الإهداء
مفتتح
لا
من غرب لشرق
المواطن مفكرا
في الطوفان
قاب قوسين
زهور الرحيق
قائمة المصادر والمراجع
الإهداء
صفحة غير معروفة
مفتتح
لا
من غرب لشرق
المواطن مفكرا
في الطوفان
قاب قوسين
زهور الرحيق
قائمة المصادر والمراجع
أنا نصر أبو زيد
أنا نصر أبو زيد
صفحة غير معروفة
تأليف
جمال عمر
الإهداء
«هنا يرقد أحد الحالمين بمستقبل أفضل.
أيها الزائر لقبري لا تكف عن مواصلة الحلم.» •••
إلى
كريم
ورنده وجولي
وإلى الأخ حسيني
من أجلكم هذه العلامات.
صفحة غير معروفة
جمال
مفتتح
لأن «آفة حارتنا النسيان» كما كتب عمنا نجيب محفوظ، فمن المهم التعامل مع هذه الآفة، وهذا النص محاولة لمواجهة النسيان في حارتنا. الآفة الأخرى التي أراها هي آفة استبعاد الجماهير من المشهد، ويتم اختصار وجودهم فقط في خلفية المشهد؛ تارة بثنائية الخاصة والعامة عبر «إلجام العوام»، وتارة عبر لا صوت يعلو فوق صوت الجماهير. والجماهير هنا كائن هلامي، لا رأس له ولا جسم ولا هيكل عظميا أو لسان يعبر عنه ويمثله.
فهذا النص خطوة ضد آفة النسيان وآفة استبعاد الجماهير؛ نص يوثق، ولكن ليس التوثيق التقليدي، بل يوثق حياة؛ حياة «نصر» وحياة التفكير عنده، ليس مصدرها كلام «نصر» عن نفسه فقط كما تصور معظم من قرءوا الكتاب من عنوانه؛ ففي الكتاب ثلاثة أصوات؛ صوت «نصر»، وصوت المؤلف، وصوت ثالث عام يسجل واقعا ثقافيا وسياسيا واجتماعيا خلال سبعة عقود.
هذا النص ضد استبعاد الجماهير، ليس من خلال نقد مقولة الخاصة والعامة تطبيقيا فقط، بل نقدها بمحاولة وضع خريطة لمدينة خطاب «نصر أبو زيد»، عبر محاولة تلخيص وتبسيط - بقدر الإمكان في متن الكتاب - كل نص كتبه «نصر أبو زيد» ونشره، سواء مقالة أو بحثا أو كتابا؛ لتكون خريطة لكل باحثة وباحث في خطاب «نصر أبو زيد».
لعل هذا العمل يكون مقدمة يدخل عليها القارئ والقارئة التعديل والتصويب؛ لكي تستطيع الثقافة أن ينقل وعيها من داخله لخطوة تالية، بهضم القديم وما تم فيه، فنصعد على أكتاف القدماء وعلى جهودهم، فنرى أبعد مما رأوا.
يا مسهل
جمال عمر
20 يونيو 2021
بارك سلوب ، بروكلين
صفحة غير معروفة
امتحت رحيق هذه القصة من خلال تسجيلات صوتية لنصر حامد أبو زيد، يتحدث فيها عن حياته، أجريت هذه التسجيلات عبر حوارات ولقاءات تم توثيقها في نهاية الكتاب.
لا
1
جاءت رسائل الدعم من كل مكان في العالم العربي، واتصل بي معهد الدراسات المتقدمة ببرلين في ألمانيا يعلمني برغبته في تقديم موعد المنحة المقررة لي في أكتوبر العام القادم لتكون هذا العام؛ وجامعة بون عبر رئيس قسم الاستشراق فيها، والذي قال: «يا نصر هات «ابتهال» وتعال.» بل إن الأستاذ «فريد ليمهاوس»، الذي كان مفترضا أن نذهب إلى حفل وداعه مغادرا مصر، اتصل بي وقال: انتظرني سآتي أنا إلى بيتك في السادس من أكتوبر، وعرض علي أن أذهب إلى جامعة «لايدن» بهولندا، التي تمثل حلما لكل دارس في الإسلاميات. وصديقي الشاعر زين العابدين فؤاد هو الآخر يسعى باتصالاته مع بعض طلابه ومعارفه في الخارجية الهولندية لنفس الهدف. ووسائل الإعلام الغربية تتناول ما حدث، وغاب الإعلام الحكومي المصري عن الساحة. طالبت وزير الإعلام أن أشرح في التليفزيون أو الإذاعة وجهة نظري؛ فليس لي منبر مسجد، كما يفعل الآخرون، أخطب عليه، بل اقترحت أن تعقد ندوة تليفزيونية تضم د. محمد عمارة ود. سليم العوا من جهة، ود. محمود علي مكي ود. مصطفى الصاوي الجويني من جهة أخرى؛ فليس من المعقول أن يظل الإعلام المصري هو الوحيد «الأطرش في الزفة». التقارير الصحفية الغربية تجاهلت دور المصريين العاديين المتضامن معنا، وكذلك منظمات المجتمع المدنية المدافعة عن الحريات، والتي تقاوم الإسلاميين الذين يريدون أن يحكموا المجتمع والقضاء.
آلمني أن أحد الأساتذة وبعد الحكم - وفي أول اجتماع لقسم اللغة العربية الذي أنتمي إليه - قدم طلبا لفصلي من القسم بسبب الضغوط التي تمارس على الجامعة؛ وحتى طالب الدكتوراه السوري، الذي قد انتهى منها تحت إشرافي، واعتذر عضو من لجنة مناقشة الرسالة؛ أستاذ في السبعين من عمره، من جامعة عين شمس، وقال إنه خائف على حياته؛ فلم تناقش الرسالة.
بدأت عملية تصحيح أوراق الامتحانات، وفي هذه الظروف الصعبة كانت رسائل الطلاب المتضمنة دعما - في ورقات الإجابة - بل حتى الإسلاميون منهم. والعجيب أن الكثير منهم اتفق على الاستشهاد بأبيات من قصيدة للشاعر أمل دنقل لم أدرسها لهم، «كلمات سبارتكوس الأخيرة»، تقول:
المجد للشيطان ... معبود الرياح،
من قال لا في وجه من قالوا نعم،
من علم الإنسان تمزيق العدم،
من قال لا فلم يمت،
صفحة غير معروفة
وظل روحا أبدية الألم.
معلق أنا على مشانق الصباح،
وجبهتي - بالموت - محنية؛
لأنني لم أحنها حية.
اتصل بي الكاتب والروائي السوري نبيل سليمان وقال: «يا نصر، تليفونك مشغول طول الوقت يا خيي، لكن بدي أقول إنك عملت الشويتين دول من شان (علشان) تتخلص من «ابتهال»، واخترعت حكاية القضية، لكن يا خوي هذي «ابتهال» قالت إنها متمسكة بك، خلاص. وكلنا بدنا نعمل مثلك، لكنك فشلت.» ورسومات الكاريكاتير، في الصحف: واحد جالس ينظر إلى زوجته ويقول لنفسه: «أنا عايز أعرف ابن أبو زيد ده عملها ازاي!» وأتتني د. منى ذو الفقار وزوجها الأستاذ علي الشلقاني يطلبان توكيلا قانونيا بتكوين لجنة دفاع أمام محكمة النقض؛ دفاع عن المجتمع والسلام الاجتماعي وتهديد القيم المصرية.
والغريب أن المحاكم المصرية تمتلئ بقضايا الطلاق التي تستمر سنوات ولا يفصل فيها، «والتي فيها من الإجحاف ما فيها لحقوق السيدة المصرية، إلا أن «ابتهال» هي المرأة الوحيدة التي لم تطلب الطلاق وتطلق رغما عنها»؛ فأرسلت كلمة إلى الندوة العربية التحضيرية للمؤتمر العالمي للأمم المتحدة حول المرأة، التي عقدت في تونس في الخامس والعشرين من يونيو، تحدثت فيها عن هتك عرضها من قبل من رفعوا القضية، وقالت: «زاعمين أنهم قاموا بذلك من أجل مصلحتي ولحمايتي. هل نسوا أني كائن عاقل بالغ كامل الأهلية، وصلت إلى سن الرشد منذ زمن، وأستاذة جامعية أساهم في بناء وتنشئة جيل المستقبل؛ أم إن المرأة ستظل في نظرهم مجرد حيوان من فصيلة الثدييات، مجردا من أي وعي أو عقل أو إدراك، يقتصر دوره فقط على إشباع الرغبات والإنجاب؟»
دخل فرد الأمن الذي يلازمنا إلى شقتنا المليئة بالضيوف يخبرني أن «أتوبيس» بالخارج. سألته: «أتوبيس ؟ أتوبيس إيه؟» قال والقلق على وجهه: «أتوبيس طلبة، بيقولوا إنهم من تلاميذك وعايزين يسلموا عليك.» قلت: «يسلموا علي؟! الشقة ليس بها ثقب، سأخرج لهم بالخارج.» قال في حدة: «لكن يا دكتور ليكون حد فيهم مخبي حاجة يطعنك بها.» قلت بحسم: «الطلبة؟ لا، هؤلاء ولادي.» خرجت إلى الشارع، وكان «أتوبيس» رقيق الحال، جمعوا نفقاته بأنفسهم ليعبروا عن مساندتهم. أخبرتهم أن شقتي صغيرة، وليس هناك مكان للترحيب بهم، وأنا شاكر وممتن لهم. تفهموا الوضع، ونزلوا من «الأتوبيس»، وسلمت عليهم فردا فردا. وكان ذلك يعطيني الأمل في مواصلة الدفاع عن قيم الحق والعدل والحرية. «جاءت الأخبار يوم السابع والعشرين من يونيو؛ أسبوعان بعد الحكم، ومحاولة اغتيال رئيس الدولة ذاته، في زيارته لأديس أبابا بأثيوبيا. أخبار زادت الاحتقان بالداخل، وتكشف عن المدى الذي وصلت إليه الأمور بمصر» في المواجهة بين سلطة الدولة بأجهزتها القمعية وجماعات العنف الديني المسلحة.
أصبحت حياتي اليومية «مسخرة»، «لست سوى سجين يقف على بابه جنود الشرطة يسألون عن زواره، وأستأذنهم قبل أن أغادر بيتي. لا أستطيع الذهاب إلى أحد أو السهر عند صديق بدونهم؛ فالحكومة تحميني، وتفتح المساجد لمن يطالبون بدمي.» فهل تنتهي القضية بالجنازة الشعبية وبيانات الشجب والإدانة وظهور صورتي في التليفزيون؟
حاول الأمن أن يثنيني عن مناقشة رسالة جامعية لأحد تلامذتي كنت مشرفا عليها بجامعة القاهرة؛ للدواعي الأمنية، لكني رفضت. ركبت سيارتي ومعي رجال الأمن، وسيارة أخرى تتبعنا. وصلت إلى الجامعة، ففوجئت أن الحرس موجود في كل مكان، وعلمت أن الأمن قد أفرغ الجامعة منذ الثانية ظهرا. «لو أمي كانت عايشة كانت فرحت بما يحدث.» وجدت لواء شرطة وعمداء يحيونني أنا ابن الفقراء الذين يرهبون الغفير. وقد وضعت الشرطة أجهزة أشعة كشف الأسلحة ليمر عليها كل من سيحضر المناقشة، وطلبوا من الطالبة «أسماء» من سيحضر من أهلها للتحري عنهم، «وخصصت للمناقشة حجرة صغيرة» من أجل إحكام تأمينها.
من هذه التجربة أدركت الضغوط والعبء على الجامعة، وعلى طلبتي الذين سيكون الأمن حاجزا بيني وبينهم. هذا ونحن في الإجازة الصيفية ، فماذا سيكون الوضع عند عودة الدراسة؟ «وإذا اتخذت الجامعة قرارا بإبعادي عن التدريس لصعوبته الشديدة وسط هذا الحصار، وإذا صممت على التدريس فسيمثل هذا ضغطا شديدا على الجامعة»، التي تتعرض لضغوط شديدة من جانب المتطرفين لفصلي، بعد صدور الحكم. شعرت أن حلم الجامعة الذي عشت وكافحت من أجله يتسرب، وأن جزءا كبيرا من فعاليتي ونشاطي بالتدريس في الجامعة قد تم استئصاله. «أنا عمليا محبوس مسجون.» كيف يمكن لي أن أعيش؟ ليكن ما أشعر به مسألة عاطفية أو نوعا من الرومانسية، «لكني لا أستطيع أن أتحمل دخولي الجامعة على هذا النحو من الحصار وإبعاد الطلبة عني بهذه الطريقة.»
صفحة غير معروفة
في طريق عودتنا بالسيارة من المناقشة، طلبت من «ابتهال» أن نبتعد عن هذا الوضع. فلنأخذ إجازة؛ فنحن تقريبا لا ننام، وهي عندها منحة في إسبانيا في شهري سبتمبر وأكتوبر، فنقضي شهر أغسطس هناك، ونفكر في الخطوة التالية. طلبت إجازة من الجامعة، وأعلنا أننا ذاهبان إلى الساحل الشمالي، ولم يعرف أحد بسفرنا غير والدتها وأخيها والأمن. أخذنا الطائرة المتجهة إلى مدريد، في الحادية عشرة والنصف مساء الرابع والعشرين من يوليو. يعتصرني سؤال داخلي: لماذا حدث ذلك؟ كنت غاضبا جدا، ليس من شخص معين «بل من مصر»، غاضبا من الوطن. لقد عشت حلم الوطن وحلم الجامعة؛ فقد بلغت الثانية والخمسين ولم أملك شيئا. أتخيل أن دوري هو أن أعلم الطلبة كيف يفكرون، ولقد أخلصت في عملي، كفني لاسلكي، أو كأستاذ في الجامعة. وسافرت إلى كل مكان في العالم؛ كي أتعلم وأفيد وطني بهذا العلم كرجل من غمار الموالي. شعرت بشعور النبي محمد، في الطائف، حين قال: «اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت أرحم الراحمين، ورب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؛ إلى قريب يتجهمني، أو إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي غضبك ، أو يحل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك.» أيقظت «ابتهال» وقلت لها: «لو حدث ومت في أي مكان في العالم فادفنيني مكان ما أموت.» وكعادتها تحاول أن تخفف عني، فقالت: «طيب خلاص.»
وعادت بي ذاكرتي إلى مشواري الطويل؛ منذ أن اشتد عزم الحرب العالمية الثانية وأنا أخرج للوجود في العاشر من شهر يوليو سنة ثلاث وأربعين، بقرية قحافة التي تبعد عشر دقائق مشيا عن مدينة طنطا؛ مركز الصوفي الكبير السيد «أحمد البدوي»، وهي عاصمة مديرية الغربية، على ضفاف فرع النيل. لم تصل الكهرباء ولا الماء النقي إلى قريتنا بعد، نسير في شوارعها مستخدمين مصابيح الجاز والكيروسين؛ شوارع لا تصل بك إلى طريق مسدود، دائما مفتوحة الاتجاهين. بيوت من الطوب اللبن إلا القليل كبيت العمدة. الملكيات الزراعية صغيرة لم تكن بها إقطاعيات كبيرة. بيتنا له بابان، تدخل من أحدهما فتمر على الغرفة البحرية، وقاعة الفرن الشتوية، بمصطبتها، فوق الفرن مفروش حصير، ورزونة السقف التي تفتح وتغلق للتحكم في دفئها بالشتاء، حين ننام جميعا بها، ومبني في الحائط «كتبية» ذات رفوف لحفظ الوثائق المهمة وحفظ المصحف الشريف.
أبي «حامد رزق أبو زيد»، في التاسعة والعشرين من العمر، قصير القامة بدين الجسم، يعرف القراءة والكتابة، ينادى عليه بالشيخ حامد. بدأ حياته مزارعا، لكنه أيقن أن المساحة الصغيرة التي يزرعها لا تكفي لإعاشة أسرته، فباع القراريط الصغيرة وفتح دكان البقالة الثانية بالقرية عند ناصية تقابل الشارعين الرئيسيين. حالته الصحية متعبة. أمي «نعيمة بنت الشيخ محمد لبدة»، مقرئ القرآن المشهور في قحافة وأجوارها، لأسرتها مكانة واحترام حاملي كتاب الله، في الحادية والعشرين من العمر، جميلة، تتميز بين أخواتها بنعومة بشرتها، كانت المفضلة عند أبيها، لا تبرح البيت، حتى إنها حينما انتقلت إلى بيت زوجها كانت تحتاج مساعدة لكي تعرف الطريق إلى بيت أبيها في القرية.
تأخرت أسرتي في تسجيل ميلادي، على ما أظن مثل الكثير من مواليد ذاك الزمان؛ خوفا من موت المولود. كان الجدل دائما بين أصحاب أبي الذين يتجمعون حول الدكان عن نتائج الحرب، ورغبة الكثير في انتصار جيوش «المحور»، بقيادة زعيم الألمان الذي دخل في الإسلام «محمد هتلر»؛ للتخلص من احتلال الإنجليز.
