أضف إلى ذلك أنه على أثر قيام المذابح العظيمة التي كانت سببا في إخلاء مدينة القدس من سكانها المسلمين الذين سبق لهم إبادة العناصر النصرانية، قرر «بودوان» تعميرها بالنصارى الشرقيين، فعرض على السريان والروم القاطنين في الأردن أن يقيموا في القدس دون أن يهتم بالمذهب الذي يعتنقونه، وكذلك كان الوئام تاما أو يكاد يكون بين مسيحيي الشرق والغرب فيما عدا يعاقبة مصر.
ومن جهة أخرى، يشهد الرحالة ابن جبير، المعروف بعدم ميله للنصارى، أن الصليبيين كانوا يعاملون المسلمين معاملة حسنة؛ إذ قال: «المسلمون مع الإفرنج على حالة ترفيه، نعوذ بالله من الفتنة.».
17
بقي علينا أن نبحث موقف اليعاقبة في مصر، ويبدو أن قلة المستندات والخلط بين الملكيين واليعاقبة في روايات المؤرخين لا تمكنا من الوصول إلى رأي قاطع في هذه المسألة، إلا أن أحد القرارات التي اتخذها الصليبيون إزاء الأقباط يلقي شيئا من الضوء على هذه المسألة، لما احتل الصليبيون القدس، منعوا النصارى المصريين من الحج إلى هذه المدينة بدعوى أنهم ملحدون، وكتب أحد المؤرخين الأقباط يشكو من هذه المعاملة قائلا: «لم يكن حزن اليعاقبة بأقل من المسلمين.»، ثم قال متحسرا: «بأي حق يمنع النصارى الأقباط من الحج إلى القدس أو الاقتراب من المدينة؟ إن الصليبيين يكرهوننا كما لو كنا ضللنا عن الإيمان القويم.».
18
وقد ذكرنا أن الصليبيين لم يظهروا أي تعصب نحو المذاهب المسيحية الأخرى، فلماذا أظهروا هذا التعصب نحو المصريين وحدهم؟ هل لمسوا في أثناء وجودهم في الشرق حقد اليعاقبة إزاء الملكيين؟ إن هذا الحقد الذي بدأ منذ حركة ديوسفوروس، وامتد إلى نهاية القرن التاسع عشر يجعلنا نميل إلى الاعتقاد بأن اليعاقبة المصريين لم يرتاحوا كثيرا لوجود الجيوش الكاثوليكية في الشرق.
19
ولكن، هل وجهة نظرهم هذه أعفتهم من عنت المسلمين؟
لما نشبت الحرب الصليبية الأولى، لم يسجل التاريخ أية مظاهرة ضد الأقباط، بالرغم من اشتراك الجيوش الفاطمية في القتال دفاعا عن القدس التي انتزعتها من الأتراك قبل ظهور الصليبيين؛ ذلك لأن الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي كان يحكم البلاد تحت حكم الفاطميين.
ولما عرف الصليبيون طريق مصر، توالت اعتداءاتهم على الأراضي المصرية، وفي هذا الأثناء أخذ سلطان الفاطميين في الأفول، وبلغ الضعف بالخلفاء مبلغا جعلهم يخضعون لحكم الوزراء إلى أن جاء اليوم الذي استنجد فيه العاضد بنور الدين ، فما كان من صلاح الدين قائمقام نور الدين إلا أن دخل بعساكره الأكراد وادي النيل ليطرد منه الفاطميين والصليبيين.
صفحة غير معروفة