ali, Paris, 1845, 2 vol in 8.
HEYD (W), Historie du commerce du Levant au Moyen-Age, Publié par Farcy Reynaud, Leipzig, Harrassowitz, 1923-2 vol, gr. in-8.
Homsy (Gaston), Le général Jacob et ľexpédition de Bonaparte en Egypte (1798-1801), Marseille, 1921-147 pp in 8.
Harcourt (Duc ď), ĽEgypte et les Égyptiens, Paris, 1893-XI + 305 pp in 12.
Jaune (Dominique), Histoire générale des Royaumes de Chypre, de Jérusalem, ďArménie et ďEgypte comprenant les Croisades et les faits les plus mémorables de ľEmpire ottoman, avec plus ďexactitude qu’aucun auteur moderne les a encore rapporlés, Leide, Murray, 1785, 2 vol, 1439 pp, in 4.
Kammerer (A), La Mer Rouge, ľAbyssinie et ľArabie depuis ľantiquité Essai ďhistoire et de géographie luistorique, Publiaction de la Société Royale de Géographie ďEgypte, Le Caire.
Lefebvre (Gustave), Recueil des Inscriptions grecque-ceu étiennes ďEgypte, le Caire, Service des Antiquités ďEgypt in 4.
Lane (Edward W.), An account of the manners and customs of the Modern Egyptians, London, 1871 in 8, (II existe de Très nombreuses éditions de cer ouvrage).
Lane-poole (Stanley) The Story of Cairo, London, Dent, 12.
LEEDER (S. H.), Modern sons of the Pharaohs, London, 1918-XVI + 355 pp in 8, Las Cases, Mémorial de Sainte-Héléne.
Maillet (Benoit de), Description de ľegypte, publiée par ľAbbé Le Mascrier, Paris, 1735-328 + 242 pp, pet in 4.
Merrau (Paul), ľEgypte contemponaine, de Mémémet-Ali à Said pacha, Pairs, Didier, 1858-II + 366 pp in 8.
Marcel (J. J) ĽEgypte arabe, Publiée dans la collection “ĽUnivers Pittoresque”, Paris, 1872 in 8.
Michaud, Historie de croisades, Paris (6e édit) en 4 vol in 8.
Maspero (Jean), Historie des Patriarches ďAlexandrie, depuis la mort de ľEmpreur Anastase Jusqu’ a la réconiliation des églises jacobiles (518-616) Ouvrage revu et publié aprés la mort de ľauteur, par lc Rev, Ad, fortescue et Gaston Wiet, Paris, 1923, gr. in 8.
id, Ľorganisation militaire de ľEgypte byzantine, Paris; champion, 1912, (Bibliothèque de ľEcole des Hautes-Etudes 201, 157 pp in 8.
Revolution from the Period of the Mamelukes to the death of Mohammed Ali, London, 1870, 2 vol, in 8.
Quatremere, (Etienne), Mémoires géographiques et historiques sur ľEgypte et sur quelques contrées voisines, Paris, 1811, 2 vop, in-8.
id, Recherches antiques et historiques sur la langue et la littéralue de ľEgypte, Paris, 1808-12 + 307 pp in 8.
Richardot (Lt-Col), Nouvueaux mémorire sur Ľannée française en Egypte et en Syrie, ou la Vérité mise ajour, Paris, Corréard, 1848-480 pp, in 8, Plans.
Rigault (Georges), le général Abdallah Menou et la derniére phase de ľExpédition ďÉgypte (1799-801), Paris, Plon, 1911-XX + 403 pp in 8.
Renaudot (Abbé E), Historia patriacharum Alexandrinonum Jacobilarum Paris, 1713-in 8.
Rouillard (Germaine), ľAdministration civile de ľEgypt byzahtine, Paris, Geuthner, 1928 (2c édit), xv + 268 pp in 8.
Rhyme (Amédée), ĽEgypte francaise, coll, “ĽUnivers
Reinaud, Notice sur la vie de Saladin, sultan ďEgypte et de syric, Paris, Dondey-Dupré, 1824-41 pp in 8.
Sacy (Sylvestre de), Trois mémoirs sur la nature et les révolutions du droit de propriété territoriale en Egypte, depuis la conquête de ce pays par les musulmans jusqu’ a ľexpédition des Français,
Arabisants.
id., Exposé de la Religion des Druzes, tird des livres religieux de cette secte, et mécéde ďune Introduction et de la vie du Khalife Hakim bi amr Illah, Paris, Imprimerie Royale, 1838, 2vol in 8.
Schmidt (C.), Zeitsehrift, T, XXXII.
Schuitze, Geschichle des utergangs des Griechench-Romanischen Heidenlums.