أنا الثالث بين الأبناء بعد أخي الذي مات طفلا، وبعد أختي «بدرية» التي تكبرني بثلاث سنوات. مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، ولد أخي «محمد». حفظت بعض قصار السور، وتعلمت الصلاة في البيت وأنا في الخامسة. أرسلني أبي إلى كتاب الشيخ «المنيسي» في بيته. بجوار غرفته توجد غرفة العريف التي بدأت فيها تعلم القراءة والكتابة والحساب. نذهب إلى الكتاب من طلوع الشمس حتى المساء. أمسك بلوح الإردواز وأكتب عليه بالطباشير. لم أكن أشارك الأطفال في ألعابهم التي تتطلب الجري لبدانة جسمي، فكنت أجتهد في التعلم الذي أظهرت كفاءة فيه على الأطفال. كنت أتألم كثيرا من دفع والدي لي أن أتسلق مثل الأولاد أو أجري مثلهم.
أتشوق إلى اليوم الذي أنتقل فيه من غرفة العريف إلى غرفة الشيخ، للبدء في حفظ القرآن. وبسرعة انتقلت وحملت اللوح المعدني، وأمسكت بالفرشاة البوص ودواة الحبر. بدأنا بتعلم جزء «عم»، نتعلم كتابة الآيات على اللوح ويقرؤها علينا الشيخ عدة مرات، ونذهب لحفظها حتى يأتي وقت التسميع. ينظر إلينا الشيخ «المنيسي» فلا يشاهدنا، ولكنه يرانا جيدا، وضعني أمام كرسيه بين رجليه المدكوكتين، وبيده عصاه التي قدت من الجنة؛ فأنت تقرأ على الشيخ «المنيسي»، وحينما تخطئ تأتيك لسعة - كلسعة دبور من عصاه - خفيفة على رأسك؛ فعليك أن تعيد الآية. ولو أخطأت تأتيك لسعة أخرى، فتعيد ثانية، فيصحح لك الخطأ. حينما أعود إلى أمي أشكو أحيانا، فتقول لي: «عصاة الفقي من الجنة.»
كنت دائم التواجد في دكان أبي لأساعده، خاصة مع ازدياد المرض عليه، وكأنني انتقلت إلى عالم الكبار الذين يتجمعون حول أبي أمام الدكان، فيطلبون مني قراءة الجريدة، وأستمع إلى قصصهم، وحكايات أبي التي كان بارعا في قصها علينا بالبيت. «ومع اشتداد المرض ووجوده لفترات طويلة في البيت، نشأت مشاكل دائمة مع أمي بسبب تواجد زبائنها بالبيت؛ إذ بدأت تعمل خياطة.» استطعت إتمام حفظ القرآن في الثامنة، وأختي كريمة لم تكمل عامها الأول؛ فكان الاحتفال بمسجد القرية الكبير. ارتدى الشيخ «المنيسي» أجمل ثيابه، وفي حضور الناس وأمام أبي بدأ يمتحنني، فيذكر الآية وأكمل بعده. كنت سعيدا سعادة غامرة. وعلى الرغم من قلقي إلا أنني اجتزت الامتحان، وقبلت يد شيخي. ولأن أبي لم يكن من مزارعي القرية، فقد كانت هديته للشيخ «المنيسي» جبة وقفطانا وعمة ومبلغا من المال. وأصبحت أمام الجميع الشيخ «نصر». كانت أمي في غامر السعادة وهي توزع الشربات على الجيران، تساعدها أختي «بدرية»، وأخي محمد معها في كل أرجاء البيت. وحلم أبي أن أذهب إلى الأزهر، ودعوات أمي أن أكون مثل الشيخ «محمد عبده»، المفتي الشهير الذي درس في المعهد الأحمدي بطنطا. أصبحت أؤذن للصلاة بالمسجد حتى إن بعض المصلين قدموني للإمامة.
في نفس عام واحد وخمسين، افتتحت أول مدرسة حكومية بالقرية، وكان أبي في حيرة بين حلمه في استكمالي التعليم الأزهري واشتداد المرض عليه، حتى أتى صديقه العامل بمصلحة السكة الحديد وقال له: «يا شيخ حامد، الأزهر حباله طويلة، سكن في مصر ومصاريف، و«سنين»، الأزهريون يتزوجون وينجبون وما زالوا طلبة، إحنا نقدم للأولاد في التعليم الحكومي.» وكان لاشتداد المرض على أبي عامل مهم في قراره. والمدرسة تأخذ الأطفال من سن السادسة، فدخلها أخي محمد ولم يذهب إلى الكتاب. وأنا في الثامنة؛ فلا يحق لي دخولها، ويجب أن أدخل مدرسة خاصة بمصاريف لاستكمال تعليمي.
2
كان تفكير أبي أن يقدم شهادة فقر للتخفيف من مصاريف المدرسة. وبالفعل ذهبنا إلى مدرسة العبيدية الابتدائية بطنطا، وصاحبها وناظرها الأستاذ أسعد القبطي، بشاربه المفتول وطربوشه المحبوك. أجرى لي اختبارا؛ فلما وجد مستواي في القراءة والكتابة جيدين، قرر إعفائي من نصف المصاريف، وألحقني تلميذا بالسنة الثانية. يدرس فيها ولداه، والأستاذ سامي مدرس العلوم الاجتماعية، والأستاذ أنيس، والأستاذ جرجس يدرس الحساب. ويدرس اللغة العربية والدين الشيخ عيسى. أبناء المدينة ملابسهم «شيك» نظيفة، بشرتهم ناعمة بيضاء.
صفحة غير معروفة
أقبل علينا رمضان، وأردت أن أبدأ الصيام، وأسرتي لا توقظني للسحور ، فظللت مستيقظا طوال الليل حتى السحور، وكان السحور كبدة، ونمت. استيقظت متأخرا على موعد المدرسة، وكان بابها مغلقا. طرقت الباب فإذا بحضرة الناظر بنظرته المرعبة يستقبلني قائلا: «ناموسيتك كحلي، وكمان بتخبط على الباب؟!»
كنت في حالة ارتباك، غمغمت ببعض الكلمات؛ من ضمنها رمضان والصيام، فنظر لي وقال: «وعلى كدا انت صايم؟» أجبته «نعم» بكل قوة وعزم. فقال: «طيب أرني لسانك، طيب ادخل، ولا تتأخر مرة أخرى.»
كنت في أشبال الإخوان بشعبة قريتنا. الأخ «إبراهيم رجب»، ناظر مدرسة قحافة، هو مسئول الشعبة، أخبرنا أن شعبتنا ستشارك في حفل استقبال المرشد العام للجماعة بنادي مركز شباب طنطا، وعلينا أن نستعد، وسوف يكون هناك طابوران من الأشبال وطابوران من شباب الجوالة. كنت سعيدا بهذه المشاركة. ويوم العرض اختاروني أن أكون في المقدمة لصوتي الجهوري. وبينما نحن نمر أمام الأستاذ المرشد، حملني أحدهم ووضعني أمام منضدة فضيلته، وقد طبطب على كتفي ودعا لي بالهداية، وأعطاني بوصلة تحدد اتجاه قبلة الصلاة. شعرت بفرحة كبيرة من تقدير المرشد. وافتخارا ببوصلة فضيلته طلبت من الأخ «إبراهيم رجب» أن أرقى من الأشبال إلى الجوالة، فضحك وقال: «لكنك صغير.» وتحت إلحاحي فتح دفتر العضوية وقال: «أي الأسر تريد أن تنضم لها؟» فقلت: «أسرة عمر بن الخطاب.» وكان أبي يدفع اشتراكا شهريا بسيطا لنشاط الشعبة على الرغم من ميوله الوفدية. انضم إلى أسرتنا مولود جديد أسماه أبي «أسامة».
أصبحت قريبا من الأستاذ عيسى مدرس اللغة العربية الذي طلب منا في حصة التعبير أن نكتب رسالة نوجهها لملك الأردن «حسين» نحثه على الوحدة العربية. ووقفت أمام الفصل بصوتي الجهوري أقرؤها. وبعد انتهائي نظر لي الأستاذ عيسى وقال: «لم تخطئ في النحو ولا قواعد اللغة ورسالتك حماسية، لكن هل تعرف النمرة التي تستحقها رسالتك؟» صمت قليلا وأنا أنظر إليه بلهفة وقال: «صفر. تعرف ليه؟ لا ترسل رسالة لواحد تشتمه فيها.» أدركت من كلام الأستاذ عيسى أنني كتبت ما هو شائع ويردده البعض، ولم أكتب ما بداخلي، كنت مدفوعا بما هو حولي عن مواقف الملك «حسين»، وكان درسا مهما لي بعد ذلك أن أستخدم اللغة ولا أجعلها تستخدمني. وخرجنا معا إلى مصلى مدرسة العبيدية لأداء صلاة الظهر.
قبض علي وعلى أبي؛ لأن أسماءنا كانت في كشوف جماعة الإخوان. ونظر الضابط إلى أبي ولي وقال: «من منكم العضو؛ أنت ولا هو؟» قال أبي: «لا أنا ولا هو، الأطفال يذهبون إلى الجماعة السنية هذه؛ فهي أفضل من وجودهم بالشارع، وكنت أدفع اشتراكا بسيطا كل شهر لكي أساعدهم.» فأفرجوا عني وعن أبي بعد ذلك، لكن ما حدث مع الأخ «إبراهيم رجب» مسئول الشعبة كان كثيرا، ولا أتخيل أبدا أن هذا الرجل كان متآمرا على حياة عبد الناصر الذي ملأ العيون والقلوب بحيويته وزعامته. شعرت أن ما يحدث للأخ «إبراهيم» ظلم.
قررت حكومة الثورة تعديل نظام التعليم من ابتدائي وثانوي فقط إلى ابتدائي وإعدادي وثانوي، فانتقلت إلى مدرسة التوفيقية الحكومية في السنة الأولى الإعدادية، وناظرها الأستاذ «عبد العزيز» من الأزهريين، أنيق الملبس، مثقف في الأدب. انضممت إلى جماعة الخطابة بالمدرسة. وفي مسابقة القراءة الصيفية بدأت أقرأ كتبا غير الكتب المدرسية المقررة؛ رواية إسبانية بعنوان «دون كيشوت»، و«الجريمة والعقاب» وهي تأليف «دوستويفسكي»، وكتب الإنجازات العلمية. وبدأت التعرف على الأدب العربي تحت رعاية الأستاذ «عبد العزيز»؛ الرواية وشعر «البارودي» وأمير الشعراء «أحمد شوقي» وشعر «المتنبي». وفي المسابقة فزت بالمركز الأول. وكانت الجائزة مزيدا من الكتب حتى أصبح لي رفوف في كتبية البيت أضع عليها كتبي. وكان أبي غير سعيد بكثرة الروايات في فترة من الحماسة ازدادت سخونتها مع العدوان الثلاثي الغادر على بلدنا وأنا في السنة الثالثة الإعدادية.
3
أختي الكبرى «بدرية» ذبلت نضارتها وحيويتها وحبها للتعلم، بعد رفض أبي أن تستكمل تعليمها؛ فمنذ أن تزوجت وهي في السادسة عشرة وحياتها جحيم؛ تعيش مع أسرة زوجها وحماتها المتسلطة، وكلما اشتكت لأبي يقلل من حجم الموضوع. فأتاه أحد الجيران يلومه على ترك ابنته هكذا، فمال إلى فكرة الطلاق، وتحدث مباشرة مع زوجها وأخبره بتنازله عن كل حقوقها مقابل أن يطلقها ، فتم الطلاق. واكتشف أنها حامل، فكان في شدة الغضب؛ فلم يكن هناك حكيم مسلم يمكن أن يجري عملية إجهاض، فذهب بها إلى أحد الحكماء الأقباط الذي كتب لها دواء تأخذه، لكن الحمل استمر وأنجبت مولودا ذكرا. ذهب أبي إلى الطبيب القبطي يلومه، والذي نظر إلى أبي وقال: «حامد، أنت فاكر علشان أنا قبطي أقتل مخلوق، مش من حقك ولا حق أي إنسان يقتل طفل خلقه الله، أنا كتبت لها فيتامينات.» ولم ينطق أبي بكلمة.
اشتد المرض عليه فأصبح يمكث بالبيت كثيرا، وأصبح ساعده الأيمن في المحل، وكانت رفوف المحل بدأت تخلو من البضاعة مع اشتداد المرض. تقدم ابن عمي «السيد أبو زيد» طالبا يد «بدرية» للزواج. اعتبره أبي نوعا من الشفقة، فرفض في البداية، لكن كانت هناك مشاعر حب بين «بدرية» «والسيد»، فوافق. وفي كل هذا لم يسأل أحد «بدرية» ماذا تريد هي، سواء في الزواج أو الإجهاض أو التعليم.
ظهرت نتيجة المدرسة الإعدادية، فدخلت على أبي، وسألني: «إيه النتيجة؟» قلت: «نجحت بمجموع كبير يدخلني الثانوية العامة.» نظر لي وقال: «جهز أوراقك لمدرسة الصنايع.» قلت بصوت خافت دون أن أنظر إليه: «أريد أن أدخل الثانوي العام.» قال بحدة: «لم يسألك أحد عن رأيك، يا مدرسة الصنايع أو تقف في الدكان.» لم أعرف ماذا أفعل، فذهبت إلى عمي الكبير، الساكن في مدينة كفر الزيات، بشقته الجميلة وبناته اللائي طالما زرننا ببيتنا في زي أميرات، كان ناظرا، أخبرته فعاد معي إلى القرية. وكان أبي في شدة الغضب، فقال عمي: «مدرسة صنايع إيه يا حامد، الولد مجموعه كبير وله مستقبل في الجامعة.» قال أبي بغضب بعد أن حاول الاتزان بصعوبة في جلسته: «لو أنا مت هتصرف عليه؟ وإن صرفت عليه ودخل الجامعة، هتصرف على أخواته؟» فلم يرد بكلمة. شعرت أني وضعت عمي في موقف صعب.
صفحة غير معروفة
ولدت أختي «آيات»، وبدأ العام الدراسي. دخلت مدرسة الصنائع لدراسة اللاسلكي، كنت صغيرا بين طلابها، يتبارون في الإجرام والتمرد، فحاولت بقدر الإمكان أن أتكيف مع الأمر. قال لي أبي وهو في شدة المرض: «إذا مت وكان عندك امتحان اذهب للامتحان.» لم يمر شهر على ميلاد أختي «آيات»، وبداية دراستي في مدرسة الصنائع، وأنا في الرابعة عشرة مات أبي وهو في الثالثة والأربعين، في الرابع والعشرين من شهر أكتوبر. أسرة من ستة أطفال، وأم في الخامسة والثلاثين من عمرها ونضارتها، على الرغم من حالات الإنجاب السبع التي مرت بها. سرت وراء جثة أبي ولم تخرج مني دمعة، الناس يحيطون بي ويحثونني على البكاء، لكني لم أبك، ولم تخرج نساء تنوح وراء جثمانه كما أوصانا.
وضعت يدي في يد أمي، وبمساعدة زوج أختي وابن عمي «السيد أبو زيد»، والذي قام بدور الأب الحامي لنا؛ عرفانا بالجميل الذي أسداه أبي له ولأسرته من قبل، فكنت بين الدراسة والمحل. أمي تغيرت حياتها تماما، وأصبحت الخياطة حرفة تتكسب منها، فتتحرك وتخرج في القرية وحدها. العيون تنهبها لشبابها وجمالها، لكنها نذرت نفسها لأبنائها الستة. أصبحت أقلد أبي، أفعل كما كان يفعل بالبيت، ومرة كنت أتحدث إليها، وعلا صوتي وقذفت بالمقص نحوها، فنظرت إلي دون أن تتكلم، وذهبت تجمع حاجاتي في منديل محلاوي، وألقت بها وبي في الشارع، وأغلقت الباب. أعرف أنها ستفتحه بعد قليل وتبكي ساعات، والناس تمر بي وتستفسر حتى اقترب مني الليل، وتجمع الجيران وأبناء القرية، وطرق بعض أفاضلهم الباب وأنا على مقربة أسمع: يا ست أم نصر، يا ست أم نصر. فقالت: «خير اللهم اجعله خير.»
تتحدث في برود وتؤدة. قال الرجل الفاضل: «إيه اللي حصل؟! هو نصر واقف برا ليه كدا والليل قرب؟!» قالت بنفس الهدوء: «مالوش لازمة عندي، لو عاجبك وعايزه خذه، لساه عيل بأكله ورماني بالمقص، هيعمل إيه بعد سنتين تلاتة؟ وعلى العموم عشان خاطرك وخاطر مجيئك، يدخل البيت على شرط واحد.» وذهبت وأحضرت الكرسي الوحيد بالبيت وجلست عليه كملكة ووضعت قدمها، وقالت: «يبوس رجلي أمامكم جميعا.» ولم يكن مني إلا أن ركعت على الركبتين وقبلت قدميها.
4
أتانا ناظر شديد لمدرسة الصنائع، قرر أن يوقف الفوضى، ضرب بيد من حديد على التسيب في المدرسة. كانت غرفة الطعام تخضع لقانون الغاب، الطلبة الأكبر سنا والأقوى يدخلون أولا ويأكلون الأكل كله وباقي الطلبة لا يأخذون شيئا، فجعل لكل طالب رقما وكوبونا، كما أنه حسن في الوجبة. وفي يوم من الأيام قفز بعض الطلبة من فوق سور المدرسة إلى مدرسة الثانوية العامة خلفنا للهروب منها إلى الشارع، كالعادة، وأمسك بهم ناظرها، واتصل به، فقال لناظر مدرسة الثانوي العام: أنت أمسكت بمجرمين قفزوا عبر سور مدرستك، بلغ البوليس.
