المسألة الثانية: العلاقة بين القدرة الإلهية والفعل الإلهي، وعلاقتهما بالعالم؛ فذات الله الأزلية القديمة لها صفات أزلية، منها قدرة الله المطلقة؛ لأنها صفة من صفات الذات. القدرة بمعنى الإمكانات غير المتناهية للأفعال، وقدرة الله غير متناهية، لكن العالم الذي نعيش فيه متناه؛ حيث بدأ الزمن بخلق العالم، وهو فعل افتتاح التاريخ؛ فهو واقعة تاريخية؛ أي إن العالم محدث، حتى من قالوا بقدم العالم في تاريخ الفكر الإسلامي كانوا يتحدثون عن المادة التي صيغ منها العالم؛ مما لا يتنافى مع تاريخية إيجاد العالم، سواء كان خلقا من عدم أم كان صنعا من مادة قديمة. التاريخية هنا تعني الحدوث في الزمن، إنها لحظة الفصل والتمييز بين الوجود المطلق المتعالي، الوجود الإلهي، والوجود المشروط الزماني. وإذا كان إيجاد العالم هو فعل افتتاح الزمان، فإن كل الأفعال التي تلته تظل أفعالا تاريخية بحكم أنها تحققت في الزمن والتاريخ، وكل ما هو ناتج عن هذه الأفعال الإلهية محدث حدث في لحظة من لحظات التاريخ. من هنا فقدرة الله أزلية بما هي صفة للذات، غير متناهية، ومن حيث هي إمكانات للأفعال، بينما الأفعال متناهية تاريخية لتعلقها بعالم متناه؛ فليس كل ممكن متحققا. «من هنا فكلام الله يعد فعلا. والالتباس يأتي من عدم التمييز بين صفة العلم وصفة الكلام؛ فعلم الله مثل قدرته، هما مطلقان وأزليان، ولكن حينما يتجلى هذا العلم في كلام يحدث في الزمن فهنا تم الدمج؛ بما أن القرآن كلام الله، والكلام صفة من صفات الذات، وليس فعلا كما ذهب المعتزلة، فكان من السهل استنتاج أن القرآن قديم وليس مخلوقا؛ بناء على اختلاف القدماء في هل كلام الله صفة من صفات الذات الإلهية الأزلية، أم فعل من أفعالها. وتم الاستناد إلى التعبير القرآني «اللوح المحفوظ»، الذي دون فيه القرآن كدليل على قدم القرآن، لكن السؤال هو: هل اللوح المحفوظ مخلوق أم قديم؟ وأكيد أنه مخلوق، وإلا قلنا بتعدد القدماء، وهو التصور الذي رفضه كل المفكرين في التراث الديني الإسلامي، فكيف يكون القرآن القديم مدونا في لوح مخلوق محدث؟! وحتى الاستناد إلى أن الله ابتدأ الخلق بالأمر الكينوني «كن»، فلا بد أن يفهم الأمر الإلهي الكينوني «كن» فهما مجازيا. وهذا لا ينفي كون الكلام الإلهي يدخل في دائرة الأفعال، وليس الصفات الأزلية القديمة المحايثة للذات. ولا يمنع إطلاقا من وصف الله سبحانه بأنه متكلم وسميع وبصير، صفات محايثة للذات لا تظهر إلا في الأفعال، وظهورها في الفعل هو التحقق التاريخي. والفعل الإلهي له شقان في علاقته بالتاريخ؛ شق أفعال سابقة على الوعي الإنساني - وقعت خارج التاريخ - مثل فعل الخلق والتكوين. الشق الثاني هو الفعل الإلهي في التاريخ، ويتم دون تجاوز قوانين التاريخ.»
والإنسان كائن تاريخي؛ أي يقع فعله في التاريخ ويتشكل به، لا بمعنى تتابع الوقائع في الزمن، بل بمعنى السياق السوسيولوجي العام للوجود الإنساني. و«النصوص الإلهية» هي «رسائل من الله ، سبحانه وتعالى، إلى الإنسان، مهمتها هي تعديل مسار الإنسان؛ لذلك يختار الله لغة الإنسان، واللغة ظاهرة اجتماعية تاريخية ثقافية. وهذا التواصل بين الله والإنسان يتكون من مرسل هو الله، سبحانه وتعالى، ومستقبل هو الرسول
صلى الله عليه وسلم ، ورسالة هي النصوص الدينية، ويتم هذا التواصل عبر شفرة، وهي لغة القوم الذين نزلت إليهم الرسالة. ولأن الرسالة تهدف إلى سعادة الإنسان، فيكون الإنسان هو المخاطب بها، ويكون الإفهام هو غايتها.» من هنا فكرة تاريخية النص القرآني؛ أي ليست كما يشيع من يسعون لقتل خطابي - بزعم كاذب - بأن القرآن يتحول إلى فولكلور، ويوضع في متحف التاريخ؛ فإذا كانت النصوص البشرية تتجاوز زمنها لتدل في زماننا، فما بالك بنص مقدس. والنص القرآني يستمد مرجعيته من اللغة ومن الثقافة، ومن هنا فهو منتج ثقافي على الرغم من مصدره الإلهي . والنص القرآني منتج ثقافي أنتج الثقافة الإسلامية.