Sachot (C), Rapport adressé a S.E, M victor Duruy, Minishe de ľInstruction Publique, sur ľétat des sciences, des lettres et de ľinstruction publique en Egypte, Paris, ler Juin 1869 (dactylographié).
Sidarous (Sésostris), Des Patriarcats-les Patriancals dans ľEmpire ottoman et spécialement en Egypte, Paris, Rousseau, 1907, XVI + 535 pp, gr. in 8.
Thibaudeau (A. C.), Histoire de la Campagne ďEgypte sous le régne de Nopoléon le Grand, Paris, Hurand, 1839, 2 Vol, In-8.
Tewfik Habib, Souvenir du premier Congrés Copte, le Caire, 367 pp, in-8 (en-arabe).
Wiet (Gaston), ĽEgypte arabe, dans “Précis de ľHistoire ďEgypt” T, II in 8, dans “Histoire de la nation Egyptienne”, T.Iv, in-4 “Les Mosquées du Caire” ouvrage Publié avec la col laboration de louis Hautecocur, in-4 T.
Choix de lettres édifiantes, écrites des missions étrangéres, précédé de tableaux géographiques, historiques, politques, religieux et littéraies des pays de Mission.Tome V, Missions du levant: Syrie, Egypte, Ethiopie, Paris, Sté, Bibliophile, 1837 (3c édit) in 8.
A prject of an Egyptian Constituation, 1908, in 8.
Egyptienne (Ad-denda).
Description de ľEgypte (par les Savants de ľExpédition), 2 e édit.
Les Voyageurs orientaux
Ibn Jobeir, Travels, edited by williams Wright, Second edit, by J. de Goeje, Leyden, Brill, 1907-53 + 363 p, gr. in-8.
NASSIRI KHOSRAU, Sefer Nameh-Relation du Voyage de ... en Syrie, en Palestine, en Egypte, en Arabie et en perse pendant les années 437-444 (1035-1042).
Leroux, 1881, LVII + 348 + 97 p, pet, in 4.
Voyageurs étrangers
Belloc (J. T.), Le pays des Pharaons, Paris, 1800-IV+ 416 in 8.
BRUCE (James), Voyage aux saurces du Nil, en Nubie, et en Abyssinie Pendant les années 1768-1772, Traduction française, Paris, 1790, 9 vol, in 8.
CHARMES (Gabriel) Cinq mois au Caire et dans la Basse Egypte, Paris, 1880-368 pp in 12.
DENON (Vivant), Voyage dans la Basse et la Haute Egypte,
12.
Didler (Charles), les Nuits du Caire, Paris, 1860-VIII + 502 pp in 12.
Duff-Gordon (Lucie), Lettres ďEgypte (traduction fraçaise) Paris, XX + 316 pp in-12.
DURBIN (John p.), Observations in the East, chiefly in Egypt, Palestine, Syria and Asia Minor, New-York, 1860 2 vol, in 8.
GERAMB (Marie Joseph de), Pélerinage en Syrie et en Egypte, Paris, 3 vol in-12.
ISAMBERT (Emile), Itinéraire descriptif, historique et archéologique, Orient, Paris, Hachette & Cie, 1881-2, Paris, in-12.
Malosse (Louis), Impressians ďEgypté, Paris, 1896-357 pp in 12.
NIEBUHR, Voyage en Arabie et en ďautes pays de ľOrient, avec ľextrait de la description de ľArabie et des observations de Mr. Forskal, Trad, franç, Suisse, 1780, 2 vol in 8.
NORDEN (Frederik Ludwig), Voyage ďEgypte et de Nubie, Copenhague, 1755, 2 vol, CXXXVII + 288 pp, in fol.
MICHAUD ET POUJOULAT, Correspondance ďOrient (1830-31)
RIFAUD (J. J.), Tableau de ľEgypte et de la Nubie et des lieux circonroisins; au Ihinéraire a ľusage des voyageurs qui visitent ces contrées, Paris, 1830-XVI + 379, 60 pp in 8.
SAVARY, Lettres sun ľEgypte, Paris, 1775-6, 3 vol, in 8.
SAINT JOHN (James-Augustus), Egypt and Mohammed Ali, or Travels in the Valley of the Nile, London, 1834-2 vol, in 8.
Sonnini (C.S), Voyage du Levant Bruxelles, 1662-508 pp in 16.
ThEVENOT, Relation ďun Voyage fait au Levant, Paris, Th, Jolly, 1665, 576 pp in 8.
VANSLEB, Nouvelle relation ďun voyage fait en Egypte en 1672-3 Paris, 1677, 423 pp in 12.
Journal of a Deputation sent to the East by the Committee of the Malta Protestant College in 1849, 2 vol, in 8 London, Nisbet 1854.
صفحة غير معروفة