أتممت الدراسة وحصلت على دبلوم الصنايع قسم لا سلكي، وجاءني التكليف للعمل بوزارة المواصلات السلكية واللاسلكية، وسيكون لي راتب أساعد به في مصاريف البيت ورفع الحمل الكبير عن أمي التي تفني شبابها على ماكينة الخياطة. وزارة المواصلات أدركت أني لم أبلغ الثامنة عشرة بعد، وأمامي تسعة أشهر، فأخبروني أن أعود بعد تسعة أشهر لاستلام العمل؛ فليس هناك درجة وظيفية في الحكومة قبل بلوغ السن. عدت إلى القرية أجرجر الأمل ورائي، لكني وجدت فرصة للعمل بالمصانع الحربية، وتقدمت إلى الاختبار فيها، وبالفعل بدأت العمل بها براتب مناسب. وما إن علمت وزارة المواصلات بذلك حتى أرسلت للمصانع الحربية تخبرها أن عندي تكليفا ويجب ألا أعين. وكأنه يجب علي أن أظل عاطلا حتى يرضوا. وصلت إلى القاهرة، وفي ميدان رمسيس، ظانا أني سأجد شارع رمسيس بسهولة، فلم أعرف في أي اتجاه أسير لأصل إلى الهيئة المصرية العامة لتعمير الصحاري؛ أسأل عن وظيفة هناك وأعود إلى قحافة في نفس اليوم. لم أجد أمامي إلا فتى صغيرا، سألته عن شارع رمسيس، اقترب مني وأمسك بيدي يدلني، وأدركت أن فتى آخر قد تبعني، فتشاجرا، وشعرت بفقد ربع الجنيه الذي أحمله في جيبي، فجريت وراءهما حتى ألقوا بربع الجنيه على الأرض وفرا هاربين. لم أثق في أي أحد، حتى وجدت عسكريا في الميدان وسألته عن الشارع.
كتبت شكاوى للوزارة وللسيد الوزير أطلب أن يرحموني أو يتركوا رحمة ربنا تنزل، حتى صدر قرار السيد الوزير بأن أعين بيومية مؤقتة، أربعة وعشرين قرشا ، حتى أبلغ الثامنة عشرة وأحصل على الدرجة الوظيفية في ميزانية الوزارة. فتعلمت ألا أسكت وإلا ضاع حقي. في فبراير «واحد وستين» تم تعييني وتدريبي في القاهرة، فذهبت للسكن مع بعض أبناء قحافة السابقين الساكنين أمام قسم بوليس العباسية، بالقرب من «باب الشعرية». كانوا أكبر مني سنا، أعطوني أحقر غرفة في المسكن، وبدأ استغلالهم لي؛ يكلفونني بأشياء لأنني الأصغر. وعملي كان ليلا. وبدأت أدرك عالم القمار والانحلال الأخلاقي الذي يعيشون فيه. كانوا يتجنبون إدخالي في دائرتهم حتى لا أفسد على حسب رأيهم، وحتى لا تغضب منهم أسرتي. كنت آخذ الترام أو التروللي باص للذهاب إلى العمل، في مبنى وزارة الداخلية بوسط البلد. وقت فراغ كبير لقلة العمل بالليل، شعور فظيع بالوحدة في هذه المدينة الكبيرة. أخرج قرب العمل إلى ميدان التحرير بنافورته الجميلة وشاشات التليفزيون الجديد المنصوبة في الميدان.
5
كان العمل في شرطة نجدة مدينة المحلة الكبرى بعد انتهاء فترة التدريب في القاهرة براتب ستة جنيهات وأربعين قرشا؛ موظفا تابعا لوزارة المواصلات، وانتدبت للعمل فني لا سلكي بوزارة الداخلية. أعود في ساعات متأخرة من الليل؛ ثلاثين كيلومترا إلى قحافة. ففكرت في انتقال الأسرة إلى المحلة حتى أستطيع أن أتابع دراسة إخوتي. وكان الأمر صعبا على أمي، حيث زبائنها ومعارفها، فانتقلت الأسرة وبقيت هي بالقرية حتى أقنعها أحد أقاربنا بحاجة الأسرة إليها في المدينة، فانتقلت إلى السكن في المحلة.
تجدد حلمي، فتعرفت إلى المجموعة الأدبية بقصر ثقافة المحلة، والذي انتقل إلى أحد قصور أعيان ما قبل الثورة؛ مجموعة من المهتمين بالأدب والفكر، نلتقي مرة في الأسبوع؛ منا ذو الميول الدينية الإخوانية مثل «زكريا التوابتي»، يكتب القصة القصيرة، يسكن في شقة أمام سور شركة مصر للغزل والنسيج، وقد فاز بجائزة نادي القصة القصيرة. شجع ذلك «سعيد الكفراوي»، ابن قرية كفر حجازي الذي طالما ذهبنا إلى منزلهم العامر فيرعانا والده بأطيب الطعام من خيرات أطيانه، دخل «سعيد» عالم القصة القصيرة. و«محمد صالح» ابن قرية «منية شنتنا عياش» مهتم بالشعر، متمرد على كل شيء ، أغتاظ من طريقة تعبيره وملامح وجهه وغمزات عينيه حين يتكلم، حتى تعودت عليه. وأصغرنا سنا «جار النبي الحلو»، دخل عالم القصة القصيرة ومن بعدها الرواية، وخله الوفي المنسي قنديل. و«محمد فريد أبو سعدة» يكتب الشعر، في بداياته كان متأثرا بشعر «أمل دنقل»، حتى وجد صوته الخاص. و«أحمد الحوتي» الشاعر، وهو من أوائل من نشروا من مجموعتنا. أما أكبر مجموعتنا سنا فكان «أحمد عسر». وحينما انضم إلى مجموعتنا «جابر عصفور» وهو طالب في كلية الآداب، والذي كان شديد النقد، و«أحمد» يضيق بنقده، و«جابر» لا يبالي؛ متأثرا بالأفكار اليسارية التي يتناولها في الجامعة واهتمامه بعالم النقد الأدبي. و«الأزهري رمضان جميل» الخبير بكتب التراث، وكاتب القصة القصيرة. وكانت قصته «موت عامل نسيج يدوي» جذبت نظر محرر صفحة أدباء الأقاليم بجريدة الجمهورية فنشرها.
صفحة غير معروفة
كنت شديد التقرب من فكر الثورة وحلم العدالة الاجتماعية، من وجهة نظر دينية، فكتبت مقالا وأنا في التاسعة عشرة، عن أدب العمال والفلاحين، ناقشت فيه قضية هل أدب العمال والفلاحين هو ما يكتبه العمال والفلاحون أنفسهم، أم هو الأدب المعبر عن مشاكل وأحاسيس العمال والفلاحين حتى لو كتبه برجوازي. وأرسلت المقال في خطاب إلى مجلة الأدب التي يصدرها الأستاذ «أمين الخولي»، والذي بدأت أتابع كتاباته. وللمفاجأة وجدت المقال منشورا سنة اثنتين وستين، وبدأت أهتم أكثر بموضوع أدبية القرآن في كتابات «سيد قطب» وكتابات أخيه الأكبر «محمد قطب»، وقرأت رسالة «محمد أحمد خلف الله» عن الفن القصصي في القرآن الكريم؛ فازددت انجذابا للنظرية الأدبية في القرآن.
كنت ممزقا بين إيماني بدور ثورة يوليو وسعيها إلى العدل الاجتماعي، وزعامة «جمال عبد الناصر» الذي تحول إلى رمز، وبين إيماني بالدور الأساسي للإسلام الذي عايشته في القرية، وفي فهم الإخوان المسلمين وحرصهم على قيمة العمل والجدية بعيدا عن الدروشة. كنت ممتلئا بحلم الوطن الناهض بالكرامة والعدل الاجتماعي، فأرسلت خطابا ل «جمال عبد الناصر»، ووصل إلي من الرئاسة خطاب به صورة له. وجدت الحماسة في الأغنية الوطنية والأغنية العاطفية الجديدة، مثل «صافيني مرة وجافيني مرة» بواقعيتها، ولم تجذبني آهات من يتربعون على عرش الغناء في ذلك الوقت. وجذبني شعر «صلاح جاهين»، وقصيدة العامية. وبدأت أكتب الشعر أيضا حتى حصلت على جائزة الثقافة الجماهيرية في الشعر. وكتبت مقالا آخر عن أزمة الأغنية المصرية أناقش الأغنية الوطنية والأغنية الاشتراكية، ونشر الأستاذ «أمين الخولي» المقالة أيضا في مجلة الأدب (مجلد تسعة، عدد سبعة، سنة أربع وستين).
في شرطة نجدة المحلة مشاكل كثيرة كانت تأتيني من كوني مدنيا أناقش الأوامر، فحولت للتحقيق أكثر من مرة، لكني تعلمت طرقا للمقاومة والحصول على الحق داخل هذه البيئة. كانت مجموعتنا الأدبية غير مرحب بها، وعين الأمن تراقبنا. وذهبت إلى الضابط المسئول وسألته: «إنتو بتراقبوني ليه؟» فقال: «هذا شغلنا.» ضقت بتصرفات الدولة البوليسية وغياب الحريات والديمقراطية وحرية الفرد وكرامة الإنسان التي تهان كل يوم أمامي في قسم الشرطة. وكان القبض على «سيد قطب» في تنظيم القطبيين ومحاكمته ثم إعدامه بعد ذلك، والقبض على زميلنا الرقيق كاتب القصة «زكريا التوابتي»، وحكم عليه بالسجن خمسة عشر عاما. بدأت أدرك استخدام الدولة للدين كوسيلة في فرض سلطانها.
شعرت بالرغبة في الخروج من حالة العسكرة ومن هذا العمل، ومواصلة تعليمي العالي؛ فهذا «جابر عصفور» تخرج في كلية الآداب وأصبح معيدا. والدراسة الجامعية أصبحت مجانية بعد قرارات حكومة الثورة. أعلنت جامعة الأزهر تحت رئاسة د. «محمد البهي» عن افتتاح كلية الدراسات العربية والإسلامية، ضمن مشروع تخريج دعاة، أنها ستقبل جميع الحاصلين على الشهادات المتوسطة لا الثانوية العامة فقط، ومن كل سنوات التخرج. وبالفعل أحضرت الكتب لكي أستعد لامتحان القبول، وبدأت أتعرف على لغة كتب التراث، فقرأت حاشية «الباجوري» على السلم في المنطق، والجوهرة في الفقه، وألفية ابن مالك في النحو، وتفسير النسفي، وكتبا في علم الكلام. وقبل موعد الامتحان بأسبوع، ونظرا لأن آلافا تقدموا، قررت إدارة الكلية قصر القبول على دبلوم المعلمين في أي سنة، وبقية شهادات خريجي هذا العام فقط. فلم أتمكن من دخول الكلية، فقررت أن أذاكر للثانوية العامة «منازل» للدخول للجامعة .
6
بعد عدة أشهر من إعدام «سيد قطب» شنقا، وخلال أزمة إغلاق مضايق «تيران» أمام الملاحة الإسرائيلية، كنت بأحد المقاهي أشاهد كلمة ل «جمال عبد الناصر»، وصحت في وسط الناس: «هو عامل نفسه فريد شوقي، دا مش كلام رئيس دولة.» وكاد الناس في المقهى أن يفتكوا بي. وحدثت الهزيمة، وكنت متوقعها، وليس بأقل مما حدث، لكن أصابتني حالة من الاكتئاب لضياع الحلم. أجلس على الرصيف أمام النجدة حافي القدمين، رأسي يتدلى على صدري. ما إن رأيت «سعيد الكفراوي» قادما في ذهوله حتى انفجرت باكيا، وجلسنا على قارعة الطريق نبكي. أسبوعا ملقى على ظهري أنظر إلى سقف الغرفة بلا نوم. وجاء خطاب «عبد الناصر» بالتنحي عن الحكم، وكنت راغبا أن يتنحى، بل وأن يحاكم، لكن الشعب المصري تحركه العواطف، فخرج الناس إلى الشوارع خروجا عفويا يطلبون من الزعيم، الرمز، الأب، أن يتحمل المسئولية، يطلبون من زعيم مقتول أن يقود. كنت غاضبا جدا من هذا التصرف. كانت فرصة كبيرة أن يتخلص الشعب المصري من عقدة الأب، بل إنها كانت فرصة كبيرة ل «عبد الناصر» أن يحدث تغييرا حقيقيا وجذريا، ولكنه لم يفعل. لم يتزعزع إيماني بالثورة ومبادئها، ولكن يجب أن يحاسبوا، وأولهم «عبد الناصر» الذي ظل داخلي رمزا جميلا على الرغم من غضبي.
أمي في حالة من الفزع الدائم؛ فقد عاد الكثير من الجنود ولم يعد أخي «محمد». أغادر البيت أبحث عن خبر عنه، ذهبت إلى وحدته العسكرية بالقاهرة، لا أحد يخبرنا بشيء. في المستشفيات العسكرية أبحث في كشوف القتلى والجرحى عن اسمه، والكثير من الأهالي لا يقرءون، فأقرأ الكشف عليهم، والكشوف تتغير كل ساعة. ويا لبؤس الجرحى المهملين! بلد لم تكن مستعدة لحرب. وجدت اسم «محمد أبو زيد»، لكن كان مجرد تشابه في الاسم. لم يكن معي مال كاف ولا مبيت، فذهبت إلى جامعة القاهرة أبحث عن «جابر عصفور» كي أبيت عنده، دخلت المكتب فوجدت رجلا يجلس يرتدي قميصا بنصف كم، وفي ذراعه علامات جراحة واضحة، ناظرا للا شيء. سألته عن «جابر »، قال: «هو انت قريبه؟» فقلت: «صاحبه.» وأتى «جابر» وعرفني به؛ د. «عبد المحسن طه بدر»، مدرس في قسم اللغة العربية. كان «جابر» عائدا شاحب الوجه من مقابلة مع المشرفة على رسالته د. «سهير القلماوي» التي لم يعجبها ما كتب في الرسالة، فكان في حالة مزاجية غير جيدة. تحدثنا عن أخي، وعرض د. عبد المحسن أن يساعد؛ فله من يعرف بالجيش. وذهبت للمبيت في غرفة «جابر»، على سطح منزل قديم في إحدى حواري قلب الجيزة بالقرب من كازينو «الحمام» خلف كوبري الجيزة القديم.
وصل إلي خطاب أمر تجنيدي في القوات المسلحة لحاجة الجيش إلى تخصص إلكترونيات، على الرغم من أني العائل لأسرتي. وكان معنى هذا التكليف هدم الأسرة كلها، وهدم حلمي بالحصول على الثانوية العامة، فسألت الرجل وماذا إذا لم ألب الأمر. قال: «سوف يتم القبض عليك.» فقلت: «دعهم يقبضون علي؛ فلن أذهب بنفسي.» وبمكتب التجنيد بالإسكندرية حاول الضابط أن يبرر استدعائي بأنه ببعض التمرينات أفقد بعض الوزن، لكني أعفيت من التجنيد للسمنة المفرطة، ولأني العائل للأسرة. كنا في حالة بحث دائم عن «محمد»، وفشلت كل محاولاتي أسبوعا أو عشرة أيام في القاهرة، حتى وصل إلينا خطاب منه بعد شهر يخبرنا أنه نقل إلى وحدة بالزقازيق بمحافظة الشرقية، فنهضت مع ابن عمي «السيد أبو زيد» لنزوره. ننتظر مع كل أهالي الجنود خارج الوحدة، مر من أمامي ولم أعرفه، ملامحه مختلفة تماما، كان قليل الكلام، ولم يتحدث عما حدث. قضى تسع سنوات في الخدمة العسكرية.
حصلت على شهادة الثانوية العامة «منازل» بأربعة وسبعين ونصف في المائة «قسم أدبي»، وهو مجموع أكبر من الستين التي حصل عليها «جابر عصفور» قبلها بثماني سنوات. كان عمري خمسة وعشرين عاما، قدمت طلبا إلى رؤسائي في العمل للانتساب إلى كلية الآداب، فقبلت بسخرية شديدة، ورفض طلبي. ولم أعرف ماذا أفعل، فقدمت أوراقي لمكتب التنسيق كطالب منتظم، وخفت أن يعترضوا إن ذهبت أقدم بنفسي لأن سني كبير، فأرسلت أحد الأصدقاء ليقدم لي. وتحقق الحلم، وقبلت كطالب منتظم في كلية آداب القاهرة، لكني أعمل بالمحلة. كان دخولي الجامعة، في مظاهرات الطلبة في نوفمبر «ثمانية وستين»، اعتراضا على الأحكام المخففة التي صدرت ضد قادة سلاح الطيران عن الهزيمة. كادت عيناي تبكي فرحا بتحقق حلم الوصول إلى كلية الآداب، وفي ذهني قسم الفلسفة حتى أتعلم شيئا جديدا. والأدب العربي يمكنني أن أقرأه بنفسي ولا أحتاج إلى قسم اللغة العربية لذلك. ودخلت مدرج «ثمانية وسبعين» الذي لم يكن به موضع قدم من المئات الموجودة به، وفجعت بمحاضرة الفلسفة العامة. ما إن بدأ الأستاذ المحاضرة بصوته الرتيب يقرأ من كتاب وأنا دخلت في نوم، وليس من عادتي أن أنام في أي مكان، فظننت أن السبب هو وجودي بعيدا عن المنصة، فاقتربت واقتربت حتى وصلت إلى المقدمة، وما إن جلست حتى دخلت في نوم عميق مليء بالأحلام. ولم أجد النقاش ولا الحوار الذي أنتظره وأتصوره عن الجامعة الحلم، فرسخ في ذهني البعد عن قسم الفلسفة. وفي محاضرة تاريخ الأدب العربي وجدت الدكتور «شوقي ضيف» أيضا يملي على الطلاب.