نشر حوار مع عالم دين كبير بمجلة «المصور» في عدد الحادي عشر من فبراير أربعة وتسعين، يناقش «ادعاء الغرب بأن العقل الإسلامي لا يفهم مبدأ السببية المباشرة للظواهر الطبيعية، وأنه ينسب العلة الحقيقية للظواهر كلها إلى المشيئة الإلهية»، فكتبت مقالا هو «انتصار الجهل بملكوت الله»، نشر بجريدة «الأهالي» في عدد الثامن من يونيو أربعة وتسعين، أعرض فيه الصراع بين التيار الديني العلمي العقلاني ممثلا في المعتزلة وابن رشد أساسا، والتيار الديني ذي النزعة الروحية الخالصة المتمثل في الأشعرية كما جسدتها كتابات «أبي حامد الغزالي»، وكيف أن أفكار البشر نحولها إلى عقائد، ولطول سيادتها تصبح أصلا من الدين ولم تعد مجرد أفكار وتصورات.
13
كتبت مقالا نشرته مجلة «الطريق» البيروتية، في مايو سنة أربع وتسعين، عن حالة «الاستقطاب الفكري بين الإسلام العصري وأسلمة العصر في مصر»؛ فالصراع يدور في جوهره على أرض الإسلام بين من يريدون إسلاما عصريا ومن يريدون أسلمة العصر، وعرضت بعض الأمثلة من الكتابات في الصحف المصرية التي تناولت هذه القضية، وهي في جذورها خلاف حول فهم الإسلام، وحول علاقة الدين بالدولة؛ فممثلو الخطاب الديني يوصفون الاستقطاب بأنه بين الإسلاميين والعلمانيين، وخصومهم يتحدثون عن أنه صراع بين ثقافة تقليدية محافظة وثقافة ليبرالية - أو ثقافة التنوير - وفريق ثالث يحاول أن يمثل الوسط المعتدل. وكتبت عدة مقالات لمجلة «الناقد» التي تصدر في لندن، وقد نشرت من أول شهر يوليو، فكتبت عن «عصيان الدين أم عصيان الدولة؟» وعن «أرثوذوكسية معممة»، ومقالا آخر في عددها الرابع والسبعين عن «اللغة الدينية والبحث عن ألسنية جديدة، قراءة في فكر محمد أركون» (1345ه/1928م-1430ه/2010م) وهو يحاول البحث عن خصوصية اللغة الدينية، ومنهجه في بحثه يختلف عن منهج الوضعية الاستشراقية الذي يكتفي بالوصف المحايد المغلف بادعاء الموضوعية والمعتمد على المنهج الفيلولوجي؛ فأركون يسعى من داخل منظومة الفكر الديني عامة والإسلامي خاصة، ولكنه ليس من منطلق الخطاب الإسلامي الشائع المنتشر والمسيطر؛ فهو يسعى لتجاوز عمليات الاستخدام الأيديولوجي للدين من خلال مستويات نقد الخطاب الإسلامي وخطاب الاستشراق معا، معتمدا على العقلانية الأوروبية، وأيضا بنقد الماضي والتراث، ثم ثالثا يحاول أن يقرأ الوحي/القرآن قراءة تزامنية مضادة للقراءة التي تسقط معانيها على النصوص، أو القراءة التجزيئية التي تفتت النصوص لتجعلها تنطق بما تريد هي. وهو يحاول الخروج مما هو سائد بوعي جديد لا يتصادم كليا من أجل التعايش بين الأديان الثلاثة من جهة، وبين خطابه العلمي والخطاب الإسلامي السائد من جهة أخرى، مما جعله يقدم بعض الترضيات حتى لا يحدث الصدام.
حاولت في مقال نشرته مجلة «العربي» الكويتية، في عدد مايو سنة أربع وتسعين، بعنوان «المقاصد الكلية للشريعة، قراءة جديدة»، أن أعمق منهج أسلافنا علماء الأصول في محاولتهم استخلاص مقاصد الشريعة، عبر «القراءة التفصيلية المتأنية والعميقة للنصوص الدينية ذات الطابع التشريعي، من خلال علاقاتها التركيبية ببعضها بعضا من ناحية، وعلاقاتها بنصوص العقيدة والأخلاق» من ناحية أخرى، باستنباط الكليات من الجزئيات تصاعدا، وإعادة قراءة الجزئيات من خلال هذه الكليات من خلال تفاعل بين الكلي والجزئي. وهذا المنهج قابل للإضافة إليه بتطور أساليب المعرفة في عصرنا؛ فالنص الإسلامي جزأته العلوم الدينية في التراث، فانشغل علماء الأصول بالأحكام والتشريعات، واهتم علم الكلام بالعقيدة ، واهتم التصوف بالأخلاق، وعلم اللغة والبلاغة التقليديين، لكن علوم اللغة الحديثة تهتم بمستويات الدلالة الكلية التي لا تفصل بين التشريعي والعقدي، وبين الدلالة المستنبطة من القصص القرآني والدلالة الكلية للنص الإسلامي في سياق تفاعله مع الواقع الاجتماعي والتاريخي. والقراءة الكلية للنص الإسلامي، في تعامله مع الواقع، أخذت موقفا واضحا ضد الجاهلية، وكانت تعني في هذا السياق الثقافي العصبية والتعصب، فجاء الإسلام بالحلم؛ أي العقلانية في مواجهة الجاهلية، وبالحرية نقيضا للعبودية، وهو متصل ومبني على المبدأ الأول.
