المستوى الثاني: السياق الخارجي؛ سياق التخاطب، العلاقة بين المرسل والمستقبل؛ فإذا كان التركيز في النص على المرسل، فإنه يكون نصا أقرب للترجمة الذاتية، وإن كان التركيز على المستقبل يصبح نصا أقرب للتعليمي، وإذا تم التركيز على شفرة النص يكون أقرب للنص الأدبي.
المستوى الثالث: الداخلي. وقد توقف القدماء في علم المناسبة بين الآيات والسور عند حدود اكتشاف علاقات اجتهادية ذهنية أو لغوية. والقرآن ليس نصا موحدا، بل منظومة من النصوص. الجانب الثاني هو سياق الخطاب أو القول؛ فللقص سياق، الأمر/النهي، سياق الترغيب والترهيب، سياق الوعد والوعيد، سياق الجدل والسجال، أو سياق التهديد والإنذار، وسياق الوصف، سواء وصف مشاهد الطبيعة أو وصف الجنة والنار، وسياق العقائد والتشريعات.
المستوى الرابع: السياق اللغوي. ولا يقف عند حدود الملفوظ وحده أو دلالة الفحوى، بل يتسع ليشمل دائرة الصمت والمسكوت عنه في بنية الخطاب.
المستوى الخامس: سياق القراءة التي هي في جوهرها عملية فك شفرة وليست مجرد سياق إضافي خارجي للنص؛ فالنص لا تتحقق نصيته دون القراءة، من هنا يكتسب القارئ الضمني المتخيل في بنية النص ومشروعيته.
فمثلا، قضية الحاكمية في الخطاب الديني المعاصر في تأويل آيات سورة المائدة 44، 45، 47:
ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون * ... الظالمون ... الفاسقون . فالسياق يفرض النظر إلى الآيات من 41-50؛ فهي تمثل وحدة سردية واحدة دون اجتزاء. الدلالة الثانية من دلالات إهدار السياق هو عملية التوسيع الدلالي لصيغة الفعل «يحكم»، بحيث يدل على المفهوم السياسي الحديث للحكم المرتبط بالدولة الحديثة، في حين أن كلمة «حكم»، بمعنى الفصل بين الخصوم في مشكلة خلافية جزئية، وهناك أيضا تجاهل أسباب النزول، وهو سياق خلاف حدث بين اليهود نتيجة التزييف والفساد والانحراف؛ مما ألجأ البعض منهم إلى الاحتكام إلى النبي، والنص يخير النبي بين أن يحكم بينهم أو يعرض عنهم ويهملهم كما في الآية 42. إهدار السياق يحول النصوص الدينية بالتركيز على جانب المتكلم إلى مرجعية شاملة للحياة، وتصبح كل مجالات الخبرة الإنسانية فاقدة المشروعية، وتتحول كل صراعاتنا ومعاركنا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية إلى معارك دينية نخوضها على أرض تأويل النصوص. وهذا يزيف الوعي. إن ترسيخ مفهوم الشمولية عن طريق قراءة كل تطورات الوعي الإنساني تولد نوعا من القناعة بامتلاك كتابنا المقدس لكل ما وصل إليه الإنسان، ماضيا وحاضرا ومستقبلا، مما يرسخ سلطة الماضي وهيمنته على الحاضر؛ وبذلك يرسخ مفهوم الحاكمية، وهي الصياغة الحديثة لمبدأ شمولية النصوص.
أقامت مؤسسة «الهلال» احتفالية كبيرة بمناسبة مئوية مجلتها بدار الأوبرا في الرابع عشر من سبتمبر اثنين وتسعين. وفي المسرح الصغير كانت جلسة «الإسلام والعصر» التي أدارها د. «أحمد هيكل» وزير الثقافة الأسبق، وكان البحث فيها للمستشار «طارق البشري»، ألقت البحث نيابة عنه الصحفية د. «سلوى أبو سعدة»، وكانت بعنوان «الإسلام والعصر ملامح فكرية وتاريخية»، جاء فيها أن الإسلام هو أحكام الله المنزلة، ونصوصه ليست تاريخية. أما الفقه الإسلامي فهو اجتهادات البشر، وهي قابلة للصواب والخطأ. فعلقت وعبرت عن اختلافي مع كثير من الكتاب الإسلاميين؛ أن النصوص الدينية لا تاريخية، وأكدت على تاريخيتها وعلى إنسانية الوحي، ورفضت الربط بين العلمانية والإلحاد، وقلت إن ورقة المستشار «البشري» تهدر إشكالية النهضة و«تسبب صداما بين العقل الإسلامي والمجتمع»، وإن الإسلام أحد عناصر تراث هذا المجتمع، وليس كل تراثه. فأثنى د. أحمد هيكل على منهجي في التناول. وطبعت طبعة من كتابي «نقد الخطاب الديني» عن دار المنتخب العربي، في بيروت بلبنان، وسعت دار سينا لنشر طبعة أخرى منه.
في الطوفان
1
كانت اللجنة العلمية الدائمة للترقية قد قامت بتوزيع إنتاج نصر أبو زيد، يوم الثامن والعشرين من مايو، وشكلت لجنة من ثلاثة لقراءة الأعمال وتقييمها بعضوية د. «شوقي ضيف»، ود. «محمود علي مكي»، ود. «عوني عبد الرءوف». ومفروض أن تقدم تقريرها خلال شهرين، لكن لم يقدم د. «شوقي ضيف» تقريره، واجتمعت اللجنة للمرة الثانية في الرابع من سبتمبر ولم تقدم التقارير. زار د. «محمود علي مكي» د. «جابر عصفور» في بيته القريب من بيت د. «شوقي ضيف» رئيس اللجنة، وقال له: يا جابر أنا موفد إليك من د. شوقي ضيف. وهو كتب تقريرا سلبيا، ويرفض الترقية. ولأنك رئيس قسم اللغة العربية، أرسلني آخذ رأيك ورد فعلك على التقرير سرا؛ لمعرفته بصداقتنا وأنت عارف مكانته، وهو عايز يحافظ على صورته في القسم. وأنا اختلفت معاه، وحاولت إقناعه بأحقية نصر.
صفحة غير معروفة