على طالب الانتظام أن يحضر على الأقل خمسة وسبعين في المائة من المحاضرات، ولم أستطع. وفي محاضرة الدكتورة «نادية عيد» للغة الإنجليزية لمحت أني أحضر لأول مرة، فسألتني، فقلت: «هل يمكن أن أحدثك بعد المحاضرة؟» فقلت لها: «رؤسائي في العمل لم يوافقوا على نقلي، وهذا سبب عدم حضوري.» وسببت رئيسي في العمل وضيق أفقه، فأشارت بيدها أن أتوقف عن الكلام والسب، وأخبرتني أن رئيسي في العمل رئيس المصلحة هو والدها. شحب وجهي، وهرولت خارجا من الغرفة. جرت في أعقابي وعادت بي، وقالت: «أنت كنت تسب رئيسك في العمل، وكل واحد من حقه أن يعبر عن مشاعره ضد رئيسه، ولم تعرف أنه والدي، لكن أنت متأكد أن الأمر بيده؟ قلت: «بيده أن يذهب بي إلى وراء الشمس.» فطلبت أن أكتب طلب نقل وأعطيه لها، فكان قرار نقلي من المحلة إلى القاهرة في أربع وعشرين ساعة؛ مما أصابني بحالة من الارتباك لنقل أسرة بكاملها في أربع وعشرين ساعة ؛ ومدارس «كريمة وأسامة وآيات» وإيجاد سكن؟ وأخبرني «جابر» عن حجرة صديقه «رشاد»، سيتركها، فذهبنا لاستئجارها.
صفحة غير معروفة
7
كنت أعيش فترة من الوحدة والمشقة بعد انتقالي للعمل بالقاهرة، أرسل راتبي لأسرتي في المحلة، وأحاول أن أعيش بأقل القليل، أوفق بين العمل والدراسة في الجامعة. وبينما أنا في وردية الليل بقسم العجوزة، أتأمل وحدتي وأفكر في ديوان «أحمد عبد المعطي حجازي» «مدينة بلا قلب»، الذي يصور شعوري تجاه القاهرة:
بلا نقود، جائع حتى العياء،
بلا رفيق
كأنني طفل رمته خاطئة؛
فلم يعره العابرون في الطريق
حتى الرثاء.
دخلت قسم الشرطة امرأة بلا ملامح من غزارة الدم المسفوح على وجهها، تشتكي زوجها لأنه «ضربها ضربا شديد الإيذاء»، فأهملها العسكري «النبطشي». وظلت تنتظر وهي مجروحة ضعيفة قليلة الحيلة، فتحدثت إلى العسكري الذي قال بكل برود: «هو انت غضبان ليه؟! هو انت تعرفها؟!» قلت: «وده يغير إيه في الموضوع؟ أنت مفروض عليك تأخذها للمستشفى تتعالج وتبعت تجيب زوجها هنا تستجوبه.» كنت أحاول بلطف التدخل حتى تستطيع المرأة أن تأخذ حقها؛ لمعرفتي بأقسام الشرطة، فخففت من نبرة الحدة، وذهبت أنا بها إلى المستشفى حتى عولجت، وأخذت التقرير الطبي وأودعته القسم. بعد يومين أحضرت الشرطة زوجها، لكني لم أتدخل في شيء. في نفس اليوم حضرت المرأة إلى القسم تحمل لي وجبة ساخنة أعدتها، فقلت لها: «يا ستي أنا أشكرك جدا ودا ذوق منك، لكن لا أستطيع أن أقبل دا ولا آكل في العمل.» قالت ببراءة: «خده معك للبيت، اعتبرها هدية من أختك، والنبي قبل الهدية.» فلم أرد أن أخجلها. بعد يومين أتت تسحب البلاغ ضد زوجها، وأخبرتني أنها كانت تريد من الشرطة أن تلفت نظره، وفي النهاية هو والد أبنائها. سألتها: «إنت بتحبيه؟» وكأنها لم تفهم ماذا أعني، قالت: «أبو عيالي.» قلت: «بيضربك باستمرار؟» أجابت: «لا أبدا هو كان غضبان جدا؛ لأنه بياع سريح، يبيع فاكهة في الشارع والجو الحار تلف له البضاعة.» أردت أن أسألها إن كانت زيارة مني لزوجها يمكن أن تساعد، فقالت: «أنت تشرف وتزدنا نور .» قلت لها آتي بشرط موافقة زوجك. زرتهم وأحضرت بعض الفاكهة. كانت حالتهم «عدم»، عندهم ثلاثة أطفال، وزوجها إنسان محترم، وقد أخبرته عن أخذي لها للمستشفى، بل وعنفته أنه كان عليه أن يأخذها للمستشفى.
ندرس في السنة الأولى تاريخ الأدب العربي القديم، ويدرسه الأساتذة التقليديون بشرح الظروف العامة، السياسية والاجتماعية، «شرحا سرديا بغير تحليل»، ثم بعد ذلك يتحدث عن السيرة الذاتية للشاعر، وتحليل بعض النصوص وقراءتها قراءة تجزيئية بيتا بيتا دون قراءة وحدة كاملة. حصلت على تقدير «جيد» في السنة الأولى وبكيت؛ لأني كنت أريد «جيد جدا» وما تأتي به من بعض مكافآت التفوق. الحياة في القاهرة كانت صعبة جدا. نقل الأسرة والعيش على «اثني عشر جنيها راتبا»، وأخي «محمد» مجند بالجيش، «وكريمة وأسامة وآيات» في مدارسهم. عدت يوما متأخرا وغضبت على الأكل الذي طبخته أمي ولم آكل، فجاءت بيني وبينها وقالت: «يا نصر، لما تغضب على الأكل قدام اخواتك يتعودوا على كدا ويعملوا زيك وأرمي الأكل في الزبالة، وكله من فلوسك، فشوف أنت عايز تصرف فلوسك ازاي.» كنت أحاول تدبير الأمور بقدر الإمكان فأحدد نفقات كل شيء؛ السجائر ثلاث كل يوم، مصاريف الأتوبيس والإفطار. وشعرت بألم الجوع والحاجة مرات، لكن سعيت بإصرار لتحقيق حلمي.
في السنة الثانية بالجامعة، بعد ما رأيت من محاضرات اللغة العربية والفلسفة، كنت أفكر في قسم اللغة الإنجليزية، ولكني نجحت في الإنجليزية بالكاد، فاخترت قسم اللغة العربية، والظروف بدأت تتغير فأصبحنا ما بين ثلاثين إلى خمسة وثلاثين طالبا في المحاضرة، واكتشفت د. «شوقي ضيف» آخر؛ ففي محاضرته يناقش ويسمح بالاختلاف ويطلب عمل أبحاث. طلب منا بعض أساتذة الأدب العربي القديم أن نعمل بحثا لأعمال السنة، فقدمت بحثا بعنوان «ظاهرة الغزل في العصر الأموي، ثلاثة مناهج في دراستها»، قارنت بين منهج كل من «طه حسين والعقاد وشوقي ضيف». وكان غضب الأستاذ علي جما؛ لوصفي منهج د. «شوقي ضيف» مقارنة بمنهجي «العقاد وطه حسين» أنه منهج تقليدي، لكني فوجئت بالدكتور «شوقي ضيف» يثني على البحث ويعلن موافقته على أن منهجه تقليدي، بل وأكثر من ذلك يعلن أمام الطلاب جميعا: «ما الفائدة إذا لم تنقدوا أساتذتكم؟ كيف يتقدم البحث العلمي إذا ظل الخلف يردد كلام السلف؟» وبدأت أظهر كطالب مجد ومجتهد، ويعرفني أساتذة قسم اللغة العربية، وحصلت على تقدير عام «جيد جدا»، وفزت بالمركز الثالث في الشعر للسنة الثانية. وبدأت تتوثق علاقتي ب «زين العابدين فؤاد» الذي حصل على الجائزة الأولى في الشعر، ولكن لأننا متقاربان في السن نكبر بقية الطلبة بثماني سنوات، وكان قد حول من كلية الهندسة إلى كلية الآداب بعد أن قضى بها ست سنوات. وكنا نمزح حين نذهب لزيارة «جابر عصفور» الذي يستعد لمناقشة رسالته للماجستير، فنسميه ابننا «جابر»؛ لأننا نكبره في السن. وكان شبه منقطع عن العالم الخارجي من أجل الرسالة والانتهاء منها.
صفحة غير معروفة
8
مع بداية السنة الثالثة أصبحت أذهب إلى الجامعة صباحا، ومنها إلى وردية المساء بقسم شرطة العجوزة، وبدأت الأسرة تتأقلم على الحياة في القاهرة؛ أمي تزداد خبرة في التعامل مع المدينة المزدحمة. كان «جابر عصفور» يدرس لنا تاريخ النقد الأدبي، وكان منخرطا في إعداد رسالته للدكتوراه عن «الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب» بعد رسالته للماجستير عن «الصورة الفنية عند شعراء الإحياء في مصر»، وكنت قريبا منه نتناقش طوال الوقت، ومعجبا بالنظرة الكلية التي ينظر بها لموضوع بحثه عبر مجالات التراث المختلفة. وبدأ د. «عبد المنعم تليمة» يدرس لنا محاضراته المرهقة عن نظرية الأدب من منظور ماركسي، ويدخل بنا في رحاب بعيدة من الفكر الفلسفي للربط بين نظرية الأدب ونظرية المعرفة، وارتباط ذلك بالمنظور الفلسفي.
دخل علينا المدرج د. حسن حنفي، الشاب العائد من فرنسا، والحاصل على الدكتوراه من السوربون، ببدلته الأنيقة، وشاربه المهذب. ومن أول محاضرة تحدث عن الحوار والنقاش، ودور الطالب في المحاضرة، وعن التعلم المتبادل بيننا، يدرس لنا علم الكلام الإسلامي. وبدأ يتحدث عن البنية الهيراركية الموجودة في التراث الإسلامي من الأعلى للأدنى؛ الله، ثم الملائكة فالأنبياء والرسل، ثم المؤمنون المسلم منهم وغير المسلم، فالكفار، ثم الحيوانات فالنباتات، ثم الصخور. ويربط كل ذلك بالبنية السياسية في العالم الإسلامي بنفس النسق؛ الحاكم، ثم الوزراء فرجال الإدارة، ثم كبار الموظفين فالعمال والفلاحون، ثم الحيوانات. ويربط جوانب التراث المختلفة؛ السياسي والعقدي والنحوي واللغوي والفقهي. ويربط بين الماضي والحاضر بطريقة طازجة جاذبة.
ويخصص وقتا كبيرا للنقاش والحوار. كنت من أول المناقشين، فقلت: «يعني أنت تتصور بهذه البدلة الأنيقة والكرافات المستوردة من باريس أنك هتغير وعيي في المحاضرة؟ وأنا مطلوب مني بعد ذلك أخرج أغير لك المجتمع، هو حضرتك ناسي أني ممكن أتخرج من هنا وأروح أشتغل في التموين، أو مدرس في منطقة نائية، بمرتب لا أستطيع أن أعيش به؟ أنت كأستاذ لك هيبة ومكانة، هتغير مخي وتطلب مني أن أغير الواقع؟ التغيير يحتاج إلى عمل ثوري وليس إلى عمل أكاديمي؟» وجدته يبتسم، وهو قليل الابتسام، وامتدح النقد وقال: «يا صديقي هذه مشكلة، ويجب أن نفكر فيها معا، هل نبدأ بتغيير الواقع ليتغير الوعي، أم نغير الوعي ليتغير الواقع؟ أيهما الأسبق على الآخر؟ أيهما الأصل وأيهما الفرع؟» وسألني عن اسمي فأجبته، فقال: «يا نصر اعمل حزبا من أجل تغيير الواقع وأنا أنضم عضوا مشاركا فيه.» فقلت له: «اعمل أنت الحزب وأنا أنضم.» فضحكنا، وكانت بداية علاقة بأستاذ مختلف له رؤية. وقام بعض زملائنا السلفيين يعترضون على ما جاء في المحاضرة، أعطاهم كامل الحرية. وبعد أن فرغ أحدهم قال له: «يا صديقي أنت لم تقل شيئا، ما قلته هو خطبة عصماء مكانها المسجد، لكن نحن في جامعة، حاورني حوارا فلسفيا.»
في محاضرة النحو كان الأستاذ يشرح لنا الخلاف بين نحاة البصرة ونحاة الكوفة حول ما ينوب عن الفاعل في حالة حذفه. البصريون يقولون إذا وجد في الجملة مفعول به، يكون هو نائب الفاعل، ولا يمكن أن تتجاوزه إلى غيره. نحاة الكوفة يقولون إذا كان الفعل لازما، يجوز في هذه الحالة أن تأتي بالجر والمجرور أو الظرف ليكون نائب فاعل. وأنا في المحاضرة دار في ذهني سؤال: هل لهذا الخلاف أساس معتقدي؟ وما إن حاولت أن أطرح سؤالي هذا على أستاذ النحو حتى قال «أنت بتقول إيه؟! إحنا في محاضرة نحو، عندك سؤال في النحو قوله.» ولم يعط لنفسه حتى فرصة للنظر فيما أقول. وأصبحت مشغولا بهذه العلاقات والعلائق بين مجالات العلوم العربية والإسلامية المختلفة. وفي محاضرة الأدب المصري، وكان الأستاذ يشرح قصيدة مدح للشاعر تميم بن المعز لدين الله الفاطمي (337ه/948م-373ه/985م) في أخيه الأصغر منه الذي ولاه أبوهم الخلافة متخطيا للشاعر، فمدح الشاعر أخاه الخليفة:
يا ابن الوصي المرتضى يا ابن الإما
م المجتبى يا ابن النبي المرسل
ما بال مالك ليس يرميه الندى
إلا يوافق منه موضع مقتل؟!
والأستاذ يحاول أن يقنعنا أن مدح الشاعر لأخيه أيديولوجيا شيعية من تعظيم الإمام، وأشار إلي وقال: «أنت يا جدع يا تخين أنت واضح أن القصيدة مش عجباك.» قلت: «في الواقع يا دكتور مش عجباني، هذا مجرد نفاق وترديد لكلام سابق، وليس بها عاطفة ولا إحساس.» نظر الأستاذ لي وقال: «وهتكتب دا في ورقة الامتحان؟» قلت: «بالطبع لا.» وبدأت أذكر عليه كل الأحكام التي ذكرها هو على القصيدة. فقال الأستاذ: «طيب إيه رأيك أني قرأت الإلياذة ولم أعجب بها.» تصور الأستاذ أن نقدي هو إهانة للأدب العربي، وليس مناقشة من أجل التعلم. في هذه السنة حصلت على تقدير «ممتاز»، وكان إحساسا لذيذا على الرغم من مشكلات الوطن.
صفحة غير معروفة
9
بدأنا ندرس قضايا ومشكلات معاصرة مع أساتذة تجديديين حداثيين، بخلاف أساتذة التقليد. الجامعة نظمت لي قراءاتي، والحوار والجدل داخلها، والخلافات السياسية والاجتماعية، والتظاهر ضد حالة اللاحرب واللاسلم التي اتبعها الرئيس السادات. في هذه المرحلة بدأت أدرس الخطاب الديني التقليدي، وبالتحديد العلاقة بين الأدب والدراسات الإسلامية في صورة أوسع، وبدأت أدرك البعد السياسي في دعوة الإخوان المسلمين والتيار الديني. البعد السياسي كان على الهامش في الماضي، والحث على العمل والعدل الاجتماعي كان هو المتن، لكن تغيرت الأوضاع، وتحولت النظرة إلى الإسلام من عقيدة وشريعة - بما تحويه من عبادات ومعاملات - إلى أن أصبح الإسلام دينا ودولة. ومع هزيمة يونيو بدأت أدرك أن أفكار «سيد قطب» في كتابه «معالم على الطريق» لم تكن طارئة من تجربة السجن أو التعذيب في المعتقل، إنما هي موجودة في خطابه منذ البداية، لكنها كانت على الهامش، وكان متن الخطاب ومحتواه العدالة الاجتماعية والإسلام والسلام العالمي، ومع انكسار العهد مع ضباط يوليو أصبح - شعار «الإسلام دين ودولة» - هو المتن، وانتقلت العدالة الاجتماعية إلى الهامش. واتسعت قراءاتي في الفلسفات من الماركسية إلى الوجودية، ولم أتخل عن منظوري الإسلامي العام، والرغبة في تحقيق عدالة اجتماعية، لكن وصلت إلى قناعة أنه لا يتقدم مجتمع أو يتأخر لأنه مجتمع مسلم أو غير مسلم، بل يتقدم أو يتأخر طبقا لقوانين تدرس في علوم أخرى؛ العلوم الاجتماعية والإنسانية بشكل عام، والنظر في بنية المجتمع في تعقيداتها، والعلاقات بين الطبقات ووسائل الإنتاج، والعلاقة بين وسائل الإنتاج وأنماط الإنتاج. نحتاج إلى وسائل وآليات أخرى لبناء مجتمع متقدم.