المبدأ الثالث: العدل الإلهي. وهذه المبادئ - العقل والحرية والعدل - منظومة متماسكة ومترابطة، وتستوعب المقاصد الخمسة التي وضعها القدماء، في حفظ النفس والعقل والدين والعرض والمال، بالإضافة إلى تضمن هذه المبادئ الثلاثة القواعد الاجتهادية للقدماء مثل الاستحسان والمصالح المرسلة واستصحاب الأصل وإباحة الضرورات للمحظورات وغيرها. إنها جهود تحتاج إلى مؤسسات بحثية جديدة على صلة بمنهجيات العلوم الإنسانية المتطورة، وما يتصل منها بدراسة النصوص وفهمها وتأويلها.
كتب د. «محمد عمارة»، الأستاذ بدار العلوم، مقالا بالمجلة ذاتها، نشر في يوليو بعنوان «ألف باء الحوار»، يرد على مقالي، فكتبت مقالا نشر في عدد شهر أغسطس بعنوان «نحو حوار عقلاني متكافئ: نعم لتحرير مضامين المصطلحات». ود. عمارة انطلق من أن هناك تيار أهل الموروث وتيار أهل الوافد. من هنا يتولد التوجس وتوقع سوء القصد حينما يتصدى باحث ليس محسوبا على أصحاب الحل الإسلامي للكتابة عن الإسلام والتراث. وهو يتساءل ماذا أعني بالعقلانية، وبالحرية وبالعدل، وهل هي عقلانية التنوير الغربية أم العقلانية المؤمنة. وعلى الرغم من أني شرحت في مقالي ماذا أعني، فإنني حددت العقل «بالفعالية الذهنية التي تحول الأدلة - حسية أم نقلية أم تجارب وجدانية - إلى معرفة تعمق بدورها هذه الفعالية بمزيد من الصقل والصفاء والحدة»، وكذلك فعلت مع المفاهيم الأخرى، لكن «عمارة» وضع مجموعة من المماحكات اللغوية، حينما ذكرت تعبير «سنن التاريخ» على أنه يفضل تعبير «سنن الله»، ولا يسعني إلا تذكيره بمفهوم الدهر في التراث الذي لا يجوز للمسلم أن يسبه لأنه هو الله؛ فالقول بوجود سنن تاريخية لا تعني إنكار الوجود الإلهي، معاذ الله. وكذلك فعل مع تعبير اللحاق بركب الحضارة، ومع مفهوم الحرية. «إن أغلب حواراتنا ضحايا بائسة للفوضى الشائعة في مضامين المصطلحات وللتوجس المتبادل والبدء من افتراض سوء القصد.»
عقدت محكمة استئناف القاهرة أولى جلساتها للنظر في طعن «صميدة عبد الصمد» ضد حكم المحكمة الابتدائية؛ سعيا منه ومن تابعيه للتفريق بيني وبين «ابتهال»، في السادس والعشرين من يوليو أربعة وتسعين. ونشر د. «عبد الصبور شاهين» كتاب «قصة أبو زيد وانحسار العلمانية بجامعة القاهرة»، ولم يكن فيه شيء يذكر سوى مقالات مجمعة من الصحف كتبها بعض المناصرين لموقفه. وطلبت مني مجلة «العربي» أن أجري حوارا مع الأستاذ «محمود أمين العالم» بمناسبة بلوغه السبعين؛ لينشر في عدد شهر سبتمبر سنة أربع وتسعين، فرحبت جدا؛ فالأستاذ «العالم» بنشاطه الضخم الذي يحسده عليه الشباب، وخطابه المفتوح الذي جعله يحظى باحترام خصومه قبل مريديه، وهو خطاب نقيض للخطاب المغلق المتعصب؛ فخطابه يتجدد من داخله بحكم قدرته على نقد ذاته والاستماع إلى نقد الآخرين، في حين أن الخطاب النقيض يتآكل بفعل الصدأ الناتج عن عدم قدرته على التجدد والنمو. وهذا ما حصنه ضد المهاجرة من اليسار إلى أقصى اليمين كما فعل أقران له.
صفحة غير معروفة