بدأت تتسع نظرتي للتأثير الأدبي والفني للقرآن أوسع من اهتمامات «سيد ومحمد قطب» التي تعتمد على الانطباعية. بدأت صلتي تتوثق بفكر الشيخ «أمين الخولي»، ومدرسته التي تعود بذور لها إلى فكر الإمام «محمد عبده»؛ من أن القرآن كتاب هداية للبشر، وليس كتابا في التاريخ أو العلوم، الهدف الأول له هو هداية البشر إلى الطريق المستقيم، ويستخدم القرآن اللغة العربية لتوصيل رسالته إلى المؤمنين، والشيخ «أمين الخولي» رأيه أن القرآن الكريم هو كتاب العربية الأكبر، وقبل أن نستخرج منه أحكاما قانونية أو فقهية أو جمالية يجب أن يدرس أدبيا. وبدأت أقرأ في جهود «محمد عبده» والشيخ «علي عبد الرازق» وكتابه «الإسلام وأصول الحكم»، و«طه حسين» وكتابه «في الشعر الجاهلي»، والقضية التي أثيرت حولهما، وكتابات الشيخ «أمين الخولي»، ومحنة مدرسته في نفس قسم اللغة العربية منذ عشرين عاما، حين تقدم تلميذه «محمد أحمد خلف الله» تحت إشرافه برسالة دكتوراه عن «الفن القصصي في القرآن الكريم»، بعد رسالته للماجستير التي كان موضوعها «الجدل في القرآن الكريم»، وصارت ضجة حول رسالة الدكتوراه عام سبعة وأربعين، واضطر «خلف الله» إلى أن يسحب الرسالة ويكتب رسالة أخرى في أشهر قليلة عن صاحب كتاب «الأغاني»، حصل بها على الدكتوراه وفصل من الجامعة. وحرم الشيخ «أمين الخولي» من الإشراف على رسائل في الدراسات الإسلامية، مع الاكتفاء بتدريس البلاغة والنقد الأدبي، حتى أخرج من الجامعة مع قرارات حكومة ثورة يوليو سنة أربع وخمسين، برفت أكثر من خمسين أستاذا. وكان على تلميذ الشيخ «أمين الخولي» الآخر أستاذي «شكري عياد» أن يختار تخصصا آخر غير الدراسات الإسلامية والقرآنية حتى يستطيع الاستمرار بجامعة القاهرة، فاختار موضوع الدكتوراه عن «تأثير كتاب الشعر لأرسطو في البلاغة العربية» بعد أن درس في الماجستير «تحليل مشاهد يوم القيامة في القرآن تحليلا أسلوبيا»، وتم القضاء على مدرسة التفسير الأدبي للقرآن بكلية الآداب جامعة القاهرة، ولم يعد هناك متخصص في الدراسات الإسلامية بالكلية، وأصبح تدريس الدراسات القرآنية وعلوم الحديث نوعا من البركة، كما رأيت خلال دراستي لعلوم القرآن في الفرقة الأولى، وعلوم الحديث في الفرقة الثانية. اقتربت من فكر «أمين الخولي» الذي أظن أني أتبعه وإن لم أقابله مرة في حياتي.
أنهيت الدراسة بالكلية سنة اثنتين وسبعين بتقدير «ممتاز»، وكنت الأول على كلية الآداب في جميع الأقسام، وكنت في لهفة لقرار تكليفي معيدا بقسم اللغة العربية. وجدت أمي في قمة السعادة، وقالت لي: «ربنا هيوفقك يا نصر، إنت تعبت، بس أنا مش عارفة إيه حكاية التعيين في الكلية دي، ما أنت مهندس أد الدنيا، وبتشتغل شغلة حلوة، على كل حال، أنا نذرت نذر للست العذراء إن اتعينت ونلت مرادك، وهي مش هتخذلني أبدا.» ابتسمت وقلت لها: «العذراء يا أمي عند الأقباط.» ردت علي بحدة: «ما أنا نذرت ودعيت عندهم كلهم السيدة نفيسة والسيدة زينب، والعذراء بركة.»
وصدر قرار الكلية بالتكليف، ولم يكن اسمي موجودا؛ فقد أخذ قسم اللغة الإنجليزية أربعة معيدين، حيث يرأسه د. «رشاد رشدي» صاحب النفوذ الذي ظل في رئاسة القسم عمرا. ذهبت إلى مجلس قسم اللغة العربية أشتكي، أخبرت أن هذا قرار مجلس كلية. وسدت الأبواب. كتبت شكوى لرئيس الجامعة عن الظلم الذي حدث، وختمتها بعبارة «متظلم بالباب»، وذهبت إلى مدير مكتبه الذي رفض أن أقابله مدعيا أن رئيس الجامعة مشغول، فافترشت الطرقة أمام باب مدير مكتب رئيس الجامعة متظلما بالباب، وعلى أثر الضوضاء خرج رئيس الجامعة الدكتور «حسن محمد إسماعيل»، واستعلم عن الأمر وقال: «هو انت المتظلم بالباب؟» إيه لغة الدواوين دي؟ تعال يا سيدي ادخل.» بالداخل قلت له: «أنا متظلم على باب سيادتك حتى تنظر في مظلمتي، أنا الأول على الكلية كلها ولم يصدر قرار بتكليفي معيدا.» قال: «تبقى شيوعي أو إخوان.» قلت له: «أنا لا شيوعي ولا إخوان، وبعدين هناك موافقة جهة الأمن هي تحدد ونعرف رأيها.» طلب لي كوبا من الماء، وطلب الأوراق من مدير مكتبه وتأكد من التقديرات، وقال: «دا كلام فارغ.» وفي دقائق كتب قرارا يعيد فيه قرارات تكليف المعيدين حسب القواعد والقانون، وإلغاء قرار مجلس الكلية. وصدر قرار تكليفي بوظيفة معيد في قسم اللغة العربية بكلية آداب القاهرة و«أحمد زايد وفيصل يونس»، وكنت في الثلاثين من العمر.
10
تركت العمل كفني لا سلكي، وانتقلت للعمل كمعيد بقسم اللغة العربية، فقرر مجلس القسم أن يتخصص المعيد الجديد في الدراسات الإسلامية، في سابقة لم تحدث من قبل؛ فكل معيد يختار تخصصه. وفي ذهني ما حدث مع الشيخ «أمين الخولي» وتلاميذه منذ عقدين في نفس المكان. وفي اجتماع القسم التقى أساتذة قسم اللغة العربية، ولم أكن معيدا صغير السن بل في الثلاثين من عمري، وأعرف ما حدث من قبل، فعرضت تخوفاتي أن يحدث نفس الشيء مرة أخرى، فقال البعض إن ما حدث من عشرين سنة كان سببه خلافات شخصية بين الأساتذة وصراعات داخلية. وقال رئيس القسم: «بص يا نصر يا ابني إحنا عايزين متخصص في الدراسات الإسلامية، يكون من ولادنا من قسمنا، مش من الأزهر، والقسم محتاج متخصص، ووقع الاختيار عليك لهذه المهمة.» وقال أستاذ من التقليديين بعد أن تنحنح: «أنت خايف ليه، هو انت هتجيب شيء جديد، الدراسات الإسلامية وعلوم القرآن من العلوم التي نضجت حتى احترقت .» فقلت بنوع من الانفعال: «يعني أنا هتخصص علشان أكرر نفس الكلام، أنتم علمتوني أن البحث العلمي لا بد أن يضيف إلى ما قدمه السابقون، وأن آتي بنتائج لم يصلوا إليها.» وقال اتجاه ثالث ما معناه: «إحنا لسنا الأزهر ولا كلية الحقوق ولا دار العلوم، أنت هتتعامل مع القرآن من منطلق بلاغي ونقدي، نوع النص الذي تدرسه ليس له علاقة بما تخشاه، أنت هتدرس البلاغة والنحو واللغة.» كنت متخوفا أيضا أن تخصص الدراسات الإسلامية سيجعلني أعمل مع أحد الأساتذة التقليديين الذين يسيطرون على القسم، وأنا أريد أن أعمل مع أحد الأساتذة الحداثيين التجديديين.
أختي «كريمة» التي تعمل في سكرتارية جامعة القاهرة. كانت منذ الخامسة عشرة تظهر كأنها بنت العشرين، ناضجة الجسم، جميلة، الأنظار تترصدها، حينما وجدنا أنا وأمي خطابات لها من أحد الشبان. وفي يوم من الأيام أتى أحد الأثرياء في مدينة المحلة يحمل العديد من الهدايا، يطلب يد كريمة لابنه الذي أنهى دراسته وسيذهب لتأدية الخدمة العسكرية، لم أكن محبذا لهذه الخطبة؛ فلا بد أن تكمل دراستها، وتعيش تجربة الحياة باتساعها. كانت أمي لا ترى عيبا في الشاب. اتفقنا على أنه بعد أن تتم تعليمها يأتي ابنه «سيد» وسيكون الاختيار لها. لم تتوقف العلاقة بين «سيد» و«كريمة» حتى انتقلنا إلى القاهرة، وكانت أول من انتقل من أسرتي إلى القاهرة بعدي، فقضيت أنا وهي فترة جميلة؛ كنا نذهب معا إلى السينما والمسرح. وفي يوم من الأيام الأخيرة لي بالخدمة في البوليس دخل علي «سيد» وطلب مني أن أفي بوعدي له. لم أكن أتوقعه بعد خمس سنوات. رحبت به، وقلت له: «يا «سيد» سنذهب معا إلى البيت ونسأل «كريمة» عن رأيها، لكن عليك أن تعدني بأن تتقبل قرارها.»
أخذته وعدنا إلى الشقة. كنت أسمع نبضات قلبي بقوة ونحن نصعد سلم البيت، فتحت «كريمة» الباب، وشحب وجهها. جلسنا، وقلت ل «كريمة» عن طلب «سيد»، ونريد أن نعرف رأيها. كانت لحظات وكأنها الدهر، ازدادت طرقات قلبي حدة إلى أن قالت له: «اسمع يا «سيد» إحنا كنا صغيرين، شبه أطفال.» لم يتركها تكمل وهب واقفا قائلا: «كفاية.» وطالبا منا أن نسمح له بالذهاب. خرجت معه إلى محطة الأتوبيس أريد أن أخفف عنه، فقال: «أنت وفيت بوعدك، وليس هناك نصيب.» حينما عدت إلى الشقة وجدت «كريمة» منخرطة في البكاء، فحاولت أن أخفف عنها بقدر الإمكان، فقلت: أنت أخذت قرارا كان صعبا، ودا شيء كويس. - كان لنا ذكريات جميلة. - الذكريات دي جزء من حياتك وتكوينك وستظل موجودة. - هل أنا ظلمته؟ - والله يا كريمة لا أعرف إن كان ارتباطك به سيسعدك، حياتك أمامك.
درست السنة التمهيدية للماجستير في مناهج البحث. اخترت أن أعمل في البلاغة حتى أعمل مع أستاذ تجديدي. وكان رئيس القسم د. «حسين نصار» وسطا بين أهل التجديد والتقليد في القسم، ولكني أريد أن أعمل مع الدكتور «عبد العزيز الأهواني»، وقد أقاله نظام «عبد الناصر». كان يدرس متبرعا بمكافأته لاتحاد الطلاب، وهو متخصص في الدراسات الأندلسية، يجيد أكثر من ست لغات، وسوف يفيدني كثيرا في المنهج العلمي، ولكن كيف أخبر د. «حسين نصار» بذلك دون أن يغضب. دخلت عليه مكتبه، وقلت له: «يا دكتور حسين، أنت دايما تقول لنا إن المعيد ابن القسم كله وليس تلميذ أستاذه، وأنا عايز أستفيد من كل الأساتذة، فبطلب من حضرتك تساعدني في إقناع الدكتور «عبد العزيز الأهواني» أنه يقبل الإشراف على الرسالة، وأنا مع حضرتك كل يوم في القسم هستفيد من توجيهاتك، لكن الاستفادة الوحيدة من الدكتور «عبد العزيز» هتكون لو أشرف على الرسالة.» وقد كان، وقبل الدكتور «عبد العزيز الأهواني» الإشراف على رسالة الماجستير.
صفحة غير معروفة
كان لدراسة «جابر عصفور» أثر في الدكتوراه في تمهيد الفصل الثاني عن الأنواع البلاغية للصورة الفنية، وإشارته العامة عن أثر المعتزلة، ودراسة د. «مصطفى ناصف» عن الصورة الأدبية والإشارات إلى المؤثرات الروحية في بحث الاستعارة، وكذلك الاكتشاف الذي قامت به البعثة المصرية لجامعة الدول العربية في نهاية الأربعينيات باليمن بالجامع الكبير في صنعاء، باكتشاف كتاب القاضي «عبد الجبار الأسد أبادي المعتزلي» (359ه/969م-415ه/1025م) المغني في أبواب التوحيد والعدل، والتي احتفظ بها المفكرون الزيديون في اليمن، وقد خرجت نسخة الكتاب المحققة خلال السنوات القليلة الماضية، ففكرت في أن أدرس نشأة أهم مبحث في البلاغة العربية؛ مبحث المجاز، أدرس ظروف نشأته ومفهومه عند المعتزلة الذين تشير الدراسات السابقة إلى دورهم في تكوين هذا المبحث وإنضاجه، مع دراسة أثر القرآن الكريم في ذلك؛ في تحديد ماهيته ووظيفته في التعبير البليغ. وسجلت عنوان الدراسة للماجستير «قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة»، ومصر تحاول أن تستعد لمسح عار الهزيمة عام ثلاثة وسبعين.
11
حجرتي الضيقة اختنقت بكتب ومراجع المعتزلة، في شقتنا المختنقة بنا، أنظر إلى عبارة المفكر المعتزلي «إبراهيم بن سيار النظام» التي وضعتها لوحة معلقة أمامي على الحائط: «العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك؛ فإن أنت أعطيته كلك فأنت من إعطائه لك البعض على خطر.» وأقرأ مصادر المعتزلة التي خرجت للنور منذ سنوات تعد على الأصابع، لكن عملية تحقيق المجلدات اكتفت فقط بنسخ الكتاب دون شرح للمصطلحات أو توضيح للأفكار، ومحاولة القراءة والفهم صعبة جدا؛ ليال أقوم بتقديم الجمل وتأخيرها، وإعرابها كلمة كلمة للتأكد من فهم العبارة. الكتب مكتوبة بالطريقة التراثية من السرد والاستطراد، وزد على ذلك طريقة المعتزلة في جدال من خالفهم، وتصور حججهم للرد عليها؛ مما جعل مفاهيمهم وتصوراتهم اللغوية متناثرة في أنحاء مؤلفاتهم. وموسوعة القاضي «عبد الجبار»، ضخمة بأجزائها العشرين، المفقود منها الأول والثاني والثالث والعاشر والثامن عشر والتاسع عشر، فتوقفت بالبحث عند فترة نضج الفكر الاعتزالي في القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي.
أدرس دور تفسير القرآن وتأويله كمنهج ووسيلة في بلورة مفهوم المجاز، ودور فرقة المعتزلة الكلامية في ذلك. والمجاز وسيلة لغوية لا تنفصل عن تصور عام للغة، فوجدتني أدخل في ثلاثة حقول معرفية؛ تاريخ التفسير القرآني، وتاريخ البلاغة العربية، وعلوم اللغة بشكل عام. والكتابات في علوم اللغة الحديثة بالعربية قليلة، فاعتمدت على المترجم منها، وذهبت للجامعة الأمريكية بالقاهرة لكي أجود لغتي الأجنبية للقراءة في هذه العلوم باللغة الإنجليزية.
بدأت دراستي بجمع كل الآيات القرآنية التي قام المعتزلة بتأويلها وأجروا عليها فكرة المجاز، فوجدت المجاز عندهم مجرد وسيلة؛ حتى تستقيم معاني الآيات مع مبادئهم الفكرية والعقلية المسبقة، وليس له إلا دور يسير في حجاجهم العقلي، فاتجهت بكل جهدي لفهم الفرق الدينية الإسلامية، وفهم صراع المسلمين الأوائل ودوره في نشأة الفرق والقضايا الفكرية؛ فالفكر لا يأتي من فراغ، بل من صراع في الواقع. وكان كثير من الباحثين قد أرجعوا نشأة الاعتزال إلى مؤثرات خارجية وأفكار وافدة. والمؤثرات الخارجية لا تمارس تأثيرا فعالا ما لم تكن الظروف الداخلية مهيأة لتلقي البذور وإنباتها؛ لذلك ركزت على الواقع ودوره في نشأة الاعتزال.
القول باختيار الإنسان لأفعاله ومسئوليته عنها ضد الدعوة الجبرية التي تستر وراءها النظام الأموي، والتي تقول إنه ليس للإنسان اختيار في أفعاله. وقد تعامل الأمويون بعنف ضد المفكرين الذين قالوا بحرية الإرادة الإنسانية باستثناء الحسن البصري (ت: 110ه/728م)؛ فقد قتل الخليفة «عبد الملك بن مروان»(65ه/685م-85ه/705م) المفكر المعتزلي «معبد الجهني» (ت: 80ه/700م)، وابنه قتل «غيلان الدمشقي» (99ه/718م)، وذبح الوالي الأموي «خالد بن عبد الله القسري» «الجعد بن درهم» (120ه/738م)، والذي كان مؤدبا ومعلما لآخر الخلفاء الأمويين، أسفل المنبر بعد صلاة العيد. وكان لجدال المعتزلة ودفاعهم عن العقيدة الإسلامية في مواجهة أصحاب الديانات الأخرى باعتمادهم الحجج العقلية، وليس على الأدلة من القرآن والسنة. والعقل عندهم مجموعة من العلوم الضرورية الملازمة للإنسان خلقها الله فيه.
وجدت أن مبادئهم أو أصولهم الخمسة، التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ يمكن ردها إلى مبدأين أساسيين؛ التوحيد والعدل؛ فالله سبحانه عادل، ودليل عدله أن يكون هناك وعد ووعيد للتفريق بين المصيب والمذنب؛ لأن الإنسان مسئول عن أعماله في الدنيا، ومبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مرتبط بمسئولية الإنسان هذه. وللحكم على مرتكب الكبيرة بأنه كافر أو مؤمن فقط فإن عدل الله يتطلب وجود منزلة بين منزلتي الإيمان والكفر، وهو المبدأ الخامس؛ المنزلة بين المنزلتين، وهو جزء من عدل الله.
ومعرفة معنى كلام الله في فهم المعتزلة تشترط معرفة قصده سبحانه، ومعرفة حالة وقوع الكلام، ومواضعة الكلام. وقد اتفق المعتزلة وخصومهم من الأشاعرة على شرط معرفة مواضعة الكلام؛ أي معرفة دلالة الكلمة في اللغة؛ فقد اختلفا في أصل المواضعة ومصدرها، هل معنى الكلمة توقيف من الله، أم اصطلح عليه الناس؟ فالأشاعرة قالوا إن القرآن قديم؛ أي غير مرتبط بزمن نزوله على النبي، واللغة عندهم أصلها التوقيف من الله؛ استنادا إلى قول القرآن الكريم في سورة «البقرة»:
وعلم آدم الأسماء كلها . وقالوا إن الكلام صفة ذاتية قديمة. على العكس من ذلك قال المعتزلة إن القرآن مخلوق؛ لأن الكلام صفة من صفات الفعل الإلهي وليس صفة من صفات الذات؛ فإذا كان القرآن قديما فهذا معناه أن هناك قديما آخر مع الله، وهذا شرك في نظرهم، وذهبوا إلى أن المواضعة اللغوية اصطلاح بين البشر وليس توقيفا.
وانتهى القاضي «عبد الجبار» إلى أن العلاقة بين الاسم والمسمى علاقة يتعارف عليها الناس، و«ربط بين قصد المتكلم والمعنى الذي يدل عليه». واستخدم المعتزلة كلمة «المثل» الواردة بكثرة في القرآن للتعبير عن مفهوم المجاز، واعتبروا المجاز قرين الحقيقة بدءا من كتابات الجاحظ (ت: 255ه/870م) معتمدين على جهود المفسرين واللغويين في تعاملهم مع كلمة المثل في القرآن. ومع نمو حركة التفسير والتأويل تحددت عناصر المجاز، وأنواعه المختلفة كالكناية والتشبيه والاستعارة والحذف وغيرها، كوسيلة لرفع التناقض الظاهري بين كلام الله، وبين معرفتنا العقلية بعدله وتوحيده. أو بمعنى آخر يصبح المجاز وسيلة للتأويل وأداة رئيسية له. ومن الطبيعي - والحالة هذه - أن يتسع المجاز ليشمل كل ما اندرج تحته من عناصر تصويرية أو أسلوبية.
صفحة غير معروفة
12
داخل قاعة المناقشة، جلست خلف ترابيزة صغيرة عليها كوب من الماء ومعي الرسالة وأوراق لكتابة الملاحظات وخلفي باقة كبيرة من الورد، أرتدي بدلة جديدة ورابطة عنق، عليها الروب الأسود حسب التقاليد الجامعية. وعلى المنصة لجنة المناقشة؛ أستاذي «عبد العزيز الأهواني»، وبجواره الأستاذة الدكتورة «سهير القلماوي» بشعرها القصير، وعلى جانبه الآخر الدكتور «عفت الشرقاوي». حضر المناقشة جمع غفير من الأهل والأصدقاء وطلبة جامعة القاهرة. بدأ الدكتور «عبد العزيز الأهواني» الحديث بصوته الرخيم الآتي من أعماق بعيدة، فطلب مني تقديم ملخص للبحث. عرضت تلخيصا للدراسة، فالتمهيد؛ درست فيه نشأة الفرق الدينية الإسلامية، ومنها المعتزلة، وفصلا عن المعرفة والدلالة اللغوية. عرضت فيه لنظرية المعرفة ونظرية اللغة عند المعتزلة، وفصلا ثانيا عن نشأة مفهوم المجاز وتطوره عند المعتزلة، وفصلا أخيرا عن المجاز والتأويل؛ أخذت فيه قضيتي توحيد الله ورؤيته وقضية خلق الأفعال والعدل كنموذج للتأويل عند المعتزلة.
مسألة المحكم والمتشابه في القرآن. اتفقت كل الفرق على وجود محكم واضح، ومتشابه غامض يحتاج إلى توضيح؛ اعتمادا على الآية الثالثة من سورة «آل عمران»، لكن الفرق اختلفت فيما بينها حول ما الواضح وما الغامض، واتخذ المعتزلة هذه المسألة وسيلة شرعية لتأويل الآيات التي لا تتفق مع مبادئهم الفكرية من التوحيد والعدل، واستخدموا المجاز كوسيلة لإخراج دلالة نص القرآن من المعنى الظاهر للآيات إلى معنى مجازي، وفي حالة عجزهم عن تأويله استنادا إلى تركيبه اللغوي يلجئون إلى الاستناد إلى الدليل العقلي.
المعتزلة ينفون تماما مسألة رؤية الله؛ لأن الرؤية تعني أنه سبحانه متحيز بالمكان، واستندوا إلى آيات مثل
لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ، واعتبروها محكمة، وأولوا كل الآيات التي تختلف مع ذلك، ونفوا مشابهة الله للبشر، وأكدوا وحدانيته المطلقة وتفرده الكامل. وفي قضية خلق الأفعال، وهي أساس مبدأ العدل، نفوا عن الله فعل القبيح أو إرادة فعله، وأكدوا قيام الفعل الإنساني على الاختيار. وكان الأشاعرة قد ذهبوا إلى إطلاق القدرة الإلهية لتشمل كل المرادات حتى كفر الكافر وكذب الكاذب؛ فإن المعتزلة ميزوا بين ما يريده الله من فعل ذاته وبين ما يريده من فعل غيره، وذهبوا إلى أن إرادة الله للفعل الإنساني إنما هي إرادة على سبيل الاختيار لا الإلجاء. والمعتزلة حاولوا مخلصين رفع التناقض بين العقل والشرع من جانب وبين النصوص المتعارضة ظاهريا للقرآن من جانب آخر. وكانت جهودهم في مجالات المعرفة واللغة والمجاز - لخدمة هذه المهمة - إنجازا له آثاره العديدة على هذه المجالات. ولعل دراستي أن تكون تمهيدا لرصد هذه التأثيرات التي تركها المعتزلة في غيرهم من أعلام الثقافة العربية وعلومها، كل ما يرجوه الباحث أن يكون قد وفق في كشف جانب مهم من جوانب تراثنا الديني الإسلامي في مجال البحث النقدي والبلاغي.
بدأ المناقشة د. «عفت الشرقاوي» الذي مر ثلاث مرات؛ مر عبر الرسالة مدققا في الكتابة والأسلوب والنحو بالتفصيل، وفي النهاية أثنى على البحث وعلى جهد الباحث، لكني لم أستفد منه في مناقشة المنهج أو القضايا الفكرية المثارة بالبحث. ود. «سهير القلماوي» أثنت أيضا على البحث وعدم التهيب من موضوع البحث، والأمانة في عرض النصوص، وحرصي الدائم على ذكر رأي وليس مجرد جمع، بل هناك أصالة في النظر للأمور. ونظرت لي بحيويتها المعهودة وصوتها الواثق وقالت: لكننا هنا لسنا في مجال ذكر المزايا، الرسالة اسمها قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة، أين قضايا المجاز في الرسالة؟ فقلت لها: لقد حاولت أن أطرح فلسفة المعتزلة. - هذه قضايا فلسفية وليست قضايا بلاغية، أين مثلا استعمالات المجاز؟ هل كانت للمعتزلة طريقة معينة في النظر للمجاز، كمجاز الأسماء والأفعال؟ - «القاضي عبد الجبار» المجاز عنده مجرد سلاح للتأويل. - أنت رصدت ما قاله المعتزلة، وليس طريقة المعتزلة. كنت أطمع في فصل يشخص كيف استعمل هذا السلاح. أنت قسمت الرسالة من الناحية الفلسفية وليست البلاغية، عندك ثلاثة مراجع أجنبية فقط، وليس منها كتاب حديث متخصص في المجاز. ما استعمالاتهم للمجاز عندما يردون شيئا من المتشابه إلى المحكم، أو استعمالهم للمجاز عندما يردون على شيء يمس الثابت من العقيدة؟ وأنت أخذت وقتا طويلا في شرح نشأة الفرق والقضايا الفلسفية، وكان يمكن أن تختصرها إلى أقل من ذلك بكثير. يعني مثلا في مسألة مواضعة اللغة، هل كانت هناك مواضعة بين الملائكة والرسل؟ وبعدين أليس غريبا ألا يلتفت إلى السنة النبوية في تأويلات الفلاسفة فيما ذكرته السنة عن ماهية الله في التوحيد والعدل، فهل لرفض المعتزلة للحديث سبب؟ ومسألة المجاز في الأعلام، واستعمالهم السياق والمجاز بالسياق، وهذا مهم جدا. إحنا بدأنا ندخل في صلب الرسالة في صفحة 157. وكذلك مسألة مصطلحات الفقه التي دخلت البلاغة مثل الخصوص والعموم، وأيضا اشتغال المعتزلة بالرد على تحديات أهل الديانات الأخرى، أليس له دور في استخدامهم للمجاز؟ - أفادهم في الاستدلال وأخذ العقل كمعيار. - وكتاب الشارح «للمغني، عبد الجبار»، هل هناك إضافات للشارح؟ وما هي؟ - محقق الكتاب دخل في نفس الإشكال؛ لأن الشارح للكتاب شيعي، والمؤلف معتزلي.
شربت بعض الماء حينما انتهت الدكتورة سهير من مناقشتها، وأتى الدور على أستاذي «عبد العزيز الأهواني» الذي قال: كوني مشرفا لا يمنعني من طرح بعض النقاط على الباحث ليفكر فيها. أعتقد أن نشأة الاعتزال التي ذكرها الباحث على أنها رد فعل سياسي للنظام الأموي ولمواجهة الظلم كعامل أكبر يجب أن يفكر فيها ثانيا؛ لأن المعتزلة كانوا أصحاب سلطان في زمن المأمون، وجرت على أيديهم محنة خلق القرآن، وكانوا أقرب للسلطة. وظل المعتزلة طوال الوقت نخبة في المجتمعات الإسلامية. وقضية انتشار الإسلام ودخول غير العرب في الإسلام لم تكن أقل أهمية من تحدي السياسة في نشأة الفكر الاعتزالي. ربما لنشاط الباحث السياسي، فحبذ دور السياسة. إذا كان هذا هو موقفهم في السياسة في البداية كموقف من الواقع، لماذا كان خطابهم بهذا التجريد، ومنصبا على ما سيفعله الله في العالم الآخر؟ خطابهم من البداية للخاصة وليس للعامة؛ فلم يتحدثوا عن البديل للحاكم الجائر. أنا أوافقك في أن هناك صلة بين المعتزلة والسياسة، ولكنها ليست الصلة الأولى في النشأة. بعد انتهاء الدكتور «الأهواني» من مناقشته دخلت اللجنة للتداول.
شربت كوب الماء. القاعة حارة جدا. أفكر في دراسة جدل المعتزلة مع أهل الديانات الأخرى وخصوصا في دمشق التي كانت معقلا للفكر المسيحي. عادت لجنة المناقشة، وقرأ الدكتور «عبد العزيز» قرارها بمنحي درجة الماجستير بتقدير «ممتاز». رأيت الفرحة في عيون أمي، وأختي «بدرية» بصحتها العليلة وهي في السادسة والثلاثين، بصحبة أبينا الروحي زوجها وابن عمي «السيد أبو زيد»، وأخي «محمد» الذي قرر العودة إلى قحافة والعمل في شركة طنطا للغزل، و«كريمة» موظفة الجامعة، و«أسامة» الذي أنهى الدراسة بالمعهد الفني العالي، و«آيات» التحقت بالجامعة لدراسة اللغة اليابانية.
13
حصلت على منحة من مؤسسة «فورد» للدراسة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، وكانت الأجواء في مصر تزداد احتقانا يوما بعد يوم، مع قرارات الانفتاح الاقتصادي، واتجاه الحكومة رفع أسعار السلع وإلغاء الدعم امتثالا لأوامر البنك الدولي، وإرهاصات السادات في عمل اتفاق منفرد مع إسرائيل، والحركة داخل الجامعة وبالشارع تزداد التهابا يوما بعد يوم. وكباحث شاب لا أستطيع الحصول على شقة، ولا فرصة للزواج، والارتفاع الجنوني للأسعار، وضيق الشقة علينا. كتبت مقالة «ابن خلدون بين النظرية والتطبيق» التي نشرت في مجلة «الكاتب»، بعددها رقم مائة وخمسة وتسعين، سنة سبع وسبعين. وسجلت موضوعي للدكتوراه، في الثلاثين من أبريل، عن فلسفة تأويل القرآن عند «محيي الدين ابن عربي»، مع أستاذي «عبد العزيز الأهواني»؛ فقد أدركت من الماجستير أن وراء عملية تفسير وتأويل القرآن أن هناك رؤية فلسفية، فأردت أن أدرس ما هذه الفلسفة الكامنة وراء تأويل الصوفي الكبير «محيي الدين ابن عربي» (560ه/1165م-638ه/1240م) للقرآن؛ تواصلا مع جانب آخر من جوانب تراثنا الفكري والديني والفلسفي، ألا وهو الجانب الصوفي الروحي.
صفحة غير معروفة
أخذتني الحياة بعيدا عن التصوف، فكان أحد أصدقاء أبي، «عم حسن سمك»، الذي استمرت صلتي به بعد وفاة والدي وحتى بعد رحيلنا إلى القاهرة، كان كلما أتى إلى القاهرة زارني في الجامعة. «عم حسن» فلاح، شاعر، وقارئ لشعر التصوف، زائر رحال للأضرحة تبركا ومجاورة لأهل البيت بالقاهرة. في يوم كان مضطربا أشد الاضطراب، يحمل جبلا على ظهره، أحاول أن أعرف سبب هذا الإعياء على وجهه، لكنه صامت متعذبا. قلت له: ما لك يا عم حسن؟ ألست محل ثقتك؟ - والله يا نصر أنت ابني وأعز من أولادي، أنت الحبيب ابن الحبيب رحمه الله.
دمعة ساكنة تترقرق في عينيه، يحاول أن يمسك بها فتأبى، استجمع عزمه وقال: «يا نصر يا ابني، لقد رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في المنام .»
وفرت الدمعة من عينيه تجري على خديه، ونشيجه يعلو: «رأيته والله العظيم.» فقلت له: «أحبك يا رسول الله.» فرد علي: «وأنا أحبك يا حسن.» كانت عملية فهمي وإدراكي لتجربة وشعور عم «حسن» صعبة، فحاولت أن أهدئ من مشاعره، وسألته: أي عقاب يمكن أن يحدث من إفشائك أمر رؤياك لي؟ - يا ابني أخاف أن يهجرني رسول الله فلا يأتيني مرة أخرى، فلا عقاب أشد من الهجر.
قرر عم «حسن» في نفس العام أن يبيع قطعة الأرض التي يملكها ويقوم بالحج إلى بيت الله الحرام رغم معارضة أبنائه. لم أفهم تجربة عم «حسن سمك»، لكني كنت شغوفا أن أدرس التصوف للمعرفة، وفهم تجربة أمثال عم «حسن سمك».
لم تنفع الساعتان اللتان أوفرهما كل يوم للجلوس إلى كتابات الشيخ؛ ف «ابن عربي» يريد منك التفرغ له حتى تستطيع أن تنال بعضا من جوانبه. عاما كاملا وأنا لا أستطيع عمل شيء. قامت مظاهرات الخبز التي أطلق عليها «السادات» «انتفاضة الحرامية»، ومظاهرات الطلبة داخل الجامعة، فتم تعديل لائحة اتحادات الطلاب بالجامعة التي أطلق عليها «اللائحة المشبوهة»؛ لتجعل الاتحادات تحت سيطرة إدارة الجامعة، وكذلك إقامة الأسوار حول الجامعة، وسيطرة الأمن على أبوابها، وأصبح هناك مكتب للأمن بكل كلية، ومكتب عام للأمن بالجامعة؛ ليصبح وجود أمن وزارة الداخلية وجودا رسميا بالجامعة. الحياة الفكرية داخل الجامعة تختنق يوما بعد يوم. لم يكن لي عزاء في هذه الحياة الجامعية غير التواصل مع الأجيال الجديدة من خلال التدريس والتعامل مع البراعم الفكرية الجديدة، وهي سعادة ما بعدها سعادة. أتت إلى قسم اللغة العربية منحة عامين للدراسة بجامعة «بنسلفانيا» بأمريكا، ولم يتقدم إليها أحد. أردت أن أذهب إلى دولة تتحدث الإنجليزية، فوجدتها فرصة للذهاب، لكن من شروط المنحة أن يكون المتقدم حاصلا على الدكتوراه، والمنحة لدراسة الفولكلور والعمل الميداني، وأنا لم أحصل على الدكتوراه بعد. وحضر الأستاذ من جامعة «بنسلفانيا»، وحاولت أن أقنعه بصلة موضوع التصوف الذي أعد رسالتي للدكتوراه فيه وبين الفولكلور، مثل الموسيقى الصوفية والأناشيد والأوراد والأذكار والاحتفالات الصوفية الشعبية. وسألني الأستاذ: وكيف نضمن أن تعود ولا تمكث في أمريكا؟ وكأنها جنة الله على الأرض. فقلت له: تأكد تماما أني أفضل وجودي هنا في مدرج ثمانية عشر مع طلابي عن أي مكان في الدنيا، كل ما أريده هو العلم والمعرفة لخدمة هذا الوطن. وافقت اللجنة على حصولي على المنحة، ولكن بشروط أقل؛ لأني لست حاصلا على الدكتوراه، وتحدد موعد سفري أنا والدكتور «أحمد مرسي» المتخصص في الأدب الشعبي بقسمنا.
من غرب لشرق
1
وصلت أنا ود. «أحمد مرسي» إلى مطار كنيدي بنيويورك، وفي انتظار الطائرة التي ستأخذنا إلى مدينة «فيلادلفيا» بولاية «بنسلفانيا»، فتحدثت إلي إحدى السيدات المنتظرات في الصالة. ولم أفهم من كلامها شيئا، فأصابني ذعر، على ما درسته بالجامعة الأمريكية. حاول «أحمد» أن يخفف من ذعري، فقال إنه لم يفهم من كلامها شيئا، وقال إن لهجتها غريبة عليه هو أيضا وقد زار أمريكا من قبل. بالجامعة التقينا الدكتور «توماس نيف»؛ أمريكي من أصل لبناني، وهو المشرف على المنحة من قسم دراسات الشرق الأوسط بالجامعة، والذي أخبرني أن أحصل على دورة لغة إنجليزية بالجامعة، فذهبت ودفعت خمسمائة دولار من جيبي للدورة، ولم أستفد شيئا، كلها مبادئ عامة أعرفها، فطلبت مستوى أعلى. أخبرني المحاضر أن هذا أعلى مستوى للغة الإنجليزية كلغة ثانية. فطلبت أن ترد إلي نقودي؛ فلن أسمح لأحد أن يخدعني في بلاد «العم سام». رفض المحاضر؛ لأن الدورة بدأت وفات موعد استرجاع الاشتراك. شعرت أنني يغرر بي، فذهبت إلى د. «توماس نيف» وقلت له: أنت أخبرتني أن آخذ هذه الدورة، وأنت الأستاذ المشرف، فيجب عليك أن ترد لي نقودي. فقال: أنا تصورت أنك تحتاج إلى الدورة ككل الطلبة، فلماذا أدفع النقود؟ تدخلت زوجته «جين» في الحوار ووجدتها تقول له: «توماس»، هو عنده حق، أنت الذي نصحته بهذا وأنت المشرف، وكلامك يؤثر، فيجب أن تدفع له النقود من جيبك الخاص. ودفع لي الخمسمائة دولار، فشعرت أنني في مجتمع لا يضيع فيه حق إذا سعيت وراءه.
صفحة غير معروفة
عرفني د. «أحمد» على الكثير من الأساتذة، ومنهم دكتور مصري في الأنثروبولوجي بجامعة قريبة، «عبد الحميد الزيني»، له بأمريكا عمر طويل، وكان لحواراتي معه أثر كبير في توجيهي لقراءات كثيرة. لم يمكث د. «أحمد مرسي» كثيرا؛ فقد تم اختياره مستشارا ثقافيا لمصر في إيطاليا، وكان مترددا في القبول، لكني ألححت عليه بالقبول حتى قبل، فأصبحت أعتمد على نفسي. أخذت مكانا متواضعا في بيت سيدة عجوز في أجوار الجامعة، وبينما تعطيني صاحبة البيت المفتاح للمسكن سألتني: أنت من أين يا بني؟ - من مصر. - مصر! ودي فين؟ - في أفريقيا - والتجهم على وجهها - هل تعرفين الأهرامات وأبو الهول؟ الحضارة المصرية لها سبعة آلاف عام. - سبعة آلاف عام؟ هذا مستحيل! - مستحيل ليه؟! دا تاريخ. - على حسب «الإنجيل»، الحياة بدأت على الأرض منذ ستة آلاف عام فقط.
شعرت أنه لا طائل من الاستمرار في الحوار. الكثير من الأمريكيين يعتمدون على الإنجيل كمصدر لمعرفتهم التاريخية، كما يفعل كثير من المسلمين مع القرآن. وصدمت من تقوقع الأمريكيين وجهلهم بالعالم وتركيزهم على ما يحدث داخل حدود وطنهم، بل حتى حدود المدينة أو المنطقة التي يعيشون بها.
الهدوء والانتظام في الحياة الجامعية ساعداني أن أقرأ في كتاب «الفتوحات المكية» الذي استعصى علي في القاهرة بزحامها، فظللت عاما كاملا لا أتخطى الصفحات الثلاثين الأولى؛ سحر الخطبة يجذبني للعودة إلى فك طلاسمها الرمزية، فوجدتني أدخل إلى عالم الصوفي الكبير «ابن عربي» بلا معوقات، عالم يستعصي دخوله دون إلمام بمعرفة واسعة بالتراث الإسلامي؛ فكل ثلاثة أسطر تجد آية قرآنية يستشهد بها. كانت تراودني دائما كلمة «تأويل»، وأريد أن أبحث عن معناها بالإنجليزية، فحاولت البحث عن
Super interpretation
أو
Ultra interpretation ، حتى اتصلت بأستاذي «حسن حنفي» الذي يجيد عدة لغات، فقال لي:
Hermeneutic . وبدأت أجمع الكتب ذات الصلة، بالهرمنيوطيقا التي استخدمتها بمعنى «التأويلية»، فوجدت تراثا كبيرا من المؤلفات، وكانت القراءة صعبة ومستغلقة، وشعرت بفشل وعجز عن الفهم. كنت لا أبرح المكتبة إلا للتدخين، ومن شدة انجذابي توقفت عن التدخين، وأصبحت أمكث في المكتبة من الصباح حتى الحادية عشرة مساء، لكني في نفس الوقت طالب في قسم الفولكلور، وعلي أن أحضر محاضرات وأكتب أوراقا بحثية. وكان القسم يتعامل مع الفولكلور بمفهوم واسع؛ محاضرات في تحليل النصوص، وفي اللاهوت، والأنثروبولوجي. وكان الأستاذ يعطي فكرة عن المنهج الدراسي، وبعدها نلتقي في مسكنه للحوار. كان المناخ الأكاديمي والعلمي جميلا، فدخلت في القراءة في اللغويات الحديثة، والسوسيولوجي، والأنثروبولوجي.
ذهبت إلى السوبر ماركت الضخم لقضاء بعض الاحتياجات، وكانت سيدة عجوز تمر بعربة مشترياتها، وبداخل العربة قطتها الجميلة على أهبة القفز من العربة، فأمسكت بها قبل أن تفعل. شكرتني السيدة برقة، وسألتني: من أين؟ فلما أجبتها وجدتها تقول لي: لماذا لا تقبلون اليهود يعيشون معكم؟ فقلت لها: أظن أن اليهود الإسرائيليين هم الذين يرفضون أن يعيش الفلسطينيون معهم.
استمرت السيدة بحدة: إنها «أرض الميعاد» التي ورثها «إسحاق» عن أبيه «إبراهيم».
حاولت أن أتحدث بهدوء: هذا حق، إننا نتحدث عن «أرض ميعاد»، لكن إبراهيم كان له ولدان، «إسحاق» و«إسماعيل»، هل ترين من العدل أن يصطفي «إبراهيم» «إسحاق» فقط ليرثه.
صفحة غير معروفة
2
بعد فترة عسرة بدأت مصطلحات ومفاهيم «الهرمنيوطيقا» تتفتح لي، وازدادت درجة فهمي. قرأت في الفلسفة الوجودية وعن العلاقة بين الأنا والوجود، وأدركت مدى اعتماد العلوم الاجتماعية والإنسانية على التفسير، تفسير الظواهر؛ مما يجعل نظرية التأويل - أي القواعد العامة التي تقوم عليها عملية التفسير - مهمة في هذه العلوم؛ فهذه العلوم تحتاج إلى نظرية تأويلية. وجدت إعلانا في الجامعة عن برنامج تدريسي عن مادة التأويلية (الهرمنيوطيقا)، وكان التسجيل فيه بتصريح خاص من الأستاذ، فذهبت أقابله، وطلبت أن أدرس «الكورس»، فأخبرني أني الطالب الوحيد في الجامعة الذي فهم معنى هرمنيوطيقا وأهميتها. ولم يكن يعرف ماذا يمكن أن يفعل، فسألني لماذا أريد دراسة «الكورس». وبعد حوار طويل قال: أنت عندك أسئلة من ثقافتك؛ أنت من ستجيب عليها، ومعرفتك التي حصلتها هي البدايات التي كان «الكورس» سيساعدك فيها، والآن أنت تعرفها، فاستمر.
أين تكمن الحقيقة؟ هي مشكلة «محيي الدين ابن عربي»، وهي نفس المشاغل والإشكاليات التي تتعامل معها نظرية التأويل. مشكلة «الذات والموضوع» والصلة بينهما. هل الحقيقة تكمن في الذات أم في الخارج أم في العلاقة بينهما؟ «ابن عربي» يرى أن الحقيقة تتشكل وتتلون كتشكل الماء بشكل الإناء الذي يستقبله، وكتلون جلد الحرباء حسب لون السطح الذي تعيش عليه؛ فالحقيقة ليست خارج الوعي، لكنها نتاج العلاقة بين «الذات» و«الموضوع». وإشكال آخر؛ هل الحقيقة ذاتية بشكل كامل أم يمكن التحدث عن تداخل بين «الذات والموضوع»؟ بدأت أشعر أن الحدود الفاصلة وهمية بين اهتمامات الهرمنيوطيقا أو التأويلية، وما أقرؤه في الثقافة العربية الإسلامية وكتابات «ابن عربي». نعم هناك إجابات مختلفة باختلاف الثقافة واللغة، لكن هناك هموما مشتركة. كلما قرأت في «ابن عربي» وفي تراث الهرمنيوطيقا الغربي، شعرت بالحاجة إلى نقل هذه المفاهيم والأفكار إلى اللغة العربية، وفكرت في الإعداد لأول مقال طويل أو دراسة قصيرة سوف أكتبها عن الهرمنيوطيقا ومعضلة تفسير النص.
الهرمنيوطيقا أو التأويلية قضيتها الرئيسية هي تفسير النص، بالتركيز على علاقة المفسر بالنص، وهي مصطلح استخدمه اللاهوتيون في تعاملهم مع الكتاب المقدس عام 1062ه/1654م، ويقصدون به القواعد والمعايير التي يتبعها المفسر في تفسير النص، ويفرقون بينها وبين عملية التفسير نفسها؛ عملية تطبيق هذه القواعد والمعايير. واتسع مفهوم المصطلح في تطبيقاته الحديثة، وانتقل من مجال علم اللاهوت إلى العلوم الإنسانية والاجتماعية ... إلخ. والتأويلية في تركيزها على علاقة المفسر بالنص لا تخص فقط الفكر الغربي، بل لها وجودها في تراثنا العربي القديم والحديث. وعلاقتنا مع الفكر الغربي يجب أن تكون علاقة حوار جدلي؛ فلا نكتفي بالاستيراد والتبني، بل ننطلق من همومنا الراهنة وواقعنا؛ فلا نلهث وراء كل جديد لمجرد أنه جديد.
فعلى مستوى تفسير القرآن في تراثنا القديم كان التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي أو التأويل. الأول يهدف للوصول إلى معنى النص كما فهمه المعاصرون لنزوله، بجمع الأدلة التاريخية واللغوية. والتفسير بالرأي نظر إليه على أنه تفسير غير موضوعي؛ لأن المفسر يبدأ من موقفه الراهن يحاول أن يجد سندا في القرآن لموقفه. الاتجاه الأول يتجاهل المفسر ويلغي وجوده لحساب النص، بينما لا يتجاهلها الاتجاه الثاني. وفي واقعنا النقدي الحديث، المعضلة تتمثل في أن كل ناقد يعتقد أن تفسيره هو التفسير الصحيح، كما قصده المؤلف، وانظر إلى الدراسات عن «نجيب محفوظ»؛ فهو عند ناقد كاتب الاشتراكية الأول، وعند ناقد آخر هو كاتب الإسلامية الروحية.
العلاقة بين الفن والأدب، أو الإبداع والعالم، منذ «أفلاطون وأرسطو» حتى العصر الحديث فيما عرف بالكلاسيكية، تؤكد دور الواقع الخارجي على حساب دور الفنان أو المبدع من خلال المحاكاة. وجاء تيار الرومانسية ليؤكد دور المبدع على حساب الواقع، وركز على العمل الأدبي بوصفه تعبيرا عن عالم الفنان الداخلي، فحولت عملية نقد العمل الفني إلى انطباعية. ومع مرحلة الجزر الرومانسي خطت الدراسة الأدبية على يد «ت. س. إليوت» خطوة جديدة جعلت النص هو محور اهتمامها، منكرة علاقته بمبدعه أو الواقع؛ وذلك بالتركيز على تحليل النص وترك مجال علاقته بالمبدع أو الواقع لمجالات أخرى تدرسها غير النقد الأدبي. وجاءت البنيوية (البنائية) مستفيدة من مناهج علم اللغة، في البحث عن البنية التي تؤدي إلى اكتشاف نظام العمل الأدبي، فيتم تجاوز ثنائية «الذات والموضوع» بإخضاعها إلى فكرة النظام. من هنا دور التأويلية (الهرمنيوطيقا) لتركيزها على علاقة المفسر بالنص، والتي أهملتها كل النظريات.
قرأت عن جهد الألماني «شليرماخر» (1180ه/1768م-1248ه/1834م) بالخروج بالتأويلية من مجال علم اللاهوت ودراساته لتكون علما قائما بذاته. النص وسيط لغوي ينقل فكر المؤلف إلى القارئ؛ ففيه جانب موضوعي مشترك بين المؤلف والقارئ يجعل عملية الفهم ممكنة. وأيضا يشير النص إلى الفكر الذاتي لمبدعه في طريقة استخدام المبدع الخاص للغة. والعلاقة بين الجانبين علاقة جدلية. وهدف القراءة هو فهم النص كما فهمه مؤلفه. ورغم النقلة المهمة للهرمنيوطيقا على يديه ومفهومه عن الدائرة التأويلية، فإنه حرص على وضع قوانين ومعايير لعملية التفسير تحاشيا لسوء الفهم، فطالب المفسر أن يتباعد عن ذاته وأفقه الراهن.
وفيلسوف التاريخ الألماني «ويلهلم ديلثي» (1247ه/1833م-1328ه/1911م) حاول تأسيس منهج موضوعي للإنسانيات بالتركيز على تحليل حقائق الوعي؛ فالتجربة الذاتية هي أساس المعرفة، والتأويلية عنده تدخل في إطار أكبر من النص ، تركز على فهم التجربة كما يفصح عنها العمل الأدبي من خلال معايشة التجربة التي يعبر عنها النص؛ فمن خلال المعايشة يفهم الإنسان نفسه، وليس من خلال التأمل العقلي، بل من خلال التجربة. وتركيزه على تجربة الحياة ودور المفسر في عملية الفهم أثرا في فكر من أتوا بعده.
الفيلسوف «مارتن هيدجر» (1305ه/1889م-1395ه/1976م) حاول إقامة التأويلية على أساس فلسفي، أو يقيم الفلسفة على أساس تأويلي؛ فوعي الإنسان لوجوده يفصح عن نفسه خلال تجربة حية وفهم آني تاريخي يتشكل من تجارب يمر بها الإنسان؛ فالأشياء تتجلى لنا، والعالم يكشف نفسه للإنسان من خلال عمليات مستمرة من الفهم والتفسير، واللغة هي التجلي الوجودي للعالم. ونحن لا نلتقي النص خارج إطار الزمان والمكان، نلتقي به متسائلين هذه الأسئلة التي هي الأساس لفهم النص وتفسيره، لكن «هيدجر» أغفل الخاصية المميزة للفن، وأهدر ذاتية المبدع في سبيل التجربة الوجودية.
و«هانز جادامر» الألماني أيضا (1316ه/1900م-1421ه/2002م) في كتابه الماتع الذي أعجبت به كثيرا
صفحة غير معروفة
Truth and Method «الحقيقة والمنهج»، الذي أقام عملية الفهم على أساس جدلي، ونقد الهرمنيوطيقا منذ شليرماخر مرورا ب «ديلثي»، وركز على عملية الفهم ذاتها؛ فالتاريخ ليس وجودا مستقلا في الماضي عن وعينا الراهن، وحاضرنا ليس معزولا عن تأثير التقاليد التي انتقلت إلينا عبر التاريخ؛ فالوجود الإنساني تاريخي ومعاصر في نفس الوقت؛ فالتاريخية تراكم لخبرة الوجود في الزمن. واللغة لا تشير إلى الأشياء، بل الأشياء تفصح عن نفسها من خلال اللغة. وقد أقام تأويليته متأثرا بجدلية «هيجل» على أساس جدلي مثالي، لكني أختلف معه بأن «الوجود الإنساني مشروط بلحظة تاريخية معينة، وبإطار اجتماعي يحدد شروط هذا الوجود وآفاقه؛ فالذاتي والموضوعي في حالة علاقة جدلية محكومة بالشروط الاجتماعية المادية والتاريخية التي تتم فيها المعرفة». وتعد إقامة الهرمنيوطيقا عند «جادامر» على أساس جدلي إضافة حقيقية؛ ولكنها تحتاج لتأسيس الجدل على أساس مادي.
وكتابات الإيطالي «بيتي» (1306ه/1890م-1386ه/1968م)، والفرنسي «بول ريكور» (1329ه/1913م-1424ه/2005م)، والأمريكي «هيرش» المولود في 1345ه/1928م، الذين يحاولون إقامة نظرية موضوعية في التفسير؛ وذلك بإقامتها على منهج موضوعي صلب، لكنها لم تعد عندهم فلسفة، بل علم تفسير النصوص، أو نظرية التفسير. «بول ريكور» ركز اهتمامه الأساسي على تفسير الرموز، وفرق بين طريقتين في التعامل مع هذه الرموز؛ الأولى هي اعتبار الرمز نافذة نطل منها على عالم من المعنى، والثانية التي يمثلها «فرويد وماركس ونيتشه» بالتعامل مع الرمز باعتباره حقيقة زائفة يجب ألا نثق فيها، بل نبحث عن المعنى المختبئ وراءها. ويرفض الفهم البنيوي للغة على أنها نظام مغلق من العلاقات لا يدل على شيء خارجه. وهناك فرق بين اللغة والكلام؛ فاللغة تمثل نظام الثبات، والمتكلم يختار من الإشارات اللغوية واحدة دون الأخرى، ويقيم بين الإشارات علاقات دون علاقات، من هنا يكون الكلام مصدر نظام التغير. والنص المكتوب يشير إلى كاتبه، إلا أن له استقلالية في المعنى. وتصبح مهمة المفسر هي النفاذ إلى عالم النص وحل مستويات المعنى الكامن فيه؛ ظاهرا وباطنا، حرفيا ومجازيا، مباشرا وغير مباشر. لكن «ريكور» أغفل علاقة المفسر بالنص؛ نتيجة لرد فعله للبنيوية (للبنائية).
فرق «هيرش» بين المعنى والمغزى؛ فمعنى النص شبه ثابت يمكن الوصول إليه من خلال تحليل النص، أما المغزى فمتغير، يقوم على العلاقة بين النص والقارئ. وفرق بين المعنى «القصد» الذي أراده المؤلف، والمعنى الكامن في النص. وما يعنينا هو المعنى الكامن في النص، ويمكن الوصول إليه من فحص الاحتمالات العديدة التي يمكن أن يعنيها النص. وهذه مهمة الهرمنيوطيقا التي يتجاذبها اتجاهان؛ اتجاه التركيز على النص والمؤلف عند «بيتي» و«هيرش»، واتجاه يبدأ من موقف المفسر الراهن باعتبار هذا الموقف (الوجودي) هو المؤسس المعرفي لأي فهم عند «جادامر».
3
شعرت بدفء العلاقة مع رئيس قسم دراسات الشرق الأوسط «توم نيف» وزوجته «جين»؛ فقد عاشا في القاهرة سبع سنوات عندما كان «توم» يعمل بالجامعة الأمريكية بالقاهرة. أول مرة تناولت العشاء في بيتهم، قالت لي: «شوف يا نصر أنا هعاملك مثل معاملة الأسر في مصر، سأضع طعاما في طبق، وإذا قلت كفاية شكرا، سأستمر في وضع الطعام. العادة هنا عندما تقول كفاية، الناس تكف عن وضع الطعام، فلا بد تكون واضح بدون خجل، ولو كان فيه حاجة انت عايزها زي ملح أو «مستاردة» أو صودا ومش موجودة على الترابيزة، لا تستحي أن تطلبها. إيه الأخبار يا نصر؟ العصفورة قالت لي إنك خرجت للعشاء مع بنت من الجامعة؟» فقلت لها: أبدا ما فيش حاجة بيننا، دا كان عشاء عادي.
فقالت: «هو انت مكسوف؟ إذا كان الموضوع محرج لك ما فيش مشكلة؟» حاولت أن أشرح لها: «لا، أبدا ما في إحراج، خرجنا وكان عشاء عاديا لكن الكلام انقلب سياسة ونقاشا حول مفاوضات السلام في كامب ديفيد، ومعاهدة «السادات وبيجن» الشهر الماضي. ولما عرفت أني ضد سلام منفرد بين مصر وإسرائيل، وضد تنازلات «السادات» في شروط المعاهدة، المعلنة منها والسرية، وهي كمان «يهودية».» ضحك توم زوجها، وعلا صوته: «خارج على عزومة عشاء مع بنت زي القمر، ورايح تتكلم في السياسية ومصر وإسرائيل، دا أنت طيب أوي يا نصر.»
حاولت أن أدفع ثمن العشاء، فاعتبرت دا تقليل من شأنها، ودخلنا في جدل تاني.
انخرطا الاثنان في الضحك، ووضعت «جين» مزيدا من الطعام على طبقي، وانقلب العشاء حوارا عن الوضع في البلاد العربية بعد معاهدة «السادات وبيجن».
أحاول التعرف إلى الناس، وإلى ثقافة وعادات وتقاليد في المجتمع الأمريكي. لاحظت التقسيم ليس فقط بين شمال «فيلي» - اختصارا ل «فيلادلفيا» - وجنوب «فيلي» بين البيض والسود؛ فالمواصلات العامة: الأتوبيسات تجد البيض يستخدمونها أكثر، والسود أكثر استخداما للمترو تحت الأرض. داخل النوادي الليلية للسود أجد نفسي بينهم، أستمتع بموسيقاهم. خرجت من النادي في طريقي إلى مسكني، وكان الوقت متأخرا، حول مدخل المترو مجموعة من الشباب الزنوج، ولم يكن أحد بالطريق، التفوا حولي في دائرة. شعرت أنها النهاية. اقترب مني أحدهم، في الثامنة عشرة على الأكثر، وقال: أنت من أين؟
حاولت أن أكون هادئا بقدر استطاعتي، وقلت: «من أفريقيا.» واستكملت: «أنا من بلد اسمه مصر في أفريقيا.» قال: وماذا تفعل هنا؟
صفحة غير معروفة
ما إن قلت «معلم» حتى بدأ يضحك بلهجة ساخرة يوجه حديثه إليهم: «معلم، معلم. وماذا تعلم يا معلم؟» قلت بهدوء: «أدرس اللغة العربية.» قال زعيمهم: «طيب يا معلم ادعونا لشراب في بيتك.» - ولم لا؟ لكن الوقت متأخر، وأنا عندي دروس في الصباح، لكن إذا أحببتم تعالوا نشرب شيئا معا، لكن لازم أذهب للسرير في أقرب وقت.
وجدت نوعا من الاستغراب على وجوههم. ولم أصدق نفسي أني أدعوهم إلى مسكني، لكني كنت مرعوبا أن أقول لهم «لا». أخذنا المترو، وطوال الرحلة وأنا أتصورهم الستة وهم يدخلون مسكني ويقتلونني. وصلنا إلى البيت، دخلنا، سألني أحدهم: «عندك إيه للشرب؟ أنا عايز بيرة.» - في الواقع ليس عندي كحوليات؛ لأني لا أشرب ... وقلت بصوت خفيض متحسسا: لكن ممكن نشرب شاي، وعندي عصير برتقال، أو لبن.
قال أحدهم متسائلا: «ليه لا تشرب الكحوليات؟» وقال آخر بسرعة: «هو انت هوفا وتنس؟» من «شهود جهوفا» - بتعطيش الجيم - حاولت أن أشرح لهم أن شرب الكحوليات ضد المعتقد والتقاليد الإسلامية، وفي النهاية قدمت لهم ستة مشروبات مما عندي. وكانوا في أدب جم داخل الشقة. سألوني بعض الأسئلة عما أدرس، وشكروني على الصحبة وانصرفوا.
وجدت بالمكتبة كتابات أخرى للكاتب الياباني «توشيهيكو إيزوتسو» (1331ه/1914م-1412ه/1993م) غير الدراسة التي قرأتها له وأنا أعد رسالة الماجستير،
Revelation as a Linguistic Concept in Islam
عن مفهوم الوحي من منظور لغوي في الإسلام، فوجدت له دراسات أخرى، وكلها عن القرآن، وأرسلت إلى زميل ياباني كان معي في جامعة القاهرة يدرس اللغة العربية، وطلبت منه أن يصور لي بقية كتبه في اليابان، والتي لم أجدها بمكتبة جامعة «بنسلفانيا». والدور الذي قام به «إيزوتسو» بتطبيق منهج التحليل اللغوي على القرآن، ووجدت له قدرة تحليلية جميلة، وسمعت عن ترجمته للقرآن إلى اللغة اليابانية. وعلمت أنه يدرس في كندا، فقررت أن أقوم بجولة في أنحاء الولايات المتحدة، أزور فيها جامعات ومكتبات أخرى للبحث عن مزيد من الكتب والدراسات عن التأويلية وعن الدراسات القرآنية وعلوم اللغة والنقد والفلسفة. كنت آخذ تذاكر أتوبيس أو قطار أو طائرة ذهابا وعودة، فزرت جامعة «كاليفورنيا » و«بيركلي» وجامعة «برنستون»، وذهبت إلى مكتبات في «نيفادا» و«أروجون»، وأنفقت الكثير من مالي على المواصلات، وعلى تصوير كتب من هذه المكتبات والجامعات، وذهبت لزيارة أستاذ عراقي بجامعة «هارفارد»، د. «محسن مهدي»، أستاذ الفلسفة الإسلامية بالجامعة، وله كتابات عن «ابن خلدون والفارابي»، وله تحقيق ل «ألف ليلة وليلة». وتحدثنا عن موضوع دراستي للدكتوراه ودراسات الهرمنيوطيقا التي أقوم بها، وأعجب كثيرا بالأفكار التي طرحتها عليه، فعرض علي منحة للدراسة ب «هارفارد» واستكمال الدكتوراه بها، لكن عقلي متعلق بطلابي الجدد بمدرج ثمانية عشر. والحياة في أمريكا لم تجذبني، على الرغم من الزخم الفكري والمعرفي الذي تواصلت معه. ذهبت إلى كندا لمحاولة اللقاء بالأستاذ الياباني «توشيهيكو إيزوتسو» الذي انبهرت بدراسته عن القرآن، لكن لسوء حظي كان في رحلة إلى إيران في ذلك الوقت. عدت بعد شهرين من التجوال والترحال داخل جوانب الولايات المتحدة، فلقيني الأستاذ «توماس نيف»، وأمسك بذراعي وقال: «اختفيت فين يا نصر؟!» - عملت رحلة في أرجاء أمريكا. - هل زرت جامعات؟ - بالطبع، ومكتبات أيضا، وأتيت بأحمال من الكتب التي صورتها وجمعتها. - طيب، سأدفع لك كل تكاليف الرحلة، أحضر لي وصولات التذاكر والفواتير؛ لأن الذي كنت تفعله هو جزء من منحتك الدراسية، ولا أعده مضيعة للوقت.
شعرت بعاطفة ناحية سكرتيرة تعمل في الجامعة اسمها «جانيت» من أصول يونانية، شديدة الفخر بأصولها. كنا نستمتع بالحديث إلى بعضنا بعضا، في الصباح الباكر، في أنحاء الجامعة، حتى إني عرضت عليها الزواج، لكنها قالت: «نصر أنا عارفة مدى ارتباطك ببلادك، ودراستك وأبحاثك، وأنا لا أقدر أذهب معك إلى مصر، موضوع الارتباط دا لا ينفع ولا بد أن نحكم العقل والمنطق، ولو نشأت علاقة بيننا سنتعذب نحن الاثنين.»
4
كنت أستعد للخروج إلى الجامعة، حينما فتحت خطاب صديق لي من مصر يعزيني في وفاة أختي الكبرى «بدرية أم علاء» في الأربعين (1940-1980م)، لم أصدق السطور. لقد كنت أتحدث إليهم في قحافة منذ فترة بسيطة وسألت عنها، وقال لي أبناؤها إنها بالسوق. جلست على أقرب مقعد في ساحة الجامعة ، ولا أعرف ماذا أفعل. كنت مشدوها، وجرت في ذهني سنواتنا معا، وحبها للمدرسة التي حرمها منها أبونا، وزواجها الأول، حتى زواجها من ابن عمنا «السيد أبو زيد»، وأبناؤها. اقترب مني أستاذ مصري من جامعة عين شمس، وما إن رأيته حتى انخرطت في البكاء. ذهبت إلى مدير المركز «توم نيف» وحكيت له ما حدث. هدأ من نفسي وقال: «يا نصر ، والدتك أخفت عليك لحمايتك، وهي أقوى منك، ورجوعك سيقلب عليهم الألم. هذا هو التليفون اتصل بهم، واعرف ما حصل. ولو أردت أعطيك التذكرة لتسافر فافعل، لكن سفرك هيعمل إيه؟ زي ما أنت قلت إن الوفاة حدثت من مدة.» اتصلت بأخي في قحافة، وسألته عن أختنا، قال: إنها في السوق. فقلت بحدة: لسه هتكدبوا علي؟! فقال بصوت متأثر: نصر، أمك لم ترد أن تؤلمك لأنها عارفة تعلقك بأم علاء، ولم يحدث شيء، لم تمرض، كانوا بيجهزوا حاجات العيد، وفجأة السر الإلهي طلع، سكتة قلبية، وهي في عز شبابها. الله يكون في عون أولادها وزوجها. وأمك حلفتنا كلنا إن ما أحد يقول لك، وبعدين هتيجي تعمل إيه؟ هتقلب عليها المواجع، أنت كمل دراستك ومذاكرتك، وتعالى، وأنت في غربة، وكنا مش عايزين نزعلك عليها، وأمك منذ الخبر وهي بتبكي طول الوقت.
تبقى لي في المنحة خمسة أشهر، كنت أود أن تمر بسرعة. لم أعد أستطيع ولا أطيق الوجود هنا، وسأضع همي في استكمال العمل في رسالتي للدكتوراه. اتصلت ب «جابر عصفور» أطمئن منه على الأحوال في القسم، فأخبرني بالمجلة الجديدة التي ستصدرها الهيئة العامة للكتاب لتكون مجلة للنقد الأدبي، والتي يدعمها رئيس الهيئة الشاعر «صلاح عبد الصبور» (1931-1981م)، وسيرأس تحريرها د. «عز الدين إسماعيل»، و«جابر عصفور ود. صلاح فضل» نائباه. وطلب مني أن أسهم في العدد الأول الذي سيصدر بنهاية العام. كنت قد بدأت في قراءة كتاب «أدونيس» (1930م) «الثابت والمتحول»، فكتبت مقالي: «الثابت والمتحول في رؤيا أدونيس للتراث.» للعدد الأول من مجلة «فصول» الفصلية، عدد أكتوبر، سنة ثمانين. منذ أن ألقى «طه حسين» حجرا في الشعر الجاهلي، وبدأت النظرة الديناميكية الحية للتراث. ومع هزيمة يونيو (1385ه/1967م) ازداد الاهتمام بالعودة للتراث. والعودة للماضي تبدأ من هموم الواقع؛ فهناك علاقة جدلية بين الباحث وواقعه وبين التراث. لا شك أن للتراث وجودا، على المستوى الأنطولوجي أو الوجودي، كان منفصلا في الماضي، لكن على المستوى المعرفي الإبستمولوجي هناك تواصل. التراث موجود في حياتنا بأشكال متعددة، والعلاقة بين الماضي والحاضر وبين الباحث والتراث علاقة جدلية. ولا توجد قراءة بريئة؛ بمعنى أنها لا تبدأ من هموم وأسئلة يطرحها الواقع على الباحث. وعلى الباحث الواعي أن يوائم بدقة بين رؤيته وحقائق التراث. ووعيه بطبيعة هذه العلاقة هي العاصم من الشطح أو الوثب بعيدا. من هذا المنطلق قرأت كتاب «أدونيس». وإشكالية التراث عنده رد فعل لتوظيف الثقافة السائدة للتراث؛ خدمة لأهدافها. وبما أنه مفكر «طليعي» فقد فرق بين الثقافة السائدة والثقافة الطليعية التي يمثلها، وهذا الموقف من الواقع شكل نظرته للتراث. وعلى المستوى التطبيقي نفر من الماضي نفوره من الثقافة السائدة. دراسة التراث في هذه الحالة لا تكون علاقة إخصاب، بل علاقة هدم وليس علاقة تجديد. وثنائية «الإبداع والاتباع» ناتجة من كونه شاعرا، فينظر إلى التراث على أنه مادة محايدة يستخدمها، فللمبدع أولوية على التراث؛ فتصورات «أدونيس» للعلاقة بواقعه وبالتراث أوقعته في الانتقائية والتحيز غير المنضبط منهجيا. إن إنجاز هذه الدراسة الحقيقي هو إدراك العلاقة بين عناصر التراث ومستوياته، وإن كانت قد وحدت بطريقة ميكانيكية أحيانا بين هذه المستويات.
صفحة غير معروفة